نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 18-9-2022
السنة السادسة عشر
العدد: 5496
مقتطفات من كتاب: “الطب النفسى والغرائز (1)” [1]
الباب الأول: “غريزة الجنس”(من التكاثر إلى التواصل) [2]
تابع الملحق (1)
نشرنا أمس (نشرة 17-9-2022) نقد القصة الثانية “الوداعة والرعب” ”الجنس الصفقة” (الجسد اللحم) ونواصل عرض نقد القصة الثالثة “اتجاه واحد للشمس” الجنس اليأس (تراكمات الجوع والفقر).
رواية:”بيع نفس بشرية” (محمد المنسى قنديل)
القصة الثالثة: “اتجاه واحد للشمس”
الجنس اليأس (تراكمات الجوع والفقر)
وددت لو اكتفيت بهذه المقارنة بين جنس وجنس من واقع قصتين طويلتين، أو قل روايتين صغيرتين، كتبتا – فيما يبدو – فى زمن متقارب، إلا أنى عدت فقدرت أن النظر إلى قصة أقدم (وأقل جودة) قد يضيف بعدا زمنيا لتطور الكاتب،، كما قد يكشف لنا أشكالا أخرى للجنس لم تغب عن وعى الكاتب، مما يؤكد ما ذهبنا إليه مقدما من أن المؤلف إنما صارَ يستهدى بحدسه بأقل قدر من الوصاية.
وقد فضلت أن أكتفى بالاشارة السريعة إلى ما ورد فى هذه القصة الثالثة من تنويعات جنسية للوفاء بالغرض الذى أوضحته حالا، لكننى توقفت عند نوع منها غلب على أجوائها، وهو ما تعلق بالجنس مدفوعا بالفقر والجوع (على أكثر من محور) معلنا اليأس (تراكما.. ففجأة).
وقبل ذلك أقدم خطوط وجوّ هذه القصة الثالثة فى إيجاز:
تجرى أحداث هذه القصة فى مصنع له صاحب (“حاج” كالعادة)، وله مدير، ومساعد مدير، وبه عمال ورئيس لهم، بينهم أسطى (نقابى أو كالنقابى) يحب الآلات ويكره توقفها كما يكره أصحابها، وثمة كاتبة وعاملات.. الخ، ويدور الصراع تقليديا بين العمال من ناحية وصاحب المال من ناحية أخرى، وتتحدد العلاقات بالطريقة التقليدية، على محاور متعددة، لا تخلو من عاطفة هنا، وشذوذ هناك، وأفكار وتلميحات جنسية طول الوقت. ثم تنتهى بلقاء جنسى غير محسوب، بين عاملة شهية، وعامل فتى، على أكياس القطن فى عز النهار، فيضبطان، فينتهزها صاحب المصنع فرصة ليصرخ: “.. كأنه يعلن صيحة الجهاد: نجاسة” ويفسر بذلك ما أصاب آلات المصنع من عطب حتى توقفت جزاء وفاقا لهذا الإثم الذى يجرى بين عماله “..قطعت عيش العمال يا نجس يا ابن الكلب” (ص142).
فكيف ظهر الجنس متخللا نسيج القصة من البداية للنهاية؟
كان الجنس دائما فى خلفية الأحداث، كل الأحداث تقريبا، فكنت تشعر به، إن لم يظهر صريحا، وهو يتحفز متلمظا على جانب ما من وعى الجميع، وكان التعبير عنه فى كثير من الأحيان تعبيرا جسديا بدائيا، فالريس أحمد “.. تزداد حدة الأكلان لديه حين يشاهد بهية بجسدها الملفوف وساقيها.. الخ” (ص 115)، “واكتشفت بهية أن الريس أحمد مازال جالسا يحتك فى الجدار وهو يحدق فيها” (ص 118).
كذلك فقد فهمت، أو قدرت، أن قئ سامية المفاجئ كان تعبيرا جسديا عن مساومة إبراهيم (خطيبها مساعد المدير) الذى يقول لها: “الأمر لا يتطلب أكثر من أن تكونى ظريفة معه (مع المدير) متجاوبة قليلا” (ص 126)، “.. وكان لحمها حينذاك باردا مقشعرا، ولم يبد على وجهها تعبير من أى نوع” (ص 126).. وهكذا كنت أشعر فى كثير من الأحيان أن الجسد والأحشاء تتحدث بلغة بديلة وقوية ودالة كلما اقتربنا من ما هو جنس على أى مستوى.
كذلك تعددت الصفقات الجنسية بشكل صريح وعلى مختلف المحاور وبمختلف المقايضات، فهى لم تقتصر على صفقة لحمية مثل القصة الثانية، ولم تتحدد بثمن باهظ كما تحددت هناك، (جسد مقابل كيان)، لكنها كانت صفقات عابرة متناثرة ناقصة مجهضة دائما أبدا، هنا وهناك، على أن ثمة صفقة أساسية- لم تتم أيضا – تعلن صراحة وتحديدا هى تلك التى تتحدث عنها بهية “لم يتقدم من يشترى الصفقة كلها.. هى، ولحمها، ورطوبة فقرها..”، “.. كل الذين تقدموا كانوا يريدون التقاطها هى فقط.. جائزة ثمينة عن مجهود لم يقوموا به” (ص 120) وتبدو طبيعة الصفقة أكثر صراحة قالت لها أمرأة عجوز (بعد أن شهقت وبسملت): “… إن ثمنك غال فلا تفرطى فى نفسك.. – الرجال حيوانات لكنهم يفهمون الشئ الجيد وهم على إستعداد لدفع الثمن المناسب” “.. ثم دعِى المساومة لى” ثم “.. لا تتركى نفسك بالمجان” (ص 132).
كانت هذه أصرح صفقة معلنة ومباشرة، ومع ذلك فهى لم تتم، لأن تراكم الجوع وإلحاح اليأس أفسدا الحسابات (أنظر بعد).
ولعل الصفقات الثانوية الأخرى كانت تسير على نفس المنوال، صفقات بالأجل، وفى الخيال، ومع وقف التنفيذ.. الخ قس على ذلك علاقات رتيبة مع شنودة أفندى (دواء للخوف والوحدة فى مقابل القرش والزواج) “… خيل إليه أن جسدها يمكن أن يكون تابوتا دافئا لجسده”، إبراهيم مساعد المدير وسامية الكاتبة، علاوة للخطيب مقابل لين المدير “فى حدود الأدب”، ثم بنايوتى (صاحب المصنع السابق) مع شنودة أفندى: إرضاء شذوذ بنايوتى فى مقابل الاستعلاء… “القفز على أسيادك يا شنودة” وهكذا كلها صفقات مادية مختزلة ومحسوبة ومجهضة يحيط بها الحرمان ويطل من خلالها اليأس.
وتأتى النهاية لتؤكد أن الجنس هنا قد تفجر تلقائيا بلا صفقة ولا حتى غاية، فبهية صاحبة الجسد الذى يساوى الشئ الفلانى تجد نفسها فى لقاء عفوى مع عبد التواب، لقاء بدا أبعد ما يكون عن المساومة أو حتى اللذة الواعية المختارة، فكشف هذا اللقاء عن تراكمات الجوع والفقر حين تصل إلى حدة ملحة، فتدفع بهية – وهى تعلم – جسدها من اليأس إلى الجنس، فتلتقط بالصدفة رغبة ميتة من زميل منهك “… كانت جائعة.. وعليها أن ترضى بفتات الطعام.. وفتات الرجال.. إذا كان هناك رجال” (ص 120)، وقد كانت تظن أنه لا يوجد من يملأ عينها ويستأهل جسدها فضلا عن أنها كانت محاطة طول الوقت بــ “رطوبة فقرها” “… كانت بهية متعبة وجائعة إلى درجة الحزن” (ص 137)، ثم “.. يطل عليها وجه عبد التواب يحملق فيها ولا يحمل إلا مزيدا من الغبار والتعب والرغبات الميتة…” (ص 132)، لاحظ إلى أى مدى وصل الانهاك، ثم لاحظ “الرغبات الميتة” فماذا يقفز إلى وعى بهية بالمقابل وقد وصلت رطوبة الفقر ولسع اليأس إلى مداهما؟ فورا تتذكر قول المرأة العجوز: “لا تتركى نفسك بالمجان” (ص 132) لكن الواقع والانهاك لا يسمحان بالمساومة فالشوارع تضيق من حولها وتمتلئ بالعيون الواسعة بدون أهداب، بالدكاكين الفقيرة الترابية، إذن فالفقر يتحدى، واليأس يتقدم، وكل شئ يضيق، وحين التقى الجسدان لم ينجذبا إلى بعضهما، وإنما التقيا بفعل قوى طاردة (الجوع والفقر واليأس) وكأنهما تصادما إبتداء، لم تكن ثمة رغبة دافعة أو دافقة، ولكن بعد الصدام تحرك المجهول بشرارة المصادفة، وليكن ما يكون، فلم يعد هناك ما يعد بانتظاره “..كانت مشمئزة ومتعبة، تحس برغبة لشئ مجهول”، “..كان مقبلا عليها ككابوس، كحلم بلا لون” (ص139) فهل بقى بعد ذلك مجال لتأويل؟
وهكذا نرى نوعا آخر من الجنس يحدث عفوا بفعل قوى طاردة تتصادم بسببها أجساد وكيانات منهكة يحيطها اليأس وينخر فيها الجوع ويُذِلها الحرمان فلا صفقة لـَـحـْمـِـية، ولا تفجُّر طبيعة، ولا شئ يبقى بعد شرارة المصادفة، اللهم إلا الوشم بالنجاسة والنبذ والاتهام.
وبعد
فلقد حاولت بهذه القراءة أن أقدم للقارئ (وللكاتب على حد سواء) محاولة قراءة مجتهدة، فيما هو جنس، تلك المنطقة التى يتصور الناس أن العلم قد أحاطها من كل جانب، فى حين أن الإبداع الصادق هو القادر على كشف طبقاتها، ولغاتها، ومحاورها، طالما يحرك الإبداع وعيا مخترقا، وحدسا نشطا، دون وصاية أو نمطية.
وهذا ما فعله محمد المنسى قنديل قبل وبعد كل شئ.
****
(ونواصل الأسبوع القادم)
بعرض الباب الثانى:“غريزة العدوان” (من التفكيك إلى الإبداع)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى، كتاب “الطب النفسى والغرائز (1) “غريزة الجنس” (من التكاثر إلى التواصل) و“غريزة العدوان” (من التفكيك إلى الإبداع) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022)
[2] – تحديث محدود لمحاضرة “الغريزة الجنسية” ألقيتها فى منتدى أبو شادى الروبى (15/12/1998) ضمن نشاط محاضرات لجنة الثقافة العلمية: المجلس الأعلى للثقافة.
وهكذا نرى نوعا آخر من الجنس يحدث عفوا بفعل قوى طاردة تتصادم بسببها أجساد وكيانات منهكة يحيطها اليأس وينخر فيها الجوع ويُذِلها الحرمان فلا صفقة لـَـحـْمـِـية، ولا تفجُّر طبيعة، ولا شئ يبقى بعد شرارة المصادفة، اللهم إلا الوشم بالنجاسة والنبذ والاتهام
التعليق
اظن ان هذه القصة مكملة للسابقة ربما فسرت كيف كان الهروب الاجبراي من عري الاحاسيس والرغبات الذي لمح به في القصة السابقة حين ذكر ان العري كان تذكرة الدخول عري الجسد وعري الاحاسيس والرغبات ..
”خيل إليه أن جسدها يمكن أن يكون تابوتا دافئا لجسده”
التعليق:
لفت انتباهي ايضا استخدام تابوتا دافئا لجسده وليس لمشاعره او رغباته ..
إلى أى مدى وصل الانهاك، ثم لاحظ “الرغبات الميتة” فماذا يقفز إلى وعى بهية بالمقابل وقد وصلت رطوبة الفقر ولسع اليأس إلى مداهما؟
التعليق:
ما اقسى ان يكون الجسد وليس شئ اخر اداه لدفن المشاعر والرغبات حين تصل حد الانهاك ..حتي شبهه الكاتب بالتابوت حين قال
”خيل إليه أن جسدها يمكن أن يكون تابوتا دافئا لجسده”
شكرا استاذنا د. يحيى علي هذا الابداع المتجدد دائما
سؤالي هل الجنس وغاياته في المجتمعات الغربية أكثر وضوحا من مجتمعاتنا؟؟
هل سنظل نختبأ ونخاف من الحديث في كل ما يخص الجنس؟ الي متى؟
شكرا جزيلا لحضرتك