نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 2-1-2022
السنة الخامسة عشر
العدد: 5237
مقتطفات كتاب
“الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” (1)
الباب الأول: “النظرية ومعالم الفروض الأساسية” (12)
مقدمة:
نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب، لعله الأهم، أن تُقْرأ نشرة اليوم التى سنقدم فيها ما تيسر من الفصل الثالث، وأوصى بالبدء بقراءة نشرة أمس.
يحيى
الفصل الثالث
الخطوط العريضة للأفكار الأولى (5)
………………..
…………………
ونعود الآن لاستكمال قراءة النص الباكر مع التعقيب المناسب:
كنا قد انتهينا عند بيان:
-
كيف أن الظاهرة البشرية – ككل – مثل كل الظواهر الحيوية: الأدنى والأعلى، هى ظاهرة إيقاعية أساسا، وأعنى بالايقاعية: “الذبذبة المتزامنة الدائرية المفتوحة النهاية على مسار النضج وإبداع النمو المضطرد.
ونكمل الآن من المقال الأصلى مع التعقيبات:
* إن الطبيعة الإيقاعية كامنة فى الطبيعة البيولوجية الداخلية للانسان، تلك الطبيعة الواصلة إلى ما هى عليه عبر الأجيال دائمة التكيف والتناغم مع كون ايقاعى محيط، وفى واقع الحال فإن الإيقاعية البيولوجية ذات الايقاع الذاتى تكتسب سرمدية جديدة من خلال مطلب التوازن المستمر مع إيقاع أعلى وأدنى، إن من أهم الدورات الإيقاعية المعروفة فيما يتعلق بالسلوك البشرى اليومى، هو التناوب الليلنهارى (اليوماوى) (2) بين النوم واليقظة، ثم داخل النوم: بين النوم النقيضى (الحالم/نوم الريم) والنوم غير الحالم وهذه الدورات اليوماوية هى الحركة التنظيمية الدائبة للتوفيق بين تناسب جرعة المعلومات المـُـدخلة، وإمكانية استيعابها وخزنها وتشكليها وتمثيلها، وتفعيلها.
التعقيب:
أولاً: حين قرأت الآن تعبير “بناء المخ المستمر” رحبت به وتعجبت كيف وصلنى باكرا بهذا الوضوح من واقع الممارسة أيضا، الأمر الذى اتضح لى لاحقا حين وصلتنى سلسلة من الإنجازات العلمية الأحدث فالأحدث تناولتْ هذه الحقيقة بتنوع باهر وأساليب تؤكد كيف أن “المخ يعيد بناء نفسه” باستمرار (3) واكتشفت أن هذه حقيقة نمارسها فى العلاج الإبداعى الحقيقى (نقد النقد البشرى) دون أن نسميها كذلك، وذلك من خلال إعادة النظر فى “العامل العلاجى” فى العلاج عامة والعلاج الجمعى وعلاج الوسط خاصة.
ثانياً: حين كتبت هذه المعلومة التى وصلتنى أساسا كما ذكرت فى المقدمة، لم أكن غصت فى محيط الأحلام تنظيراً، وربطا بين هذا وذاك، وعلى الرغم من أن كل ما دوّنت وأشرت إليه ما زال – وسيظل غالبا لفترة ليست قصيرة – فى مرحلة الفروض – فإن رصد احتمالات أثار هذه الفروض تجريبيـًّـا (Emperical) وفينومينولوجيا باستمرار يـُـطـَـمـْـئـِـنُ إلى صحة أن المخ دائم النشاط الإيقاعى لبناء نفسه.
* إن أشهر طورين لنبضة ايقاعية فسيولوجية هما طورى نبضة القلب، ويسميان طورى “القبض – والبسط” systole-diastole (4)، وقد حاولتُ أن أترجم هذين اللفظين ترجمة يصلح تعميمها للنبضات المقابلة فى الأجهزة الأخري، وخاصة المخ، الا أنى وجدت فى ذلك خطر الاختزال المشّوه، أو القياس المُخِلّ، ففى المخ- لا ينقبض التركيب مثلما تنقبض عضلة القلب فيرتفع الضغط فى وعاء القلب المغلق من فتحتيه معا حتى يزيد الضغط داخله عن الضغط فى الشريان المستقبِـل فيندفع الدم فيه، ولكن الذى يحدث فى المخ فيما يقابلُ طور الاندفاع هو “بسط” لما هو كامن ومضموم ليلتحم جدليا بالمستوى الفاعل، كما أن هذا البسط ليس ميكانيكيا كميا مثل القلب، ولكنه بسط فيه استعادة هيراركية ثم جدل ولافى محتمل، أما بالنسبة للطور الآخر وهو طور الاسترخاء للامتلاء، فان عضلة القلب تتراخى فينقص الضغط ويمتلى وعاء القلب بالدم، حتى أن هذه المرحلة تسمى مرحلة الملء السريع فالملء البطىء، لكن فى المخ لا يمكن قبول هذا القياس لأن هذا الطور ليس سلبيا، فهو يشمل “الانتقاء“ و”التصنيف“ و”الإدماج” و”التخزين جميعا” أو ما يسمى التفعيل أو المعالجة أو الاعتمالProcessing ، وبرغم كل ذلك لم أتردد فى استعمال التعبير الشائع: القبض والبسط، ولو مؤقتا!!.
التعقيب:
إن جُمّاع ذلك هو التأكيد على تواصل إبداع الذات بالتشكيل النمائى من خلال الإيقاع الحيوى الخلاق طول الوقت، وهذا ما يتفق مع الأحدث فالأحدث عن كيف أن المخ يعيد بناء نفسه باستمرار وانتظام.
-
على مقياس طولى أبعد، نجد أن دورات النمو تمثل ايقاعا طويل المدى، تتناوب فيه نبضة النمو بين طورى التلقى والاستيعاب مقابل طورى التمدد والبسط، وهما طوران متكاملان متناوبان، ولكنهما متداخلان واقعا: أولا: لتكرارهما وتكثيف الدورات الأصغر داخلهما، وثانيا: لتعقيد تركيب المخ وطبيعة البسط والتمدد على المستوى النيورونى والخلوى بنائيا، بحيث يصبح الفصل المحدد بينهما أمرا مخالفا للطبيعة البيولوجية النوعية للمخ الذى يتداخل ويتجادل فيه النبض بين مئات الألوف حتى الملايين فأكثر من النيورونات والمشتبكات والعمليات التشكيلية المختلفة.
-
إن نتاج كل دورة نمو يتوقف على مدى نجاح الدورة السابقة، كما يتوقف نجاح كل طور، على حـِـدَة، على مدى نجاح الطور السابق فى القيام بوظيفته المناسبة، وأخيرا يتوقف كل هذا على تناسب الظروف المحيطة لتلقى نتاج البسط، أو لملء طور التمدد بالمعلومات ذات المعنى “وبالجرعة المناسبة”. أى أن نجاح طور البسط التالى يتوقف على نجاح طور التلقى والاستيعاب والاعتمال بالكم المناسب من المعلومات، وعلى مدى نجاح تناول هذا الكم بتنظيم نسبى واستيعاب جزئى من خلال الايقاع الليلنهارى و”الحلمنـَـوْمي” يوميا- والعكس صحيح، فان طور التلقى والاستيعاب يمكن أن يمضى بكفاءة مناسبة اذا سبقه طور بسط استطاع أن يبسط المحتوى السابق فينتقى ليظهر بعضه ويتمثل البعض الآخر فيقلل من المعلومات المخزونة تحت الطلب، أو المركونة كجسم غريب فيحيلها إلى ما هو “المعلومة المتسقة الجاهزة للتمثل” مما يجعل المخ أقدر على تلقى الجديد ذى المعنى فى طور التمدد اللاحق….وهكذا.
التعقيب:
الأرجح أننى استعملت تعبير “مقياس طولى” للإشارة إلى “بعد النمو” نتيجة لنجاح هذا النبض فى القيام بمهمة التناوب، لكننى اكتشفت الآن أن كفاءة هذا التناوب وانتظامه ليس هو جوهر حركية الإيقاعحيوى، وللتأكيد على أن التمثيل بنبضات القلب ليس هو التمثيل المناسب لأن نبض القلب يبدو أكثر ميكانيكية ورتابة منتظمة أما نبضات المخ فمع مزيد من الملاحقة ووضع الفروض والتنظير والممارسة العملية: بَدَتْ لى نبضاته إبداعية نمائية، والإبداع النمائى ليس طوليا بهذه البساطة فبدا لى حاليا أنه قياس قاصر، لا يتناسب مع تقـَّدم خبرتى فى النقد والإبداع وقراءة النفسمراضية فى الممارسة العلاجية ثم العمل على تصحيحها بالعلاج بتقنية “نقد النص البشرى”واستيعاب جوهر ما يجرى في عملية التناصّ Intertextuality بين مستويات الوعى البينشخصية والجماعية بما في ذلك مستويات وعى المعالج، وأعترف أننى عجزت عن توصيل تفاصيل ذلك عبر هذه العقود من النقد والممارسة، ومع ذلك آمل أن أنجح أن أوصل بعض ما عاينتً وأبلغت بأية درجة الآن:
نظرا لتعدد مستويات المخ وتعقد تركيبه، فان الواحدية جارية متناغمة بالتبادل والتكامل وكل آليات الهارمونى تجرى بنظام دقيق متناوب والذى ينظم الايقاع الحيوى فى وقت بذاته هو مستوى واحد (قائد) يعتبر بمثابة ”ضابط الايقاع” Pace Setter، أو المايسترو، فى مرحلة بذاتها، على أن هذا المستوى لا يظل هو نفسه متوليا القيادة طول الوقت بل يتبادل مع مستويات أخرى تناسقا لأطوار الإيقاع من جهة، ومع تغير الظروف وحالات الوعى ومتطلبات الواقع من جهة أخرى، لكن تظل الواحدية فى لحظة بذاتها هى الأصل مهما تعددت المستويات نابضة معا تحت القيادة المناسبة، ثم حين يجرى التبادل بين الأمخاخ فى دورات التبادل الإيقاعية، وتظل الواحدية قائمة فى حالة السواء مهما اختلفت القيادة!
التعقيب:
نلاحظ هنا الانتباه باكرا – مهما بلغ الحماس لقبول التعدد واحترام الإيقاعحيوى المستمر – أنه فى لحظة بذاتها وبرغم التأكيد على أهمية تعدد مستويات المخ والوعى طول الوقت، إلا أنه لكى تستمر الحياة بكفاءة صحيحة لابد أن تنتظم كل هذه المستويات فى “لحظة بذاتها” فى “واحدية” مهما تباين شحن كل منها بجرعات مختلفة من الطاقة الحيوية.
الإيقاعحيوى: أساس النمو (والإبداع)
يمثل فحص نوابية المرض النفسى والعقلى اختبارا لكفاءة واتجاه ونتاج نبضات النمو، وخاصة لطور البسط، حيث لو كان المحتوى مضطربا ومتداخلا وجامدا فان البسط يعجز عن أداء وظيفته الأساسية بإضافة “الكامن” إلى “الفاعل” جدلا وإبداعا، وانما سيكون دفعه هو تنشيط عشوائى لكم هائل من المحتوى المشوش دون فرصة كافية للاستيعاب والتمثيل، مما ينتج عنه: تفجُّر، أو تفسخ، أو تراجع أو “انغلاق فى المحل”…، ثم مزيد من حشر المعلومات – حتى التى سبق تمثلها جزئيا – فى شكل حشد غير فاعل للمعلومات التى تتحول بذلك إلى “أجسامٍ غريبة”، فتنقلب بذلك الايقاعية البيولوجية الى إعاقة دورية بديلا عن وظيفتها الطبيعية كدفع الى النماء، مِمَّا يُهَدِّد بالتندب والضمور (5).
مرة أخرى: فى حين أن الذى يدفع فى حالة القلب هو العضلة، وأن المحتوى هو الدم بلا أى خلط أو تداخل بينهما، فان الذى ينبسط فى حالة المخ هو تنشيط دورى إبداعى بما يحتوى من معلومات كامنة مؤقتا (جينية أو مـُـدخلة)، فالمحتوى هنا هو هو الوعاء.
وكما أشرت فى البداية أن منطلقى كان من ملاحظة نوابية المرض النفسى عامة، وليس فقط جنون الهوس والاكتئاب، فإن هذا يتطلب أن نؤكد مرة أخرى أن هذه النوابية تعنى أن الايقاع الحيوى للمخ البشرى ليس مجرد ملء ثم ضخ مثل القلب، كما أنه ليس دائرة مغلقة، علما بان محتوى النبضة فى المخ هو جزء منها، ومن ثم كان لزاما أن نتقدم خطوة لتوضح طبيعة المعلومة فى علاقتها بما يسمى “بيولوجى”.
طبيعة المعلومة من منظور الإيقاعحيوى (فى المخ بالذات):
المقصود بالمعلومة هو كل ما يصل إلى الوجود البشرى (المخ البشرى فى المقدمة) من رسائل ومثيرات.
تهتم العلوم النفسية (والإنسانية عامة) بذلك النوع من المعلومات المتضمنة فى الجهاز الإشارى الرمزى (وأهم تجلياته: الكلام واللغة)، غير أن الدراسة الأعمق ينبغى أن تمتد الى المعلومات غير اللفظية التى تعتبر ذات أهمية قصوى وخاصة فى مراحل الطفولة والنكوص والتواصل غير اللفظى (بأنواعه)، بما فى ذلك “الإدراك” حتى عمق طبقاته إلى الحدْس، وأيضا نشاطات الإبداع خاصة التشكيلى بما يشمل إدراك المساحة والزمن واللون وأيضا بعض العلاج النفسى خاصة المكثف، والجمعى وعلاج الوسط، ومن ثــَـم ظهرت نظرية تسمى نظرية “التعالق” Relevcence Theory وفيها تفاصيل هامة عن أولوية وفاعلية التواصل الحركى وغير اللفظى بل وغير الصوتى Non Vocal مقارنة بالتركيز على التواصل الرمزى جدا (6).
المشكلة الأساسية فى تناول ودراسة موضوع المعلومات بمستويات، وبنائية التعلـّم للنمو والتطور: تكمن فى العجز عن الفصل بين المعلومة الرمزية المجردة، وبين حضورها كجزء من الكيان “البيولوجي” عامة، لذلك فنحن نرجح أنهما واحد وإنْ تـَـبـَـاعـَـدَا على مستويات مختلفة، وفى مراحل متنوعة من نشاط المخ الإيقاعى فى الصحة والمرض.
المصدر الأول للمعلومات هو الذاكرة الجينية، وبالتالى فالوراثة لا ينبغى أن تعتبر فقط حتما تاريخيا بيولوجيا، بقدر ما تعتبر مصدرا للمعلومات التى تكثفت من خلال خبرات النوع عبر تطوره، ثم ما تجلت به وأضيف عليه من التركيب الأسرى مع الوضع فى الاعتبار أن هذه الخبرات ليست متماثلة طبعا فى قطاعات متنوعة من البشر على اتساع المعمورة، وبطول التاريخ: حسب ظروف التطور لكل ثقافة فرعية فى مختلف المجالات والمسار والجغرافيا والتاريخ والمحيط، ثم يضاف إلى هذه الوراثة التاريخية الوراثة العادية للفرد، باعتبار أن الفرد عند الولادة يكون نتاجا وتلخيصا لهذين الحدثين المتداخلين: تاريخ مجموعته بين التقسيمات الفرعية للنوع، وتاريخ عائلته الأقرب، والمهم فى هذا المدخل هو أن نربط الوراثة الأسرية الأحدث بتعلم غائر سابق، تمّ على مستويات مختلفة، وعلى مراحل متتالية فى تاريخ تطور الفرد امتدادا إلى تاريخ النوع الخاص بجماعته، إلى تاريخ الأنواع الكامنة فيه وبالتالى فان معلومات الذاكرة الجينية تختلف من البداية من جماعة إلى جماعة ومن أسرة إلى أسرة، وهى تظل مرتبة فى طبقات تقابل بصفة عامة: مراحل التطور النوعى والأسرى، وتصبح مسيرة الفرد من خلال نبضات إيقاعه الحيوى المختلفة الأطوال: هى الوسيلة التى تتقدم بهذه المعلومات خطوة خطوة نحو تشكيل أرقى يستوعب أكثر فأكثر المراحل الناقصة الاستيعاب، ويتجاوز البناء إلى ولاف أعلى، ما أمكن ذلك، متفاعلا طول الوقت تفاعلا جدليا مع المعلومات المـُـدخلة من التعلم الأحدث المكتسب، وبألفاظ أخرى نقول:
إن وظيفة الايقاع الحيوى هى أن يتقدم باستمرار وبصفة دورية لا تتوقف، يتقدم بهذه المادة الأولية خطوات تطورية أخرى باضطراد نابض نحو تشكيل الولاف المحتمل بالتفاعل الجدلى مع المعلومات الجديدة، فهو يسمح بالتنشيط للاستعادة كما يحفز للتمثـِّل الولافى فى نفس الوقت فى حالة نجاح مسيرة النمو والتطور.
جدل الخارج والداخل:
هكذا نستطيع أن نتصور عملية التعلم على أنها إبداع يوماوى دائم، وهى تتم على أساس “تشكيلى” فى نفس الوقت، كما يمكن أن نميز بين درجات انتظام المعلومة فى الكل البنائى للمخ من أول درجة “الجسم الغريب” غير القابل للاجترار المعاوِدْ ==> حتى درجة الالتحام الجدلى الكامل المغيِّر للفرد فالنوع ذاته على المدى الطويل. ويتم الانتقال من المستوى الأسطَح إلى المستوى الأعمق أثناء نبضات الايقاع الحيوى الليلنهارى (اليوماوى) وكذلك أثناء نبضات الايقاع الحيوى الأطول من خلال البسط والتمدد فى دورات النمو،
وإليكم توضيح آخر: إن كل معلومة تورث من تاريخ الحياة أو تدخل ابتداءً كجسم غريب ئسبيا، تكون عرضة للتنشيط فإعادة الترتيب فاحتمال التمثـّـل الأكمل من خلال الإيقاع الحيوى المستمر، على أن ثمة معلومات لها دلالة تطورية خاصة، وفى نفس الوقت لا يستطيع الكيان الفردى تمثلها بالدرجة الكافية أثناء المدى المحدود لحياته كفرد، فتصبح قابلة للانتقال عبر الذاكرة الجينية لتتجدد فرصة استيعابها – بعضها أو كلها – من خلال الايقاع الحيوى الممتد عبر الأجيال.
تجدر هنا إعادة التذكرة كيف أن المعلومة هى كل ما يصل الى الوجود البشرى الممثل أساسا – وليس تماما– فى المخ البشرى والممتد إلى كل خلية وكل “دنا” DNA، من ”رسائل” و”مثيرات” وأفضـِّل أن أذكّر بضرورة التفرقة بوضوح بين ما هو مثير بمعنى Stimulus وما هو رسالة بمعنى Message، ففى حين نتوقع أن يثير المثير استجابة ما Response فان الرسالة يمكن أن تصل وتستقر دون أن تتطلب ردا عاجلا، أو حتى آجلا محددا، يفيد ناتج التغيير الذى أحدثته، وقد يظل الرد مؤجلا بما يتعدى حياة الفرد، فتنتقل الرسالة واحتمال الرد الى الجيل اللاحق، كما أشرنا وهكذا، يسرى عليها ما يسرى على الذاكرة الجينية التى أشرنا إليها سالفا، وقد تـُـستعاد الرسالة المؤجلة بشكل نشط فى أطوار بسط الإيقاعحيوى خاصة، ويكون الرد – بالنمو والتطور – حينذاك أكثر احتمالا.
وكما سبق أن ذكرنا أن العلوم النفسية (والإنسانية عامة) تهتم أكثر بذلك النوع من المعلومات المتضمنة فى الجهاز الإشارى الرمزى (المسمى غالبا: اللغة)، غير أن الدراسات الأعمق – حين تتوفر الإمكانيات – تمتد الى المعلومات غير اللفظية التى تعتبر ذات أهمية قصوى وخاصة فى مراحل الطفولة والنكوص والعلاج النفسى وخاصة الجمعى (بأنواعه) والإبداع، فكل الأحياء قبل الإنسان تبدع و تنمو وتبقى (ما يبقى منها) دون رموز ومقالات وكتب ومحطات فضائية وتواصل اجتماعى محمولىّ!!
هكذا نميز بشكل لازم بين:
“المعلومة “الذاكرة المستعادة“،
والمعلومة “المشحونة الكامنة” الثابتة،
والمعلومة “مشروع الكيان البنائى النمائى الإبداعى“.
ثم إن التناسب بين جرعة المعلومات المنشَّطَة والمُدْخَلة، وبين قدرة الكائن الحيوى على استيعابها هو الذى يحدد نوع التعلم من جهة، ونتاج النبض الحيوى من جهة أخرى وهنا يجدر بنا أن نراجع ابتداء تدهور استعمال كلمة ”بيولوجى” خاصة بعد أن كادت تختزل تماما إلى لفظ ”كيميائى” أو “عضوي”، وأنا أصر على استعمالها بمعناها الشامل الأصلي، أى بمعنى ”حيوي”، فتشمل كل ما يتعلق بما هو “حياة” ولتأكيد هذا المعنى: فانى أستعمل لفظ ”التغذية البيولوجية” فى مجال: تــناسُب جرعة ونوع المعلومة مع احتياج المخ للهارمونى والفاعلية” من معلومة بذاتها، ومن هذا المنطلق فإن المعلومة: سواء كانت رمزية لغوية، أم رسالة حيوية غير لفظية، هى المصدر الأساسى والوحدة الأولية لتنظيم الخلية، ناهيك عن تنظيم المخ وبنائه ومواكبة إيقاعه، وهى جزء لا يتجزأ من “تركيب المخ” وليست مجرد محتواه،
فالمخ ليس وعاء به معلومات، ولكنه مادة حيوية من معلومات دائمة التشكُّل بمزيد من المعلومات من خلال تنشيط الموجود، واستيعاب المـُـدخل فى نبض “إيقاعحيوى دائم “.
وهذا يذكرنا بالمفهوم الأحدث فى علم الأنثروبولوجيا (علم الأعراق البشرية) لظاهرة البصم Imprinting” كإحدى وسائل التعلم، وإن كانت الأبحاث المتعلقة بهذا الموضوع قد ركزت أساسا على كيفية ظهور التعلم المبصوم دون التعمق فى شرح عملية كيفية بصم هذه المعلومة، أو كيفية تمثـُّـلها أصلا، وليس مجرد إطلاقها من مكمنها (7)
وما دامت المعلومات تــُـنـَشــَّـط وتـُــفــَـعــْـلـَـن فى مستويات متصاعدة، وبدرجات مختلفة نوعيا، ولمـّا كان الايقاع الحيوى بطوريه يساهم فى عمليات التنسيق : فإن عملية النمو سوف تستمر وتضطرد فى مسارها الطبيعى بلا توقف إلا لمرض.
وبعد
إن مجرد محاولة استيعاب الطبيعة عامة، والطبيعة البشرية خاصة من خلال مواكبة هذا النشاط الإيقاعحيوى المستمر ليل نهار، حلما ويقظة، خليق بأن يغير نظرتنا إلى الحياة ، أملا فى مواكبة نظامها كما نظمه خالقها،
إن الإنسان وجد على هذه الأرض وهو يحمل تاريخ كل الأحياء،
ثم ها هو يولد من بطن أمه محملا به أيضا،
فيكتشف أنه فى نبض دائم، نبض يتيح له فرصة استيعاب وإبداع كل ما حوى مما به أو وصله.
أى كل ما يحوى منذ ولادته، وكل ما احتوى من أسرته وأجداده، بل وكل ما احتوى من نوعه.
فتزيد الأمانة ويتجدد الأمل كل ليلة (بل كل نبضة!!).
……..
(ونكمل الأسبوع القادم)
بتقديم الفصل الرابع: “مسارات الوعى وتشكيلات المعلومات”
[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث أبواب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2021) (تحت الطبع)
[2] – كنت محتارا آنذاك فى العثور على ترجمة مناسبة لكلمة Circadian، فتصورت أن لفظ “الليلنهارى قد يصلح رغم طوله، ولكنى بعد ذلك وجدت أن لفظ “اليوماوى” هو لفظ مناسب لأن اليوم يشمل دورة كاملة الليل والنهار معا
[3]- Norman Doidge: The Brain That Changes Itself” Stories of Personal Triumph from the Frontiers of Brain science” Edited by: Norman Doidge , M.D. Copyright: 2007
[4] – لم استقر بعد على تسميتها طورى التلقى والاستيعاب، أو الادخال والتمثيل مع التذكرة بأن دورات نبض المخ ليست بهذا الاستقطاب الثنائى، ومع ذلك فعلينا أن نتذكر أن التمثيل هنا هو أقرب إلى التمثيل الغذائى Metabolism المسمى الآن “الأيض”، لكننى لست موافقا تماما على سلامة التشبيه!!
[5] -هذا، وقد كنت أترجم كلمة Scarring بالانجليزية إلى “الاندمال” ثم اكتشفت الآن أن الترجمة الأصح هى التَّندُّبْ (من ندب “ندوبا”) وهو التليف، وهو يعنى هنا فقد المرونة والمطاوعة، ومن ثم التوقف عن النمو وهمود النبض (الايقاعحيوى) أو انحرافه، أما الاندمال فهو يعنى الالتئام وهو عكس ما كنت استعمله فيه
[6] – نظرية التعالق Theory of Relevcence (الملائمة) لدان سبريبر وديردر ويلسن، وقد اسـَّسـَـا نظريتهما، اعتمادا على مناقشة كثير من آراء من سبقوهما من فلاسفة اللغة وعلماء التداولية، فى كثير من القضايا التواصلية، وعلى رأس هؤلاء الفلاسفة بول غرايس، الذى مهد بنظرية الاستلزام الحوارى الطريق لميلاد نظرية تداولية معرفية هى نظرية المناسبة )الملاءمة( ، التى تمثل التجسيد الفعلى للمنظور المعرفى فى دراسة عملية التواصل.
ويمكن الرجوع إلى موقع المؤلف للاطلاع على بعض ما قَدّم فى ندوة من ندوات مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية بتاريخ (15/6/2020) عن نظرية التعالق RelevanceTheory بعنوان: “المخ كمفاعل للطاقة والمعلومات” وفيها بعض التفاصيل www.rakhawy.net
-Dan Sperber and Deirdre Wilson “Relevance Communication and Cognition “Second Edition First published 1986
[7] – وقد حاولتُ أن أنبه على هذا النوع من التعلم (فى مقابل التعلم الشرطي) وخاصة من حيث ارتباطه بدلالة المعلومة تطوريا وطور الايقاعحيوى أنظر كتابى: “دليل الطالب الذكى (1) فى علم النفس والطب النفسى”، الفصل الرابع، التعلم، ص 115، كما أشرت الى دوره فى السيكوباثولوجى. كتابى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”، (1979) صفحات (30، 31، 78، 85، 684).