نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 15-10-2018
السنة الثانية عشرة
العدد: 4062
(مقتطفات متعلقة) من أعمال يحيى الرخاوى
النقدية والإنشائية والإبداعية
مقتطف من “تداعيات الرخاوى” (1)
التداعى الأول
“قصة فى قطار” (2)
شهادةٌ فى قصة ليست قصيرة!!
على المقهى الذى فى ميدان سيدى جابر، على شريط الترام وأنت ذاهب نحو المحطة توجد قهوة كبيرة ماسكة ناصيتين، جلس على الرصيف فى الظل ووجهته ناحية الترام، لا ناحية المحطة، مع أنه فى المرّة السابقة كان يجلس ووجهه للمحطة، وراح ينظر إلى ناحية القطار كل قليل، وكأنه سيراه وهو قادم فيجرى ليلحق به، بدا وكأنه لم يصله خبر أن الأمور تغيرت، وأن قطارات هذه الأيام لا تحتاج إلى الحدْس ومباريات الجرى، كلّه بالدقيقة، شئ فرنساوى، وشئ توربينو، وشئ أسبانى، مصلحة السكك الحديد المتحدة، ثم إنه لمّا تجوّل المرة التى فاتت اكتشف منطقة لم يكن قد تجوّل فيها من قبل، توجد هذه المنطقة على الناصية المقابلة، الناحية الثانية من شريط الترام، مطعم صغير أمامه شوّاية الفراخ بروائحها التى هى، يبدو أن هذه هى أيامها بعد حكاية جنون البقر، ثم فرن جميل نظيف تتصاعد منه رائحة الطزاجة الدافئة، هو يحب هذا الخبز هكذا دون غموس (الخبز الحاف)، فى جولة سريعة المرة السابقة، تعرف على المكان وكأنه مسافر إلى الخارج يكتشف حوارى بلد متوسط على الطريق، مثلا: من تركيا إلى اليونان، هذه المرّة لفّ نفس اللفّة وكأنه يتأكد أنه قد أصبح له حق مواطَــنة وطن جديد اسمه “سيدى جابر” لا يحتاج الأمر إلى دخوله أية إجراءات أو تأشيرات، شوارع ضيقة نسبيا، وعمارات متوسطة قديمة منتصبة فى ثقة وهى تتحاور فى همس، ومحلات بسيطة ونظيفة وصغيرة، وانحناءات غير متوقعة، ثم إنه عرف كيف يوحّد الاتجاه رغم الانحناءات التى تصل إلى الزاوية الحادّة، يسار فى يسار فى يسار تجد نفسك ثانية على شريط الترام أمام بورصة كذا (لم يعد يهتم بالأسماء بعد أن تكرر نسيانها) والبورصة، كما خيل إليه فى لغة الإسكندرانية، تعنى القهوة، ناس يجلسون مع بعضهم البعض، ناس بحق، لا ينتظرون القطار، أى قطار، فقط يجلسون ويتصايحون ويلعبون ويتكلمون ويضحكون، والله زمان، هو ليس من رواد المقاهى أصلا، وقته لا يسمح، ومع ذلك، والله زمان، كله من هذه السيارات، وخاصّة هذه السيارة الأخيرة ذات المقعدين، فَصَلَته عن الناس، كيف يمكن أن يتربى الأولاد بلا اختناقات فى الأتوبيس، وبلا بحث عن الفكّة فى جيوبهم ثم حوار مع المحصّل (يعنى: “الكمسارى”؟!) وكان قد تعمّد، بعد أن كبر الأولاد واستقلّوا، شراء هذه السيارة الشبابى، لا ادعاءً للشباب وإنما تجنّباً أن يركّب أحداً معه، حتى من أولاده ما أمكن ذلك، ناهيك عن المارة الذين يشيرون بأيديهم أحيانا فيخجل هو من المقعد الخالى بجواره، ومع ذلك لا يقف لهم، وأيضا هو نجح أن يقاوم إلحاح أولاده وزوجته أن يوظف سائقاً خاصّا يليق بدخله ويوفر وقته، نقوده القادرة على تعيين سائق خاص كادت تحرمه حتى من الاختلاء بنفسه فى السيارة وهو يستمع إلى إذاعات لندن والإذاعات الأخرى التى تكرهها زوجتة، فهى تعتقد أنها إذاعات متخصصة فى نشرات الأخبار المليئة بالقتل والغم والحوادث، هذه السيارة، كل السيارات، أصبحت حاجزاً فوق الحواجز بينه وبين الناس، ومع ذلك فهو يحب هذه السيارة حبا جما رغم كل شئ، “اثنين صُحبة، ثلاثة زحمة”، قولٌ “خواجاتي” سخيف، أثناء جولته هذه المرّة وقف أمام الدكان الصغير على ناصية أحد الانحناءات الحادة، أمام الدكان ثلاجة بها “آيس كريم”، فتحها وتناول منها قمع البسكويت الذى يحبّه رغم قشرة الشيكولاته التى لا يحبها، دولسيكا بالبسكويت، هو لا يحب البوظة أُمّ عصا، أصبح قمع الدولسيكا بجنيه، هذا هو الشئ الذى استطاع أن يتابع أسعاره فى السنوات الأخيرة، 35 قرشا، ثم 50 قرشا، ثم 65 قرشا، ثم هُبْ قفزة إلى الجنيه الصحيح، إنه لا يشترى – شخصياً – شيئاً بنفسه، وهو لا يحتاج إلى شئ، وبالتالى لا يعرف إلى أين وصلت الأسعار هذه الأيام، ثم إنه لمح كراريس على الرف الداخلى للمحل، هذه أيضا من الأشياء التى كان يشتريها من سنوات قبل حكاية الكومبيوتر، “أرخص كرّاسة لو سمحت”، متوسطة، ورق أى كلام لو سمحت، غلاف عادى لو سمحت، ما الحكاية؟ لو سمحت لو سمحت لو سمحت، المهم، اشترى الكراسة، لماذا اشترى الكراسة؟ هذا أمر فى علم الغيب حتى هذه اللحظة، اشتراها بجنيه أيضا؟ نفس ثمن الآيس كريم، ثم إنه فرح فرحاً مناسباً، بغير سبب ظاهر، الكراسة بجنيه والـ”جيلاتي” بجنيه، مثل زمان، دومة بمليم، وعسلياية بمليم، وقرطاس لب بمليم، وتتبقى نكلة، والكراسة (زمان) 32 صفحة كنظام وزارة المعارف العمومية بنكلة، أو تعريفة حسب الورق، هو لا يحب تذكّر الماضى بحنين خاص، ولكنه لا يستطيع أن يحول دون الشعور بهذا الحنين الخاص رغم اختلاطه بمشاعر متداخلة من المذلة والضعف والحيرة والوحدة، نعم والوحدة، منذ هذه السن المبكرة، انقطعت علاقته بالتسوق تقريباً فيما عدا هذه الـ”دولسيكا ” وبعض الكشاكيل التى توقف عن شرائها بسبب صديقه الجديد، الحاسوب، ما أسخف الاسم، هو الكمبيوتر وخلاص، فحتى أسعار الكراريس والكشاكيل توقف عن تتبعها، وهو قد اكتفى بإعطاء زوجته مبالغ أكثر من المطلوب حتى يوفّر على نفسه الشكوى من الأسعار، ومع ذلك فهى لا تكف عن تذكرته، وهو يزوغ، وهى لا تكف،”فيم نـتكلم إذن إذا لم نتكلم فى الأسعار”، يا ستى خلّ الهم لأصحابه، نحن قادرون والحمد لله، فتنبرى زوجته تحاول أن تـُفَهمه أنها تتكلم من أجل المهمومين، هكذا مرة واحدة؟ طيب كيف؟”؛ إن كثرة الكلام عنهم تجعلنا ننساهم، أعنى قد تجعلنا ننساهم. نعم؟ نعم؟ خلاص، لا أقصد، بل تقصد. أستغفر الله العظيم، آخر كشكول اشتراه كان بعدّة جنيهات، أغلى من روايات نجيب محفوظ زمان، كان كبيراً ومرسوماً عليه صورة أحد المغنيين أو الراقصين (لم يعد هناك فرق)، وحين طلب غلافا سادة لم يجد، فاكتفى بغلاف عليه ميكى ماوس، مع أنه يحب أكثر توم وجيرى، وزوجته تواصل الحديث عن الأسعار، وهو لا يستطيع أن يجد ردودا مناسبة كل مرة، وهذه المرّة الأخيرة اكتفى بأن يزوم وهو يهز رأسه، فتمادت ظانّة أنه فهم ويتابع، فيتمتم، فتتمادى، فيزوم مرة أخرى بطريقة أخرى، فتتمادى وهى تحدثه عن الناس المساكين جدا، وتبدى من أنواع الشفقة ما لا يجوز، وهى تؤكد أن الحديث عن الجوعى والمساكين هو مسئولية كل متحدث، وذلك حتى لا ننساهم، يا حرام. كذا؟.!! وهكذا تلقى عن كاهلك كل شئ بمجرد أن تحكيه، هذا رأيه. يا سبحان الله، نحن نخفّض الأسعار بالكلام، نبنى مساكن للشباب بالكلام، ونروى لهم الأفدنة الصحراوية التى ضحكنا عليهم بها فتاجروا فيها ما دامت بدون ماء، بالكلام أيضا، يبدو أن الكلام مهم جدا فعلاً !! ماشى، كلام الناس هو الرأى العام؟ الرأى ماذا ولا مؤاخذة؟. الرأى العام: يعنى الرأى العام، ماذا فى هذا؟. ألم نتفق على التوقف عن المعايرة، وفارس مالبورو ينظر إليه من الإعلان الكبير الموجود على حائط العمارة المقابلة، والله هذا الفارس أرحم من تلك الراقصة على غلاف الكشكول اياه، على الأقل هو فارس يذكرنا بشهامة موقف الفرسان الذين لا يطعنون فى الخلف، ثم إن هذا الفارس بالذات يوصيك بالنكهة، حلوة النكهة هذه، وهو لم يعد يدخّن، بل إنه لم يكن مدخنا أصلا، فلماذا اشترى الكراس؟ وما علاقة هذا بذاك؟ عجيبة، عموما هو طالع فى مقدَّر جديد، منذ قرر أن يستقل القطار ذهاباً وإياباً إلى الإسكندرية التى يحبها جداً، يحبّها أكثر مما يحبها إدوارد الخرّاط وغالبا أكثر من يوسف شاهين، من أين له أن يعرف؟. من فرط حبه لها، لا يوجد أكثر من هذا، فراح يستعيد أشياء صغيرة رائعة كان قد هجرها بسبب الثراء والعربات والجرى وراء الجرى، وراء الجرى، وراء الجرى، وراء… (كفي… الله!!)، لكن هذه الكراس التى اشتراها بغير قصد تحل فى وقت غير مناسب، وكأنها تريد أن تستفرد به بعيدا عن غريمها الكمبيوتر، ذلك الصديق الجديد العظيم القادر النذل، قال اسمه الحاسوب قال!! يستأهل هذا الاسم بدلا من الكمبيوتر ما دام هو بكل هذه النذالة، لكنه مع نذالته صديق، حين تصادق نذلا وأنت تعرف ذلك لا يحبطك تخلّيه أو تصدمك أنانيته، فتطول الصداقة، وقد حال هذا الكمبيوتر بينه وبين أصحابه القدامى مثل أقلام الحبر الجاف المتعددة الألوان الرفيعة السن جدا، وكافة أنواع الكراريس، ولكنّه ظل محتفظا بصداقة الأقلام الرصاص والأساتيك (جمع أستيكة لأنى لم أعرف جمع ممحاة، هل هو ممحايات أم مَمَاحٍ)، هذا الصديق النذل (الحاسوب) شفاهُ من عشق القلم والورق معاً، واختصت الأقلام الرصاص بشخبطة الكتب التى يقرؤها، الكمبيوتر صديقٌ حقيقى له حضور، يلقى عليه تحية الصباح، وأحيانا يضغط على زرّه وهو ذاهب إلى دورة المياه ليسمع زنّة الفتح الرقيقة، ثم يغلقه دون أن يعمل عليه بعد أن ينظر فى شاشته الفضية بحنان، ومع ذلك فهو صديق نذل أيضا، ولن أقول لكم لماذا! مقالبه يحتملها بكل صبر، مع أنها أحيانا تكون باردة وغادرة، يعاتبه، أو يعاقبه، أحيانا بأن يرفض أن يغطّيه بغطائه وهو خارج بعيدا عنه، كما أنه إذا غضب منه، أو عليه، لا يمسح عنه التراب ولا يربت عليه حين يبدأ العمل، نفس الشكوى كانت تشكو منها زوجته، فهو لم يملّس على شعرها إلا مرّات قليلة فى استجابة غير عفوية لمطلب غامض أشبه بالشروط السرية فى معاهدة استسلام، أشياء كثيرة صغيرة شديدة الأهمية فى الأنس والمداعبة، لم يتعلم منذ الصغر كيف يتقنها، مع أنه على يقين من أنها ضرورية، وأنها أهم من الأشياء الكبيرة التى لا يتقنها أيضا، يعتذر لابن حزم بكل خجل لعجزه عن الألفة والإيلاف، لماذا أسمى كتابه “طوق الحمامة؟. الرقة لا تباع ولا تشترى يا أخى، يشفق على زوجته بقسوة ويتساءل: لم قبـِلَـتْه ما دام هو هكذا؟ ظلمتْ نفسها هذه السيدة.
(ثم قد نكمل أو لا نكمل الأسبوع القادم!!)
[1] – المقتطف من “تداعيات الرخاوى” (الطبعة الأولى 2017)، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى الرخاوى للصحة النفسية (دار المقطم) شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net .
[2] – كتبت فى عام 2000، وظهرت كطبعة أولى في مجموعة قصص قصيرة باسم “ورطة قلم” الناشر “المحروسة” – القاهرة.