نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 7-4-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4236
مقتطف من كتاب:
دليل الطالب الذكى فى: علم النفس
انطلاقا من “قصر العينى”
الفصل الثالث: “الإدراك” (1)
……………..
……………..
الطالب: بصراحة لقد كدت اضجر من كل هذا، فلتقل لى معلومة تفيدنا.
المعلم: إن تعرفنا هكذا على حركية الإدراك وتقلباته وكثرة العوامل التى تؤثر فيه ربما تدفعنا أن نعيد النظر فى حماسنا لمعرفتنا وتعصباتنا ما دام إدراكنا خاضع لهذه العوامل الذاتية إلى هذه الدرجة؟
الطالب: وكيف ذلك؟
المعلم: ألا يـُـلزمك ما درسناه حتى الآن بالتواضع ومراجعة موقفك عن مفاهيم ثابتة فى ذهنك لا تحاول أن تعيد إدراكها من جديد اختباء “فيما هو ثابت عندك اعتدت عليه فاستسهلت الاكتفاء به وخلاص”؟
الطالب: يا سيدى طلبت منك ما يفيد، لا ما يربكنى أكثر!
المعلم: ولكن لعل ما يربك – على خفيف – هو مايفيد على المدى الطويل، يأتينا المريض أحيانا يشكو من أن الناس ليسوهم ناس الأمس أو أنه يشعر أن ذاته تغيرت، أو أن الدنيا من حوله لها طعم جديد، ونسارع كأطباء بأن ندمغه باسم عرض يقول: إنه يعتقد خطأ باعتقاد خاطىء هو “تغير الذات” أو”تغير الكون”.
وقد صغت هذا شعراً ذات مرة قائلاً:
وتغير شكل الناس
ليسوا ناس الأمس
وتغير إحساس بكيانى
أنا مـَـنْ؟ كيف؟ وكـَـمْ؟
من ذاك الكائن يلبس جلدى؟ (2)
ولو أحسنـَّـا النظر لأمكن أن نتصور أن هذا الفتى أو الفتاة يمر بمرحلة نشطة من الإدراك الجديد، يعيد فيها النظر فى كفاءة وسلامة إدراكاته القديمة.
الطالب: الله !! الله!! تريد أن تقول إن علم النفس يتعارض مع الطب النفسى وقد سبق لك أن قلت العكس.
المعلم:بل أن حسن فهم عمق علم النفس يخفف من غلواء الوشم المتعجل فى وصف الأعراض وتعليق لافتات التشخيص على أى واحد لا يدرك الأشياء مثلما ندركها نحن أو مثلما تدركها الغالبية، أو مثلما كان هو يدركها من قبل.
الطالب: هل تعنى أنه لو اهتز عندى إدراكى للأشياء ولم أر الأشياء مثلما كنت أراها فلا خوف علىّ أن أكون جننت؟!!
المعلم: بالضبط.
الطالب: بـَـشـَّـرك الله بالخير !!! إلى أين تسحبنى يا ترى؟ وماذا ايضا؟
المعلم: بعد ما تعلمناه من تواضع أمام حقائق العلم، يمكن أن أذكر أن اخطاء الإدراك الثابتة Constant Error يمكن أن تلاحظ هذا الميل الثابت وتعدله، ولكن أخطاء الإدراك المتغيرة قد لا يمكن تغييرها، أى أن الشخص الذى يبالغ بالزيادة فى إدراك معظم الناس على أنهم أكثر طيبة من حقيقتهم يمكن تصحيحه بشحذ بصيرته ومراجعة موقفه، أما الشخص الذى يختلف تقييمه لهذه الصفة: مرة بالزيادة ومرات بالنقص، أو العكس فإنه لا يمكن تصحيحه بسهولة.
الطالب: هذا ينبهنا إلى خداع الأحاسيس أليس كذلك؟
المعلم: تقريبا.
الطالب: تقريبا ماذا؟ وهل هذا الخداع مرض؟
المعلم: ليس دائما، بل إنه ربما هو أكثر تواترا فى الحياة العادية.
ذلك أن كثيرا من خداعات الإحساس الشائعة يمكن أن تفسرها قوانين تحيز الإدراك، ومثال ذلك أن الخداع الحسى ويسمى “الوَهلْ” أحيانا Illusion يمكن:
(1) أن ينشأ عن تهيؤ خاص حيث يرى الخائف الملدوغ أى حبل وكأنه ثعبان، (“اللى اتقرص من الثعبان يخاف ما الحبْـل”، وأيضا: “اللى اتلسع من الشربة، ينفخ فى الزبادى”!!).
(2) أن ينشأ عن سوء تأويل نتيجة لعوامل فيزيائية كأن يرى أى منا صورته فى المرآة وكأنها شخص يقف وراءها.
(3) قد ينشأ نتيجة للعادة، الأمر الذى نلاحظه فى أخطاء قراءة “البروفات”فى الطباعة، فالمؤلف الذى حفظ ما كتبه هو أقل من يصلح لتصحيح ما كتبه للمطبعة لأنه يحفظ النص الذى ألفه فتفوت عليه الأخطاء لأنه يقرؤها كما هى فى ذهنه لا كما هى على الورق.
(4) قد ينتج عن الاستقبال الكلى التقريبى دون التمعن فى التفاصيل، كأن ترى امرأة شديدة القصر بجوار زوجها لأنه شديد الطول، فى حين أنها متوسطة القامة.
الطالب: إذا كان كل هذا الخداع يمكن أن يتم على مستوى الخداع الحسى، فكيف يكون الحال على مستوى الخداع فى الأفكار وفى العواطف، لقد أزعجتنى حتى كادت موازينى تختلّ بحق.
المعلم: لا تنزعج واصبر معى قليلا، لقد عرف العلماء كل هذا، ومن هنا جاء تحفظهم على تحيزات أى إنسان فرد عالم، وحلت كثير من الآلات محل الحكم الشخصى بغية تجنب مثل هذا الخداع، ولكن وقع المحظور وتشوهت كثير من المعلومات تحت عنوان “الموضوعية”، والحل كما ذكرت لك أن نتيح الفرصة للعالم للنمو الشخصى حتى تقل تحيزاته وخداعه وانخداعه أكثر وأكثر باستمرار، ويصبح هو سيد الآلة التى يستعملها، فلا تقوم عنه الآلة بكل العمل!.
الطالب: هذه معادلة صعبة لكن يبدو أنها ضرورية
[1] – المقتطف: من كتاب (دليل الطالب الذكى فى علم النفس انطلاقا من “قصر العينى”) (من 102 ص إلى 105) الفصل الثالث: “الإدراك” (الطبعة الأولى 1980)، (الطبعة الثانية 2018) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[2] – ديوان “سر اللعبة” للمؤلف: علم السيكوباثولوجى نظماً بالعربية: دار الغد للثقافة والنشر – القاهرة 1978.