نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 5-8-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4356
مقتطف من كتاب:
الترحال الأول: “الناس والطريق” (1)
الفصل الثانى: “بعد ظهرِ يوم سبتٍ حزين” (8)
(مازلنا فى السبت: 25 أغسطس 1984)
………..
……….
رحنا نتـعجب من يوغسلافيا هذه – مثل سائر أوروبا- حيث تبدو لراكب السيارة من أمثالنا بلدا زراعيا فى المقام الأول، ومع اختلاف النظم الاقتصادية والسياسية. فأوربا هى أوربا، والزراعة تملأ كل شبر من أرضها، بل كل سنتيمتر، ولا أستطيع أن أضع -فى خيالى طبعا-حدا فاصلا بين قطاع عام وقطاع خاص وقطاع تعاونى!!. بين أرض الدولة وأرض الناس. فالأرض لابد أن تزرع كلها تحت أى اسم وأى قطاع، حتى يأكل كل الناس، وليتشاجروا بعد ذلك على توزيع ما يتوزّع، وحتى لو ألقوا بالمحاصيل فى البحر ليحتفظوا بسعرها، فلن يدوم الجنون طويلا، المهم أن تزرع الأرض كل الأرض، ويارب اجعلْ بلدى ممطرا حتى نزرع غصبًا عنا. ولكن من يدرى، لعلنا حينذاك لو أمطرت طول العام (مثل ما هو الحال فى السودان!!!) نتركها للشيطان والفيضان، فتمتلئ بالأعشاب والمستنقعات، ونسافر نحن نرفع قصعة الخرسانة على أكتافنا المتبلدة فى بلاد النهر الأسود تحت الأرض فى قيظ الهجير؟.
تمضى السيارة أسرع فأسرع مع انبساط الطريق، وتمضى أفكارى أسرع فأسرع مع انطلاق الخيال. أحاول أن أطرد المقارنات والحسرة لألقى بنفسى فى بحر الخُضرة التى أخذتْ تحتوى حواسى من كل جانب. ثم ما هذا الزحام المتزايد فى كل الطرق بلا استثناء؟. وأنواع المركبات الذاهبة والعائدة لا رابط بينها. فمن سيارة “سبور” تجر قاربا أو “كارافانا”. أو حتى “يختا” إلى كاميون كأنه مخزن عملاق متنقل، أو منزل صغير متحرك، ثم إننا فى نهاية الصيف، ولابد أن الإجازات قد قاربت على الانتهاء أيضا، لكن الزحام كان حقيقيا ومتزايدا.
لا ندخل “نيش”، وننحرف إلى الشمال فالغرب نحو بلجراد، ويبدأ الأوتوستراد، ويبدو أنه لم يكتمل بعد. ها هى يوغسلافيا تحاول أن تطلق سراح المرور البرّى بها، فتربط بين ما يسمى الشرق، وما يسمى الغرب بموقعها المتوسط وطبيعتها الفريدة. وإن كنت- بينى وبينك- لم أكن قد وعيت بعقل الطفل الفلاح المصرى أية فروق حقيقية بين أى غرب وأى شرق، فكلهم خواجات، وخواجة يعنى “بلاد برّة” ودمتم، وسبحان مغير العقائد، ومقسّم البلاد بفضل الحروب والحكام والغباء والأيديولوجىا!!. وأفرح بالسير السريع (نسبيا) فى الطريق السريع (يعنى!) بعيدا عن الجبال والأنفاق والجسور والمفاجآت، إلا أننى بعد قليل أملّ مللا متزايدا، فكثرة العربات المارقة من جوارى، وتزايُد السرعات على الجانبين ورتابة المناظر حولى، جعلت السفر-هكذا- أشبه بالحدث المكرر حتى الجمود. هذا الشعور لا يأتى إلا فى الطرق السريعة (الأتوستراد). أما الطرق الوطنية التى تعبر القرى، وتُكثر من الالتواء والصعود والهبوط، فإنها تدعو دائماً إلى الحوار والمؤانسة.
تتوقف الطريق دون إشارة إلى ما يدعو إلى ذلك، وتطول الوقفة، وينزل أصحاب السيارات يتمطون ويتساءلون، ويستقيظ أولادى الذين كانوا قد بدأوا فى النعاس؛ ربما نتيجة للملل -مثلى- من الطريق السريعة، أو بحكم ما اكتسبوا من عادة فى هذه الرحلة بالذات كما أشرت مما حرمنى من الشعور بمشاركتهم إياى بعض ما يهزنى هزا مما أراه حولى متجددا أبدا. هذا ثمن صحبة العيال، علما بأن الكبار أصعب . ما علينا. أنزل أستفسر، ويجيبنى بعض قادة السيارات المجاورة من أصحاب الخبرة بأنه إما تصليح فى الطريق، وإما حادث تصادم. وتطول الوقفة فأتطلع إلى أرقام السيارات وأنا أتجول بينها، أحاول أن أتبين جنسياتها، فلا أستطيع. فكلها حروف وأرقام متشابهة، فأتطلع إلى الوجوه لعلى أنجح فى أن أخمن نوع الجنسية-حتى مع التقريب لأقرب بلد صحيح!!-وتلوح لى خلفنا بعدة عربات حافلة صغيرة قديمة نوعا ما، يركب فيها ركاب يجذبون نظرى فى الحال؛ فنساؤهم يغطين الرأس وبعض الوجه “بالإيشارب”، فأتصور أننى عثرت على مسلمى يوغسلافيا ممن أسمع عن كثرتهم وتمسكهم بديننا بشكل أو بآخر، فأتقدم نحوهم للتعرف والتحية، ومعى بعض الأولاد، ويقفز حاجز اللغة فيحول دون أى تفاهم، فتبدأ الاشارات. أشير إلى أرقام عربتى وحروفها باللغة العربية، فيبتسمون، فأحمد الله على بداية أى شىء، وأواصل، فأقول بالعربية: “مُـسلمْ”، فتنفرج الابتسامة عن ضحكة مرحبة فرحة، ويقولون: “مُـسلمْ”، فأمسك خيط اللغة الجديدة وأقول: “لااله إلا الله” فيردون: “محمد رسول الله”، وأطمئن إلى هذه الخطوة الناجحة. لم يبق إلا التعرف على الجنسية والوجهة، فأتبين بعد جهد جهيد أنهم ليسوا يوغوسلافاً، وإنما من تركيا، وأرجح أنهم فى مهمة عمل، لا سياحة ولا استطلاع. فقد كانت حمولتهم تشير إلى ذلك، كما كانوا فى حالة أقرب إلى الاستسلام المشوب بحزن متواضع يمنعنى من أن أتصور أن ثمة سياحة، أو عسكرة، أو إجازة، وترفض زوجتى أن يكونوا أتراكا هؤلاء “الغلابة”؛ فقد تعودنا على أن التركى هو السيد الحاكم المتغطرس (الغبى، كما نصوّره عادة)، وأن التُّركيات هن الـــ “جلفدان هانم” أو السيدة “شمردل” (بل: مدموازيل شمردل يا بغـلة !!) أما هؤلاء الناس، البسطاء الحزانى المستسلمون لـلوعد والمكتوب، الساعون إلى أرزاقهم فى بلاد الفرنجة عمالا أو ماشابه، فهم ليسوا أتراكا حتما، حتى لو قالوا إنهم كذلك. وهكذا أعاود التفكير فى معانى الألفاظ التى تتغير بتغير التاريخ والجغرافيا.(وأكتشف الآن أنهم ربما كانو تركا أكرادا لاتركا أتراكا. يبدو أننى ما زلت أرفض أن أرى التركى غير السيد إياه. – أفندم).
تحرك الركب بطىئا، ثم تزايدت السرعة تدريجيا. وحين وصلنا إلى السبب الذى عطلنا، تبين لنا أن ست عربات (تقريبا) قد أصبن بالقلب والتحطيم والانحراف والخراب والتلف…، لكل حسب قَدِرهْ، نعم. حسب قَدَره، وليس حسب خطئه. فالمسألة فى حوادث الطرق السريعة لاتتوقف على المخطئ فحسب، وإنما على حسابات القدر أيضا، وربما قبلا. تصيب الحادثة كل من تصادَفَ أن جاوَرَ السبب أو المتسبب، كل من حاذاه أو تبعه أو اقترب منه، أو حتى حاول تفاديه، ولم تُتَحٌ لى فرصة طويلة لـلتأمل فى الوجوه والتفاعلات تجاه هذا الحادث المتعدد الضحايا، ولا أنا حاولتُ ذلك، تعلّمتُ أن الحوادث تغرى بالحوادث. لمحتُ (أو تصورت) أن الوجوه الناجية والعابرة المحيطة بالحطام والضحايا، بدت لى أقل تفاعلا من توقعاتى. تعبيرات لا تتناسب مع حجم الخراب ومنظر الإصابات، وبدهى أنى مخطئ فى حكمى؛ إذ كم مضى من الوقت منذ الحادث، وبالتالى كم تغيرت تعبيرات الوجوه، وكم كانت لفْتتى غير كافية لتبين حقيقة المشاعر، ثم إن هذا التبلد المتناسب طرديا مع حجم الكارثة (حسب توقعاتى) هو رحمةٌ بنا، وليس نقصا فينا. وأراجع نفسى أتساءل: لم إذن بادرتُ باتهام هؤلاء الخواجات ـ هكذا ـ بالتبلد غير المتناسب مع الموقف؟.
أجد فى داخلى اتّهاما قابعا يتربص بأهل الغرب جميعا، وهو جاهز أن يصفهم باللامبالاة، والبرود والاستعلاء بمجرد أن تلوح أى فرصة لذلك. وبما أنى لمست من “الطبيعة” هذه المرة محاولة أن تُصالحنى عليهم بشكل أو بآخر، فقد فتحت بابى ورجَّحت خطأ أحكامى، واستمعت إلى همس وجهة النظر الأخرى تتسحب من داخلى أيضا.
ألستُ، وأنا الشرقى، المفروض أنه عـُرف بالمبادرات الانفعالية، هو من ضَبَطَ نفسه متلبسا أكثر من مرة، بغير مايُحب الناس أن يُـظهروه من أسى وشفقة فى مثل هذه المواقف؟.
هأنذا أعترف كيف كنت أشعر فى بعض الأحيان- وأنا أمر بحطام سيارة فى طريق مصر الإسكندرية (الزراعى أساسا، والصحراوى بدرجة أقل).. كنت أشعر بشعورين معا، أحدهما، وهو الأقل أهمية فى هذا المقام هو شعور الشخص العادى من شفقة وأسى وتعجب مما يثير الدعوات بالرحمة للمصاب، والستر لنا. أما الشعور الآخر الذى لم أحدِّث به أحدا من قبل، فهو شعور غريب لا يخلو من قسوة، ويختفى وراء هذا كله ما لم أتبينه تحديدا وإن كنت لا أستبعده، شئ مثل ظل راحة أو ملمح فرحة. بدهى أنى لم أقبل هذا الشعور أبدا، فما بالك بالآخرين لو عرفوا عنى بعض ذلك؟. وقد كنت أكاد أشعر بهذا الشعور الآخر وهو يـُخرج لسانه “بشكل ما” لـ”شئ ما”، لـ”شخص ما”، لـ “فكرٍة ما”، ربما هو يخرج لسانه لطمعنا وغرورنا ونسياننا أننا جميعا على “كف عفريت”، أو أنه يخرج لسانه لاعتمادنا على قوة السيارة- أىة سيارة، بما فى ذلك سيارة الحياة- ومدى متانتها، وحذق قيادتنا، ومبلغ مهارتنا، أو أنه يخرج لسانه لغرورنا الذى يحدد لنا دقة ميعاد “الوصول”، (أى وصول). الوصول إلى نهاية الرحلة أو نهاية النجاح، ثم نجد ماهو أدق توقيتا وألزم وصولا وهو نهاية الحياة. المهم أنه يخرج لسانه والسلام.
وحين تجرأت ذات مرة، وألمحت إلى زميل لى (طبيب نفسى، هو تلميذى وهو الآن رئيس قسم فى جامعة ما) عن هذا الشعور الغريب غير المناسب تجاه هذا مثل هذه الحوادث أمام هذا الحطام، كنتُ آمل أن يفهمنى، ويشاركنى التساؤل، واثقا أنه لن يجرؤ أن “يشخّصنى”، أو يصدر حكما فوقيا، أو يسمّى عرضا بذاته، فإذا بزميلى هذا يستبعد هذا الشعور أصلا، ينفى وجوده، مع أنه شعورى وأنا الذى أحكى عنه، لكنّه اعتبرنى أمزح، وعذرتـُـه، فهو لايتصور بما يعرفه عنّى، أنا الذى أكاد أذوب رقة على طفل تعرت ساقه بجوار أمه النائمة عنه فى يوم بارد، لا يتصوّر أنى أحمل بين جوانبى أى “شىء” غير هذه الرقة. وحين رحت أؤكد له أن هذا وارد وأنى لا أمزح، وأنى مسئول عنه وغير خائف منه، نحَّى وجهه بعيدا وفتح حديثا آخر!!، فأبتسم خجلا ومجاملة، وأعذره ، وأسكت.
منذ انكشف عنى غطائى، وأنا أصاحب كل المشاعر “الأخرى” مصاحبة لصيقة، وأعرف أننى بها أكتمل، وأن الفرق بين الخيــّـر والشرير، ليس فى أن الخيــّـر دائم الفضل رقيق الحاشية، فى حين أن الشرير قاسى القلب جاهز الحقد، وإنما الفرق هو فى قدرة الخيــّـر على أن يعى ويروّض شرّه بالمجاهدة والتقبل والمسئولية، ماضيا فى اتجاه واحديّته المبدعة من ناحية، صاباَّ طاقته لخير الناس، بتلقائيةٍ حتميةٍ من ناحية أخرى، دون إنكار الجانب الآخر من نفسه، ودون رفضه وجوده من حيث المبدأ. الشر لا يكون شرّا إلا إذا انطلق مستقلا .
لاحظتُ جزع صحبتى البادى من منظر التحطيم والجرحى، وما خفى مما هو أصعب، ورحت أقارن بينها وبين الوجوه الهادئة حول الحادث الكارثة، وأتساءل من جديد: أليس من المحتمل أن يكون فتور تفاعلاتهم- إذا قيست بفرقعات مشاعرنا التى نسميها عواطف- هو نوع من هذا التجاوز نحو التكامل، وأراجع نفسى حين أتذكر طول رحلتى، وصعوبة مخاطراتى مع ذاتى، وأستبعد أن يكونوا جميعا، أو أغلبهم، قد مضى كل هذا المشوار، وأجد أن الأقرب أن أغلبهم قد بالغ فى تركيزه على ذاته المستقلة، فذهب يمارس بشجاعة نذلة مبدأ أن “الحى أبقى من الميت”. فإذا أضيف إلى ذلك مافعلته شركات التأمين من تخدير مشاعر الناس، بالتعويض المنتظر الجاهز (وسأرجع إلى ذلك)؛ لأمكن أن نفهم فتور التفاعل هذا بحجمه الواقعى، لا أكثر ولا أقل.
مضت بنا حافلتنا الصغيرة فى الطريق الشديدة الاتساع البالغة الازدحام، ورتابتها تزداد، والنوم يحل هنيئا مريئا على كل الأفراد إلا مرشدتى الصغيرة. وندخل بلغراد بعد العصر مباشرة. وقد قررنا أن نبيت فيها هذه الليلة، فنتبع سهم “مركز المدينة” لنجد أنفسنا فى وسط بلغراد بسهولة غير متوقعة، ولا نصدق أننا هناك، فأين المدينة الذى هذا هو وسطها؟. أين هى من القاهرة العملاقة المترامية أو من باريس أو من الإسكندرية؟ الشوارع تكاد تكون خالية، والترام يتهادى فى خجل متواضع، والناس حزانى متباعدين عن بعضهم البعض فى الأغلب، وأدركت أن الفرق بين أن تسمع عن عاصمة بإيقاع ثقلها السياحى، وأن تراها رأى العين، هو الباعث على هذه الدهشة الأولية.
نفس المفاجأة أصابتنى عند وصولى بروكسل سنة (1996)، قادما من باريس بالسيارة، وكنت أتصور أن ضخامة العاصمة تدل على قيمة أو مستوى القطر كله، ولكنى عرفت من ملاحظاتى المتتالية، أن العكس هو الصحيح. فكلما كانت العاصمة أقل عَمْلقة، كانت الدولة أكثر رقيا ولا مركزية.
مازلت أذكر قرية صغيرة جدا فى جنوب فرنسا تعدادها لم يتعد الثلاثمائة رجل وامرأة وطفل، أمضيت فيها يوما فى إجازة الربيع (الباك) فى أبريل1996، ومع هذا العدد الصغير من الناس، ومع وجود الفندق المضيف فوق حظيرة “ثيران” موفورة الصحة!!، وكان فى مواجهة محل إقامتى (فى حجرة نظيفة فوق حظيرة ثيران) نادٍ، وبار، ومقهى، وموتيل، وحين دخلته محاولا أن أستنشق ريحه، وأستوعب روحه، لم أجد فارقا كبيرا بينه وبين مقاهى باريس بجوها الخاص الحى المثير.
وأستنتج أن حضارة البلد فى العصر الحديث لابد أن تقاس بتناقص فروق “الخدمات” و “الفرص” بين القادر وغير القادر، بين المدينة والقرية، بين الحاكم والمحكوم، ولكنها أبدا لا تقاس بالتطاول فى البنيان، وحجم ديون البنوك. بهذا المقياس يمكن أن نتعرف على موقعنا الحضارى المعاصر، بالمقارنة العابرة بين ليل القاهرة الثقافى، وليل المنصورة أو كفر الزيات (مثلا)، ولا أقول كفر عليم أو جِرزة، فثَمَّ ندّاهة ذات قوة سحرية تمرّ على أهالى الأقاليم عندنا من المغرب، أو بعد العشاء على أحسن تقدير، تنبههم أن يعودوا إلى عششهم، يتحلقون حول التليفزيون أو ينجبون أطفالا لا ضمان لمستقبلهم. وأرجع إلى تواضع بلجراد وتــِرامها،
لا أستطيع أن أستبعد منظر بروكسل وترامها، وأتذكر قصة نصب “ظريفْ” حدثت لى ذلك اليوم عند وصولى إلى بروكسل،(أغسطس 1996) فقد استهترت بحجم هذه المدينة الصغير، وغرَّنى هدوؤها، فرحت أشترى بعض حاجات هامشية دون أن أحمل خارطة للمدينة. وحين هممت بالعودة، لم أهتد إلى الطريق الصحيح المؤدى إلى بيت الضيافة المتواضع الذى وضعنا فيه أمتعتنا، وتركتُ فيه زوجتى وصحبى. (كان الأرخص من أى فندق ولو بنجمة واحدة) كنت حافظا العنوان، وقبل أن أهم بالتوقف للتأكد من الاتجاه. لمحت رجلا فى منتصف العمر وكأنه يشير إلىّ بيده إشارة ما، فقلت فرصة، أسأله عن الطريق، فإذا به يسألنى هو: إلى أين أنا ذاهب؟. لعل طريقه فى طريقى، فقلت له العنوان، فابتسم ابتسامة الواثق المطمئن، وقال “أصحبك إليه فهو فى طريقى”، وحين وافقت، بدأت لأول مرة أتبين أنه يتحسس باب السيارة ليعثر على المقبض، وهنا فقط عرفت أنه “أعمى”، وأنه كان يحدثنى مهتديا بصوتى لا أكثر، وأنه- بالتالى- لم يكن يشير إلىّ أنا بوجه خاص ليختبر شهامتى (رغم ظهورها بالصدفة!)، فأية خدمة يمكن لى أنا الغريب أن أسديها لهذا الخواجة ابن الخوجاية؟. وأى جميل سوف يحفظه لى ولبلدى؟. ركب صاحبنا بجوارى وأنا أسأله عن العنوان، فأشار بيده أن أمضى فى استقامة دائما Toujours tous drois، وتعجبت أنه “هكذا جاهز”، وسألته: هل التقط العنوان الذى أريده بهذه السرعة، فأكد لى أن: “نعم”، وقلت لنفسى ياله من كفيف متطوع هو أبصر من عساكر مرورنا، لكن العربة تمضى والمسافة تطول، وأنا أذكر أننى لم أبتعد عن محل الدار التى أضافتنا إلا قليلا قليلا. وكلما سألته، أجابنى “دائما فى خط مستقيم”، وأتذكر الأغنية التى كنا نغنيها فى الرحلات الجماعية بالفرنسية ذات التورية الذكية والتى تقول “إنه إذا كان الرب يريد أن نسير دائما فى خط مستقيم، فسنصل إلى سان فرانسيسكو”. والتورية هنا أن “الخط المستقيم” يؤخذ جغرافيا بين باريس وسان فرانسسكو، لا مجازيا بمعنى السلوك القويم، وأبتسم، ولكن الوقت يمضى والسيارة منطلقة، فأبتسم ابتسامة أخرى هى خليط من الحرج والعجب والاحتجاج، وأنكّـت على نفسى مطمئنا إياها أننا لم نعبــُـر- بعد- الأطلنطى. ويبدأ الفأر يلعب فى عبى، لكنى أستبعد أن يكون رفيقى ومرشدى الضرير قد استغفـلنى. وكلما تلكأت عند إشارة مرور حمراء، وأصررت على سؤاله متذكِّراً أننى لم أبتعد هكذا عن مستقرى، طلب منى أن أقرأ اسم الشارع على الناصية، فأفعل، فيهز رأسه مطمئنا، ويواصل: “دائما فى خط مستقيم”، “أخيرا وصلنا”،هكذا قال بعد سؤال أو اثنين عن أسماء بعض اللافتات، وقال لى أن أركن يمينا قليلا مشيرا بيده وكأنه يرى، ففعلت. وإذا به يفتح الباب فى عجالة متمتما وكأنه يشكر، وأخذتنى المفاجأة. ولكنى لم أتصور ماحدث.
كنت لا أزال أستبعد الاستغفال غرورا بذكائى، وتمسكا بشهامتى المدعاة. نزلت بسرعة ورحت أدور حول السيارة لألحق به، وأنا أظن أنه ينتظرنى ليدلنى بشكل أو بآخر، ولكنه كان “فص ملح وذاب”. وهنا- فقط- أدركت أنـه “فَعَلها”، لأوصّـله مجاناً، وابتسمت، وغصة فى حلقى تعلن أنى بدورى “شربتُها”، ومـِنْ من؟، من كفيف ظريف الحيلة لدرجة القسوة. وماكدت أطَـمْئــِنُ نفسى إعجابا بذكائه؛ لأتجرع المقلب بروح رياضية، وأقفل عائدا إلى العربة حتى وجدت المفاجأة الأكبر تنتظرنى، فقد نسيت- فى لهفة اللحاق به- مفتاح العربة فى داخلها، والأبواب الأربعة محكمة الإغلاق. وانقلب ضحكى غيظا مضاعفا، ويرثى قائد تاكسى لحالى فيدلنى على إمكان إحضار مفتاح بديل بمجرد معرفة رقم الشاسيه من وكيل الشركة المنتجة للسيارة، ويصطحبنى إلى هناك، ويرجعنى مصلحا بذلك- بعض الشىء- خطأ مواطنه الأعمى، ولا أجرؤ أن أحكى له أو لزملاء الرحلة عن تفاصيل ماحدث إلا بعد إفاقتى من المقلب، وخاصة أنى حين رجعت-أيضا فى خط مستقيم!! -وجدتنى قد التقطت ذلك الخواجة الظريف الكفيف من مكان لا يبعد أكثر من مائة خطوة عن مكان إقامتى.
صرت كلما تذكرت هذا الحادث فيما بعد ابتسمت، إعجابا بهذا الذكاء الخواجاتى الخاص. وحين أقارن هذا الاحتيال بما وقع لى- لنا-من ضروب النصب الخوجاتى فى هذه الرحلة، أترحم على نصب زمان الظريف الطريف، فى مقابل ألعاب الثلاث ورقات، والسرقة الأحدث ، موديل 1984.
…………..
ونكمل الأثنين القادم
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الثانى: “بعد ظهرِ يوم سبتٍ حزين” ( 25 أغسطس1984) (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net