الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطفات كتاب “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الباب الأول: “النظرية ومعالم الفروض الأساسية” (11)

مقتطفات كتاب “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الباب الأول: “النظرية ومعالم الفروض الأساسية” (11)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 1-1-2022

السنة الخامسة عشر

العدد:   5236

مقتطفات كتاب  

“الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” (1)

الباب الأول: “النظرية ومعالم الفروض الأساسية” (11)  

مقدمة:

نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب، لعله الأهم، أن تُقْرأ نشرة اليوم التى سنقدم فيها ما تيسر من الفصل الثالث، وأوصى بالبدء بقراءة نشرة الأسبوع الماضى.

      يحيى

 الفصل الثالث

 الخطوط العريضة للأفكار الأولى (4)

 1

 …………………

…………………

المزيد عن الإيقاع الحيوى، والنظرية:

دخلت على جوجل من قبل واستشرته فيما استُحْدث فيما هو الإيقاعحيوى، فإذا بى أمام بحور من المعرفة يستحيل أن ألمّ بها فى سنوات، وأغلبها له علاقة بما وصلنى من الممارسة وسجلتـُه فى هذه المقدمة الباكرة، كما عثرت على كمٍّ هائل من الصور الموضـّـحة، وأمعنت في التأمل فى الصور والنظر فى بعض ما كتب تحتها أو فيها.

ثم إننى كنت قد جمعت من القرآن الكريم الأيات (وأجزاء الآيات) التى تشير إلى الإيقاعحيوى ووصلنى كيف أنها تحرك الوعى البشرى فى هارمونية مع الطبيعة إلى الوعى الكونى إلى وجه الله، لكننى فضلت أن أؤجل تناول كل هذا حتى لا يدرج تحت ما يسمى التفسير الدينى للعلوم، كذلك حتى أتعرف – ما استطعت – أولا على “فطرة الله التى فطر الناس عليها” بعلاقتها بمستويات الوعى المتصاعدة.

 كان ذلك منذ أكثر من عشرين عاما على ما أذكر، ولم أرجع إليه أبدا ، ولم أستشهد بأى من هذه الآيات قبلاً: حيث أننى حذر تماما من هذا المنهج ، لأننى أحاول أن أتجنب تماما أن يؤخذ مثل ذلك على أنه نوع مما يسمى التفسير العلمى للقرآن، الأمر الذى أرفضه من حيث المبدأ، بل إننى سبق أن تعلمت من ممارساتى فى النقد الأدبى أن أحذر من وصاية علم النفس على الأدب أو النقد الأدبى، حتى رفضت ما يسمى “التفسير النفسى للأدب”، وأحللت محله ما أسميته “التفسير الأدبى للنفس”، بمعنى أن نتعلم أساسا: ماهية النفس من الأدب، وبدأت فى جمع بعض أعمالى النقدية وظهر بعض ذلك فى كتاب أول بعنوان “تبادل الأقنعة”، (2) وقد خطر لى الآن مثل ذلك بالنسبة للقرآن الكريم ، حيث العلم خاصة العلم الميكنى السلطوى المقارن، هو أبسط وأسطح من أن نلجأ إليه لتفسير القرآن.

الأفكار‏ ‏الأساسية‏ والأبعاد العامة:

‏ “‏إن‏ ‏الظاهرة‏ ‏البشرية‏ ‏جزء‏ ‏من‏ ‏الكون‏ ‏الأعظم‏، ‏تشترك‏ ‏فى ‏قوانينه‏ ‏العامة‏، ‏وتختلف‏ ‏فى ‏تمييزها‏ ‏المحدد‏ ‏بمعالمها‏ ‏الخاصة‏، ‏ومن‏ ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏يشمل‏ ‏ظاهرات‏ ‏الحياة‏ ‏جميعا‏ ‏هو‏ ‏الإيقاعحيوى ‏على ‏كل‏ ‏المستويات‏، ‏وفى ‏مختلف‏ ‏الوحدات‏ ‏الزمنية‏.‏

انطلاقا‏ ‏من‏ ‏ملاحظة‏ ‏دورية‏ ‏نوبات‏ ‏المرض‏ ‏النفسى (‏العقلي‏) ‏من‏ ‏ناحية‏ (3)، ‏ومراحل‏ ‏النمو‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى (‏بما‏ ‏يشمل‏ ‏النمو‏ ‏العلاجي‏) ‏رأيت أنه ينبغى ‏أن‏ ‏يعاد‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏التنظيم‏ ‏الحيوى ‏للمخ‏ ‏البشرى ‏من‏ ‏حيث‏ ‏علاقة‏ ‏ذلك‏ ‏بالايقاع‏ ‏الحيوى ‏المنتظم‏، ‏ومضاعفات‏ ‏تعثر‏ ‏مساره‏، ‏وأخيرا‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏إمكانية‏ ‏الوقاية‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏التعثر‏، ‏ومحاولات‏ ‏تعديل‏ ‏المسار‏ ‏بمواكبة‏ ‏إيقاعية‏ ‏أقدر‏ (وهو ما يسمى العلاج من منطلق هذا الطب الإيقاعى الذى نقدمه).

تتم‏ ‏عمليات‏ ‏التوازن‏ ‏الحيوى (Homeostasis) فى ‏إيقاع‏ ‏منتظم‏ ‏لا‏ ‏ينقطع‏، ‏مع‏ ‏اختلاف‏ ‏وحدة‏ ‏الزمن‏ (4) ‏فى ‏كل‏ ‏عملية‏ ‏توازنية‏. الايقاعحيوى، غير التوازن الحيوى، (5) و‏هو ‏ظاهرة‏ ‏دينامية‏ ‏جدلية‏ (‏ديالكتيكية‏) ‏سرمدية‏، ‏وقد‏ ‏يمكن‏ ‏إرجاع‏ ‏تواترها‏ ‏وسرمديتها‏ ‏الى ‏تاريخ‏ ‏الحياة‏ ‏التطورى ‏الطويل‏ ‏حيث‏ ‏كان‏ – ‏وما‏‏زال‏ – ‏لزاما‏ ‏على ‏الكائن‏ ‏الحى ‏أن‏ ‏يتكيف‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏بيئة‏ ‏إيقاعية‏ ‏دورية‏ ‏محيطة‏، ‏وبالنسبة‏ ‏للمخ‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏، ‏فإنه‏ ‏توجد‏ ‏أدلة‏ ‏فسيولوجية‏ متزايدة: فى تلاحق مضطرد مؤخراً، ‏على ‏أن‏ ‏الايقاع‏ ‏الحيوى ‏هو‏ ‏محور‏ ‏نشاطه‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏يمتد‏ ‏ذلك‏ ‏من أول‏ ‏الإطلاق‏ ‏الدورى   المنتظم (6)‏ ‏للجهد‏ ‏الفاعل (7) لمحور‏ الخلية‏ ‏العصبية‏ ‏المفردة‏ – ‏الى ‏محصلة‏ ‏النشاط‏ ‏الكهربى ‏للمخ‏ ‏ككل‏، ‏وهو‏ ‏الذى قد ‏يسجل‏ ‏فيما‏ ‏يسمى ‏رسام‏ ‏المخ‏ ‏الكهربائي‏. E.E.G.‏

إن الانتباه‏ ‏إلى ‏الإيقاع‏ ‏الحيوى ‏ليس‏ ‏جديدا (8) ‏الا‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الانتباه‏ ‏قد‏ ‏أخذ‏ ‏مسارا‏ ‏محدودا‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏أهم‏ ‏مجالات‏ ‏عطائه‏ للفهم‏ ‏الأعمق‏ ‏لطبيعة‏ ‏الإنسان‏ ‏ومسيرة‏ ‏نموه‏ ‏تناغما ‏‏مع‏ ‏دورات‏ ‏الكون‏ ‏خارجه‏ -‏لا‏ ‏داخله فحسب‏- ‏مما‏ ‏انتهى ‏به‏ – خاصة عند العامة الذين لم يستطيعوا أن ينكروه أو يتنكروا له، ‏فانتهى بهم حدسهم إلى بعض المعتقدات النابعة من ثقافتهم التى تربط بين السماء والنجوم والقمر والمجهول مثل المعتقدات المرتبطة‏ بالتنجيم‏ ‏والعلاقة‏ ‏بين‏ ‏الأبراج‏ ‏وقراءة‏ ‏الطالع‏ الخ، ‏ولعل‏ ‏انحراف‏ ‏المسار‏ ‏الى ‏هذا‏ ‏الاتجاه‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏أجـــَّـل‏ ‏الاهتمام‏ ‏الضرورى ‏بدراسة‏ ‏الإيقاعية‏ ‏البيولوجية‏ الموضوعية ‏لنشاط‏ ‏المخ‏ ‏البشرى فى علاقته بسائر دوائر الوعى الممتدة، ‏ولكن‏ يبدو أن ‏الاهتمام‏ ‏عادَ ‏يأخذ‏ ‏مجراه‏ ‏الطبيعى ‏ ‏السليم‏ ‏مؤخرا‏.

يبدو أن ما وصلنى أثناء ممارستى مهنتى، وخاصة فى العلاج الجمعى عبر وعى المشاركين وهو يلامس وعيى: فيحرك كل الأحياء داخلى دون أن أدرى، (ودون استئذان منى طبعا)، يبدو أن هذا هو الذى تراكم حتى نضجت النظرية لتستأهل اسم الطبنفسى الإيقاعحيوى.

وفيما يلى أمثلة محدودة من واقع ما يتردد – دون ألفاظ غالبا- بيننا مع مرضانا أثناء الممارسة في هذه المواكبة العلاجية في العلاج الجمعى Group Therapy أو علاج الوسط Milieu Therapy:

1- “اجتمعا عليه وافترقا عليه”: كنا وما زلنا – فى العلاج الجمعى مثلا– طول الوقت، أطباء ومرضى – دون إعلان:  نجتمع عليه، مرة كل أسبوع لمدّة ساعة ونصف لفترة عام كامل، ثم تتجدد الجماعة العلاجية كل عام، حدث ذلك حتى الآن لأكثر من نصف قرن، وحين ينتهى عام العلاج المتفق عليه: “نفترق أيضا عليه” كما تعودنا أسبوعا بعد أسبوع، يحدث ذلك دون أن نعلنه ألفاظا خشية ترجمته إلى حروف ورموز سلفية أبعد ما تكون عن واقع حوارات وتفاعلات الوعى البينشخصى والجماعاتى فالجمعى…الخ.

2- “الله هو الشافى”، هذا ما يردده كل أو معظم المرضى عندنا، وبدرجات متفاوته من استعماله الأعمق، وهذا القول وما يليه، لم يكن يـُـقبل في ممارساتنا هذه باعتباره فتحاً لباب التواكل السلبى، بل بالعكس، كنا نحرص على ممارسته مرضى ومعالجين لدعم ما يتيحه لنا ربنا: “هنا والآن” (9) من تواصل صامت ومعلن من فرص داعمة إيجابية معظم الوقت.

3- وَإِذَا مَرِضْتُ “فَهُوَ يَشْفِينِ“، كثير من الزملاء الأطباء يزين أوراق العلاج (الروشتات) بهذه الجملة، ولست أدرى مدى حضورهم فيما يـُـكتب تحتها من عقاقير أو تعليمات تأهيل، لكن ما هو مؤكد عندى هو أنها – فى ذاتها بغض النظر عن سطحية استعمالها –  تمثل حقيقة جوهرية فاعلة فى وعى أغلب مرضانا أكثر من الأطباء أصحاب “الروشته” السالفة الذكر، وذلك بطرق متنوعة حسب آلية تنشيطها، وفنية تنظيمها للمشاركة فى ضبط لحن دوائر  الوعى المتمادية فى الاتساع والشمول.   

4- معنى صلاة الجماعة حين تكون صلاة جماعة فعلا، فتؤدّى دورها دون قصد أو تعصب فى تنمية الوعى الجماعى، مع تذكـَّر أن حوالى مليار شخص من كل بقاع العالم يوجهون وجوههم نحو بقعة واحدة على الكرة الأرضية فى نفس الوقت، دون نفى لمن يتوجه إلى قبلته الأخرى مع نفس فئته حسب دينه وموقعه.

…………..

………….

ونكمل غدًا

 

[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث أبواب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2021) (تحت الطبع)

[2] –  يحيى الرخاوى: “تبادل الأقنعة .. سيكولوجية النقد” الهيئة العامة لقصور الثقافة (2006).

[3] – خاصة قبل‏ ‏التدخل‏ ‏الطبى ‏الكيميائى ‏الحديث

[4] – ‏حيث‏ ‏تتراوح‏ ‏من‏ ‏الميكروثانية‏ (‏فى ‏تفاعلات‏ ‏الكيمياء‏ ‏الحيوية‏ ‏مثلا‏) ‏الى ‏الميلليثانية‏ (‏فى ‏نشاط‏ ‏الاطلاق‏ Firing ‏النيورونى ‏المنتظم‏) ‏الى ‏الثانية‏ ‏الكاملة‏ (‏فى ‏دورة‏ ‏القلب‏ cardiac cyde ‏الى ‏تسعين‏ ‏دقيقة‏ ‏فى ‏نشاط‏ ‏النوم‏ ‏النقيضى … ‏الخ‏.‏

[5] – كنت قد استعملت كلمة Homeostasis مقابل ما أسميته التوازن الحيوى، وبمراجعة ذلك الآن وجدت أن المقصود أساسا بهذا اللفظ بالإنجليزية هو: الحفاظ على حالة من الثبات لكل المستويات الحيوية الفسيولوجية ومحكاتها تحت مختلف الظروف، مثل درجة حرارة الجسم، وضغط الدم، ومستويات الالكترونيات فى سوائل الجسم…الخ، ومع أن هذا لا ينفى أن حالة الثبات هذه قد تكون نتيجة لتوازن إيقاعى مستمر، إلا أننى فضلت التنبيه الآن إلى أن هذا ليس ما أعنيه تماما،  نظرا لأن من أهم معالم ما أقدمه هو الدفاع عن حتمية الحركة (نبضا وجدلا وإبداعا) مما يتعارض ولو ظاهرا مع المفهوم الشائع عن الثبات فيما يسمى Homeostasis.

[6] – Periodical Firing                                                                                         

[7] – Action Potential                                                                                                                                              

[8] – ومن‏ ‏الطريف‏ ‏أن‏ ‏فلايس‏ Flies (‏صديق‏ ‏فرويد‏) ‏كان‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏الأوائل‏ ‏الذين‏ ‏أشاروا‏ ‏الى ‏أهمية‏ ‏الايقاع‏ ‏الحيوى ‏الذى ‏يتحدد‏ ‏تلقائيا‏ ‏منذ‏ ‏الولادة‏، ‏ويظهر‏ ‏فى ‏دورات‏ ‏كل‏ 28 ‏يوما‏ ‏عند‏ ‏المرأة‏ (‏ممثلة‏ ‏أساسا‏ ‏فى ‏دورة‏ ‏الطمث‏)، ‏وكل‏ 28 ‏يوما‏ أيضا ‏عند‏ ‏الرجل بشكل آخر‏، ‏وقد‏ ‏وافق‏ ‏فرويد‏ ‏صديقه‏ ‏فى ‏البداية‏، ‏ثم‏ ‏عاد‏ ‏فأنكر‏ ‏ذلك‏ ‏كلية‏ (‏سنة‏ 1900) ‏ربما‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏تباعد‏ ‏عن‏ ‏الاهتمام‏ ‏بفسيولوجية‏ ‏وباثولوجيا‏ ‏المخ‏ ‏.‏

[9] – توقفت أثناء المراجعة الأخيرة عن هذا التعبير:

   “ما يتيحه لنا .. ربنا .. بنا “هنا والآن”

وخيل إلىّ أنه مفتاح لما يجرى نابع من نبض ثقافتنا كشفته هذه التجربة هكذا.

 

النشرة السابقة 1النشرة التالية 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *