الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مع الناس.. فى رحابه تعالى

مع الناس.. فى رحابه تعالى

يوميا” الإنسان والتطور

18-9-2007

مع الناس.. فى رحابه تعالى  

خواطر قديمة ..

عثرت على هذا الكلام فى أوراقى بتاريخ 10-12-1976، بعد زيارة قصيرة للسعودية، تمكنت خلالها – بفضل الله – أن أؤدى فريضة الحج، وأن ألتقى بإنسان “خاص“، لم أكن أتصور أننى سألتقى معه هناك فى الرياض! كما عثرت على خطاب أرسلُتُه إلى هذا الإنسان عقب عودتى مباشرة، حتى أننى نسخته باليد قبل إرساله. إذ يبدو لى أن لقاءه كان ذا دلالة.

أما الكلام المرسَلْ فكان كالآتى:

كان الأمر عسيرا رائعا علىّ طول الوقًتِ، فرحٌ أنا بما أسبغه الله علىّ، متردد فى أن أكون إلا ما أكونه فى رحابه تعالى. الحمد لله.

لا التسليم ممكن. ولا الانسحاب هو من طابعى، ولما أكرمنى الله بالفشل  فى التقليد الأعمى، أكثر فأكثر، كان علىّ أن أعلن عجزى بوقوفى وحيدا لا أستسلم، ثم بتراجعى واعيا ساعيا داعيا الله ألا أتوقف طويلا..

رجعت شاكرا واثقا مطمئنا، صامتا أيضا.

***

كنت أجلس على مكتبى بالعيادة، بين مريض ومريض، جاءنى الخاطر فأجلتُ لقاء المريض التالى، كتبت عبارات تترجم حالتى.

مزقت الورقة، ثم عدت فجمعتها لأقرأ مايلى:

 ذلك اليوم …

… ودخلت التجربة فوراً  وكاملاً، وهأنذا أكاد أخرج منها فى ظروف لم تختلف كثيرا عن تصورى من قبل، وإن كانت الأمور قد غمرها نور يُعْشى أحيانا، كما يضئ كثيرا من زوايا الظلام المتلالئة.

فهل آن الأوان لأن أكتب فى هذا الموضوع الذى ما تطرقت إليه إلا رمزا ..؟

وهل هو واجب علىّ أن أقول ما أعرف؟

أم هو تجاوز خَطير إلى ما لايصح أن يقال .. مما لم يُصرَّح لمن هو أفضل منى ألف مرة بالحديث عنه ؟

أظن أننى لا أستطيع أن أضع رأسى فى الرمال

وفى نفس الوقت لا أستطيع أن أصرح بكل ما أتصور أنه الحق

فلأكتب لنفسى .. أو لمن يهمنى ألا يبعد عن الدين كفرا وغباء لمجرد أنه قد تولى أمره غير أصحابه

أيضا أكتبه لمن يريد وجه الله ولا يعرف السبيل إليه إما من كثرة التجهيل، وإما من كثرة الوصاية والتسطيح، فلأكتب للحقيقة المجردة .

بعد أن أن عدت إلى قواعدى، لم أزد شيئا ولم أنقص شيئا، بل تأكد عندى ما كُلِّفت به من حمل الأمانة، الأمر الذى أضيفت إليه بعض التفاصيل البسيطة، ولكن لعلها خطيرة. ومن ذلك:

1- لما كان الإنسان الحالى غير قادر على استيعاب التكامل المبنى على رؤية الحقيقة فى هذه الظروف الطاحنة، فإن المجاهرة بتصوّره أو تصويره، أوالعجلة فى الدعوة إليه، تصبح جريمة إجهاض لا محالة .

2- لما كانت الرؤية الكاملة أكبر من استيعاب الفرد لدرجة الجنون، وأكبر من استيعاب المجموع لدرجة الذهول أو التنويم، كان لابد من  تجزئتها وتنويع مصادرها وتخفيف لغة التواصل إليها .

3- هنا يظهر دور الدين بالتوجيه إلى استمرارية السعى إليه على مستوى العبادات والقواعد، وعلى الإنسان الفرد أن يقبل استحالة التكامل الجاهز “الآن” ..  فلا يتوقف أبدا.

4- ذلك لأن الدين الذى هو طريق إلى الإيمان التكامل الخلاق الممتد، ذلك المطلب فى الأفق البعيد، فهو لازم لزوم الواقع، بمجرد البداية السليمة نحوه .. يتم يقين الوصول إليه، مع اليقين باستحالة تحقيق ذلك…

5- الإبداع الأصيل سبيل آخر، قد يكون انشقاقا مرحليا لازما، لكنه أيضا مرحلة تحرّك نحو  التكامل الخلاّق نحونا، نحوه تعالى وتنزه، سبحانه عما يصفون.

إن هذه الرؤية بين الناس، وللناس، ومع الناس، ووسط الناس، ومدهوساً بالناس، وذائبا فى الناس، ودائرا بالناس، ومهرولاً كالناس … هذه الرؤية تدعّم فضيلة التواضع، كما نفهم منها كيف يدخل الفرد فى المجموع “أدخلى فى عبادى”، ليخرج منه باستمرار، كما أنها تَعِد ُ بإمكانية الحضور فى الكل توجها إلى المطلق. فرداً فرداً، كدْحاً كدْحاً طول الوقت، فى ظل قانون الحياة النابضة الخلاقة.

هذا القانون ذاته الذى لابد وأن علاقتى به وثيقة – ربما بالرغم منى أو بفضل إصرارى، والأهم: رحمة منه علىّ– هو الذى جعلنى أقابل مصادفه إنسانا فى غاية الذكاء والتواضع، وهو أستاذ تاريخ فى جامعة الرياض أفضّل ألا أذكر اسمه لأننى لمْ أسْتأذنه فى هذا النشر المحدود، وهو له عدة أعمال أخرى أدبية وفكرية. هو إنسان عالم متواضع سريع واضح مستوعِبْ، قال لى كلاما من بعيد عن الدين وكيف أنه يصب حتما فى نفع الناس، وعن علماء المسلمين وكيف أن أغلبهم فى النار، وعن علماء الذرة وكيف أنهم فى الجنة على الأرحج فهم الذين إذْ يصفون أسس تحلية مياه البحر يحافظون على الحياة ويعمرون الأرض، إلى آخر هذه الهمسات التى كان يعنى بها ما يعنى ونحن نتسامر، وهو لا يخطب …

ولكنه بدا لى فى مجمل موقفه أنه كان أقرب إلى اليأس من جهة، كما كان منغرسا فى الناصرية من جهة أخرى. (ربما لهذا أَسْمَى ابنه باسمه).

وقد قال لى أيضا أن الجزيرة العربية (ربما فيما عدا الشواطئ الغربية (الحجاز) والشرقية الدمام، وما جاورها …. الخ)، لم تعرف الإسلام إلا فى صدره ثم بعد حركة محمد بن عبد الوهاب.

وحين كنا نتكلم عن التراث الروحى قال إنه لايوجد حقيقة ما يسمى بالتراث الروحى فى شبه الجزيرة فقد هاجر هذا التراث مع الغزوات الأولى للإسلام

بهذه البساطة، فى هذه الأمور وغيرها، أوضح موقفه العارف المتواضع ، ثم إنه كان يعمل ليل نهار، ويصرّ على الاستمرار، ويوجه جهده الأول إلى البحث العلمى، وهو يكتب بالعربية وبالانجليزية، وما إنْ تلقى نظرة على الكتاب الذى ألَّفهُ وأهدانى إياه بالانجليزبة واسمه “تاريخ  شمال الجزيرة” حتى تعرف أى نوع من الجهد والصبر يصفان عمله  ويوجهانه..،ولم تمنعه كل هذه الانشغالات من أن يصر على توديعى شخصيا حتى المطار..

 بعد عودتى ترددت فى الكتابة إليه، لا أريد أن أفقد صورته عندى كما لا أريد أن أقترب منه أكثر بعد ما تعلمت من خبرتى  الماضية  ما تعلمت من مخاطر الاقتراب حتى الفقد، قررت أن أتوقف عن تناول هذه الجرعة من هذه المقابلة الوحيدة، ويظل من حقى أن أحلم أنه يوجد فى مكان ما، ليس بعيدا، إنسانُ مثابر، يعمل، ويكافح،  ويواصل وحيداً أو مع آخرين، ومع ذلك فكان لزاما أن أشكره وأودعه فى آن، فكتبت له خطابا، وحين أعدت قراءته، فضَّلت أن أعيد نسخة لأحتفظ به،

ثم قررت الآن أن أنشرْ نص الخطاب هنا غدًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *