الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطفات من كتاب: “الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور” الفصل السابع “المدارس النفسية والنماذج العلاجية” (1 من 3)

مقتطفات من كتاب: “الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور” الفصل السابع “المدارس النفسية والنماذج العلاجية” (1 من 3)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 16-3-2024

السنة السابعة عشر

العدد: 6041

مقتطفات من كتاب:  

“الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور”[1]

الفصل السابع

المدارس النفسية والنماذج العلاجية (1 من 3)

استهلال

‏ منذ‏ ‏ما‏ ‏يقرب‏ ‏من‏ ‏نصف‏ ‏قرن‏ ‏وأنا‏ ‏أعيش‏ ‏معهم‏، ‏بينهم‏، ‏فيهم، ‏ ‏فىّ، ‏ وكنت حين‏ ‏بدأت‏ ‏قراءتى ‏فى ‏مدارس‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏المعاصرة‏، ‏وكان‏ ‏الكتاب‏ ‏شبه‏ ‏مقرر فى دبلوم التخصص (حوالى سنة 1960)‏، ‏تأليف‏ ‏وودورث Woodworth ، ‏رحت‏ ‏أتعجب‏ ‏من‏ ‏كثرة‏ ‏هذه‏ ‏المدارس‏ ‏وتنوع‏ ‏رؤيتهم‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏إنسان‏، ‏وكنت‏ ‏كلما‏ ‏قرأت‏ ‏مدرسة‏ ‏وجدت‏ ‏أنها‏ ‏صحيحة‏، ‏فإذا‏ ‏انتقلت‏ ‏إلى ‏أخرى ‏وجدت‏ ‏أيضا‏ ‏أنها‏ ‏صحيحة‏، ‏فثالثة‏ ‏ورابعة‏ ‏وهكذا‏، ‏إلا‏ ‏فرويد‏ ‏العظيم‏، ‏هو‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏يثيرنى مكرراً: ‏فأرى ‏أن‏ ‏مدرسته‏ ‏صحيحة‏ ‏أحيانا‏ ‏وشاطحة‏ ‏كثيرا‏، ‏لكن‏ ‏الذى ‏أعجبنى ‏فيه‏ حينذاك ‏بوجه خاص‏ ‏هو‏ ‏أنى اعتبرته‏ ‏كان‏ ‏قادرا على‏ ‏التغيـُّر‏، ‏فثم‏ ‏فكر‏ ‏فرويدى باكر، وآخر متأخر، وكان‏ ‏من‏ ‏أحسن‏ ‏أفكاره‏ الباكرة – وقد تنكر لها – هى التى ‏لم‏ ‏تنشر‏ ‏إلا‏ ‏بعد‏ ‏موته‏ ‏هو‏ ‏المشروع ‏The project، الذى  أعتبره الأساس ، ولو من حيث المبدأ، لدور النيوروليولوجى الأحدث لفهم النفس والمخ فالطب النفسى، ولكنه تنكر له ورفض نشره فى حياته، ‏ثم أعجبنى فيه أيضا شجاعته التى ‏اقتحم‏ بها ‏الموت‏، ‏أعنى ‏”غريزة‏ ‏الموت”‏، ‏ثم‏ ‏قيل‏ ‏أنه‏ ‏تراجع‏ ‏عنها‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يموت‏، ‏أما‏ ‏فرويد‏ ‏الشخص‏ ‏المهزوز‏ ‏الذى ‏يغمى ‏عليه‏ أثناء المناقشة ‏حين‏ ‏يشتد‏ ‏خلافه‏ ‏مع‏ كارل ‏يونج، فقد وصلنى منه ضعفه البشرى، وبصراحة لم أتأكد‏ ‏من ‏علاقاته‏ ‏واعتماده‏ ‏على ‏الهيروين‏ ‏كما‏ ‏قيل‏، ‏لكنه ظل هو عندى‏ ‏فرويد‏ ‏ ‏العظيم‏ الذى احترمه ولا أتبعه.

وكان‏ ‏سيدنا‏ ‏يونج‏ ‏من‏ ‏أطيب‏ ‏من‏ ‏عرفتهم حتى الانبهار وهو يغور‏ ‏غورا‏ ‏إلى ‏النماذج‏ الأولية ولا يتردد فى ‏السباحة‏ ‏فى ‏اللاشعور‏ ‏الجمعى، و”تجربة الرب”.‏

أما‏ ‏الأستاذ‏ (‏الخُوجَهْ‏) ‏العنيد‏ ‏ألفرد‏ ‏أدلر‏ ‏فقد‏ ‏مثل‏ ‏لى ‏التحدى ‏والمدرسية‏ ‏التى ‏يكاد‏ ‏يزعم من خلالها‏ ‏أن‏ ‏”التربية”‏ ‏قادرة‏ ‏على ‏أن‏ ‏تصلح‏ ‏ما‏ ‏أفسد‏ ‏الدهر،‏ ‏والوراثة‏ ‏أيضا‏!!‏

وحين‏ ‏ذهبت‏ ‏إلى ‏فرنسا‏ (1968-1969) لعام واحد: حضرت‏ ‏بانتظام‏ ‏مع‏ ‏”هنرى ‏إى” Henry Ey ‏بالذات‏ (‏جنبا‏ ‏إلى ‏جنب‏ ‏مع‏ ‏حضورات‏ ‏متقطعة‏ “‏لجان‏ ‏ديلاى”Jean Delay، ‏مكتشف‏ ‏أول‏ ‏عقار‏ ‏ضد‏ ‏الذهان‏، ‏وأعظم‏ ‏عقار‏ ‏حتى ‏الآن‏ ‏(الكلوربرومازين‏) ‏وكذا‏ ‏حضرت‏ قليلا جدا لقاءات “جاك ‏لاكان”Jacques Lacan ‏ ‏شخصيا‏ (‏ولم‏ ‏أفهم‏ ‏شيئا‏)، وقد ‏كان كل هؤلاء الثقات‏ ‏يتناوبون‏ ‏الحضور‏ ‏وعرض‏ ‏الحالات‏ ‏وحلقات‏ ‏النقاش‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏القاعة‏ ‏فى ‏مستشفى “‏سانت‏ ‏آن”‏ ‏بالحى ‏الثالث‏ ‏عشر‏ ‏فى ‏باريس‏، ‏جذبنى ‏من‏ ‏كل‏ ‏هؤلاء‏ ‏”هنرى ‏إى” ‏وهو‏ ‏ينبه‏ ‏أن‏ ‏مسألة‏ ‏اللاشعور‏ ‏الفرويدية‏ ‏هذه‏ ‏هى ‏أقل من الإحاطة‏ ‏بالإنسان‏، ‏وأنه‏ ‏ينتمى إلى – بل إنه‏ ‏صاحب‏ ‏مدرسة-‏ “‏علم‏ ‏نفس‏ ‏الشعور‏”، ‏حيث‏ يعتبر أن ‏الشعور (الوعى Consciousness)‏ ‏هو‏ ‏الرائد‏، ‏و‏ ‏ما‏ ‏دون‏ ‏ذلك‏ ‏يتبعه‏ ‏أو‏ ‏لا‏ ‏يتبعه‏، ‏وكان‏ ‏النموذج‏ ‏الذى ‏يحتذيه‏ ‏هنرى ‏إى ‏فى ‏رؤيته‏ ‏لترتيب‏ مستويات الشعور، ومن ثـَمَّ ‏منظومات‏ ‏الدماغ‏، ‏هو‏ ‏نموذج‏ ‏الفيلسوف‏ ‏طبيب‏ ‏الأعصاب‏‏ “‏هوجلج‏ ‏جاكسون‏” Huglig Jackson  ‏الذى ‏علمنا‏ ‏منذ‏ ‏القرن‏ ‏التاسع‏ ‏عشر‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏المخ‏ ‏البشرى ‏مرتب بشكل هيراركى متصاعد‏، ‏وأن‏ ‏الأعراض‏ ‏التى ‏تظهر‏ ‏فى ‏اضطرابات‏ ‏الجهاز‏ ‏العصبى ‏هى ‏مجموع‏ ‏فشل‏ ‏المستوى ‏الأعلى، ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏ظهور‏ (‏إطلاق‏ Release) ‏المستوى ‏الأدنى (‏الأقدم‏ ‏تطوريا‏)، ‏كما‏ ‏طمأننى هنرى إى ‏إلى ‏ما‏ ‏خطر‏ ‏لى ‏أثناء‏ ‏الممارسة‏ ‏عن‏ ‏علاقة‏ ‏الصْرع‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏بالأمراض‏ ‏النفسية‏، ‏وأيضا‏ ‏أعاد‏ ‏لى ‏ثقتى ‏بأن‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏المدارس‏، ‏أقرت‏ ‏أم‏ ‏نفت‏، ‏هى ‏ذات‏ ‏جذور‏ ‏بيولوجية‏، ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏يطلق‏ ‏على فكره مصطلح‏ “‏البيولوجية‏ ‏الدينامية”‏ Organo-dynamism‏ ولست متأكدا إن كان اسماه بــ “النظرية” أم لا.

وفى ‏فرنسا‏ ‏أيضا‏ ‏أتيحت‏ ‏لى ‏الفرصة‏ ‏لظروف‏ ‏شديدة الأهمية‏ أن‏ ‏أقرأ‏ ‏كتاب “‏جانترب”‏ ‏عن‏: “‏الظاهرة‏ ‏الشيزيدية‏ ‏والعلاقة‏ ‏بالموضوع‏ ‏والذات”‏([2]) ‏فانفتح‏ ‏لى ‏أفق‏ ‏لم‏ ‏أكن‏ ‏أحلم‏ ‏به‏ ‏فى ‏نقد‏ ‏فرويد‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏والتعرف‏ ‏على ‏ميلانى ‏كلاين Melanie Klein  ‏‏وفيربيرن Fairbairn (‏محلل‏ ‏جانترب‏) ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى، ‏وظللت‏ ‏وأنا‏ ‏أقرأ‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏ملتهما‏ ‏صفحاته‏ ‏أتعجب‏ ‏على ‏خيال‏ ‏هؤلاء‏ ‏الناس‏ ‏وهم‏ ‏يربطون‏ ‏كل‏ ‏شيء‏ ‏تال‏ ‏بعلاقة‏ ‏الطفل‏ ‏بأمه‏ ‏فى ‏الشهور‏ ‏الأولى ‏وهو‏ ‏يمر‏‏ ‏بالمواقف‏ ‏المختلفة‏ ‏من‏ ‏الشيزيدية‏ ‏إلى ‏البارنوية‏ ‏إلى ‏الاكتئابية‏، ‏ليظل‏ ‏متأثرا‏ ‏بموقفه‏ ‏الأول هذا‏ ‏طول‏ ‏حياته‏،‏ ‏بسبب‏ ‏موقف‏ ‏أمه منه‏ ‏بالذات‏ فى هذه المراحل، ‏وهى “الموضوع”‏ ‏الأول،‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الأشهر‏ ‏الباكرة‏، وبالرغم من اقتناعى بسلامة الأفكار ودقة الملاحظات وحبكة الخيال، إلا أننى كنت متحفظا طول الوقت على أن يكون موقف الأم أساسا هو المسئول عن مدة ومدى وآثار التوقف فى هذه المحطات النمائية التى اسمتها هذه المدرسة بالمواقع، وهى الموقع الشيزيدى Schizoid Position والموقع البارنوى  Paranoid Position، فالموقع الاكتئابى Depressive Position  (وذلك بعد أن عدّل جانترب الترتيب) من هنا بدأت نقلتى إلى البحث عن جذور هذه المواقف فى الفكر التطورى، وأننا نرثها أساسا من أسلافنا الأحياء، وأنها تختلف شدة وضعفا حسب جذورنا العرقية، وأيضا حسب التاريخ الوراثى الأقرب، وأن دور الأم هو دور تدعيمى لهذه المواقع الواحد تلو الآخر، وذلك أيضا حسب موقفها وتركيبها وطريقة علاقاتها بالكيان الطفلى النامى.

وحين‏ ‏رجعت‏ ‏إلى ‏الوطن‏، ‏ومنذ‏ ‏أوائل‏ ‏السبعينات‏ ‏وجدت‏ ‏نفسى ‏فى ‏رحاب‏ ‏سلسلة‏ ‏أخرى ‏من‏ ‏المدارس‏ ‏الأحدث‏ ‏كان‏ ‏من‏ ‏أهمها‏ ‏مدرسة‏ ‏التحليل‏ ‏التفاعلاتى Transactional Analysis ‏لصاحبها‏ ‏الدمث‏ ‏إريك‏ ‏بيرن‏([3])، ‏الذى ‏لا أظن أنه أتيحت له فرصا كافية لاستثمار‏ ‏هذا‏ ‏الفتح‏ ‏الهائل‏ ‏فشوهه‏ ‏تلاميذه‏ ‏بالتبسيط‏ ‏والتسطيح‏، ‏ثم‏ ‏”ساندور‏ ‏رادو”‏ ‏صاحب‏ ‏الفكر‏ ‏الهيراركى ‏البيولوجى ‏المتناغم‏، ‏ويقفز‏ ‏أستاذنا الرائع ‏ سلفانو‏ ‏أريتى Silvano Arieti ([4]) إلى ‏وسط‏ ‏سوق‏ ‏المدارس‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يصنف نفسه‏ كصاحب‏ ‏مدرسة خاصة، لكنها تصلنى باعتبارها المدرسة‏ ‏المعرفية‏ ‏الإرادية‏ Cognitive Volitional Theory ‏وإن‏ ‏كانت شهرة أريتى أكثر هى من خلال ‏ ‏كتابه‏ ‏العظيم‏ “‏تفسير‏ ‏الفصام‏”Interpretation of Schizophrenia، ‏ثم‏ ‏وصلنى – ربما مصادفة – كيف أن‏ ‏شولمانShulman ([5]) ‏من‏ ‏خلال‏ ‏كتابه‏ “‏مقالات‏ ‏فى ‏الفصام‏” Essays in Schizophrenia ‏قد عزى إلى “‏أدلر‏”  Alfred Adler ‏وعلم‏ ‏النفس‏ ‏الفردى مفهوما غائيا يعطى لأعراض الفصام معنى ودوراً، ‏ولم‏ ‏أكن‏ قد ‏أدركت‏ ‏باكرا‏ ‏أن‏ ‏أدرلر‏ ‏يمثل‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الغائية‏ ‏التى ‏التقطها‏ ‏شولمان‏، ‏فإذا‏ ‏به‏ ‏يرسم‏ ‏مسيرة‏ ‏الفصام‏ ‏على ‏لسان‏ ‏رحلة‏ ‏فصامى ‏وكأنه‏ ‏اختار‏ ‏هذا الحل المرضى الصعب‏ ‏ليحقق‏ ‏بأعراضه‏ ‏وتفككه‏ ‏وتفسخه‏ ‏وانسحابه‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يحققه‏ ‏فى ‏صحته‏ ‏التى ‏اعتبرها‏: ‏اغترابه‏، وكل هذا من صميم هذه الغائية المرضية ضد التطور لكنها من منظوره

وبعد

هكذا ظللت‏ ‏أمارس‏ ‏مهنتى ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏وأنا‏ ‏محاط‏ ‏بكل‏ ‏هذه‏ ‏الأفكار‏ ‏الهادية‏ ‏المضيئة‏، ‏آخذ ‏من‏ ‏كل‏ منها ‏ما‏ ‏يناسب‏ ‏مريضى ‏فى ‏وقت‏ ‏بداته‏ ‏لمرحلة‏ ‏بذاتها‏ ‏لهدف‏ ‏بذاته، أحاول أن استمع للأعراض والمواقف أكثر من رصدى للشكوى صفات السلوك، وأحاول أن أفهم وظيفتها أكثر من تركيزى على تسميتها، ثم أحاول أن أحقق لها وظيفتها بالسبيل السليم بدلا من تماديها فى التدهور إلى المآل المرضى السلبى مستعملا فى ذلك كل المتاح من معارفى وخبراتى بلا استثناء.

ثم لحق كل ذلك مغامرتى بكتابة كتابى الأم “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” وهو الذى أعيدُ طبعه حاليا (2019) فى عدة كتب بعد أن اضطررت لبعض الإضافات الهامة، مع أقل قدر من التعديلات فى الفكر الأساسى وقد كتبت المتن الشعرى سنة 1973/1974 فى حين كتبت شرح هذا المتن سنة 1979 وقد اكتشفت أنه احتوى الكثير من فكرى التطورى دون قصد أو تخطيط مسبق منظم، فحمدت الله.

أمـَـا وقد ‏ ‏لحق‏ ‏الطب‏ ‏النفسى التقليدى ‏ما‏ ‏لحقه‏ ‏من‏ “‏عوْلمة‏” ‏مغيرة (بعد أمـْـرَكـَـة خبيثة) كادت تشككنى فيما أفعل رافعا لواء ‏ما‏ ‏أسموه‏ ‏النموذج‏ ‏الطبى الحقيقىReal Medical model ، ‏فقد واصلت نقدى وتعلمى من مرضاى لأتبين أكثر فأكثر أن‏ ‏الطب‏ ‏النفسى قد انساق وراء فروع الطب الأخرى ‏فى ‏حكاية‏ ‏توحيد‏ ‏اللغة‏ ‏وزعم اللاأيديولوجية‏، ‏وزعم اللانظرية‏Atheoretical ‏حتى ‏ضاعت‏ ‏معالم‏ ‏كل‏ ‏شيء‏ ‏لحساب‏ ‏وصف‏ ‏سطحى تصنيفى ‏ليس‏ ‏له‏ ‏فائدة‏ ‏عملية‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏نتفق‏،… نتفق‏ ‏على ‏ماذا‏؟ ‏ليس‏ ‏مهما‏، ‏المهم‏ ‏أن‏ ‏نتفق‏، أين‏ ‏الهدف‏ ‏؟‏ ‏أين‏ ‏الإنسان‏ ‏؟‏ ‏ماذا‏ ‏نفعل‏ ‏ونحن‏ ‏نعالج‏ ‏؟…‏لنصل‏ ‏إلى ‏ماذا؟  ‏يعنى ‏ماذا؟‏

 وبرغم كا هذه الإغارة، وبرغم الوحدة وغموض المنهج ، فقد قمت بتقديم هذه الخطوط العريضة لهذه المحاولة النابعة من الممارسة الطويلة، والثقافة الخاصة، فضلا عن الحوار المتصل مع كل ما يصلنى من جديد، أو يستحدث من قديم، وقد رأيت أن أختم هذا العمل بنبذة مختصرة تفيد تعدد المدارس، والمداخل، والنماذج المتعلقة بمحاولة فهم الإنسان، ومن ثم تحديد ماهية المرض ومفهوم الصحة، ثم رحلة العلاج فيما بينهما حسب كل مدرسة.

لزوم ما يلزم :

مقدمة: هل يوجد فرق بين المدرسة والنظرية والأيديولوجى والنموذج؟ فيما يتعلق بالطب النفسى خاصة والعلوم النفسية عامة؟

لن أعرج إلى أى تنظير مطول، فالهدف هنا هو تذكرة الممارس أنه يتقن ممارسته أكثر فأكثر كلما تعرف على منظوماته المعرفية والكلينيكية طبقة وراء طبقة، فمن حيث المبدأ الأساسى دعونا نكرر أننا إنما نعالج مرضانا “بما هو نحن” حتى لو لم تعرف تحديداً “ما هو نحن” إلا أنه يعمل رغما عنا ويحدد اختيارنا ومنهجنا، بل ويقرر نوعية نتائجنا، ثم دعونا نحدد هذه الخطوط العريضة أولاً.

‏(1) ‏إن‏ ‏مزيدا‏ ‏من‏ ‏المدار‏س يمكن‏ ‏أن‏ ‏تزداد‏ ‏مع زيادة النقد والمراجعة وتجدد الفروض وتتبع النتائج.

‏(2) ‏إن‏ ‏ثم‏ ‏اتفاقاً ‏عاماً‏ ‏يشمل‏ ‏أغلب‏ ‏النظريات‏ (‏لا‏ ‏كلها‏) ‏يؤكد‏ ‏على ‏قيم‏ ‏مشتركة‏ ‏مثل‏: ‏التوازن‏ (‏الداخلي‏) ، ‏والتكيف‏ (‏مع‏ ‏الآخر‏)، ‏تأكيد‏ ‏الذات‏، ‏واستمرار‏ ‏النمو‏.‏

‏(3) ‏إن‏ ‏كل ما سوف أقدمه ليس إلا ‏مجرد‏ ‏عينات‏، ‏والمقصود هو التنبيه  على المبدأ الذى نكرره باستمرار من حيث استحالة ‏فهم‏ ‏المرض‏ ‏النفسي‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏ممارسة‏ ‏التطبيب‏ ‏النفسي‏، ‏بدون خلفية نظرية كإطار معرفى له معالمه (ولو لا شعورياً)، وأن ادعاء غير ذلك هو من أخطر‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏على ‏الممارس.

(4) إن الإطار المعرفى ليس بالضرورة مرادفا لما هو”أ]ديولوجيا” لكنه ليس بعيدا عنها ، ذلك لأن  تَبَنِّى نظرية ما لا يعنى الاعتقاد فى أيديولوجية ساكنة، وإنما هو اعتراف بالموجود– كبداية- وهو قابل للتحور والتعديل والتطوير من خلال الممارسة.

(5) إن‏ ‏من‏ ‏يتنازل‏ ‏عن‏ ‏فكرة‏ ‏الاستهداء‏ ‏بنظرية‏ ‏ما‏ ‏بدرجة‏ ‏ما‏ ‏من‏ ‏الوعى‏، ‏إنما‏ ‏يستسلم‏ ‏لنظرية‏ ‏خفية‏، ‏يديرها‏ ‏هو‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يعلم‏، ‏أو‏ ‏يدار‏ ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏من‏ ‏وراء‏ ‏ظهره‏ (عادة لغير صالح المريض، ربما لصالح شركات الدواء أو المال أو السلطة أو العولمة المغيرة).‏

(6)  ‏إن‏  ‏بعض‏  ‏أبجدية‏ ‏بعض‏ ‏النظريات‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تترجم‏ (‏بتحفظ‏) ‏إلى‏ ‏أبجدية‏ ‏نظرية أخرى ‏.

‏(7) ‏إن‏ ‏الانتقائية‏ ‏ليست‏ ‏هى‏ ‏التلفيقية‏، ‏بل‏ ‏هى ‏تكاد‏ ‏تكون‏ ‏نقيضها، ‏وهى ‏تحدث‏ ‏تلقائيا‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏الممارس‏ ‏صاحب‏ ‏الخبرة‏.‏

وسوف أكتفى فى كل المدارس بتحديد أربع عناصر هى التى تحكم الممارسة بشكل أو بآخر، فكل ممارس لابد أن عنده إجابات ولو غامضة عن هذه الأسئلة الأربعة:

1- ماهية من هو الإنسان؟

2- ما هو مفهوم الصحة النفسية؟

3- ما هو مفهوم المرض؟

4- إذن: كيف العلاج؟ (من وجهة نظر هذه الإجابات الثلاث السابقة؟)

إذا لم نجب نحن الأطباء عن هذه الأسئلة، فما جدوى أن ندرس هذه المدرسة أو تلك ، نحن أطباء نفسيون، ولسنا فلاسفة.

الفلسفة تدور كثيرا حول كليات منها السؤال الأول، وإلى درجة أقل الثانى، ولكنها لا تُعنـَى كثيرا بالسؤال الثالث والرابع،

الطب النفسى (أغلبه الآن) يبدأ من السؤال الثانى (خفيف خفيف) ثم يجد نفسه مستغرقا فى السؤال الثالث والرابع.

أى طبيب نفسى  لو تمعن الأمر، لوجد السؤال الأول والثانى حاضرين كأقوى ما يكون داخله أو داخل داخله.

 وبما أن المسألة أغلبها فى الداخل هكذا (دعنا الآن من كلمة اللاشعور كما جنّبنا كلمة  الفطرة مؤقتا)، فإنه (الطبيب) يمارس مهنته، بما فى ذلك اختياراته وتفضيله هذا العلاج عن ذاك، وقياسه فاعلية ما يفعل نوعا وكما، يفعل كل ذلك من خلال تأثير السؤال الأول والثانى (عن الإنسان والصحة)، ، سواء اعترف بذلك لنفسه أم لا.

كثير من الأطباء يتصورون أن هذه مسائل نظرية لا تعنيهم، لكن واقع الأمر أنهم يمارسون مهنتهم من خلال إجابتهم عنها دون أن يدروا.

وأستطيع أن أتصور أن هناك إجابتين خطيرتين تكمنان داخل كل طبيب نفسى، هو لا يكاد يعرفهما غالبا، وهما إجابتان تحددان اختياراته وممارساته ،  وكل إجابة منهما تشير إلى الرد على السؤال الأول والثانى معا.

الإجابة الأولى: (مرة أخرى من داخل داخل الطبيب)

الإنسان هو ما أمثله أنا شخصيا ، والصحة النفسية تقاس بما أنا فيه وما أفعله وأريده أو أرجو أن أكونه.

الإجابة الثانية:

إن مفهوم ماهية الإنسان هو أمر لا يعنينى لأننى لا أتفلسف، والصحة النفسية هى ما أقرأ عنه فى أمهات الكتب الطبنفسية جدا، والمجلات العلمية المُحكَّمة جدا جدا، الممولة بالسلامة من شركات الدواء الأحدث فالأحدث.

اكتشفت الآن  أننى حين وضعت نظريتى (“النظرية الإيقاعية التطورية”) كان يشغلنى هذا الشاغل الذى يمثل الإجابة الأرجح لهذه الأسئلة الأربعة، وربما هذا هو ما دعانى إلى الغوص  فى جذور مثل هذه المسائل الأساسية هكذا، ومن بينها الجنس والعدوان والإبداع والمرض واللغة والنمو البشرى والنقد والتطور الحيوى، والإيمان.

وهل يحتاج الأمر إلى شرح علاقة كل ذلك بممارسة الطب النفسى ؟

نعم يحتاج

ولكن الذى حدث هو أننى بعد أن قمت بما سبق أن جمعته وقسمته إلى مجموعات ثم جدولته ونشرته باللغتين الإنجليزية والعربية، وقد بدأت هذا كله سنة 1980 وكنت فى مهمة فى الخارج وعندى فائض من الوقت، إلا أننى حين رجعت إليه الآن وقد تم نشره كما هو مع ما طرأ عليه من تعديلات طفيفة أو إضافات شارحه توقفت فجأة وتراجعت.

نعم هذا ما حدث، وقررت ألا أشغل قارئى بمجرد تعداد وصفى لما قد لايحتاجه إلا لمزيد من الإحاطة النظرية فاخترت من كل مجموعة مدرسة واحدة مـُـمثـِّـلة.

وقبل أن أعرض مجرد إشارة إلى بعض ما جمعت فى الربع قرن الأخير أقر واعترف أن مدارس ونظريات جديدة غاية فى الأهمية وبالذات فى مجال يسمى العلم المعرفى والعلم المعرفى العصبى قد ظهرت وانتشرت وتستحق العرض والمناقشة.

إن ظهور هذه النظريات الجديدة، أو تطور النظريات القديمة له دلالتان:

الأولى: إن تعدد هذه النظريات إنما يدل على صعوبة ما تتناوله وغموضه.

الثانية: إن باب الاجتهاد لم يقفل، ولا ينبغى أن يقفل ما دامت المعرفة منفتحة.

وبعد

وفيما يلى مجرد إشارة إلى بعض تلك المدارس التى أحببتها، وحاورتها ورفضت بعضها، وكتبت عنها فى موقعى، وفى كتاباتى السابقة، وهى لا تمثل كل ما أوصى بالاطلاع عليه، وقد اكتفيت ببضع كلمات تبين بعض موقفى من أساسيات هذا العمل أو ذاك، وهى كلمات لا تنفصل عن علاقة منظومة الطبيب والمعالج الظاهرة والخفية (أسطورته الذاتية) من موقفه العلاجى وطريقته ونتائجه

كما حذفت آسفاً أية إشارة لمدارس أحببتها وأثرتنى لكننى فضلت ألا أطيل أكثر من ذلك.

…………………..

…………………..

ونواصل الأسبوع القادم عرض نماذج “المدارس النفسية”

ــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى: (2019)  الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.

[2] -Harry Guntrip, Schizoid phenomena, object-relations, and the self , Published 1969 by International Universities Press in New York .

[3] –  Eric Berne, Transactional Analysis in Psychotherapy in 1961

[4] –  Silvano Arieti , Interpretation of Schizophrenia (first edition, 1955)

[5] – Bernard H Shulman, Essays in schizophrenia, Baltimore, Williams & Wilkins,1968

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *