نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 15-10-2022
السنة السادسة عشر
العدد: 5523
مقتطفات من كتاب: “الطب النفسى والغرائز (1)”[1]
الباب الثانى: “غريزة العدوان”(من التفكيك إلى الإبداع) [2]
الملحق (2)
.. (عبر النقد الأدبى):
“ليالى ألف ليلة” لــ “نجيب محفوظ”
القتل بين مقامـَـىْ العبادة والدم[3]
رغم أنها قراءة شاملة للعمل الروائى المتميز ليالى الف ليلة لنجيب محفوظ، فقد اخترت لها هذا العنوان الفرعى، لما وصلنى أن هذه الفكرة (القتل/العبادة) هى محورية عبر أغلب الحكايات، ورغم أن نص العنوان لم يرد إلا فى عبارة متأخرة فى الحكاية الثالثة: (ص: 67) على لسان الشيخ على البلخى (العارف-المعلم) مخاطبا عبدالله الحمال (الميت-المتناسخ)، إلا أنها كانت أوضح ما يكون منذ البداية، وبالذات فى الحكاية الأولى (صنعان الجمالى)، وإن كانت الحكايات كلها تجرى فوق أرضية مرعبة من شلالات الدم التى تدفقت من شهوة وجبن وأنانية وذعر شهريار معا.
وقد كان القتل دائما سهلا على نجيب محفوظ يدفع إليه أبطاله أو يجعلهم ضحاياه بشكل سلس مفزع معا، وربما يحدث ذلك دون مبرر ظاهر، مما يجعل قارئه يكاد يوقن كم هو (القتل) حدث تلقائى من صلب طبيعة الحياة، إن لم يكن فى جوهره هو الحياة ذاتها، وحتى الموت (الطبيعى) كان كثيرا ما يبدو عند محفوظ وكأنه قتل بشكل ما، وذلك فى أوائل رواياته وقصصه حيث كان يوكل المهمة للقدر أو المرض، لكنه تقدم فى مرحلة لاحقة ليوكل به الفتوات والأبطال، كل فيما يخصه !!، ثم ها هو يفاجئنا إذ يقتحمــنا وهو يمد إبداعه فى داخل داخلنا ليجذب جذور القتل الغائرة خلف ما نتوهم أنه نحن، فنتبين أننا قتلة أصلا – بالحق والباطل- وأننا سنظل كذلك ما لم نواصل المسيرة إلى تكاملنا بشرا بحق.
نـظرة سريعة نتعرف بها على كم القتلة والضحايا فى عمل متوسط الحجم مثل هذا العمل، قد يثبت للقارئ أحقية اختيارى لهذة القضية محورا لقراءتى هذا العمل:
فالقتلة يشملون: شهريار- صنعان الجمالي-جمصة البلطجي-(= عبدالله الحمال = عبد الله المجنون البرى) -جلنار- سـُـمـّـار حفل سهرة اللسان الأخضر(شروع) -المعين بن ساوى (شروع)- فاضل صنعان، هذا فضلا عن أحكام الإعدام التى تبدو أحيانا قتلا، وأحيانا قصاصا، وأحيانا تكفيرا، هذه الأحكام التى اغتالت: علاء الدين أبو الشامات (شهيدا) وحسام الفقي، والمعين بن ساوي، ودرويش عمران وابنه، وحبظلم بظاظة عقابا، وفاضل صنعان تكفيرا- أما الضحايا و المقتولون فيشملون الأبرياء والمقتولين، وبالصدفة: من أول الطفلة المغتصبة ثم خذ عندك: عَلِى السلولي، كرم الأصيل-زهريار-شملول الأحدب (مع وقف التنفيذ!!) يوسف الطاهر-قوت القلوب (مع وقف التنفيذ أيضا ثم القضاء عليها بالسم) علاء الدين أبو الشامات-المعين بن ساوي-درويش عمران-حبظلم بظاظة، توأم شاور- العجان بائع البطيخ (إعدام بتهمة باطلة) (حتى وفاة قمر العطار بالسم كانت تعتبر قتلا أيضا).
الداخل والخارج:
ويجدر بى إبتداء أن أعود لقضيتى القديمة، فما زالت تلح علىّ، وما زال الرفض يُــشهر فى وجهها معظم الوقت، وهى قضية أو إشكالية الرواية/الراوي/المجتمع، وسأحاول أن أعيد رأيى فى هذا الصدد بشكل جديد، فأوجزه قائلا:
أولا: إن الكاتب لا يكتب إلا ذاته،
ثانيا: إن ذلك لا يعنى أنه يتكلم عن تجارب شخصية أو عن فرد محدود باسم وتاريخ، وإنما أعنى به أن الكاتب يحتوي-بحيوية نَشِطة-كل تجاربه وانطباعاته ومنطبعاته([4]) من خارجه وداخله جميعا، وإذْ تصبح ذاته ثرية – مرنة- مُـقَـَـلْـقَـلة ـ فى آن: يمضى يعيد تنظيمها من كل ذلك بتوليف جديد، وهو ما قد يظهر فى شكل عمل جديد متميز.
ثالثا: إن ما يساعد على هذه الرؤية هو تبنى مفهوم تعدد الذوات والتنظيمات والكيانات داخل الذات الفردية الواحدة، ذلك المفهوم الذى أعتبره المدخل لفهم عالم النفس فالعالـَم، إذ هو المصهر والمحتوى لكل العالم، وعلى قدر مرونة الحركة وجِـدة التوليف بين هذه الكيانات الكثيرة: يكون الابداع.
وعلى ذلك – فإننى أستطيع أن أتقدم خطوة نحو إيضاح أبعاد هذا العمل من حيث واقعيته، فالواقعية فى العمل الروائى تتجلّى بقدر ما يكون هذا العمل موضوعيا، وليس بقدر التحامه بالواقع الخارجى أو وصفه له، فيكون العمل موضوعيا بقدر صدقه وقدرته على استقبال قلــقلة شخوص ذات كاتبها بحجمها الحقيقى، ثم مدى قدرته على الإضافة لها وتحريكها وإعادة إفرازها فى عمله بأقل وصاية فكرية مسبقة، أو خيال مصنوع.
هذه الليالى واقعية فى مجملها رغم الاسم والجو الأسطورى، لكن جرعة الواقعية تخف حتى تكاد تختفى كلما تقدمنا خلال العمل حيث يغلب فى نهايته الخيال (لا الحلم) حتى ليفرض نفسه على الحلول المطروحة، كما يطغى الأسلوب التقريرى وتعلو لهجة الخطابة ونبرة الحكمة قرب النهاية أيضا، يحدث ذلك بشكل ملح، لكنه لا ينجح فى أن يبعد العمل عن واقعيته الغالبة، فى البداية خاصة.
والعمل فى مجمله، ورغم تراجع نهايته، إنـما يمثل مرحلة متقدمة من رحلة كاتبه فى أغوار نفسه/العالم، وبه نجح نجيب محفوظ فى إعادة إبداع هذا الأصل الفريد، فأعاد خلق بعضه فى دورة تناسخية رائعة، ورغم كل هذه المساحة بين الأصل والتجديد، فنحن لا نملك لهما فصلا، ولكن أية مقارنة تفصيلية تبدو أبعد ما تكون عن المطلوب فى قراءة مثل هذا العمل.
العفريت.. والوجود:
سبق أن بينت أن نجيب محفوظ قد أخذ بيدنا ليرينا أن عالم عفاريتنا هو وجود ماثل فى دواخلنا، وقد صرح بذلك بشكل مباشر، كما كرر الإشارة إليه بشكل غير مباشر فى عمل آخرسبق أن قدمت قراءته([5])، وفى هذا العمل الحالى يعود ليؤكد هذه المقولة، والوقوف عندها مرة ثانية هو لإثبات بعض أوجه الفرض الذى أعلنـه ابتداء عن القتل فى داخلنا – وظيفته وأشكاله-، والعفاريت فى هذا العمل تمثل شخصيات أساسية تتبادل مراكزها بين الشكل والخلفية مع الشخصيات الإنسية التى يحركها الكاتب فى براعة مناسبة.
يعلن نجيب محفوظ فى الحكاية الأولى و منذ ظهور العفريت الأول (قمقام عفريت صنعان الجمالى) أنه وجود داخل الوجود، أو بتعبير أدق: هو وجود مع الوجود، فهو يتحدث عن كثافة هذا الوجود وثقله، وغشيانه وحلوله واصطدامه بتجسيد آنىّ لا يسمح للقاريء اليقظ أن يذهب بعيدا عن الذات وتركيبها المتداخل، يقول:
1 - “وغشيه الوجود الخفى.. وسمع الصوت..” (ص33)
2 – ”هيمن عليه الوجود الأخر“ (ص27) (وهو هنا يشير إلى أن هذا حدث حين أخلد للنوم، لكنه يعلن بشكل لم يعد يحتاج إلى شك أنه لا فرق بين نوم ويقظة، بين وعى الحلم ووعى الصحو: “إن يكن حلما فما له يمتليء به أكثر من اليقظة نفسها” (ص16)
3 – ”ارتطمت ذراعه بكثافة صلبة“ (ص13) (لاحظ هنا تعبير كثافة وليس جسما صلبا).
4- “جاء صوت غريب…… صوت اجتاح حواسه“ (ص14) واجتياح الصوت للحواس جميعا دون الاقتصار على الأذن.. يذكرنا بطبيعة الكثافة والإغارة ومصدرها، ودور الجسد فى المعرفة!!
5- ”وتلاشَى الغبار تاركا وجودا خفيا جَثَم عليه فملأ شعوره” (ص38) (لاحظ تعبير ملأ شعوره ).
6- “شعر بنفاذ وجوٍد جديد هيْمَنَ على المكان” ( ص40) (ولا أنكر أنى ربطت، ربما متعسفا بين النفاذ والوجود و المكان، ورجّحِت أن المكان هو الذات: أساسا!!).
7- ”مضى الوجود المهيمن يخف حتى تلاشى تماما” (ص 41).
8- “طرح تحت ثقل وجود غليظ احتل جوارحه… ” (ثم) ”فاجأه الصوت مقتحما وجدانه”. (ص 48).
9- ”ولكن الآخر أطلق ضحكة ساخرة، ثم سحب وجوده بسرعة وتلاشى” (ص50).
وأحسب أن استعمال الكاتب لألفاظ الوجود، والاقتحام، وامتلاء الشعور، واحتلال المشاعر، والثقل، والكثافة، والغلظة، والسحب، والالتحام، لم يعد يحتاج إلى مزيد من التأكيد بأن الأمر هو كما ذهبنا إليه: عفريتا فى داخلنا = وجود ثان:عيانى الحضور: تكثيف حركية مستويات الوعى.
وأهمية هذا الاستطراد هو فى ترجيح ما ذهبنا إليه من أن هذا العمل يكشف عن القتل فى الداخل، ذاك الذى يتحرك مع تنشيط الوعى الآخر، القتل بمختلف دوافع انطلاقه وتنوع مساراته ونتاجه.
…………
…………
(ونواصل: لنواكب لعلنا نكمل) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى، كتاب “الطب النفسى والغرائز (1) “غريزة الجنس” (من التكاثر إلى التواصل) و”غريزة العدوان” (من التفكيك إلى الإبداع) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022)
[2] – تحديث محدود لمحاضرة “الغريزة الجنسية” ألقيتها فى منتدى أبو شادى الروبى (15/12/1998) ضمن نشاط محاضرات لجنة الثقافة العلمية: المجلس الأعلى للثقافة.
[3] – صدر هذا النقد فى عمل لى فى “قراءات فى نجيب محفوظ” الطبعة الأولى (1990) الهيئة العامة للكتاب، والطبعة الثانية (2005) والطبعة الثالثة (2017) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.
[4]- أميز بين الانطباع Impression أو المنطبع Imprint حيث أعنى بالأول الانطباع: الميل الفكرى العام تجاه موقف أو موضوع، فى حين أعنى بالثاني المنطبع: Imprint المعلومة الـمُـدْخلة بَصْمًا فى أوقات التعلم المأزقى الكياني، التى يتميز بها الطفل والمبدع على حد سواء، لكنها تظل الوظيفة الأهم لنوع من التلقى القادر على تغيير التركيب تمهيدا لإعادة التشكيل.
[5] – يحيى الرخاوى” رأيت فيما يرى النائم” مجلة الانسان والتطور الفصلية عدد أكتوبر (1983) المجلد الرابع -العدد الرابع (ص104-137)
صباح الخير يا مولانا :
المقتطف :…نجح نجيب محفوظ فى إعادة إبداع هذا الأصل الفريد، فأعاد خلق بعضه فى دورة تناسخية رائعة، ورغم كل هذه المساحة بين الأصل والتجديد، فنحن لا نملك لهما فصلا، ولكن أية مقارنة تفصيلية تبدو أبعد ما تكون عن المطلوب فى قراءة مثل هذا العمل. …
التعليق : لعلك حين كتبت هذا النقد ، لم تكن قد توصلت بعد إلى وعيك بعملية ” التناص ” ، لكنى ألمحها هنا بوضوح ، هل هذا صحيح ؟
صباح الخير يا مولانا :
المقتطف : ….فالواقعية فى العمل الروائى تتجلّى بقدر ما يكون هذا العمل موضوعيا، وليس بقدر التحامه بالواقع الخارجى أو وصفه له، فيكون العمل موضوعيا بقدر صدقه وقدرته على استقبال قلــقلة شخوص ذات كاتبها بحجمها الحقيقى، ثم مدى قدرته على الإضافة لها وتحريكها وإعادة إفرازها فى عمله بأقل وصاية فكرية مسبقة، أو خيال مصنوع.
التعليق : أرى هنا مذهبك فى ” القراءة الأدبية للنفس البشرية ” وكنت أتمنى أن تشير إليه فى هامش ، ليتعرف القارئ على طريقتك الخاصة فى ربط ما هو أدبى بما هو نفسى ، والذى أظنه واحدة من خصائص مدرسة الرخاوى فى العلاج النفسى