نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 15-1-2022
السنة الخامسة عشر
العدد: 5250
مقتطفات كتاب
“الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” (1)
الباب الأول: “النظرية ومعالم الفروض الأساسية” (15)
مقدمة:
نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب، لعله الأهم، أن تُقْرأ نشرة اليوم التى سنقدم فيها الفصل الخامس، وأوصى بالبدء بقراءة نشرة الأسبوع الماضى.
يحيى
الفصل الخامس
فى نقد النظرية
(محاولة ليست موضوعية تماما)
مقدمة: (2)
لا أظن أن ما يسمى ”بالنقد الذاتي” هو نشاط موضوعى بالدرجة الكافية، وعلى هذا فانى سوف أحاول أن أتجنب خداع نفسى – والقارئ – فلا أزعم أنى أقدم نقدا ذاتيا، وانما سأحاول أن أسمع الرأى الآخر - القائم فى داخلى غالبا – وهو ما أكاد أسمعه فى نفس الوقت من قارئى وزملائى وطلبتى – لأحاوره بما أستطيع، ولنستعير لعبة “نعم … ولكن..” من “إريك بيرن” نمارس بها هذه التجربة:
1 – ان هذه النظرية – الفرض – بها درجة عالية من فرط التضمين (3):
“نعم”،
* “ولكن“: طبيعة المخ البشرى، والوجود البشرى شديدة التعقيد لدرجة تحذر من أى اختزال أو تبسيط، وعلينا أن نغامر بدرجة من التضمين الذى هوأحد أطوار تجليات الإبداع: حتى يمكن أن نستوعب تنافر المعلومات الجزئية الواردة إلينا من مصادر متناقضة ظاهريا.
2 – ان هذه الفروض ذات طبيعة تأملية أكثر مما ينبغى،
“نعم”،
* “ولكن“: إن هذا التأمل لم يأتِ من النظر الاستبطانى أو الخيال الفردى أساسا،“ولكن”من خلال ممارسة المهنة، ثم راح يتعدّل دوما بهذه الممارسة نفسها، والممارسة هنا وفى هذه المهنة بالذات وفى حدود هذه المهمة- تتعدى الملاحظة والاستبطان الى المعايشة فالدراية فالبصيرة فالتتنظير فالنقد المتجددِ المستمر.
3 – تبدو هذه النظرية بيولوجية أكثر مما ينبغى: بما يخشى معه أن يتضاءل تقييم دور المجتمع والبيئة والتعليم .
“نعم”،
* “ولكن”: هذا هو ما يبدو من النظرة العاجلة، إلا أن المـُـراجع الأمين لابد وأن يدرك أن كل هذا النبض البيولوجى المستمر هكذا، كذلك التنظيم الهيراركى، والفكر الإيقاعى، كل ذلك – بالنسبة للكائن البشرى – مرتبط بالبيئة والمحيط، امتدادا فى التاريخ، بما يشمل الذاكرة الجينية والتعلم المنطبع الموروث، وبالتالى فالأمل فى تحوير الانسان بيولوجيا من خلال تهيئة بيئة أصلح وتعلم أنسب هو نابع أصلا من هذا اليقين بأثر البيئة فى السلوك، ذلك الأثر القادر على الامتداد فى الأجيال اللاحقة وعلى تغيير التركيب البيولوجى نفسه، وهذا ما أوصينا به سابقا أن نتعلمه من الأحياء قبلنا، كما أن هذه الأحياء التى نجحت أن تقاوم الانقراض قد استطاعت أن “تبدع” و”تتعلم” و”تبقى“ و”تستمر” دون برامج تعليمية مـُـقحمة أو فيسبوك أو تواصل اجتماعى أو مدارس خاصة أو وزارة ثقافة، أو إغارة إعلام أو فرط معلومات، أو كليات طب، أو مستشفيات نفسية، وربما يحفزنا ذلك إلى التعلم منها أكثر فأكثر، ونحن نتفهم ممارستها لما هو الوعى الجماعى وانتصارها على مخاطر البيئة مع الحفاظ على ما ينفعها منها بنجاح، وعلينا أن نضيف ما تيسر فى نفس الاتجاه، ونحن ننتبه إلى احتمال انحرافنا بعيدا عن كل هذا بما نتصور أنه إنجاز بشرى وهو ضد هذا التوجه، إن كل ما آمله بهذه الإفاقة هو أن نكف عن الإسهام بالإسراع نحو الانقراض، وذلك بأن نسهم فى مواكبة المسيرة الحيوية الطبيعية ودفعها إلى غايتها!!
4 – إن التأكيد على سرمدية الإيقاعحيوى، وتلقائية الإبداع المستمرة قد يوحى بالقبول بنوع من القدرية أو الاعتمادية السلبية، مادام كل شىء ينبض تلقائيا نحو الإبداع والتطور، فى الأحوال العادية بقوانين عامة.
“نعم”، يبدو ذلك،
* “ولكن”: إن الأحياء التى انقرضت، وهى أغلبية ساحقة (999 من كل ألف من كل الأحياء عبر التاريخ:) لابد وأن تنبهنا إلى ضرورة الأخذ بمزيد من التعلم من الأحياء التى بقيت، حتى نسهم فى توجيه نبض الإيقاعحيوى لدينا إلى مساره الإبداعى والإيجابى، مادامت هذه الحقائق تقفز فى وجوهنا هكذا فإن علينا أن نقبل التحدى ونضاعف الجهود لتجنب المصير الخطير (الذى عجزت الأغلبية عن تفاديه!!).
5 – هذه الفروض تبدو وكأنها تخدم هدفا ميتافيزيقيا يدفعها نحو غاية بذاتها:
“نعم ..”: لا أستطيع أن أنكر هذا أو أستبعد ذاك،
* “ولكن” وقفة مراجعة لهذه الكلمة “ميتافيزيقا”، قد تنبهنا الى احتمال إلغائها أصلاً، إذا ثبت أن ما كنا نطلق عليه هذه الكلمة: ما هو إلا “فيزيقا” “أخرى”، وليس ضروريا أن أرى نهاية المسار الآن تحديداً حتى أتمكن من تصور امتداد الخط الحالى إلى غاية لا أعرفها بقدر كافٍ، إن كل ما علىّ مادمتُ قد حددت الاتجاه السليم هو أن أواصل التقدم كدحا إليه، ثم إن مجرد رفض ما لا أعرف، أو ما لم أُثْـبـِتُ، تحت زعم أنه “ميتا Meta” أبعد من تقديراتى: هو ليس موقفا إبداعيا حياتيا مناسبا.
6 – ان هذه النظرية تلوّح بـ “رطان” جديد بالنسبة لتشخيصات المرض النفسى وفئاته:
“نعم ..”: وأنا أوافق من حيث المبدأ على هذا التحذير،
* “ولكن”: ألا يدل التعدد الحالى على أن أغلب التقسيمات والتسميات الموجودة لهذه الأمراض – ان لم يكن كلها – قد وقفت عاجزة عن الإحاطة بالظاهرة التى نسميها المرض النفسي، وبالتالى فقد نكون أحوج إلى تجاوز هذا الخلط والجمود الناتج عن الاكتفاء بالظاهر أو المبالغة فى التقريب، ثم علينا ألا ننسى أننا أحوج ما نكون إلى قراءة المرض والمريض، وليس مجرد الاتفاق على معنى سلوك معين نسميه عرضا، يسمح لنا أن نعلق لافتة لها اسم مرض معروف على مرضانا، فيتجمعون فى مجموعات ليست بالضرورة متجانسة لا نعرف ماذا تعنى، حيث أنه بالرغم من نجاح كل محاولات الاتفاق على دليل موحد لتسمية الأمراض، لم ينجح أى دليل منها إلا أن يحقق درجة عالية من “الثبات” والاتفاقية Reliability دون أى درجة مقبولة من المصداقية Validity!! ولعل المحاولات الجذرية الجديدة تمثل هذا المنطلق، وما يرتبط به من تخطيط النفسمراضية التركيبية التى تتعامل مع معنى المرض وغائيته ونحن نحاول أن نرصد ما جرى من تغير فى التركيب والعلاقات بين مستويات الوعى، والوجود فى كل مرض ومريض، لعل كل ذلك يسهم فى إتاحة الفرصة إلى مزيد من المصداقية المرتبطة أكثر بمهمة العلاج، المرتبط بخطوات الإصلاح وإعادة التنظيم.
7 – يبدو فى ثنايا هذه الفروض شىء أشبه بالحتمية البيولوجية: بالنسبة للاهتمام أكثر بالذاكرة الجينية، وتلقائية الايقاع الحيوى، ولزوم الاستعادة، بحيث يُخشى أن يتضائل بذلك مفهوم الانسان ككائن حر مختار مسئول يشارك بقدر كاف فى تحديد مساره ومصيره.
“ربما”،
* “ولكن”: علينا أن ننتبه أن التقليل من قيمة المحتوى الشعورى والرمزى لا يعنى تلقائيا فتح الأبواب دون تحفظ لافتراضات حدْسية لا تقبل الاختبار والنقد والتحوير، بل لعل معرفة الإنسان بطبيعته الدورية، وأصله الحيوى، وتحديده لتوقيت وطبيعة أطوار البسط التى تحتاج أكبر قدر من المرونة والسماح لإطلاق الإبداع، وكذا إلمامه بأطوار التمدد التى تحتاج دقة أكبر فى تحديد التناسب والجرعة بالنسبة للمعلومات الُمدخلة استعدادا لبسط أنجح، لعل كل ذلك يجعل الأمل متجددا دائما، ويـُلزم المعالج والمُربى، وكل من يهمه الأمر، بيقظة دائمة باعتبارهم من أهم المتغيرات التى تتحكم فى طبيعة النبض ونتاجه، ثم إنه إذا كان لا يُصلح العطار ما أفسد الدهر– كما كررنا مراراً- فإن الأرجح من خلال هذا المنظور الحركى الإبداعى أن نتوقع أن يُصلح الدهر الفنّ ما أفسد أحسن الدهر المغترب الرقمى، بمعنى أن ما نـَـقـُـص أو انحرف أو أجهض فى أزمة نمو سابقة (نبضة نمو) يمكن أن نتعلم منه ونلحقه ونحسـّنه فى الأزمة التالية، حتى لو انتظرناها سنوات حسب “إريك إريكسون”، ويمكن بذلك أن نعتبر تلك الفروض وهذه الجهود جزءًا من حركية الدهر الفن القادر على إصلاح ما أفسد الدهر فهى إفراز جهود إيجابيات الدهر أيضا، أما بالنسبة للدورات اليوماوية التى تتيح لنا إعادة الولادة كل ليلة، فالفرص بلا حصر لاستعادة فاعلية وإيجابية الإيقاحيوى إذا أحسنا التحضير لاستيعاب نبضاته، والاستماع إلى همسه، ليس بحكى الأحلام وتفسيرها ولكن باستيعاب أثرها إيجابيا باستمرار، ولهذا فإن وصف هذه النظرية بالتحيز لما يسمى “التفاؤل العلاجى” قد يكون فى محله.
8 – اذا صح أن كل الناس عندهم نفس الترتيب البيولوجى الهيراركى منذ الولادة: فكيف نفسر أن بعضهم دون غيرهم يرثون هذا المرض دون ذلك ..؟
* “نعم ..”: إن نفس الترتيب موجود عند كل الناس،
* “ولكن” الحاصل أن النسب تختلف بين الأفراد، بل وبين نوع أفراد نفس القطاع للجماعة الحيوية التى انحدر منها هذا الفرد (أو تلك العائلة)، كما أسلفنا، كذلك فإن أغلب المرض النفسى والعقلى ليس وراثيا بالمعنى المباشر، وطبيعة إطلاق هذه المستويات ونسب وطريقة تدعيم أو إعاقة كل منها فى مختلف مراحل النمو وهى تنبسط الواحد تلو الآخر، كل ذلك متغيرات بالغة الأهمية فى تحديد أثر الوراثة فى ظهور هذا المرض أو ذاك، بل إن أغلب الدراسات الأحدث تشير إلى منطقة مشتركة بين الجاهزية للمرض النفسى والقدرة الفائقة على الإبداع بما يسمح بأن نأمل فى إمكانية تحويل المسار الى نقيض المرض من إبداع خلاق، بل – مرة أخرى – إن احترام استمرار هذا الإيقاع الحيوى مع ما أشرنا إليه من أننا نـُـولـَـد كل ليلة من جديد (الحمد لله الذى أحيانى بعد ما أماتنى وإليه النشور) يفتح الآفاق لاحتمالات التصحيح وقاية وعلاجا، ليس فقط مع كل أزمة نمو، ولكن كل ليلة، وربما كل لحظة.
الخلاصة:
لست أطمع من طرح هذه المقدمة الموجزة لهذه الفروض العريضة أن تلقى قبولا، أو رفضا قد تستحقه، ولكنى آمل فى أن تؤخذ مأخذ الجد فى كل حال، بحيث يمكن أن تعِلنَ حاجتنا إلى اقتحام المآزق التى تضيق علينا كل يوم أكثر فأكثر، نقتحمها ربما بفروض مغايرة، وربما بتوليد فروض أقدر على التطبيق والتحقيق بمنهج متطور مناسب تـُخـْتــَـبَرُ فائدته على أرض الواقع، وليس فى صفحات المجلات والكتب وأنابيب اختبار المعامل فحسب.
ثم لعل هذه المقدمة تستطيع أن ترد إلينا حقنا فى شرف التفكير – مع احتمال الخطأ – ما دمنا قد رأينا ما يستأهل إعادة النظر، فحاولنا أن نهتدى الى ما يمكـّـننا من إعادة الصياغة، ولم نتردد فى تسجيل هذا أو ذاك سعيا الى المشاركة.
……..
(ونكمل غدًا)
تقديم الفصل السادس: “أسباب المرض النفسى: من منظور إيقاعحيوى تطورى”
[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث أبواب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2021) (تحت الطبع)
[2] – أصل هذا النقد كتبته بعد انتهائى من نشر المسودة الأولى للفرض الأصلى، ثم وصلنى خلال الثلث قرن الذى مضى على كتابته ما يردُّ عليه – أعنى علىّ – ولو نسبيا، وعلى ذلك فقد حاولت أن يشمل الرد بعض ما وصلنى من الإنجازات الأحدث فى العلم المعرفى عامة والعلم المعرفى العصبى والنيوروبيولوجى خاصة، وأيضا ما تيسر من العلوم الكوانتية والحاسوبية وعلوم التطور.
[3] – Over inclusion
مولانا الحكيم بعد تحية تقدير و إجلال تليق بك و بعلمك
أسمح لي بداية بتعليق يتناول أولا العنوان
[ فى نقد النظرية ” محاولة ليست موضوعية تماما ” ]
و أسمح لى ان أسير معك على طريق لعبة ايرك بيرن ” نعم ….و لكن ”
التي أبدعت حضرتك فى إختيارك لها لتفنيد فروض النظرية و نقدها
نعم …. هى محاولة ليست موضوعية تماما
و لكن …. أليست القدرة على النقد الذاتي هى أساس التطور النابض و وقاية من جمود الفرض و سكون الركون إليه ثم أو ليس هذا هو غاية النقد الموضوعي
بخصوص نعم ولكن فى البند رقم 3
أخشى مثلك يا مولانا أن ما يظنه الإنسان إنجاز بشري يكون هو مسمار فى نعش انقراض جنسه و قفز إلى وعيي ال Robot الذي يتفاخر الإنسان بإنجاز اختراعه
و كثيرا مما يتوهم هذا الإنسان المغرور إنجاز لتطوره وهو فى الحقيقة يسرع به نحو الانقراض
أخيرا _ لدي ملاحظة تشمل اقتراح يا مولانا بعد إذنك
إن طرح و مناقشة هذه المقاطع من نظرية بهذا العمق الرخاوي يحتاج حلقات مناقشة حية ربما لا تستوعبها كتابة بعض السطور فى محاولات الصياغة الكتابية
هذا صحيح
وهو أمل أرجو أن تحقق بعضه الأيام