نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 12-3-2022
السنة الخامسة عشر
العدد: 5306
مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” (1)
الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (1)
استهلال:
نبدأ اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب الثانى في سلسلة “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى”، ولعل ذلك يعطى فرصة للقراءة البطيئة (والمراجعة والنقد).
يحيى
مقدمة الكتاب:
يتناول هذا العمل “المقابلة الكلينيكية ” وهو المصطلح الذى يطلق عادة على المقابلة (أو المقابلات) الأولى مع الطبيب، لكننا يمكن أيضا أن نستلهم منها بعض القواعد والتقنيات التى تتكرر فى مقابلات أخرى حتى لو أدرجت تحت ما هو “علاج نفسى، أو حتى “العلاج الجمعى”، أو “علاج الوسط”!.
واقع الأمر أن أية مقابلة قـَـصـُـرت أم طالت، انفردت أم اتسعت، هى رسالة متبادلة بين اثنين (على الأقل) يتجادلان فيها على أكثر من “قناةِ وعىٍ”: بألفاظ: وبدون ألفاظ، وهى من أهم ما يميز “فن الطب النفسى”، كما أنها يمكن أن تكون أيضا مجالا متجددا للتحقق من مصداقية فروض علمية عاملة تتولد من أول لحظة، وحتى آخر لقاء، على شرط ألا تفسد الصورة الفنية الأساسية لحوارات الوعى.
وقد تعمدت أن اكتفى ببعض ما وصلنى – وصلنا– خلال أكثر من نصف قرن واستلهمته من خبرتى أثناء الممارسة مع مرضاى وتدريسى وإشرافى على الجيل الأصغر فى ممارساتهم وتطور مهاراتهم، فى هذا الفن العلمىّ الخاص والصعب: “الطب النفسى”.
الفصل الأول
بدايات فن اللقاء، ومعالم البحث (1)
استهلال:
لا مفر من احترام الصعوبات التى تقمصتها عند الزملاء الأطباء خاصة، والنفسيين عامة، وأنا أستعمل لغة النقد الأدبى وأقيس بها، وعليها، ما أعنيه بـ “نقد النص البشرى”، الذى أعتبره المدخل إلى الطب النفسى الإيقاعحيوى، لتقديم خطوات عملية فى الممارسة اليومية .
بالصدفة البحتة كنت قد توقفت فى كتابى الإلكترونى “الأساس فى الطب النفسى” عند “المقابلة الكلينيكية: “فن التقييم العلمى!!” وكانت الأصول التى كتبت ضمن الكتاب الأصل، وهو كتاب ثنائى اللغة، قد كـُتِبَتْ مسودته سنة 1986 (منذ أكثر من ثلاثين عاما) ولم تنشر فى صورة ورقية، فوجدتُ أنه ربما يكون من الأنسب أن أتبع منهج تقديم الخطوات التطبيقية للطبنفسى الإيقاعحيوى انطلاقا من أساسيات الطب النفسى التقليدى القائم، حتى لا أبالغ فى البعد عن التيار السائد للطب النفسى (2)، وعلى ذلك فسوف أتبع منهجا يسمح لى بالمراجعة والمقارنة كالتالى:
(1) أن أبدا بنشر أصول النص القديم سنة 1986 ثم أضيف ما يعن لى من نقد، أو أكمل ما وصلنى من نقص، أو أكتفى بما ورد حسب مدى موافقتى عليه الآن.
(2) أرجو أن يتضمن ذلك ما يكفى لبيان العلاقة بين تقنيات الممارسة التقليدية وبين آليات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (اتفاقا واختلافا).
(3) كما أتمنى أن نتوصَل معا إلى دلالة كل – أو بعض – ذلك .
وكلي أمل أن تنجح المحاولة، وأن أجد الاستجابات المناسبة التى قد تعدّلنى وتعيننى.
كما أرجو أن أكون بذلك قد أعطيت الاحترام الكافى، بل والضرورى اللازم لتقنين العمل الكلينيكى كخطوة جوهرية لإرساء قواعد البنية الأساسية التى يمكن أن تبنى عليها أية إضافات أو تطوير، ذلك لأننى خشيت فعلا أن يتصور الزملاء، خصوصا الأصغر، أن ما أقدمه تحت مسمى “الطبنفسى الإيقاعحيوى” و” النظرية الإيقاعحيوية التطورية” هو بديل عن الالتزام بأساسيات ” الطب النفسى السائد“، بما فى ذلك رصد الأعراض، وأيضا وضع التشخيص المناسب، فخطر لى أن أقدم جرعة متكاملة من هذا المنطلق في كتاب واحد، ثم عدلت خشية الإطالة، وهكذا جاء الكتاب الأول عن الفروض الأساسية (3)، ليتبعه هذا الكتاب الثانى عن “فن المقابلة”، وهو أقرب إلى الطب النفسى السائد، حيث موضوعه هو: عن المقابلة الكلينيكية فهو يحمل جرعة أكبر من الطب النفسى الإيقاعحيوى بما يتميز به من تجليات فنية لا تنقص من ضرورة وأولوية أساسيات الطب التقليدي السائد.
مقدمة
المقابلة الكلينيكية تحرص على الجمع بين الملاحظة وإعادة التنظيم، ولكى تحصل على معلومات كافية فلا بد من الانتباه والاقتراب الشديدين مع الاهتمام بالتفاصيل جميعها، ثم لا بد من ترتيب هذه المعلومات بطريقة تسمح برسم صورة واضحة المعالم لمريض بذاته جاء لغرض محدد (علاج أو تقرير أو غير ذلك)، وتعتبر المقابلة الكلينيكية جزءا لا يتجزأ من العلاج، فكما يقال : إن الحب يبدأ من أول نظرة فإنه من الممكن أن يقال إن العلاج يبدأ من أول مقابلة، وكل معلومة فى أوراق المشاهدة لا بد أن تعتبر ذات دلالة خاصة، من حيث رسم صورة متفردة لمريض بذاته وكذا من حيث أنها تؤثر فى التخطيط العلاجى بلا شك.
ويمكن إيجاز الهدف من المقابلة بصفة عامة فى الأغراض التالية:
(1) التعرف على المريض، وتحديد ملامح العلاقة بينه وبين الطبيب، ومن ثـّمَّ الإعداد لتبادل الثقة والفهم.
(2) الحصول على تاريخ المريض والمرض (الدراسة الطولية).
(3) إظهار وتحديد العلامات والأعراض (دراسة الحالة الآن).
(4) الوصول إلى تشخيص، وربما كتابة تقرير!.
(5) الوصول إلى صياغة هادفة تحقق الغرض من المقابلة.
(6) تحديد مستويات الصياغة ووظائفها.
(7) التخطيط للعلاج .
القواعد العامة:
1- تذكـّر أن المريض مريض لا أكثر ولا أقل، فهو ليس متهما وأنتَ لستَ محققا، بمعنى أن المريض فى حوار معك وليست المسألة تحقيقا بشكل: س & جـ.
2- لابد من الحرص على أن تكون المقابلة دافئة وإنسانية، وفى نفس الوقت رسمية لتأكيد طبيعة العلاقة المهنية.
3- عليك أن تلاحظ ما يقوله المريض جنبا إلى جنب مع ما يظهر عليه أو ما يفعله، بل أيضا ما يبدو عليه عامّة (4).
4- إن بؤرة الاهتمام ينبغى أن تركز على:
(أ)المشكلة الراهنة الحالية التى جاءت بالمريض (سبب الحضور أو التحويل)
(ب) الحالة المرضية الحاضرة
(ج) الأسباب الحالية المسئولة عن استمرار أو تفاقم الحالة (= الأسباب المـُديمة) Perpetuating.
5- ينبغى ألا تـُستدرج منذ البداية للتركيز على الحديث عن الأسباب -كما يتصورها المريض أو الأهل- على حساب الحالة الراهنة، وأيضا يجب أن تتجنب التسرع فى الوصول إلى تفسيرات أو تأويلات باكرة مهما بدا ذلك مغريا ومنطقيا.
6- إن فن الإصغاء هو أساس نجاح المقابلة المفتوحة، والمقصود بذلك: المقابلة التى تشجـٍّع فيها المريض حتى يتحدّث بطلاقة من خلال كلمات حافزة أو إيماءات مُرَحِّـبَة.
7- إن المهارة فى تحديد أبعاد الحالة بما فى ذلك الأعراض تعتمد على طريقة ومدى إتقان طرح الأسئلة .
8- إن قيمة أية معلومات تعتمد على مصداقية مصدرها، وعلى ذلك فإن تقريرا مختصرا عن شخصية المبلـِّغ أو المُرافق (5) لهُوَ شديد الأهمية للتحقق من مدى إلمامه بالموقف وهو يحكى عن أحوال المريض (مع احتمال التحيّز معه أو ضده!).
9- إن المقابلة تختلف حسب اختلاف الهدف منها، وبديهى أن الهدف يختلف باختلاف مصدر التحويل، وسبب التحويل.
10- لا تسارع بتسمية كل ما يقوله المريض باسم عرَض بذاته (وإن كان هذا سيأتى فيما بعد بالنسبة للكثير من كلام المريض).
11- حاوِل – ما أمكن – أن تثبت ابتداءً أقوال المريض، بنفس ألفاظه وليس بفهمك إياها، أو ترجمتها أولا بأول إلى أعراض محددة، ثم تترجمها فيما بعد.
12- لا تسرع بالحكم على من أتى لاستشارتك بأنه “مريض” يلزم له تشخيص محدد، فقد يثبت فى نهاية المقابلة أنه أتى خطأ؛ مثلا: أنه أتى بسبب مبالغة فى تقدير حالته، ربما تحت تأثير الإعلام، أو نتيجة نصيحة قريب هاوٍ، وحين تبلغه رسالة سلامته – بعد أن تتأكد أنت منها- دعه ينصرف باعتباره قد صحَّحَ معلوماته، لا أكثر ولا أقل.
13- لا تنتقد – خاصة علانية أمام المريض أو أهله - أيا من آراء أو صفات زملاءٍ لك يكون المريض قد زارهم قبلك، وقد يلزم أن تشرح للمريض الحق فى اختلاف الرأى وطبيعته مع كل الاحترام.
……………
……………
(ونكمل غدًا)
بعرض “الخطوات العملية الواجب اتباعها فى المقابلة”
[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث أبواب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022) (تحت الطبع)
[2] – يعتبر تعبير “التيار السائد للطب النفسى” هو ترجمة للمصطلح المألوف بالإنجليزيةmain steam psychiatry ، وهو تعبير جامع يفيد الإشارة إلى الاتجاه الغالب فى الأحدث والأحدث فى هذا الفرع.
[3] – يحيى الرخاوى، “النظرية والفروض الأساسية”، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، 2022
[4]- الأشكال غير موجودة فى الأصل، وهى اساسا متحركة animated على برنامج البوربوينت ppt والرسالة التى توصلها الصورة الساكنة أقل بكثير من الصور المتحركة، ومازلت آمل أن تصدر لاحقا مع الطبعة الورقية أقراص مدمجة تعوض ذلك، ومرحليا سوف أشير على كل شكل متحرك بالرابط في موقعى www.rakhawy.net لمن شاء أن يطلع عليه حالا. ورابط الشكل متاح أيضا في نشرة “الإنسان والتطور اليومية” (24/4/2016) في موقعى.
[5]- “المُبلغ” غير “المرافق”، وقد يكون الملبغ غير حاضر، وهو أى مصدر بيلغنا معلومات متعلقة بالمريض، أما “المرافق” فهو الذى يرافق المريض ولو فى جزء من المقابلة، وهو يقوم أيضا بدور المُبلغ “عادةً” (أنظر بعد)