نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 11-2-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4181
قراءة فى النفس البشرية (1)
(من واقع ثقافتنا الشعبية)
الفصل الخامس:
فصل فى: الجذب والصد: فى الصداقة والهجر (2)
(صعوبات العلاقة بالآخر)
الموال الرئيس:
الصاحب اللى يفوتـَكْ يـقـَّن انه ماتْْ
أترك سبيله ولا تندم على اللى فاتْ
الصـقر بيطيـر و بيعـلـى و لـه هـمـَّـاتْ
يــقـعـد فـى الجـو عـام و لاّ اتـــنيـــن
يموت من الجوع و لا يحـوِّد على الرِّمـَّــاتْ
******
-1-
الصاحب اللى يفوتك يـقـَّن انه ماتْ (3)
أترك سبيله ولا تندم على اللى فاتْ
الصقر بيطير و بيعـلـى وله هـمـَّاتْ
يـقعـد فـى الجو عام و لاّ اتــنيـن
يموت من الجوع و لا يحوِّد على الرماتْ (4)
هذه الصورة تجسد نوعا من الإباء القوى فى التعامل مع إعلان حاجة الانسان للصديق، والاعتراف بصعوبة تحمل الهجر ولكن بنبل مترفـِّع!
والتفسير الخلقى لأول وهله يوحى بأن هذا الموقف هو موقف كريم رائع ينبغى أن يتصف به كل ذى كرامة وشـَمـَم، ولكن يبدو أن الأمر ليس كذلك تماما، فهذا أمر قد يدل- أيضا- على الصـَّـلـَف وشدة التأثر بالهجر، نتيجة للحاجة الخفية الشديدة للاعتماد بشكل ما على صحبة هذا الهاجر، وبالتالى فإن صاحب مثل هذه الشخصية (5) يشعر أن هذا الهجر هو رفض وليس مجرد ترك، وهو لشدة حاجته للآخر- دون إعلان خشية إظهار الضعف – يحتج على هذا الرفض برفض أشد، يتمثل فى هذا التصعيد إلى هذا العلو الشاهق الذى يتصف به الصقر (6) (عند العرب خاصة) وهو فى الظاهر علوا، ولكنه فى الواقع وِحـْدة ما بعدها وحدة، وكأن مثل هذا الإنسان بدلا من أن يتفاعل للهجر: بالألم، والتفهم، واحترام الخلاف، والانتظار، والاستمرار على مسافة، وكل هذا ليس فيه مذلة أو خنوع، بدلا من ذلك يطير إلى أعلى متخذا موقفا فوقيا حاكما على هذا التارك أنه “رِمـّة” (7) وهو يعتبر هذا السلوك الصـَّقـْرى هو الهمـَّة العالية، وهو مصدر الفخر ودليل العزة، وكل ذلك مقبول كدفاع طبيعى ضد إظهار الضعف والاعتراف بالحاجة، وهو مستوى خاص من الخلق، خلق الاستغناء وعدم الأخذ، أليس هذا ما يقوله البارودى:
خـُلقت عـَيـُـوفـًا لا أرى لابن حرةٍ علـىَّ يدا أغضى لها حين يغضـَبُ
ولكننا ينبغى أن ننتبه إلى أن عدم الأخذ قد يكون “عجزاً عن الأخذ” (أيضا) وهو دليل وحدة صعبة ليست هى الفضيلة الوحيدة، أو الفضيلة الأولى فى العلاقة بين البشر،
وثمَّ مثل عامى آخر يؤكد نفس الإتجاه:
“الصقر صقر وله هـِمَّـه
يموت من الجوع
ولا يحـوِّد على رمـَّه”
لكن أمثالا أخرى تفتح أبوابا أخرى لكيفية التعامل مع الصداقة والهجر محتـَرِمـَة ً حاجة الانسان للإنسان بأى صورة وبصفة دائمة:
1- فلنبدأ المسألة “بالموافقة” وما يحدث يحدث:
اللى ترافـْقـْه وافـْـقـُـه
الموافقة هنا هى ليست المرادف للنفاق تماما أو دائما أبدا، فهى تحمل معانى كثيرة من بينها أن تبحث عن مناطق الاتفاق (أيضا) ولا تتوقف عند الخلاف (دائما)، والاتفاق قد يأتى من الاختلاف حيث يكمل الصديق صديقه كالمفتاح والقفل أو بالتعبير العامى المستعمل فى “النجارة” والمستمد من الصداقة والحب أصلا . “عاشق ومعشوق”.
وقد اختلفت الآراء حول أيهما أفضل لاستمرار الصداقة وتأكيد التكيف، أن يكون صديقك مثلك أم أن يكون مختلفا ومكمـِّلا لك وأنت مكمل له؟، وفى كـلٍّ خير:
أما عن الاحتمال الأول وهو “التماثل” فهو المعنى الموجود فى “إن الطيور على أشكالها تقع” وكذلك “كل شىء له يشبه اللى له” (تنطق بالعامية).
كل شيلـُّه يشبهلـُّه
(ونكملها أحياناً): كل شيـُّله يشبهـُّله حتى الحمار واللى آنيه (8)
أما التوافق مع الاختلاف فربما هو ما يشير إليه المثل الأصعب:
زى القط ما يـْحبش الا خـَـنـَّـاقه
وهنا إشارة إلى نوع من العلاقة لا يصل إلى درجة الماسوشية، وإنما وصلنى مستوى أخف يفيد أنه لا تعارض بين أن أواصل الحب مع من يصلنى منه ما يؤلم أو يحتاج إلى صبر فمواصلة.
2- لكن الصداقة هى دائما اختبار للعلاقة بالآخر، وهى امتحان متجدد، وقولهم فى المثل:
الصاحب عـِلـّه
ليس مجرد تنبيه إلى ما فى الصداقة من التزام وتحمل الاعتمادية، ولكنه أيضا إعلان أنها امتحان عسير يحتاج إلى الصبر والتفويت والاعتراف بنقص وعيوب أى صاحب، فلا أحد يبلغ الكمال كما يوصينا الشاعر:
إذا كنت فى كل الأمور معاتبا
صديقك لم تلق الذى لا تعاتبه
ومن لا يتحمل التفويت، فليدفع الثمن وهو الوحدة الجليدية التى وصفها بيت الشعر القائل:
فعش واحدا أوصل أخاك فإنه
مقارف ذنبا مرة ومجانبه.
وفى المثل:
“التـَّعـْبـَان من رفيقه يوسَّع له”
ولم يكمل المثل الإشارة إلى الوحدة بعد التوسيع
3- وعملية الصداقة عملية ذات اتجاهين: ذهابا وإيابا، فأنت تطرق الباب فى محاولة تلقائية مثابرة ولا تكتفى بالإنتظار:
“استودُّوا تـِسـْتـَحَبـُّوا”
ثم إنك تفتح بابك لمن يطرقه للصداقة مـُرَحـِّبا ومتجاوبا:
“مين زق بابنا ياكل لـِبـُابـْنا” (9)
فأهلا وسهلا بالطارق، وإن لم يحضر فلنذهب نحن إليه كما تقول الأغنية:
عـدِّى يا المحبوب وتعالى
وإن ما جيتش لاجيلك آنا
4- ثم يبدأ تبين الاختلاف، ولكن هل بالضرورة يكون الاختلاف هو بداية الخلاف؟ ذكرنا حالا ان اختلاف الطباع قد يكون سببا فى الحفاظ على الصداقة، بل إن تشابه الطباع قد يكون سيئا إذا كان باعثا للتنافس فقط حتى تصبح العلاقة عقيمة غير مثمرة.
زى نخل أبو قير دكر قدام دكر
ثم إن ثمة طريقة أخرى لتحمـّل الاختلاف: هى أن تعرف صاحبك وتقبله دون محاولة تشكيله فورا بحيث يصبح نسخة منك لتجنب الاختلاف، وهذا ما فهمته من قولهم فى مثل آخر.
إعرف صاحبك واتركه
أنا لم أستقبل هذا المثل باعتباره تركـًا بمعنى إنهاء الصداقة أو الانصراف عن الصديق، وإنما استقبلته بمعنى “اتركه فى حاله”، أو اتركه على حاله، ولو مؤقتا، فلا تفرض عليه – فورا أو متعجِّـلا- ما تتصوره أصوب، ولا تحاول أن تشكـِّله كما تريد، أو كما تتصور، وباستمرار صداقتكما سوف يتطور التفاعل إلى ما يثمر ما يتطور بكما، وهذا الاستمرار مع المعرفة هو من أعظم ما يعلن النضج، وهو ما يسمى “بتحمل الغموض” (10) أو تحمل التناقض) – وهو أفضل من ألا ترى فى صاحبك إلا ما هو حسن، بل ترى فيه “حسنا ما ليس بالحسن”، وهو ما جاء فى شعر بن أبى ربيعة على لسان “هند”:
أكما ينعتنى تبصرننى حسبكن الله أم لا يقتصد (11)
فتضاحكن وقد قلن لها ”حسنٌ فى كلِّ عينٍ ما تودّ”.
5- وبعد المبادأة والتفويت وحسن التلقى، والمعرفة والتحمل، لابد من الرضا بالقليل من الصاحب وإلا تزايد الطلب أكثر فالإلتهام أعمق، ثم يتواصل ذلك كشارب الماء المالح.
“إذ قد ألتهم الواحد منكم تلو الآخر دون شبع”.
“من فرط الجوع التهم الطفل الطفل”. (12)
فالتركيز على القليل والرضا به، ينميه ويبارك فيه:
“الـُحرّ من رَاعـَى وِدَاد لحظة”
يظهر ذلك جليا عند الاختلاف: فالخلاف، حيث لا يتذكر الانسان الكريم (الحر) القسوة والأخطاء فحسب، بل هو يستدعى أيضا، وقـَبـْلا ً، لحظات الوداد والكرم والعطاء والتفاهم، فلا يفرط فى العشرة بسهولة:
العشرة ما تهونش إلا على ابن الحرام
6 – وقد يكون من باب الضمان أن تتعدد الصداقات حتى لا تصبح احتياجات الواحد منا مطلوبة من مصدر واحد فقط، وكأنه المنبع الوحيد لماء الحياة، فإذا نضب بالهجر، هاج بنا الإباء وهات يا صعود: صقورا متعالين حتى الموت!!.
والهـَجـْر تخف حدته ويأخذ حجمه الموضوعى، ووقته المحدود إذا كان ثمَّ بديل جاهز للتعويض والتخفيف، وهذا ليس ضد الوفاء والإخلاص كما يدعى الأخلاقيون المثاليون الذين يعتبرون الصداقة مـِلكية خاصة، وأنه كلما ضاق نطاقها، تعتقت نكهتها، نعم، على الانسان أن يتعمق ويتحمل ويستمر، ولكن عليه أيضا أن يـُنـَمـِّى قدرته على المصادقة بلا تردد ومن كل مصدر.
خـُدْلك من كل بلد ْ صاحبْ
7 – ولا بأس من بعض الصفقات الصغيرة، بل والكبيرة مما لا يعيب الصداقة، فــ:
الرغيف المقمـَّرْ للصاحب اللى يـِدَوَّرْ
وما المانع من أنَّ مـَنْ يبحث عنى ويسأل ويترقب، ما المانع أن أختصه بأطيب العطاء فى مقابل ذلك.
8- والإنسان إذا ما تيقن من انعدام الحنان فى علاقة الصداقة القائمة، وظل فى نفس الوقت مصرا على ضرورة الصداقة إذ لا بديل فإنه “يركب الصعب” إذ يستحيل أن يستغنى عن هذا الخـِلّ الغريب:
وكيف نعيش بغير حنان ٍ
وصفو ِ حديث ِ حبيب ٍ لخلّ (13)
نعم كيف نعيش بغير حنان؟ فلنصطنعه إصطناعا ولو من غير مصدره ولو من عدو، من يدرى، وهنا يقفز مثل صعب يقول:
من قـِلـّة الحـِنـِّيـَة بتـْنا على جفا
وخدنا من بيت العدوّ حبيب
هذه مغامرة محسوبة، أفضل من العزلة والصقرية ذات الاستعلاء المتكبر، ثم من يدرى، ألا يجوز أنه باتخاذ الحبيب من الأعداء نكتشف فيه الجانب الآخر، فننضج بمسئولية أروع، من أن نـَـظل متمسكين بحاجتنا إلى توظيف العدو كمسقط لعدواننا حتى ولو لم يكن هو المسئول عن إثارة هذا العدوان؟ إن القائل بأنه:
“نهار العدو ما يصفـَى يخفى”
إنما يعنى أيضا أنه بذلك قد فقد مهمته لى كعدو، فلم يعد بى حاجة إليه، كمسقط لعدوانى وكأنى كنت أحافظ على كيانى باستمرار عداوته.
ومهما يكن من أمر، فإن الحرص على العلاقة مع الآخر، بالعداء أو بالصداقة هو حرص واجب ورائع بما هو انسانىّ، وهو أفضل جدا من العزلة والانسحاب المتعالى.
وقد يكون اتخاذ العدو حبيبا هو من باب انتظار الفرج حتى يظهر صديق جديد يلبى الحاجة بحق فى الوقت المناسب، وإذا كنا رضينا أن نتخذ من بيت العدو حبيبا، فمن باب أولى علينا أن نقبل صديقا مؤقتا بكل ما فيه، حتى نعثر على الصديق الصدوق الذى ”هو”، ألا يقول مثلنا العامى فى مثل هذا التأجيل الإيجابى المحسوب:
تجـَّمزْ بالجميز (14) حتى يأتيك التين
ليكن هذا أو ذاك، لكن كلا الاحتمالين هو صراع ضد احتمال الهرب (الصقرىّ) إلى أعلى، فمهما أغرتنا لمعة القمة المنعزلة، فهى لمعة الجليد الأملس المجمد.
9 – فإذا لم ينفع كل ذلك، وظل سيف الهجر مسلطا حاسما مهدٍّدًا، فلا بأس من انسحاب اختيارى (مؤقت بالضرورة)، ما دام الإصرار على رفض العزلة قائم بهذا الوضوح وما دامت البدائل بهذه الوفرة، فإنه فى النهاية يقول المثل :
مـِـْن سـَابـَك سيبه
وِمـِـْن فـَاتـَكْ فوته
حتى إذا وصل الأمر إلى الهجر غير الجميل، فقد يكون الرد بالمثل، مهما بلغت قذارته، فهو أفضل من حيث المساواة بعد فشل الحوار ونفاذ الصبر، أفضل من تلك العزلة الاستعلائية فلتكن المعاملة بالمثل مهما فاحت رائحتها حتى لو لجأنا إلى المثل القائل:
مـِـْن شخّ عليك شـُخّ عليه، واهى كلها نـَجـَاسـَة
والمسألة هنا ليست تصعيدا للموقف، وإن كان كل ذلك محتملا، لكنها أيضا معاملة الأنداد، وهذا أرحم من الحكم الفوقى بأن الخصم “رِمَّـة” لا يستأهل، وبديهى أنه لا تعميم فى مسألة “كلها نجاسة” ولكنى جئت بهذا المثل على قبح ما فيه لأعلن أن حوارا يجرى، حتى بتبادل الأقذار، قد يكون أفضل من الانسحاب المتعالى.
[1] – الفصل من كتاب “قراءة فى النفس البشرية” (من واقع ثقافتنا الشعبية) (ص77- ص85) (الطبعة الأولى 1992، والطبعة الثانية 2017) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط
[2] – نشر فى مجلة الإنسان والتطور عدد ابريل 1986، والعنوان الأصلى: مثل وموال بعنوان:
“زواية (زوايا) أخرى: للجذب والصد فى الصداقة والهجر”
[3] – الأصل الوارد فى كتاب الأغنية الشعبية للدكتور أحمد على مرسى (دار المعارف، 1983) ص183 مكتوب فيها القاف جيما غير معطشة (باللهجة الصعيدية) فقلبناها للتسهيل قافا ونطقها الأصح ألف مهموزة فى معظم اللهجات العامية الأخرى وذلك فى “يقن” وفى “الصقر” وفى “يقعد”
[4] – جمع هِـمـّه، ورمـَّـة علـى التوالي
[5] – يقال لها عادة الشخصية البارنوية وهى ليست مرضا .
[6] – وربما هو ما يقابل تصعيد النورس عند الغرب، مع الافتقار إلى قوة الانقضاض فى الصقر ومهارة الصيد برغم الاتفاق فى العلو والوحدة.
[7] – الرمة: العظام البالية (بالعربية)- ولكن المقصود هنا فى الأغلب هو الجثة النتنة بالعامية.
[8] – “شـِيلـُّـهْ” هى إضغام: شىء له، وكذلك يشبهلُّه: هى إضغام: “يشبه اللى له”، وآنـِيهْ: أى مقتنيه أى من يملكه ويعوله، هذا المثل شائع فى الاوساط الشعبية جدا، وهو ويطلق على المرأة أحيانا فى السباب معايرة لزوجها وإلزاما له بأن يتحملها، أو إشارة إلى ذوقه السىء الذى انتقاها فى قولهم “روحى كتك داهية فيكى وفى اللى آنيكي”
[9] – اللباب: هو الجزء اللين داخل الخبز الطرى
[10] – Tolerance of Ambiguity
[11] – عمر بن أبى ربيعة على لسان هند وهى تسأل صديقاتها عن مديح بن أبى ربيعة لها ولجمالها.
[12] – من ديوانى سر اللعبة: دراسة فى علم السيكوباثولوجى للكاتب، وهذا ايضا من ديوان سر اللعبة وقد تم شرحه فى كتاب “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” وهى نفس قصيدة “جلد بالمقلوب” أنظر هامش رقم (22).
[13] – من شعر الكاتب القديم جدا 1959 ، (شعر عمودى ناشىء لم ينشر طبعا)
[14] – الجميز نوع رخيص من التين، أقل حلاوة وأمسخ طعما، وثمره كان متاحا بالمجان للغالبية فى الريف المصرى، حتى لو لم يكونوا من مالكيه مثل شجر التوت علـى الزراعية أحيانا، أما التين فهو أنواع متعددة أغلى وأندر.