نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 3-2-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 5999
مقتطفات من كتاب:
“الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور”[1]
الفصل الثالث:
حالة إعاقة “أيديولوجية”!!! (من العلاج الجمعى)
من أصعب ما يواجه الطبيب النفسى أن يعالج “أصحاب المبادىء الثابتة”، ليس مهما أن تكون المبادئ سليمة، أو صحيحة، أو أصح، ولكن الصعوبة تأتى من أنها ثابتة، والمتابع لقراءاتى فى مواقف ومخاطبات مولانا النفرى وحوارى معه – فى موقعى كل ثلاثاء – وهو يعلمنا خطورة العلم المستقر، وأيضا خطورة الجهل المستقر، لابد أن يكون قد بلغته خطورة هذا الاستقرار الجاثم على حركية نمونا، “إليه”، الجاثم بالعلم أو بالجهل فما بالك بالفكر المستقر، والنظرية المستقرة التى هى مرادفة للأيديولوجيا.
إن ما يهمنا هنا هو ذلك الإنسان المريض الذى جاء يعانى لأنه قد سبق له أن تورط – بوعى أو بغير وعى – فى تقديس مبادئ ثابتة بقوة التاريخ، أو النقل، أو الترهيب أو الترغيب أو “أى تقديس” لأية منظومة مستقرة، ثم نكتشف أن هذه المبادئ قد استعملها صاحبنا كدفاعات يتماسك بها حتى راحت تحمى تماسكه الشخصى بنجاح ذاتىّ محدود، كآلية دفاعية ثابتة أو متكررة أساسا، أكثر منها كموقف أو كمذهب عام قابل للاختبار سعيا إلى إقامة العدل وتحريك التطور على أرض الواقع لكل الناس؟ هذا الشخص كان، غالبا وما زال، يستعمل الأيديولوجيا تماما كما يستعمل شخص متدين الدين المؤسسى، ليس لتسهيل رحلته إلى الإيمان كدحا إلى وجه الحق، وإنما يستعمله ليستقر فى موقعه بعيدا عن حركية نموه التى هى موازية -غالبا- لما أسماه كارل يونج: تجربة الرب، هنا يصبح الدين آلية دفاعية Mechanism تماما مثلما تصبح الأيديولوجية الاشتراكية المغلقة آلية دفاعية، وطالما نجحت هذه الآلية هنا أو هناك من قبل أن يمرض صاحبها، أو دون أن يمرض أصلا فليس للطب النفسى ولا العلاج النفسى حق حتى فى مجرد نقدها فى ذاتها، إنما ينشأ الإشكال حين يأتى صاحب هذه الآلية (فى الدين الجامد أو الأيديولوجى المقدسة)، ويعانى نفسيا، فيجد الطبيب نفسه مضطرا إلى التلميح أن هذه الآلية التى قامت بالواجب فيما قبل المرض، معرضة للفحص والنقد وإعادة النظر أثناء العلاج، مثل أية آلية أخرى.
هنا يقفز عامل آخر، وهو ما ألمحنا إليه فى مواقع كثيرة. هذا العامل هو: ماذا عن أيديولوجية المعالج نفسه؟ وكيف يمكن أن تكون عاملا فاعلا بعلمه أو بغير علمه فى مسيرة العلاج؟ وهل يمكن أن يزعم المعالج أنه محايد فى حين أن داخل داخله قد يحكم على أيديولوجية مريضه بالزيف أو بالفشل أو بالعبث أو بالاغتراب أو بغير ذلك؟
فى أغلب البلاد المتقدمة يـُتـَجنب هذا الحرج حين يمتنع الطبيب – بنفسه أو بالعرف أو بالقانون – أن يسأل مريضه عن دينه أو عن توجهه السياسى، وكأن مجرد تجهيل هذه المنطقة عند المريض، مع تصور الطبيب أنه أخفاها أيضا بالنسبة لنفسه (إيش أدراه؟) يمكن أن يصبح العلاج أكثر موضوعية، طبعا هذا كلام يحتاج للمناقشة [2]
إذن ما العمل؟
ليس عندى اهتمام مباشر بالعمل السياسى، وإن كنت سياسيا رغم أنفى – مثل أى شخص يعيش فى مجتمع تـُنـَظـِّمه سلطة ما: تدير أمور ناس مختلفين، ليحققوا تعاونا جماعيا فى اتجاهٍ ما – تقفز لى هذه القضية بشكل شخصى حين اضطر، ولو بينى وبين نفسى: أن أتساءل عن موقعى الشخصى من هذا المذهب السياسى أو ذاك، وأيضا عن موقفى من هذا النوع من التدين أو ذاك، وهى قضية تحتد حين أواجـَه بمريض صاحب مذهب واضح محدد، أو صاحب أسلوب فى التدين راسخ جامد ثم يأتى يسألنى النصح، فيقفز لى خاطر – وأنا متردد- أنه لو كان على صواب فى مذهبه هذا أو فى طريقة تدينه، لـَمـَا مَـرِض، ولما جاء يستشيرنى – وهكذا أسأل نفسى بشكل مباشر أو غير مباشر أين مذهبه مما حدث له، وأين أنا من هذا المذهب؟
لا يجوز أن يجرى الأمر كذلك، وفى هذه الحالة (حين أضبط نفسى متلبسا بهذا الموقف)، أتصور أننى كان يمكن أن أعفى نفسى من هذا الحرج بأن أدّعى الحياد، لكننى عادة لا أستطيع فأتقدم خطوة لأعامل هذا الموقف الأيديولوجى الجامد أو طريقة التدين المستقرة بلا حراك، أعامل هذا أو ذاك باعتباره ميكانزم معرض للاهتزاز مثل أى ميكانزم، وهكذا تبعد القضية عن منافشة المحتوى (مضمون الأيديولوجى، أو مضمون طريقة التدين) إلى العمل على إنجاح أىٍّ منهما كما كان ناجحا فى الحفاظ على تماسك صاحب أيهما متوازنا غير مريض، وقد أضطر اضطرارا إلى فتح باب إعادة النظر فى محتوى تقديسه إذا ثبت أنه عامل معوق لاستعادة توازنه فصحـّته أملا فى إطلاق مسيرة نموه، وهو نفس ما نلجأ إليه فى التعامل مع أى ميكانزم.
هناك بـُـعد آخر ينبغى وضعه فى الاعتبار بشأن مثل هذا المريض، قبل وبعد تعلقه بمنظومته الدفاعية: أيديولوجية حديثه كانت أو دينا، ذلك أن بعض هؤلاء المرضى الذين يحضرون للعلاج يعلنون أن ما ألمّ بهم من مرض أو إعاقة إنما يرجع إلى تدهور قيم المجتمع عامة، والظلم السائد فيه، والاغتراب الغالب عليه، والبعد عن المبادئ السليمة، التى هى مبادئهم جدا، وكذا وكيت، وكأن الحل ليس فى أن يشفوا هم، حتى يستطيعوا أن يواصلوا تغيير ما يعترضون عليه بالثورة أو الإبداع أو الإصلاح أو أى دور يرتضونه، بل إن بعضهم يلح على الطبيب أن يفهم أنه لن ينصلح حال مرضه، ولن يشفى إلا إذا انصلح حال المجتمع، وكأنه بذلك يبلغ الطبيب ضمنا أن مهمته – حتى يشفيه – هى أن يُصلح حال المجتمع، ويقيم العدل، وربما يعيد توزيع الأرزاق، طبعا المريض لا يقول هذا بالألفاظ، ولكنه يحيل أية معاناة إلى مثل هذه الأسباب ويلقيها فى وجه الطبيب وينتظر.
فى كثير من هذه الحالات لاحظتُ كيف تحل المناداة بالمبادىء المثالية، سماوية كانت أم أرضية، محل الحياة الواقعية اليومية، وفى خبرتى تبدو المبادىء التقدمية أو الاشتراكية أو اليسارية أكثر إغراء من غيرها، فكنت كثيرا ما أتبين أن المناداة بهذه المبادىء بكل هذا الحماس، وبكل هذا الكلام، فى الموقف العلاجى، يكاد يكون نوعا من إعلان ضمنى بعدم الالتزام بالمشاركة فى تحقيقها، وبرغم ذلك، فقد لاحظت من بعض أصحاب هذه المبادئ أنهم أحيانا يحضرون وعندهم تصور عن أيديولجية أو دين المعالج (من مقال قرأوه للمعالج، أو حديث سمعوه منه، أو شاهدوه فى التلفاز أو خبر تناقلوه …إلخ)، وحين يكتشف الواحد منهم أن المعالج ليس كما تصور (ليس اشتراكيا، ليس مستشيخا، ليس مثاليا …إلخ) تهتز ثقته به إن وجده لا يتفق مع توجهه، وقد يتراجع، أو قد يواصل متحديا تنويريا مرشدا أحيانا، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر أحيانا أخرى، وما لم يأخذ المعالج حذره بأن المسألة العلاجية قد تنقلب إلى مناقشات سياسية أو اقتصادية أو فقهية، تضيع معالم المهمة العلاجية، وتبهت محكات قياس التقدم فى العلاج.
لاحظت فى العلاج الجمعى بوجه خاص أن أكثر أفراد العلاج اغترابا عن التفاعل النشط فى ”’هنا’ و’الآن'” هم الجاهزون بهذه الأفيشات البراقة، وحين كنت أصر أن أجذب بعضهم إلى “اللحظة الراهنة”، كان الواحد منهم يكاد يطلق عدوانه بلا هوادة احتجاجا على “رجعيتى”، وقد يشك فى محاولة غسيلى لمخه لأخلع عنه أيديولوجيته.. الخ” وبالتالى قد يتردد فى وضع الثقة، أو حتى فى استمرار العلاج احتجاجا على بعدى عن التعاليم المقدسة (أيديولوجيا أو دينيا) التى يؤمن هو بها”..، وقد يشترك مريض أو أكثر- خاصة فى العلاج الجمعى- فى نفس الأيديولوجيا (من قبل أن يحضروا العلاج أو أثناء فترة العلاج)، وهنا يدعم دفاع أحدهما الآخر فتظهر ظاهرة التزاوج Pairing التى وصفها بيون Bion كإحدى الافتراضات الأساسية Basic Assumption فى العلاج الجمعى.
وكما يستغرق الشخص الرأسمالى فى جمع المال، ويكتمل اغترابه حين ينسى أن هذا المال ليس إلا وسيلة لتحقيق فرص أوسع لحركية نموه، وإطلاق حيويته، وتأمين وجوده.. ومن ثم اكتساب حرية داخلية آملا أن تعقبها فاعلية الإبداع والعطاء، كذلك فإن مثل هذا الشخص “المبادئى كلاما” قد يستغرق فى تكريس الأفكار والمبادىء وتسلسل المنطق والدفاع النظرى عن أيديولوجيته ليحقق الانتصار “النقاشى”، فيكتمل اغترابه بالابتعاد المنظم عن ذاته وعن أرض الواقع الفردى وعن مواجهة مشاكل الوجود الجماعى فى نطاقها الحى، كل هذا قد يكون مقبولا ومفيدا فى مجال آخر غير مجال العلاج، لكن متى ما احتاج الأمر إلى طلب المشورة والمساعدة النفسية المهنية، بما فى ذلك من إعلان اهتزاز هذه الحيلة الأيديولوجية الدفاعية، فإن الحسابات تختلف، والمنهج يختلف، والمحكات تختلف.
حاولت أن أسائل نفسى عن هذه السكينة الظاهرية التى يتحلى بها بعض أصحاب هذه الآراء ووجدتها أحيانا أقرب إلى اللامبالاة نتيجة “لتصور ” حل كل شيء بمجرد الحديث عنه .. أو إعلان أن “كذا هو الحل” (سواء كان هذا الـ “كذا” هو كلمة الإسلام – أو الديمقراطية – أو الاشتراكية – أو الثورة – أو التنوير ..الخ)، ليكن، ولكن الأمور لابد أن تختلف حين تظهر أعراض المرض حيث قد تفرض المراجعة نفسها مع ظهور المرض أو أثناء العلاج .. وما يكاد التغيير يعرض نفسه من خلال إحياء حركية الاختبار اليومى عبر المواجهة العلاجية حتى تبدأ وظيفة هذه الأفكار تتعرى، ويلوح أمل فى العودة إلى إطلاق حركية النمو لمن يواصل فيغامر بمخاطرة الفحص فالنقد فالتغير أو التطوير، بمواكبة المعالج الذى يواصل دوره العلاجى مع كل فرد على حده، وفى نفس الوقت مع المجموعة ككل وأيضا مع نفسه طول الوقت.
الأيديولوجيا والحرية:
معالم توضيحية أخيرة بها بعض الإعادة:
* إن الأيديولوجيا على كل مستوياتها هى قيد “جيد نسبياً” على الحرية،
* إذا كانت الحرية الحقيقية هى المجال الذى يستعيد فيه المريض فرص نموه، ومن ثم فرص شفائه، فلا بد أن يكون هو هو نفس المجال الذى يمكن أن يخطو فيه المعالج خطوات نموه،إنسانا، وحرفيا، وناقدا، ومبدعا، وعالما عارفاً.
* تتناسب صلابة الأيديولوجيا (الداخلية خاصة) تناسبا عكسيا مع الحرية المتاحة للمريض والمعالج على حد سواء.
* إن المهرب من مواجهة جرعة الحرية الضرورية لاستمرارية حركية النمو هو مهرب جيد ومشروع، لكنه عادة غير مطروح بهذه البساطة فهو يتستر وراء صلابة الأيديولوجيا.
* إن الحذر واجب من الاستسلام لأيديولوجيات تـُفرض علينا من خارج ثقافتنا حتى لو كانت بلغة علمية (سلطوية) أو لغة علمية مالية (شركات دوائية) أو حتى بلغة مذهبية سياسية أو دينية.
* إن تناول “مسألة الحرية “تنظيرا أو مناقشة” لا يفيد كثيرا فى توسيع دائرة الحرية للمريض أو للطبيب معا.
* إن ممارسة العلاج من منظور نمائى (تطورى) قد يعلـِّمنا أكثر فأكثر ضبط جرعة الحرية البناءة للمريض والمعالج على حد سواء.
* إن الحرية كقيمة ساكنة ليست شرطا للتمتع بالصحة النفسية، بل قد تكون العكس إذا اصبح الحديث عنها هو بديل عن ممارستها، حتى تكاد تنقلب إلى أيديولوجيا خفية (تحت شعار مثل: الحرية هى الحل، قياسا على “الديمقراطية هى الحل” أو حتى “الإسلام هو الحل”).
* إن قوانين حركية النمو، وبالذات الإيقاع الحيوى، والجدل الخالقى، وبرامج الدخول والخروج المفتوحة النهاية، هى الأوْلى بأن تكون دعائم ما هو حرية مطلوبة للممارسة الطبنفسية البناءة للمريض والمعالج على حد سواء.
* إن تنظيم المهنة وما يسمى حقوق الإنسان أو حقوق المريض أو حتى حقوق الطبيب أو المعالج عاجزة عن أن تحتوى كل أبعاد ومستويات الحرية الحقيقية لكل من المريض والطبيب (المعالج) مهما بلغت دقتها، ولمع بريقها، ومهما أفادت فى تصور إمكانية تطبيقها إلا على مستوى التنظيم الظاهرى للتعاملات السلوكية المختزلة.
* إن الحرية الحقيقية التى تتم من خلال التعاقدات العرفية المتعددة المستويات، المختبرة بالنتائج الإمبريقية لنفع كل من المريض والطبيب على حد سواء ينبغى وضعها فى الاعتبار آملين أن نجد لها تنظيما عمليا يقننها فى وقت لاحق من تطور العلم والقانون والمعرفة والإبداع الإيمانى.
* إن المسألة صعبة جدا جدا.
وبعد
أعرض فيما يلى تصويرا ساخر ناقدا لمأزق حالة “تشنج أيديولوجى”
مقتطف من العلاج الجمعى (شعرا بالعامية المصرية)[3]
لهذه القصيدة حكاية، فقد صدرت فى الطبعة الأولى لديوانى بالعامية المصرية “أغوار النفس” باسم “شـَبَه الإنسان” (فى 166 كلمة)، ثم جرى تحديث محدود بعد ذلك، لم ينشر (غالبا)، ثم تحديث أخير وأنا أعدها لأضمنها فى هذا العمل الذى لا يريد أن يستقر على منهج، فإذا بها تصل إلى ما وصلت إليه.
سوف أكتفى اليوم بتقديم المقدمة، ثم القصيدة بعد تحديثها
المقدمة وباعث القصيدة:
حين كتبت هذه القصيدة فى صورتها الأولى سنة 1974، لم يكن الاتحاد السوفيتى قد تفكك بعد (حدث ذلك التفكك فى 26 ديسمبر 1991)، ولم يكن فوكوياما قد أعلن بفرحة خائبة موت التاريخ، كان ما يشغلنى آنذاك – مثلما هو الآن- هو “موت الإنسان” (زعم البنيوية الحديثة أساسا) من حيث أنه حركة ووعى وتاريخ، وكان ما بلغنى من الممارسة الخاطئة للفكر الاشتراكى (وليس من حركية هذا الفكر البسيطة والبديهية والواقعية والممكنة) أن التاريخ توقف عندما فعله من قلبوه أيديولوجية جامدة، مع أن المفروض أن الفكرة الاشتراكية فى عمق أصالتها، هى ضد فكرة الأيديولوجيا أصلا، شعرت أن حركية الفكر خمدت عند من زعم امتلاك حق احتكار تطبيق العدل، وممارسة الحرية، فما بالك عن مـَنْ تبعهم – منّا– مقلدين ممن لم يستوعبوها أصلا، ولم يعرفوا عنها إلا ما شاع عنها، أو ما بلغهم من ظاهر تطبيقها وسفه منفذيها.
الإشكالة فى العلاج النفسى:
هذه قضية سياسية لسنا فى موقع مناقشتها، وإن كانت القصيدة تبدو سياسية فى المقام الأول، خاصة بعد تحديثها، إلا أن ما يهمنا هنا هو ذلك الإنسان المريض الذى جاء يعانى وقد سبق أن تورط فى تقديس هذه المبادئ التى هى أصلا ضد “أى تقديس”، ثم نكتشف أن هذه المبادئ قد استعملها صاحبنا وراح يتمسك بها حين قامت بحمايته شخصيا، كآلية دفاعية أساسا، أكثر منها كموقف أو كمذهب عام قابل للاختبار سعيا إلى إقامة العدل وتحريك التطور على أرض الواقع لكل الناس؟ هذا الشخص كان – غالبا– يستعمل هذه الأيديولوجيا تماما كما يستعمل شخص متدين الدين الرسمى، ليس لتسهيل توصيله إلى الإيمان كدحا إلى وجه الحق، وإنما يستعمله ليستقر فى موقعه بعيدا عن حركية نموه (مرة أخرى: التى هى موازية – غالبا – لما أسماه كارل يونج : تجربة الرب)، هنا يصبح الدين آلية دفاعية تماما مثلما تصبح الأيديولوجية الاشتراكية المغلقة آلية دفاعية.
حين يأتى صاحب هذه الآلية (فى الدين الجامد أو الأيديولوجى المقدس)، ويعانى نفسيا، يجد الطبيب – خاصة الذى يمارس العلاج نقدا للنص البشرى- يجد نفسه مضطرا إلى التلميح إلى أن هذه الآلية التى قامت بالواجب فيما قبل المرض، معرضة للفحص والنقد وإعادة النظر، مثل أية آلية أخرى، وهذا هو ما حدث فخرجت هذه القصيدة :
القصيدة لا تتناول طبعا تفاصيل هذا الموقف العلاجى بشكل مباشر، أو حتى غير مباشر، بل الأرجح أن هذا الموقف قد أثار فى شخصى تحديات اضطررت معها أن أعلن رأيى الذى يبدو نقدا سياسيا بشكل أو بآخر، وخاصة حين عرجت القصيدة إلى تناول بعض تاريخ الثورة، وشعارات الاشتراكية بدون اشتراكية، والكبت السياسى، والقهر السلطوى، وغسيل المخ، والافتقار إلى الأمان وغير ذلك، أكتفى اليوم هنا بنشر المتن[4]
(1)
شِـدّوا الستايرْ، كعب دايرْ،
وْخيوطْها من ليف الضلامْ،
والنــصْبة كانت مش كما الواجب،
ولا قدّ المقام،
(2)
كان بودّى إِنى ما أَجرّحشى حدْ.
كان بودّى ما شوْفشى إن الحارة سدْ.
كان بودّى أَصَدّق انّ العْدلْ مُمكنْ.
قَاُلوا “جرّب”، قُلت”يمكنْ”.
(3)
شاف صاحبنا شوفْ يورّيه إيه رسالته”
ربّنا نوّر بصيرْتُـهْ، قام مِرَاجِعْ كـُل سيرته،
اتوجَعْ، لكنُّـهْ كمِّل، يحكى كلّ اللى حصل:
(4)
التعلب، فات فاتْ،
وفْ راســُهْ، أيْـدُولُوجِـيَّـاتْ.
والثورة: شوية كلمَاتْ،
وانا وانتَ: لابْسين باشوات،
بنحكّى، ونقول حكاياتْ
(5)
”فى الواقعْ: إن الواقعْ ، واقعْ جداً،”
والبنى آدم يادوبْ: مـادّةْ وْتَاِريخْ،
والتاريخ عَرْكَةْ اللِّى فاز فيها بيْركَبْ
يطلع المـنْـبَـرْ ويخطُبْ:
إلعيال الشغالين هُمَّا اللِّى فيُهمْ،
باسُمُهمْ نـِـْلَعْن أبو اللِّى خلّفوهـُمْ
”باسْمُهُمْ كل الحاجات تِبْقى أليسْطَا
والنـِّسـَا تلبس باطِيسْـطَا
والرجال يتحجّـُبوا، عامِلْ وأُسْطَىَ”.
(6)
يعنى كل الناس، عُمُومْ الشعب يَعْنِى:
لمْ لابد إنه بيتغذّى لِحَدّ ما بَطْنُه تِشْبَـْع.
وامّا يِشْبَعْ يِبْقى لازِمْ إنُّه يسْمَعْ.
وان لَقَى سمْعُه ياعينىِ مِشْ تمامْ، يِبْقَى يِرْكَعْ.
بَسّ يلزَقْ ودْنه عَالأْرضِ كـِيـوَيِّسْ،
وانْ سِمْعِ حاجَةْ تِزَيَّقْ، تبقى جَزْمة حَضْرِةْ الأخ اللِّى
عـيّنْ نَفُسُهْ رَيّسْ،
لاجْلِ ما يْعَوَّضْ لنَاِ حرمَانْ زمَانْ.
إمّالِ ايِهْ ؟!!
واللِّى يشبْع مِنكُو أكل وشُـوفْ،ركوعْ، سمَعَانْ كلامْ،
يِقَدْر يـِنَامْ: مُطْمَئِنْ، أو ساعات يقدر يِفِـنْ.
واللى ما يسمعشى يبقى مُخّهُ فوِّتْ،
أو غرابْ على عِشُّه زَنْ.
(7)
والحاجات دى حلوة خالص
بس إوعـَكْ تِسْتَـمَنّـى إنك تقيسها،
أَصْلَهَا خْصُوصِى، ومحـْطوطَةْ فى كيسْها.
وانت بس تنـفــِّذ الحتّة اللِّى بَـظـِّـتْ (يعنى بانتْ).
إنت حُـرّفْ كل حاجة، إلآ إنك تبقى حر.
(لأْ، دى مش زَلِّـــةْ قَلْم، ولا هِيّةْ هفوةْ،
مش ضرورى تـِتـْفَهمْ، لكن مفيَدةْ،
زى تفكيكةْ ”داريدا”).
يعنى كل الناس يا حبة عينى ممكن تبقى حُرَّةْ.
حرة كما وُلدوا وأكْتَرْ،
يعنى بلبوص حر خالص، بس ما ينطقشى كلمة،
….. يِتخدش بيها حياءْ حامى البلاد من كل غُمّـةْ ،
ما هو مولانا رأى الرأى اللى ينفع،
الحكومة تقول، يقومْ الكلّ يسمعْ.
واللى عايز أمر تانى، ينتبه للأوّلانى .
مش حا تفرقْ.
قول يا باسطْ.
والوثائق فى المعانى، والمعانى فى المباني.
(برضه تفكيكة داريدا، ….تبقى هاصِـط ْ ).
(8)
الدنيا دى طول عمرها تدّى اللى يـَغـْلـِبْ:
سيفْ ومطوةْ
واللى مغلوب يـنـضرب فوق القفا فى كل خطوةْ
أصل باينْ إن “داروين” كان ناويلْهَا:
إن أصحاب العروشْ. ويَّا أصحاب الفضيلةْ،
يعملولنا جنس تانى. جنس أحسنْ.
إسمُهُ: “إنسانٌ مُحَسَّنْ،
واللى يفضل منّا إحنا؟
مش مهمْ.
إحنا برضه لسّة من جنس البشرْ،…إلقديمْ.
يعنى “حيوانٌ بـِيِنْـطَـقْ”،
مش كفاية؟!!!
ليه بقى عايز يقلِّبْ، ولاّ يفهمْ؟
هوّا إيهْ؟ هىَّ سايبةْ؟
يعنى إيه الكل يفهم ؟
مشْ ضرورِى،
يِكفـِى إنه يقرا “ميثاق” السعادةْ،
واللى صعـْب عليه حايلقى شَرْحُهُ فِى خُطَبِ القيادةْ.
واللى لسّة برضه مش فاهمْ يـُحاكـَـــمْ .
وانْ ثَبَتْ إنه برئْ. يتــْـَرَزْع نوطِ “العَبَطْ”
وانْ ثَبتْ إنه بِيِفْهَمْ، يبقى من أَهْل اللَّبَطْ.
”يعنى إيـــه؟”
زى واحد ناسى ساعتُه.
يعنىِ نِـفسُهْ فِـى حاجاتٍ، مِشْ بِتَاْعتُه
”زى إيه؟”
(9)
زى واحد جه فى مخه -لا مؤاخدة – يعيش كويّـــــسْ.
”برضه عيب”
هوّا يعنى ناقْصُهْ حَاجَةْ؟
قال يا أُمّى، والنبى تدعى لنا إحنـَا والرئيسْ،
ربنا يبارك فى مجهودنا يكتّــر فى الفلوسْ.
بس لو نعرف معاهم قدّ إيه، واحنا لينا كامْ فى إيهْ!
(10)
”آدى أَخْرِةْ فَهْـمَـك اللِّى مالُوشْ مُنَاسْبَة.
طبْ خُــدوهْ، وضّــبوهْ،
واحكُموا بالعدْل يعنى: إعْدلوهْ
تُهمتُهْ ترويج “شفافـيِّه” مُعاصْرةْ
هذا ملعوبُ الخَواجةْ،
وان رمِينَا الكومِى بدرى، تبقَى بَصرةْ.
”الكلاْم دا مِشْ بتاعْنَا،
دَشْ ماْ لهُوْش أى معنى”
تُهمتُهْ التانية “البجاحة”
واحنا فى عِـزّ الصراحةْ،
واللى عايز غير ما يُنشـرْ،
هوّه حرّ انه “يفكـَّـرْ”،
فى اللى عايزُهْ
أو يشوفُهْ جوّا حـِلمـهْ،
وان حكاهْ يحكيه لأمُّــهْ،
وانْ أخد بالُـه وقاُلْه مُـوَطِّى حِسُّهْ،
مستحيل حدّ يِمسُّهْ
(11)
قالـــَّها يا مّهْ أنا شفت الليلادِى:
“إنى ماشى فى المعادِى.
شفت نفسى باخترعْ نظريَّةْ موضَـهْ،
زى ساكنْ فى المقابرْ يبنى قصر ألف أُودهْ:
”والعواطف أصبحت مـِلْك الحكومةْ،
والحكومة حلوهْ خالص.
عبّـت الحب الأمومى، والحنانْ،
جوّا أكياس المطالْبةَ بالسَّلاَمْ،
والطوابير اللى كانت طولـْهـَا كيلو،
اختفت ما عادتشى نافعة.
”أصلنا شطـَّـبـْنا بيع وبلاش مِلاَوْعة “
واللِّى طَالُهْ من رضا الريّس نصيبْ:
فازْ، وقّــلعْ.
واللى لسّه ما جاشِـى دوره: بات مولـَّع.
قام سعادة البيه قايـلْ لُـهْ: “تعالى بكُرَه”
[درس مشْ عايز مِذاكرهْ”]
وْرُحت صاحِى.
(12)
قالُوا إنْ أكْرَمْتُوا ميِّـــتكُو ادْفِنُوه.
دا القبر رخامْ،
والنقش عليه آخر موضَةْ، خلاّله مقامْ،
واللى دَفَنُوهْ، سَوَا من مُـدَّة، نِسْـيُوا المرحومْ كان مين.
أَتِاريهْ كان شَبَه الإنْسَانْ.
……………….
…………………
ونواصل الأسبوع القادم تقديم الفصل الرابع: “الطب النفسى السلبى والطب النفسى الإيجابى”
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: (2019) “الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور“، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.
[2] – تناولناها فى موقع آخر: أنظر نشرة 12/2/2008 (“صعوبة الحياد وضرورته فى العلاج النفسى “والحياة”) بموقع المؤلف
[3]- هذا المقتطف من كتاب “فقة العلاقات البشرية” عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الثانى: “هل العلاج النفسى مكملة؟ اللوحة السادسة “قبر رخام”، ص111، جمعية الطب النفسى التطورى، 2018
[4] – لمن شاء: الشرح على المتن صدر فى كتابى فقه العلاقات البشرية (2) (عبر ديوان “أغوار النفس”) (2018) “هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟ (اللوحة السادسة: (6) قبر رخـام”) منشورات جمعية الطب النفسى.