الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطف من كتاب: الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (7 من 8)

مقتطف من كتاب: الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (7 من 8)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 20-1-2020

السنة الثالثة عشرة

العدد: 4524

مقتطف من كتاب:

الترحال الأول: “الناس والطريق” (1)

الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (7 من 8)

(ما زلنا فى نفس الفصل)

………………….

………………….

يتصادف وجودنا فى أرض ديزنى ذلك اليوم مرور لست أدرى كم عاما على اختراع شخصية “ميكى ماوس”، ولا كم عاما على الاحتفال به بهذه المناسبة أو بدون مناسبة، وقد خيل لى أنهم كل يوم طوال الـ 565 يوما يخترعون مناسبة مختلفة يحتفلون بها مع الرواد بنشاط متجدد ويعلن ذلك فى المكبر، وتمتلئ شوارع الملهى العملاق بكل شخصيات الكارتون التى ابتدعها والت ديزنى، تسير بيننا تصافحنا وتداعبنا، ثم تنتظم “الزفة” مثل زفة مولد النبى التى أشرت إليها قبلا فى “زفتى”. ولكنها زفة موسيقية تكنولوجية، حديثة، ورائعة، ولا يستطيع أى من زوار هذه الأرض مهما بلغت رزانته ودفاعاته إلا أن يسلّم نفسه إلى جموع مهرجان اللحن البهيج، وأكاد أنسى كل مآسى العالم، وبالذات تلك التى يتسبب فيها هؤلاء الأمريكيون أنفسهم فى كل أنحاء العالم، وأنجح جزئيا حتى تنتهى الزفة وسط زخم النسيان والنشوة،

كيف ينجح هؤلاء الناس فى أن يسحبوا من هو مثلى سحبا إلى ما هو طفل بهيج فى داخلى، ثم لا يتورعون عن قتل أطفالى الحقيقيين بالنابالم فى المخيمات، أو بالجوع فى أكواخ القحط؟ أو بالذل فى تدابير القهر المعوناتى؟. هل هذا التناقض المريع هو من طبيعة الحياة الحرة وحسابات الديمقراطية الغربية؟.

هل نجحت هذه الحضارة فى أن تفصل بين إحياء وجدان الأفراد “فرادى”، لتسهل سحق هذا الوجدان بسلطة مركزية خفية، تتحكم فى مصائر الجماعات والمؤسسات بآلات الدمار وشروط الإطعام؟

أستبعد هذه المنظومة الإضطهادية التآمرية المحبوكة حين أتذكر أن سرقتى إلى ما هو طفل بهيج لم تتم ـ فقط ـ فى هذا الملهى العملاق، بل إنى خبرت تجربتين تلقائيتينْ لم يكونا من صنع الأمريكان بالضرورة.

قبل هذه التجربة بأيام، كنت فى سان فرانسيسكو، وكان يوم أحد، ولاحظت بجوار الفندق، وفى ساحة متسعة أمام مكتب استعلامات حكومى، على ما أذكر ـ أن ثمة فرقة كبيرة، كأنها أسرة كبيرة، قد تجمعت بآلاتها الموسيقية البدائية، وخيل إلىَّ أنهم من جزر هاواى، أو ما شابه، بملابسهم الملونة والممزقة فى أشرطة جميلة هفهافة، ووجوههم الملوحة بسمرة رائعة، لاتخفى الملامح الآسيوية عموما، وقد تزينوا بريش جميل الألوان وأشياء كثيرة لا بد أن تـُرى حيث لا أسماء عندى لوصفها، وقد تجمع حولهم المواطنون والسياح على حد سواء فى مشاركة مجانية رائعة، ولأمر ما… التقطتنى فتاة منهن، لا أحسب أنها تتعدى الثالثة عشر من عمرها، وسحبتنى إلى وسط الحلقة، فحاولتُ أن أتملص منها لكنى خجلت من إصرارها، وتلقائيتها، وعدم اعتبارها لفارق السن، وأخذتْ هى تشير بما فهمت منه أنها دعوة لى أن أرقص معهم جماعيا، فأُفهمها – بالإشارة أيضا – أننى لا أعرف أى رقص، بأى شكل. فتصر أن هذا أفضل، وكأنها لا تريد منى ما أعرف، ولكن ما لا أعْرف، وأنه ما علىّ إلا أن أفعل مثلما تفعل هى، أو مثلما أستطيع، أو مثلما أى شىء. وأحسست بذلك الشعور العجيب الذى يراودنى، فى مثل هذه المفارقات والمواقف وغيرها، أحسست أنى أمام أم طيبة (13 سنة) تصبر علىّ وتشجعنى بكل ما أوتيتْ من أمومة صبورة متحملة، فخجلت من التمادى فى الدلال، أو ما يبدو أنه كذلك. وشعرت ـ ربما فجأة ـ أنى فى أشد الحاجة إلى ما تدعونى إليه، ودقت الطبول، وقفزتْ، فقفزتُ، ودارتْ فدرتُ، وشاركتُ، ونسيتُ ـ أو كدتُ، ثم … ثم انسحبتُ، ثم ياويلى: تذكرتُ، فاكتشفتُ أننى ما نسيت: لا هذا، ولا ما قبله، ولا ما معــه.

 ياساتر!! لم ذاك؟.

أما الخبرة الأخرى التى تَعَرَّى فيها طفـلى، فقد كانت، ذات مساء آخر، فى سان فرانسيسكو أيضا، ولعله اليوم السابق مباشرة، لا حظنا ـ زوجتى وأنا ـ ونحن نتمشى مساء نبحث عن مكان هادئ أن شابا ألمانيا (هكذا رجحنا) عملاقا يقف أمام مطعم شديد التواضع، وقد لبس “شورتا”، وهو يعزف على عوده أنغاما جميلة، فتوقفنا نتأمله. ثم نظرنا فإذا مقاعد المطعم لاتتعدى بضعة عشر مقعدا، نصفها فى ممر ضيق، فدخلنا آملين فى الهدوء والطيبة، والصحبة المحدودة، وإذا بالفتاة المسئولة عن الخدمة، ذات العشرين ربيعا، ترعانى وزوجتى بأمومة أطيب، من أين تأتين بكل هذه الأمومة يا ابنتى؟ أمومة تدفعك  إلى أن تسلّم لها لتقبل التبنى دون استئذان. ثم يدخل الشاب العملاق العازف “ذو الشورت” فينضم إليه زميلاه ومعهم آلتان موسيقيتان لا أعرفهما، وتصدح الأنغام، ويبدو أن الأغنية كانت تتطلب المشاركة بطبيعتها، فأخذ الجميع يصفقون معها، إلا نحن، (زوجتى وأنا) فلاحظت أمّنا الشابة أننا كذلك، فدعتنا بالإشارة، فبدأنا نقدم يدا ونؤخر رِجلا. ثم اندمجنا ونحن مطمئنان إلى حالة كوننا جلوسا محترمين، إلا أن الرواد السبعة والمغنيين الثلاثة انتشوْا أكثر فأكثر وإذا بالراعية الأم تضع على رأسى ما أظن أنه كان قبعة، كذلك على رأس ـ ولا مؤاخذة ـ زوجتنا مثلها، فيزيد تصفيقنا علوا متشبثين بالكراسى أكثر فأكثر وكأنى أقول لهم كفى هذا، ربنا يخليكم، ولكن أبدا، ودهشت لأننا لم نكن لا فى عيد ميلاد، ولا فى عيد فقط ولا فى رأس السنة. ولا شىء، ليلة عادية، وناس لا يعرفون بعضهم، وموسيقى، وطيبة، وعلانية. وبدا لى أننا أصبحنا ـ فجأة أسرة واحدة لا تجد أى مبرر للتعرف الشكلى، أو إجراءات الشهر العقارى، مجرد “ناس معاً”. ويقوم الجميع مع الموسيقى، بدعوة من الأم الشابة التى ترعانا معا، فلم أستطع الاعتذار أو حتى التلكؤ، فقمنا مع القائمين. وأنا نصفى فرح فرحة غير محسوبة، والنصف الآخر يدعو بالستر. واذا بنا ننتظم متماسكين فى طابور صغير متماسك يقطع الممر إلى خارج المطعم، فيلف لفة صغيرة فى حدود مترين على الطوار، والمارة يحيوننا، وبعضهم يشارك، ثم نعود ونكررها مرة أخرى ثم نجلس، دون أن تنهد الدنيا. وتفرح بنا الأم الشابة وترفع من على روؤسنا قبّعاتها مشجعة أن “برافو”، وكأنها قد أحست بالصعوبة التى عانيناها فاجتزناها بفضل أمومتها، وكأنها تشكرنا على أننا لم نستسلم لعنادنا، وبالتالى شاركـْـنا، فتجنبنا أن نكون نشازاً منفرا فى خضم أسرة التلقائية والصدفة والموسيقى والعالمية والود الطيب،

كدت أبكى حزنا فرِحا، أين معنى هذا (هكذا؟!!) من كل ما يجرى فى أروقة التعصب وميادين الحروب. لا… بل أين لنا نحن فى مصر من بعض “هذا”، أو بديل لـ “هذا”، أو مثل “هذا” أو فى اتجاه “هذا”، لا.. ليست بدعة غريبة ولا هو لهو غبى، كما أنه ليس اغترابا ذاهلا، أو خفة مرذولة، بل إنه من حق الإنسان أن يتواجد مع إنسان آخر دون شروط، ودون صفقات من إياها، ودون إذن، ودون إضرار، هذا حق كل إنسان، ما دام إنسانا شريفا معـلَنا ملتزما غير ضار، هذا ما حدث فى ساحة الاستعلامات، فى سان فرانسسكو وهو ما حدث فى المطعم الصغير هناك أيضا.

إن هذا ومثله وأطيب منه كان يحدث عندنا فى الموالد، وبعض الأعياد، وقد أشرت إلى مخيمات الموالد حول السيد البدوى أو سيدى عبد الرحيم القناوى. ولكن يبدو أن هذا كله مهدد بالانقراض حاليا،. وأتذكر النشاط الجميل الذى يتمثل فى حلقات الذكر التى يعقدها بعض محبى وأفراد بعض الطرق الصوفية فى بساطة وتلقائية، شاركتُ فى حلقات الذكر هذه علانية فى صباى،  ثم سرا بعد اشتغالى بتطبيب الناس، وكنت فى كل هذا ـ أمارس نوعاً من الأمانة التى تلزمنى ألا أحكم حكما حازما إلا بعد أن أشارك ولو بتذوق عينة.

 أشعر أننا نسير تجاه حضارة (أو: لاحضارة) يمكن أن تسمى “حضارة اللفظ والوصاية” نفعل ذلك، بدلا من أن نغامر باقتحام حضارة “الحركة والتكامل”، ونحن نمارس حضارة الخوف والجمود على حساب حضارة الطفولة والتلقائية.

كنا ننتظر الأراجيح من العيد إلى العيد، ونتنافس فى علوها أعلى القائم المستعرض، ويتحدى بعضنا بعضا: من الذى يمكن أن “ينطر” زميله الراكب قبالته وهو فى قمة ارتفاع الأرجوحة؟…. والآن.. لست أدرى، ننتظر فى العيد المسرحية التى ستعرض لمدة أربع ساعات، فأربع ساعات، القناة تلو القناة فى عز الظهر حتى منتصف الليل، وننام، مع أننا لم نكن إلا نائمين طول النهار.

وأنا أراجع هذه الطبعة الثانية  دخل علىّ طبيب شاب (امتياز تقريبا) يكتب شعرا جميلا وعميقا، وتدرج الحديث إلى ما وصل إليه الفن من هبوط (على حد قوله) وإذا به يستشهد على درجة الهبوط بأغنية منعت تقريبا (أو فعلاً، لست أدرى) تقول ” بابا أبّح “، تغنيها مجموعة من الأطفال، وحين سألته عن سبب إعتراضه لم يجب، وحين سألته عن كلمات الأغنية لم يُجب، اكتفى بمط  شفتيه، ثم حصلتُ على هذه الأغنية الممنوعه (5 أغسطس2000) وسمعتها ووجدتها شديدة البراءة رائعة الطفولة ليس فيها حرفاً واحدا قبيحا أو خارجا، الألم الذى غمرنى هو أن المُعترض لم يكن شيخا متزمتا، أو والدا متخلفا، أو سلطة جبانة،  لكنه كان شابا (حوالى 25 سنة) شاعرا، وحـّرا من وجهة نظره (بما فى ذلك ما يتصوره من حرية التخلص من الالتزام الدينى). أشفقت عليه، وعلنيا، ورفضته جدا.  نحن نقتل الأطفال فينا. نحن جميعا يساريين ويمينيين، محافظين وثوارا نقتل الأطفال فينا بالوصاية والزيف والاستعلاء والغباء.

أنا منزعج من هذا الشاب الشاعر المثقف وهكذا يصنّف، أكثر من انزعاجى من فتوى بتحريم التصوير والغناء.

غادرنا الأولاد، وقبلوا عذرنا عن عدم الاشتراك معهم ولم أقل لهم أننى لا أستطيع أن أتركهم يسرقونى بالطريقة ذاتها التى تمت فى الملاهى العملاقة فى أرض ديزنى، أو ساحة الاستعلامات فى سان فرانسيسكو، مع أسرة هاواى وصغيراتها، أو أمام المطعم الألمانى الصغير.

 هل لا بد من سرقة؟ ألا يجوز أن أسرق نفسى دون هذا الإستسلام المتغافل لمحركات خارجية تعرف الطريق إلى قوى الطفولة بداخلى؟ أهو حقى؟ أهو عدل؟ أهو ممكن؟ وحولى كل هذا الغباء والوصاية، أنا أحاول على أى حال، وليذهب الأولاد، وليتمتعوا، وليفرحوا ليسهـلوا من الآن طريق الداخل/ الخارج، وليتمتعوا بما قد لا يضطرهم إلى الاستنقاذ بلص شريف فى ملاهٍ عملاقة، يسرق لهم أطفالم من داخلهم حتى يساعدهم على أنفسهم مثلى.

 ذهب الأولاد، وعادوا، وحكوا، وضحكوا، ونسوا، وحمدوا، ونمنا، فأصبحنا.

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

admin-ajax-41admin-ajax-51

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *