نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 8-10-2022
السنة السادسة عشر
العدد: 5516
مقتطفات من كتاب: “الطب النفسى والغرائز (1)” [1]
الباب الثانى: “غريزة العدوان”(من التفكيك إلى الإبداع) [2]
العدوان وحركية الإبداع (5)
……………..
……………..
هامش عن الذكورة والأنوثة والإبداع والعدوان
من الصعب أن ينتهى هذا العرض المحمل بالثقل البيولوجى دون أن نواجه تحديا صريحا صادرا من نتائج الأبحاث المتعلقة بالسلوك العدوانى وما لوحظ من مصاحباته من ارتفاع فى نسبة هرمون الذكورة (التستسترون)Testosterone فى الدم، فقد ثبت أن مستوى هرمون التستسترون فى الدم يتناسب تناسبا طرديا مع السلوك العدوانى فى عديد من حيوانات التجارب حتى أصبحت هذه المشاهدة من الحقائق العلمية التى لاجدال فيها، وقد فسرها بعضهم تفسيرا تطوريا يشير إلى أن الذكر الأقوى عدوانا هو الأقدر جنسيا، وبالتالى فهو الأضمن للتناسل وتأكيد قوى النسل القادم، ومن ثمَّ حفظ النوع غير أن هذا التفسير الاجتهادى لم يقنع الكثيرين.
ذهب آخرون إلى التعمق فى دراسة شكل هذه العلاقة وارتباطاتها “كسبب ونتيجة” وقد وجدوا أن إثارة السلوك العدوانى فى ذاته يضاعف مستوى هذا الهرمون الذكرى فى الدم صعودا إلى خمسة أضعاف، مما جعل احتمال أن تكون هذه الزيادة هى نتيجة للسلوك العدوانى وليست سببا له.
ومع احتمال صدق هذه التفاسير من زاوية بذاتها، إلا أن الأمر يحتاج لمزيد من الإيضاح الذى يمكن أن نتناوله من منطلقين كالتالى:
أولا: إن السلوك العدوانى ليس مرادفا لغريزة العدوان ولكنه أحد تجلياتها، وهو الشكل الظاهر لها، أما الغريزة نفسها فقد يكون لها تجليات أخرى غير السلوك المعروف بالعدوانية، وأيضا قد يكون لما أسميناه العدوان الإيجابى ارتباطات بيوكيمائية أخرى غير السلوك العدوانى الضار المتعارف عليه لمثل هذه الدراسات.
ثانيا: إن السلوك العدوانى عند الرجل (الذكر) انبعاثى ظاهر يتعلق ببقاء الفرد أساسا ثم النوع، أما السلوك العدوانى عند الأنثى (المرأة) فهو احتوائى ملتهم أساسا يتعلق ببقاء النوع أصلا باعتبار أن الذكر يقوم بالدفاع الأول، ويمكن أن تَدعم ذلك مراجعتنا لظهور أقسى أنواع السلوك العدوانى عند الإناث (القطة مثلا) عند تهديد أطفالها حديثى الولادة بوجه خاص، أى أن الحفاظ على النوع (أطفالها) يثير لديها العدوان الصريح مباشرة.
وعلى نفس القياس يمكن تصور الفرق بين إبداع الرجل وإبداع المرأة، الأمر الذى أشرت إليه فى دراسة سابقة [3]. حيث أكدت على اختلاف المرأة عن الرجل اختلاف بداية وليس اختلاف هدف أو غاية وجود، كما أوضحت أن عجز التاريخ عن أن يرصد للمرأة تفوقا أو مساواة فى الإبداع مع الرجل لايمكن أن يفسره القهر الاجتماعى والاقتصادى الذى لحق بالمرأة فحسب، وإنما التفسير الذى طرحته هناك كان يتعلق بأن إبداع المرأة وقيامها بالدور الأهم فى الإنجاب: لم يحسب لها فلم يوضع فى الاعتبار أصلا، لأنه لم يكن فى بؤرة الانتباه ، مع أنه إبداع حيوى أساسىّ، فهو: إبداع الإسهام فى التطور: “إفرازا للحياة وليس بديلا عنها”، ثم يأتى إبداعها بالرموز والعلامات بعد ذلك نتاجا طبيعيا لتكاملها وليس بديلا انشقاقيا عن التكامل، كما يحدث عند الرجل فى بداية الأمر، وهذا يتفق مع مقولة وينيكوت [4] التى كانت أحد الأسس التى بـَـنـَـت عليها ذلك الفرض، وهى:
…. أن الرجل “فاعل”-ابتداءً- “ليكون” “to do ==> to be”،
أما المرأة فهى “كائنة – أصلاً – لتفعل” To be ==> to do.“
كما أن هرمون التستسترون لا يصح أن يعتبر هرمونا ذكوريا مجردا، فهو موجود فى الإناث من إفراز قشرة الغدة فوق الكلوية، كما أنه قد ثبت أن نسبته فى الإناث مسئولة مباشرة عن كفاءة الحياة الجنسية لدى المرأة، كما أن له وظيفة بنائية أيضية (ميتابوليزمية metabolic) كذلك.
وهكذا نعود لنؤكد أن دراسة الجذور الغريزية والبيولوجية للعدوان وتطوره ينبغى أن تأخذ فى الاعتبار كل مظاهر السلوك على سائر المستويات، الأدنى فالأرقي.
كما نؤكد مرة ثانية أن الفروق بين الجنسين هى فروق بيولوجية دالة، ولكنها فروق بداية مـَسـيـَرةْ وليست فروق غاية ومصير.
تطبيقات باكرة ومتابعات:
1- لاحظت أن بعض الأمراض النفسية، الدورية، خاصة الطيف الفصامى (أخطر إبداع مرضى) تتناوب مع الإبداع الخالقى بوجه خاص، بمعنى أن هؤلاء المرضى إذا أبدعوا فى فترات الإفاقة تميـَّـزّ إبداعهم بالأصالة والاقتحام وجرعة أكبر من الغرابة، كما لاحظتُ نفس الملاحظة ولكن بدرجة أقل بالنسبة لحالات صـَـرْعية معينة (والتاريخ يشير لمثل هذا التبادل أيضا فى حالة ديستويفسكى ونيتشة مثلا). مما جعلنى أفكر فى التكافؤ الوظيفى العكسى وراء هذا التبادل، وأبحث عن البديل الثالث فى الفترات الخالية من الصورتين، وكان هذا البديل الثالث هو العدوان المباشر بصور مختلفة [5] .
2- فى العلاج الجمعى كانت صور التعبير عن العدوان بمختلف أشكاله فى جو من “سماح” مسئول: ينفى احتمال السادية الانشقاقية، وكان مما يصاحب هذه النقلة -أحيانا- علامات بداية الولادة لإعادة الخلق الذاتى من جديد، مع اختفاء الأعراض [6] . هذا مع التذكرة بأن تحريك العدوان في أزمات النمو، ليس مرادفا للسلوك العدوانى دفاعا أو هجوماً.
3-فى علاج بعض حالات اضطراب نمط الشخصية (وخاصة الشيزيدى منها، النوع الرقيق الحساس بوجه خاص) كان ما يتفجر من وراء هذه الرقة بعد المرور “بالمأزق العلاجى” Therapeutic Impasse فى العلاج الجمعى خاصة: هو طاقة عدوانية وافرة لا يفسرها إلا التغير الذاتى الجوهرى أو الطاقة الثائرة المسئولة بما نعنيه بالإبداع الخلاّق [7] .
4- أثناء الإشراف على عدد من الرسائل الجامعية المتضمنة لخطوات تتطلب الحسم بالرأى الشخصى بمعنى الترجيح الإبداعى لتفسير جديد، أو لطرح الفروض، من خلال معايشة فينومنولوجية ذاتية، كان المعوّق الأول للباحث هو العجز عن العدوان، وبتعميق أكثر أو بتعبير أدق: الخوف من العدوان، وكان تدريبى لطلبتى لتخطى هذه الخطوة هو الممارسة الجسور لعبور هذا الخوف، وقد استطاع أغلبهم أن يحترم ملاحظتى هذه وحقق انتصارا مقداما بما يشبه العدوان.
5- فى خبرتى الشخصية كان أهم ما ساعدنى على اتخاذ موقف نقدى مغامر من أية مقولة أو بحث أو معلومة مطبوعة أو شائعة مسلم بها مهما كان مصدرها أو قائلها هو اجتيازى مرحلة الخوف من العدوان، إلى مرحلة التمكن من العدوان، وطمأنينتى للقدرة على ممارسته بسيطرة مناسبة على حساب القديم لصالح الجديد والآخر فى آن واحد، وأعتقد أن مما ساعد على ذلك مباشرة هى التجربة الخبراتية من خلال ممارسة علاجية طويلة فى مجال نوع العلاج الجمعى الذى أمارسه، والذى قمت فيه ومن خلاله بأبحاث متنوعة [8] .
المتابعات النقدية (فى الأدب)
خلال العشر سنوات الأخيرة، صدرت لى أعمال نقدية متعددة، رحت أبحث فى طياتها عن بصمات هذه الدراسة عن العدوان والإبداع، فاكتشفت أننى لم أعرض لها صراحة بأى قدر من المباشرة، وفرحت أننى لم ألتزم بتحقيقها، بل لعلى نـَـحـَّيتها جانبا بعيدا عن ظاهر وعيى بشكل ما.
لكن ثمة ملاحظات جديرة بالإشارة فى بعض هذه الأعمال، لا بد وأن تدل على موقفي، بقدر ما تُنَبّه إلى تحديد يمنع الخلط المحتمل من جراء تداخل المستويات وغلبة المضامين الشائعة، وأورد بعض هذه الملاحظـات التى رصدتها من خلال هذه المراجعة:
1- إن غياب السلوك العدوانى من عمل ما، مثلما أوضحت مباشرة فى قراءتى لرواية “الأفيال” لفتحى غانم [9] لا يستبعد زخم طاقة العدوان التى احتواها .. وقد وصلنى أن هذه الطاقة هى التى حركته فى إبداع هذا العمل ليتحقق هذا العمل المنتمى للإبداع الخلاق، بغض النظر عن خلو المضمون من صريح الفعل العدواني، كما أشرت فى النقد.
2- إن علاقة سمات الكاتب الشخصية، وخاصة فيما يتعلق بالجانب العدوانى فيها، تكاد لا ترتبط مباشرة لا بنوع الإبداع (خالقى/ تواصلى)، ولا بقدرته على تضمين عمله بما هو سلوك عدوانى صريح، ففى حين بينت فى قراءتى لرباعيات نجيب سرور أن ثمة تناسبا طرديا بين عدوانيته (شخصيا) وبين جرعة الهجوم الحاد المتلاحق الوارد فى رباعياته هذه، أشرت- على الجانب الآخر- إلى قدرة نجيب محفوظ (فى ليالى ألف ليلة خاصة) على تحريك القتل الإيجابى والسلبى فى كل اتجاه، الأمر الذى يكاد يتناسب عكسيا مع دماثته شخصيا وسماحه.
3- ضبطت نفسى – شاعرا – متلبسا بوصف القتل بالفروسية: [10]
القتلُ فعلُ فارسٌ،
حتماً يموتُ إنْ ظَلَمْ،
لكن دسَّ السمِّ فى نبض الكلامْ
قتلٌ جبان
5- فيما يتعلق بحركية الإبداع فى علاقته بالعدوان ما يرتبط بإسهام هذا المـُـنـّـطـّلق فى تفسير وتقييم بعض ما يحيط قضية الحداثة كما تتداولتها الآراء نقدا: قبولا ورفضا: ذلك أن الأعمال المتميزة حقيقة وفعلا، فيما يسمى الحداثة، هى التى تنتمى إلى هذا النوع الخالقى أكثر من غيرها، مع الاعتراف الأمين بأنه لا يوجد تصنيف سهل يعرف هذا النوع من الإبداع، وخاصة فى الشعر.([11]) ولكن هذا لا ينفى أن هذا النوع من الإبداع الخالقى الذى يكشف، ويقتحم، ويضيف، ويغامر بأشكال جديدة، ويخلق لغات ورؤى جديدة هو وارد فى أشكال أخرى، لا تنطبق عليها هذه التسمية -الحداثة- بشكل مميز (مثل ما ظهر فى دراستى لملحمة “الحرافيش” لمحفوظ)([12])
……………..
……………..
(ونواصل غدًا)
الخلاصة: المأزق – المواجهة – المخرج – المأزق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى، كتاب “الطب النفسى والغرائز (1) “غريزة الجنس” (من التكاثر إلى التواصل) و”غريزة العدوان” (من التفكيك إلى الإبداع) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022)
[2] – تحديث محدود لمحاضرة “الغريزة الجنسية” ألقيتها فى منتدى أبو شادى الروبى (15/12/1998) ضمن نشاط محاضرات لجنة الثقافة العلمية: المجلس الأعلى للثقافة.
[3] – يحيى الرخاوى “تحرير المرأة وتطور الإنسان، نظرة بيولوجية’ (1975) المجلة الإجتماعية القومية،(12)، العددان (2- 3)، (انظر أيضا ص 41، وما بعدها).
[4]- Winnicott، D. W. (1958) Collected papers: Through pediatrics to psychoanalysis. London: Tavistock publications.
[5]- وهو مما قد نواجهه فى صورة واضحة فى الطب النفسى المهتم بدراسات السير الذاتية للمبدعين.
– يحيى الرخاوى، حركية الوجود وتجليات الإبداع، الفصل الثالث، “قراءة في شهادات المبدعين والنقاد، ص320، المجلس الأعلى للثقافة، 2007
[6] – وقد أوحت هذه الملاحظة بفرض اقترحته على إحدى طالباتى د. عزة البكرى، فقامت بعمل بحث ضمن رسالة دكتوراة فى الطب النفسي، لبحث التفرقة بين مظاهر العدوان السلبى والإيجابى فى مسار العلاج الجمعى رسالة دكتوراة، كلية الطب، جامعة القاهرة 1990 (غير منشورة).
El Bakry, Azza (1990) Depressive and Aggressive Phenomena in Group Psychotherapy. M.D.Thesis, Faculty of Medicine, Cairo University
[7] – وقد تحقق ذلك فى البحث المشار إليه فى الهامش السابق، بقدر ما تحقق فى بحث آخر (تحت اشرافى) فى نفس مجموعة العلاج الجمعى العميق والممتد:
نجاة النحراوي، (1981) ”دراسة اكلينيكية فى بعض حالات البارانويا من خلال أعراضها (محاولة توضيحية)”. رسالة ماجستير. (تحت اشرافى أيضا) كلية البنات. جامعة عين شمس.
[8] – يحيى الرخاوى (1978) ”مقدمة فى العلاج النفسى الجمعي: عن البحث فى النفس والحياة” دار الغد للثقافة والنشر، وتم تحديثه فى (2019) بعنوان: (مقدمة فى العلاج الجمعى: من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق).
[9] – يحيى الرخاوى: “قراءة فى مستويات وجدل الوعى البشرى .. من خلال النقد الأدبى” (2019) دراسة “الحلم .. القبر.. الرحم في “الأفيال” لـ (فتحى غانم) (ص 81) - منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.
[10] – يحيى الرخاوي: جريدة الدستور بتاريخ 17-5-2006 بعنوان: “الذكاء والغباء فى السياسة والحكم !!”
[11] – يحيى الرخاوى: “رباعيات.. و..رباعيات” (2017) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.
[12] – يحيى الرخاوى: ”دورات الحياة وضلال الخلود .. الموت والتخلق فى حرافيش نجيب محفوظ” مجلة فصول المجلد التاسع – العدد الأول والثانى. أكتوبر 1990 (ص 153- 188)
وأيضا – قراءات في نجيب محفوظ” الطبعة الأولى (1990) الهيئة العامة للكتاب والطبعة الثالثة (2017) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.