نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 24-9-2022
السنة السادسة عشر
العدد: 5502
مقتطفات من كتاب: “الطب النفسى والغرائز (1)” [1]
الباب الثانى: “غريزة العدوان”(من التفكيك إلى الإبداع) [2]
العدوان وحركية الإبداع (1)
العدوان غريزة بقائية
يمر إنسان عالمنا المعاصر بأخطر مراحل تطوره، فقد أصبح تحت يديه من وسائل الدمار ما يبدو للوهلة الأولى أنه غير قادر على السيطرة عليها، ولابد أن قانونا – لا نعرفه فى الأغلب – يقوم بالمحافظة على استمرار بقاء حياة البشر على الأرض حتى الآن على الرغم من وجود كل هذه القوة المدمرة بين أيدى من لا يستعمل بقية خلايا مخه بنفس الكفاءة، ذلك أن طريقة تفكير الساسة الكبار عبر العالم، وسلوكهم الشخصى الدال على وفرة الدفاعات (الميكانزمات) التى تتحكم فيهم دون وعى منهم لا تــُـطـَـمـْـئـِـنُ أى شخص بأبسط حسابات المنطق السليم، ناهيك عن العالـِـم اليقظ.
من واجب العلماء البحث عن هذا القانون الخفى إن كان موجودا أصلا، ثم اختبار فاعليته واستثـماره وتطويره إذا احتاج الأمر، فإذا ثبت (أو صَوَّرَ لنا جهلنا) أن الحياة مستمرة بالصدفة، تحت زعم أنه ليس ثم قانونا خفيا أو ظاهرا: فالواجب أكثر إلحاحا هو العمل على إنشاء ذلك القانون الذى يساعد فى استمرارها بوعى لائق، ومسئولية مناسبة وحساب علمى قويم، وفاءً بأمانة ما نحمله بشرا!!.
مـِن أوْلى المناطق بالتنقيب لتحديد طبيعة مخاطر الدمار الذى يتعرض لها الإنسان المعاصر بجرعات متزايدة تلك التى تتعلق بالغرائز عامة التى يبدو أننا لم نعد نأخذها بالاهتمام اللائق بها، وذلك بعد ما لحقها من اختزال وتشويه باعتبار أنها أقرب إلى البدائية وليست من صميم نـِـعـَـم الفطرة.
الغرائز هى أقدم وأعرق وأهم تطوريا مما تلاها من وظائف، وهى التجلى الطبيعى لما هو فطرة، فطرة الله التى فطر الناس عليها، بل التى فطر كل الأحياء عليها، ومن حـَـمـَـل أمانة ما فـُـطـِـر عليه بحسن استعمال برامج النمو والبقاء استطاع أن يستمر، وهو للأسف لم يتعــَـدَّ الواحد فى الألف من كل الأحياء([3])، ومن بقى -وهو الواحد فى الألف! – عليه أن يواصل حمل الأمانة أو أن يلحق بالأغلبية،
ومن أولويات حمل الأمانة أن نتعرف على ما هو “ربى كما خلقتنى”: بالبدء فى مراجعة ماهية فطرتنا واحترام دور غرائزنا، بدلا من تهميشها واختزالها، فضلا عن تشويهها وسوء استعمالها لعكس ما خلقت له.
هذه المداخلة هى محاولة على هذا الطريق وهى تتناول الغريزة التى تمثل أصرح مظاهر القوة المنبعثة من طاقة طبيعية إذا عجزنا عن دراسة قوانينها وتوجيه مسارها، قد تنطلق -وفى يدها كل أدوات الدمار الجاهزة حاليا- فتقضى على البشر كافة، وقد تقضى على الحياة كلها بلا وعى، خاصة وأن الإنسان – كما يقول لورنز وتينبرجن - دون كثير من الحيوانات- لم ينمُ لديه جهاز للضبط والتوازن والتحكم فى نزعاته العدوانية، وهذا النقص قد يكون مسئولا عن تماديه فى الفعل العدوانى حتى أقصى نهايته، وهو القتل.
ذهب لورنز(وتينبرجن)([4]) إلى اعتبار أن الإنسان- دون كثير من الحيوانات المفترسة- ليس عنده كف غريزى للقتل بوصفه مفتقدا أية جوارح قاتلة (مخالب وأنياب)، بالتالي، وفى رأى لورنز، أنه لم يعد يحتاج لهذا الكف الغريزي، وهذا أمر يتطلب مراجعة بعد التدهور التدميرى الذى يعيشه إنسان العصر الحديث الذى خلق لنفسه مخالب وأنياب أمضى وأشمل تدميرا للحياة برمتها وليس فقط لعدوه من نوعه أو غير نوعه، ثم إن الإنسان هو الحيوان القادر على قتل أفراد من نفس جنسه، فهو يقتل:
(أ) بشرا لا يعرفهم “شخصيا”
(ب) وعن بعد دون أن يراهم
(جـ) وفى مجموعات.
بل لقد أصبح هذا القتل البشع فى ذاته من المنجزات الجديرة بالفخر، كما يقول روبرت جاى ليفتون([5]): “…إن كمية القتل قد أصبحت مقياس الإنجاز”. وفى ظل هذه الظروف، فإن مصيبة الدمار الفنائى قد باتت شديدة القرب بحيث لو حدثت هذه المصيبة فقد تكون إثباتا مروعا لزعم قائل: إن التركيب الانسانى فيه ما يشير إلى خطإ تطورى([6]) لو أنه استمر فهو سوف يؤدى إلى انقراض النوع ما لم نحول دون ذلك بكل سبيل ممكن!!.
لا يمكن أن ننساق وراء هذه المخاوف الانطباعية فى تشاؤم عدمى إلا أننا أيضا لا يمكن أن ننكرها لمجرد أنها بعيدة الاحتمال.
نبدأ البحث بتساؤلات محددة نحاول من خلال الإجابة عليها أن نحدد أبعاد المشكلة، ومن ثـَمَّ إمكان الخروج منها:
1- هل العدوان غريزة أصيلة لها صور تعبيرية مختلفة مع اختلاف الأزمان والأجناس، أم أن العدوان هو مجرد سلوك مكتسب طارئ، نتوقع له أن يزول بزوال مستدعياته؟
2- ما هى وظيفة العدوان البقائية، وما هى فرص التعبير عنه فى حياتنا المعاصرة وخاصة بالمقارنة بغريزة الجنس التى تتعلق أساسا ببقاء النوع؟
3- ما هى الاحتمالات المطروحة لمواجهة هذه الطاقة الغريزية تعليما أو ترويضا، أو تحويرا، أو إدماجا؟
محاولة تعريف مبدئى
لا يحتوى لفظ “العدوان” مضمونا واحدا (جامعا مانعا) متفقا عليه بالقدر الذى يـُـطـَـمـْـئـِـن إلى تناوله من نفس المنظور من كل الأطراف، فالتعريف السلوكى يصوغه “تينبرجن” كالتالى:
”العدوان - باعتبار السلوك الفعلى - يتضمن الإقدام تجاه خصم، وإذا كان فى متناوله فإنه يتضمن دفعه بعيدا وإصابته ببعض الأضرار بشكل ما، أو على الأقل إرغامه بمؤثرات تكفى لإخضاعه”.
نلاحظ هنا منذ البداية، ذلك التحفظ الذى وضعه تينبرجن، من حيث تحديد التعريف بنص اعتراضـى بقوله – باعتبار السلوك الفعلي- فلعل الخلط بين السلوك الفعلى وبين الموقف التهيئى دون فعل ظاهر، ثم بين هذا وذاك وبين غريزة العدوان- فى كمونها ونشاطها-، هو الذى وراء إغفال الأصل وإهمال الطبيعة الإيجابية، المحتملة التي تعرضها هذه المداخلة وبالتالى مضاعفات الجهل والتشويه؟
لتوضيح قصور مثل هذ التعريف المؤكِّد على الإقدام والإضرار دون غيرهما نطرح بعض التساؤلات كالتالى:
هل يمكن أن نقسم سلوكَىْ الكر والفر، باعتبارهما سلوكين متضادين ظاهرا، ونقصر كلمة العدوان على سلوك الكر Fight دون سلوك الفر Flight على الرغـم من أنه يصاحبهما نفس التغيرات الفسيولوجية تماما (مـثل زيادة نشـاط الجـهاز العصبى السمبثاوي)، مع أن سـلوك الفر قد يكـون تمـهيدا لسلوك الكر أو جزءا منه أو تناوبا معه لتحقيق نفس الغرض؟
وهل يمكن أن نتناسى صور العدوان السلبى: بالانسحاب أو الإلغاء أو المحو؟
الإجابة على مثل هذه الأسئلة هى بالنفى “لا يمكن”، وبالتالى فالمراجعة واجبة.
نبدأ بعرض تعريف مبدئى بديل يقول:
”العدوان هو الدافع أو السلوك (أو كلاهما) الذى يهدف للحفاظ على الفرد وجودا وذاتا -على حساب الآخر (من غير النوع عادة أو من نفس النوع، مؤقتا) وهو يشمل فى صورته البدائية: السلوك المقاتل المهاجم حتى الطرد أو القتل، ولكنه يتحور – مسلكا وموضوعا- بتحور مراحل نمو الفرد والمجتمع جميعا، وذلك من خلال تداخلاته مع مستويات الوجود الأخرى فى جدل وُلافىّ متصاعد على مسار النمو.
لن أبدأ بالدفاع عن هذا التعريف لأنه فى واقع الأمر غاية هذا البحث أكثر منه مسلمة ابتدائية.
نظرية الغرائز: موقعها الآن:
أصاب الغرور الإنسانى الأحدث “نظرية الغرائز” فى مقتل دون وجه حق، فقد ثارث نزعة مضادة ضد نظرية الغرائز وخاصة بعد مغالاة ماكدوجال([7]) فى تقديمها وتقسيمها، وقد توالت الضربات على نظرية الغرائز هذه من اتجاهين أساسيين: وهما الاتجاه السلوكى من ناحية، والاتجاه الاجتماعى من ناحية أخرى، وحتى فرويد لم يستطع أن يمتد تأثير موقفه بالنسبة لغريزة الجنس أساسا إلى ما يسمح بالدفاع المناسب([8])، فقد هوجم فرويد من خصومه، كما هوجم من أتباعه على حد سواء، ذلك أن كثيرا من الفرويديين المحدثين قد هاجموا بيولوجيته لحساب “نظرية العلاقة بالموضوع”([9]) Object relation أو العلاقات البينشخصية Interpersonal، فى حين أن أغلب السلوكيين قد ركزوا على التعـلم ونظرياته وآثاره فى إحداث المرض وإزالته على حد سواء، مستبعدين بإصرار أولوية أية غرائز ثابتة أوجاهزة، أوموروثة (من حيث التفاصيل على الأقل). ورغم زعم علماء النفس الإنسانيين (أمثال أبراهام ماسلو) بتغليب الخير فى أصول الإنسان البيولوجية (الشبغريزيةInstinctoid)، إلا أن لغتهم الأقرب إلى “الشعر الحالم” لم تدعم نظرية الغرائز بقدر ما غـَـيّـمت الجو حولها، الأمر الذى تفاقم أكثر فأكثر من جراء النظريات البعشخصية والعبرشخصية Transpersonal مما أفضّل أن أسميه “علم النفس التجاوزى”، ذلك أن هذه النظريات أفرطت فى التجاوزية الغائية حتى كادت تنفصل عن جذورها البيولوجية الغريزية.
إن مواقف اتجاهات علم النفس المعاصر، فى أغلبها، لم تدعم نظرية الغرائز بقدر ما حطت من قدرها أو أهملتها، وحتى غريزة الجنس (وهى أظهر وألمع من العدوان كما هى، وكما قدمها فرويد)، لم تأخذ حقها فى الاستيعاب البيولوجى/الوجودى المناسب، بل لعل بعض المشتغلين بالتحليل النفسى قد أساء إليها، وأضاف إلى تشويهها، بل إن فرويد نفسه لم يعطها حقها على الرغم مما شاع عن فكره، بل جعل كبتها والتسامى فوقها (بما هو “أخلاق” أو حضارة) هو السبيل إلى التحكم فيها، ثم إنه بالغ فى عقلنتها (فيما هو نظرية) على حساب إحيائها باعتبارها لغة تواصل أرقى وأشمل، حتى ليمكن أن نأخذ قول “لـورنز” مأخذ الجد حين يقول… “إن تناول فرويد للعمليات الغريزية فى الإنسان كان مـُـحـَـمـَّـلا بثقل الشعور بالذات لدرجة خليقة بأن تكتفى بإعلان الميل الشبقى بعيدا عن “فعل” الحياة، لتطيح باحتمال أن يحقق الانسان براءته التلقائية وانبعاثه الخلاق بحق”، ثم يمضى لورنز فيقول “..إن نظرية التحليل النفسى قد أُعِدّت لتصيبنا بحالة من “الجنس فى الرأس”Sex in the head([10])(الدماغ)، ولا أحسب أن هذا هو المكان اللائق به”
الأرجح أن المبرر وراء كل هذه المحاولات لتهميش الغرائز هو مبرر أخلاقى على مستوى ما من لاشعور أغلب هؤلاء المفكرين، بمعنى أنهم تصوروا أن التسليم بوجود غريزة مسبقة (أية غريزة كانت) يبدو تقييدا لحركة تطور الإنسان بشكل أو بآخر، والنتيجة المنطقية، والاستسهالية لهذه المسلمة الخطأ هو أن ننكر دور هذه الغريزة الإيجابى ابتداءً، أو على الأقل أن نتنكر له، متصورين أننا بذلك نفتح الآفاق، إذ يحدونا الأمل أن يحل التغير البيئى والتطور الثقافى محل التغيير البيولوجى (من وجهة نظرهم)، وقد دعم هذا المبرر الأخلاقى موقف الدارونيين المحدثين من علماء الوراثة الأقدم (فايتسمان ومندل أساسا) بتأكيدهم على استحالة وراثة العادات المكتسبة.
وعلى الرغم من كل ذلك فإن الغرائز مثلها مثل أى حقيقة صعبة، لا تختفى بالإجماع على تخطيها أو الخوف منها، أو نتيجة العجز عن تفسير مظاهرها السلوكية فى الوجود الانسانى المعـقـد، فكـان لابـد من إعادة النظـر فيها من مـدخل آخر، ومن عـجب أن يكون هذا المـدخل الجديـد هو من علم الإثـولوجى Ethology وبواسطة علماء الحـيوان Zoologists أسـاسا. وقد كـان لإسـهام لـورنزLorenz وتينـبرجـن Tenbergen([11]) فى دراسـة ظـواهـر مـثـل البـصـم Imprinting والــطـاقة الخـاصة الفـعـالة Action Specific Energy وإزاحة النشاط Activity Displacement. كان لكل ذلك أكبر الأثر فى فتح ملفات نظرية الغرائز بشجاعة مضاعفة، وكذلك إعادة النظر فى آراء الدارونيين المحدثين. وخاصة بعد تلاحق الأبحاث المهتمة بالتأكيد على إمكان وراثة العادات المكتسبة.
…………..
………….
(ونواصل غدًا)
لمعرفة هل العدوان غريزة أم اكتساب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى، كتاب “الطب النفسى والغرائز (1) “غريزة الجنس” (من التكاثر إلى التواصل) و”غريزة العدوان” (من التفكيك إلى الإبداع) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022)
[2] – تحديث محدود لمحاضرة “الغريزة الجنسية” ألقيتها فى منتدى أبو شادى الروبى (15/12/1998) ضمن نشاط محاضرات لجنة الثقافة العلمية: المجلس الأعلى للثقافة.
[3]- داڤید م. روپ “الانقراض” (1998) ترجمة: مصطفى إبراهيم فهمى- الناشر: المجلس الاعلى للثقافةالمشروع القومى للترجمة – القاهرة
[4]- لورنز وتينبرجن- Tenbergen فى كتاب:
-Kaplan H. (1967) Comprehensive Text Book of Psychiatry، Williams & Wilkins Company. P.180-188
– Linda R. Williams (1993) Sex In The Head Visions of Femininity and Film in D.H.
[5] – روبرت جاى ليفتون ناشط سلام واستاذ جامعه وطبيب نفسى ومؤرخ من امريكا درس فى كليه طب نيويورك وكليه طب ويل كورنيل فى جامعة كورنيل، روبرت جاى ليفتون من مواليد 16 مايو 1926
[6] – يقول آرثر كوستلر Arthur Koestler The Case of the Midwife Toad (1971).. إننا لو تتبعنا الخط المجنون الذى سار عليه تاريخ الإنسان فإنه قد يظهر أن هناك احتمالا كبيرا أن هذا الكائن العاقل Homo Sapien ليس سوى مخلوق بيولوجى شاذ، ناتج من خطأ واضح فى عملية التطور’ ويقول فى موضع آخر: إن ظهور القشرة المخية الجديدة Neocortex (فى الإنسان) هى المثال الوحيد فى التطور الذى أعطى نوعا من الأحياء عضوا لا يعرف كيف يستفيد من استعماله.
[7]- ماكدوجال هو صاحب نظرية الغرائز حيث أبرز أهميتها ووصفها بأنها المحر الأساسى والدافع الهام للسلوك وفى سنة 1920 أكد “مكدوجال” عل فكرة العقل الجماعى Group Mind واعتبره بأنه يسيطر على سلوك الجماعات المختلفة ويميز بينها ويرى أن العقل يمييز بين مكوناته الفردية.
– William McDougall. “The group mind” a sketch of the principles of collective psychology with some attempt to apply them to the interpretation of national life and character. (1920) Putman.
[8] – وكان الموقف أضعف بالنسبة لغريزتى الموت Thanatos والحياةEros اللتين تصدى لهما فرويد أيضا
[9]-Harry Guntrip, Schizoid phenomena, object-relations, and the self , Published by International Universities Press in New York, 1969 .
[10] – Sex In The Head Visions of Femininity and Film in D.H. Lawrence By Linda R. Williams, by Routledge, 1993
[11]- لورنز وتينبرجن- Tenbergen فى كتاب:
-Kaplan H. (1967) Comprehensive Text Book of Psychiatry، Williams & Wilkins Company. P.180-188
– Linda R. Williams (1993) Sex In The Head Visions of Femininity and Film in D.H.