نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 25-6-2022
السنة الخامسة عشر
العدد: 5411
مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى”[1]
الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (31)
استهلال:
نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب وآمل أن تُقْرأ نشرة الأسبوع الماضى قبل متابعة نشرة اليوم التي سنقدم فيها ما تيسر من الفصل الثامن.
يحيى
الفصل الثامن
“الأبعاد” وفن حركية التصنيف (2)
……………….
………………..
ونبدأ بالبعد الأساسى وهو:
البعد الأول: (نشط <=> مستتب)
الاضطرابات النشطة بيولوجيا مقابل الاضطرابات المستتبه Active Versus Established Dimensions
هذه التفرقة بين مرض نشط ومرض مستتب شديدة الأهمية خاصة بالنسبة للعقاقير التى تعطى، وتوقيت وتنغيم العلاجات المناسبة. إن الفرق بين تشخيص الفصام البارنوى” مثلا، وبين “الفصام المزمن غير المتميز” ليس له بالغ الأثر على أغلب تشكيلات العلاج، فى حين أن الفرق بين ”الفصام البيولوجى النشط” والفصام المستتب الساكن، هو فرق فى الموقف، والمفهوم وخطة العلاج، والتأهيل، ونوع التداوى، وتوقع مسار المرض، والتكهن بالمآل، جميعا وكل ذلك من المتغيرات الأساسية التي نقيس بها خطوات العلاج.
أ–البعد النـَّـشِط:
يوصف المرض بأنه “نشط”: إذا ظهر الاضطراب مصاحبٌ بفرط إمراضِىّ للنشاط البيولوجى الإيقاعحيوى بالذات: إذا أثير فى ظروف غير مناسبة أو فى توقيت غير ملائم، حتى فقد كفاءته في دفع تواصل النمو الإيقاعى، فانقلب إلى مظاهر وتجليات مرضية نشطة: نشازا يـُـعـْـلـِـن ذلك الاقتحام: فى شكل أعراض تغيّر نوعىّ يشكو منها المريض ويرصدها الفاحص.
كما يوصف بأنه “مستتب” إذا استقر وأزمن بعد همود النشاط البيولوجى بالاندمال والنكوص والتكيف والاستقرار على مستوى آنى.
وعلى ذلك يمكن تقسيم كل زملة[2] تقريبا تبعا لهذا المنظور المؤثر مباشرة فى نوع المرض ومساره وتخطيط العلاج، حيث أن كل علاج – تقريبا – سوف يتوقف على تحديد هذا البعد الأساسى مع غيره من أبعاد أخرى، هذا ويمكن رصد معالم هذا النشاط الدال على حدة النبض وتحريك الوعى فى أى مرض حتى لو كان يحمل نفس اللافتة التشخيصية تقليديا: بمعنى أن من الاكتئاب ما هو نشط بيولوجيا ومنه ما هو مستتب، كذلك الفصام فيه ما هو نشط بيولوجيا وما هو مستتب، وهكذا وهكذا.
هذا الاقتراح يسمح بإعادة النظر في خطوات التشخيص كما يلى:
بعد الوصول إلى التشخيص التقليدى حسب الدليل المعتمد محليا أو عالميا يـُحدَّد للمريض البعد المناسب الذى يصنف طبيعة أعراضه ومدى نشاطها وكيفية حضورها سلوكيا، وهذه الإضافة لا تحل محل التشخيص ولا تغيره، ولكنها تفيد فى الإسهام فى توجيه العلاج وانتقاء العقاقير، والتحديد النسبى للمآل، وكل ما يتعلق بذلك.
لعل أدق ما يمثله هذا البعد النشط هو “اكتئاب المواجهة”[3] Depression Confrontation، و”الفصام الاستهلالى”[4] Incipient Schizophrenia، وبعض حالات البارانويا تحت الحادة.
ويمكن تحديد بعض معالم “البعد النشط” هذا كما يلى:
1- إن له فى العادة بداية واضحة (وليست ”حادة” بالضرورة لكنها) تعلن تغيرا نوعيا بشكلٍ ما، كما ينبغى أن يمتد البحث إلى ما قبل بداية ظهور الأعراض الصريحة ربما نعثر على ما أسميناه “بداية البداية” Onsent of the Onset وذلك برصد أى تغير نوعى مفاجىء فى منظومة القيم التى ينتمى إليها المريض، أو في نوعية وجوده بشكل عام.
2- إنه يحدث مواكِباً لأزمة نمو Growth Crisis أو بديلا عنها، أو تشويها لها!! (أو كل ذلك) مع اختلاف درجات وتشكيلات ظهوره سلوكيا.
3- إنه يدل على تحريك نشاط تركيب (مخ قديم) كان متنحيا نسبيا، أو تحريك أكثر من تركيب (مخ) نشطوا معا فى الشخص بطريقة منافـِسة ومزاحِمة ومـُـعـَـطّلة للتركيبات الهيراركية المتبادلة في تكامل مضطرد.
وبلغة النبض الدورى: إنه يدل على نشاط نقطة انبعاث Pace maker (أو أكثر) بالاضافة إلى نقطة الانبعاث القائدة، أو التى كانت قائدة، وبلغة تعدد الذوات (إريك بيرن)[5] إنه يدل على نشاط شخوص (أنفس – أمخاخ!- حالات الأنا) متعددة معا دون تكامل أو تناسق عادة.
4- إن الوظائف الفسيولوجية لسائر أجهزة الجسم عادة ما تصاب باضطرابات نشطة مصاحبة لهذا النوع النشط، وتظهر أيضا أحيانا فى مجال نشاط الجهاز العصبى الذاتى[6] بالعلاج أو لظروف مناسبة.
5- إن النوع الحاد جدا منه لا يستمر مدة طويلة فى العادة، ويترك غالبا نُدَبَاَ scar باقية، وإذا تكررت النوبات بناتج سلبى معاوِد، فقد تكون سببا في الانتقال إلى النوع المستتب لو لم تخرج نوبة التنشيط بمآل إيجابى نمـّوى إبداعى[7].
6- في ظروف مناسبة قد يتمادى هذا النوع بصفة خاصة بالعلاج المكثف إلى أزمة نمو إيجابية، ومن ثم إلى ولاف أعلى، بالعلاج، أو بقفزة إبداعية متميزة.
7- إن هذا البعد النشط يستجيب عامة لما هو تدخل كيميائى انتقائى تكاملى يحجـِّم نشاط المخ الناشر، بتثبيط هذا المخ الأقدم بنيورولبتات قوية.
8- إن هذا النوع أيضا يستجيب لعلاج إعادة تشغيل المخ Re-start (تنظيم إيقاع الدماغ الشائع باسم الصدمات الكهربائية) - إذا لزم الأمر – حسب التوقيت المناسب ودرجة الإعداد لهذا العلاج بالتأهيل وسائر أنواع العلاج.
9- إن هذا النوع النشط يتطلب فى العلاج النفسى والتأهيل موقفا إيجابيا ومسئولا ونشطا ومواكِـباً، وليس موقفا تسكينيّا أو متعادلا.
ب– النوع المستتب Established
بداية نشير إلى أن هذا النوع عامة يشمل أغلب أنواع اضطراب الشخصية، وخاصة النمطية، كما يشمل، الأعصبة المزمنة وخاصة الوسواس القهرى وعصاب الهيبوكوندريا المزمن، وأخيرا فإنه يشمل حالات البارانويا المزمنة بأنواعها، وحالات الفصام السلبى والمتبقى.
وكل هذه الأنواع برغم اختلافها على المستوى الأول (التشخيص التقليدى) يمكن أن تتصف بالمواصفات التالية:
1- إنه “وجود” مرضى راسخ وليس “مرضا حادثا”، وهو يعنى أن سوء تنظيم الشخصية قد أخذ شكلا ثابتا أو متزايدا فى التدهور، وبالتالى فهو ليس نشاطا استجدّ، وإنما هو مآل نشاز مزمن أدى إلى سوء تنظيم واستقــر.
2- يمكن بالفحص المنظم المثابر العثور على نقطة البداية، والتى لا تـُـتـَـبين إلا بفحص خاص ودقيق.
3- نتيجة لتمادى الإمراضية واستمرارها يتوقف النمو بشكل أو بآخر، بل وقد تصبح المسيرة متجهة إلى التدهور، فإذا حدثت انتكاسات فى صورة تهيجات مرضية، ولو تحتية، فهى – فى العادة وفي النهاية – مجرد تهيـّـجات تنازلية تفسخية ذات مآل أكثر سلبية: اندمالية، وليست تصعيدية وُلافية.
4- إن الاستتباب المستقر (حتى الإزمان) يحدث -عادة- كنتيجة سلبية لتكرار همود مسار المرض النشط بيولوجيا (بأنواعه).
5- إن هذا المآل المستتب لا يستجيب عادة للعلاج الكيميائى (أو الكهربائى) إلا بعد أن يستعـيِدْ درجة من النشاط من خلال التحريك بطرق علاجية تنشيطية بالمواجهة والتحريك الجسدى، والتنشيط الجماعى سواء بالعلاج الجمعى أو علاج الوسط أو ما يماثلهما.
6- بمرور الزمن – دون تدخل علاجى – يتضاعف الاغتراب ويضيق ويتمادى التشويه مع تمادى الاندمال وغلبة السلبية.
7- إن الوظائف الفسيولوجية تعود عادية مع هذا النوع، لأنها أَعـَـاَدَتْ تنظيم نفسها على هذا المستوى المرضِى المستتب الجديد (بسلبيته)، وهذا له دلالة أسوأ (مثل عودة انتظام دورات الطمث الشهرية مع بقاء أو تزايد الإمراضية والأعراض النفسية).
8- إن المآل: (توقع سير المرض Prognosis) فى هذا النوع سىء متمادٍ في السلبية ما لم يأخذ فرصة العلاج النشط التكاملى.
9- إن هذا النوع مزمن بالضرورة، وهو يحتاج – بعد ضبط الأعراض الخطرة إن وجدت – إلى مواجهة وتحريك وتنشيط بشكل مثابر ومتواصل حتى يـُـتـَـعـْـتـِـعْ هذا الاستقرار المرضى السلبى من خلال طريقة إعطاء العقاقير الجسيمة بطريقة متقطعة zigzag، وكأننا نحاول أن نخلخل هذا الاستتباب ليعود أقرب إلى النشاط فيصبح في متناول إعادة التشكيل بمواصلة العلاج التنشيطى أو نادرا تلقائيا– فتلوح فرصة إعادة تنظيم جديدة.
وبعد
انطلاقا من هذه البداية، أمكننا أن نحدد أبعاداً موازية لهذا التقسيم وليست متعارضة، وإن كانت أحيانا يمكن أن تغنى عنه.
ونعدد تلك الأبعاد فيما يلى:
البعد الثانى:
وجدانى <=> لا وجدانى
هذا البُعد هو الذى يُقيّم بدرجة “حضور” المريض عامة حضورا علاقاتيا بما يوصف بالدفء العاطفى، والقرب .. بغض النظر عن التشخيص التقليدى.. ولا يقتصر هذا البعد على وجود أعراض الاضطراب الوجدانى كمظهر سلوكى من عدمه.
أ- وجدانى:
يبدو هذا البعد فريدًا وأصيلا إلى حد ما، وهو مشتق أساسًا من الكلمة العربية “وجدان” التى ليس لها ترجمة دقيقة إلى الإنجليزية. وهو لا يعنى ببساطة: المزاج أو الحالة المزاجية الغالبة، إذ أنه أكثر شمولاً إذْ يشير إلى زخم ودفء الظواهر والأعراض العاطفية و المعرفية والإرادية المواكـِـبة، وهو متداخل بدرجة أو بأخرى مع بُعد “النشاط” السالف كما ذكرنا!!.
إن الحكم على متلازمة ما على أنها “وجدانية” أو “غير وجدانية” لا يشير مباشرة إلى وجود أو عدم وجود أعراض اضطراب وجدانى معيـّن ذلك لأنه قد يكون الاضطراب – حتى الفصامى – وجدانى، وهذا هو ما يسمى الفصام الوجدانى Schizo-affective فى التوصيف التقليدى الذى قدمه المؤلف سابقًا [8]. ولكنه لا يوصف كذلك فقط بسبب النشاط أو الابتهاج أو الاكتئاب المرتبط به، وإنما هو يوصف كمرحلة وسطى على مسار العملية الفصامية تفيد درجة أفضل مقارنة بأنواع الفصام السلبية والتفسخية أيضًا.
ويُرصد هذا البعد أيضا فى حالات البارانويا، فمنها الوجدانى القريب (المبتسم الدافىء) ومنها اللاوجدانى الجاف المنزوى المتحفز،
وحتى في الاضطراب الوجدانى ثنائى القطب يمكن تمييز الاكتئاب اللزج البعيد والاكتئاب الوجدانى المتألم، كذلك يوصف الهوسى خفيف الظل، في مقابل الهوسى الحاد العدوانى القاسى.
ب- لا وجدانى:
على أقصى الطرف الآخر يوصف كل ما هو عكس ذلك بأنه “لا وجدانى” بالرغم من وجود أعراض اضطراب الوجدان إن وجدت، ومواصفاته تصبغ كل الصورة الكلينيكية – بغض النظر عن التشخيص التقليدى، وهو يوصف باللزوجة أو البرود أو اللامبالاة أو الجمود.
………………..
………………..
(ونواصل غدًا عرض باقى الأبعاد)
___________________________
[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث كتب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، وهو (تحت الطبع) ورقيا، إلكترونيا حاليا بالموقع: www.rakhawy.net وهذه النشرة هي استمرار لما نشر من الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمىّ بمهارة فنية”.
[2] – بديهى أن ذلك بعد استبعاد زملة الاضطرابات النفسية العضوية البحتة الناتجة عن التهاب أو ضمور أو أورام محددة فى المخ أو الجهاز العصبى
[3] – Cross Roads Disorders
– يحيى الرخاوى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”، دار عطوة، (1979) “الأزمة المفترقية” (ص 170-173).
[4] – يحيى الرخاوى، نشرة الإنسان والتطور “الفصام الاستهلالى أم العملية الاستهلالية”، 8-5-2017.
يحيى الرخاوى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”، الفصل الخامس (بداية الاكتئاب المواجهى وطبيعته، ص 164، دار عطوة، (1979)
[5] – إريك بيرن “عن مبادئ العلاج الجمعى” of Group Treatment” (1966) “Principles of وهو صادر بعد كتابه “التحليل التفاعلاتى والعلاج النفسى” “Transactional Analysis and Psychotherapy” (1961)
[6] – بند (6)
[7] – Autonomic Nervous System
[8] -Yehia Rakhawy Schizoaffective Disorder: An Exclusive Waste Basket or a Specific Cross-road Devolutionary Phase (A psychopathological stand point) Egypt. J. Psychiat. (1982) 5: )192-194(