نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 8-5-2022
السنة الخامسة عشر
العدد: 5363
مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” [1]
الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (18)
استهلال:
نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب وآمل أن تُقْرأ نشرة أمس قبل متابعة نشرة اليوم التي سنقدم فيها ما تيسر من الفصل الرابع.
يحيى
الفصل الرابع
التركيب الأسرى والطفولة الباكرة (3)
……………..
…………….
عودة إلى أوائل الدراسة الطولية:
أولا: فترة الرضاعة والطفولة الأولى
قد يبدو غريبا أن نرجع بتاريخ المريض – ليس بنفس الترتيب الزمنى تماما: إلى منذ أن كان فكرة فى وعى والديه، ولكنه أمر متصل بطبيعة هذا التخصص الذى يبدأ من البداية وما قبل البداية :
فعلى الفاحص (الطبيب) أن يـستقصى إن كان المريض كان مرغوبا فى ولادته آصلا أم جاء بالصدفة أم كان فائضا عن الحاجة بعد استكفاء الوالدين بمن أنجبوا، ومن ذلك مثلا: هل جاء بالرغم من تنظيم النسل؟ هل كان جنسه (ولد/بنت) هو المطلوب؟ وهل كان الحمل والولادة طبيعيين؟ كما يُسأل عن المضاعفات التى حدثت أثناء الحمل والولادة إن كان قد نمى إلى علمه شىء من هذا القبيل، وذلك بارتباط كل هذا بما يمكن أن يصيب الشخص لاحقا، بما هو مرض نفسى.
التحديث:
من البديهى أن المريض – صغيرا أو كبيرا – لا يمكن أن يجيب إجابة موضوعية عن هذه الفترة، وعادة ما نكتفى بالمعلومات المتاحة من الأم أساسا، ومن الأب نادرا، أو من أخت أو مرافق فى مقام الأم، ولا تؤخذ أقوال الأم قضية مسلمة، ليس فقط احتراما لحدود ذاكرتها، ولكن أيضا وأساسا لأنها مشاركة أساسية فى قدوم طفلها ثم فى رعايته إيجابا وسلبا، بل إن خبرة الولادة ذاتها تحمل فى طياتها فرصة “إعادة ولادة الأم نفسها، باعتبارها “أزمة نمو متميزة”.
وثمة طقوس شعبية (مصرية أو عربية) بالغة الدلالة تحيط الأم برعاية خاصة وهى تشحذ وعيها بهذه النقلة بين الداخل والخارج، بين الحامل والأم، ومن أهم هذه الطقوس احتفالية “السبوع”.
وأحسب أن لهذه الاحتفالية “السبوع”([2]) دلالات خاصة فى مجتمعنا، وكيف أنها جميعها تقريبا تخدم شحذ وعى الأم بأن “مَنْ” كان جزءا منها (بداخلها) أصبح كيانا منفصلا عنها، وهو مازال يحتاجها تماما تماما، ولكن بشكل آخر، وتدرّج آخر.
والأم، مثل كل أم (حتى قبل مرحلة البشر)، لا تحتاج تعليمات لتقوم بدورها النمائى والوقائى كما يرسمه النفسيون وغير النفسيين، فغريزتها الطبيعية – ما لم تكن قد تشوهت – قادرة على رعاية طفلها بفطرة سلسلة إيجابية بناءة، لأنها غريزة نابعة من برامج حياتية تطورية أساسية عبر تاريخ الحياة كلها، لا تحتاج إلى توجيه أو إرشاد، لكن الواقع وظروف الأم، قد يحول أىٌ من ذلك دون قيامها بدورها الطبيعى تلقائيا.
أما عن طبيعة هذه الفترة وحقيقة دور الأم فى التهيئة للنمو السلس السليم أو فى تثبيت يعرّض طفلها لصعوبات لاحقة ومرض محتمل، فقد سبق أن تناولت دلالته ناقداً المبالغة فى إعطاء أهمية خاصة لهذه العلاقة فى هذه الفترة، تناولت ذلك بتفاصيل ناقدة لفروض “مدرسة العلاقة بالموضوع” وخاصة بالنسبة لتركيز هذه المدرسة على دور الأم فى السماح لطفلها بالانتقال من الرحم إلى مواقع النمو المتتابعة تبعا لنوع علاقتها به وعلاقته بها، ومدى نضجها الذى يسمح او لا يسمح بسلامة هذه الرحلة الأساسية الرائعة، ولن نعيد هنا نقدنا لهذا التركيز، وكيف أن هذا النقد كان هو المنطلق لرفضى فكرة “الموقع” position، وأن يحل محلها مصطلح “الطور” stage ([3])
وموجز التطوير هو أن هذه الأطوار (لا المواقف) لا تبدأ من علاقة الطفل بأمه، وإنما هى منزرعة فى تركيبه التطورى البيولوجى الممتد فى تاريخ الحياة كلها ، وأن دور الأم يظل له أهميته لكن البداية ليست منها، وإنما تقوم الأم – بفطرتها أساسا- بشحن كل طور بما يناسبه وما تقدر عليه حسب نضجها، حتى بعيداً عن وعيها، لينتقل إلى الطور التالى وهكذا، ثم يأتى المنظور الإيقاعحيوى فيعطى لهذه النقلة التطورية أهمية عملية آنيــّة:
ما دام هذ المنظور التطورى يفترض أن أثر هذه الأطوار البادئة ليست قاصرة على دور الأم، ولا هى خاصة بمرحلة الرضاعة دون غيرها، وإنما هى أدوار مستعادة طول الوقت طول العمر من خلال نبض الإيقاعحيوى المستمر المستمر، فبالتالى تظل المسئولية المتجددة ليست فقط مسئولية الأم ولكن مسئولية كل من يقوم بدور الراعى([4]) فى المحيط كله طول الوقت، مع اعتبار كل العوامل الجينية والثقافية المحيطة.من البديهى أننا لا نسأل الأم – إن كانت موجودة فى المقابلة – عن أىِّ من ذلك، بالتفصيل أو بما يشبه الاتهام، لكن انطلاق الطبيب من هذا المنطلق يقلل من المبالغة فى احتمال أن نعزو كل ما ألمَّ بابنها أو بابنتها إلى نقص فى قدراتها التربوية، أو فى ثقافتها النفسية، أو نضجها الوجدانى، أما الفائدة الأهم فهى فى تحريك الأمل فى: “أن يصلح الدهر (ممثلا فى المعالج وتوعية الأم) ما أفسد الدهر (ممثلا فى الوراثة ثم أم بريئة متهمة)([5])
وما دامت الدورات تتكرر ليل نهار، وما دام الراعى الجديد مسئول عن رعيته، فالمأمول أن “يصلح الدهر ما افسد الدهر” بدوام تحسين فرص أن تكون نتائج كل نبضة نمو – من أول دورات النوم والأحلام – إيجابية.
المتن:
يستحسن الاستقصاء – ما أمكن ذلك – عن بعض التفاصيل حول فترة الرضاعة: وهل كانت الرضاعة طبيعية من ثدى الأم ، أم صناعية، أم من مُرضعة (كان زمان) ، ثم عن وقت الفطام، وطريقته (صبـّار؟ وصدمة مفاجئة بإحلال المرّ محل لبن الأم باستعمال مرارة الصبار يدهن به الثدى!!، أم تدريجيا وتحت إشراف) وعن علامات النمو من حيث التسنين، وتنظيم عادات الإخراج، وعلامات النمو الحركى وتطور نمو الكلام …إلخ.
التحديث:
برغم أن هذه المعلومات مهمة، إلا أنه لا ينبغى أن نبالغ فى قيمتها أو بقاء آثارها حتى تاريخ الفحص، اللهم إلا إن كانت مما يساعد على تقييم قصور أوّلى فى قدرات معرفية، أو ربط بعض أمراض وسمات الطفولة ببعض الأمراض التى تحدث لاحقا، فهذا وارد، إلا أنه لا ينبغى أن يكون معوّقا لبذل الجهد أكثر فى اتجاه التصحيح الأشمل المناسب، وقد تظهر بعض السمات الدالة على استعداد خاص منذ لحظة الولادة دون ربطه بأى استهداف وراثى محدد([6]).
………………..
……………….
(ونواصل الأسبوع القادم)
___________________________
[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث كتب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، وهو (تحت الطبع) ورقيا، إلكترونيا حاليا بالموقع: www.rakhawy.net وهذه النشرة هي استمرار لما نشر من الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمىّ بمهارة فنية”.
[2] – يحيى الرخاوى: نشرة الإنسان والتطور، “طقوس “السُّبُوعْ”، وجدلية الانفصال/الاتصال”22-1-2008 www.rakhawy.net
[3] – يحيى الرخاوى: نشرة الإنسان والتطور ، “الفرق بين “الموقع” و”الطور” و”الموقف“، 4/6/2016 www.rakhawy.net
[4] – أصبح الاستعمال الأحدث لمن يقوم بدور الراعى منذ الطفولة هو “مانح الرعاية “”Caregiver وبرغم أنه مصطلح مستورد فإن جذوره موجودة لدينا فى الحديث الشريف “كل راع مسئول عن رعيته”،
[5] – وهذا يفتح الباب لمراجعة مفهوم الأم المـُفـْـصـِمـَـة Schizophrenogenic Mother (أى سبب الفصام) ، مرة أخرى: من منطلق الطبنفسى الإيقاعحيوى.
[6] – فى حالة توأم متماثل، قمت بفحص أحد التوأمين مع أستاذى المرحوم أ.د. عبد العزيز عسكر وكان عمر المريض (19 سنة)، وكان يعانى من فصام خطير متمادى، فى حين كان توأمه سليما تماما، وناجحا جدا فى دراسته وعلاقاته، وقد حكت لنا الأم أن المريض منذ الولادة، عزف عن الرضاعة من ثديها، وكان يزيح وجهه الناحية الأخرى واضطرت أن ترضعه صناعيا، فى حين كان توأمه السليم يقبل على ثديها بشراهة وفرحة بادية منذ أول يوم بعد الولادة أيضا، وظلت الحال والفروق تزيد فى نفس الاتجاه حتى ظهر الفصام على التوأم الذى كنا نفحصه، وظل الاختلاف ظاهرا ودالا ودائما.
صباح الخير يا مولانا:
المقتطف : …أما الفائدة الأهم فهى فى تحريك الأمل فى: “أن يصلح الدهر (ممثلا فى المعالج وتوعية الأم) ما أفسد الدهر (ممثلا فى الوراثة ثم أم بريئة متهمة)([5])
وما دامت الدورات تتكرر ليل نهار، وما دام الراعى الجديد مسئول عن رعيته، فالمأمول أن “يصلح الدهر ما افسد الدهر” بدوام تحسين فرص أن تكون نتائج كل نبضة نمو – من أول دورات النوم والأحلام – إيجابية.
التعليق : أتمنى أن تصل هذه الفقرة لكل الناس ،فهى من أهم إنجازات نظرية الايقاعحيوى التطورى ،فى رايى الخاص ،حيث أراها تفتح بابين من أهم أبواب النمو أمام الإنسان ،وهما بابى : التوبة والمسئولية ،وكأن لحياة فى دوراتها الاستعادية تمنح الإنسان فرصا متجددة لإدراك ما فاته ،ولملمة ما تبعثر ،فيصبح هو الراعى الجديد لنفسه و المسئول وحده عن حياته ( أو بالأحرى : الحياه ) ،فلا يستطيع أن يقول بعد ذلك : هذا ما جناه على أبى وما جنيته على أحد ….يا الله ،كأنه رزقك يا مولانا الحكمة والعلم بها ليقيم علينا الحجة بها يوم القيامة : أسأل الله أن يرزقنا نعمة حمل الأمانة و حسن بلاغها إلى جميع خلقه بعلمها وفهمها والعمل بها فى هذه الحياة ،قبل أن نحاسب بها فى الحياة الأخرى…ربنا يستر