الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / بعض معالم علاج النفس من خلال الاستشارات عن بُعد: الاستشارة الثامنة: “أعراض الرأس فى الفصامى، والعين الداخلية”

بعض معالم علاج النفس من خلال الاستشارات عن بُعد: الاستشارة الثامنة: “أعراض الرأس فى الفصامى، والعين الداخلية”

 نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 26-5-2019

السنة الثانية عشرة

العدد:  4285

بعض معالم علاج النفس

من خلال الاستشارات عن بُعد

الاستشارة  الثامنة

أعراض الرأس فى الفصامى، والعين الداخلية

د.أميمة رفعت:

 فى إحدى يوميات البريد أشاد أحد الضيوف الأفاضل بالمفهوم الجديد الذى تفضلت بشرحه عن علاقة آلام الرأس بمرضى الفصام، ولم أفهم بالطبع إذا كان هذا الشرح من خلال محاضرة أو ندوة أو عرض لحالة أو غيره وأثارنى الفضول خاصة وأننى أقابل هذه الشكوى كثيرا فى عملى مع الفصاميين، ولكننى تحرجت من السؤال حتى لا أثقل عليك.

ولكن حدث بالمصادفة أن توليت علاج إحدى المريضات، كنت أعالجها منذ عامين تقريبا وحضرت اربعة اشهر من جلسات العلاج الجمعى، ثم ظنت أنها تحسنت  فصممت على  التوقف برغم نصحى لها بالبقاء وقتا أطول، ورجعت بعدها إلى المستشفى عدة مرات ولكن للأسف إما أنها تدخل قسما آخرا غير الذى أعمل به، أو عند طبيب آخر غيرى، حتى التقينا اخيرا.. وأنا مسرورة فعلا بالعمل معها.

عرض الحالة أولا:

” صفاء” (1)عمرها 32 سنة، دبلوم خدمة إجتماعية، لا تعمل (لم تعمل أبدا)، غير متزوجة، وتعيش مع أمها و أبيها. مريضة منذ 8 سنوات(حسب كلامها) و إن كنت أعتقد ان المرض بدأ قبل ذلك بكثير على شكل انطواء  و إدراك غريب لما يحيط بها من أشياء، ومشاعر مرتبكة ومتداخلة ناحية أهلها وزملائها فى المدرسة. ليس لديها تاريخ مرضى فى العائلة. تعانى من الهلاوس السمعية والبصرية وهى دائمة الشك فى الآخرين مما يجعلها دائما على حافة الغضب، لا تمد جسور الثقة بسهولة مع أى مخلوق ولذلك فأنا أعتبر ما تقوله لى ثمين جدا ربما لن تكرره لغيرى. لن أطيل فى أعراض الحالة وسأركز على آلام الرأس. ما يلى هو نص ما قالته لى من فمها – بعد استئذانها لأكتبه – تخلله سؤالان من جهتى و لكنى حذفتهما ووضعت بدلا منهما أدوات ربط :

“أنا جيت المرة دى لأنى تعبت جدا، دماغى بتوجعنى، الأعصاب وكل حاجة فى دماغى راكبة على بعضها، لما أقرأ الألغاز (تقصد القصص البوليسية المخصصة للأطفال الكبار نوعا)، بأحاول زى كل الناس أحل اللغز، يعنى كدة بأحاول أفهم و بابذل مجهود جامد..بأحس إن دماغى وجعتنى قوى، ألم  يعنى خبط، نبض، نبح فى رأسى وأحس إنى عطشانة لأنى بأعرق لكن مابأعرقش..عارفة زى اللى نزل البحر وقعد فى الشمس علشان ينشف ( صفاء مسحت جبينها وفركت أصابعها لتفهمنى ما تجده على جبهتها بدلا من العرق) ألاقى حاجة كدة..نفسى أعرق علشان أرتاح.

ثم وصفت بعد ذلك بعض هلاوسها وعندما سألتها إذا كان لها علاقة هى الأخرى بآلام رأسها، ترددت ولم تستطع تأكيد العلاقة ولكن لم تنفها أيضا ..من هذه الهلاوس: “بأشوف خيالات كتير..أشخاص صغيرة قوى زى اللى فى الصور  سألتها فقط بدافع الفضول لا أكثر إذا كانت ملونة، فهزت رأسها بالإيجاب بشدة: أيوة ملونة بتدخل فى دماغى و تخرج منها، سألتها إذا كانت تأتى من الخارج لتدخل دماغها أم أنها  من الداخل إلى الداخل أيضا فبدا لى و كأنها فوجئت بالسؤال و أنه أثار تفكيرا ما فى رأسها ولكنها لم تستطع الإجابة… ربما فكرت أنه إذا كانت الصور من الداخل فكيف تراها إذن بعينيها.

لا أعلم إذا كان هناك علاقة لأى مما سبق بموضوع آلام الرأس عند الفصاميين الذى تحدثت عنه، ولكننى سأكون شاكرة لو ألقيت لى بعض الضوء على هذا الموضوع المهم حين يسمح لك الوقت.

د. يحيى:

كالعادة نشرت الحالة كلها كما وردتنى، ثم أبدأ بالتعقيب فقرة فقرة.

التعقيب:

د.أميمة رفعت:

فى إحدى يوميات البريد أشاد أحد الضيوف الأفاضل بالمفهوم الجديد الذى تفضلت بشرحه عن علاقة آلام الرأس بمرضى الفصام، ولم أفهم بالطبع إذا كان هذا الشرح من خلال محاضرة أو ندوة أو عرض لحالة أو غيره وأثارنى الفضول خاصة و  أننى أقابل هذه الشكوى كثيرا فى عملى مع الفصاميين، ولكننى تحرجت من السؤال حتى لا أثقل عليك

د. يحيى:

أولا: أنا لا أذكر هذا البريد الذى فيه تعليق الضيف أو تذكرته هذه، وإن كنت أعرف أننى أعرج إلى هذا الموضوع عادة فى كثير من دروسى، وقد بدأ اهتمامى به منذ كنت أقرأ فى كتاب صغير هو مرجع مقرر فى الطب النفسى تأليف هندرسون وجيلبسى، ربما سنة 1958  وقد ذكر تحديدا ما أسماه   Bizarre Cephalic Hypochondriasis  وترجمته صعبة بالعربية، هكذا: هو “المُراق المشوش الشاز حول الرأس”، وقد ذكره المؤلف كأحد أعراض بداية الفصام أو ربما ما قبل الفصام، ثم بدأت ألاحظ بعد ذلك كثرة إشارة الفصاميين لرؤوسهم بشكل أو بآخر، وكأنهم يرصدون ما يجرى داخلها من عدم اتساق قبل التفسخ أساسا ثم بعده، وبالرغم من تواتر هذه الشكاوى فعلا عند الفصامى أكثر من ذهانات أخرى، إلا أننى لم أتوقف طويلا عند دلالة ذلك، فقط لاحظت أن الفصامى لا يشكو من الصداع بنفس ألفاظ الشخص العادى أو العصابى، وإنما هو يشير إلى أجزاء بعينها فى رأسه، ويصف ما يعتريه بألفاظ تبدو كأنه يرى الآلام، وكأنه يشاهد – رأى العين- التغيرات الجارية فى الداخل (قبل أن يعتبرها هلاوس). فهو لا يحس بما يشاهده ألما فى الرأس = صداعا (معنى الصداع تحديدا هو “ألم بالرأس Head-ache )، وإنما هو يستعمل اللغة المتاحة لوصف ما لا يوصف باللغة المتاحة،   أيضا الفصامى عادة لا يشير إلى رأسه ككل بقدر ما يشير إلى مناطق مختلفة، ومسارات مختلفة لما يشعر به ألما أو غير ألم، كثيرا ما يشير المريض الفصامى  إلى خلف الرأس (القفا) أكثر من مواقع أخرى، وقد تصورت فى مرحلة ما أن اتجاه  الألم ومساره،  أو اتجاه أى شعور بالرأس،  إنما يشير إلى توجه الطاقة الحيوية، مثلا إلى الخلف والوراء، تصورت أن الفصامى يرصد بذلك عمليات  النكوص والتراجع بيولوجيا،، ومع أن بعض الحالات رجحت هذا التصور، إلا أننى عدلت عن  أغلبه، لكن دعينا نقرأ معا حالتك أولا.

د.أميمة رفعت:

…. حدث بالمصادفة أن توليت علاج إحدى المريضات، كنت أعالجها منذ عامين تقريبا وحضرت اربعة اشهر من جلسات العلاج الجمعى، ثم ظنت أنها تحسنت  فصممت على  الخروج رغم نصحى لها بالبقاء وقتا أطول، ورجعت بعدها إلى المستشفى عدة مرات ولكن للأسف إما أنها تدخل قسما آخرا غير الذى أعمل به، أو عند طبيب آخر غيرى، حتى التقينا اخيرا.. وأنا مسرورة فعلا بالعمل معها.

د. يحيى:

مع كل احترامى يا أميمة لكفاحك للعلاج وللتعلم فى آن واحد، ومع علمى التام بالظروف التى تعملين بها، فقد كنت فى مجلس المراقبة لعدة سنوات، وزرت مستشفى المعمورة مثلما زرت سائر المستشفيات، وأعرف كثيرا من الظروف والإمكانيات، لكننى لم تتح لى فرصة أن أعمل فى بداية حياتى العملية فى مستشفى للأمراض العقلية مثل مستشفاك او مستشفى العباسية، فحرمت بذلك من أن أعيش مع المجانين أصحاب الفضل، فكان تعلمى ناقصا طبعا، ومع ذلك كانت علاقتى بالمجانين (أنا أفضل هذا الاسم كما تعلمين عن اسم الأمراض العقلية أو النفسية، هذا اسم صريح قوى، أقوى من كل التردد والتحايل)، المهم لم أعرف هذا النقص فى تدريبى  إلا حين أتيحت لى الفرصة أن أعايشهم ليل نهار فى مستشفى خاص، وإذا بى أعرف معنى أن أقوم بمساعدة مجنون أن يستحم، أو أن أقوم شخصيا بحلاقة ذقنه، وأن أكلف أطبائى بذلك ليعرفوا معنى الجنون وقوة العلاقة وشرف المسئولية، وزاد من فرصتى هذه علاج الوسط ونشاطاته حين  أمسك الفأس بجوار مريضى  وليس واقفا على رأسه ..إلخ. من هنا أستطيع أن ألم ببعض ظروفك، وأحترم إخلاصك وإصرارك برغم كل المعوقات، كل هذا يسمح لى أن أقول لك بعض الملاحظات البادئة:

…. حين تقولين يا أميمة مثلا  “ثم ظنت أنها تحسنت  فصممت على  التوقف برغم نصحى لها بالبقاء وقتا أطول”  أتساءل عن المعايير التى تقيسين بها “أنها تحسنت” وتفرقين بين ذلك وبين “ظنت أنها تحسنت”، وأيضا لا أستطيع أن أتابع مبررات نصحك لها بالبقاء ..عرفت من حوارك ورسائلنا أنك ماهرة وأمينة ومحبة (وشاطرة وتتعلمين باستمرار) لكننى أتصور أن هناك قواعد غائبة عنى فى حكيك أنت أدرى بها فاعذرينى، مثلا: تبقى إلى متى، وإلى أين، ثم ماذا ..إلخ

ولكن دعينا  نتعرف على مريضتك أولا:

د.أميمة رفعت:

“صفاء” عمرها 32 سنة، دبلوم خدمة إجتماعية، لا تعمل (لم تعمل أبدا)، غير متزوجة، وتعيش مع أمها و أبيها. مريضة منذ 8 سنوات(حسب كلامها) و إن كنت أعتقد ان المرض بدأ قبل ذلك بكثير على شكل انطواء  و إدراك غريب لما يحيط بها من أشياء، ومشاعر مرتبكة ومتداخلة ناحية أهلها وزملائها فى المدرسة. ليس لديها تاريخ مرضى فى العائلة.

د. يحيى:

إسمحى لى أن أقول لك قبل أن تكملى، كيف أستمع إلى هذه المعلومات الأولية قبل أن أسمع شكوى المريض المباشرة أصلا، ولعلك لاحظت بعض ذلك فى هذا، هذه المعلومات الأولية تسبق عندى فى الأهمية أية أعراض متعلقة بالرأس، أو بغير الرأس، حتى أنها تسبق أهمية الهلاوس والضلالات إلخ، مريضتنا، أنسة (غالبا)، فى مصر، لا تعمل، (لم تعمل أبدا) وعندها 32 سنة، قفْ،

ماذا أمام هذه الفتاة لتملأ بها دماغها؟ حياتها؟ وجودها أصلا؟ وماذا نتوقع منها ولها إذا هى مرضت، حتى الجنون، ولكل هذه السنوات، أى فائدة يمكن أن تجنيها من الشفاء سواء بالعلاج الجمعى، أو العقاقير، أو أى شىء آخر، حين تخرج من المستشفى لتعود إلى هذا اللاشىء الذى فرض على وجودها الآن، وكيف لا نتوقع أنها ستعود وتعود وتعود، وماذا يفيد حرصك – الكريم – أن تبقى وقتا أطول فى المستشفى، هذه أمور عامة بعيدة عن تساؤلك المحدد، لكننى أصر على البدء بها حتى نعرف أن التركيز على الأعراض ومعناها ودلالاتها ..إلخ، ليس غرضا فى ذاته، اللهم إلا فى مجال البحث العلمى، وهذا وارد ومفيد، لكننا أطباء قبل أن نكون علماء، المهم: دعينا نكون علماء لنصبح أطباء أفضل. هيا:

 د.أميمة رفعت:

 (جاءت) تعانى من الهلاوس السمعية والبصرية وهى دائمة الشك فى الآخرين مما يجعلها دائما على حافة الغضب، لا تمد جسور الثقة بسهولة مع أى مخلوق ولذلك فأنا أعتبر ما تقوله لى ثمين جدا ربما لن تكرره لغيرى.

د. يحيى:

أيضا، إسمحى لى أن أتحفظ على جزئية يسيرة، فنحن إذ نفرح بثقة المريض فينا، وأنت تستأهلينها فعلا، يستحسن ألا نقصر تصورنا على أنها غير واردة لأحد غيرنا، أما أن ما تقوله ثمين جدا، فهو ثمين جدا فى كل الأحوال، ولا يحتاج أى تبرير، أنا آسف،

هيا نستمع إلى موضوع الاستشارة الخاص كما قلت أنت:

د.أميمة رفعت:

لن أطيل فى أعراض الحالة وسأركز على آلام الرأس.

د. يحيى:

هل تسمحين لى أن أذكرك – كما جاء فى المقدمة – أنها الأعراض والمشاعر المتعلقة بالرأس (والدماغ) وليست بالضرورة “آلام” الرأس” Head-ache، وهذا ما بدا فى نص كلامها فنسمعه:

د.أميمة رفعت:

ما يلى هو نص ما قالته لى من فمها – بعد استئذانها لأكتبه- تخلله سؤالان من جهتى ولكنى حذفتهما ووضعت بدلا منهما أدوات ربط :

“أنا جيت المرة دى لأنى تعبت جدا، دماغى بتوجعنى، الأعصاب وكل حاجة فى دماغى راكبة على بعضها، لما أقرأ الألغاز (تقصد القصص البوليسية المخصصة للأطفال الكبار نوعا)، بأحاول زى كل الناس أحل اللغز، يعنى كدة بأحاول أفهم و بابذل مجهود جامد..بأحس إن دماغى وجعتنى قوى، ألم  يعنى خبط، نبض، نبح فى رأسى وأحس إنى عطشانة لأنى بأعرق لكن ماباعرقش..عارفة زى اللى نزل البحر وقعد فى الشمس علشان ينشف ( صفاء مسحت جبينها وفركت أصابعها لتفهمنى ما تجده على جبهتها بدلا من العرق) ألاقى حاجة كدة..نفسى أعرق علشان أرتاح”

د. يحيى:

دعينا نتفق أولا ألا نسارع بإدراك كلمات المريض كما ندرك الكلام العادى، حتى لو استعمل نفس الألفاظ، الذى يعيننا على ذلك هو أن نبدأ مما لم نتعود عليه، ثم نرجع إلى المألوف فنفهمه فى هذا السياق المختلف، مثلا: حين تقول مريضتنا هنا:

“…..خبط، نبض، نبح فى راسى” بعد قولها ” دماغى وجعتنى قوى”، هذا الذى جاءها  بعد محاولتها بذل مجهود عقلى:” لما أقرأ الألغاز، بأحاول زى كل الناس أحل اللغز، يعنى كدة بأحاول أفهم وبابذل مجهود جامد”، هذا التسلسل هكذا يشعرنا أننا أمام بصيرة خاصة، ولنتذكر ابتداء أن المجهود العقلى مهما بلغ، ثم فشل فى تحقيق غرضه، لا يسبب صداعا عادة، (وجعا فى الرأس)، هو قد يسبب إحباطا، أو ضيقا أو غيظا، لكن مريضتنا هنا تربط بين محاولتها للفهم وهذا الشعور الذى أسمته “دماغى بتوجعنى”، تتضح هذه الخصوصية اكثر حين تصف مشاعر مرتبطة باحتياجات أخرى، ومظاهر جسدية أخرى، ورغبة خاصة لها دلالتها، هذا الوجع يصاحبه (أو هو هو: تفصيل بعد تعميم) أنه عطشانة،( أحس إنى عطشانة) هل هناك بالله عليك صداع يصاحب عطشا عندك أو عندى أو عند أى ممن تعرفين؟ وهل هناك عطش يصاحبه صداع، ثم هى تردف سببا غريبا للعطش “لأنى بأعرق لكن ماباعرقش”، ما أصعب ذلك وأعمقه، العرق الحقيقى الغزير قد يسبب العطش لنا، لكنها هنا تجعل العطش سببا فى العرق، برغم أنه غير موجود أصلا، بل هى تتمناه ولا يحدث “نفسى أعرق علشان أرتاح، ثم هى تبادر بتفصيل اصعب:

“..عارفة زى اللى نزل البحر وقعد فى الشمس علشان ينشف (صفاء مسحت جبينها وفركت أصابعها لتفهمنى ما تجده على جبهتها بدلا من العرق) ألاقى حاجة كدة..

هل وصل للقارئ – و لك – أنها تعرق ابتداء؟، أم أن عرقها جف؟ أم أنه لم يظهر أصلا لتجففه الشمس، هذا ليس خلطا عشوائيا – فى تقديرى كما سنرى بعد – نحن اعتدنا إذا سمعنا المرضى ولم نفهمهم أن نسارع بوصفهم أنهم يقولون كلاما فارغا لا معنى له، وهذا غالبا هو ما دعى هندرسون وجلبسى فى المرجع التقليدى السالف الذكر أن يصف مثل هذه الأعراض بأنها “تخيل أعراض جسدية – مراق– دون وجود مرض جسدى)

مريضتنا هنا تعلمنا معنى آخر للصداع، وللعرق، ولرغبتها أن تعرق “عشان ترتاح”، وهى لا تعرق، برغم تشبيهها بمن ينشف فى الشمس بعد خروجه من البحر، فهى تشير إلى الجفاف من الشمس، وليس إلى البلل بالبخر، بدليل أنها تتكلم (وتشير) إلى ما على جبهتها بدلا من العرق (هل لاحظت كلمة بدلا من).

نتوقف هنا قليلا فأنا أشعر أننى بالغت فى احترام كلام المريضة دون تفسير كافٍ.

لقد وصلت من سنوات طويلة يا أميمة إلى فرض قدرة المريض (الذهانى) على إدراك العالم الداخلى، محتوى وحركية، بشكل مباشر ولم أسمه تحديدا إلا أنى اعتبرته إدراكا حقيقيا يقابل الإدراك الحسى للعالم الخارجى، وظللت مترددا فى الكتابة عنه ردحا طويلا، حتى قرأت فرض “سمز”ٍSims صاحب كتاب “أعراض فى العقل” Symptoms of the mind  عن ما أسماه “العين الداخلية” Internal Eye ففرحت فرحا شديدا ولم يهمنى سبْق ما وصلت إليه.

 هذا الفرض فسر لى مثل هذه الأعراض قبل أن يفسر لى الهلاوس (والأحلام).

تأكدت بعض معالم هذا الفرض عندى من مريض فصامى كان يحكى عن صعوبة فى الفهم مثل مريضتنا هذه، وساعتها لم أكن أسجل كلام مرضاى، لكننى أذكر أننى ناقشت مقولته فى درس إكلينيكى، لذلك لا زلت أذكرها،

كان طالبا فى الجامعة يشكو من صعوبة الفهم على الوجه التالى، لكن عندك،

إن هذا يحتاج من القارئ، وربما منك أن تعرفى نوعا من الجمع للطباعة (قبل حكاية الكمبيوتر والطابعة الليزر والماستر …إلخ) يسمى طباعة اللينوتيب (التى سبقتها الجمع بالحروف حرفا حرفا) هذه الطباعة تصيغ الكلام أثناء كتابته على ما يشبه الآلة الكاتبة، فى أسطر من الرصاص، كل سطر منفصل عن ما يليه (أعقب ذلك ما يسمى المونوتيب، حيث حلت الكلمات والحروف من الرصاص محل الأسطر المتكاملة) أنتهى الاستطراد.

وصف هذا المريض عملية صعوبة الفهم بأن السطور تدخل فى دماغه مثل سطور اللينوتيب الرصاصية، سطرا سطرا، ولا تندمج فى بقية دماغه إلا بجهد إرادى منه، وقد كان دقيقا فى الوصف بشكل أدهشنى وفاجأنى.

الفصامى يا أميمة، خاصة فى البداية، أو أثناء العلاج المكثف مثل الذى تقومين به، يصاب (يعانى أو يتميز) بما نسميه “الوعى الفائق – المعيق فى نفس الوقت – بالعمليات العقلية العادية (وغير العادية: أنظر بعد)، وكأنها تحدث لديه بالسرعة البطيئة، بحيث يمكنه رصدها، ليس هكذا فقط، ولكنها لا تحدث تلقائية لا شعورية كما هى عند الأسوياء، بل تحدث فى درجة من الوعى الخاص، وأحيانا تحتاج درجة من الإرادة حتى تتم. فى مريضى القديم هذا فهمت من شكواه كيف أن الإدراك Perception الذى يحدث عند الشخص العادى فى جزء من ثانية لا يعرف منه العادى إلا نتائجه، يحدث عند الفصامى (فى البداية أو أثناء العلاج الجيد، أو بعد العلاج الجيد) بدرجة ما من الوعى، وبإيقاع بطىء.

خلاصة القول: أن فرض العين الداخلية باعتبارها تقوم بإدراك مباشر للعمليات العادية هو أمر مختلف تماما عما يسمى الاستبصار – التأمل – الذاتى Introspection العين الداخلية هى “إدراك حقيقى برغم أنه ليس عبر أعضاء الحس الخارجية، وإن كان يسقط عليها ومن خلالها إلى الخارج فى حالة الهلوسة مثلا.

هذه قضية جوهرية تقلب فهمنا لأعراض الفصامى خاصة (وكثير من المرضى الآخرين خصوصا الهوس) وهى تحتاج إلى البدء باحترام مباشر لهذه الخبرة،

يمكننى بعد ذلك أن أقرأ بقية أعراض حالتك (وأغلب الحالات التى تشير إلى مثل هذا الوصف) باعتبارها رؤية مباشرة لعمليات جارية لا نستطيع نحن أن نراها

دعينى أقرا بعض أعراض مريضتنا بإيجاز على الوجه التالى:

مريضتنا قامت بتشغيل  جهاز التفكير لديها، فى محاولة حل اللغز، فوجدته قد تجمد فى بعضه البعض (وهو عكس التناثر والتفسخ، وإن كان له نفس دلالته)، هذه المحاولة لفك التجمد بدرجة إرادية، هى محاولة مجهدة تماما، حتى العرق !!! لكنها لا تعرق من جلدها، من مسام جلدها، فتعرق جهدا، ولا تعرق نتحا، فهى تتمنى أن تعرق، فيصلنى ذلك على أنها  تتمنى أن تستعيد مسام تفكيرها الحركية التى تجعل من التفكير عملية منسابة متماسكة تسمح بدجة طبيعية من الدخول والخروج، لكنه الجفاف العَرَقِى إن صح التعبير،

هل يمكن أن يعرق الواحد منا إذا مرض جفافا كأنه سشوار ينفخ هواء ساخنا من فرط الجمود، هو يريد أن ينشف وهو لم يبتل فعلا

من هنا ختمت المريضة هذا المقطع بتعبير نفسى أعرق علشان أرتاح

فعلا

أحيانا يقوم العلاج الحقيقى بتحقيق هذه الأمنية، هذا ما لاحظته أثناء عدوى مع مرضاى لعشرين عاما تقريبا، كان العرق الجسدى يصاحبه عرق فكرى، بمعنى فتح مسام الفكر للآخر والواقع، وأن تقوم  العلاقة العلاجية بتخليق مسام عرقية فكرية جديدة

على الناحية الأخرى، وقد أورد لكم يوما أمثلة من نص كلام المدمنين، يمكن أن يتم تخليق هذه المسام بشكل تعسفى مصطنع، بتعاطى المواد المخدرة أو المثيرة stimulants وهذا موضوع آخر

قبل أن اختم هذه البداية أشير إلى تطبيقى فرض “العين الداخلية” لتفسير نوم حرك العين السريعة REM ومن ثم الأحلام.(وأيضا بعض تنظيرى عن الإبداع)

وكل ذلك سوف أشير إليه فيما بعد حين أتمكن من إدخال الشرائح الشارحة له ولو بعد حين  (2)

وأظن بعد ذلك يا أميمة يمكنك أن تقرئى آخر فقرة، دون تعقيب منى، باعتبار أن مريضتنا ترى فعلا الهلاوس بهذه العين الداخلية، كما ترى حركية  العمليات المرضية، والعادية أيضا بعد اضطرابها، أو بدون اضطرابها، بنفس العين الداخلية، ثم هى تحكى عما رأت –فعلا – إما بشكل مباشر، وإما بما تيسر من كلمات، بعضها نسميه هلاوس، وبعضها يبدو كأنه آلاما شاذة بالرأس

نختم بكلامك كما قلت دون تعقيب لعلنا نتدرب على ترجمة الفرض وحدنا بأن نصدق المريض وهو يصف :

أولا: الحركة الداخلية

ثانيا: المحتوى الداخلى

حتى لو أسقطه إلى الخارج بشكل أعراض وأوجاع

د.أميمة رفعت:

….ثم وصفت بعد ذلك بعض هلاوسها وعندما سألتها إذا كان لها علاقة هى الأخرى بآلام رأسها، ترددت ولم تستطع تأكيد العلاقة ولكن لم تنفها أيضا ..من هذه الهلاوس: “بأشوف خيالات كتير..أشخاص صغيرة قوى زى اللى فى الصور( سألتها فقط بدافع الفضول لا أكثر إذا كانت ملونة) فهزت رأسها بالإيجاب بشدة: أيوة ملونة بتدخل فى دماغى و تخرج منها (سألتها إذا كانت تأتى من الخارج لتدخل دماغها أم أنها  من الداخل إلى الداخل أيضا فبدا لى و كأنها فوجئت بالسؤال وأنه أثار تفكيرا ما فى رأسها ولكنها لم تستطع الإجابة… ربما فكرت أنه إذا كانت الصور من الداخل فكيف تراها إذن بعينيها..)

د. يحيى:

وعدت ألا أعقب

ولكننى أوصيك بان تنتبهى إلى أننا لا نرى الألوان إلا فى السينما، صحيح أن العالم ملون، لكننا لا نصفه بذلك، هل يمكن حين أراك أن أقول أننى رأيتك ملونة، وأنت كذلك حين تريننى، وبالتالى فإن مريضتنا حين لم تؤكد ولم تنف كانت صادقة تماما

أخيرا: فإنى أعتقد أن تساؤلك الأخير قد رددت عليه فى شرحى الحماسى الأول دون أن أدرى.

آسف يا أميمة، فقد كتبت الرد فى ظروف لم تسمح لى إلا بهذا.

 

[1] – الاسم مستعار طبعا

[2] –  إشارة إلى موضوع “العين الداخلية” www.rakhawy.net

admin-ajax (5)

admin-ajax (4)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *