الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطفات من كتاب: “الطب النفسى بين الأيديولوجيا والتطور”.. الفصل الأول: الصحة النفسية للأنسان المعاصر (1 من 2)

مقتطفات من كتاب: “الطب النفسى بين الأيديولوجيا والتطور”.. الفصل الأول: الصحة النفسية للأنسان المعاصر (1 من 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 6-1-2024

السنة السابعة عشر

العدد: 5971

مقتطفات من كتاب:  

“الطب النفسى بين الأيديولوجيا والتطور”([1])

مقدمة:

أهم ما آمله من هذا العمل هو أن أوصّل للمختص، وربما أكثر إلى غير المختص الذى يهمه الأمر وهو صاحب المصلحة (المريض وذويه وحامل مشروع المرض من الأصحاء) أن أوصل لهم هذا التنوع فى الآراء والمداخل والقيم لماهية الصحة النفسية، وكذا تنويعات وتجليات كل ما يطلق عليه “الطب النفسى”.

كما آمل أن يكشف هذا العمل عن طبيعة هذه المهنة وأين تقع بين منظومات: العلم، والهواية والفن والأيديولوجيا والنقد والفلسفة

ثم ماذا عن أثر معتقد وأيديولوجية وشخصية وانتماء من يمارس الطب النفسى والعلاج النفسى على أدائه ومهمته.

وإنى لآمل من خلال هذا الإيجاز الذى أرجو ألا يكون مخلاًّ أن أواصل الحركة والمحاولة فى انتقاء وتمييز ما هو أصلح وأنفع وأكثر تلاؤما مع ثقافتنا الخاصة، دون انفصال قسرى مع الجارى فى العالم شرقه وغربه:

ما أمكن ذلك.

الفصل الأول:

الصحة النفسية للإنسان المعاصر (1 من 2)

(عرض ونقد)

مقدمة:

بالرغم من تناولى لمفهوم الصحة النفسية فى مواقع أخرى ومن زوايا متعددة مثل “الصحة النفسية على مسار التطور الفردى” وتشمل “مستويات الصحة النفسية”[2] وغير ذلك إلا أننى وجدت أن هذه الزواية تحديدا بالنسبة لتحديث مفهوم الصحة لم تُطرق ضمن ما سبق، ففضلت أن أبين وجهة نظرى فى العلاقة بين ما استحدث فى حياتنا مؤخرا تحت مسميات مختلفة أغلبها مستورد وأهمها سيطرة التكنولوجيا الأحدث فالأحدث.

ثم إنى أقر ابتداءً أن هذا المدخل لا يرتبط مباشرة بما أحاول تقديمه تحت عنوان “أنواع الطب النفسى” أو “بين الأيديولوجيا واليوتوبيا” إلا أننى وجدت أنه يمثل خلفية لازمة يمكن أن تسهم فى تحديد شكل ما نقدمه من عرض ونقد لأنواع هذا الطب كما وصفها هذا العمل.

مراجعة لما هو: “الصحة النفسية وعصر المعلومات” فى العصر الحالى:

 الحديث عن الصحة النفسية على مستوى التنظير فحسب يبدو نوعا من الاغتراب بشكل أو بآخر لدرجة أننى فكرت أنه ربما يكون من الأفضل ألا نتداول هذا المصطلح (الصحة النفسية) أصلا، إذ يبدو أن الصحة النفسية تقاس بناتجها وليس بما هى، وأن اجتهادنا للتعرف عليها لذاتها هو ضرب من الاجتهادات الفرضية، أكثر منه توصيف لبرنامجها الحيوى الغائر فى طبيعة حياة كل منا، حتى خطر لى أن تسمى “صحة” فقط وليست بالضرورة “نفسية”، أو لعلها “الحياة” بكل زخمها وغموضها معا.

حين راجعت ما جاء سابقا فى مقال لى نشر بعنوان “الصحة العقلية وعصر المعلومات”[3]، منذ عشرين عاما، سألت نفسى أين أصدقائى وأساتذتى المرضى من هذا المكتوب عن ماهية الصحة النفسية هكذا، بما يغمرنا به من اضطراد استعمال مصطلحات وأدوات وإمكانيات ومعارف وغير ذلك؟ وقد انتبهت إلى أن هؤلاء المرضى وهم ينتقلون من أزمة المرض إلى كفاءة الصحة، يمرون بأعمق مآزق الوعى، ويمارسون أوثق جدل بين العلاقات البشرية، دون حاجة إلى أى تنظير، ودون أن يضعوا فى الاعتبار أية محكات من التى وردت فى هذا المقال ومثله، ودون أن يعرفوا حرفا من أبجدية المعلوماتية!

ما الحكاية بالضبط؟

رجعت إلى قضيتى الأساسية وتساءلت: هل يمكن أن توصف نملة أو مجموعة من النمل أو النحل أو حتى الصراصير، أو الكلاب الجبلية أو الذباب الذى يطن حول صفيحة قمامة! بأنها تعيش مستوى ما من الصحة النفسية أم لا؟ إن مجرد بسط  وتنشيط البرامج البيولوجية البقائية التى حافظت على الأنواع المتبقية من جميع الأحياء (واحد فى الألف، من بينها الإنسان)[4] هى دليل على أن أى نوع نجح أن يستمر ليبقى هو يتميز أفرادا وجماعات بصحة نفسية مناسبة حافظت على بقاء نوعه أفرادا وجماعات.

الأمر لا يختلف عند الإنسان، أو ينبغى ألا يختلف فى نهاية النهاية.

وهكذا خرجتُ بالانطباعات والاحتمالات البادئة التالية:

1-  يبدو أن الحديث عن الصحة النفسية لا لزوم له اصلا

2-  إن استمرار الحياة لأفراد نوع بذاته، ومن ثمَّ النوع كله، هو دليل ضمنى على سلامة المسيرة، ومن ثم على توفر ما هو صحة نفسية (وغير نفسية) لهذا النوع.

3- إن كل ما على الإنسان أن يفعله “ليبقى” (صحيحا) هو أن يحول دون أن تتشوه مسيرة تطوره أو تنحرف أو تـُجهض، وهذا فى ذاته هو أنجح الدعائم لما يصلح أن نسميه صحة، نفسية أو غير نفسية.

4-  إن الوعى بأبعاد ما يجرى فى عالمنا الآن، ومحاولة استيعاب التأثير السلبى أو الإيجابى للمعرفة الجديدة، والأدوات الأحدث، والتقنية المتطورة، يزيد من مسئوليتنا للعمل على الحيلولة دون انحراف مسيرة الجنس البشرى أو تشويهها أو إجهاضها.

5-  إن أى إنجاز، أو تنظير، إنما تقاس إيجابيته على المدى الطويل بمدى إسهامه فى إنجاح بقاء النوع وتطوره.

وبعـد

فإنه يمكن قراءة هذا المقال من جديد فى ضوء كل ذلك، جنبا إلى جنب مع التذكرة بحقى فى تطوير فكرى من واقع الممارسة، ومن ثمَّ: النقد المناسب، وهو الذى أضفته بعد كل فقرة تحت عنوان: “المناقشة“.

وفيما يلى بعض ذلك، مع مراعاة أن ما سُوِّد  بالبنط الأسود الثقيل فى المتن هو ما سوف يأخذ نصيبا أكبر فى المناقشة:

نص المتن (1): المقدمة: مجلة شموع عدد يونيو 1997:

“… ماذا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يقال‏ ‏عن‏ ‏الصحة‏ ‏العقلية‏ ‏فى ‏ظروف‏ ‏العصر‏ ‏الجديدة‏، ‏لقد‏ ‏شبعنا‏ ‏حديثا‏ ‏عن‏ ‏مسائل‏ ‏التوتر‏، ‏والقلق‏، ‏والسرعة‏، ‏والضغوط‏، ‏كلام‏ ‏كثير‏ ‏معاد‏، ‏وصحيحٌ بعضه‏ (‏للأسف‏)، ‏لكنه‏ ‏أبدا‏ ‏لا‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏مستوى‏ ‏المواجهة‏ ‏التى ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نتحمل‏ ‏مسئوليتها‏ ‏أمام‏ ‏ضمائرنا‏ ‏باعتبارنا‏ ‏بشرا‏ ‏نعيش‏ ‏معا‏ ‏سنة‏ 1997، ‏ومطلوب‏ ‏منا‏ ‏الآن‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏أى‏ ‏وقت‏ ‏مضى‏ ‏أن‏ ‏نساهم‏ ‏فى‏ ‏صناعة‏ ‏التاريخ‏ ‏بوعى ‏قادر‏ ‏وإلا‏ ….‏”

السؤال‏ ‏الصدمة‏ ‏الذى ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يغيب‏ ‏عنا‏ ‏أبدا‏ ‏يقول‏:‏

هل‏ ‏الإنسان الحالى‏ ‏معرض‏ ‏للانقراض؟

والاجابة‏ ‏المسئولة‏ ‏هى: ‏نعم‏ !!‏

هذه‏ ‏هى ‏الصيحة‏ ‏الحقيقية‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏موضوع‏ ‏هذا‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏الصحة‏ ‏العقلية‏، ‏وهى ‏الصيحة‏ ‏المختصرة‏ ‏والخطيرة‏ ‏فى ‏آن‏، ‏وهى ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تساهم‏ ‏فى ‏المسيرة‏ ‏حقيقة‏ ‏وفعلا‏ – ‏وقد‏ ‏تعمدت‏ ‏أن‏ ‏أستعمل فى هذا التقديم‏ ‏لفظ‏ ‏الصحة‏ ‏العقلية‏ ‏وليس‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏، ‏لأن‏ ‏مسألة‏ ‏صحة‏ ‏العقل‏ ‏هى ‏محور‏ ‏الوجود‏ ‏البشري‏، ‏والعقل‏ ‏ليس‏ ‏عضوا‏ ‏جسديا تشريحيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏وعى ‏كلى‏، ‏صحيح‏ ‏أن‏ ‏محور‏ ‏نشاطه‏ ‏هو‏ ‏الدماغ‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏كلية‏ ‏حضوره‏ ‏تشمل‏ ‏كل‏ ‏الجسد‏، ‏وتمتد‏ ‏إلى ‏دوائر‏ ‏التواصل‏ ‏حوله[5]، ‏أقول‏ ‏إن‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏وقد‏ ‏غمره‏ ‏فيضان‏ ‏المعلومات‏ ‏قد‏ ‏أصبح‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏إلى ‏إعادة‏ ‏صياغة‏ ‏وجوده‏ ‏من‏ ‏الأساس‏.‏ ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏المسألة‏ ‏مسألة‏ ‏توازن‏ ‏داخلي‏، ‏وتكيف‏ ‏خارجى، ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏المسألة‏ ‏إنجاز‏ ‏عمل‏ ‏أو‏ ‏تحقيق‏ ‏منفعه‏،‏ لم‏ ‏تعد‏ ‏المسألة‏ ‏شكوى ‏من‏ ‏ألم‏ ‏نفسى‏ ‏أو‏ ‏قلة‏ ‏فى ‏راحة‏ ‏البال‏، تلك التى قد ‏تصل‏ ‏إلى ‏حد‏ ‏الرخاوة‏ ‏المسماة‏ ‏الرفاهية‏.

المناقشة:

الإشارة هنا إلى أن العقل (فالمخ) ليس فقط عضوا جسديا تشريحيا، بقدر ما هو وعى كلى تذكرنا بأطروحة دانيال دينيت العظيمة عن أنواع العقول[6]، والتى سبق أن أشرتُ فى تقديمى لها كيف أنه يعنى بكلمة “العقل”، مستوى من مستويات “البرنامج البقائى الذى أبقى الأنواع الواحد تلو اللآخر”، وكلها مستويات قائمة فينا حتى الآن، وهى التى أطلقُ أنا عليها عادة “منظومة مستوى الوعى”.

هذه الإشارة إلى أن  وظيفة هذا العقل – بهذا المعنى- برغم أن محور نشاطه الدماغ “.. إلا‏ ‏أن‏ ‏كلية‏ ‏حضوره‏ ‏تشمل‏ ‏كل‏ ‏الجسد‏ ‏وتمتد‏ ‏إلى ‏دوائر‏ ‏التواصل‏ ‏حوله‏”، هذا الوصف يجعل مفهوم كلمة العقل، وبالتالى “الصحة العقلية” صالح هو هو للأمّى الذى لا يفك الخط، فى عصر المعلومات، بل وللنمل والنحل والصراصير (من منطلق أنواع العقول) للبقاء، وهو تعبير لا يُدخل الجسد فقط فى تكوين هذا العقل/الوعى، بل يضيف إليه “امتداد دوائر التواصل حوله”[7]

إن هذا الاتساع فى مفهوم “العقل” هو بعض ما تعلمته من العلاج الجمعى فى قصر العينى بالذات، وهو ما دفعنى إلى أن أعتبر أن ثمَّ وعيا جمعيا Group Consciousness  يتشكل بنا معاً وهو الذى يجمعنا، ويصّاعد بنا إلى الوعى الجماعى Collective consciousness فأعلى فأعلى، وأعتقد أن نفس هذه العملية الجمعية التى يتخلـّـق منها هذا الوعى الجمعى (فى المجموعة العلاجية) تميزا له عن الوعى الجماعى الأوسع، قد جرت على مستويات مختلفة، وبآليات مختلفة، لدى كل الأنواع، حتى وصلت إلى مرحلة الإنسان فتميزت نفس العملية بدرجة من “الدراية” Awareness وهى ما أسميتـُه أحيانا “الوعى بالوعى” لكن للأسف: إن أيا من الإرادة أو الدراية (الوعى بالوعى) لم تُستعمل كما ينبغى فى صالح بقاء هذا النوع البشرى، بمعنى أنه لم يثبت  أن الإنسان المعاصر قد أحسن – أو هو يحسن–  استعمال ما وصل إليه بكفاءة بقائية أكثر من أسلافه.

  نص المتن (2): المقدمة 1997

“……الإشكالة‏ ‏الحديثة‏ ‏التى ‏تواجه‏ ‏إنسان‏ ‏العصر‏ ‏لتحقيق‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏هى ‏إشكالة‏ ‏جوهرية‏ ‏تبدأ‏ ‏بحاجته‏ ‏لتعريف‏ ‏معنى ‏لوجود‏ ‏الفرد‏ ‏البشرى ‏فى ‏الظروف‏ ‏الجديدة‏، ‏وكذلك‏ ‏للتعرف على هدفٍ‏ ‏لاستمراره‏، ‏وسبل‏ ‏بقائه‏، ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏أصبح‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏شكل‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏الوعى‏، ‏وشكل‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏العلاقات‏، ‏وشكل‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏الانتاج‏.

 ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏بمقياس‏ ‏الذى ‏يجرى ‏الآن:‏ لا ‏تتحقق‏:‏ ‏بدرجة‏ ‏التوازن‏‏ لتحقيق الاستقرار، ‏وإنما‏ ‏بدرجة‏ ‏التناسق‏ ‏الحركى ‏النابض‏ الممتـَـدّ.

وهى ‏لا‏ ‏تتحقق‏ ‏بالخلو‏ ‏من‏ ‏الأعراض‏، ‏وإنما‏ ‏بالقدرة‏ ‏على ‏استيعاب‏ ‏معنى ‏الأعراض‏ (إذا ظهرت فى صورة ما يسمى المرض) ‏لإعادة‏ ‏تشكيلها‏ ‏فى ‏قوة‏ ‏دفع‏ ‏جديدة‏.‏ 

وهى‏ ‏ لا ‏تتحقق ‏ ‏بالسكون‏ ‏الآمن (الطمأنينة)‏، ‏وإنما‏ ‏بالحركية‏ ‏المتعددة‏ ‏التوجه‏. ‏

المناقشة:      

المقصود هنا هو “التعرّف على وجود”، الفرد البشرى وليس “تعريف” وجوده، ومن ثم احتمال تحديد هدف لوجوده يتجاوز هدف البقاء التلقائى، الذى تم العبث به بالطمع والاغتراب أو بالصدفة، وهكذا تصبح مهمة العقل البشرى بكل مستوياته هى:

* تجنب الاختزال والتشويه (من خلال رفض وصاية  العقل الظاهر منفردا)

* القدرة على حسابات أعمق من المنطق الظاهر وأصدق من الصدفة  العشوائية.

* الإلمام بدراية أدق بمسار النوع البشرى، وليس فقط، بمتطلبات “الفرد الآنية” حتى لو كان ذلك تحت عنوان ما يسمى “الصحة النفسية”.

المناقشة:

 التفرقة بين التوازن، وبين التناسق الحركى النابض الممتد، بدت لى أثناء هذه القراءة والمراجعة الآن تفرقة ضرورية وجوهرية، ذلك أن التوازن قد يحمل معنى الثبات والتعادل، وهو ما يقابل أحيانا كلمة Homeostasis  بالإنجليزية، وقد اعتدنا فيما مضى – خاصة فى علم وظائف الأعضاء – أن نعلى من شأن هذه الظاهرة كأنها هى المطلوبة دائما لحفظ حيوية الوجود البيولوجى واستمراره، لكن بعد انتمائى إلى التطور فالإيقاع الحيوى، تبينت، مدعما بحقائق كثيرة، أن هذا “الهـُـمْـيـُوسْتازسْ” لا ينبغى أن يكون غاية المراد، وأن دوره يكون أوضح فى تحقيق التوازن فى “طور الملء” Filling  من مراحل نبضة الإيقاع الحيوى، فعلينا ألا نفرح كثيرا بهذا الثبات التوازنى (الهميوستازس)  إلا تحضيرا لما يَعِد به ويُعدّ له من “بسط” Unfolding تشكيلى مناسب وهو ما أسميناه مؤقتا: “التناسق الحركى النابض”، إن إضافة لفظ الحركى، ينبهنا إلى حركية النقلة المحتملة، “لإعادة التشكيل” وهو ما لا يتنافى مع التناسب الحركى، بل يتداخل معه، وقد لاحظت فى كثير من المحكات التى وردت فى هذه الأطروحة تركيزا بدرجات مختلفة على حتم الحركية أساسا لهذا التوازن النشط النابض (كما سيرد حالا).

 نص المتن (3):

هذه‏ ‏مقدمة‏ ‏لابد‏ ‏بعدها‏ ‏من‏ ‏بعض‏ ‏التفصيل‏ ‏أو‏ ‏التحديد‏، ‏وإن‏ ‏كنت‏ ‏أشعر‏ ‏أن‏ ‏كل ما جاء فى هذا الحديث‏‏ ‏لا‏ ‏يعدو‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏مقدمة‏، وفيما‏ ‏يلى ‏رؤوس‏ ‏مواضيع‏ ‏تمثل‏ ‏المواقف‏، ‏والقيم‏ ‏والقياسات‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نعيد‏ ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏الصحة‏ ‏العقلية‏ ‏لإنسان‏ ‏عصر‏ ‏المعلومات‏ :

يكون‏ ‏الانسان‏  ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يوفق‏ ‏بين‏ ‏تلقى ‏المعلومات‏ ‏على ‏وفرتها‏ ‏الآن‏ ‏وبين‏ ‏تأجيل‏ ‏القفز‏ ‏إلى ‏تسطيح‏ ‏العلاقات‏ ‏بينها‏، ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏مناسبا‏ ‏أن‏ ‏نفكر‏ ‏بالطريقة‏ ‏الخطية‏ ‏السببية‏: هذا ‏السبب‏ (‏تحديدا‏) ‏يؤدى ‏إلى تلك ‏النتيجة‏ ‏(تماما) – ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يحقق‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏لأى وجود بشرى مناسب‏، ‏وإنما‏ ‏تتحقق‏ ‏الصحة‏ ‏الآن‏ ‏بالقدرة‏ ‏على ‏تلقى ‏عشرات‏ ‏المتغيرات‏ ‏المرتبطة‏ ‏بعشرات‏ ‏النتائج‏، ‏ثم‏ ‏يتحمل‏ ‏الإنسان‏ ‏العادى – ‏بقدراته‏ ‏الجديدة‏/القديمة!!- ضرورة ‏استيعاب‏ ‏حركية‏ ‏هذه‏ ‏العلاقات‏ ‏معا‏،  وهى العلاقات ‏اللازمة‏ لاستمرار‏ ‏الفعل‏ ‏ ‏ ‏اليومى ‏البسيط‏!‏

المناقشة:

 ليس المقصود هنا بتعبير “استيعاب حركية هذه العلاقات أية درجة من الوعى الظاهر، أو العمل العقلى بالمعنى الشائع، وإنما المقصود هو التمثـُّل والتفعيل الذى يظهر ناتجه إمبريقيا فى “الفعل اليومى البسيط”، وهو قريب مما أشرنا إليه فى بداية هذا الفصل: أن “نعمل”، و”نحب” و”نرضى”، ثم إن التنبيه هنا على رفض الربط السببى الخطى المباشر، يذكرنا أيضا بالنقلة الجارية من خلال استيعاب القوانين الأحدث للتربيطات والتفاعل فى العلوم الكمويةQuantum  الحديثة (الرياضة والطبيعة)، وأيضا فى العلوم التركيبية الأحدث (علم الشواش وعلم التركيبية)   Chaos & Complexity))

نص المتن (4):

‏يكون‏ ‏الانسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يتعلم‏ ‏أن‏ ‏يحب‏ ‏نفسه‏ ‏بالمعنى ‏الموضوعى‏ ‏للحب‏، ‏الذى ‏يشمل‏ ‏الوعى ‏والمسئولية‏، ‏وأن‏ ‏يصب‏ ‏هذا‏ ‏الحب‏ ‏لنفسه‏ ‏فى ‏خير‏ ‏الناس‏ ‏دون‏ ‏إدعاء‏ ‏فروسية‏ ‏العطاء‏ ‏أو‏ ‏زعم‏ ‏التضحية‏، ‏إنه‏ ‏الذكاء‏ ‏الجديد‏ ‏الذى ‏يجعل‏ ‏المصلحة الذاتية‏ ‏البادئة‏ ‏بالذات‏ ‏هى ‏هى ‏المصلحة‏ ‏التى ‏تعود‏ ‏على ‏المجموع‏.‏

 المناقشة:

 بل هى هى المصلحة التى تعود على بقاء النوع فتطوره.

التفرقة بين حب النفسSelf  Love  وبين ما يسمى الأنانية Selfishness هى تفرقة هامة، تحديد المعنى الأنضج لما هو “حب” يجعل لهذا المدخل قيمة عملية وموضوعية أكبر، الحب بمعنى الرعاية والمسئولية: هو الذى يتجاوز الاحتياج حتى لو كان متبادلا، ووصف هذا التعرّف على هذا المعنى للحب بصفة الأنضج، قد يعطى إيضاحا مناسبا لوصف الذكاء بأنه أيضا “الذكاء الجديد“، مرة أخرى أنبه إلى أن هذا ليس تحديثا أخلاقيا بقدر ما هو أقرب إلى الدعوة إلى تخليق برامج بقائية جماعية أكثر كفاءة وتناسبا مع مرحلة الإنسان المعاصر إن كان لها أن تواصل إيجابياتها أكثر كفاءة وأنجح تطورا.

لعلنا نلاحظ أيضا أن ماورد فى هذا المتن لم يتوقف طويلا على، كما لم يتناول عميقا صعوبة وطبيعة العلاقات البشرية ، التى ربما كان الحب الذى نعنيه من أهمها، لكنه ليس كلها، إن صعوبة هذه العلاقات، جنبا إلى جنب مع الوعى بالوعى، ربما هى ما تميز الكائن البشرى أكثر من أى شىء آخر.

لا توجد صحة نفسية لكائن فرد فى حجرة مغلقة، أو نفس مصمتة، ولا توجد علاقات بشرية تعلى من شأن وجدان على حساب آخر، وإنما الصحة النفسية هى القدرة على قبول كل ما خـُلـِقـْنـَا به، ثم استيعابه ليتوجه إلى ما خلق له، وهو كل ما سبق وما سيأتى بعد.

نص المتن (5):

يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يحافظ‏ ‏على ‏مرونة‏ ‏الحركة‏ ‏بينه‏ ‏وبين‏ ‏الناس‏، ‏وبينه‏ ‏وبين‏ ‏الموضوع‏، ‏وليس‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يقترب‏ ‏من‏ ‏الآخرين‏ ‏بزعم‏ ‏التفانى ‏فيهم‏ ‏أو‏ ‏حبهم‏ ‏أو‏ ‏الحاجة‏ ‏إليهم‏ أو التضحية من أجلهم، ‏ومرونة‏ ‏الحركة‏ ‏تفرضها‏ أكثر فأكثر ‏وفرة‏ ‏المعلومات‏ ‏الحديثة‏، ‏إذ‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏الإنسان‏ ‏أن‏ ‏يحيط‏ ‏بهذه‏ ‏المعلومات‏ – ‏باعتبارها‏ ‏مثيرات‏ ‏موضوعية‏ – ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‘‏المرونة‏’ “التشكيلية” ‏وليس “مجرد”‏ ‏الاقتراب‏ ‏هى ‏القيمة‏ ‏التى ‏تحدد‏ ‏نوع‏ ‏الإدراك‏ ‏وحيوية‏ ‏المسافة‏.‏

المناقشة:

أعتقد أن من المناسب هنا أن نضيف أن المسألة ليست مسألة مرونة بسيطة فى مقابل تصلب أو جمود بقدر ما هى إشارة إلى حركية تشكيلية فى مقابل سكون أو حركة زائفة تكافئ السكون، هذا مع التذكرة بأن الفطرة التى هى جُماع برامج البقاء هى حركة أكثر منها “شيئا محددا”: و”مفهوما ساكنا”، وهى “حركة فى اتجاه…”، وتشمل: 

  (To-and-Fro   = In-and- out Movement) حركة الذهاب والعودة: – الدخول الخروج” * 

 * الحركة “الاستقطابية التكاملية  المحيطة”   (Containment Polarization Integrative  Movement )

* الحركة  “الإيقاعية الحيوىة”                 (Biorhythmic  Movement)

* الحركة “الجدلية التكاملية” (Integrative Synthetic Movement)      

(وهو ما قد نعود إليه تفصيلا فى ثنايا هذا الكتاب أو غيره)

إن الحديث عن “تناغم المسافة” أيضا ربما هو تأكيد لتداخل أنواع الحركة المختلفة، وكل هذه الحركات تجرى أيضا ببرامج تلقائية عند سائر الأحياء، وأعتقد أنها هى التى حفظت البقاء لمن بقى منها، والوعى بها من جانب الإنسان ليس له فضل إنشائها بل إنه أضاف: أن عليه أن يتحمل مسئولية الحفاظ عليها إن أمكنه فك شفرتها، فإن لم يتمكن من ذلك فلا أقل من ألا يحول دون تفعيلها إلى ما تعد به.

……………………

…………………..

ونواصل الأسبوع القادم  استكمال عرض نصوص المتن ومناقشتها .

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 [1] – يحيى الرخاوى: (2019)  الطب النفسى بين الأيديولوجيا والتطور، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.

[2] – يحيى الرخاوى: (2017) “مستويات الصحة النفسية من مأزق الحيرة إلى ولادة الفكرة” )الفصل الثالث: مستويات الصحة النفسية على مسار التطور الفردى(، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.

[3] –  يحيى الرخاوى: “الصحة العقلية وعصر المعلومات” مجلة شموع –  عدد  يونيو 1997.

[4]- دافيد م. روب (1998) “الانقراض جينات سيئة أم حظ سيئ”، ترجمة: د. مصطفى إبراهيم فهمى، الناشر: المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة.

[5] –  يمكنك الرجوع إلى نشرة الإنسان والتطور “الحركة، والوعى، والعقل، والمعلومات بتاريخ: 9-11-2010

[6] – دانييل دينيت كتاب “أنواع العقول” الكتاب المترجم صادر عن “المكتبة الأكاديمية” القاهرة  2003

– Daniel C. Dennett: (1996) “Kinds of Minds Towards Understanding of Consciousness”   

[7] – تدعم هذا الرأى فيما بعد بأعمال روبرت شيلدراك مؤلف “ضلال العلم”

– Rupert Sheldrake: “The Extended Mind” Published in the July-August 2003 issue of The Quest

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *