نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 30-3-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6055
مقتطفات من كتاب:
“الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور”[1]
الفصل السابع
المدارس النفسية والنماذج العلاجية (3 من 3)
نواصل اليوم استكمال تقديم باقى المدارس النفسية وقد توقفنا الأسبوع الماضى عند مدرسة التحليل الوجودى (مثل رولو ماى)
………………
………………
تعرفت على هذه المدرسة أكثر وأعمق من خلال الممارسة أكثر من القراءة : ممارسة العلاج الجمعى فى ثقافتنا الخاصة، وكانت الممارسة انطلاقا من أبسط مبادىء كلية الإدراك والتركيز على “هنا والآن” هى بداية تعميق لحظة الزمن الراهنة وإلغاء الاغتراب فى الحكى عن الأسباب ثم جاء التأكيد بعد ذلك من خلال القراءة، لكننى لاحظت كيف تدعمت ممارستى بخلفية ثقافتنا الخاصة من حيث حضور الوعى المطلق فى “هنا والآن” وامتداده فى غيب هو أيضا “هنا و الآن” غيب ممتد إلى يقين “المابعد”.
************
منذ تعرفت على التحليل النفسى التقليدى وأنا أأتنس باختلاف هذا العظيم كارل جوستاف يونج الباكرة واللاحقة مع فرويد، والأكثر والاهم أنه طمأننى إلى أن ما يتحرك بنا فى العلاج الجمعى إنما ينتمى أكثر إلى ثقافتنا الخاصة، التى لا تبعد كثيرا عن هذا الفكر التحليلى الربانى الإنسانى التطورى الأعمق.
*****
هذه المدرسة لم أتأثر بها بشكل مباشر، لكنها حضرتنى فى ممارستى أغلب حوارات الوعى على قنواته المختلفة ومستوياته المتصاعدة وامتدادته بغير نهاية، فتآلفت مع ممارستى فى العلاج الجمعى الذى ينطلق من المنهج الجشتالتى عبر دوائر الوعى المتمادية الاتساع دون الاغتراب فى أى تغيرات روحية أو ميتافيزيقية.
****
احترمت طول عمر ممارستى دور العقاقير النوعية فى التعامل مع نشاز مستويات الوعى المتباعدة، والمتصادمة، والمتفككة، والمفككة جنبا إلى جنب مع تنشيط المستويات الأقدر على القيادة والتناوب والإبداع مع استعمال إعادة التشغيل بالنوم، وبالعقاقير المزجزجة، وبتنظيم الإيقاع،
كل ذلك ينتظم فى مفهوم الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى، أما اختزال ظاهرة المرض إلى خلل فى هذه المادة الخاصة فى ذلك الموقع بالذات زيادة ونقصا، فقد رفضته جملة وتفصيلا دون أن أخسر شيئاً.
*****
فهمت معنى توقيت ظهور هذه المدرسة بحضورها الأوربى والامريكى بعد الحرب العالمية الثانية وكيف أنها عبـَّرت عن مدى الاحتجاج على القتل واليأس مما يجرى، ورفض السلطات بما فى ذلك سلطة الطب النفسى وقهره، إلا أننى لم أفرح بها لذاتها بل إننى اعتبرتها نصف الحل وبالتالى فهى سلبية سلبية إذا لم تتطور إلى ما نأمل أن تتطور إليه تجربة الجنون ذاتها.
*****
وبعد
أرجو أن يكون واضحا أن هذه التقسيمات، وبعض المواصفات، هى مجرد اجتهاد شخصى، كما أننى أقر وأعترف أن هذا الاختصار بهذا الشكل هو مخل بلا أدنى شك، فليس من المعقول أن تقع نظرية فى مئات الصفحات ثم أختزلها فى بضعة سطور.
لكن من الواضح أننى لم أختزل أية نظرية مما طرحتُ حالا، كل ما أردت توضيحه هو التأكيد على أن أى نظرية فى الإنسان فى مجال علم النفس أو الإمراضية النفسية، لا بد وأنها تقدم مفهوما لهذه الأبعاد الأربعة التى تبرر دراستها لمن يتصدى لعلاج المرضى، ولنتذكر مرة أخرى إن من يمارس الطب النفسى بوعى غائم، وهو لا يتعرض أصلا لهذه المفاهيم، ولا يبحث عنها داخله قبل خارجه، إنما يحكم على مريضه وعلى نفسه، ويوجههما إلى وجهة ما، قد لا يعرفها، وقد تسىء إليهما، وأن موقفه هذا ليس بالضرورة حياديا كما يتصور.
تذكرة:
(1) إن مزيدا من المدارس يمكن أن تزداد فى كل مجموعة أو فى مجموعات منفصلة.
(2) إنه يمكن إعادة تنظيم وجدولة النظريات بعدة طرق أخرى.
(3) إن ثمة اتفاق عام يشمل أغلب النظريات (لا كلها) يؤكد على قيم مشتركة مثل: التوازن (الداخلى) ، والتكيف (مع الآخر)، وتحقيق الذات، واستمرار النمو .
(4) إن كل ما قدمنا ليس إلا مجرد عينات، والمقصود هو التنبيه على المبدأ من حيث استحالة فهم المرض النفسى، ومن ثم ممارسة التطبيب النفسى، بدون نظرية (ولو لا شعورية) ، وأن ادعاء ذلك هو من أخطر ما يكون على الممارسة.
(5) إن تبنى نظرية ما لا يعنى الاعتقاد فى أيديولوجية ساكنة، وإنما هو اعتراف بالموجود – كبداية- وهو قابل للتحور والتعديل والتطوير من خلال الممارسة.
إن من يتنازل عن فكرة الاستهداء بنظرية ما بدرجة ما من الوعى، إنما يستسلم لنظرية خفية، يديرها هو دون أن يعلم، أو يدار من خلالها من وراء ظهره (عادة لغير صالح المريض، ربما لصالح شركات الدواء أو غيرها.
(6) إن بعض أبجدية بعض النظريات يمكن أن تترجم (بتحفظ) إلى أبجدية أخرى
(7) إن الانتقائية تتسع وتنشط كلما زادت مساحة الإلمام بعدد أكبر فأكبر من النظريات
(8) إن الانتقائية ليست هى التلفيقية، بل هى تكاد تكون نقيضها كما أشرنا، وهى تحدث تلقائيا من جانب الممارس صاحب الخبرة.
****
تم الانتهاء من تقديم كتاب “الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور”
______________
[1] – يحيى الرخاوى: (2019) “الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور“، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.