نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 19-3-2022
السنة الخامسة عشر
العدد: 5313
مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” (1)
الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (3)
استهلال:
نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب وآمل أن تُقْرأ نشرة الأسبوع الماضى قبل متابعة نشرة اليوم التي سنقدم فيها ما تيسر من الفصل الأول.
يحيى
الفصل الأول
بدايات فن اللقاء، ومعالم البحث (3)
……………
المتن:
ويمكن تقسيم المشاهدة إلى سلسلة من الدراسات والملاحظات المستعرضة: ملاحظات تتعلق بالحالة الراهنة (الآن) كقطاع مستعرض ماثل للفاحص، بالإضافة إلى، والتبادل مع، دراسات طولية تتعلق بالتاريخ الشخصى والمَرَضِى على حد سواء.
التحديث:
اعتدت من قديم (بدءا من سنة 1961) (2) وأنا أدرّس لطلبة السنة الرابعة بكلية الطب كيف يكتبون ورقة المشاهدة Sheet، اعتدت أن أبدأ بأن أبين كيف أن هذه العملية تشتمل على دراستين طوليتين، ودراستين مستعرضتين:
أما الدراسة الطولية الأولى: فهى تاريخ المريض منذ ولادته وقد ورث جيناته من والديه وحتى بداية المرض.
ثم تأتى الدراسة الطولية الثانية: وهى تختص بتاريخ تطور الحالة المرضية ومصاحِباتها منذ بداية المرض، وحتى ظهرت المعاناة الحالية وإلى وقت الفحص.
أما الدراسة المستعرضة الأولى: فهى للتعرف على سمات وطباع وشخصية المريض قبل ظهور ما يسمى المرض بفترة مناسبة (ليست أقل من عدة اسابيع، وتسمى “الشخصية قبل المرض (Premorbid Personality) حتى يمكن التحقق مما طرأ على المريض من تغيّر (هو الدافع إلى الاستشارة غالبا) وذلك من خلال المقارنة مع الدراسة الثانية:
الدراسة المستعرضة الثانية: وهى تشمل الوصف الأخير لما أل إليه الحال تحت عنوان: الحالة العقلية الراهنة Present Mental State كما تشمل وصف الأعراض وكثيراً من التفاصيل التى سوف تأتى بعد ذلك عن كل وظيفة نفسية سواء اختلت، أو لم يصبها الدور!!، وطبعا لأنها دراسة مستعرضة لما طرأ مؤخرا فهى ترصد الموجود فى فترة زمنية بذاتها، وهذه الفترة هى “الآن” (وقت الفحص) ويمتد هذا “الآن” إلى شهر كاملَ من تاريخ الفحص (وأحيانا أكثر طبعا فى الأمراض المزمنة) (أنظر الشكل من فضلك):
انتبهت الآن إلى ضرورة إعادة توظيف هذا التخطيط المبدئى من وجهة نظر الطبنفسى التطورى على الوجه التالى:
أولا: نحن لا نعرف الحدّ الحاسم، الذى يفصل بين الصحة والمرض، لأننا لا نعرف التعريف الجامع المانع لماهية الصحة النفسية، والطبنفسى الإيقاعحيوى يتعامل مع مفهوم الصحة النفسية من منطلق حركيتها المتصاعدة على مسار النمو الفردى طول العمر، كما يميز بين أوليات الوسائل التوازنية (الدفاعية، والبصيرية، والإبداعية) (3) لكل مرحلة، وبالتالى يرتب الإعاقة المترتبة عليها، بالذات: الإعاقة عن التكيف مع الأسرة أو عن مواصلة العمل، ومن ثَمَّ عن النمو.
ثانيا: إن هذا التخطيط يسمح طولا باحترام الاستعداد الجينى (بل وما قبله مما أشرنا إليه مجرد إشارة عن احتمال التهيئة الإثنية والثقافية دون تمييز عنصرى طبعا) (4)
ثالثاً: إن بداية العلاج تنطلق من صياغة النفسمراضية وكيف تَغَيَّر التركيب الطبيعى إلى التركيب المرضى، ومتى..، وماذا يعنى ذلك وإلى أين، ومن ثـّـمَّ: كيف يمكن علاجه بإعادة تشكيله معه. (5) وهذه أساسيات ما يسمى “نقد النص البشرى”: أساس العلاج فى هذا الطب.
رابعاً: بناء على ذلك: يكون الشخص مريضا حين يكون هناك فرق سلبى واضح بين نوعية وجوده، وناتج أدائه قبل أزمة المرض بالمقارنة بنفسه بعد المرض، وليس ابتداءً بالمقارنة بآخرين ممن حوله، حتى لو كانوا من صلب ثقافته الفرعية.
خامساً: يتعمق بذلك احترام الفروق الفردية مهما تماثلت الأعراض أو اتـُّفـِقَ على نفس التشخيص، والفروق الفردية موجودة بين الأسوياء وأكثر بين المرضى حتى لو حملوا نفس التشخيص.
سادساً: يتأكد من خلال هذا التخطيط المبدئى مدى أهمية الوراثة (أنظر بعد) (6) دون أن تكون قيدا على حركية النمو وإعادة التشكيل والعلاج من خلال نقد النص البشرى (أنظر بعد أيضا).
سابعاً: تُسْتلهم الخطة العلاجية من كل المعلومات الواردة فى هذا التخطيط بالطول وبالعرض، ليس فقط للعمل على زوال ما يسمى مرضا، أو التخلص مما يسمى عرضا، وإنما للوصول إلى ما أشرنا إليه ونحن ننصت إلى لغة المرض، وكيف تغير التركيب الدماغى والنفسى والوجودى للمريض ليعبر عن احتياجاته المُنْكـَـرة وحقوقه المنسيــَّـة منه، أو ممن حوله، أو من الجميع: الأمر الذى يعمل الطبنفسى الإيقاعحيوى على التذكرة به لتعديله، ومـِنْ ثـَمَّ يعاود المريض مسيرته الطبيعية.
ثامناً: ما لم تكن المقابلة الكلينيكية هادفة إلى مثل ذلك فإنها قد تصل إلى أن تكون حاجزا أكثر منها كشفا : إذا ما كان الهدف الأول والأخير منها هو رصد أعراض بذاتها للوصول إلى تشخيص محدد، الأمر الذى لا ننكر أهميته، لكننا نؤكد عدم أولويته، ونصر على عدم التوقف عنده دون إهماله فى النهاية، خاصة إذا صاحب اختفاء الأعراض بعض المظاهر السلبيه التى قد تشير إلى التكيف على مستوى أدنى، أو أى نوع من الإعاقة عن ما قبل المرض.
مناقشة فقرات المقابلة واحدة واحدة:
نكمل الآن تقديم تفاصيل فقرات المشاهدة انطلاقا من النص القديم (7)ونحن نواصل تقديم المتن مع التعقيبات اللازمة:
1- المعلومات الأساسية: (المتن 1986)
وتشمل: الإسم، السن، النوع، الجنس، الجنسية، العمل (المهنة)، الحالة المدنية، عدد أفراد الأسرة، العنوان – بالتفصيل- ثم الرقم المميز للمريض (رقم مسلسل، رمز حاسوبى، رقم المستشفى، الرقم القومى.، رقم الهاتف “العادى والمحمول”… إلخ) حسب نظام المؤسسة العلاجية.
I – الإسم:
المتن:
يراعى أن يكتب الإسم بالكامل (ثلاثى على الأقل) وبدقة ووضوح (بما يسمح بالمتابعة ولو بالمراسلة لاحقا إذا لزمت المتابعة أو البحث العلمى).
فى مصر (والوطن العربى) لا يتواتر استعمال أسماء التدليل، ولكن كثيرا ما يكون للشخص إسم “رسمى”، وآخر “شائع”، ويستحسن وضع الإسم الشائع ( إسم الشهرة) بين قوسين، وذلك لأسباب مهنية وعلمية تتبعية (وثقافية إنسانية أيضا).
ثم إنه متى توثّقت العلاقة مع المريض فقد يُـفَـضـِّـل هو أن نناديه باسم الشهرة الذى اعتاده، ومن المفيد أيضا، وخاصة بالنسبة للمرضى القادمين من الريف أو من البلاد العربية أن يعرّف الفاحص باسم الإبن الأكبر (أو البنت أو أى من الأبناء أو البنات بدرجة أقل)، لأن المرضى من الريف أو من بعض البلاد العربية قد يفضلون أن ينادوا باسم الأبناء (أبو فلان، أم فلان)، ثم إن هناك تكْنية شائعة يستحسن أن يلم بها الفاحص ويستعملها فى حينها (بعد إذابة ثلج اللقاء الأول غالبا) إذا استحسن ذلك، ومن ذلك: “حَسَن” كنيته ”أبو على”، و”على” كنيته “أبو حسن” (بدرجة أقل تواترا)، و”إبراهيم”: “أبو خليل”، ثم إنه إذا توثقت العلاقة أكثر، فثمة كنيات مجازية عند أولاد البلد خاصة، وإن كان بعضها غير شائع مثل: ”أحمد”: “أبو حميد”، وبعضها نادر، لكن قد يكون أكثر حميمية مثل: “إسماعيل”: “أبو السباع”!
كذلك يراعى فى هذا الصدد أن تذكر الوظيفة باللقب الخاص والدال على صفة بذاتها، ومخاطبة كل واحد به خاصة فى البداية قبل زوال الحواجز: وذلك مثلا: الشيخ فلان، أو الباشمهندس علان، وقد يكون استعمال صفة تقليدية لكبار السن فى شريحة اجتماعية ريفية أوبلدية لازما ومفيدا ، مثل مخاطبة كبار السن، بــ: “عم” “فلان.
التحديث:
لاحظت أن الرسالة التى تصل من خلال هذه التوجيهات لها دلالتها قبل وبعد العلاقة الرسمية، وموضوع مغزى “الاسم” ربما انتبهت إلى احتمال دلالته من مبالغة “جاك لاكان” (8) فى التأكيد على دور “اسم الأب” فى نمو الطفل وتطور الذات، وكنت أفهم التنظير النفسِمـْراضى حول دور الأباء من خلال “الأنا الأعلى” لفرويد، أو من “حالة الذات الوالدية” لإريك بيرن، أما أن يكون التركيز هو على “اسم الأب” ابتداءً قبل “دور الأب” داخلنا أو خارجنا فقد أوقعنى فى حيرة بالغة، حتى انتبهت مؤخرا كيف أن كلمة NOM بالفرنسية، وهى تعنى الاسم : تنطق “نو” (الميم الأخيرة” M”لا تنطق) بالفرنسية، كما أن حرف النفى NO له نفس النطق بالفرنسية، وقيل لى أن “لاكان” قد قرن هذا بذاك بطريقته الرائعة الغامضة العميقة، فقلّت حيرتى لكن زاد انتباهى لموقع اسم كل منا واسم أبيه ثم موقفه من أبيه على تكوين شخصيته ونموه (دون مبالغة).
أما موقع الاسم فى ثقافتنا الشعبية العريقة فقد جاءنى من هذه الحكاية الطريفة التالية:
عاد العامل الفلاح المصرى الطيب (واسمه “على” مثلا) بعد عرقه طول النهار عازقاً، عالفا، ساقيا وهو مبرنشق مزهو بنفسه على غير العادة، وحين استغربت زوجته حاله مقارنة بما يحدث كل يوم، راح يبهرها مختالا ويـُـبلـِّغها أن الدنيا برمتها لا تسعه لما حدث اليوم، وحين زاد حب استطلاعها وألحت عليه قال لها أن العمدة اليوم وهو يتابع حقله المجاور نزل من فوق حماره ولمحه وقال له: “إمسك الحمار ياعلى” وفهمت الزوجة ما لا يفهمه أغلب القراء هذا الحدث البعيدين عن الريف المصرى، فهمت زوجة “على” ما جرى، وفرحت لفرحه، وهنأته على رضا العمدة عنه، وكيف أنه أدرك مكانته أخيرا.
أما تفسير ذلك لمن ليس فلاحا مثلى فهو أنه فى بلدنا توجد درجات للتخاطب بين العمدة وبين رعيته!! (9) بالنسبة لــ “على” يمكن إيجازها كالتالى:
الدرجة الأولى: إمسك الحمار يا ولَهْ (أى يا ولد)
الدرجة الثانية: إمسك الحمار يا واد انت ياللى هناك
الدرجة الثالثة: إمسك الحمار يا بن الــ.. (وهذا ليس سبابا بل رفع كلفة)
الدرجة الرابعة: إمسك الحمار يادْ يا على يا ابن الـ ..( رفع الكلفة أكثر)
الدرجة الخامسة: إمسك الحمار يا “على” (يا للتكريم: ناداه باسمه شخصيا فقط!!)
هذه الدرجة الخامسة إنما تعلن أن العمدة أولا: كلفه أن يمسك الحمار، وثانيا: أنه يعرف اسمه شخصيا، وثالثا: أنه ناداه باسمه مجردا دون: “ياوله”، ولا “يادْ”..، ولا “يا ابن الـ” …، ولا “يا واد انت”…،
وصارت مثلا سائرا: أننا حين نسخر من فرحة أحد التابعين أو المنافقين بتعطّف الرئيس أو صاحب السلطة وهو يخصه بالقيام بواجب أو بتكليف معين: نعتبره تشريفاً، فيعقب الساخرون والحاقدون منـّا قائلين: “العمدة قال لصاحبك إمسك الحمار يا على!”.
أوردتُ هذه الحكاية الطويلة كنوع من استلهام دلالة معنى الاسم عند الشخص البسيط الطيب (مثله مثل كل الناس) وهى حكاية من واقع ثقافتنا جدا، ولعلها بمثابة الدليل على ما أريد الإشارة إليه: وهو كيف أن النطق باسم الشهرة أو الاسم الشائع هو علامة على حميمية وقـُـرْب، وأن ذلك قد يوصل رسالة مختلفة عن التعامل الرسمى التقليدى البارد، وأيضا لأبين أهمية إلمام الطبيب بالثقافة الفرعية والخاصة لمرضاه بشكل مباشر ما أمكن ذلك.
……………
……………
(ونكمل غدًا)
استكمال مناقشة فقرات المقابلة: II – السن:
[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث أبواب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى (2022) وهو (تحت الطبع) ورقيا، إلكترونيا حاليا بالموقع: www.rakhawy.net
[2] – وأنا بعدُ معيد فى كلية الطب قصر العينى
[3]- يحيى الرخاوى: “مستويات الصحة النفسية من مأزق الحيرة إلى ولادة الفكرة”(2017) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.
[4] – وهو ما أرجعناه إلى ربط مواقع النمو بلغة مدرسة “العلاقة بالموضوع” (الشيزيدى، فالبارنوى، فالاكتئابى)، وبين مراحل التطور (الأحادية الذاتوية فالكر والفر فالمرحلة البشرية مع تحمل الغموض وثنائية الوجدان)، والتى أصبحت – فى الطبنفسى الإيقاعحيوى تمثل أطوارا تطورية موجودة أصلا فى التركيب البشرى وليست مجرد مواقف تثبيت مرتبطة بطريقة تنشئة الأم أساسا، وهذه الأطوار تستعيد نشاطها مع استمرار الاستعادة فى تجلياتها السوية (أو المرضية) مع الإيقاعحيوى المستمر طول العمر. (أنظر بعد)
[5]- يحيى الرخاوى، النظرية ومعالم الفروض الأساسية 1″ منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، 2022
[6] – أنظر التاريخ العائلى لاحقا (ص 41)
[7] – ورطة شخصية واعتراف واجب:
إن النسخة الورقية لهذا المتن القديم كانت اساسا باللغة العربية وكتبتها سنة 1986 فعلا، إلا أن النسخة التى حصلت عليها الآن هى باللغة الإنجليزية دون العربية وتاريخها كما هو مثبت على غلافها هو 1994 وليس 1986، فتذكرت أن طلبتى وزملائى الأصغر فى قصر العينى قد استصعبوا العربية للأسف، وفضلوا الإنجليزية التي يمتحنون بها شهادات التخصص وطلبوها منى بالإنجليزية ففعلت، وكانت بداية كتاب ثنائى اللغة، لكنه لم يطبع ورقياً على مجال أوسع، ولا أنا دَرّسته أو نشرته إلا فى بضع نسخ لتلاميذى وزملائى الأصغر فى “مستشفى دار المقطم” بطريقة غير رسمية وغير ملزمة.
[8] – جاك لاكان (1901 – 1981) محلل نفسى فرنسى ولد فى باريس وتوفى بها. اشتهر بقراءته التفسيرية لسيجموند فرويد ومساهمته فى التعريف بالتحليل النفسى الفرويدى فى فرنسا فى الثلاثينيات من هذا القرن، وبالتغيير العميق الذى أحدثه فى مفاهيم التحليل النفسى ومناهجه
[9] – كان ذلك في الأربعينيات من القرن الماضى!!