الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطفات من سلسلة “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الكتاب الأول: “النظرية والفروض الأساسية” (29)

مقتطفات من سلسلة “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الكتاب الأول: “النظرية والفروض الأساسية” (29)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 5-3-2022

السنة الخامسة عشر

العدد: 5299

مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” (1)

الكتاب الأول: “النظرية والفروض الأساسية” (29)  

مقدمة:

نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب، لعله الأهم، أن تُقْرأ نشرة اليوم التى سنقدم فيها ما تيسر من الفصل الثامن،

كما أوصى بالبدء بقراءة نشرة الأسبوع الماضى قبل قراءة هذه النشرة.

                      يحيى

الفصل الثامن

هامش: عن الطاقة والوعى والصرْع!! (3)

…………..

………….

الشواهد الكلينيكية”

سوف أقدم الآن بعض الملاحظات المحدودة التى ربما تدعم ما قدمت من فروض الطاقة والإيقاع الحيوى وعلاقتها بالصرْع، وذلك من خلال ما لاحظته فى خبرتنا الكلينيكية فى ثقافتنا وخبرتنا المهنية الخاصة، علما بأننى لم أمارس العلاج الجمعى تحديدا مع صرْعيين بالذات، ربما يرجع ذلك إلى أننى أمارس العلاج الجمعى منذ خمس وأربعين عاما (2)، مع مجموعات غير متجانسة بالضرورة، وأن فروض علاقة الصرْع بهذا العلاج لم تحضرنى بدرجة كافية، فلم أتعمد إدخال صرعيين فيه، وبصراحة لم أتعمد إبعادهم!!

وفيما يلى عرض لبعض مشاهداتى فى الممارسة العادية بالعيادة الخارجية وفى علاج الوسط Milieu therapy بما يدعم هذه الفروض، حيث لاحظت ما يلى:

أولاً: إن نوبات الصرْع تقل إذا ما تواجد المريض فى جو أسرى دافئ محيط: غير مفرط فى “الشفقة” أو فى “التفويت”، وأيضا إذا كان مجتمعا لا يمارس “الرفض” أو “الوصم”.

ثانياً: إن النوبات تزداد (برغم ثبات جرعة مضادات الصرْع) بعد صدمات الإحباط، خاصة صدمات الترك أو الرفض فى  العلاقات العاطفية.

ثالثاً: إن نوبات الصرْع تقل إذا ما ظهر معها – وليس نتيجة لها – ذهان وجدانى نشط بالذات، ولعل هذا التناسب العكسى إنما يشير إلى التبادل المحتمل بين الذهانات الوجدانية الدورية ونوبات الصرْع

رابعاً : إن الإفراط فى استعمال مضادات الصرْع حتى تختفى النوبات أو تصبح نادرة، قد يتواكب فعلا مع ظهور ذهان التطبيع القهرى Forced Normalization Psychosis

خامساً: إن نوبات الصرْع تقل بشكل واضح حين يدخل المريض مستشفى المجتمع العلاجى الذى أمارس فيه نشاطى بمفهوم علاج الوسط Mileu Therapy، وأضيف هنا تذكرة بأن بعض هؤلاء المرضى يدخلون المستشفى عادة لسبب آخر غير نوبات الصرْع.

سادساً: مع زيادة النشاط الجماعى والبدنى فى علاج الوسط هذا، أقوم أحيانا – وبحسابات وتـَنـَاسُبٍ كلينيكى– بإنقاص تدريجى لجرعات مضادات الصرْع تناسبا مع زيادة التنشيط والحركية الجماعية، ولا تزيد نوبات الصرْع عادة نتيجة هذا الإنقاص، بل أحيانا تقل.

سابعا: أنه يوجد تناسب عكسى أكثر كلما امتد النشاط الجماعى إلى رحلات طويلة، وخاصة إلى شاطئ البحر، أو إلى أى نشاط متسع فيه خضرة كثيفة وأشجار باسقة وبرنامج جسدى أكثر نشاطات وتنشيطا.

ثامنا: فى بعض الحالات القليلة كانت هناك فرصة للربط بين النشاط الإبداعى ضمن برنامج التأهيل وعدد نوبات الصرْع التى كانت تقل كلما زاد هذا النشاط.

وصف حالة:

كان صحفيا فى منتصف العمر مبدعا نادرا متواضعا يكتب قصصا قصيرة بالإضافة إلى عمله الروتينى لأكل العيش، وفى نفس الوقت يتكسب قوت يومه من عمل محدود بالصحافة، وكان يكتب على مستوى متميز من الإبداع، ليس له علاقة بنوع وظيفته فى الصحيفة، ونظراً لعلاقتى بالنقد الأدبى وبعض محاولات الكتابة طلبت منه أن اطـّلع على قصصه، وقد وجدتها لا تقل عن قصص يوسف إدريس أو القصص القصيرة التى يكتبها نجيب محفوظ، وكان هذا المريض يعانى من نوبات الصرْع الصغرى Petit-Mal ولا يتعاطى لها علاجا، واستمرت علاقتى به مدة سمحت لى بالملاحظات التالية:

1- كان قد استطاع أن يتكيـّف مع النوبات طول الوقت، ربما  نظرا لقصر مدتها

2- كان يتشجع وينبه محدثه إذا كان أليفا قريبا أنه قد يسرح أثناء الحوار لمدة ثانية أو أكثر لكنه يستطيع أن يـُكمل، وسوف يلحقه!!! وكان المقربون يتقبلون ذلك باحترام وترحيب.

3 – فضّل أن يتمادى فى هذا التكيف وألا يتعاطى علاجا مضادا لهذه النوبات، شاكيا من أن الأقراص (مضادات الصرْع، بعد أن جرَبها)(!!!) تقلل من حدة يقظته وحركية إبداعه.

4- كانت النوبات تقل تلقائيا بشكل ملحوظ كلما استغرق فى كتابة قصة أو مجموعة يرى أنها أكثر عمقا وأنشط تشكيلا.

5- كان يرسل إبداعه لينشر فى دار نشر فى بيروت، وينتظر خطاب قبول النشر بلهفة، وقد لاحظ أن لهفته هذه مهما اشتدت لا تزيد من عدد النوبات،

6- فى حين أنه لاحـَظَ، وحكى لى: أنه حين يأتيه خبر قبول النشر تقل النوبات، أما إذا اعتذرت دار النشر، فكان يعانى من تضاعف النوبات.

7- كان إذا استغرق فى عمل إبداعى جديد،  ولو بعد فترة من رفض النشر تقل النوبات.

وقد ناقشته فى كل ذلك، وقدّمت له فروضى عن الطاقة التى يبدو أنها كانت تلوح لى من قديم، وأن الطاقة الحيوية إذا وَجَدَت لها موضوعا ومـَخْرجا ومُـتـَلقـِّـياً تصبح وقوداً للإبداع الفائق، أما إذا حيل بينها وبين ذلك فإن الطاقة ترتد إلى الداخل وتتراكم حتى تخرج من نقاط الضعف الجاهزة لتفريغها مثل نوبات الصرْع التى تنتابه.

وقد اقتنع بذلك وفرح بهذا الربط، بل وعقب عليه أن هذا الفرض يبدو صحيحا حتى لو كان المتلقى للطاقة قارئا لا يعرفه، ولو فى بلد بعيد، وحين حاول صديق له أن يفسر تزايد عدد النوبات عند رفض النشر  بما يسمى “الإحباط” رفض  أن تكون المسألة مجرد “إحباط” بالتفسير العادى، وشرح له الفرض الذى أبلغته إياه.

الخلاصة:

مجالات تنقل سريان وتفعيل ودفع الطاقة الحيوية للمخ:

يمكن افتراض أن هذه الطاقة هى المسئولة عن زخم الإبداع، بقدر ما هى مسئولة عن التفريغ النوبى (الصرْع)، وأحيانا عن تفجير الذهانات الدورية المختلفة

 فإذا لم تجد الطاقة سبيلا سويا للشحن أو التفريغ ظهر احتمال ارتدادها عشوائيا إلى إفساد الهارمونية الإيقاعية التشكيلية، ومن ثم ظهور الصرْع أو ظهور أمراض أكثر تفسخا وأخطر مآلا وخاصة الذهانات الدورية!!

مع بعض القادة والمبدعين المصابين بالصرْع:

قبل أن أعرض هذه العينة من الأسماء، أود أن أحدد قواعد انتقاء من سترد أسماؤهم:

1) اخترت الأسماء المشهورة، ليس بأنها صرعية ابتداءً، ولكن المشهورة بفيض العطاء الإبداعى تاريخا وإنجازا، ثم عرف عنها أنها تعانى من هذه الظاهرة مع ذلك.

2) جعلت نفسى ومعارفى مقياسا متحيزا لذلك، فاخترت الأسماء التى ألِفْتهُا أو شدتنى إليها، أو التى أحببتها بوجه خاص أو التى هدانى إليها بعض زملائى وطلبتى.

3) كان من بين هؤلاء من كان يصلنى عفوا من إطلاعاتى أنه صرعى، وذلك قبل أن أستشير عمنا “جوجل”، الذى أكد لى أن كثيرا ممن جمعتهم وأحبيتهم وقرأت لهم، أو أعجبت بهم، كانوا صرعيين فعلا، فسجلت بعضهم، وهم كُثْر، حتى فاضوا عن احتياجى.

4) وصلنى أثناء فحصى أن بعض نوبات هؤلاء قد لا تنطبق عليها وصف نوبات الصرع بشكل محدد متفق عليه كلينيكيا، ولم أتحقق من ذلك تماما، لكننى رحبت به كاحتمال نادر غالبا، فقط: حاولت أن أتأكد من أن هذه النوبات كان يصاحبها تغير فى الوعى قَصُرَ أم طَالْ، وعلى سبيل المثال، تعجبت كيف أنكر سيجموند فرويد أن يكون ديستويفسكى صرعيا أصلا، واعتبر انه وصف نفسه بذلك خطأ، وأن نوباته كانت من نوع الانشقاق الهستيرى، وقد رفضت ذلك تماما، فلا هو يساير وصف ديستويفسكى لنفسه ونوباته، وخاصة إرهاصات النوبة، ولا هو حتى يتناسب مع مذكرات زوجته التى وصلتنى حديثا  (3)

5) اكتفيت أن أقتطف ما يسمح بالتعريف بكل شخصية بأقل قدر من المعلومات الضرورية، وهو أمر لازم لمن لا يعرفهم أصلا (وأظن أن ذلك نادر)

6) تعمدت أن أثبت من النص المتاح من كرم عمنا “جوجل” الجملة التى حددت النوبة بأنها صرع (ربما لتكون فى النهاية العهدة على المصدر).

7) اكتفيت بتسعة عشر شخصية، حسب اجتهادى، وفى نفس الوقت، أعطى الفرصة لمن يتفضل بالرجوع إلى الأصول أن يساعدنى فى التحقق مما وصلنى.

وفيما يلى المجموعة المناسبة مع أقل قدر من التعقيب:

(1) فيثاغورث: ولد فى عام 570 قبل الميلاد فى جزيرة ساموس على الساحل اليونانى وتوفى فى عام 495 قبل الميلاد.Screenshot (9)

وقد قام برحلات فى شبابه ما بين سوريا والعراق، ثم زار مصر أقام بها حتى بلغ الـ40 من عمره، وبعد 20 سنة من الترحال والدراسة تمكن «فيثاغورث» من تعلم كل ما هو معروف فى الرياضيات من مختلف الحضارات المعروفة آنذاك، رغم معاناته من الصرع طوال حياته.

تعقيب:

فرحت بأن أعرف أنه بالإضافة إلى إبداعه فى الرياضة نشط تحصيله لكل هذه المعارف ولم يعقـْه الصرْع، (ثم سررت سرا بأنه كان ضيفا كريما عندنا فى مصر من قديم، أهلا به وسهلا)

 (2) سقراط: ولد عام 469 قبل الميلاد، وأعدم فى عام ٣٩٩ قبل الميلاد.Screenshot (11)

 سقراط  – طبعا- هو أشهر من أن يُعرّف فى التاريخ البشرى برمته: كان مصابا بالصرع، ويُذكر أن تلاميذه كانوا يشعرون بالفزع عندما يفقد أستاذهم الوعى ويسقط فجأة وتتراخى عضلاته، ثم يغط بعدها فى نوم عميق، والمعروف عن سقراط أنه لم يضع أية مؤلفات، وعرفت معظم المعلومات عن حياته وتعاليمه من تليمذيه «زينفون» “افلاطون” الذى كان تلميذه أيضا.

تعقيب:

هذا الوصف من تلاميذه بالغ الدلالة لكون النوبة صرْعا جسيما، وقد حضرتّنى بوجه خاص المحاورة عن محاكمته، وهى النموذج الإنسانى الأرقى لاحترام القانون من ثائر دفع حياته ليبلغ هذه الرسالة لتلاميذه وناسه والتاريخ!!

(3) أرسطو: ولد عام 384 قبل الميلاد، وتوفى عام 322 : قبل الميلاد.

ننتقل من سقراط إلى أرسطو – دون أن نتوقف عند أفلاطون – وقد كان لأرسطو تأثير تاريخى فى العديد من العلوم ومنها: علم الحيوان، الأحياء، الأخلاق، السياسة، الفيزياء والميتافيزيقا، إضافة إلى الموسيقى والشعر والمسرح، ونظرا لما كان يتصف به أرسطو من موسوعية، أصبح المعلم الأول للإمبراطور الاسكندر الأكبScreenshot (13)ر الذى كان مصابا بالصرع أيضا، وقد تم ربط صرع أرسطو بعبقريته، وكان يرى هو نفسه أن الاضطرابات العصبية قد يكون لها القدرة على زيادة نشاط الدماغ فى أماكن محددة، وربما أيضا تعزز قدرات الأشخاص الجسمانية إلى حد كبير.

تعقيب:

تعجبت من هذا الحدس الأخير لأرسطو عن طبيعة مرضه والزيادة فى نشاط الدماغ، والقدرات الجسمانية، حيث وصلتنى من ذلك علاقة مباشرة تدعم فرض “زخم الطاقة” الذى قدمناه حالا.

(4) الإسكندر الأكبر: ولد فى ٣٥٦ : قبل الميلاد، وتوفى ٣٢٣ قبل الميلاد

هو واحد من أشهر المصابين بالصرع عبر التاريخ، … ولد فى العاصمة المقدونية القديمة، بيلا، فى 20يوليو356: قبل الميلاد، وتتلمذ على يد «أرسطو» وScreenshot (12)اعتبره معلمه الخاص الذى درّبه تدريبا شاملا على فن الخطابة والأدب.

وتعلم الاسكندر الأكبر فنون الحرب، وتولى مكان أبيه بعد اغتياله، عام 336 ق. م، وكان عمره وقتذاك 20 عاما،..لم يخسر معركة قط خلال 11 سنة من القتال ضد قوات تفوقه عددا.

وكان الاسكندر مصابا بالصرع وكان يعرف وقتها باسم «المرض المقدس»  

….

الاسكندر – طبعا –  لا يحتاج منا إلى تذكرة أو تعقيب.

……………

 (ونكمل غدًا)

 

[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث أبواب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022) (تحت الطبع)

[2] – يحيى الرخاوى: “مقدمة فى العلاج الجمعى (1) من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق” (2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.

[3] – (“أنا جريجوريفنا ديستويفسكايا” مذكرات زوجة دستويفسكى) تأليف: آنا جريجوريفنا، ترجمة: أنور محمد إبراهيم  – المركز القومى للترجمة – القاهرة – سنة 2015 – وتقع فى (636) صفحة من القطع الكبير.

 

النشرة السابقة 1النشرة التالية 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *