نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 10-9-2022
السنة السادسة عشر
العدد: 5488
مقتطفات من كتاب: “الطب النفسى والغرائز (1)” [1]
الباب الأول: “غريزة الجنس”(من التكاثر إلى التواصل) [2]
تابع الملحق (1)
نشرنا الأسبوع الماضى (نشرة 4/9/2022) مقدمة نقد للقصص الثلاثة التي تضمنها هذا العمل الفريد “بيع نفس بشرية” (محمد المنسى قنديل) ونواصل اليوم الجزء الأول وهو عن نقد القصة الأولى “الجنس الفيّض”
القصة الأولى: “بيع نفس بشرية”
“الجنس الفيْض”
(أ) صلاة الطبيعة: فيض نهر جار
(ب) فيضان الشهوة يقتحم
هذه القصة وصلتنى كأفضل قصص المجموعة: – مع تميز المجموعة كلها- وكان المحور الأساسى الذى تدور الأحداث حوله فى هذه القصة هو محور “القهر” بكل تنويعاته، فمصطفى (المدرس المصرى المغترب فى الخليج) مقهور بفقر أهله، وإلحاح حاجته، والخادمة الفلبينية “ماتيلدا” مقهورة بفقر وطنها وأسرتها وبطالتها..، وصديق وزميل مصطفى (المواطن) المدرس الخليجى “صالح” مقهور بطبقته الأدنى، وتاريخ الظلم اللاحق بأسلافه، وحتى ”السيد” الشيخ نفسه- يمكن لمن يريد أن يراه- مقهورا باستعباد لذته وشذوذه له.
ووسط هذا الجو من القهر من الداخل والخارج، كان للقارئ أن يتوقع أن يظهر الجنس كأحد أبعاد هذا القهر لو أن المؤلف قد تسطح فرسم لنا صورة شيخ سيد فرعون، وجارية مهيضة سلبية، الأول يفرض على الثانية ما يشاء، فلا تملك إلا أن تستسلم رغم إرادتها، أو رغم تعلق قلبها بحبيب شاب تركته فى بلدها، أو حتى رغم أحلامها بالتحرر ضد ضغط أهلها المحتاجين..الخ، وحين يحدث ما يتوقع القارئ “هكذا”فإننا نكون قد ابتعدنا عما هو إبداع راسخ آمادا بعيدة، لكن هذا، أو مثل هذا لم يحدث إلا قليلا، فماتيلدا ليست خادمة أسئ استعمالها جنسيا ضد ما توقعت، أو غير ما توقعت، فهى لم تأت شغالة ففوجت بنفسها جارية فى حريم السلطان، بل هى واعية طول الوقت بطببيعة العقد وشروطه غير الخفية.
ولعل أول صدمة إبداعية تفيق القارئ من الاستسلام لتوقعاته هو هذا الاعتراف السهل الذى يعلن وعى ماتيلدا بما يجرى، بل إنه يتضمن إرادة له، ذلك أنها أعلنت – بشكل أو بآخر- رضاها بهذا الدور الذى تقوم به، من حيث المبدأ على الأقل،
يقول مصطفى لها متسائلا (مثل القارئ):
- عندما جئتِ إلى هنا… ألم تكونى تعرفين أنك ستصبحين عشيقة؟
فترد:
- هذا لايهم، أخ أكبر، أنا أحب ممارسة (الجنس)، هذا أفضل من الأعمال المنزلية.
ثم نتبين بعد قليل أن اعتراضها، ومن ثم هروبها، لم يكن على أنها استُعْمِلت جنسيا، بل على أن طريقة الشيخ كانت مـُرعـِبة .
ومن هذا المنطلق نبدأ فى التعرف على الوجه الأول لهذا الفيض الجنسى، إذ نتعرف على هذه الطفلة السهلة القوية فى تسليمها واختراقها معا، ولعل القارئ العربى بوجه خاص لا يستطيع أن يستوعب – بسهولة- هذا النوع من الطفولة الجنسية القوية السهلة، مع أنه كان الأولى بذلك بما يحمل تاريخه من “زواج الطفلات”، وأصناف الجوارى فى أروقة الحريم من كل لون، وسن، وطبع، فهذه الجوارى الأحدث من الفلبين (أو لبنان..أو فلسطين!! أو البوسنة) لا يفترقن فى كثير أو قليل عن الجوارى الأقدم، اللهم فى ألفاظ العـَقـْد، وتحديد المدة، وطريقة إشهار العقد.. وما إلى ذلك، فقديما كانت الجارية المشتراة تصبح ملكا لسيدها لحين إشعار آخر (البيع أو العتق أو الموت)، أما الآن، فالجارية الأحدث تؤجـَّر بعقد محدد المدة، بمقابل مادىّ شهرى فى العادة، وما أسهل أن تـُـلفظ أو تستبدل بأقل التكاليف، وأحسب أن هذا النظام الأحدث هو أقسى وأنذل، فليس فيه أمان التسليم من سيد إلى سيد، وليس فيه ضمان ضد سوء الاستعمال، أقول: إنه كان أولى بالقارئ العربى أن يفهم، أو على الأقل “يحسن استقبال” هذا النوع من العطاء الجنسى، حيث على المرأة (الجارية) أن تعطى جسدها- بل نفسها أيضا- بلا تمنع أو حرج، ولا تململ من قهر وبلا أمل فى مقابل أكثرمما ورد فى عقد الشراء أو الإيجار، فلماذا- فى تقديري- صَدَم الكاتب قارئه بهذا التسليم الاختيارى من ماتيلدا؟ أو قل كيف حدث ذلك؟
خيل إلى أن الجنس قد أصبح فى كثير من الأحيان عند العربى (أو قل عند المصرى المتوسط كما عاينته من خبرتى المحدودة) قد أصبح علاقة قهرية بالضرورة، فلم يعد واردا على وعى الإنسان المصرى – مثلا – حتى فى العلاقة الزوجية المدعمة بعقد مكتوب، ودين مشروع، ومجتمع شاهد، حتى فى هذه العلاقة الظاهرة: شرط التراضى، فإن الجنس قد لا يعدو أن يكون قهرا طبيعيا مشروعا بعقد، وليس فى جنس ماتيلدا أى قهر ظاهر، وهكذا يفاجأ القارىء العربى العادى بهذا النوع من العطاء الجنسى السهل، الإرادى والواعى، فى ظروف تسمح بكل هذه السهولة والجاهزية.
ومن خلال هذا الحضور “الجاهز” لهذه الطفلة الفلبينية “تحت الطلب” حتى لو كان الطالب الشيخ الشاذ نفسه، أقول من خلال ذلك بدأنا نتعرف على وجهى “الجنس الفيْض”:
أما الوجه الأول فهو ما أسميناه “النتح السهل النشط” أو “النتح الدافق”: حين يبدو لنا العطاء ليس مرتبطا بمومسية “للتصدير” كما تورط المؤلف ففسره فى البداية، حين أعلن أن هذه الإباحية متعلقة بغربة ما تيلدا: “خارج الوطن كل شئ مباح”، ذلك أن ماتيلدا بعد أن أعلنت تفضيلها هذه “الخدمة” عن أعمال المنزل، راحت تؤكد أن هذا هو موقفها المبدئي. “هنا” و “هناك”، فإنها بعودتها إلى الوطن، سوف تسترد “روح الأرز”… (سوف آكل قليلا، وأمارس الحب كثيرا، ولكن مع من أختار، النقود تأتى بعد ذلك)([3])، وهى لا شك تفضل، بعد هذا الموقف المبدئى المعطاء، تفضل أن يكون شرط عطائها أن يرغبها الشريك رغبة حقيقية، متضمنة بداهة فهما وتقبلا، وربما احتراما، لكل ذلك فهى حين عرضت نفسها على مصطفى، راحت تنفى طبيعة الصفقة كأساس للتقارب، وإن لم تنفها ضمنا، فراحت تؤكد أن عرض نفسها عليه ليس ثمنا لكرم إجارته، فهى لم تكن أبدا فى حاجة إلى التنبيه الذى أعلنه فى قوله “لا أريد ثمنا، حياتك ملكك، وجسدك أيضا”، فقد أكدت له أن المسألة ليست ثمنا أو مقابل، بقدر ما كان شرطها الأول (وربما الوحيد) هو أن “يريدها”، أن “يرَغب فى ذلك”، وقد تدخل الكاتب بوعى “لاحق”، حين أردف شارحا: “… كانت تريد أن تدفع له، ولم تكن تملك غير هذا الجسد الصغير”، وقد رفضتُ - قارئا- هذه الوصاية من جانب الكاتب على شخوصه الذين كانوا يستقلون عنه معظم الوقت لكنه كان أحيانا يلاحقهم بتفسير هنا، ووصاية هناك، فأزيحه – قارئا- وأمضى إلى مخلوقاته مباشرة دون خالقهم، ولقد أشرت إلى مثل ذلك فيما سبق حالا حين فسر سماحها الجنسى بغربتها خارج الوطن، ولعل هذا بعض ما عنيته بقولى فى التقديم العام أنه مبدع رغم أنفه فى بعض الأحيان.
ثم أعود إلى المخلوقة الصغيرة – دون خالقها الكاتب- لأؤكد مرة أخرى أنها صاحبة موقف مبدئى قوى بغض النظر عن الشريك أو الثمن اللاحق، وهى لا تهتم بتسمية ما تفعل، لكنها حتما “تفضلهم راغبين” (..يجب أن ترغب فىّ حقا، أرجوك كن راغبا فى).
ثم ننتقل إلى مزيد من إيضاح معالم هذا الوجه “النتح الدافق” لهذا “الجنس الفياض” فنشكر المؤلف على تفصيلات المشهد (ص 39 وما بعدها)، حيث أورد تفصيلات هامة ومحددة قد تؤيد ما ذهبنا إليه:، ومن ذلك:
1- فقد أكد على أنه: صلاة:
”… وضعت يدها على رأسها وأخذت تحرك شفتيها كأنها تتلو صلاة جنسية خاصة” (ص39). “…. يتلو من خلال عرقها المشترك صلاتها الخاصة لإله المتعة” (ص 40).
وهى صلاة فى ذاتها، وكذلك فهى صلاة فى تأليهها للشريك الرجل:
“… أنت إلهى - دع عبدتك تقوم بكل العمل- أنا عبدتك الصغيرة، أنت إلهى الصغير” (ص 39). “…علمتنى أمى أن الرجل إله صغير- تركته ينهض ويمارس الوهيته الصغيرة” (ص 40). “.. ثم كأنها تقوم برقصة وثنية لإله شره، تقبل أصابع قدميه وأطراف شعر رأسه فى آن واحد”(ص40).
(ملحوظة): شعرت أنه لم يكن هنا مبرر لذكر الشراهة بالذات، وكان هذا من بعض ما اعتبرته “الوصاية اللاحقة”، أو “التزيد المـُخـِل”، مثل ذلك مثل السؤال الذى بدا لى جسما غريبا حين قال لها:
”… أنت تقومين بكل شئ، أين متعتك الخاصة” (ص 40) فلم يكن السياق يسمح بذلك: لا حرارة الفيض، ولا تلاشى الكيانات، هذا ما خيل إلىّ، (ولكن: المؤلف أعلم!!)
2- ثم كـَـمْ هو واضح فى هذا الجنس: حوار الأعماق:
فهو ليس مجرد صفقة “لحم فى لحم” (أنظر بعد: القصة الثانية)، وهو ليس تنويعات على لحن اللذة الخالصة، لكنه تكامل الوجود من خلال لغة جسدية لها حرارة التواصل إلى أعمق طبقات الوعى بالآخر. “ … وكان لسانها داخل فمه… كأنها تحاول النفاذ إلى أعماقه” (ص 39) (قارن المقابل لذلك فى الجنس الصفقة- القصة الثانية حيث كان اللسان هو ذنب ملكة النحل القاتل) [4] :
”… تدس أنفها فى كل قطعة من الثياب، تدخل رائحته بداخلها حتى تتشبع بها، رغبتها الحارة تنبعث من داخلها مباشرة” [5]
3- “حولت كل خلية من خلايا جسده إلى نقطة بالغة الرهافة تتشرب بالمتعة” (ص40). ” … تتجمع كل أحاسيسه فى نقطة ثم تنفرط على جسده كله”(ص 40).
هذا، وقد وصف “جانوف” [6] أثناء علاج الصرخة الأولى أن أحد مرضاه من الرجال كان يشعر بذروة الشهوة (الأورجازم) مركزة فى طرف قضيبه ليس إلا، لكنه حين يخترق حواجز جسده بعلاج الصيحة(!!!) ينتشر الشعور اللذّى فى قمة عضوه إلى سائر جسده، والمؤلف هنا يحسن التعبير الذى يوحى بأن الجسد ككل، وليس العضو الجنسى كموضع معزول، هو الذى يمارس هذا النوع من التواصل المتكامل.
وهذا الحوار (حوار الأعماق) لا يتوقف عند عمق الداخل، لكنه ينتشر إلى دوائر الخارج:
”عندما قبض على جسدها أحس كأنه قد أوقف النجوم عن حركتها”(ص40).
…………………
………………..
(ونواصل غدًا)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى، كتاب “الطب النفسى والغرائز (1) “غريزة الجنس” (من التكاثر إلى التواصل) و“غريزة العدوان” (من التفكيك إلى الإبداع) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022)
[2] – تحديث محدود لمحاضرة “الغريزة الجنسية” ألقيتها فى منتدى أبو شادى الروبى (15/12/1998) ضمن نشاط محاضرات لجنة الثقافة العلمية: المجلس الأعلى للثقافة.
[3] – محمد المنسى قنديل: رواية “بيع نفس بشرية” روايات “دار الهلال” (عدد أغسطس 1987)
[4] – محمد المنسى قنديل: رواية “بيع نفس بشرية” روايات “دار الهلال” (عدد أغسطس 1987)
[5] – يحيى الرخاوى: “إعادة قراءة فى مصطلحات شائعة، قراءة مصطلح الانحراف الجنسى” مجلة الإنسان والتطور الفصلية – عدد أكتوبر – ديسمبر 1998.
[6] – Janow A. (1970) Primal Scream، New G.P. PPutman،s Sons