نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 4-12-2021
السنة الخامسة عشر
العدد: 5208
مقتطفات كتاب
“الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” (1)
الباب الأول: “النظرية ومعالم الفروض الأساسية” (3)
مقدمة:
نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب لعله الأهم،، ولعل ذلك يعطى فرصة للقراءة البطيئة (والمراجعة والنقد). وآمل أن تُقْرأ نشرة الأسبوع الماضى قبل متابعة نشرة اليوم التي سنقدم فيها ما تيسر من الفصل الثانى.
يحيى
الفصل الثانى
مراحل تشكيل النظرية
تمهيد:
طبوب أخرى متعلقة!!
وأنا اكتشف جهلى وتقصيرى فى الإلمام ببعض مراجع هذه النقلة التطورية فى الطب عامة والطب النفسى خاصة، انتهزت الفرصة لتعويض ما فات، وفعلا عثرت على بعض المراجع بنفس العنوان وبعناويين أخرى مثل: الطب النفسى الدارونى (2)، وهو نوع من الطب الدارونى عامة (3)، ولم أطلع بالقدر الكافى على ما يختلف أو يضيف، وإن كان القدر اليسير الذى اطلعت عليه – وأنا اكتشف جهلى المتراكم- لم يتفوق على هذا الكتاب (ستيفن & برايز)، الذى اقتطفت منه ما اقتطفت، بل كان أكثر تنظيرا وإجمالا وهو يركز أساسا على التفرقة بين “المرَض” و”الدفاع بالأعرْاض” Disease and Defense باعتبار أن العرض قد يكون دفاعا مشروعا (من منطلق تطورى) أما المرض فهو حين يتمادى هذا الدفاع فيسقط دوره الدفاعى وتحل الخسارة محل المكسب (وهذا منطق جيد لكنه ليس كافيا!).
فى نفس الوقت حمدت الله على جهلى طوال أكثر من أربعين عاما، لأنه أعطانى الفرصة ابتداءً أن استمد مادتى وتنظيرى فيما اسميتُه “النظرية التطورية الإيقاعحيوية” من واقع الممارسة التى افتقدتها فى معظم ما قرأت مؤخرا، وقد تصورت أننى لو بدأت بالنظريات المتاحة أولا فربما كنت قد اكتفيت بالتطبيق الحرفى، وربما كنت عجزت عن مواصلة كشوفى من واقع الممارسة مع طلبتى ومرضاى أساسا جنبا إلى جنب مع القراءة والمراجعة والنقد، كما حدث حتى الآن.
وأنا مقبل أخيراً على تقديم النظرية التطورية الإيقاعحيوية شعرت أننى لابد أن أوضح نقطتين جوهرتين معا، وخاصة الأولى منهما، وقد أسهمتا فى تأجيل عرضى النظرية متكاملة طوال هذه المدة.
– النقطة الأولى:
إنه ربما ما كان لى – شخصيا – أن أومن بالفكر التطورى بهذا العمق، وأنا أقوم بتطبيقاته كلينيكيا ونقدا، إلا من منطلق إيمانى بخالق كل هذا الكون بما فى ذلك خلق برامج التطور وقوانينه، ثم انتقالى إلى فروضى فى “الإدراك”، وإلمامى بدور العقل الوجدانى الاعتمالى (4)، ثم سياحتى فى محيط الوعى المتعدد المستويات والممتد الدوائر، إلى الغيب، فضلا عن المصدر الأساسى، وهو الممارسة والنقد فى مجال العلاج الجمعى وعلاج الوسط أساسا، وقد دعمتنى مصادر هامة من خارج مهنتى، وألهمتنى أفكارا مفيدة، مثل مواصلتى قراءة ونقد الكثير من حدْس مواقف مولانا النفرى المتواصل فى الغيب والتيه والمحاجّ وغيرها، الأمر الذى لم أعتبره دليلا مباشراً على صحة ما وصلنى، لكننى ائـتنست به كمصدر معرفة موازية (5).
إن أى هجوم تقليدى لدحض نظرية (نظريات) التطور باعتبار أنها ضد المسلمات المقدسة، أرجو أن يراجعه أصحابه وخاصة إذا كان كل اعتمادهم على تفسيرات معجمية قدسوها فـَصـَنَّـمَـت العلم ليتماثل مع معظم أصنام معاجم اللغة الثابته، وقد أشرتُ من قبل كيف وصلنى حدس وإيمان تشارلز داروين حتى رغما عنه، فكتبت فى ذلك: “تشارلز داروين “جاب الديب: من بؤرة وعى إيمانه المعرفى” وليس من “ديله” (6)وأن جوهر نبض إيمانه هو الذى هداه إلى نظريته جنبا إلى جنب مع ملاحظاته ورحلاته!
– النقطة الثانية:
هى القهر الجاهز من جانب التراثيين المحدثين سدنة المؤسسة العلمية الأيديولوجية التكاثرية الباهظة التكاليف، الذين قرروا –كل من موقعه– أن يحتكروا المعرفة وأن يزعموا بمنهجهم المختزل أن من حقهم أن يقيّموا ما حدث خلال ملايين السنين كما عاشته مئات الألوف من الأحياء، وتطور مَـنْ تطور منهم بفضل الله، وانقرض من انقرض ثمنا لوأد إبداعه وانفصاله عن “المحيط” فالكون “إليه”، فراح هؤلاء العلماء!!) التراثيون المحدثون يقيّمون كل ذلك بمنهج قاصر خانق، إن هؤلاء مهما قدسوا مناهجهم الكمـِّـيِة المقارَنَة: غير قادرين على أن يوقفوا نمو الإنسان “إليه”، بل إنهم قد يمثلون العامل الأول، بالتعاون سرا مع من جاؤوا فى النقطة الأولى، فى احتمال انقراض نوعنا، (ذلك دون إنكار فضل عطاء بعضهم فى جزئيات هنا وهناك). “وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا”.
وبعد:
أفضّل الآن – بصعوبة مناسبة – أن أبدأ بمعلومات تكاد تكون رفضاً حاسما لما سوف أقدمه، وأنا متمسك أكثر بحقى فى إبلاغ ما بلغنى من مرضاى ومن حقول الإبداع والنقد،وهما المصدران اللذان دعّما رؤيتى وخبرتى حين أتيحت لى معايشتهما.
ما بنى على باطل فهو باطل!! (ولكن ما هو الباطل؟)
صدّق أو لا تصدق أن هذه النظرية التطورية الإيقاعحيوية، ومن ثـَـمَّ الطب النفسى المسمى باسمها، مبنية على نظريتين بلغت درجة شجبهما ودحضهما (7) درجة غير مسبوقة: النظرية الأولى: وهى أحسن حظا من الثانية، هى نظرية “أصل الأنواع” لتشارلز داروين، أما النظرية الثانية فهى نظرية الاستعادة (أو القانون الحيوى) لإرنست هيكل وقد نالت شهرة أقل لكنها نالت هجوما أقسى وأشمل لدرجة اعتبارها شطحا وتزييفا حتى أصدر أهل السلطة والأمر والنهى قرار موتها بلا عزاء، وبرغم كل ذلك تظل هذه النظرية الأخيرة (لإرنست هيكل) هى أساس جوهرى لكل ما سوف أذكره تقريبا حتى لو بدا أن كل ما سوف أبنيه عليها قد ينتهى مآله إلى نفس النهاية، ذلك لأننى مازلت أرى صحتها بعد إطلاعى على أغلب ما قيل فيها شجبا ودحضاً ورفضا وتكذيبا، حيث أننى أرى تجليات هذه النظرية رأى العين فى ممارستى، وليس من حقى أن أنكر ما أرى ويصلنى، حتى أصبحتُ على يقين من أن مـَنْ يبقى منِّـا (نحن البشر) إن بقى أحد، سوف يرى فساد كل هذا الهجوم، الأمر الذى يعرفه مرضاى بطريقتهم، ويكاد يعرفه أبسط من أعامل من البشر فى العلاج الجمعى ومثله. (8)
زيادة الطين بلة:
انطلاقا من هذا الباطل (حسب زعمهم)، وبالذات نظرية الاستعادة، وأن الانتوجينيا تلخص (وتكرر) الفيلوجينيا، رُحتً أزيد الطين بلة بالتمادى فى التطوير والقياس بهذه النظرية، الأمر الذى يمكن أن يدعم الرافضين لها أكثر فأكثر، وإليكم بعض هذا التمادى:
أولا: العملية ليست مجرد “تلخيص” بمعنى “الإيجاز” وإنما هى دورة حيوية مكررة مفتوحة النهاية حتى لا تنغلق الدوائر، والفارق هو الوحدة الزمنية، بمعنى أن ما تم فى ملايين (بل ربما بلايين السنين) هو يعاد خلال عمر الكائن البشرى الآن (الأنتوجينيا تلخص وهى تستعيد الفيلوجينيا)، ثم قس على ذلك الدورات الأصغر فالأصغر. فالأصغر…. فالأصغر.
ثانيا: ثمة دورات موازية تتكرر بنفس التلخيص والاستعادة مع كل دورة نمو (مثلا: نظرية “أعمار الإنسان الثمانية لإريك إريكسون” وقد أسميتـُـها “ماكروجينى” دون إذن منه) (9) ذلك لأننى وجدت أن القياس وارد مع اختلاف اللغة والمراحل والامتداد، (برغم أن إريكسون لم يزعم ذلك).
ثالثا: إن أية دورة إيقاع حيوى، خاصة دورات إيقاع المخ البشرى، وهو يعيد بناء نفسه باستمرار، هى استعادة أصغر فى زمن أقصر فأقصر، طبعا أقصر من دورات النوم ودورات حلم “الريم” REM التى يبدو أنها أقصر ما يمكن تسجيله برسام المخ الكهربائى، أقول إن أية دورة إيقاعية هى استعادة إبداعية تخدم التطور “إليه”، ما لم نحـُـلْ دون ذلك بالاغتراب والإنكار…الخ.
رابعا: إن الإبداع عامة لا يقتصر على الناتج الإبداعى المعروف، وإنما هو أساس التطور عامة والتطور البشرى خاصة، وهو طريق النمو وسبيل الإيمان ونبض الحياة المستمر ليلا ونهارا (وإلا توقف كل شىء عن المضىّ إلى الأرقى).
خامسا: إن مفهوم الوعى مازال غامضا تماما، وأىُّ اختزال له بادّعاء تمام فهمه أو الإحاطة بأبعاده يحمل احتمال الخطأ والتشويه معا، لكن الاجتهاد واجب فى اتجاه مزيد من إضاءة جوانبه، وذلك بمواكبة حركية الوعى على كل المستويات: بدءًا من الوعى الشخصى إلى الوعى البينشخصى إلى الوعى الجماعى إلى الوعى الكونى: “إليه”: أصل وسر الوجود.
سادسا: إنه لكى ندرك – لا نفهم فقط – أبعاد الإحاطة ببعض برامج ومسار التطور: علينا أن نشحذ – ولو بإرادة خفية – وسائل وقنوات معرفية خلقها الله لنحافظ بها على الحياة، يمكنها أن تتحرك بأقل قدر من القصدية الواعية – ما بين أجزاء الثوانى إلى بلايين السنين – وفى نفس الوقت هى تبدأ دائما أبداً مما هو “هنا والآن”، متجدداُ أبداً “هنا والآن”!!
…………….
……………
(ونكمل غدًا)
[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث أبواب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2021) (تحت الطبع)
[2] – Michael McGuire and Alfonso Troisi “Darwinian Psychiatry” (1998) Publisher: Oxford University
الطبنفسى الداروينى هو تطبيق نظرية التطور لفهم ماهية الصحة والمرض حيث يوفر منهجًا علميًا مقابلا لمنهج التفسيرات الآلية المعاصر الذى يسيطر على العلوم الطبية وخاصة التعليم الطبى الحديث
[3] -“Why We Get Sick: The New Science of Darwinian Medicine by” By: Randolph M. Nesse, George C. Williams. Publisher : Vintage Books (1996)
[4] – Emotionally Processing Mind
[5] – يحيى الرخاوى: قراءة فى مواقف النفرى نشرات الإنسان والتطور اليومية (من 20/10/2008 حتى 3/12/2012)، ثم مواصلة القراءة فى حوار مع مولانا النفرى من (10-12-2012 حتى 21-4-2020)، ثم مواصلة القراءة فى مخاطباته حتى تاريخه. www.rakhawy.net
[6] – يحيى الرخاوى: نشرة الإنسان والتطور اليومية “تشارلز داروين “جاب الديب: من بؤرة وعى إيمانه المعرفى” وليس من “ديله” بتاريخ (4/8/2014) www.rakhawy.net
[7] – دحض: بَطَلَتْ
[8] – بل وكما يعرفه – غالبا– من بقى من كل الأحياء، ممن لم تتح لهم فرصة الكتابة أو النشر بعد الوعى الإبداعى!!
[9] – Erikson E.H.”Childhood and Society” Penguin Books Ltd. Harmondsworth Middlesex England. (1972)