نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 26-8-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4377
مقتطف من كتاب:
الترحال الأول: “الناس والطريق” (1)
الفصل الثانى: “بعد ظهرِ يوم سبتٍ حزين” (11)
(الأحد 26 أغسطس 1984)
كان الصباح غـائما فأتاح لنا فرصة التلكؤ. كان الطعام جيدا كمّا وتشكيلا لكنّه كان بلا روح. بدا لنا أقل كرما وأضيق سماحا من الإفطار الفقير الذى تناولناه فى فى موتيل الجبل، وكأن روح المكان تسرى حتى فى مذاق طعامه، لكننا تمتعنا مرة ثانية بمجرد الجلوس “معا حول المائدة”، بعد أن بدأنا نخاصم البسكويت بأنواعه، كما بدأنا نمل من الأكل فى العربة فى الوضع “جالسا، وأمامك قفاً غير مشارك”.
أخذ كل منا يخمن كم أمضينا فى الرحلة حتى الآن. ابتدأت معالم الزمن تضيع، وأجمعنا جميعا أننا نحس بالزمن أطول بكثير مما هو، وكأننا بدأنا الرحلة منذ بضعة أسابيع، ونتحدى بعضنا بعضا أن نذكر الأحداث بتواريخها. فبدلا من أن نقول: “لما كنا فى اليونان”، نقول: “أول أمس: لما كنا فى اليونان”، ولم يخفف تكرار هذه التذكرة من وقع المفاجأة فى كل مرة نذكر فيها أننا أول أمس- فقط- كنا هناك. أو أننا عصر هذا اليوم، أو مغربه- وربنا يستر- سوف نكون فى إيطاليا. والذى شغلنى حتى العجب (والخوف) هو ملاحظتى لتلك السرعة العجيبة التى يسير بها قادة السيارات فى الضباب؛ إذ يبدو أن السيارات تسير بالسرعة ذاتها ليلا أونهار بغض النظر عن مدى الرؤية، كان الجو ضبابا أو انقشاعا. فى الضباب تعلّمت أن الأخطر هو أن تمشى ببطء. الحادث الوحيد الذى هدد حياتى، فعرفنى الخط الدقيق الفاصل بين الموت والحياة، كان خبطة من الخلف عند “قها” على طريق القاهرة الاسكندرية الزراعى، حدثت بسبب إبطائى المفاجئ فى الضباب. هاجت علىّ وساوسى ومخاوفى أكثر فأكثر حين تذكرت تلك الخبرة الباقية كما هى حتى دقّ قلبى تحسّبا، وقبل أن أواجه الشجعان الصغار بتصنّع شجاعـةٍ داعيا الله ألا تُختبر، سَتَرها رب العالمين، بلطفه على أبناء السبيل، وانقشع الضباب فجأة. الحمد لله.
انطلقنا فى اتجاه زغرب، وعادت الخضرة والمروج تغمر وعيى. ومن فرط موجات الجمال تلو الجمال، قالت بنتٌ من بناتى إننا قد شبعنا جمالا (وخضرة) حتى لم يعد مزيد من الجمال يلفت النظر. وقد صدقتها لها وليس لى، فكل ما يزيد ويتكرر لا بد أن تشبع منه الحواس فى وقت ما، لكنى لا أشبع من الجمال أبدا. أنا أحس بجمال جديد فى كل شئ مهما تكرر، فثَمّ اختلاف لمن يريد، ويبدو أنى أعيش فى حالة دهشة مستمرة، وهذا هو الشق الاستقبالى من وجودى. أما الشق الفاعل فلعله هو ماوصفنى به أستاذنا الدكتور/مصطفى زيور فى إحدى الندوات العلمية، من أننى فى حالة “مخاض دائم”. وحين أتمثل حالى هذه فأجدنى “مستقبِلاً مندهشا أبدا، وفاعلا” فى مخاض دائم، أشفق على نفسى وأحسد الزلط الأمـَلس والعقول المستقرة داخل المناهج الثابتة، والوجدان الرائق المتمتع بالسواء والسلامة طول الوقت، طول العمر. لا أستطيع أن أستسلم لهذا النوع من الشبع والسلامة. يفاجئنى الجمال بتجلياته المتنوعة ، فلا يتكرر أبدا،
أتذكر أنى اكتشفت فى طريق الصعيد (بين عزبة البكباشى وطموه، ثم بين بنى سويف وملوى، ثم فى كل مكان) طبقات من الخضرة، وتنويعات من المناظر لم أكن أتصور أنها فى مصر بهذه الروعة والتنسيق، وخاصة حين تلاحظ كيف يقوم النخل شامخا بهاماته يحدد الأفق، ويثبت البساط الأخضر من تحته. ظللت أقارن وأُبـهر حتى أسوان، ثم عائدا بمحاذاة البحر الأحمر، مخترقا الجبل من قنا إلى سفاجة، ومنها إلى العين السخنة، ياه!! ما أجمل بلدنا أيضا، بل ما أجمل بلدنا قبلا،، وخاصة قبل نشاز بيوت الطوب الأحمر المتناثرة المرشوقة كبصقات مصدور يائس، على بساط أخضر. ولولا ضيق الطريق، وضحالة ذوق العائدين من بلاد البترول، وكثرة المفاجآت، ولولا قلة الخدمات، وقلة النظافة، وقلة الرحّالة..، ولولا..ولولا …ولولا …وأوقف نفسى؛ إذْ ماذا يتبقى من الجمال بعد كل هذه “اللوْلـوَات”، وأثق فى مستقبل بلدى على الرغم من كل شىء.
وأربـّت على عنق (عجلة قيادة) الحافلة المطيعة. وأسوى شعر عرفها المتناثر، ونمضى… بلا مفاجآت جبلية أو طقسية.
وصلنا إلى محيط زغرب، ولم ندخلها، وقد بدت لنا ونحن نلف حولها (أكثر من عشرين كيلو متراً هى المسافة بين سهمى “زغرب شرق”، و”زغرب غرب” (مثل مجموعة قلاع شرقية متعددة الأبراج، وتنتهى الطريق السريعة (إسما على الأقل) لندخل إلى طريق وطنية. ونحدد اسم أكبر بلد قادم فلا نستطيع قراءته، وحروفه تكتب هكذا Ljublgana، لتكن، لجبلجانا. وحين نقترب منها، ونكتشف الجبال المحيطة بها، مع استمرار الطريق السهلة، أضحك على نفسى حتى لا أنسى اسمها، وأضع ألفا قبل اسمها، وأقسِّمها لتصبح “الجبل جانا” (أى جاءنا الجبل)، ولا أصرّح لأحد من زملاء الرحلة بشطحاتى هذه.
هذه منطقة -أخرى- لها طابعها الخاص فى التفوق الجمالى. هل هذا هو ما يقال عنه الجمال الأخـّاذ”؟ أقف عند فعل “أَخـَذَ” هذا، لأحدد كيف أنه فعل متميز، إذا كان الحديث عن الطبيعة والجمال، وقبيحٌ إذا كان موضوعه الطمع والاستحواذ والاعتماد. وإذا كنت قد وصفت حالى حين زال الحاجز بين الداخل والخارج، فأحسست أنه ولم يبق علىّ إلا ان أورق وتتفتح براعمى، “أخذنى” الجمال حتى أصبحتُ جزءا من كل. جزءاً لا يمكن فصله، لم أعد أنا هو “أنا”، إلا بقدر الجزء الذى أمثله من هذا الكل. أخذنى الجمال كما أنا. لم أعد أنا، شعرت أن الفعل “أخذ” هو فعل مناسب لهذا المقام. وأبتسم لتجلّى هذا الفعل فى السياقات المختلفة .
أتذكر صديقا (أ.د. أسامة الشربينى . رحمه الله) جاء يشكو لى- فى سخرية ودعابة – أن مشروع خطبته قد فشل، بعد عدة لقاءات مع المرشحة (وكنت أعرفها، بل إننى الذى رشحتُـها له). ولما سألته عما حدث؟. قال إنها هى التى اعتذرت عن عدم إكمال مشروع الزواج. ولما سألته عن السبب. قال إنها قالت له إن شخصيتك لم “تأخذنى”. وأخذ يسألنى فى فرحة الذى نجا بجلده: ماذا كان عليه أن يصنع حتى “يأخذها”؟. وأضاف أن ربنا موجود “يأخذها” بمعرفته. فجعلنا نضحك. وأنا أطيب خاطره، وأتساءل بدورى عما كانت تقصده صاحبته بكلمة “يأخذها”، وكيف، ثم هأنذا أكتشف مقصدها حين أخذنى هذا الجمال هكذا حتى احتوانى، الأخذ الجميل هو نوع من التسليم المتناغم للطبيعة، أو للآخر، دون أن نضيع، ودون أن ننفصل.
أفيق فجأة من هذا الوجْد الخاص مع تجليات اللغة، أفيق على “مشاكل الطاقة”؛ إذ أشاهد مؤشر الوقود، وقد مال ذات اليسار، حتى كاد يلامس الخط الأفقى إلا قليلا. وكانت كوبونات بنزيننا قد نفدت، وفشلت كل المحاولات للحصول ولو على خمسة لترات بدون كوبون. كما فشلت محاولات إصلاح أو شراء مصباح أيمن، بدلا من المعطل، والساعة جاوزت الرابعة، وقيل لنا إننا لن نجد من يبيعنا كوبونات، وبالعملة الصعبة، إلا فى لجبلجانا (ثبت بعد ذلك أنها تنطق لوبليانا، فالچيم تنطق ياءً). ولم يكن بد من الاستمرار فى السير بثقه مزعومة، مضمرين أننا إذا توقفنا – لا قدر الله – فسوف نرغم عربات الإنقاذ فى الحكومة اليوغسلافية أن تتولى أمرنا، بما يحافظ على استمرار العلاقات الودية بين دول عدم الانحياز!!!. ولكن الله سلم ووصلنا الى لجبلجانا (لوبليانا)، ونظرت إلى الخريطة، وقدرت أنه لم يبق على الحدود الإيطالية سوى أقل من مائة كيلومتر. فقلت آخذ من الوقود ما يكفى هذه المائة الكيلو فقط. ولكنى عجبت من أن معظم العربات التى أمامى وخلفى تملأ خزانات وقودها حتى النهاية (فل تانك). وقد تبينت – فيما بعد – أنه يوجد فرق فى سعر البنزين بين يوغسلافيا وإيطاليا، يفسر خيبتى ونصاحتهم، وهو يتناسب مع اختلاف النظم الاقتصادية، ما أصعب مهمة الحكومات، الحمد لله أننى لست وزيرا فى أى نظام كان، كنت سأحمل هم ما لا أعرف، إلى أين ذهبت ؟ قف!!!!
عزمت علىّ ابنتى منى يحيى أن تقود هى. بدلا منى لأرتاح. قليلا، مع أننى لم أكن قد سمحت لنفسى بالتعب، كما كنت أعلم أنى لـن أرتاح إذا تركت عجلة القيادة، ولكنى وافقت محاولا أن أنتصر على وساوسى الخاصة. وسرعان ما فوجئنا بالتواء الطريق وضيقه، ودخولنا إلى منطقة جبلية ذكّرتنا بالمغامرات بعد الحدود اليونانية اليوغسلافية أول أمس (ياه..أما زلنا “بعد غـَدِ أولَّ أمس”؟ فقط؟). وبكل سخف طلبت من ابنتى التوقف، محاولا ألا أهز ثقتها، فالعيب فىّ، واعتذرت لها بأنى خائف بقدٍر أكبر من قدرتى على السماح، رغم أنى أعلم أنها تقود أكثر ثقة، وربما أكثر مهارة منى، بل وربما أكثر جسارة أيضا. وهذا هو مزلق الفرس (لا مربطه). وبعد قليل انتهت المنطقة الجبلية، ولكننا ظللنا “ننزل” بلا انقطاع حتى شغلنى كيف سأصعد كل هذا الصعود عند العودة.
وينام الجميع.
ولا يستيقظون إلا حين يهدأ سير العربة، ونكتشف أننا وصلنا إلى الحدود الإيطالية، أين، بالمقارنة بالحدود اليونانية اليوغسلافية؟
بدا لنا أنه لم يدر بنا أحد داخلين، كما لم يسألنا أحد خارجين من يوغسلافيا، عن أى شئ على الرغم من كل تخوفاتنا.
…………..
ونكمل الأثنين القادم
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الثانى: “بعد ظهرِ يوم سبتٍ حزين” ( 25 أغسطس1984) (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net