الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطفات كتاب “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الباب الأول: “النظرية ومعالم الفروض الأساسية” (19)

مقتطفات كتاب “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الباب الأول: “النظرية ومعالم الفروض الأساسية” (19)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 29-1-2022

السنة الخامسة عشر

العدد:  5264

مقتطفات كتاب  

“الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” (1)

الباب الأول: “النظرية ومعالم الفروض الأساسية” (19)  

مقدمة:

نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب، لعله الأهم، أن تُقْرأ نشرة اليوم التى سنقدم فيها ما تيسر من الفصل السابع، كما أوصى بالبدء بقراءة نشرة الأسبوع الماضى.

      يحيى

الفصل السابع

جدل مستويات الوعى “التناص” (2)

…………….

…………….

جدل مستويات الوعى:

بدأ النشاط الثقافى فى جمعية الطب النفسى التطورى بإلتزام شهرى بتقديم عمل ثقافى فى ندوة الجمعة الأول من كل شهر اعتبارا من شهر يناير 1974 ، وكان لزاما – تقريبا– أن تكون حوالى نصف الأعمال المقدمة هى “نقد لنص أدبى فى القصّ والرواية بالذات”، وأحيانا فى الشعر ، وظل هذا التقليد ساريا حتى عهد قريب، ثم توقف كما توقفت نشاطات أخرى ما كان لها أن تتوقف!!.

كما أننى أعلنت مرارا وتكرار، وأصدرت كتبا وكتبت مقالات عن “التفسير الأدبى للنفس”، ردا على مقولة “التفسير النفسى للأدب” (2)، وأبَنْتُ كيف أننى عرفت سيكولوجية الطفولة من نيتوتشكا نزفانوفنا لديستويفسكى (3)، ومن الفارس الصغير (4)، ومن كاتيا فى مذلون مهانون (5)، وتأكدت من موضوعية وجوهرية ظاهرة الإيقاعحيوى من ملحمة حرافيش نجيب محفوظ (6)، وتعرفت على تعدد الذوات من معظم ما قدمت من أعمال نقدية لا أجد داعٍ لإعادة تعدادها، كما تعرفت على طبيعة الأحلام من نجيب محفوظ (7) وفتحى غانم (8)، وعن العلاقة بالموضوع منهم جميعا بالإضافة إلى إدوار الخراط (9) وحسنى حسن (10)وغيرهم، هذا بالإضافة إلى أطروحاتى النظرية عن “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” (11)، وجدلية الجنون والإبداع” (12)وغيرها

وحين وصلت إلى إدراك كثير مما أمارس فى علاج مرضاى، وبدأت أستوعب كيف أن النص البشرى هو أعظم إبداع فى الكون كما أبدعه بديع السماوات والأرض وبديع كل شىء، وكيف أن المرض النفسى هو تشويه وانحراف بهذا الإبداع الفائق العظمة المحكم التكوين فى أحسن تقويم، انتبهت إلى وجه الشبه وفرحت بهذا الكشف، وهكذا بزغ مصطلح “نقد النص البشرى“، غير أننى بدأت أجد صعوبة فى توصيف وتوصيل ما أمارس لزملائى الأطباء النفسيين الأصغر بعد أن كنت أعانى من الصعوبة مع الأكبر فقط، ثم لاحظت فتور الأجيال الأحدث فالأحدث عن متابعة نشاطات الإبداع والنقد، أو أى نشاط معرفى خارج تخصصهم الدراسى  “فالإمتحاناتى”!، وبالتالى عزفوا عن المشاركة الجادة فى الندوات حتى اقتصروا على ما يسمى الندوة العلمية، وبالتالى لم تعد متابعة النقد الأدبى جزءا أساسيا من برنامج التدريب الذى كان يسهل مهمتنا العلاجية حتى قبل صك هذا المصطلح الجديد، “نقد النص البشرى”، فكان لزاما علىّ أن أعود كلما لزم الأمر إلى بعض التعريف بما هو ببعض مواصفات “نص”، وبما هو “نقد” وبدأت أولا بما هو: نص أدبى، ثم قياسا نص بشرى (مع أنه هو الاصل)، وهذا ما سوف أبدأ به اليوم مع بعض المقارنات، وإن كنت أعترف ابتداءً أننى وجدت صعوبة بالغة فى المقارنة،  بالنسبة للقارئ المنغلق فى تخصصه الراضى به، ومع ذلك فليس أمامى خيار .  

كل نص هو تناص:

هذه عبارة بالغة الدلالة، حين أقرأها أو اكتبها اسمع لها صدى يتردد فى كلىِّ، وبغيرها قد لا أستوعب المدى الذى سمح لى بهذه المقارنة وهذا القياس، المقصود الذى أعممه فى هذه العبارة: إنه لا أحد  يبدأ من الصفر مهما كان مبدعا، بمعنى أنه يستحيل أن يخرج إبداعٌ من فراغ منفصل عن ما سبقه، لا ينطبق ذلك بالنسبة للنص الأحدث وعلاقته بالنص الأقدم فحسب، بل يمتد إلى  أى مجال وأى خبرة ومع أى تفاعل مع أى وعى، بقصد أو بغير قصد، ربما بطبيعة مجريات ما يجرى.

هذه الفكرة أساسية وهى من ناحية: تربط تاريخ الثقافة، بل والحضارة، بل وتطور الأحياء بعضها ببعضها، ومن ناحية أخرى: تجعل الإبداع كله إعادة صياغة مهما بلغت درجة أصالته، وهذه مزية مضافة لأن إعادة الصياغة: دون محاكاة، ودون قصد هو الإبداع الجديد،  ويكون الناتج جديداً أصيلا، إذْ هو لا يعيد: فهو إبداع، إن كل النصوص هى تناص هذه العبارة، إن كل النصوص هي تناص، هى عبارة صادمة وصعبة، ليكن! وإن بَعــُدَ الأصل أو اختفى.

من ناحية أخرى فإن قبول هذه الفكرة هو جدير بأن يسهم فى إعادة قبول فكرة توحيد أصل البشرية، وليس فقط أصل الإبداع، إلى وحدة أصلية دائمة التجدد والتطور، بما يحمل احتمال استعادة التوجه الضام بين البشر على اختلاف مشاربهم وألوانهم وأفكارهم ولغاتهم، هكذا تصبح القاعدة أن الأقرب إلى أصالة الإبداع والإسهام فى مسيرة التآلف البشرى، والتكافل الإنسانى، هو الأكثر استلهاما – دون وعى ظاهر- من أصالة وعطاء النصوص السابقة.

Screenshot (154)

هذا علما بأن التناص الناتج فى الإبداع عموما هو غير قاصر على التناص الكتابى شعرا أو نصا أو رواية وإنما هو يمتد إلى كل إبداع من الفن التشكيلى (أنظر الشكل) إلى الشعر إلى المسرح…إلى غير ذلك.

وبما أن شبكية الوعى البشرى هى بهذا التداخل وهذا التماسك من حيث جذورها وأصلها فى الإبداع فإننا يمكن أن نستلهم أن يكون الإبداع الواعد بإكمال المسيرة إيجابيا هو الإبداع  الذى يبدأ من هذه الحقيقة فيواصل رحلة التخليق فى كل مجال إلى التوجه الضام المشترك : أمل البشرية، وأصل وظيفة الإبداع إلى الإيمان الممتد، وهذا هو ما نأمل تنميته فيمن يمارس فن الطبابة والعلاج بماهو “نقد النص البشرى”.

كل “نص بشرى” هو تناص:

المقصود بالنص البشرى: أى مخلوق خلقه الله، والتناص بين البشر فى مسارهم التطورى هو قائم طول الوقت: هو برنامج تطورى أقدم من البشر (13) ولا يوجد من ينقده أو يطوره إلا خالقه، أما فى حالة خلله أو انحرافه أو تشرذمه وهو ما يسمى “مرضا” فإن التناص الموجـِّه الموجَّهة: المسئول يمكن أن يسهم فى استعادة تركيبه وإصلاح ما فسد من الطبيعة البشرية، وهذا هو ما أسميناه “نقد النص البشرى”، وهو محاولة تزكية (تنمية) وجود الذات البشرية إلى أصلها لتحتوى جدلا: فجورها وتقواها: ليتخلق السعى الإبداعى  التصحيحى في العلاج طول الوقت.

 إن الإبداع غير قاصر على الناتج الإبداعى المسجل خارجنا وإنما على تجديد الحياة وإعادة تخليق الذات بنسب بالغة الضآلة لكنها مستمرة مع استمرار الحياة (الإيقاعحيوى السليم).

النص البشرى – كما ذكرنا – هو من إبداع  بديع السماوات والأرض وبديع كل شئ، وبالتالى فنقد النص البشرى ليس له علاقة مباشرة بإعادة محاكاة ما أبدع بديع السماوات والأرض، إلا فى فرص مواصلة الحفاظ على حيوية وحركية وتوجهات “ما خلق به” “إلى: ما خلق له: إليه”، إذن كل ما على الإنسان هو أن يحافظ على جوهر النص الأصلى وغايته إلى بديعه فى ظروف متغيرة وأزمان مختلفة، وذلك من خلال استعياب فرص دوام عطاء الإيقاعحيوى لتجديد النص بما خُلِقَ بِهْ لمِاَ خُلِق لَه، ومن منطلق أن الشخص العادى هو أساسا مبدع طالما ينام ويصحو، ويدهش ويتغير (14)، فإن دورات الاستعادة يمكن اعتبارها ممتدة ليلا ونهارا، نوعاً فأفرادًا: بامتداد الإيقاعحيوى طول الوقت، فهى دائمة ومتجددة من حيث المبدأ.

إن ما يسمح بقبول هذه الأفكار هو مواصلة امتداد الوعى الفردى إلى الوعى الجمعى إلى الوعى الجماعى إلى الوعى الطبيعى إلى الوعى المطلق إلى الوعى المفتوح النهاية، هذا من منطلق أن كل نص بشرى هو تناص حيوى يتجدد بما يُعمّق ما به من منظومات حيوية إيجابية سواء اتخذت أشكال بعث الحضارات (على مستوى الشعوب) أم تجديد الإيمان على مستوى الأفراد (الحمد لله الذى أحيانى بعد ما أماتنى وإليه النشور)

وما دام الأصل هو بكل هذه الواحدية، وما دام الإبداع هو بهذا الاضطراد الإيقاعحيوى الدائم فإن الخروج عن السواء يتم من خلال فقد الواحدية إلى التشرذم، أو تحويل النبض إلى دوائر جامدة مغلقة أولها هو آخرها طول الوقت، أو هذا وذاك معا أو بالتناوب.

وعلى ذلك فإن البدء من منطلق أن “كل نص بشرى هو تناص”، هو ما يبرر التركيز على ما هو: .. “هنا والآن”، مما يعطى البشر فرصة أكبر، ومسئولية أخطر فى مداومة إبداع الذات وتعهدها من خلال العلاقات البشرية السوية الجدلية والتصحيحية (الطبيعية والعلاجية)، وكذا مواصلة السعى إلى الدوائر الأوسع فالأوسع من الوعى الصريح والغامض، ودفع دائم إلى المصير الأرقى المحتمل.

فماذا فى حالة المرض:

فى العلاج يتم التناص بين نص مازال محتفظا بأغلب معالم ما خُلق به وما خُلق له  (المفروض: المعالج) وبين نص تعطل أو انحرف أو تشرذم أو تشوه (المريض)، وتقع المسئولية الأكبر طبعا على هذا النص المتماسك النامى (المعالج)، وخاصة أنه لا يستطيع أن يغيّر بحق إلا إذا تغير هو بحق إلى ما يمكن:  كما خلقه الله: إلى ما خلقه الله.

 التناص فى النص البشرى العلاجى  يبدأ  بتحريك الحركية الجدلية الإبداعية بين نصين خالقهما واحد، كلاهما حاضر فى “هنا والآن”، لكن كل نص منهما قد آل إلى ما آل إليه بتحويرات وتغيرات متعددة يمكن أن تتفاعل لتكتمل: بقدر حرص وقدرة كل منهما أن يجتمعا عليه وأن  يفترقا عليه، إذن فهو تناص يتطلب إسهاما من النصين البشريين المتفاعلين المتجادلين حاليا فى “الآن” فى ظروف ملائمة، ولا يقتصر هذا التناص الآنى على نصين فحسب، بل كلما اتسعت دائرة التناص الآنى –مثلما فى العلاج الجمعى أو علاج الوسط – زاد احتمال العودة إلى الأصل فاضطراد النمو،

…………….

…………….

(ونكمل غدًا): حركية “التناصّ” العلاجى: فن الإبداع النقدى

 

[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث أبواب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2021) (تحت الطبع)

[2] –  يحيى الرخاوى: “تبادل الأقنعة: سيكولوجية النقد” الهيئة العامة لقصور الثقافة، (2006)  .

[3] –  فيودور دوستويفسكي ، نيتوتشكا نزفانوفا (1849)

[4] –   يحيى الرخاوى “قراءة فى ديستويفسكى من‏ ‏عالم‏ ‏الطفولة‏ ‏ نيتوتشكا‏ ‏نزفانوفا‏، ‏وهامش‏ ‏من‏ ‏البطل‏ ‏الصغير” (مجلة الإنسان والتطور، عدد أكتوبر 1982)

[5] –  فيودور دوستويفسكي ، مذلون مهانون، المركز الثقافي العربي،(1861)

[6] –  نجيب محفوظ، ملحمة الحرافيش، مكتبة مصر،  1977

[7] – يحيى الرخاوى: “عن طبيعة الحلم والإبداع” دراسة نقدية: أحلام فترة النقاهة نجيب محفوظ” دار الشروق 2011

[8] – يحيى الرخاوى: “الموت.. ‏الحلم.. ‏الرؤيا ‏(‏القبر‏/ ‏الرحم‏)‏ “أفيال” فتحى غانم” يوليو 1983 مجلة الإنسان والتطور

[9] – يحيى الرخاوى، “استحالة‏ ‏الممكن‏، ‏وإمكانية‏ ‏المستحيل، الحنين‏ ‏إلى ‏الرحم‏: ‏وجدل‏ ‏الآخر‏ (‏الموضوع‏)!!‏ فى: يقين‏ ‏العطش‏: ‏إدوار‏ ‏الخراط، دار شرقيات للنشر والتوزيع  1996 (دراسة لم تنشر ورقيا وتوجد بالموقع)

[10] – يحيى الرخاوى  دراسة نقدية لـ رواية ” “اسم آخر للظل” لـ حسنى حسن (دراسة لم تنشر ورقيا وموجودة بالموقع)

[11] – يحيى الرخاوى: “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” مجلة فصول- المجلد الخامس – العدد (2) سنة 1985 ص (67 – 91(

[12] – يحيى الرخاوى “جدلية الجنون والإبداع” مجلة فصول، العدد الرابع، 1986

[13] – Silvano Arieti: Tertiary processes (1976), Creativity: The Magic Synthesis. Basic Books، New York .    

[14] – يحيى الرخاوى: “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” مجلة فصول- مجلد (5) – عدد (2) سنة 1985 (ص67-91(

النشرة السابقة 1النشرة التالية 1

2 تعليقان

  1. يا عمنا انا قلت اني مش عايز اجابة .
    طبعا ربنا ارحم من كل حد وكل حاجة .
    بس القرآن مليان كله ” خالدين فيها ابدا “”
    و “”كلما نضجت جلودهم بدلناهم بجلود غيرها ليذوقوا العذاب “”
    هو الرحمن الرحيم وهو العدل المطلق .
    فنرجع للتكليف . والامانة .
    فهل هو عقاب التخلي عن الامانة والتكليف. امانة الاستخلاف ، والكفر بعد ان اشهده علي نفسه انه ربه.
    ونقول دائما سمعنا واطعنا وشهدنا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *