نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 12-2-2022
السنة الخامسة عشر
العدد: 5278
مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” (1)
الكتاب الأول: “النظرية والفروض الأساسية” (23)
مقدمة:
نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب، لعله الأهم، أن تُقْرأ نشرة اليوم التى سنقدم فيها ما تيسر من الفصل السابع، كما أوصى بالبدء بقراءة نشرة الأسبوع الماضى.
يحيى
الفصل السابع
جدل مستويات الوعى “التناص” Inter-textuality (6)
…………..
…………..
التناص الأدبى – كما ذكرنا – هو استلهام نص أسبق يكمن فى لا وعى مبدع النص الأحدث أكثر مما يظهر مباشرة فى نص إبداعه الجديد، فهو يحضر بروحه ونبضه فى نصٍّ أحدث، أما التناص فى نقد النص البشرى في الطب النفسى الإيقاعحيوى فهو حركية شاملة بين “نص حاضر” و”نص آخر” “حاضر فى نفس الوقت”، وكلا النصين هما من خلق بديع السماوات والأرض، وليس لتناصهما أدنى علاقة بمنافسة الله فى خلقه وقدراته عز وجلّ، التناصَ فى العلاج نقدا هو بين نص قد ضلّ الطريق إليه، مرَضَا أو كفرا حتى هلك أو كاد، وبين نص مسئول بقدر ما حمل أمانة ما خُلِقَ به، وما خُلِقَ له، “وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيْعًا” هل معنى ذلك أن ينقلب العلاج إلى صلاة وكدح إليه حتى يعود النص المريض إلى سوائه ويواصل مسيرته إليه، مع نفسه؟ وهل هذا علاج نفسى أو طريق تصوف؟
هل هذا العلاج يحاول أن يحتوى فسيفساء كل وعى يلجأ إليه يطلب العون بحق ليعود كما خـُلـِق؟
هل هذا هو ما يجرى بدءًا بما يسمى جدل الوعى البينشخصى إلى تخليق الوعى الجمعى؟ إلى الوعى المحيط؟ إلى الوعى المطلق؟ إلى الوعى الممتد فى الغيب؟ إلى وجه خالق كل ذلك؟
لا أطلب ولا أفرض أية إجابات حاسمة، لكنه دعاء لمن خلقنا لنتعارف بأن يعيننا أن نزكى أنفسنا ولو بأن نُحيى نفسا واحدة: فكأنما يحيِى الناس جميعا.
أخشى ما أخشاه أن يقفز المفسرون الأوصياء، والمتحمسون السطحيون ويتصورون أن المسألة هى تطبيق أرائهم ومفاهيمهم عن مثل هذه الممارسة الطبية تحت أى عنوان دينى مثل “الطب النفسى الاسلامى” أو “الطب النفسى المسيحى”… الخ، هذا أبعد ما يكون عن ما أحاول أن أقدمه، لأنه حتى فى التناص الأدبى لا توجد وصاية تفسيرية، حتى والناقد يربط بين النص الأحدث والنص الأقدم فهو يقوم بكدح إبداعى وهو يعيد النظر في تشكيل النص الأحدث مع ربطه بروح النص الأقدم، حتى يخلِّق نصا نقديا جديدا تحت لافتة الإبداع النقد.
فى العلاج من منطلق نقد النص البشرى الذى يستحق حالا الوصف بـ “التناص” لا يجرى البحث عن العلاقة بين نص غائب ونص حاضر، وإنما بين نصين حاضرين:
أحدهما مُعطَّل أو مُشَوّه أو متألم ألما فائقا معجّزا أو متفسخا أو هامدا مندملا (المريض)
والآخر مجتهد ملتزم كادح حاضر وناقد يحاول، (المعالج)
وكلاهما قد يستعين بنصوص آنية أخرى متفاعلة معا فى هنا والآن (العلاج الجمعى) أو بنصوص أكثر فأكثر من المعالجين والمرضى (علاج الوسط) ويمكن وصف ذلك بأنه جهاد إيمانى تخليقى متصل، حالة كوننا نتعرف من خلاله على بديع النص الأصلى – فطرة الله التى فطر الناس عليها – قبل أن يفسده صاحبه حين فشل فى حمل أمانته، وأحد مظاهر هذا الفشل فى مجالنا هذا هو ما يسمى “المرض النفسى” .
نتذكر معا مرة ثانية أن النقد الأحدث اعتبر: “كل نص هو تناص”، بل أن هناك من بالغ فاعتبر كل حوار تناصا، بمعنى أن أى كلام هو قد سبق قوله، حتى استشهدوا بقول على ابن أبى طالب كرم الله وجهه أنه: “لولا أن الكلام يُعَاد لَنَفَد” (2) وقول عنترة بن شداد “هَلْ غَادَرَ الشّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ” (3).
لكن دعونا نسترشد بالأحدث فنتذكر ما سبق أن أوردناه فى وصف النص الأدبى من مدخل التناص كالتالى:
“… النص الأدبى يمثل كتلة من الفسيفساء المتداخلة بالاقتباسات والمعانى وقد شربت معان أخرى جديدة مطروحة فى النص، وكل نص هو تحُّولٌ وتحويل لنصوص أخرى“،
ولعل أى ممارس للعلاج الجمعى خاصة (4) يباشر مثل ذلك تماما فى ممارسته الكلينيكية، ذلك أن هذه الفرصة الفريدة فى العلاج الجمعى تسمح للممارس بمعايشة هذه المجاميع من الفسيفساء المتجمعة فى نصوص بشرية تمثل إبداعا لا مثيل له، أولا فى كل فرد على حدة، ثم معاً، ثم يحضر وعى المعالج فى مواجهة ومشاركة وتفاعل هذه المجاميع من الوحدات الحية التى تمثل كل منها مجاميع من الفسيفساء أيضا: حتى يتواصل التشابك بين نفس ملايين التشكيلات التى يتكون منها المخ وتسَمِّع فى كل خلية فى الجسد، فلا يقتصر العلاج على رصد وتحليل الألفاظ المتداولة أو السلوك الظاهر أو المناقشات والاقناع بل يمتد إلى حركية إبداع بين مستويات الوعى للفرد وللمجموع بشكل متبادل طول الوقت بين كل وحدات فسيفساء الوعى المُنَشَّطةِ النابضة.
ملاحظة خاتمة:
لاحظت فى هذه المقارنات عامة أن كل ما استطعت أن أطلع عليه من دراسات نقدية فى التناص لم تستعمل أصلا كلمتى “الوعى” أو “التطور”، فى حين أننى حين أستلهم جهودهم الرائدة لتوضيح ما أعنى بنقد النص البشرى أكاد لا أستعمل إلا مصطلح “الوعى” الذى يقوم عندى بكل ما تعنيه المنظومات النيورونية الهيراركية وطبقات المشتبكات المشتملة، كل ذلك على مسار نبض التطور المستمر، وتفعيل العقل الاعتمالى الوجدانى للمعلومات، ثم لا أجد برغم هذا الاختلاف أننى ابتعدت ولا قليلا عن الفكرة التى جمعت بين التناصّ فى النقد الأدبى، وبين نقد الوعى البشرى علاجا.
المزيد من محاولة الشرح
أتصور أحيانا أن “التناصّ” هو فرض عين، لا فرض كفاية، على من يتصدى لما يسمى “علاج المرض النفسى”، ناهيك عن تربية الأطفال، وعن حمل الأمانة عموما، ومع ذلك فقد شعرت بالحرج وأنا أبتعد عن أبجدية الطب التقليدى، والدواء، ودع القلق ومثل هذا الكلام، وكالعادة التمست للجميع العذر، فلا الأطباء النفسيون (وربما النفسيون عموما) مهتمون بالنقد الأدبى، ولا النقاد غالبا يقبلون بسهولة من يتطفل على تخصصهم ويستعيره لغير ما تخصصوا فيه، فلمن أكتب؟ ولمن أكتب هكذا هنا بالذات؟ أعتقد أن أى متابع لما أحاوله سوف يعرف الإجابة.
المهم أننى التمست العذر لهؤلاء وأولئك، وانتبهت إلى أننى وأنا ما زلت فى مقدمة العمل غُصْتُ فجأة فى موضوع غير مألوف بالنسبة للأطباء والنفسيين عموما، وهو موضوع بدأ فى النقد، ومع أننى كررت مرارا أن ممارستى للنقد الأدبى هى التى هدتنى إلى أن أتعامل مع الكائن البشرى على أنه “نص” أبدعه من ليس كمثله شىء على أحسن تقويم، إلا أنه ثبت أن كلمة “نص” فى حد ذاتها غير مألوفة عند هؤلاء المختصين النفسيين، فما بالك بكلمة أكثر غرابة وهى مشتقة من لفظ “النص” وهى “التناصّ”.
التناص لغة فى الأصل يفيد “الازدحام”، تناصّ الناس: أخذ بعضهم بنواصى بعض فى الخصومة عادة، أما تناصّت الأشياء: فتعنى اتصلت وتقابلت، والتناص كمصطلح أدبى يشمل المعنيين معا، ولن أرجع لما سبق شرحه فى أصل وبعض تاريخ استعمال هذا المصطلح فى النقد الأدبى، بل أننى أكاد أجزم أن أغلب الزملاء الأطباء والنفسيون لا يستسيغون كلمة نَقْد أصلا، وليس فقط التناصّ فى النقد، فكثير منهم يفضل أن يتعامل مع ما يتصور أنه الحقائق الثابتة والمعلومات المحُكْمة، وهو لكى يفعل ذلك عليه أن يختزل الإنسان (المريض ونفسه) إلى أى من ذلك، فإذا اختصرهُ إلى “الحقائق الثابتة”: راح يطبق عليه أيديولوجيا جاهزة صلبة لا تحتمل النقد، وإذا اختصره إلى “المعلومات المُحْكمة” أخذ يتعامل معه بالقطعة، أعنى بالتجزئة حسب المعلومة التى وصلت إليه من معمل كيمياء أو نظرية مشتبكية موصـّلاتية (5). وبالرغم من أننى كررت اعتراضى على هذا و ذاك كثيرا، إلا أننى أعتقد أن الكثيرين تقبلوه بطيبة وكرم، ولكن بحذر يؤدى إلى الرفض غالبا فى النهاية.
بعد أن التمست للجميع العذر، عدت أتساءل: ما هى علاقة هؤلاء الأفاضل بكلمة “نقد” أصلا بعيدا عن النص البشرى وعن النص الأدبى، هل يمكن أن ينمو التفكير العادى عند الطفل العادى إلا من خلال ممارسة النقد المستمر، وإعادة النظر، طول الوقت (ثم المفروض طول العمر)؟ أليس التفكير الفرضى الاستنتاجى (6) الذى يظهر عند الطفل حول سن السابعة وقبلها هو تفكير نقدى بالدرجة الأولى؟ أليس التقدم عموما، بل وتاريخ الحضارات الإيجابى هو سلسلة من النقد المتوالى لا تنقطع خاصة بعد فترات السقوط أو الانهيار؟ فلماذا يا ترى ننفر من كلمة “نقد” حين نصف النص البشرى؟ لقد عذرتهم حين استغربوا كلمة “تناصّ” ولكن عذرى لهم كان أقل وأنا أتصور رفضهم لكلمة “نقد”؟، وهل التفكير السليم من أول المحادثة الجادة حتى جدل الحوار الهادف إلا مستويات وملفات من النقد؟ ثم لعلهم رفضوا أيضا أن نتعامل مع الإنسان باعتباره “نصا” مخلوقا مع أنه أكرم ما أبدع بديع السماوات والأرض من نصوص!!
انتبهت أيضا إلى إشكالة أخرى يمكن أن تمثل حاجزا أو متاهة فى مواجهة ما أريد توصيله، وذلك حين انتبهت إلى إفراطى فى استعمال كلمة “الوعى” أو مصطلح “الوعى” بشكل خاص، وهى كلمة – برغم شيوعها – إلا أنها تصل إلى عامة الناس، وأيضا إلى فئات مختلفة من تخصصات متنوعة غير ما أقصد إليه وأعايشه، فبمجرد أن تذكر كلمة “الوعى” لمن ينتمى إلى التحليل النفسى مثلا فإنه يتعرف عليه عادة من خلال أنه “ما هو: ضد اللاوعى”، أما الشخص العادى والطبيب (النفسى أيضا) العادى فهو ينتبه إما إلى “طور اليقظة” (ضد النوم) أو سلامة الانتباه لما حوله (التعرف على الزمن والمكان والأشخاص) أما وعى النوم، ووعى الحلم، ووعى الجنون، ووعى الإبداع، ووعى الإيمان، (ووعى التناص طبعا) فهذه كلها مناطق بعيدة عن تركيز المتلقى الهادئ عادة، وبالتالى أعذره حين لا يصل إليه ما أقصد مما هو غالبا ليس يهمه!!
وبرغم أننى أشرت إلى أن التناصّ فى النقد الأدبى لا يستعـِمل مصطلح “الوعى” أو حتى لفظه، فإننى لم أفهم طبيعة التناصّ وأبعاده إلا من خلال معايشتى لحركية الوعى البشرى طول الوقت فى ممارستى للعلاج الجمعى خاصة، فخطر لى – لأجعل الموضوع أسهل أو أكثر تقبلا – أنها فرصة أن أبدا بترتيب مراحل تقديم الطبنفسى الإيقاعححيوى (من منطلق تطورى نيوروبيولوجى) من خلال هذه الخبرة العملية التى يعرفها معظم – إن لم يكن كل – الزملاء المعالجون حتى لو لم يكونوا يمارسونها بشكل مباشر أو منتظم، ووجدت أن هذا المدخل – العلاج الجمعى – ربما يسهــِّل لنا التدرج لتقديم الفروض والتنظير اللاحقين، بل لقد خيل إلىّ أن هذ المدخل قد يوضح من البداية الفرق بين التناصّ فى النقد الأدبى والتناصّ فى نقد النص البشرى، ذلك أن النقد الأدبى لا يشير إلى حركية تلاحم أو تبادل الوعى بين النص الأقدم والنص الأحدث، وإن كان يشير أكثر إلى حضور النص الأقدم في أعماق، أو “لاوعى” صاحب النص الأحدث، ليس كذكرى أو نموذج لحوح (إلا فى أنواع أخف من التناصّ مثل المعارضة الشعرية) وإنما كأثر باق فى لاوعى كاتب النص الأحدث، وهذا الأثر هو الذى يؤثر، وقد يلوّن إبداعه اللاحق، كما أشرت سابقا.
أما فى العلاج الجمعى فى حالة المرض النفسى فإن حركية جدلية الوعيين (أو أى عدد من مستويات الوعى للفرد أو للجماعة) وما يترتب عليها من إعادة تخليق النص البشرى المشارك (مريضا ومعالجا) فإنها تتم بين مستويات الوعى (مهما عجزنا عن رصدها أو توصيفها بشكل حاسم محدد)، وبالتالى: قد يكون التعرف على ما يجرى فى العلاج الجمعى من منطلق مستويات الوعى وتصنيفه هو الأقرب لاستدراج “من يهمه الأمر” لمتابعة هذا التوجه والتعرف على الفروض من هذا المنظور وبهذه اللغة، خاصة وهو يرصد النتائج، دون التوقف عند تعسف في التنظير التفسير.
………..
………..
(ونكمل غدًا) بعرض مقارنة بين التناص فى نقد النص الأدبى والتناص فى نقد النص البشرى
[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث أبواب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022) (تحت الطبع)
[2] – مقولة : لولا أن الكلام يعاد لنفد“من كتاب نهج البلاغة للامام على بن ابى طالب، للكاتب فروخ عمر، مكتبة منيمنة ، 1952
[3] – معلقة: عنترة بن شداد وقد نظمها في القرن السادس الميلادي، وهي على البحر الكامل، وكانت الأغراض الشعريّة الموجود فيها بشكلٍ أساسي هي الحماسة والوصف، وهي تحتوي على تسعة وسبعين بيتًا من الشّعر، قام عنترة بنظم معلقته بسبب رجل قام بشتمه وتعييره بسواد بشرته وبأمّه وبأخوته، وقال بأنّ عنترة لا يعرف قول الشعر، فبدأ عنترة إبّان ذلك بنظم قصيدته هذه بادئًا كغيره من شعراء الجاهلية بوصف الفرق ثم وصف حبيبته عبلة ومخاطبتها، ثم الحديث عن الشجاعة والفروسية وغيرها.
[4] – وسوف أتوقف ابتداء من هنا عن ذكر علاج الوسط لفظا، حيث يعتبر العلاج الجمعى نموذج مصغر ومكثف لما يجرى فى علاج الوسط الأكثر اتساعا، وألزم تأهيلا وأنشط حركية.
[5] – Synapsis
[6] – Hypothetico deductivee thinking
أخشى أنني يصلني المعنى ..
وأخشى من مراجعتي للقراءات الأخرى في الطب النفسي وفي العلوم..
إذ رغم العمق الظاهر فيها..أجدها تفصل القشره عن الباطن..لتزداد القشره صلابة ..وتغلق الباطن!!!
ويزداد اغترابي..
إذا كان المريض نصا..فهو يشكو أنه غير مفهوم المعالم..ينقصه مباشره المعنى إلى الخارج..وليس على المعالج الا ان يفعل لدى مريضه خاصيه التناص حتى يتكيف بنصه إلى الخارج .. معظم المدارس العلاجيه أجدها تعبث بالنص لكي يقبل من الخارج ..وأتساءل عن أي مدرسه تساعد مريضها لكي يستطيع التناص مع الخارج…
لثقل الأمانة أجدني أتراجع كثيرا..ولا ادري ما افعل!!!
عندك حق يا فاطمة يا ابنتى
تعليقك لا يفيد أية إحاطة بما هو “تناص”
ولا بما هو “نص”
ولا بما هو نقد النص البشرى
يمكنك أن ترجعى إلى كل ذلك في نشرات نشرة 23-4-2016 & نشرة 18-4-2016& نشرة 21-7-2014& ونشرة 12-1-2017& ونشرة 19-1-2017& ونشرة 26-1-2017 ، وانظرى الرد على الأبن/محمد شاهين فى بريد اليوم.