الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الكتاب الثانى: “جدلية الجنون والإبداع” (الحلقة الثامنة)

الكتاب الثانى: “جدلية الجنون والإبداع” (الحلقة الثامنة)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد25-8-2019

السنة الثانية عشرة

العدد:   4376

‏  الكتاب الثانى:

 “جدلية الجنون والإبداع” (1) (الحلقة الثامنة)

……….

……….

  بداية واحدة وتميز صعب

 ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏الأولى ‏على ‏وجه‏ ‏التحديد‏ ‏يكاد‏ ‏يكون‏ ‏من‏ ‏المحال‏ ‏التمييز‏ ‏اليقينى، ‏أو‏ ‏حتى ‏المرجح‏، ‏للمسار‏ ‏الذى ‏سوف‏ ‏تتجه‏ ‏إليه‏ ‏خطوات‏ ‏الحركة البادئة بالتحريك الدورى، ‏لذلك‏ ‏فإنه‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يعد‏ ‏الشبه‏ ‏بين‏ ‏انبعاثات‏ ‏البدايات‏ ‏الأولى ‏للعمليتين (الإبداع والجنون)‏ ‏كما‏ ‏لو‏ ‏كان‏ ‏تطابقا‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏واقع‏ ‏الأمر‏ ‏يكاد‏ ‏ينفى ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏ظاهرتين‏ ‏يمكن‏ ‏التمييز‏ ‏بينهما‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المراحل‏ ‏الأولى. ‏ومن‏ ‏ثمَّ‏ ‏فليس‏ ‏مطروحا‏ ‏ابتداء‏ ‏أن‏ ‏نتحدث ‏ -فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏الأولى‏- ‏عن‏ ‏تشابه‏ ‏أو‏ ‏اختلاف‏، ‏وتأكيدنا‏ ‏للتطابق‏ ‏هنا‏ ‏لايمتد‏ ‏إلى ‏تشابه‏ ‏فى ‏المسار‏ ‏أو‏ ‏فى ‏النتاج‏. ‏وللأسف‏، ‏فإن‏ ‏الأبحاث‏ ‏السائدة‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المجال‏ ‏إنما‏ ‏تركز‏ ‏على ‏ظاهر‏ ‏سلوك‏ ‏المبدع‏ ‏والمجنون‏ ‏فى ‏شخصية‏ ‏كل‏ ‏منهما‏، ‏وطباعه‏ ‏وبعض‏ ‏أعراضه‏ أو سلوكياته، ‏وقد‏ ‏تتناول‏ ‏الناتج‏ ‏بنسبة‏ ‏أقل‏ ‏تواترا‏. ‏إن‏ ‏الجدلية‏ ‏المحتملة‏ ‏بين‏ ‏الابداع‏ ‏والجنون‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نتعرف‏ ‏على ‏طبيعتها‏ ‏إذا‏ ‏افترضنا‏ ‏أنه‏ ‏بعد‏ ‏بداية‏ ‏البداية‏ ‏يحدث‏ ‏جذب محتمل‏ ‏فى ‏اتجاهين‏ ‏متضادين،‏ و‏تقل‏ ‏فرص‏ ‏الجدل‏ ‏كلما‏ ‏تمادى ‏التميز‏ ‏وافترق‏ ‏مسار‏ ‏كلٍّ‏ ‏إذْ‏ ‏تتسع‏ ‏المسافة‏، ‏فيحل‏ ‏محل‏ ‏العلاقة‏ ‏الجدلية‏ ‏علاقات‏ ‏تضاد‏ ‏أخرى. ‏هنا‏ ‏يجدر‏ ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نميز‏ ‏بين‏ ‏الألفاظ التى‏ ‏‏سوف‏ ‏نستعملها‏ ‏فى ‏شرح‏ ‏أشكال‏ ‏التضاد‏ ‏المحتملة‏ ‏فى ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏الإبداع‏ ‏والجنون‏، ‏وهى ‏ألفاظ‏: ‏الإبعاد‏، ‏والنفى، ‏والتناقض‏، ‏ثم‏ ‏التناقض‏ ‏الجدلى، ‏ولسوف‏ ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أحدد‏ ‏الفروق‏ ‏بحسب‏ ‏استعمالاتى ‏لها‏ ‏هنا ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تحديد‏ ‏نوع‏ ‏العلاقة‏، ‏ومدى ‏المسافة‏، ‏وتوجه‏ ‏الحركة‏ ‏بين‏ ‏كل‏ ‏طرف‏ ‏من‏ ‏أطراف‏ ‏القضية‏، ‏والطرف‏ ‏الآخر‏.‏

ففى “‏الإبعاد‏”: ‏يكون‏ ‏الضد‏ ‏نافرا‏ ‏عن‏ ‏ضده‏، ‏ظاهرا‏ ‏على ‏حسابه‏، ‏متجها‏ ‏عكسه‏، ‏بعيدا‏ ‏عنه‏، فيكون الجنون عكس الإبداع بحيث يجرى تمادى أحدهما على حساب الآخر.‏

وفى “‏النفى‏”: ‏يكون‏ ‏الضد‏ ‏مُبطلا‏ ‏لضده‏، ‏شالا‏ ‏لفاعليته‏ (=‏ماحيا‏ ‏أثره‏ ‏الظاهرى‏)، ‏كما‏ ‏تكون‏ ‏المسافة‏ ‏بينهما‏ ‏ثابتة‏ (‏مجمدة‏)، ‏ويكون‏ ‏التوجه‏ (‏لكل‏ ‏منهما‏) ‏دائرا‏ ‏فى ‏محله‏، ‏وفى ‏اتجاه‏ ‏عكس‏ ‏الآخر‏، ‏مع‏ ‏الثبات‏ ‏فى ‏الموقع‏ (‏أو‏ ‏فى ‏أى ‏حركة‏ ‏مكافئة‏ ‏بلا‏ ‏دفع‏)، وقد لا يظهر على السطح أيهما، أو يلغى أحدهما الآخر نهائيا وهو يحل محله طول الوقت.

أما‏ ‏فى ” ‏التناقض‏” ‏فيكون‏ ‏النقيض‏ ‏مواجِها‏ ‏لنقيضه‏، ‏ملازما‏ ‏له‏، ‏مناطحا‏ ‏إياه، وقد يظهر ذلك فى شكل توقف تصارعى، يتجلى فى التوتر المـُـشـِلّ، والتردد المزمن، فضلا عن احتمالات تفجرات متقطعة.

‏ ‏وفى ‏التناقض‏ ‏الجدلى ‏يكون‏ ‏النقيض‏ ‏مواجها‏ ‏لنقيضه‏ ‏أيضا‏، ‏لكنه‏ ‏يكون‏ ‏أيضا‏ ‏متداخلا‏ ‏فيه‏، ‏حتى ‏تكاد‏ ‏المسافة‏ ‏تختفى ‏لتتجدد‏ ‏متخلقة‏ ‏باستمرار‏، ‏كما‏ ‏يكون‏ ‏”التوجه”‏ ‏هو‏ “‏محصلة‏” ‏المواجهة‏ ‏إلى ‏اتجاه‏ ‏يشملهما‏ ‏معا‏.‏ وهذا ما يظهر فى شكل الإبداع سواء كان إبداع الذات نموا، أم أى من أشكال الإبداع المعروفة.

على أن الإبداع يتشكل عمقا وأصالة بقدر عمق واعتمال الجدل.

 الاحتمال الأكثر ندرة هو حين يحتوى الإبداع الجنون ويتمثله ليخرج به معه، ولا يحل محله، وهو ما اسميه هنا: الإبداع الفائق.

أما الإبداع‏ ‏البديل عن الجنون ‏ ‏فيظهر حين يتغلب الإبداع ‏ على الجنون ‏فيظهر‏ ‏سلوكا‏ ‏معلنا‏، ‏وناتجا‏ ‏محددا‏، ‏فهو ‏ ‏يفعل‏ ‏ذلك‏ ‏بإخفاء‏ ‏الجنون‏ ‏فى ‏داخل‏ ‏الذات‏ ‏كامنا‏، ‏ضاغطا‏ ‏فى ‏الوقت‏ ‏نفسه‏، ‏وكلما‏ ‏زاد‏ ‏تناثره‏ ‏تفرقا‏، ‏زاد‏ ‏الإبداع‏ ‏الظاهر‏ ‏تماسكا‏، لكن هذا الإبداع البديل يظل على صلة غير مباشرة بحركية الجنون وتهديده.

وفى حالة ما إذا غلبت آليات التفكك حتى ‏ ‏ظهر‏ ‏الجنون‏ ‏فإنه يكون‏ شديد التفسخ حتى تقل فرص إعادة التشكيل – علاجا فإبداعا- وإن لم تختف‏ (2). ‏

يظل‏ ‏‏هذا النوع من ‏الإبداع‏ ‏إبعادا‏ ‏ملحا‏، ‏وظاهرا‏، ‏ونشطا‏، ‏بقدر‏ ‏مايظل‏ ‏الجنون‏ ‏كامنا‏ ‏ومهددا‏ ‏فى ‏آن‏ ‏واحد‏. ‏وهذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الإبداع‏ ‏هو الغالب فيما نسميه إبداعاً، وهو الذى يظهر‏ ‏فيما‏ ‏هو‏ ‏ناتج‏ ‏رمزى ‏تشكيلى ‏ملموس‏ ‏ومسجل،‏ ‏إنه‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏المستوى ‏الأقصى ‏من‏ ‏الإبداع الذى يحتوى الجنون جدلا‏، ‏وهو ‏ليس‏ ‏الإبداع‏ ‏المسئول‏ ‏عن‏ ‏تغيير‏ ‏النوع على مسار التطورالحيوى‏. ‏وهو بديل بمعنى‏ ‏أنه‏ ‏بديل‏ ‏الجنون‏ ‏إبعادا‏، ‏وفى ‏الوقت‏ ‏نفسه‏ ‏هو‏ ‏بديل‏ ‏الإبداع‏ ‏الأقصى ‏الذى ‏سنسميه‏ ‏من‏ ‏الآن‏: “‏الإبداع‏ ‏الفائق‏” (أنظر: ‏الملحق الأول بالكتاب الأول)  (3).‏

‏ ‏إن‏ ‏أهمية‏ ‏تحديد‏ ‏هذا‏ ‏الإبداع‏ ‏البديل‏ ‏برغم‏ ‏قصوره‏ ‏عن‏ ‏الإبداع‏ ‏الفائق‏، ‏هو‏ ‏أن‏ ‏نوضح‏ ‏دوره‏، ‏وفى ‏الوقت‏ ‏نفسه‏ ‏أن‏ ‏ننبه‏ ‏إلى ‏نتائج‏ ‏الوقوف‏ ‏عنده‏، ‏أو‏ ‏التمادى ‏فيه‏ ‏على ‏حساب‏ ‏ماهو إبداع‏ ‏أهم‏ ‏وأرقى.

‏فإذا‏ ‏رضينا‏ ‏أن‏ ‏نتقبله‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏الجنون‏ ‏فهذا‏ ‏حل‏ ‏وارد‏، ‏يقابل‏ ‏زعم‏ ‏فرويد‏ ‏أن‏ ‏الحضارة‏ ‏هى ‏التسامى ‏عن‏ ‏الغرائز‏ (‏وليس‏ ‏السمو‏ ‏بها‏)، ‏أما‏ ‏إذا‏ ‏حل‏ ‏محل‏ ‏الإبداع‏ ‏الفائق‏ ‏طوال‏ ‏الوقت‏ (‏بديلا‏ ‏عنه‏ ‏أيضا‏)، ‏فأجهض‏ ‏نبض‏ ‏النمو‏ ‏الحيوى، ‏فردا‏ ‏فنوعا‏، ‏فلا مفر من مواجهة الاعتراف بأنه إبداع متواضع أو متوسط، وأيضا هو قد يكون معطلا ‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏أعمق‏ ‏وأرقى.

 ‏لابد من الاعتراف أيضا بأنه ‏لايمكن‏ ‏الحسم‏ بسهولة (أو حتى بصعوبة)  ‏إذا‏ ‏ما كان‏ ‏هذا‏ ‏الإبداع‏ ‏البديل‏ ‏هو‏ ‏بديل‏ ‏عن‏ ‏الجنون‏ ‏أم‏ ‏عن‏ ‏الإبداع‏ ‏الفائق، والأرجح – كما ذكرنا – أنه بديل‏ ‏عن‏ ‏الاثنين‏ ‏معا‏.

 كما ننّبه أيضا أن‏ ‏الإبداع‏ ‏الفائق‏ إنما ‏يحمل‏ ‏كل‏ ‏إرعاب‏ ‏الجنون‏ ‏وملامح‏ ‏تناثره‏.

ثم‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الإبداع‏ ‏البديل‏ ‏عند‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏نمو‏ ‏صاحبه‏ (‏إبداع‏ ‏ذات‏ ‏المبدع‏) ‏ قد ‏يمثل‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏الإسقاط‏ ‏الذى ‏يترك‏ ‏شخصية‏ ‏المبدع‏ ‏دون‏ ‏تغيير‏ ‏جوهرى ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏خبرة‏ ‏إبداع‏، وذلك لأن‏ ‏صاحبه ‏- ‏مرة‏ ‏أخرى‏- ‏قد‏ ‏حط‏ ‏حركية‏ ‏الإبداع‏ ‏فى ‏الخارج‏، ‏فحلت‏ ‏محل‏ ‏ذاته‏، ‏فهو ‏‏بإبداعه‏ ‏هذا‏ ‏لايجادل‏ ‏جنونه‏، ‏وإنما‏ ‏يستبعده‏، ‏إذ‏ ‏يحل‏ ‏محله‏ (‏محل‏ ‏جنونه‏) ‏ثم إنه – ‏بإبداعه‏ ‏البديل‏- ‏يظل‏ ‏قادرا‏ ‏على ‏تغطية‏ ‏تناثر‏ ‏الجنون‏ ‏القابع‏ ‏فى ‏الداخل‏ ‏وقمعه.

‏المبدع‏ ‏هنا‏ ‏ـ‏ ‏فى ‏الإبداع‏ ‏البديل‏ ‏ـ‏ ‏يستعمل‏ ‏لغة‏ ‏مفهومية‏ ‏ضابطة‏ ‏ومنضبطة‏ ‏بطريقة‏ ‏جميلة‏ ‏ومنسقة‏ ‏وهو‏ ‏يكاد‏ ‏يرعب‏ ‏من‏ ‏توقفه‏ ‏عن‏ ‏الإبداع‏ ‏خشية‏ ‏أن‏ ‏يقفز‏ ‏البديل‏ (‏الجنون‏)، ‏حتى ‏ليمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمى ‏هذا‏ ‏الإبداع‏ ‏أحيانا‏ ‏بالإبداع‏ ‏القهرى: “‏إما‏ ‏أن‏ ‏تبدع‏ ‏أو‏ ‏تجن‏”، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏انطفأ‏ زخم الحركة من خلال ‏علاقة‏ ‏أخرى، ‏هى ‏النفى، ففرط العادية ‏أو‏ ‏إذا‏ ‏تطور‏ ‏إلى ‏علاقة‏ ‏أرقى: ‏التناقض‏ ‏فالجدل‏ ‏فالإبداع‏ ‏الفائق‏.

‏وقد‏ ‏تتبادل‏ ‏خبرة‏ ‏الإبداع‏ ‏البديل‏ ‏هذا‏ ‏مع‏ ‏نوبة‏ ‏جنون‏ ‏عند‏ ‏الشخص‏ ‏نفسه‏، ‏ويظل‏ ‏احتمال‏ ‏التناوب‏ ‏قائما‏ ‏ماظلت‏ ‏علاقة‏ ‏الإبدال‏ ‏هى ‏العلاقة‏ ‏الغالبة‏. ‏

‏ ‏علاقة‏ ‏النفى، ‏بحسب‏ ‏التعريف‏ ‏السابق‏، ‏هى ‏علاقة‏ “‏تسوياتية”‏ ‏ساكنة ‏وهى ‏تعرض‏ ‏نفسها‏، ‏أو‏ ‏تفرض‏ ‏نفسها‏، ‏فى ‏المراحل‏ ‏الوسطى ‏لتطوير‏ ‏العمليتين‏. ‏حيث‏ ‏ينجح‏ ‏أى ‏من‏ ‏الطرفين‏، ‏بل‏ ‏كليهما‏، ‏فى ‏أن‏ ‏يبطل‏ ‏مفعول‏ ‏الآخر نسبيا على الأقل‏، ‏فيتجمدان‏ ‏فى ‏علاقة‏ ‏هامدة نسبيا أيضا‏، ‏إذ‏ ‏تثبت‏ ‏المسافة‏ ‏بينهما‏، ‏وتستدير‏ ‏الحركة‏ ‏فى ‏محلها‏، ‏كل‏ ‏عكس‏ ‏الآخر‏، ‏أو‏ ‏تتجمد‏ ‏بأى ‏بديل‏ ‏مكافيء‏ ‏فى ‏أى ‏اتجاه‏، ‏فيصبح‏ “‏البسط‏” unfolding ‏المعلن‏ ‏خاملا أو موقوفا فى المحل وهو‏ ‏لا‏ ‏يتجلى‏ ‏فى سلوك‏ ‏ظاهر‏، ‏فلا‏ ‏إبداع‏، ‏ولا‏ ‏جنون‏. ‏ويكون‏ ‏ناتج‏ ‏هذه‏ ‏التسوية‏ ‏المتجمدة‏ ‏هو‏ ‏احتمال‏ ‏الاكتفاء‏ ‏باستمرار‏ ‏ظاهر‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏حالة‏ “‏العادية‏”، ‏التى ‏إذا‏ ‏ما بولغ‏ ‏فيها‏ ‏بدت‏ ‏تصنيفا‏ ‏مرضيا‏ ‏على ‏نحو‏ ‏ما‏ ‏أشرنا‏ ‏إليه‏ ‏بالتعبير‏ ‏الجديد‏ “‏فرط‏ ‏العادية”‏ ‏الذى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يصل‏ ‏إلى “‏اضطراب‏ ‏الشخصية‏ ‏النمطى‏”، ‏الذى ‏من‏ ‏بعض‏ ‏صوره‏ ‏الجمود‏ ‏الدينى ‏والأيديولوجى. ‏هذا‏ ‏الحل‏ ‏بالنفى ‏قد‏ ‏يتبادل‏ ‏مع‏ ‏الحل‏ ‏بالسلب‏، ‏ونادرا‏ ‏مع‏ ‏الحل‏ ‏بالتناقض‏ ‏الناقص‏ (‏أنظر‏ ‏بعد‏)، ‏وهو‏ ‏الذى ‏يفسر‏ ‏بعض‏ ‏شذوذ‏ ‏السمات‏ ‏عند‏ ‏بعض‏ ‏المبدعين‏، ‏خصوصا‏ ‏فى ‏فترات‏ ‏السكون‏، ‏وهو‏ ‏مايبدو‏ ‏كأنه‏: ‏السلامة‏ ‏من‏ ‏الجنون‏ “‏بالجمود‏”، ‏على ‏حساب‏ ‏حركية‏ ‏الإبداع‏. ‏

  مستويات الجدل

‏ ‏العلاقة‏ ‏الأهم‏ ‏والأخطر‏ ‏فى كل ما ذكرنا هى علاقة‏ ‏التناقض‏ ‏الجدلى ‏حيث‏ ‏يكون‏ ‏الإبداع‏ ‏هو‏ ‏الناتج‏ ‏الولافى للجدل‏ ‏بين‏ ‏العلميات‏ ‏الأولية‏ ‏والعمليات‏ ‏الثانوية‏ ‏بعمليات‏ ‏ثالثوية‏ ‏تشمل‏ ‏الاثنين‏ ‏معا‏ ‏كما‏ ‏اقترح‏ ‏سلفانو‏ ‏أريتى (4)

الجدل الأعلى ‏يتم‏‏: ‏ليس‏ ‏بين‏ ‏المعرفة‏ ‏البدائية‏ ‏والمعرفة‏ ‏المفاهيمية‏، ‏بل‏ ‏بين‏ ‏نقيضين‏ ‏يتكونان‏ ‏فى ‏اتجاهين‏ ‏مختلفين‏ (‏أو‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏:  ‏يتحركان‏ ‏إلى ‏اتجاهين‏ ‏مختلفين‏)،‏ ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏تحدث‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏ ‏أية‏ ‏تصفية‏ ‏للموقف‏ ‏بالإبعاد‏ (‏الإبداع‏ ‏البديل‏) ‏أو‏ ‏بالنفى (‏إبطال‏/‏إحباط‏ ‏الإبداع‏ ‏وإحلال‏ ‏اضطراب‏ ‏الشخصية‏، أو فرط العادية،  ‏محل‏ ‏الجنون‏) – ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏يحدث‏ ‏هذا‏ ‏أو‏ ‏ذاك‏، ‏فإن‏ هذه الجدلية ‏ تطرح‏ ‏نفسها‏ بنشاط متميز ‏فى ‏بداية‏ ‏العمليتين‏‏، ذلك أنه ‏بمجرد‏ ‏تخلخل‏ ‏الكيان‏ ‏القائم‏، ‏وقبل‏ ‏التمييز‏ ‏الصريح‏ ‏إلى ‏ماهو‏ ‏إبداع‏ ‏أو‏ ‏جنون‏ (‏حتى أننا ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نسمى ‏مرحلة‏ ‏التمييز‏ ‏هنا‏: ‏مشروع‏ ‏إبداع‏ ‏ومشروع‏ ‏جنون معا‏)، ‏يكون‏ ‏فى ‏التقارب‏ ‏والحركية‏ ‏فرصة‏ ‏لجعل‏ ‏التناقض‏ ‏موجها‏ ‏بما‏ ‏يسمح‏ ‏بالتلاحم‏ ‏والتصارع‏ ‏والتناغم‏ ‏واحتمال‏ ‏توجههما‏ ‏إلى ‏مايتجاوزهما‏، أى ‏إلى ‏ماهو‏ “‏الإبداع‏ ‏الفائق‏” ‏الذى ‏يحتويهما‏ ‏فى ‏كلٍّ‏ ‏أعلى. ‏ذلك‏ ‏لأن‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الإبداع‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يحتوى ‏الجنون‏ ‏فى ‏كليته‏ (‏إذن‏: ‏دون‏ ‏التميـّـز‏ ‏إلى ‏جنون‏)، ‏فهو‏ ‏ليس‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏الجنون‏ ‏مثل‏ ‏الإبداع‏ ‏البديل‏ (‏التسامي‏)، ‏لأنه‏ ‏لا‏ ‏يظهر‏ ‏على ‏حساب‏ ‏جنون‏ ‏كامن‏ ‏متربص‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏يستوعب‏ ‏الجنون‏ ‏ويلتحم‏ ‏به‏ ‏ليتخلق‏ ‏معه‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يجاوزهما‏، ‏وهو ‏- ‏بذلك‏- ‏يتصف‏ ‏بحركية‏ ‏كلية‏ ‏لاتترك‏ ‏جانبا‏ ‏من‏ ‏الوجود‏ ‏إلا‏ ‏وشاركت‏ ‏فيه‏، ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الوجود‏ ‏الجسدى.

‏ ‏ ‏تتميز‏ ‏مسيرة‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏برعب‏ ‏خاص‏ ‏قبيل‏ ‏خوض‏ ‏التجربة‏، ‏وأيضا‏ ‏تتميز‏ ‏بإثارة‏ ‏حفز‏ ‏مسئول‏ ‏عن‏ ‏فعل‏ ‏تلقيها‏ (‏فحمَـلها‏ ‏الإنسان‏)، ‏وهو‏ ‏إبداع‏ ‏لايعقبه‏ ‏هدوء‏ ‏تفريغى ‏يعلن‏ ‏التخلص‏ ‏من‏ ‏توتر‏ ‏ما‏ (‏كما‏ ‏هو‏ ‏الحال‏ ‏فى ‏الإبداع‏ ‏البديل‏). ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏لايترك‏ ‏المبدع‏ ‏كما‏ ‏هو‏ ‏بعد‏ ‏إبداعه‏، ‏بل‏ ‏تتمدد‏ ‏ذاته‏ ‏من‏ ‏خلاله‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏يختلف‏ ‏هو‏ ‏بها‏، ‏وقد‏ ‏يختلف‏ ‏تبعا‏ ‏لذلك‏ -‏قليلا‏ ‏أو‏ ‏كثيرا‏- ‏إبداعه‏ ‏التالى. ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏المبدع‏ ‏غير‏ ‏معرض‏-‏بالقدر‏ ‏نفسه‏- ‏إلى ‏أن‏ ‏تتبادل‏ ‏نوبات‏ ‏إبداعه‏ ‏مع‏ ‏نوبات‏ ‏جنونه‏، ‏كما‏ ‏أن‏ ‏فرصة‏ ‏جنونه‏ ‏تتناقص‏ ‏باستمرار‏، ‏لأن‏ ‏الجنون‏ ‏عنده‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏مكبوتا‏ ‏بإبداع‏ ‏بديل‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏جزء‏ ‏ظاهر‏ ‏متداخل‏ ‏وملتحم‏ ‏فى ‏الإبداع‏ ‏نفسه. ‏

إن‏ ‏هذا‏ ‏الإبداع‏ ‏الفائق‏ ‏هو‏ ‏طفرة‏ ‏نوعية‏، ‏أحد‏ ‏مظاهرها‏ هو ‏الناتج‏ ‏المبدع‏، ‏وبقية‏ ‏علاماتها‏ ‏التغير‏ ‏الجذرى ‏فى ‏الوجود الذاتى/الكونى‏، ‏وهو‏ ‏مايصف‏-‏مثلا‏ ‏وأساسا‏-‏الخبرة‏ ‏الصوفية‏ ‏الحقيقية‏، ‏التى ‏لاتحتاج‏ ‏بذاتها‏ ‏إلى ‏ناتج‏ ‏معلن‏ ‏عادة‏.‏

إن‏ ‏إبداعا‏ ‏بهذه‏ ‏الخصائص‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏المتواتر‏، ‏وهو‏ ‏حتى ‏إن‏ ‏وجد‏ ‏أحيانا‏، ‏فقد‏ ‏يصعب‏ ‏أن‏ ‏يتكرر‏ ‏كثيرا‏، ‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏أن‏ ‏يستمر‏ ‏طويلا‏ (‏هذا‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏ناتج‏ ‏رمزى ‏مشكل‏).‏

‏  تباديل محتملة

قد‏ ‏تتبادل‏ ‏علاقة‏ ‏الجدلية‏، ‏المسئولة‏ ‏عن‏ ‏الإبداع‏ ‏الفائق‏، ‏مع‏ ‏علاقات‏ ‏النفى ‏والإبدال‏، ‏على ‏نحو‏ ‏يجعل‏ ‏ناتج‏ ‏الإبداع‏، ‏وصفات‏ ‏المبدع‏، ‏تتأرجح‏ ‏فى ‏مسارها‏ ‏الطولى ‏بحسب‏ ‏مايتغير‏ ‏عنده‏ ‏من‏ ‏علاقة‏ ‏الإبداع‏ ‏بالجنون‏ ‏فى ‏كل‏ ‏آن‏، ‏وكل‏ ‏تجربة‏، ‏وكل‏ ‏إبداع‏. ‏وكما‏ ‏ذكرنا:‏ إن‏ ‏فرصة‏ ‏العلاقة‏ ‏الجدلية‏- ‏لصعوبتها‏ ‏وخطورتها‏- ‏إنما‏ ‏تتاح‏ ‏فى ‏المراحل‏ ‏الأولى ‏لتميز‏ ‏النقيضين دون تباعد‏، ‏ثم‏ ‏تقل‏ ‏فرصها‏ ‏باستمرار‏ ‏مع‏ ‏تباعد‏ ‏المسافة، وطول المسار‏، ‏واختلاف‏ ‏التوجه‏، ‏ولكن‏ ‏يظل‏ ‏الاحتمال‏ ‏قائما‏ ‏مهما‏ ‏تضاءلت‏ ‏فرصه‏، ‏حتى ‏أن‏ ‏الاتجاه‏ ‏إلى ‏علاج‏ ‏الجنون‏ ‏بالإبداع‏ إنما يعنى فى عمق جديته احتواء حركية الجنون دون الإسراع بشلها ابتداء، سعيا إلى احتمال ‏ترجيح‏ ‏إمكانية‏ ‏قلب‏ ‏توجه الحركة السالبة إلى اتجاه إيجابى جدلى ‏حتى ‏بعد‏ ‏ظهور‏ ‏الجنون‏ ‏صريحا‏. ‏

  تحويل المسار (والعلاج)

علينا هنا أن نوضح كم هو صعب أن نحول مسار الجنون إلى إبداع، لأنه ‏لاينبغى ‏أن‏ ‏نتصور‏ ‏أن‏ المسالة هى مجرد تدريب على مهارة مثلما يشاع أحيانا‏ ‏عن‏ ‏العلاج‏ ‏بالشعر‏‏، ‏أو‏ ‏أن‏ ‏نرادف بين‏ ‏هذه‏ ‏الجدلية‏ ‏الصعبة‏ ‏وتوجيه‏ ‏المرضى ‏لتفريغ‏ ‏بعض‏ ‏توتراتهم‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏نشاط‏ ‏فنى “‏ما‏”، ‏لأن‏ ‏المقصود‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏محاولة‏ ‏تحوير‏ ‏العلاقة‏ ‏الأساسية‏ ‏بين‏ ‏الحالتين‏،‏ ‏بما‏ ‏يخلق‏ ‏من‏ ‏بعض‏ ‏الجنون‏ ‏ماهو‏ “‏ضده‏/‏به‏/‏معه‏”. ‏وهذا‏ ‏شيء‏ ‏مازال‏ ‏يقع‏ ‏فى ‏دائرة‏ ‏الأمل أكثر منه فى ملموس الواقع. إن تحقيق هذا الأمل يتطلب منا‏ ‏أن‏ ‏نحاول‏ ‏أن‏ ‏نتراجع‏ ‏بالتناثر‏ ‏السائد‏ ‏المتمادى ‏إلى ‏مرحلة‏ ‏أسبق‏، ‏هى ‏أقرب‏ ‏إلى ‏مشروع‏ ‏الإبداع‏ ‏القريب‏ ‏من‏ ‏مشروع‏ ‏الجنون‏، ‏فنوفَر‏ ‏فرصة‏ ‏أرحب‏ ‏لتنشيط‏ ‏جدلية‏ ‏حقيقية‏ ‏تستوعب‏ ‏الجنون‏، ‏فيكون‏ ‏الشفاء‏ ‏ليس‏ ‏باختفاء‏ ‏الجنون‏، ‏وإنما‏ ‏باحتوائه‏، ‏على ‏نحو‏ ‏يشمل‏ ‏وقاية‏ ‏حقيقية‏ ‏مهما‏ ‏كانت‏ ‏نسبية‏، ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏نوعية‏. ‏

  عن الإبداع الفائق:

 ‏ ‏الإبداع‏ ‏الفائق‏ ‏إذ‏ ‏يتداخل‏ ‏مع‏ ‏الجنون‏ ‏إنما‏ ‏يستولى ‏فى ‏الحقيقية‏ ‏على ‏جزء‏ ‏منه‏ كما أشرنا، ‏بحيث‏ ‏لايعود‏ ‏قادرا‏ ‏على ‏الانفصال‏ ‏عنه‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏ذاب‏ ‏فى ‏كلية‏ ‏جديدة‏‏، ‏وهذا‏ ‏ما يجعلنا‏ ‏نتبين‏ ‏بعض‏ ‏ملامح‏ ‏الجنون‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏هذا النوع من الإبداع‏، ‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏هذه‏ ‏الملامح‏ ‏لا تظهر‏ عادة ‏ ‏كما‏ ‏هى، ‏بل‏ ‏تبدو‏ ‏محورة‏ ‏ونابضة‏ ‏فى ‏جوف‏ ‏كلية‏ ‏الفعل‏/ ‏الناتج‏ ‏الإبداعى، ‏بحيث‏ ‏يكون‏ ‏من‏ ‏المحال‏ ‏تمييزها‏ ‏منفردة‏ ‏بوصفها‏ ‏جنونا‏، ‏كما‏ ‏يكون‏ ‏من‏ ‏المحال‏ ‏فى ‏الوقت‏ ‏نفسه‏ ‏إغفالها‏ ‏بوصفها‏ ‏مجرد‏ ‏ترجمة‏ ‏من‏ ‏لغة‏ ‏معرفية‏ ‏بدائية‏ ‏إلى ‏لغة‏ ‏مفاهيمية‏ ‏محكمة‏، ‏إذ‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يتداخل‏ ‏تيارا‏ ‏المستويين‏ ‏المعرفيين‏ ‏تداخلا‏ ‏محكما‏، ‏يرتقى ‏بهما‏ ‏معا‏. ‏

وأخيرا‏ ‏فإن‏ ‏هذا‏ ‏الإبداع‏ ‏الفائق‏ ‏هو‏ ‏فعل‏ ‏فى ‏ذاته‏، ‏وليس‏ ‏ترجمة‏ ‏لفعل‏ ‏أو‏ ‏وعد‏ ‏بفعل‏، ‏أو‏ ‏حفز‏ ‏على ‏القيام‏ ‏بفعل‏، ‏لأنه‏ ‏تغير‏ ‏حيوى (‏بيولوجى) ‏جار‏، ‏أحد‏ ‏وجوهه‏ – ‏فحسب‏ – ‏هو‏ ‏الناتج‏ ‏الإبداعى ‏المعلن‏.‏

نظرا‏ ‏لشدة‏ ‏تكثيف‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الإبداع‏، ‏فإنه‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نقتنع‏ ‏بأنه‏ ‏نوع‏ ‏نادر‏‏، ‏وأنه‏ ‏مواكب‏ ‏بدرجة‏ ‏ما‏ ‏لنوع‏ ‏المجتمع‏ ‏الذى ‏يسمح‏ ‏به‏/‏يفرزه‏، ‏ومتناسب‏ ‏مع‏ ‏درجة‏ ‏حيويته، ‏لذلك‏ ‏لاينبغى ‏أن‏ ‏نبالغ‏ ‏فى ‏أن‏ ‏نجعله‏ ‏مطلبا‏ ‏فى ‏ذاته‏، ‏فى ‏ظروف‏ ‏لاتسمح‏ ‏بإفرازه‏، ‏كما‏ ‏لاينبغى ‏أن‏ ‏يجُـبّ‏ ‏ما‏ ‏سواه‏ (‏الإبداع‏ ‏البديل‏ ‏مثلا‏)، ‏فمسيرة‏ ‏الإنسان‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏كل‏ ‏التوافيق‏ ‏والتباديل‏ ‏الممكنة‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏. ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏جرعة‏ ‏متوازنة‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الإبداع‏ ‏الفائق‏، ‏دقيقة‏ ‏ومتوازنة‏، ‏هى ‏جارية‏ ‏أبدا‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏بؤرة‏ ‏الوعى، ‏وهى ‏دائمة‏ ‏المـعـاودة‏ ‏مادامت‏ ‏الحياة‏، ‏وهى ‏المسئولة‏ ‏فى ‏الواقع‏ ‏عن‏ ‏نمو‏ ‏النوع‏ ‏وتطوره‏ ‏فى ‏طفرات‏ ‏على ‏المدى ‏الطويل‏.‏

  الإبداع المجهض

‏ ‏هناك‏ ‏إبداع‏ ‏آخر‏ ‏قد‏ ‏يختلط‏ ‏مع‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏الفائق‏، ‏حتى ‏ليخيل‏ ‏إلينا ‏-‏من‏ ‏بعيد‏- ‏أنه‏ ‏هو‏، ‏غير‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏هو‏ ‏نشاط‏ ‏نافر‏، ‏يفتقر‏ ‏إلى ‏التناغم‏، ‏والتواكب‏، ‏والخط‏ ‏المحورى، ‏وهو يبدو‏ ‏فضفاضا‏ ‏هشا‏، ‏بحيث‏ ‏يمكن‏ ‏فصل‏ ‏الجزء‏ ‏منه ‏-‏أى ‏جزء‏- ‏عن‏ ‏الكل‏ ‏الممتد‏ (‏لا‏ ‏المتلاحم‏). ‏وهذا‏ ‏الإبداع‏ ‏المتزاحم‏، حتى التصادم والمتخبط، ‏هو‏ ‏نتيجة‏ ‏إجهاض‏ ‏لجدلية‏ ‏الجنون‏ ‏والإبداع معا، ‏وناتج‏ هذا ‏الاجهاض‏ ‏هو‏ ‏ما‏‏ ‏‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمى ‏الإبداع‏ ‏الناقص‏، ‏أو‏ ‏الإبداع‏ ‏المجهض‏، ‏أو‏ ‏الإبداع‏ ‏المبتسر‏، ‏بمعنى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الإبداع‏ ‏هو‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏إخراج‏ ‏المادة‏ ‏المستثارة‏ ‏والمفككة‏، ‏وهى ‏بعد‏ ‏فى ‏مراحلها‏ ‏الوسطى، ‏متداخلة‏ ‏مع‏ ‏المفاهيم‏ ‏فى ‏بداية‏ ‏جدلية‏ ‏لم‏ ‏تكتمل‏، ‏إذ‏ ‏لم‏ ‏يتحملها‏ ‏صاحبها‏ ‏حتى ‏تنضج‏، “‏فتخلَّـص‏” ‏منها‏ ‏كما‏ ‏هى، ‏ناقصة‏ ‏كما‏ ‏بيـّنا‏ ‏. ثمة صعوبة‏ مبدئية فى ‏التمييز‏ ‏بين‏ ‏هذين‏ ‏النوعيين‏ (‏الفائق‏، ‏والمبتسر‏)، حتى أن‏ ‏الأمر‏ ‏قد يحتاج إلى دراسة‏ ‏معالم‏ ‏أخرى ‏إلى ‏جانب‏ ‏الناتج‏ ‏الإبداعى، ‏تحفز‏ ‏الناقد‏ ‏على ‏مواصلة‏ ‏جهده‏ ‏فى ‏اتجاه‏ ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏التمحور،‏ ‏لاحتمال‏ ‏الكشف‏ ‏عن‏ ‏الكلية‏ ‏الغائبة‏ ‏الضرورية‏ ‏لناتج‏ ‏الجدلية‏ ‏الإيجابى، ‏وحتى ‏يغامر‏ ‏الناقد‏ ‏ببذل‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الجهد‏، ‏فقد‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏مزيد‏ ‏من‏ ‏التعرف‏ ‏على ‏المبدع‏ ‏فى ‏إنتاجه‏ ‏المفاهيمى ‏المصقول (5)، ‏حتى ‏يطمئن‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏المحاولة‏ ‏جادة‏ ‏ومجاوزة‏، ‏وليست‏ ‏هروبا‏ ‏متعجلا‏، ‏كذلك‏ ‏فإن‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏أثر‏ ‏الإبداع‏ ‏على ‏المبدع‏ ‏وإنتاجه‏ ‏اللاحق‏ ‏قد‏ ‏يعين‏ ‏الناقد‏ ‏فى ‏تحديد‏ ‏مدى ‏إيجابية‏ ‏التوجه‏.‏

على ‏أن‏ ‏ثم‏ ‏شيئا‏ ‏آخر‏ ‏قد‏ ‏لايحتاج‏ ‏إلا‏ ‏إلى ‏مجرد‏ ‏إطلالة‏ ‏محذرة‏ ‏عابرة‏، ‏لاحتمال‏ ‏اختلاطه‏ ‏عند‏ ‏العامة‏ ‏لأول‏ ‏وهلة‏ ‏بالإبداع‏ ‏الفائق‏ ‏والإبداع‏ ‏الناقص‏، ‏وهو‏ ‏ذلك‏ “‏الشىء‏” ‏الذى ‏ينتج‏ ‏من‏ ‏تصنّع‏ ‏تنشيط‏ ‏وسائل‏ ‏معرفية‏ ‏أولية‏ ‏بدائية‏ (‏دون‏ ‏تنشيط‏ ‏حقيقى، ‏أو‏ ‏مغامرة‏… ‏إلخ‏)، ‏فيقحم‏ ‏المزِّيـف‏ ‏ما‏ ‏زيـَّــفـه‏ ‏إقحاما‏ ‏وسط‏ ‏المستوى ‏المفاهيمى، ‏حتى ‏تضطرب‏ ‏المفاهيم‏ ‏وتشوه‏ ‏بلا‏ ‏إضافة‏ ‏ولا‏ ‏إبداع‏، ‏على ‏نحو‏ ‏يستحق‏ ‏أن‏ ‏نقترح‏ ‏له‏ ‏اسما‏ ‏هو إضافيا‏ “‏الإبداع‏ ‏الزائف‏”‏.

هذا‏ ‏التدرج‏ ‏فى ‏مستويات الإبداع‏ وتصنيفاته ‏قد يذكرنا كيف ينبغى ‏‏ ‏ألا‏ ‏يـطلق‏ ‏الحديث‏ ‏على ‏علاته‏ -‏هكذا‏- ‏فى ‏المقارنة‏ ‏بين‏ الـ”‏إبداع‏” (‏أى إبداع‏) ‏و‏الـ”‏جنون‏” (‏كل‏ ‏جنون‏)، ‏وكأن‏ ‏الإبداع‏ ‏واحد‏، ‏والجنون‏ ‏كذلك‏. ‏وسوف‏ ‏نقوم ‏بعرض‏ ‏هذه‏ ‏المقابلات‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏مختصرة‏ ‏مـجـدولة‏ (‏الملحق الثانى)، ‏نظرا‏ ‏لأن‏ ‏أى ‏استطراد‏ ‏فى ‏تفصيلها‏ ‏هو‏ ‏خارج‏ ‏عن‏ ‏نطاق‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏.

‏  ‏

 [1] –  هذا هو الكتاب الثانى باسم “جدلية الجنون والإبداع” نشرت صورته الأولى فى مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع 1986  ص(30/58) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها، وهو الفصل الثانى من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع”  الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، والكتاب يوجد فى طبعته الأولى 2007 بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net ، وهذه هى الطبعة الثانية بعد أن قُسم إلى ثلاث كتب أضيف إليها ما جدَّ للكاتب بين الطبعتين، وهذا الكتاب هو الثانى.

[2]- وبصفة‏ ‏عامة‏ ‏نوضح‏ ‏هنا‏ ‏أهم‏ ‏الظروف‏ ‏التى ‏يحدث‏ ‏فيها‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏البسط‏ ‏الجسيم – المرض‏، ‏وهى:‏

‏ (‏أ‏) ‏أن‏ ‏يحمل‏ ‏الفرد‏ ‏حفزا‏ ‏وراثيا‏ ‏لحركية‏ ‏التعتعة‏ ‏الجسمية‏ ‏والبسط‏ ‏الأعظم‏- ‏وهذا‏ ‏يتبين‏ ‏من‏ ‏تاريخ‏ ‏عائلته‏ ‏الوراثى، ‏سواء‏ ‏مايتعلق‏ ‏بالإبداع‏ ‏أو‏ ‏الجنون‏، ‏إذ‏ ‏عادة‏ ‏مايتواتر‏ ‏فى ‏العائلة‏ ‏الواحدة‏ ‏تاريخ‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏الظاهرتين‏ ‏بصورة‏ ‏أو‏ ‏بأخرى. ‏ويمكن‏ ‏أن‏ ‏نـرجع‏ ‏هذا‏ ‏الاستعداد‏ ‏الوراثى ‏إلى ‏كم‏ ‏قلق‏ ‏المعلومات‏ ‏ونزقها‏، ‏مما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏تلك‏ ‏المعلومات‏ ‏لم‏ ‏تُتَمثل‏ ‏تماما‏، ‏فى ‏الجيل‏ ‏السابق‏، ‏فانتقلت‏ ‏إلى ‏الفرد‏ ‏الحالى ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏الذاكرة‏ ‏الجينية‏ ‏فى ‏قطاع‏ ‏بشرى ‏بذاته‏، ‏يحمل‏ ‏جرعة‏ ‏زائدة‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏المعلومات‏ ‏غير‏ ‏المتمثلة‏.‏ (‏ب‏) ‏أن‏ ‏تعجز‏ ‏التعتعة‏ ‏الدورية‏ (‏الحلم‏ ‏النوم‏ ‏اليقظة‏)، (‏أى = ‏التفكيك‏، ‏التعزيز‏/‏الاستيعاب‏) ‏عن‏ ‏أن‏ ‏تقسم‏ ‏جرعات‏ ‏البسط‏ ‏إلى ‏جرعات‏ ‏مجزأة‏ ‏يمكن‏ ‏استيعابها‏ ‏يوميا‏ ‏أولا‏ ‏بأول‏، ‏دون‏ ‏حاجة‏ ‏إلى ‏بسط‏ ‏أعظم‏.‏ (‏ج‏) ‏أن‏ ‏تتجمع‏- ‏بالإضافة‏- ‏معلومات‏ ‏جديدة‏ ‏غير‏ ‏متمثلة‏ (غير=‏ ‏=مـعـايشـة‏ ‏كيانيا‏ ‏لدرجة‏ ‏الهضم‏ ‏فالالتحام‏ ‏بالكل‏ ‏النامي‏) ‏حتى ‏تتزاحم‏ ‏وتضغط‏ ‏مع‏ ‏المعلومات‏ ‏الموروثة‏ ‏غير‏ ‏المتمثلة‏ ‏على ‏نحو‏ ‏ينتج‏ ‏عنه‏ ‏الحفز‏ ‏الشديد‏ ‏لهذا‏ ‏التخلخل‏ ‏البسطى ‏الجسيم‏.‏(‏د‏) ‏أن‏ ‏تحين‏ ‏فرصة‏ ‏التخلخل‏ ‏حين‏ ‏يختل‏ ‏توازن‏ “‏الضبط‏/‏الضغط‏” (‏الضبط‏ ‏من‏ ‏الخارج‏ ‏ومن‏ ‏الداخل‏ ‏معا‏، ‏والضغط‏ ‏من‏ ‏الداخل‏ ‏مثارا‏ ‏بالخارج‏ ‏أحيانا‏)، ‏بما‏ ‏يسمح‏ ‏بإطلاق‏ ‏الكامن‏ ‏الضاغط‏ ‏فى ‏وساد‏ ‏الوعى ‏القائم‏ ‏نفسه‏. ‏حتى ‏يختل‏ ‏التوازن‏ ‏تلقائيا‏ ‏أو‏ ‏دوريا‏، ‏أو‏ ‏نتيجة‏ ‏لظروف‏ ‏خارجية‏- ‏كما‏ ‏ذكرنا‏.‏

[3]- لم‏ ‏أعرج‏ ‏فى ‏المتن‏ ‏بالتفصيل‏ ‏إلى ‏مستوى ‏الجنون‏ ‏البديل‏ (‏لكل‏ ‏من‏ ‏الإبداع‏ ‏والجنون‏ ‏المتفسخ‏/‏الفصام‏- ‏معا‏) ‏لما‏ ‏قد‏ ‏يجرنا‏ ‏ذلك‏ ‏إلى ‏تفاصيل‏ ‏مهنية‏ ‏تخصصية‏، ‏قد‏ ‏تبعدنا‏ ‏عن‏ ‏محور‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ ‏الأساسى، ‏فأكتفى ‏هنا‏ ‏فى ‏الهامش‏- ‏لمن‏ ‏يهمه‏ ‏الأمر‏- ‏أن‏ ‏أحدد‏ ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏أنواعا‏ ‏أخرى ‏من‏ ‏الجنون‏ ‏قد‏ ‏تبدو‏ ‏كأنها‏ ‏متماسكة‏ ‏الظاهر‏، ‏راسخة‏ ‏الظهور‏، ‏مسلسلة‏ ‏المنطق‏ ‏المرضى ‏أو‏ ‏هى ‏تبدو‏ ‏شاقة‏ ‏تيار‏ ‏الوعى، ‏أو‏ ‏مفرطة‏ ‏فى ‏جرعة‏ ‏التجميد‏ ‏المضاد‏ ‏ضد‏ ‏التهديد‏ ‏بظهور‏ ‏التناثر‏. ‏وكل‏ ‏هذه‏ ‏الأنواع عادة‏ ‏إما‏ ‏تظهر‏ ‏بهدف‏ ‏إيجاد‏ ‏مخرج‏ ‏ولو‏ ‏مؤقت‏ ‏يوقف‏ ‏ضغط‏ ‏التناثر‏ ‏وجذب‏ ‏الانسحاب‏ ‏النكوصى‏ ‏لا‏ ‏مجال‏ ‏لتفصيله‏ ‏حتى ‏فى ‏الهامش‏.‏

[4]- Silvano Arieti, S. (1976), Creativity. The Magic Synthesis. p12.-13, Basic Books, Inc. Publishers، New York,

[5] –  سبق أن اشرت كيف صبرت على أدونيس شاعرا، من خلال احترامى لدراساته النقدية، خاصة فى “الثابت والمتحول”.

 

admin-ajax (5)

admin-ajax (4)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *