- الأهداء والمقدمة
- الفصل الأول: فردوس الطبلاوى
- الفصل الثانى: غريب الأناضولى
- الفصل الثالث: نجوى شعبان
- الفصل الرابع: ملكة مناع
- الفصل الخامس: غالى جوهر
- الفصل السادس: كمال نعمان
- الفصل السابع: عبد السميع الأشرم
- الفصل الثامن: بسمة قنديل
- الفصل التاسع: مختار لطفى
- الفصل العاشر: عبد السلام المشد
- الفصل الحادى عشر:إبراهيم الطيب
- الخاتمة
ثلاثية المشى على الصراط
[الجزء: الثانى]
مدرسة العراة
يحيى الرخاوى
الطبعة الأولى 1977 الطبعة الثانية 2008
الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980
إهداء الطبعة الثانية
إلى الذين تحملوا الاختلاف،
والذين لم يتحملوه………..
.. من مقدمة الطبعة الأولى
هذا هو الجزء الثانى من الرواية الطويلة المشى على الصراط وقد صدر الجزء الأول باسم الواقعة وفيه محنة عبد السلام المشد وهو إما أن يقرأ على أنه عمل مستقل، وهذا ممكن، وإما أن يسبقه الجزء الأول برمته وهذا محتمل.
.. مقدمة الطبعة الثانية
بعد ربع قرن، تظهر هذه الطبعة بمناسبة كتابة وقرب نشر الجزء الثالث من هذه الثلاثية “المشى على الصراط”. انتبهت أننى لم أقرأ هذه الرواية -أيذا- بعد نشرها الأول، حتى كتابة الجزء الثالث. قرأتها مضطرا أثناء التجارب (البروفات) لهذه الطبعة.
التزمت فى هذه الطبعة الثانية لـلجزء الأول من هذه الثلاثية (الواقعة) ألا أصحح إلا بعض الأخطاء الشكلية، كما استدركت فعدلت بعض الأخطاء العابرة عفوا. لم يكن الأمر كذلك تماما بالنسبة لهذا الجزء الثانى، فقد احتاج الأمر إلى عدد من التعديلات الداخلية الدقيقة فى حدود قليلة جدا، لكننى شعرت أننى ملزم بالإشارة إلى ذلك.
آن الأوان أخيرا أن يمثـل العمل بأجزائه الثلاثة فى متناول وعى الناس.
على أنه يمكن قراءة كل جزء كعمل مستقل.
الإسكندرية 22 أبريل 2002
المقطم 14 يناير 2008
ملحوظة: اكتشفت وأنا أراجع مسودات الطبعة الثانية لهذا الجزء أنها أقرب إلى المسرحية منها إلى الرواية.
- هل هذا صحيح؟؟. وهل اسم “رواية فى مسرحية – وبالعكس هو الأقرب إلى تصنيفها لست أدرى.
الفصل الأول
فردوس الطبلاوى
مالى أنا؟ يكفينى ما بى، عيالى أولى بى، همى بيتى، مطبخى، ستائر حجرتى، ألا يكفيه أنى أهتم به، حتى بإصلاح جواربه، ماذا يريد منى بعد ذلك؟.
صبرت حتى على العجز نفسه، وعلى فضيحة انتحاره، لكنه لايتركنى فى حالى، يريد منى أن أذهب معه إلى العلاج؟ أى مصيبة وصلنا إليها، أى علاج هذا المجنون، ماذا بى للعلاج؟ كلام فارغ فى فارغ أنا عرفت حركاته. يريد أن يلصقها بى فى النهاية، لن أذهب ولو انطبقت السماء على الأرض.
* * *
تنازلت له عن كل شئ، نسيت نفسى إرضاء لأنانيته: الليسانس: وأحتفظ بورقته مع خزين البصل. أهلى: وانقطعت علاقتى بهم. أصدقائى: وانصرفوا عنا هربا من قلة ذوقه، حتى قراءة الفنجان التى كنت أعرف من خلالها نفوس الناس أحسن من طبيبه المخلول، نسيتها وما كان قد كان، ثم ها هو ذا لا يدعنى فى حالى. أريد أن أعيش مثل الناس، ما لها الست محاسن جارتنا، وابنة خالتى صباح، وتماضر الجحش زوجة سعد عرفة، بل ما لها أم عنتر زوجة عم عبده البواب؟.
عشت معه طول هذا العمر وتحملت ما تحملت على أمل أن يكف عن الجرى فيما لاطائل وراءه. كاد أملى يتحقق بمرور الأيام حين أصبح مطيعا سلسا بعد سنوات، ثم حدثت المصيبة التى لا أدرى من أين جاءتنا. مصيبتى كبيرة فى هذا الرجل. لايعتقد أنى أملك جهازا للتفكير مثله. يحسبنى دائما أعيش فى غيبوبة. أقرأ فى عينيه نظرات الاحتقار وأصبر. أنا أعرف الحياة أكثرت منه، وما صبرت عليه كل هذا الصبر إلا لأنى أفهمه أكثر مما يفهمنى. كان أملى أن يكملها الله بالستر.. ولكن..
- مالى أنا بكل هذا يا عبد السلام، الله يهديك.
- هذا هو رأيه، وهذه مهنته، وهو يعرف الصالح أكثر منى ومنك.
- وأنت؟ أليس لك رأى؟ وأنا؟ أنا مالى يا عبد السلام الله يخليك، البيوت أسرار دعنا نعيش فى ستر، دعنى فى حالى.
- أنا لم أذهب مختارا كما تعلمين، اضطررت إلى هذا الطريق عقب نجاتى من الحادث، ليس أمر من المر إلا العجز والضياع.
- تقول “الحادث” أنت الذى عملتها فى نفسك، خيل إليك أن العالم انتهى وأن مصر خربت، صدقت الإشاعة وعتبرت الثغرة بداية الهزيمة التى لا نصر بعدها. عملتها ولولا ستر الله وأولاد الحلال ما كنت بيننا الآن. أنت تهرب يا عبد السلام من الحياة عمال على بطال.
- عمر الشقى باق.
- وهذه مصر بخير.
- ليس تماما… يمكن آن تكون بخير.. إذا فعلناه نحن، إذ كنا نحن بخير.
- نحن بخير يا عبدالسلام.. وكفى جريا وراء الأوهام.
- لست بخير يا فردوس.
وماذا الذى يمنعك أن تكون بخير؟.
- . . . . . . .
– قل لى ما الذى يمنعك؟.
- أنت.
- أنا؟ هذا ما عملت حسابه طول عمرى، سوف تلف وتدور ثم تأتى باللوم على رأسى.
- لا أقصد أنت أنت، ولكن أى أنت.
- يا نهار أسود.. تريدنى أن أذهب معك هناك حتى يلتوى لسانى هكذا… لاقوة إلا بالله.
- يا امرأة، إفهمى ليس أمامى خيار: إما هذا، أو الجنون، أو الانتحار.
- سلب هذا الرجل إرادتك يا حبة عينى، أين أنت يا عبدالسلام؟.
- يا ولية، إفهمينى.. ليس لى خيار. المصيبة داخلى وأريد أن أحافظ على بيتى. لم أعد أستطيع الكذب، هذه هى الحكاية.
- أى كذب وأى هباب. أنت لاتحافظ على شئ إلاعلى جنونك. أنا التى دفعت عمرى لأحافظ على بيتنا، وأنت لست هنا من أصله.
- ما أعجزنى إلا العجز.
- العجز؟ قل شاء الله يا أم العواجز.
- أنت لا تدركين الخطورة.. هذا البيت مهدد بالانهيار.
- تهددنى بعد أن صبرت كل هذه السنين، تأكلنى لحمة وترمينى عظمة.
- أنا مريض وأعالج، والطبيب طلب حضورك.
- تضع الفأس فى الرأس.
- جربى من أجل الأولاد.
- ما لك أنت بالأولاد، أنت لاتعرف عنهم شيئا، أحيانا أتصور أنك لا تعرف حتى أسماءهم، كفى تهديدا، لى رب اسمه الكريم وعندى شهادة، ولا أحد يموت من الجوع.
- وحبنا؟.
- تتكلم عن الحب يا عبد السلام؟.
- أبحث عن أى لغة تفهمينها، ولو كانت بلا معنى.
-.. تضحك على.. ولا تلبث أن تستهين بعقلى كالعادة. لا تنكر أنك لم تعد تطيق رؤية اثنين يحبان بعضهما البعض، ولو فى التليفزيون.
- لا أطيق الكذب.
- ما تسميه صدقا هو الجنون ذاته.
- إسمعى. إما أن تحضرى أو أكف عن العلاج.. أو..
- تهددنى يا عبدالسلام.؟.
أنا مضطر لإكماله يا فردوس.
-… يا ليتنى أفهم شيئا.
-1-
آخر زمن..
علاج هذا أم قهوة للمساطيل، مالى أنا وكل هذا، هذا الرجل ليس طبيبا ورحمة أمى، هارب من مستشفى المجاذيب بلا أدنى شك، هو أكثرهم جنونا. خيبته تفوق غباءهم المستسلم. لم يوجه لى أى كلمة، لعله حسبنى لا أملك ذلك الجهاز فى الدماغ الذى يفكرون به، أنا أستطيع أن أزنهم جميعا بنظرة واحدة، نظراته تخترق مالا يعرف. لن ينال منى شيئا لأنى أذكى منه ومنهم.
* * *
ما هذه الأشكال كالتحف التى لاتصلح إلا للمتحف؟ تلك المرأة التى اسمها إصلاح طبيبة مساعدة أم وسيط منوم مغناطيسى؟ تكاد تأكله بنظراتها، يجمع حوله الضحايا ويفعل بهم ما يريد.
* * *
قلبى يتقطع على تلك الوردة التى لم تتفتح. بسمة. ما الذى أتى بها إلى هذه المجموعة؟ ليس بها إلا ما يمر على البنات فى سنها، أنا نفسى طالما قلت ما تقول حين كنت فى سنة أولى جامعة. ارفعوا أيديكم عنها ياحكماء أخر زمن، دعوها لتختار وحدها وتبحث وسوف تنسى كل شئ، كلنا ننسى كل شئ، مستقبلها فى شبابها وأولادها وبيتها، ما الذى أتى بك إلى هنا يا ابنتى؟.
* * *
لم أستغرب أن وجدتـك هناك ياغريب، هذا مكانك الطبيعى، بدأ الفأر يلعب فى عبى منذ لاحظت زيارات زوجى المتكررة لك، طول عمرى أقول عليك أعزب جبان، لابد أنك تريد خراب بيتى ليضم إليكم زوجى متفرجا مثلك، لابد أنك وراء كل هذا ومقام السيدة.
* * *
فهمت من ملكة وهى تكلم جارها غالى أنهما زوجان، الحمد لله أنى وجدت مصيبة مثل مصيبتى، ملكة غيرى، ثابتة لا تتحرك ولا تهتز. زوجها المتحمس المتكلم يعمل الواجب وزيادة. لا يبدو عليها رائحة مرض أو مشاكل. ناد هذا أم عيادة؟ تكاد تحيطه بسلاسل نظراتها وهو منتش فى حذر. كلما نظرت إليه فى وله صفا ذهنه وعلا صوته أكثر، وراءهم حتى أعرف السر. لا يخلو مجيئى من متعة نسائية.
فلتستيقظ هواية حب الاستطلاع، والعاقبة عندك يا عبدالسلام.
* * *
وهذا الإنسان الحالم، مختار لطفى، إذا لم أكن قد نسيت اسمه، أعتقد أنه ابن ذوات لا يجد ما يفعله ولا ما ينفق فيه نقوده، لعله جاء يتسلى حسب “الموضة” ويتفرج على هذا المسرح الحى، ولابأس من أن يجد فرصة كذا أو كذا. من يعرف؟. طول الوقت ينظر إلى نجوى التى حسبتها مانيكان من طريقة حركاتها وعنايتها بجسمها ولبسها. كل ذلك لم ينجح آن يخفى عنى حزنها. لعلها فقدت عزيزا وتعالج هنا بتعقيد نفسها بالمرة لزوم العصر الحديث.. تتسلى بالكلام الفارغ عن الحزن الواجب.
* * *
وهذا الذى اسمه كمال يتجول على رصيف المجموعة طول الوقت، يتسكع ولا يشارك أبدا.
* * *
أما عبدالسميع فهو يغط فى غيبوبة لاتمت إلى عالمنا هذا، شحوب وجهه يكاد يعلن أنه لم ير النوم من زمن سحيق.
إبراهيم هو الإنسان الوحيد الذى ارتحت له بين الجميع، ملامح عظيمة وصوت ريفى فخم، وقلب طيب فعلا. قلبه فى عينيه، وروحه فى يديه، ووجهه ينطق بكل أسراره دون كلام.
* * *
أعدت النظر إلى زوجى عبدالسلام وكأنى أراه لأول مرة. بدا لى غريبا عنى. لا. بل هو عبدالسلام الذى تزوجته أيام الآمال والغباء، قلبى يدق للذكرى أو لعله يدق خوفا من التذكر، أخاف أن يعاودنى الأمل.
بسمة تذكرنى بأيام زمان، وعبدالسلام يبدو مثلما كان، وأشياء تكاد تستيقظ فى، تبدأ بحب الاستطلاع.. والبقية ترعبنى.
* * *
كل ذلك كذب فى كذب. سوف لا أعود ثانية ولو ذبحونى. نبش القبور هو ألعن جريمة فى الوجود، وخاصة إذا كان فى القبر أمل فى حياة ما- الصداع يكاد يقتلنى.
- فاطمة، بنت يا فاطمة، كوب شاى وأسبرينتين.
قال عبدالسلام مقاطعا:
- هه؟ ما رأيك؟ لم تتحطم الدنيا.
- عندى صداع.
- الحمد لله.
- ماذا تقول يا عبدالسلام؟ أقول لك عندى صداع تقول الحمد لله.. عندى صداع ويبدو أن أنفى سيرشح.
- ربما تحرك المارد.
- إسمع: لقد طاوعتك على قدر عقلك من أجل خاطر الأولاد- أما أن تنقل هذا الكلام الفارغ ليكون أسلوب حديثنا فى البيت فلا، وألف لا. دعنا نعيش.
- سوف يحدث.
- لابد أن تعقل عاجلا أو آجلا، الناس كلها تعرف كيف تعيش بلا علاج ولا يحزنون.
-… يعنى.
- إسمع.. دعنى أنام.
- تصبحين على خير.
-……
أى خير أصبح عليه؟ لن يكون هناك خير مادام هذا الباب مفتوحا، فى عينيه لمحة انتصار لم أرها من زمن، سوف يغط فى النوم عما قليل يكاد الصداع يفجر رأسى.
- فاطمة.. الترمومتر يا فاطمة.
- ماذا بك يا فرودس؟.
أكاد أغلى.. لابد أن بى حـمى.
- لا أحسب ذلك.. جبهتك باردة كالثلج.
- دعنى لحالى… أنت عمرك ما اهتممت بصحتى، ولا بى.
- ما تطلبينه ليس اهتماما.
- أنا لا أفهم ما تقول، أريدك أن تشعر بى، تسأل عنى، تهتم بما أنا فيه مثل كل الناس.
- أنا طول عمرى أهتم، ولكن بطريقتى.
- الله يخرب بيت طريقتك، هى التى جاءت لنا بكل هذه المصائب.
-….
- جسمى يرتجف من الصداع والحمى.
- ننتظر قراءة الترمومتر.
- تتحدانى؟ تكذبنى؟ لن أقيس الحرارة وهذا هو الترمومتر. إسمع: سوف أهرب منك ومنه مثل حبات الزئبق هذه، فلا تأمل فى شئ. أنا أدرى بنفسى.
- فردوس.. هل فكرت فى أصل الحكاية؟.
- لا أصل ولا فصل. والله العظيم أترك لك الحجرة، أو أترك لك البيت إن شئت.
- أنت حرة.
- لا يا شيخ، ماذا تقول؟ منذ متى وأنا حرة؟.
- أنت طول عمرك حرة.
- كذاب.. كذاب.
- رجعنا إلى أيام زمان.
- بعيد عن شنبك أن يتكرر شئ من زمان، لن تخدعنى بكلمات الحب والعالم الذى ينتظرنا لنصنعه معا. سوف أذهب معك لتشفى أنت، لا لأمرض أنا. أولادى أولى بى، وأنت لن تنفعهم فى شئ.
-2-
بسمة ياحبة عينى، لا تغيب صورتك عن بالى، كم أحبك، كم أشفق عليك، ماالذى جاء بك إلى هنا؟ سوف أحضر من أجل خاطرك. هؤلاء الوحوش لا يعرفون شيئا عنك ولن يقدر أحد منهم ما بك. أنا أدرى بك، أنت شبابى ياابنتى، سوف أساعدك أن تكفى عن هذا العبث كله. سوف أقاوم كل أمل لم أحققه. هذا كله طقطقة كلام يا ابنتى. فض مجالس، قد يفيد أحيانا فى الإغراء بالزواج، أما أن يسكب هكذا فى عيادات الأطباء، فلا. إيش عرفهم بالحب، والجنة، والناس الذين مثل كل الناس؟ أنت تعرفين كل ذلك أكثر بدونهم. كم حلمت أنا به. هو كلام حلو، ولكنه أبدا لن يكون إلا كلاما حلوا، كلام مع وقف التنفيذ. نتزوج لنحققه ولا نكتشف أنه مجرد كلام إلا حين نتورط فى الأولاد، وعندئذ نترك لهم مسؤلية تحقيقه. إنهم هنا يحرقون اللعبة يا بسمة يا ابنتى. يوهمونا أنه إما أن نحققه الآن، أو نأكل بعضنا البعض. يا ساتر يارب. لماذا لا يتركونك تحلمين، من جاء بك إلى هنا يا حبة عينى؟ بسمة يا حبه عينى.. لا تأتى بعد اليوم أتوسل إليك، كلمات الحب أصبحت مثل فقاقيع الصابون فى ماء المسح القذر، مسح العقول، مسح المنطق، مسح الشخصية. ليس لنا يا بسمة سوى ذلك المخزن الدافئ الذى يفقس فيه البيض ليصنع فيه العيال، نعدهم للجنة التى لم نحققها، الحكاية أبسط من كل ما يدعون، يريدون أن يوقفوا الزمن ليحققوا بأنفسهم الجنة التى لا يعرفونها، لن تصدقينى يا ابنتى، قلبى يتقطع لما ينتظرك حين تعجزين عن الحركة فجأة. لن ينفعوك. أنت لا تصدقينى، أنا عارفة، سوف أحضر من أجل خاطرك، سوف أهدئ من تحليقك خلف هذا الرجل الذى يلهف منا النقود وليس فى قلبه رحمة، يتظاهر بإطفاء النار وهو يشعلها، يغذى فيك الوهم إلى أعلى وهو يتظاهر أنه يجذبك إلى الأرض. خبيث، جبان. يشعل الحريق بالماء، ألا تعرفين أن الماء الذى لا يكفى لإطفاء النار يزيدها اشتعالا؟ هو يحملك مسئولية أحلامك، مأزقك أيقظ عقلى من جديد، أصبحت أفهم مثل زمان.. لا تصدقيه واعقلى يابسمة ياحبة عينى. أنا أحضر من أجلك، وسأحضر دائما من أجلك. كيف أوصل لك كل هذا الذى يدور برأسى بشأنك؟.
- 3 -
- لماذا تأتين هنا يا ملكة مع أنك تبدين مع زوجك فى غاية السعادة؟.
- نريد الأحسن.
- ولكنكما فى أحسن حال.. هذا ما تؤكدانه دائما.
- ………….
- عن نفسى أنا جئت مضطرة، جرجرنى زوجى على وجهى. أحيانا أقول إن تعاستنا تبرر وجودنا هنا فى هذه المسخرة، ولكن أنتما؟ ماذا ينقصكما؟.
- فعلا.. نحن سعداء تماما.
- إذن. ماالحكاية؟.
- غالى طموح، وطموحه لا ينتهى، يحب المعرفة، ويعبد العلم ويسعى بكل وسيلة لتحقيق أفكاره، لذلك فهو مصر على التجربة.
- لكنك عاقلة كما يبدو لى، وتعلمين أن كثيرا ممن يعتنقون مثل هذه الأفكار فى بلدنا إنما يتسلون بها فى الصالونات، أو يعتبرونها متعة ما قبل النوم، ما لنا نحن النساء وهذا الضجيج، دعيهم يستعملونها لمظاهرات الجامعة، أما حكاية تحقيقها فهى نكتة يضيعون بها الوقت، ويصبـرون بها أنفسهم على خيبتهم.
- من أين لك بكل هذه الحكمة الخادعة؟ هذه هى السلبية بعينها.
- لا يخدعك ترهلى فأنا أحمل ليسانس تاريخ، ولكن تاريخى الخاص يقول لك لا تنشغلى إلا بمملكتك الصغيرة، لا تبعدى عن عشك السعيد، أما هذا الـ…؟ ماذا تسمين ما نحن فيه؟.
- علاج.
- نعالج من ماذا؟.
- الأمر لا يسلم.
- لا. الأمر يسلم ونصف. دعينا نلتقى بعيدا عن هذا المكان الصناعى، نجتمع فى الخارج أرخص وأسلم، هيا نقنع زوجينا بالكف عن السير فى هذا الطريق الخبيث.
-ما هذا؟ يبدو أن طول بقائك فى البيت يا فردوس قد أفسد عقلك. رائحة البصل تفوح من أفكارك، أنا مع زوجى إلى النهاية وليس هناك ما يخيفنى، غالى يعرف كل شئ ويدرك طبيعة الذى يسير فيه، هو زوجى وحبيبى، ولا بد للصراع الطبقى من نهاية.
- نعم؟ نعم؟ ما علاقة هذا بذاك؟ ماذا تقولين؟ نهاية ماذا؟.
- نهاية الصراع الطبقى لصالح الجماهير.
- إعقلى يا ملكة يا اختى، وهل نهاية الصراع الطبقى سيتم هنا فى هذا المكان، راجعى نفسك يا بنت الناس. أين هؤلاء الجماهير؟.
- غالى مؤمن بالعلم فى كل مكان وفى أى مكان. يقول إنه يجد الديالكتيك الحقيقى فى هذا الصراع العميق، هنا بين العجـز والإرادة، بين الحياة والموت، نحن نحرر أنفسنا لتحرر الجماهير.
- ماهذه الألفاظ الكبيرة؟ الذى يجرى هنا ليس إلا الاسترزاق من آلام الناس وحيرتهم.
- مرارة كلامك تذكرنى بالمرحلة الأولى من مجيئى هنا، عليك أن تستمرى حتى تنفضى عن أفكارك رائحة الثوم والبصل. الكسل والخوف كادا يقضيان عليك.
- عبد السلام هو الذى قضى على حين منعنى من العمل، ويدعى كل يوم أنى حرة.
- حاولى يا فردوس. قهر المرأة رمز لقهر الأضعف. حاولى.
- أنت لا تحاولين يا ملكة، أرنى شطارتك لأقلدك، ثباتك لا يوحى بأى محاولة، كأنك وجدت حلا لكل شئ.
- أقدس العلم مثل زوجى. نحرر أنفسنا مع الناس.
- وهل تجدين هنا علما؟ هل سمعت عن عالم يستعمل كل هذه البذاءات؟ هل سمعت عن طبيب يمارس كل هذه القسوة والهجوم بلاحساب ولا ذوق؟.
- هو أدرى بأصول مهنته.
- “بسمة” مثلا؟ هل تعجبك هذه التجاعيد التى يفرضها هذا الرجل على وجهها الطفل بما يدعيه من ضرورة المشى على الأرض.
- مصلحتها تحدد خطواتها… الأمل فى الشباب.
(-…….. – …….. – …….).
- يبدو أنى أزعجتك، الصبر طيب.
– تحياتى للأستاذ عبد السلام.
- تسلمين يا اختى.
……
حجر صوان، جرانيت. ليس لها مسام أنفذ منه. أردت أن أستعين بها فخـلت بى. أنا واثقة أنها تقول والسلام. لابد أن لها مصلحة فى كل ما يجرى. خلية تدار لحبك مؤامرة ما لقلب النظام؟ قلب أى نظام، وكل نظام، إلا نظامها هى وزوجها. أكاد أفقد سيطرتى على نفسى حين لا أفهم إلى هذا الحد. نجح الكلب عبد السلام أن يهزنى من داخل، “الحرملك بالديالكتيك”. آخر صيحة فى العلاج العصرى. سوف أقاوم حتى النهاية، وإذا لم أستطع، فالله وحده يعلم إلى أين سينتهى بى ما يتحرك بداخلى.
- 4 -
- ماذا تريد منى يا عبد السلام بعد الذى حدث؟.
- ماذا حدث؟.
- تستعبط حضرتك؟.
-.. أصبحت أفهم لغتكم الآن.. فاستعـد.
- أستعد لـ ماذا ؟.
- لا تحاول يا عبد السلام. أنت الذى بدأت الطريق وعليك أن تكمله بحلوه ومره.
- سوف أفعل.
- لا تكن واثقا من نفسك هكذا.
- أنا فى انتظارك يا فردوس من زمن بعيد.
- لا أظن يا عبد السلام. أنت لا تعرف ما تقول.
- نعم؟ نعم؟.
- جاء الدور عليك يا عبد السلام لتبدأ من أول وجديد.
- ماذا؟.
- يبدو أن هناك من أسرار اللعبة مالا تعرفه.
- وأنت؟ هل عرفتيه بهذه السرعة؟.
- أحس بأشياء كثيرة قبل أن أعرفها.
- الإحساس وحده خداع.
- يتحدثون عن الحب أكثر من اللازم يا عبد السلام وكأنهم يتبادلون السجائر.
- نعم. هذه حقيقة، ولكنها لا تعنى ابتذاله.
- الأمر أخطر من كل تصور، ربما تندم يا عبد السلام يوما ما على أنك فتحت عينى. مسامـى تفتحت هى الأخرى فحذار.
- الحقيقة أصدق من كل وهم.
- تقولها بشروطك.
- أى شروط؟.
- لا تدعى الغباء وتحمل مسئوليتك إن كنت رجلا.
- رجعنا للبذاءة. بماذا تهددينى بالله عليك؟.
- أنا لا أهدد أحدا ولكنى خائفة من ثقتك بالحدود التى تحاول أن تطـلقنى فى داخلها.
- أية حدود؟.
- لن تحتمل لو تخطيتها يا عبد السلام.
- يجوز. بصراحة يجوز.
- شئ يتفجر فى يا عبد السلام، فهل أستمر؟ هل تتحمل نتائجه؟.
- كل واحد مسؤول عن فعله.
- هذا كلام للاستعمال الظاهرى. أنا أشك أن أحدا منكم يعرف حقيقته.
- يجوز.
- يجوز.. بجور، بجوز! كل شئ يجوز؟ أنت تميع كل شئ.
- أنا معك إلى النهاية.
- كذاب. تكذب بنفس القدر الذى تكذب فيه حين تقول أنى حرة.
-…
- هل ما زلت مصرا على أن أستمر.
- لا تبالغى، لقد تفجر فى يوما ما شئ مثل الذى تتحدثين عنه، ولم تقم القيامة. جاءت سليمة.
- بل قامت، ولم تكن سليمة كما تعرف.
- ماذا تعنين؟.
- النساء غير الرجال.
– هذا كلام قديم.
- أنت لا تعلم ما بى. بداخلى ثور أعمى وقرونه سيوف من ماس.
– عقلك يصحو مثل زمان يا فردوس. تتكلمين مثل الذين يعرفون ماوراء الألفاظ. نكاد نتفاهم من جديد.
- ليس عقلى فحسب.. ولكن خلاياى كلها.
- لا تخافى شيئا.
لست خائفة فلا تـلق على خوفك.
(-……-….. ).
- أنا لا أنكر خوفى يا فردوس. أنا أشم رائحة التهديد أو المساومة.
- صوت بداخلى يقول لى: أنت لست حملى يا عبد السلام، ولا حتى شيخ الطريقة هذا، كفانا هذا يا عبد السلام، ودعنا نربى الأولاد.
(-…….-…….).
- لم يعد لى فى الأمر خيار.
- لا تصدق هذه الأوهام.
- ليس أمامى طريق آخر.
- ذنبك… على جنبك… لقد حذرتك يا عبد السلام.
- 5 -
خوفه أكبر من خوفى. سوف أضاعفه حتى نهرب معا. هذا هو طريقى للعودة به إلى عشى الآمن. رأيت بعينى رأسى الفئران تجرى فى عبه. بدأ يهتز وهذا سبيلى الوحيد لأوقف هذا الخطر الداهم. عثرت على كعب عطيل وبدأت اتذكر بعض صفحات التاريخ، سأضرب على هذا الوتر. عرفت الطريق يا فردوس. لو أنى طاوعت غبائى الطيب ومكثت فى عقر دارى لظللت المتهمة طول حياتى بأنى سبب مرضه، وأنى العقـبـة فى طريق شفائه. أما الآن: سوف نسلخ وجه من يزعل.. والبادئ أظلم.
- ميعاد الجلسة يا عبد السلام.
- أعرف.
- صاحبك لا يحب التأخير.
-… هو يتأخر أحيانا.
- هو صنف آخر من البشر لا يسرى عليه ما يسرى علينا. أليس كذلك يا رجل؟.
- ليس تماما.. وإن كان مثل ذلك يخطر على بالى أحيانا.
- هل سيحضر إبراهيم الطيب.
- طبعا.. مثل كل مرة، لماذا تسألين وهو لم يتغيب ولا مرة؟.
- خاطر خطر. وقد علمتمونى التلقائية.
- عندك حق، إبراهيم إنسان رائع، وأنا أحبه، بل إنى أحيانا أحسده.
- أنا أيضا أحبه.
- هو يستأهل الحب.
- لا تصور الأمر ياعبد السلام كما لو كنا نشرب قدحا من القهوة، الحب طريق شائك.
- عن ماذا تتحدثين؟.
- هل أفقدك العلاج حمية الرجال؟.
- ماذا تعنين؟.
- أقول لك أحب رجلا، تقول لى يستاهل، إنى أحذرك، ذهابى إلى هناك يوقظ فى ما كان قد نام من سنين.
-… ماذا تعنين؟.
- أقول لك أحب رجلا، تقول لى يستاهل، إنى أحذرك، ذهابى إلى هناك يوقظ فى ما كان قد نام من سنين.
-… ماذا تعنين؟.
- أعنى أنى أحاول أن أتمسك ببيتنا، بالستر، أريد أن أحمى الأولاد من تجربة بلهاء، أحاول أن نعيش مثل الناس.
- وما المانع أن نعيش بمشاعر يقظة؟.
- هذه المشاعر التى تهدد بالانفجار لا تستأذن أحدا ولا تحسب حسابا لشئ.
- ماذا تعنين؟.
- لو تطاوعنى، أتركنى ألزم بيتى، فلا يقدر على القدرة إلا الله.
- عن ماذا تتكلمين؟.
- عما أشعر به مما يمكن أن يسمى حبا أو غير ذلك. أنتم تحركون ماردا ليس له روابط ولا حدود، تثيرونه دون حساب. ثم سوف تحملوننى مسئولية خراب بيتى.
- خوفك أكثر من كل تصور.
- لا تدعنى أقول لك مايدور بداخلى حتى لا يتوقف قلبك من الهلع.
- كفى غموضك وهات ما عندك.
- لا فائدة. كنت أظن أنك لم تنس رجولتك.
- تحاولين أن تجرحى شعورى لأتراجع.
- أنا أعرفك فلا تدعى الهدوء.
- هات ما عندك.
- هب أنى اكتشف أنى لا أحبك.
-… قسمتى.
- استسلام مائع.
- يملؤنى كلامك جزعا. ولكن لا سبيل إلى التراجع.
- نحن ما زلنا فيها. المخاطرة ليس لها حدود.
- عندك حق.
- إسمع كلامى، وكفى رعونة.
- تذكرى أنت ما كنا فيه، كان أبشع من كل مخاطرة.
- يكفى ما تعلمناه، لقد أصبحت حياتنا أهدأ، يكفينا هذا.
– إنها أهدأ لأننا فى انتظار الأمل، ولكنها تنهار فورا لو توقفنا.
- وجهك الشاحب يا عبد السلام يقول غير هذا.
- لا أنكر خوفى.. ولكنى مستمر.
- الناس يعيشون فى سلام، ولم يعد بك ما يدعو لكل هذا.
- الناس يعيشون فى سلام لأنهم لم يروا ما رأيت.
- وأنا مالى. لماذا تصر على أن أرى أنا ما رأيت أنت؟ على كل: هأنذا أرى ما هو أكبر وأخطر.
- ….، هذا قدرنا إن أردنا أن نعيش “معا”، لابد أن نرى “معا”.
- هل تعنى أنه لا حياة إلا مع هذا الذى تسميه علاجا؟.
- لا مفر من المخاطرة تحت أى اسم.
- عبد السلام.
- نعم.
- أنت تلعب بالنار.
- اللعب بالنار أهون من الحياة فيها.
- 6 -
خيبت ظنى يا رجل رغم أنى صادقة فى كل مخاوفى. أمـلت أن تخاف أكثر لأستردك ونعود لبيتنا. عينى عليك يا بسمة ياقطعة من قلبى. كيف ستتزوجين لو أحببت كل الناس مثما يقولون؟ كيف ستجدين من يتحمل رؤية كل ما رأيت؟ بدرى عليك يا ابنتى، وأنت يا ملكة ياابنة مناع، كم أحسدك على هذا الهدوء وهذه الثقة. أنا التى أهرب وأراوغ. أتذكر مرة وأنسى عشرة لا أستطيع أن أطفئ ما بداخلى إذا ما تحرك، فمالك لا تتحرك فيك شعرة خوف، وغالى لا يكاد يرى إلا معك، من خلالك، تجلسين فى هدوء ثم تخرجينه من بين ثنايا صدرك وتضعينه على الكرسى، فيتحمس ويقول ويعيد وأنت لا تتحركين لأنك فى النهاية تضعينه فى مكانه بين ثنايا صدرك. اطمئنانك عليه يفوق طاقتى. ياليتنى مثلك. إذن ما قاومت المجئ هنا أبدا، سوف أتعلم منك هذا الجمود العظيم الذى تسمينه ثقة. سوف أتعلم من غريب الفرجة من بعيد. بعدها أستطيع أن أنتظر قرنا من الزمان. كل شئ ينتهى إذا انتظرنا بدرجة كافية.
أحلامى تقول غير هذا.
لا أستطيع الصبر. متى أستطيع التوقف عن التفكير فى كل ما يجرى؟ هل أترك الأمور تسير كما يريدون؟ هل يعرفون ما يريدون؟ هل أحاول أن أعرف أنا؟ هل ألعب الدور بنفسى بدلا من هذا الخوف الذى يتضاعف بالانتظار؟ يبدو أنه انتظار بلا نهاية.
أنا أخاف من هذا الرجل، إذا تركت نفسى التهمنى دون ضمان. أتبعثر بلا معالم.
عبد السلام مصر على الاستمرار، وأنا فشلت فى الصبر وفى الفرجة، الحوائط تقترب حتى لا تترك لى إلا هذه الفتحة التى يتسرب منها نور غامض لا أعرف ماذا يضئ. لم أعـد أستطيع الفكاك؟ ماذا أستطيع أن أفعل؟ ماذا نستطيع أن نفعل؟.
فى الأول كنت أشفق عليك يا بسمة. الآن، أنا أطلب منك العون كأنى صديقتك الصغرى. أليس هذا هو الجنون ذاته؟.
لا أكاد أذكر “كيف” ولكن الآمال عادت إلى الظهور وكأنها لم تمت أبدا. أنا لا أجرؤ على مواجهتها. كيف تغروننى أيها المجانين أن أبدأ من جديد؟ أن آمل من جديد؟ كان الشباب أقوى، والعالم أرحب ومع ذلك لم نفعل شيئا. ثم آتى بعد هذه السن لأحاول من جديد؟ إلحقينى يابسمة. إعمليها أنت بدلا منى إن كنت شاطرة.
دعونى لأولادى وبيتى. صرت أشك أنى أستطيع الرجوع الآن إلى عشى الدافئ المحاط بالخدر والنسيان. بدأت أسمع فيه حفيفا ما، وأخشى أن يكون دبيب الهوام.
إبراهيم الطيب، ملامحه تبعث الطمأنينه فى كـلى. أنتهز الفرصة. أريد أن أعرف حقيقة مشاعرى نحوه، وربما أحس عبد السلام بالتهديد.
- إبراهيم.
- نعم.
- أنا خائفة.
- طبعا.
- هل تعرف ماذايجرى هنا؟.
- نعم.
- إبراهيم، لا تبد واثقا هكذا وإلا حسبتك مثل ملكة مناع.
- هذا طريق أعرفه.
- من أين عرفته؟.
- من داخلى.
- يا بختك.
- لا بخت ولا يحزنون.
- إذا كان داخلك بهذا الوضوح، لماذا أنت هنا؟.
- الوحدة صعبة. لست إلـها.
- هل ستبقى هنا إلى الأبد؟.
- حتى أكسرها، أو أكف عن الخوف منها، أو الاحتماء بها.
- كلامك صعب، ولكنه على أى حال ساعدنى على خوفى.
- لا تخافى من خوفك.
- يعنى أخاف؟.
- طبعا.
- إن الأمر يخصك يا إبراهيم.
- لا يخصنى وحدى.
- وكيف عرفت؟.
- وصلنى.
-أنا أحبك.
- وأنا أيضا.
- يا نهار أسود.
- ليس أسود من قلوب الحقد.
- أنا أحبك بكل ما يترتب على ذلك.
- وزوجك؟.
- أحيانا أحبه هنا: وأشاجره بقية الأسبوع.
- أحس أن حبك له “هنا” مثل حبك لى؟.
-.. تقريبا.. ولكن ماذا تريد أن تقول.
- لماذا الخوف إذن؟.
- أكاد لا أفهمك.
- بل تفهمينى أكثر من تصورك.
- حرام هذا كله.
- الكذب هو الحرام الأوحد.
- ضاقت الحلقة ولا مفر من المواجهة.
- 7 -
- ماذا تريد منى يا عبد السلام.
- أريدك معنا.. معى.
- ولكنى كنت معك فرفضت، وركبـنا العجز.
- لم نكن معا أبدا. لم يكن هناك سوانا. أنت وأنا. هذا ليس “معنا”.
- لا أفهم كلمة معنا هذه التى تصر على ترديدها هل سنأخذهم “معنا” إلى البيت؟.
- لا أعنى هؤلاء الناس بالذات، ولكن كل الناس.. أى ناس.
- هذا صعب يا عبد السلام. أنا أنهكت وعجزت حيلتى.
- هذا هو الطريق.
- الإنهاك والضياع؟.
-.. مازال العمر طويلا.
- هذا تخريف. نحن نقضيها أياما.
- فلتكن أياما مليئة بالحياة. أنا أنتظرك يا فردوس.
- كنت أحبك طول الوقت. حتى وأنت فى الأزمة.
- أعرف ذلك. لا أشكرك. عيب. كان حبا عمره الافتراضى قصير، مع أنه حقيقى.
- ربما تولد فى ما أخاف منه، تريدنى أن أجن مثلك حتى تصدق أنى أحبك.
- مازلت ألمح الحياة فيك بكل نبضها.
- كلام غير مفهوم، ولكنه يكاد يطرحنى أرضا.
- أرى فى داخلك بسمة ما زالت حية ترزق، فردوس. أنا، ابراهيم. الله. كل الناس.
- هذا كلام كبير. أكبر من احتمالى.
- هو الصدق نفسه.
- أعماقى تهتز، أشعر بالدوار.
…………
…………
…………
* * *
فى تلك الليلة، حين حاولت الاستسلام كالعادة، اشتعل بى شئ آخر، ليست شعلة، شعور يقظ يتحفز، نشوة تغمر كل كيانى، بعثت فى الحياة حتى أحسست بها فى أظافر قدمى، لا يمكن أن أصف ما أنا به ولا أعتقد أنه وصف عبر التاريخ، عقلى، عقلى نام يقظا، لم يتخاصم مع جسمى هذه المرة، كالمأخوذة فى وعى كامل. أصعد قمة مجهولة، فى سهولة ويسر. أعضاء جديدة تنبت فى أحشائى، تتمطى مثل المارد الخارج من قمقم، تتجول فى خباياى جميعا، كائنات منقرضة تصحو وتقفز من المحيط إلى الأرض إلى عنان السماء، رقصت كل جوانحى رغم أن الخوف لم يتركنى. كان عبد السلام، طيبا مختلفا. أنا امرأة.. رجل.. الكون كله.. أنا لا شئ. أو كل شئ هذه المرة.. أول مرة.. لم أعد أحتمل. لم أعد أحتمل.
“إلحقنى يا عبد السلام، هذه المرة… المشاعر أكبر منى، ماذا فعلتم بى، شكرا…، عليكم اللعنة، دخلتها بالرغم منى. دخلتهابالرغم منى.. داخلى… داخلك..”.
لم يعد المجهول مجهولا.. ولا هو فى حاجة الآن لأن يكون معلوما. حسرة على الأيام الأخرى، أنا ملك يمينك يا عبد السلام منذ اليوم..أنت داخلى… وأنا فيك… الحمد لله… هو حلو.. وأنا حلوة، وأنت… فليعش الكل.. تحيا الحرية… الله أكبر.
- 8 -
بالرغم من كل شئ فأنا ما زلت أعيش نشوتى معظم الوقت، أرقص وأنا أمشى، أغنى وأنا أتكلم، أريد أن أذهب إلى كل الناس أحكى لهم عن معنى الحياة وفضل الأطباء الذين هم ليسوا أطباء، فضلهم على البشر والجنس. لا يكدرنى إلا التغيـر الذى طرأ على عبد السلام. لماذا لا يتقبل فرحتى هذه، أليس هذا ما كان يسعى إليه؟ حين كنت عجوزا يائسة كان هو فى إصراره لا يجارى، يقاوم عنادى ولا ييأس آبدا. وحين أصبحت طفلة سعيدة تغمرنى النشوة بلا حدود تراجع عن ثباته واهتز وتشكك. أنا لا أفهم شيئا من كل هذا. سيدى ومولاى وحبى، ماذا أفعل لك ردا لجميك، أريد أن أسعدك كما أعطيتنى فرصة هذه السعادة، أنا المريدة وأنت شيخى. أنت أخذت العهد على شيخك الطيب، عهدى أن أسعدك بلا تفكير أو هم. فما هو عهدك بالله عليك، لماذا هذا الشك والخوف والتردد.
- أليس هذا هو نهاية المطاف يا عبد السلام؟.
- بل ربما بدايته، إن استطعنا.
- لست أفهم ما تعنى.
- قلبى غير مطمئن.
- أما أنا.. فأسبح فى بحر الطمأنينة دون حركة ذراع.
- لا بد أن نكمل.
- شاطئ الأمان لا تلطمه الأمواج.. هل هناك بعد هذه النشوة شئ نكمله؟.
- أخاف أن نكتشف أنها بركة آسنة.. لا أشعر فيها بحركة موج أو هزة شراع.
- فأل الله ولا فألك.. متى تستغنى عن قلقك الأزلى.
- هناك خطأ ما.
- بضاعتى مغشوشة؟ أنا ما زلت أعيش النشوة الدائمة.
- قلبى ليس مطمئنا.. وأحلامى تؤكد خوفى.
- عارف بالله أنت؟ هذا الوسواس لا يتركك.
- عارف بنفسى.. وبالدنيا المؤلمة.
- تعالى نسعد بلا حسابات.
- يخيل إلى أنى عاجز عن ذلك، لا أتقن هذه اللعبة.
- ماذا هناك بعد ذلك، يكفينا هذا ولنبدأ معا فى بيتنا دون تدخل الآخرين.
- هذا هو الخطر ذاته.
- لا أميل إلى الذهاب ثانية.
- لا أحب أن أخدع نفسى.
- إذهب أنت وسأنتظرك دائما لأجعل من بيتنا الجنة بعينها.
- فى الأمر خطأ ما.. لا بد من الاستمرار حتى نراه، وربما أمكن أن نصلحه.
- أنا لا أرى هذا الخطأ، ولا أجد مبررا للذهاب بعد ما حدث، ثم إنى خجلة من مشاعرى.. أخشى حين أهم بالكلام أن آخذ الجميع بالأحضان. بل أكثر من الأحضان.
-لا عليك.. لابد أن نعيش الخبرة حتى أعمق أعماقها.
- لا تعقد علينا الحياة الله يستر عرضك، ليس هناك أعماق أعمق مما كان.
- ما أسهل حلولك.
- ما أصعب وساوسك.
هذا هو عيبه، يخاف السعادة ولا يتمتع بالنعمة. لا يزال مصرا على الذهاب إلى العلاج، علاج من ماذا بعد كل هذا؟ ومع ذلك فسوف أذهب معه، وليغمر الجميع طوفان النشوة.
- 9 -
لماذا الرفض بعد ما تغيرت هكذا.، أخشى أن ينطفئ ما بى نتيجة لإصرارهم على الشك فى. عبد السلام ينكرنى وشيخه وبعض رفقته، ينظرون إلى أحيانا كأنى سارقة مع أنى أعلن سعادتى فى وضح النهار. هل على أن أدعى الشقاء حتى يصدقونى، حين كنت ست البيت العاقلة جرجرونى إلى هناك بأمر الطبيب، وحين شفيت. لم يهنئونى بالسلامة. لكن مم شفيت؟ هل كنت مريضة؟ أنا لم أكن مريضة ولكنى شفيت على كل حال. الوحيدة التى شاركتنى فرحتى هى بسمة الحلوة ابنتى الجميلة الغالية، حسرة عليها، ومع ذلك شاركتنى ما بى، أيضا: وإبراهيم الطيب. هو فرحان بى أيضا. مختار لطفى ينظر إلى بنهم لكنى لا أهتم، موقف الطبيب يشبه موقف عبد السلام. دعينا منهم يا بسمة وتعالى نرقص رقصة الفرح الطائر. أريد أن آخذك معى نتعرى على شاطئ بحيرة، نصفق بأجنحتنا مع الأوز، نطير فى سمائها كالنقرس، ثم نعود إلى شاطئها. أقف أنا على كتف عبد السلام، ثم أطويه تحت جناحى، وسوف تجدين أنت أيضا من تفعلين ذلك، وأجمل منه، معه. مهما رفضتم ما بى فسوف أظل أسبح فى هذه البحيرة الآمنة. هذا حقى مقابل ألمى طوال السنين، ليس من الضرورى أن أصارع الأمواج حتى أتعلم العوم، أنا أرفض رفضكم، ليس من حق أحد يعكر على حياتى بعد ما استسلمت لفرحتى، لجسدى، وخلاص.
* * *
-.. من يضمن الاستمرار يا فردوس ونحن ما زلنا على الأرض؟.
- لا حاجة للضمان، ألا تقولون أن الآن هو “الأبد”.
-..أنت تستعملين ذلك للراحة والتوقف.
- تفسيراتك تشوه كل شئ.
- والناس؟ الناس يا فردوس؟.
- إياك أن تستعمل حكاية الناس هذه لتبرر هربك الأزلى من السعادة، ما للناس؟. الطريق معروف ومن أراد أن يسعد. فليسعد.
- نسيت يا فردوس.
- أنا لم أنس شيئا. أنا لم أتذكر حتى أنسى، وحتى لو..، فلابد للإنسان أن ينسى. ما فائدة التذكرة بالألم مادمت قد دفعت نصيبى منه، ثم استلمت المقابل.
-لا أنكر عليك ما بك، ولكن لابد لـلحم من عظام حتى يصبح كائنا.. له معالم.
- نعم. ولكن هناك من الكائنات الحية ما لا عظام لها.
- عمرها قصير.
- أحسن. ماذا تريد منى؟.
- أين أنت؟ أكاد لا أرى داخلك، كأنه انقلب إلى الخارج جميعه فلم يعد هناك جوهر داخلى. ليس للإنسان كيان إلا بالحفاظ على أعماقه.
- أكاد لا أفهم كلامك مثل زمان.
- هكذا؟.. على أى حال: عدم فهمك أقرب إلى من حلـك السهل.
- ماذا تريد أن تقول؟.
- أحاول أن أكون صادقا.
- إبراهيم الطيب صادق أيضا ولكنى أحس أنه يقبلنى هكذا، ومختار لطفى يريدنى ويشتهينى. هكذا تقول نظراته طول الوقت، وبسمة سعيدة بى.
-ليس تماما.
- ما هذا الذى هو ليس تماما؟ هذه شكوكك.. تريدنى كما تحب، وفى الحدود التى ترسمها أنت.
- أعيد النظر فى أشياء كثيرة.
- لا تقلق.. فما زلت أنت حبى وسيدى.
- بهذا تتحقق مخاوفى أكثر.
- كيف أثبت لك أنى حية؟ وسعيدة؟.
- لو كنت كذلك، لا طمأننت بصحبتك إلى ما لا نهاية….. ولكن..
- جرب. هأنذا.
- لا يمكن الاطمئنان إلى إنسان بلا أعماق.
- أمرك عجيب يا أخى.. من أين أشترى لى أعماقا حتى أعجبك؟.
- إبحثى عن السؤال الذى ليس له جواب، وستجدينه فى أعماقك.. ولن تنسين الناس.
- سعادتى أجابت على كل الأسئلة فى لحظة.
- هذه مصيبة المصائب. فى لحظة ! ! ! ؟.
- إذا كان الأمر هكذا مصيبة كما تقول. فالبركة فيك وفى صاحبك.
- لم تتحملى الحمل والولادة.
- عندى ثلاثة، وأنا رابعتهم.
- ياليتك عرفت كيف يولد الإنسان من جديد، كيف يلد نفسه مرة ومرات فى هذا العالم الطاحن المطحون.
- ماذا تريد الآن؟.
- نبدأ كل يوم من جديد.
-.. سورة هى لن تنتهى !!.
-.. ينبغى ألا ننساهم أبدا.
- من؟.
- الناس.
- هذا هو النكد بعينه.
- لاضمان للاستمرار إلا بهم.
- نعتمد عليهم؟ لنهرب من أنفسنا كما تقول.
- يختبروننا ونختبرهم. لا مفر من المشاركة طول الوقت.
- لماذا لا تشاركنى إذن؟ ألست ناسا؟ لماذا أعتبرك أنا ناسى وأحاول أن أشاركك.
- أنا أحد الناس،… لست بديلا عن الناس.
- إبحث فى خوفك من الحياة ولا تستعمل ألفاظا كبيرة، أليس هذا بعض ما علــمتونى إياه؟.
- لا أنكر خوفى، ولكنى أعرف ما وراء اختزال الألم.
- كفانى ألما.
- لا تنزعجى منه فداخل أعمق نبضة فيه.. ستجدين الحياة.
- سأحاول بطريقتى.
- ياليت.
-10 -
أخرجت شهادة الليسانس من بين أكوام الخزين، عدت إلى العمل مدرسة إعدادى. لم يعد أمامى اختيار. التراجع صعب، والتوقف مستحيل. الحلقة تضيق أواصل طريقى بنفسى، لا أنكر الفضل لكنه طريقى أنا. أقرأ التاريخ بطعم آخر، أبحث عن تجربة مماثلة، تتراءى أمامى ملامحها فى فجر كل ثورة، ولكنها تختفى سريعا حتى أيأس مما نحن فيه. انزعج عبد السلام فى أول الأمر من استقلالى ولكننا نتقارب بشكل أهدأ. وإن كان أبطأ.
أتساءل: هل كتب علينا أن نكرر نفس الخطوات: اليأس: الأمل: المحاولة: النجاح: اليأس: الأمل: المحاولة:…، وإلى متى؟ لا أحتمل طول التساؤل فى أغلب الأحيان، ولا أستطيع النسيان.
لا يخفف الصعب إلا استحالة البديل.
* * *
الفصل الثانى
غريب الأناضولى
هذا شئ آخر..
لم أكن فى يوم من الأيام أظن أن جارى عبد السلام هذا، ذلك الموظف المسالم الغبى، سيكون السبب فى أن اكتشف هذا الكنز فى جراب سحرى لهذا الحاوى العصرى الذى يسمى نفسه طبيبا. جراب يوحى أنه يحوى كل شئ، من غطاء الكوكاكولا الصدئ حتى خاتم سليمان. هذه المجموعة لا يجمعها شئ إلا اختلافها وإشاعة خبيثة تشوه مأساة وجودنا بإطلاق أسماء أمراض غريبة على مشاعر الناس، لكنها فرصة العمر، وسوف أتفرج بلا توقف. لو أننى قرأت مليون صفحة ما أدركت طرافة وعمق ما يجرى هنا. ما يطمئننى هو يقينى بأن صومعتى هى نهاية المطاف، قرون استشعارى تمارس نشاطها فى حيوية دافقة كنت قد نسيتها من زمان. هذا أكبر من أحلامى للعيش فى ناد للعراة أو جبلاية يجرى فيها التمثيل بلا نص مسبق. فى تجربتى السابقة كان هو فقط الطبيب وأنا المريض. كان على أن أشكو، أن أفسر، أن أحكى أن أعالج. أما هنا فأنا أستيطيع أن أتفرج دون أن أنبس بكلمة. تحصنت خلف حواجزى المانعة بكل ما يطمئننى إلى موقفى الثابت. من ذا يجرؤ أن يتخطى ألف حاجز وحاجز من الأسلاك الشائكة والخرسانة المسلحة بداخلى. أضحك فى نفسى حين يحاول أحدهم الاقتراب منى. أكسبـتـنى صومعتى مناعة ضد الاقتحام كما أكسبتنى عضلة عقلى النشطة مناعة ضد الكسر. أصبحت مثل ساعات سويسرا المضمونة. موجات نظراتهم قصيرة تسقط عند قدمى بعجزها وترددها، لا أخشى إلا شيخهم الأكبر. أعلم كيف أحمى نفسى من محاولاته. مازلت على البر عواما.. وسوف أظل على البر أبدا، هذا هو موقعى الثابت ولكنى سوف أحضر بانتظام حتى لو اضطررت إلى التظاهر بالمشاركة فى النقاش وتبادل لعبة الإحساس أحيانا.
رائعة هذه اللعبة: الحياة فى أنبوبة اختبار، يجتمع عدد من الناس فى عيادة طبيب، ويجربون أنواع العلاقات المختلفة، وكأنها معادلات كيميائية، تكنولوجيا الحب، والباشمهندس يحذق ضبط العدادات وتزييت القلوب، تدريبات المساء فى الإحساس بالشفاء ; أتصور هذا الرجل المخدوع وهو يكتب النسخة العصرية لتذكرة داود تذكرة عبد الحكيم نور الدين، فى هداية المحبين، إلى طريق اليقين.أجلس بالساعات بعد ما أنصرف، استرجع ما كان وأكاد أهلك على نفسى من الضحك. منذ سنين لم أضحك هذا الضحك. أثناء جلسة تحضير الأوهام ألبس مسوح الجد وأطرد عن ذاكراتى أى مقارنات بحركات فؤاد المهندس أو عبد المنعم مدبولى، أحيانا أخاف أن يكتشفنى أحدهم وأنا أتفرج عليهم، وخاصة شيخهم المخدوع. ربما هددنى حينئذ بالطرد أو العلاج. سوف أستمر فى هذه اللعبة بلا انقطاع. سوف أراوغ نظراته، وإن كنت على يقين أنه لا يدرك أبدا حقيقة ما يجرى، هو لا يرى إلا ما يتصور، وهو يسترزق فى جميع الأحوال.
مازال منظر فردوس المسكينة فى آخر جلسة يؤكد روعة الوهم الطبى الحديث. كانت كالفأر المذعور وهى تتحدث عن حبها لكل الناس: وتخص بالذكر السيد ابراهيم على سبيل المثال لا الحصر وتفضلوا سيادتكم بقبول فائق المحبة والشفاء. صاحبنا عبد السلام يتظاهر بالموافقة وداخله يرتعد خوفا من أن تفتح القطة عيونها دون استئذان، أو أن يذهب بصرها أبعد من حساباته الغبية.، تعجبت أول مرة حين نجح أن يحضرها للعلاج. ماذنبها هذه السيدة الطيبة؟ جارتى البلهاء؟ ماذنبها حتى تضطر لسماع هذا اللغو وهى غاية اهتمامها حلة مسقعة؟ لماذا يفرض عليها أوهامه التفاؤلية بإمكانية الحياة. لقد استجبت أنا لدعوته لأنى وحيد ولأنه سبق لى أن طرقت أبواب العلاج. أنا لا أعرف أين أقضى وقتى. حين يرهقنى البحث عن نظرية تائهة بين سطور مغمورة علها تنقذ العالم من الضلال، أحاول الهرب من سواد الكلمات إلى سواد الناس. أما هذه السيدة فأنا مارأيتها قط من نافذتى إلا وهى خارجة من المطبخ أو ذاهبة إليه حتى أنى صعقت حين عرفت أنها تحمل ليسانسا فى التاريخ. عرفت السعادة يوما على وجهها حين لقيتها مصادفة على الباب تستقبل صاجات كعك العيد ووجهها معفر بالدقيق حتى بدا خداها الموردان فى حالة من البياض المتحفز، يلوح من بين ثناياه بريق عينيها اللامعتين بفرحة الأطفال مثل شعاع الشمس من وراء سحاب ناصح ساعة الأصيل. هذه هى سعادتها الحقيقية يا عبد السلام افندى، ولكنك مثل المقطف، سمعت كلام ذلك الرجل الأبله وأحضرتها تتعلم الحب. أى حب يا رجل؟. يبدو يا حاج عبد السلام أنها سوف تتقن الصنعة أكثر من تصوراتك، وربما عم الخير الجميع، والجار أولى بالشفعة.
حين تفتحت أكمامها بيننا – حسب التعليمات – عرفت ذلك الشئ المثير فى تركيبها الأنثوى الحار وخفت عليك يا عبده يا جارى العزيز. ويحك. من أين لك بالصواريخ جو – جو؟ كيف ستلحق بها إذا حلقت هى فى سابع سماء، خاصة وأن جناحيها ينموان بسرعة أكبر من تصوراتك؟ لا أستطيع أن أنكر أنها تغيرت وإن كنت لا أعرف إلى أين. جمعنا الأتوبيس يوما ولم تكن أنت هناك يا عبد السلام. تعجبت إذ بدأتنى هى بالحديث.
- وأنت يا غريب افندى؟… سلامتك.
- لا أبدا، عبد السلام هو الذى أغرانى بالمجئ.
- ظننت العكس.
- ليس بى شئ على أى حال.
- ولماذا طاوعته؟.
- العلم بالشئ ولا الجهل به.
- ولكنك لا تتغير أبدا، فلماذا الغرامات.
- ومن قال إنى أريد أن أتغير، أما عن الغرامة فهنا أرخص من مسارح القطاع الخاص.
- لم أكن أعرف أن دمك خفيف هكذا.
-……….
- ولا أنك سريع الخجل، هكذا.
- لا شك أنك تغيرت يا فردوس هانم.
- ومع ذلك يقولون أنه ليس هذا هو المطلوب.
- لابد أن يقولوا ذلك. المهم أن تعرفى من الذى يطلب ماذا… ولماذا….
- لا أستطيع أن أحسب مثل هذه الحسبة ولا أن أرسم خطة دون إدخال عبد السلام فيها.
-…. رجل محظوظ.
- تحقد عليه وأنت الذى ترفض النعمة.
- فردوس هانم !!!!.
- أنت حر.
- أنت لا تعرفيننى.
- يقولون هنا أن كل واحد مسؤول عما هو فيه.
- كلام.
- هذا ما أفهمه من تصرفك.
- تلميذة مجتهدة… لهذا تتغيرين بسرعة.
- سأقولها حتى ولو جرحتك: أنا أشفق عليك من كل قلبى.
رفصتـنى البقرة الرقطاء بلا إنذار.
استعدت توازنى وصعدت فوقها درجتين لأنظر إليها من أعلى. “ما هى إلا ذبابة حقيرة تطن حوالى وهى تردد مالا تعى”.
* * *
هل أكف عن الذهاب وأكتفى بهذا القدر من الفرجة؟ أصبحت المسألة بالنسبة لى محفوظة: طلبات أو أوامر بالإحساس، وتشكيك فى العواطف الإنسانية المتاحة، ولا حقيقة إلا الفراغ والتبعية. أكاد أفهم الآن هذه اللعبة الخطيرة وخاصة بعد أن بدأت تقترب منى، حتى فردوس جارتنا البلهاء تتظاهر بالفهم وتحاول علاجى!! مازلت أذكر قول طبيبى السابق أنى حر، وأنه على أن أجد طريقى بنفسى. الشقاء والوحدة والحيرة واليأس هى أسس تركيبنا الإنسانى. أى محاولة للتكشيك فى ذلك هى تشويه لحقيقة الوجود البشرى الكئيب بلا معنى. العالم مقضى عليه بالفناء، ونحن نخدع أنفسنا حين نتصور أن لأى شئ معنى. ما يجرى هنا- للأسف – يحاول أن يجعل، عبثا، لكل شئ معنى. يحمل الألفاظ أكثر من احتمالها. الإنسان لم يخترع الألفاظ للتفاهم فقط ولكن لتحميه من التعبير عن عواطفه الفجة بطريقة صادقة تعرض حياته للخطر. الألفاظ هى الدرع الواقى من المشاعر المهددة بفقد الوعى، فلماذا يحاولون أن يحملوها كل هذه الشحنة من الإحساس والمسئولية وكأنهم يرهقونها حتى لا تعود تحمينا. لا أنكر أنى بدأت أخشى الاقتراب أكثر وأكثر، أعداد الذين يحاولون اختراقى تتزايد. حين يلتحم البعض بصدق – على ما يبدو – أخفى نفسى فى أفكارى ولا ينقذنى من المشاركة إلا إيمانى بجنون هذا الرجل. لم أعد آمن أحدا فيهم. أنا لم آمن لأحد أبدا. أحيانا أرتاح لكمال نعمان، أو عبد السميع الأشرم. الغيبوبة التى يغطان فيها تؤكد لى خدعة الحياة الكبرى. لم أصدق فى أول الأمر أن هذا هو كمال نعمان بلحمه ودمه. كيف يكون هذا الجالس معنا فى ذهول لا ينقطع هو هو ذلك الإنسان الشاعر الرسام الذى تحمل ألفاظه كل مأساة الإنسان وخفايا الطبيعة ومافوق السحاب؟ يخيل إلى أحيانا أنه يعمل فى المخابرات العامة، يحمل آلات التصوير السرية، ويخزن الأفلام للاستعمال الشخصى على الورق الحساس. ربما كان هذا هو مصدر هذه الروائع مما نقرأ له من شعر حلو. لا شئ يستحق أن يثيره هنا، وإن كانت عيناه تتذبذبان مثل مؤشر جهاز الاستقبال لضبط الموجات، حين أنسى نفسى، يثير فى مشاعرى الخاصة… ترى هل هناك سبيل إليه؟.
منظر عبد السميع وهو يحاول الانتباه يثير شفقتى بحق. أشعر أنه يحاول أن ينشل البحر بقدح قهوة مثقوب، ثقبه أكبر من محيط قاعه، فى مرة تجرأت على الحديث معه.
- أستاذ عبد السميع.
- نعم.
- لماذا تأتى إلى هنا؟.
- أمعائى.
- مالها؟.
- تقلص دائم. نصف وقتى منصرف إلى محاولة التخلص مما بها.
- وهل استشرت طبيبا باطنيا؟.
- هو الذى أرسلنى إلى هنا.
- وهل وجدت ضالتك هنا؟.
- أبدا.. مازال الأمر كما ترى.
- فلماذا تحضر؟.
- أعجبتنى الطريقة، وعندى أمل فى الراحة.
-…. لم أسمعك تذكر أمعاءك أبدا أثناء العلاج.
- قبل مجيئك كنت أتحدث عن شكواى هذه كثيرا. نهرونى وقالوا إنى أهرب فى شكواى من نفسى، ورغم أنى لم أفهم شيئا، إلا أنى كففت عن الشكوى.
- وهل أنت موافق على هذه الطريقة؟.
- الطبيب أعلم بما يفعل.
- ولكن ما يفعله إنما يفعله فيك أنت.
- ربنا خلق الطب والمرض.
- أو ليس عندك حيرة، أو قلق، أو حزن؟.
- ولماذا كل هذا؟.
- هذه هى البضاعة التى تعرض هنا على قدر ما أرى وأسمع.
- وأنا مالى.
- لا شئ يشغلك من هذه الأمور؟.
- أبدا.. تديـنى يحمينى من كل شر.
- هل يعطيك تدينك هذا إجابة على كل الأسئلة؟.
- طبعا.
- وكيف تتحمل هذه الانفعالات والانفجارات من حولك؟.
-أشفق عليهم واستغفر الله العظيم من الكفر والضلال.
-….هم يتخطون الحدود كما ترى.
- ليس على المريض حرج.
- أستاذ عبد السميع.
- نعم.
- أدع لى.
- حاضر.
- يا أخينا، أنا أسخر منك. أحاول أن أثيرك.أنا لا أومن بهذا التسليم، ولا هذا الأمل، ولا شئ.
- يشفينا الله ويشفى المسلمين.
- خل بالك، هذه الدعوة لا تجوز على ملكة وغالى، فهم على غير الملة.
- رحمة الله واسعة، وهم من أهل الكتاب.
- استاذ عبد السميع !!.
- نعم.
- لا شئ.
ما هذا البله العظيم؟ أمان هذا أم تخدير عام؟ أهذه هى الحياة التى دعوتنى أن أطرق بابها يا عبد السلام أفندى يا مخرف؟ أكثر الله خيرك. رأيت مازاد إيمانى باليأس طريقا أوحد للحياة الصادقة.
* * *
كنت قد قررت أن تكون تلك المرة، هى آخر مرة، فما الذى جاء بى إلى هنا ثانية؟ اللعبة وحفظتها. أستطيع أن أجيب بدل أى واحد منهم نفس الإجابة وبنفس الألفاظ قبل أن ينطقها هو. خدعة هؤلاء البشر أكبر من كل ضلالات التاريخ. هذا الطبيب بائع أوهام يحطم وحدته بإملاء أفكاره، والذى يتنازل عن ذاته ويفقد وعيه يحصل على لقب صحيح بتقديرمتطور، وأحيانا بتقدير حر، وأحيانا يتقلد نيشان الببغاوية من الدرجة الأولى. الآخرون يبذلون قصارى جهدهم فى الحفاظ على معالمهم، لكنهم مازالوا يحضرون مثل حالاتى. ما الذى أتى بى اليوم بعد أن عرفت كل ما عرفت؟.
هذا الشيخ يدعى الطب، حلمت به الليلة لأول مرة، ظهر فى الحلم كحيوان الكنغر له كيس من لحم أمام بطنه. طلبت منه أن أختبئ فيه من نمور تتبعنى. أمسكنى من عنقى حتى كدت أختنق ووضعنى فيه بلا رحمة. فوجئت بثعبان يقبع داخله. لم يعضنى الثعبان لكن ملمسه الناعم وحركة جسده اللزجة الزاحفة على جسمى كانت أبشع من الموت ذاته. أنيابه ظلت تتراقص أمامى كألسنة اللهب دون أن تقترب منى. صحوت فزعا وحاولت أن أنسى الحلم دون جدوى.
هل أتجرأ وأحكى لكم عن…..؟ طبعا لن أحكى حرفا. أنا لا أحس بالأمان إلا مع ابراهيم الطيب أحيانا. قد أجد اهتماما عابرا فى نظرات عبد السلام. على الرغم من أن أيهما لا يردد إلا ما يقوله شيخ الحلقة. يعنى. أحس حواجزى الشائكة بطبقاتها الأسمنتية ترق بالرغم منى، لابد وأن اعترف بأنى موشك على الوقوع فيما أحذر منه طول حياتى. لا. لن يحدث هذا أبدا. أنا عرفت طريقى إلى صومعة يأسى بعد عمر شقى رائع. لن أتنازل عن ذاتى ولو كان الثمن هو الموت نفسه.
لماذا أتيت هذه المرة إذن؟ ولماذا أتيت أصلا؟.
الوجه الذى تراءى لى وأنا قادم فى الاتوبيس وانتظرت أن أراه فور حضورى هو وجه نجوى شعبان. جمال هذه المرأة يتحدانى فى كثير من الأحيان، مازالت غامضة بالنسبة لى. ثقافتها أكبر من وظيفتها بمطار القاهرة. عنايتها بجسمها لا تتفق مع صدق أحاسيسها التى تفزعنى. لم أستطع أن أكتفى بالفرجه عليها. تحرك داخلى الجسدى وهى فى قمة انفعالها بالبكاء. إثارتى كانت من نوع آخر مثل أيام البلوغ الأولى. لم تكن دموع امرأة مسكينة أو مستعطفة. كانت دموعا مشعة بالقدرة والتقبل فى نفس الوقت.
لابد أن أعترف أن هذا الرجل يبدو لى أحيانا مثل الحاوى حين أفاجأ بخليط من المشاعر مما لم أعهد تجمعها معا حتى بين صفحات الكتب. لعلى حضرت اليوم من أجلها. لا أظن. أحيانا أشعر أنها تلعب نفس اللعبة السخيفة. تستدرجنى بالدلال والإثارة حتى الموت. ولكنها تفعل نفس الشئ مع الآخرين، هذه هى إضافات البدعة الجديدة: “حب الكل رغم الارتباط بواحد”. لا يقدر على القدرة إلا الله. لن أدخل السجن برجلى ولو كان فى الداخل جنة هى حوريتها وهذا الطبيب رضوانها.
فشلها الأول لا يعنى رفضها للعلاقات الامتلاكية. قد يعنى خيبتها فى إحكام الأقفال. لن يمتكلنى أحد. لا طبيب ولا امرأة، ولا رجل. إن كان ثمة حقيقة فيما يقال هنا فهى أنه لا يوجد حب بين أحد وأحد. هو احتياج ملتهم يتخفى وراء ألفاظ جديدة. يدعون وجود حب آخر يشمل الرجل والمرأة على حد سواء. عبث ما بعده عبث. يحاولون أن يخففوا من هول الجمود الذى نعيشه بالتلويح بالأمل فيما لا يكون. هذه الكلمة الحب سوف تنزع من القواميس ويكتب فى تاريخها أنها أكبر خدعة اخترعها الإنسان. على هذا الرجل أن يثبت لنا حقنا فى اليأس من كل شئ إن كان صادقا. إذن لآمنت به دون تردد. إنه لا يفعل شيئا إلا أن يلوح بأشياء لا وجود لها وهو يحطم الأصنام جميعا حتى لا يبقى إلا صنمه هو، وقرآنه هو. يسمى صنمه الصحة كما يسمى قرآنه التطور.
بالله عليك يا عبد السلام تسأل فردوس عن فائدة هذا الكلام فى صناعة حلة المسقعة أو شطف غيار العيال. حين كنت استغرق فى القراءة كنت أستطيع أن أتصور هذا الحب الذى يحكون عنه، الانسان أخ للانسان فى كل مكان. يمكن أن تصنع من هذه الألفاظ بيت شعر سخيف، أو تضعها نصيحة فى خطبة جمعة فاترة، أو تعلقها على لافتة فى استقبال رئيس دولة كذاب. أما أن تحاول أن تجسد هذا الكلام لحما ودما فأنت تبيع الوهم. لا مانع من أن تحلم بأن يحب الإنسان الإنسان، ولكن “عادلا” لا يحب “سعادا”، فماذا تريدين منى يانجوى ياشعبان؟.
- هل قررت شيئا يا غريب؟.
- ماذا تعنين على وجه التحديد يا نجوى؟.
- أراك هذه الأيام لا تستطيع أن تحكم تماسكك.
- قرارى قديم ولا قوة فى الدنيا تستطيع أن تغيره.
- القرار يتغير أحيانا من خلف ظهورنا، ونحن لا نختار إلا الفرصة التى تسمح له بالظهور.
- تعلمتم جميعا الحكمة فى مدرسة نور الدين التجريبية، حتى فردوس جارتنا التوى لسانها، والذى كان قد كان.
- لماذا تـرجع كل شئ إليه؟.
- لأن الجمل والألفاظ، وأحيانا تعبيرات الوجه تتشابه بشكل مزعج.
- خلقنا الله من نفس واحدة.
- وخلق منها زوجها ليسكن إليها!!. أليس كذلك؟.
- خوفـك يصور لك أن المصائد تتربص بك طول الوقت.
- أنا ملـك مملكتى.
- إن كان لك مملكة.
- هى ذاتى بلا زيادة ولا نقصان.
- توقفت تماما.
- أقف بطريقتى، وأمشى على مزاجى.
- محلك سر، على شرط ألا يتغير قرارك.
- طبعا.
- هل أنت سعيد بهذا؟.
- كفى خداعا يا نجوى، التلويح بالسعادة هو المخدر الحديث، والأطباء الأرزقية يحسنون استعماله كما ترين.
- وما البديل؟.
- إعلان اليأس التام.
- هل هذا هو قرارك؟.
- تماما.
- لماذا تخاف الأمل؟.
- لأنى عاقل. تعلمت من تجاربى المرة. طلقت الألفاظ الفارغة من حياتى. لم أعد أحتاج إلى الكذب حتى ولو غلفته المصطلحات الحديثة، أو وزعوه بالبطاقات فى عيادات الأطباء.
- بغير الرجاء لا نعيش.
- الواقع العظيم يقول: لا جدوى أصلا.
- تقترح إلغاء الأمل من حياتنا بقرار رسمى.
- الخدمة الحقيقية التى يمكن أن يقدمها هؤلاء الأطباء إن صدقوا مع أنفسهم هو أن يعلنوا فشلهم. أن يصدروا مرسوما طبيا يسحب الآمال جميعا. حينئذ يعيش الناس فى الواقع، ويسعون فى بله إلى اللاشئ مثل أجدادهم وأبناء عمومتهم من الفيلة أو النمل الأبيض.
- حياة الإنسان طاحنة، ووعيه بها مرعب.
- هذا المرسوم، الذى أقترحه بإعلان اليأس الشامل، سيبطل مفعول الوعى الغبى، سيوقف الجرى وراء المستحيل.
- ونستسلم للسحق والقهر؟.
- حين تدوسين النمل بحذائك مصادفة لا تتوقف بقية المجموعة عن جر لقمة العيش إلى جحرها بلا حركات ميلودرامية، ولا هرب فى المستحيل، وبهذا تحافظ على نفسها من الانقراض.
- بشع.. بشع.. بشع.
- صدقينى يا نجوى.
- بشع وكئيب.
- الآن تقتربين من حقيقة الحياة.
- مرارتك سوداء.. حتى لأكاد أيأس.
- الآن يصبح للعلاج معنى، هيا بنا للجلسة.
* * *
انتصارى هو الهزيمة ذاتها.
كنت أتمنى ألا تقتنع نجوى بحرف مما قلته لها. حين استسلمت ليأسى بدأ اهتزازى، لو يئس كل من حولك حتى لو كنت أنت السبب فى يأسهم فإن أملا ما ينبعث فى داخلك دون إذن منك، فتتحمل مصيبتك وحدك من جديد. المشلكة هى فى تفجر الأمل حين ترى اليأس بحجمه الحقيقى، ذلك الأمل الذى تدب فيه الحياة لحظة أن توقن بتمام اختفائه.
دخلت إليهم مهتزا تماما حتى بدا للجميع أنى غير متمالك..
* * *
(………..………..………..………..………..)
* * *
كيف حدث ذلك؟.
كيف سمحت لنفسى أن أتنازل عن وعيى دون حساب؟.
كيف بكيت فى حضن إبراهيم الطيب حتى خيل إلى أننى انتقلت إلى العالم الآخر من فرط الأمان والإذعان؟ كيف أحببت ذلك الطبيب الذى كرست كل فكرى ومشاعرى للنيل منه وفقس خداعه؟ كيف تخيلت أن الدنيا بخير حتى تفجر الأمل فى كيانى وكأنه يهبط من شلال لا ينقطع؟ كيف تمنيت أن أرضع من ثدى فردوس وهى منحية على فى حنان غامر؟ كيف نسيت نفسى؟ هل كان دهرا أم جزءا من ثانية؟ كيف أحسست بحلاوة الشهيق والزفير؟ كيف شعرت بقسمات وجهى وأنا أبتسم؟ وأنا أتكلم؟ ليس بكاء، فما هذه الدموع تتدحرج حباتها على وجهى وكأنها الماء المقدس يغسلنى فتختفى الشكوك التى تراكمت طوال هذه السنين؟ كيف انبعثت من جلدى أشعة دافئة لتذيب جبل جليد اليأس المتراكم؟ كيف أحاطاتنى أيديهم حتى خيل إلى أنها اختطلت بعضها ببعض، وتكاثرت، فانقلبت ناسا تتتكاثر حتى امتلأت الأرض بالعالم الطيبين؟ كل هذا لم يستغرق سوى ثوان قليلة… هى الدهر كله.
أرفض كل ماحدث.
السبب فى ما حدث، فيما لم يحدث، هو ذلك الفلاح الجسيم إبراهيم الطيب، نهر الحياة ينساب من ملامحه الضخمة بلا حساب. يده التى كأنها قدت من جبل تقطر حنانا وثقة. لم يكد يرانى مهتزا من استسلام نجوى ليأسى حتى انقض على يغمرنى بهذا الشئ الرائع الذى يسمى أحيانا الحب مع أنه أكبر من أى اسم. مازلت أذكر كيف انفجرت فى النشيج دون بكاء فور سؤالى عن إحساس ابراهيم نحوى وعن قدرتى على إظهار ضعفى. لم أكن قد استجمعت حذرى بدرجة كافية. كان دبيب الأمل يشوش فكرى. اختلت حساباتى. لم أتصور أنه يمكن أن أتبعثر هكذا أمام غمر اقتراب صادق. لم تثر مشاعرى الأخرى وأنا فى حضنه. أين ذهبت وهى سجنى ومعبدى فى نفس الوقت؟ كان مجرد تصورى أننى بين ذراعى رجل فحل قادر مقتحم يذهب بى إلى سابع أرض. أين ذهب الخجل من مشاعرى الخاصة والخوف من كشفها؟ بل أين هى أصلا؟.
كانت نجوى مثل إبراهيم مثل إصلاح مثل عبد الحكيم. كنت رجلا وامرأة بلا خجل ولا تشويه.
* * *
كل همى الآن هو أن أمحو ما حدث، مادام قد حدث، وبأسرع مايمكن.
لو أنى انقطعت الآن عن الذهاب لظنوا بى الظنون وحسبونى خفت من الشفاء أو من الحب كما يزعمون دائما. لا. لا يكفى أن أنسى أنا ما حدث بل لابد أن ينسوه هم أيضا، بل أولا. ولكن كيف؟ أكبر خدعة خدعتها فى حياتى هى هذا الاستسلام القبيح. أين كنت أنا حينذاك؟ كيف تنازلت فجأة عن كل مكاسبى وأشيائى الصغيرة وانتصاراتى الصومعية ويأسى المبدع؟ أين كنت حين ألقيت تاريخى فى لحظة واحدة فى أرض لا أعرف أغوارها؟.
لن ألقى اللوم على ابراهيم أو نجوى، بل هو شيخهم الخبيث، لابد أنه وراء كل هذا، لابد أنه سلطهم على ليحبوننى، رغم أنفى. تكتيك مدبـر لأفقد ذاتى. هو متأكد أننى الوحيد الذى أعرف ألاعييبه ونواياه وكيف يخدعنا جميعا. هذا هو التفسير لتجنبه التفاعل معى مباشرة حتى الآن. كله من خلال المريدين الذين يدربهم على تجسيد الوهم. حب بالإكراه ثم: لاشئ.
* * *
هأنذا ملقى فى حجرتى. التراب يعلونى منذ أمس الأول مثلما تراكم على الكتب منذ شهور. كأنى أحدها. الهرب مما كان حتم لم يبق على تنفيذه إلا التوقيت. كل شئ انتهى إلى غير رجعة حتى لو اضطررت إلى الاستمرار معهم بعض الوقت. أين حبهم المزعوم إذا لم يستطع أن ينفض عنى حتى التراب؟ ماالفرق بين هذا الخداع وبين أى لعبة غرامية نذلة؟ ألفاظ عظيمة، لحظات مشتعلة بلهيب سريع الانطفاء. فالنسيان فالضياع. من منهم يفكر فى الآن؟.
حتى أنت يا كمال الذى لا تعرف ما تفعله بى مشاعرى نحوك !!.
فردوس هانم تتراءى لى عبر النافذة وهى تخرج من الحمام وعلى رأسها عمة تعلن انتصارا أنثويا من النوع الجديد. يدخل عبد السلام بعدها يغسل عن عقله الأفكار المتناقضة ليدعى كل منهما الصحة والسلامة بفضل جرعات الوهم واللذة المباحة. وأنا؟ أنا؟ ماذا؟ وكيف؟ كيف سمحت لنفسى أن يحدث كل هذا؟.
أمس سمعت جرس الباب يدق فى إلحاح، أحسست أنه عبد السلام. لم أفتح. أصر دون جدوى، انصرف فى خطوات مترددة. أين الحب إذن؟ لو كان يحبنى حقا، كان عليه أن يكسر الباب.
على قدر ما تمنيت أن يكسر الباب اعتزمت قتله لو فعلها.
* * *
كان لابد لى من هذه الإجازة من كل شئ حتى الأكل والشرب، ويا حبذا التنفس والإحساس. انسحاب تام إلى صومعتى. أتوقف عن كل شئ إلا عن التفكير واللوم حتى فى نومى. عضلة تفكيرى لا تهدأ وانتباهى يزداد حدة. كيف سمحت لنفسى؟ كيف استدرجتنى نفسى؟ كيف أمحو آثار العدوان؟ أبشع عدوان عرفه التاريخ أن يقتحم داخلك من لا تعرف دون إذن. فجأة لا تجد لذاتك معالما تـذكر لتصبح قطرة فى محيط دون إنذار أو تحذير. لا ألوم إلا نفسى. أنا الذى ذهبت برجلى، وأنا الذى أقنعت نجوى باليأس التام، وأنا الذى اهتززت حين صدقتنى فدب فى الأمل المتحدى. ثم أنا فى النهاية الذى فعلتها.
عندك. أنا أيضا الذى سأمحوها من ذاكرتهم ومن ذاكرتى تماما. سوف أذهب من جديد. سوف أستجمع كل قواى الدفاعية. تاريخ أجدادى فيه أروع وسائل الكر والفر والتمويه. سوف أستدعيه لأحافظ على نوعى الفريد. ليس كرا وفرا تماما. أشعر أننى أنحدر من أصل سلحفاوى. أن غطائى الحجرى هو مظلة حمايتى. كل ما على هو أن أسحب رأسى وأطرافى داخله فى الوقت المناسب. غطائى أصلب من الصلب. سوف تحمينى منهم. لم أعمل حساب أن الدفء يمكن أن يدخل من فتحاتى حتى لو اختبأت رأسى ولم أعد إلا حجرا مجزعا لا حراك به. خدعت فى قدرتى حتى نسيت ضرورة البيات الشتوى لاستعادة النشاط واستمرار الحياة. خايلنى دفء خادع فاستكنت له وكأن الشتاء لا يأتى أبدا. كيف حدث كل هذا من ورائى وأنا الذى كنت أحسب أنى لا أسمح لهمسة خبرة أن تمر بى دون المرور من ممر عقلى الحاسب المتربص؟.
* * *
هأنذا ملقى على ظهرى السلحفاوى المقوس، كلما حاولت أن أعدل نفسى تأرجحت كنصف الكرة دون جدوى فى استعادة توازنى بعودتى للارتكاز على سطحى الأملس. لم تنفعنى قدرتى على التقدم والتأخر برأسى المتلفت فى حذر.
لم ينفعنى بطئى الشديد ولا نفسى الطويل ولا حركتى الهادئة، كانت حاجتى للدفء والهواء المتجدد أكبر من حسابى لضرورة البيات والانسحاب فى الوقت المناسب. لابد من مراجعة كل دفاعاتى، لابد من البحث عن منفذ فى أجدادى ينقذنى من الخداع مرة ثانية، لا بد أن أرتقى إلى ما هو قنفذ ذو أشواك يستطيع أن يشهرها وهو يتكور على نفسه عند أول تهديد بالاقتراب.
* * *
أفكارى تجوب الأرض وتستعرض التاريخ، شللى تام وشكوكى حادة. تـدمى كرامتى وتحذرنى منهم ومن أى كائن حى.
المهم الآن: من يقلبنى على بطنى الأملس ثانية؟ تعبت من طول المحاولة بلا جدوى. لا شئ إلا التأرجح والدوار.
* * *
نظراتهم ترعبنى، ماذا ينتظرون منى بعد ذلك؟ أن أفعلها ثانية؟ أن أعيد اللقطة حتى يتأكدون من حسن الأداء وحذق المخرج، كلاكيت عواطف بشرية طازجة: سابع مرة. يا فرحتى بصندوق الدنيا الجديد. كنا زمان نتفرج على السفيرة عزيزة وهى شبه عارية بمليم واحد. هنا نشاهد عرض ستربتيز للتنازل عن الكرامة والشخصية والوعى قطعة قطعة. لعاب المخرج يسيل بشهوة الانتصار منفردا حين لا يبقى مرسوما إلا هو.
أنا أرفض نظرة الترحيب التى لقيتـنى بها اليوم يا غبى. لا تتمادى فى السعادة الشامتة وأنت تجتر تنازلى عن ذاتى تلك اللحظات. لن ترى هذه اللحظة ثانية حتى أموت. أنا هنا ثانية لأثبت لكم أنى مازلت غريب الأناضولى بلا زيادة ولا نقصان، وأنى ازددت اقتناعا بأن الوهم الذى تبيعه أيها التاجر الحاوى لا يستمر أكثر من ثوان، وأننى إن استطعت أن أحمى الآخرين من مثل هذه المسخرة فلسوف أفعل بلا تردد قبل أن ينقلبوا على ظهورهم دون حساب.
ماذا تفعل يا كمال لو استجبت له؟ أليس من الأسهل أن تستجيب لى أنا؟ آه لو علمت كم أتمنى لمسة من طرف أصابعك؟ هل تضمن أن تجمع نفسك من جديد لو تبعثرت منك تحت وهم هذا الذى يسمونه علاجا؟ هل ستعود مايسترو الألفاظ وسيد موسيقاها تقرض الشعر لتؤكد العدم؟ الآن فهمت معنى الغيبوبة التى تتواجد بها بيننا لتحمى كيانك من الاعتداء. الآن أستطيع أن أحترم معتقدات عبد السميع المقدسة لأنها أرحم من هذه المناورة الخطرة التى ليس لها اسم ولا معالم.. فلتتمسك بمعتقداتك يا عبد السميع مهما بدت لى بانية، فهى حماية لك من مناورات الحب وزعم الاقتراب. لترتكز عليها حتى ولو كانت دعائمها قد نخرها السوس. هى جزء من ذاتك على أى حال. أما ما تدعونا إليه أيها الحاوى المخادع فهى ذاتك أنت مهما صورتها على أنها الذات الكلية، أو اللاذات.
* * *
انطلقت مشاعرى الأخرى تذكرنى بنزواتى القديمة، أحس بها هذه المرة نحو إبراهيم وكمال بنفس العنف. سوف أتجنب إبراهيم تماما خوفا من تكرار المأساة، أما أنت يا كمال فالطريق إليك أسلم لو فهمت رغبتى فيك. رغبة تؤكد موتى حتى لو غمرتها اللذة المرعبة.
- كمال.
- نعم.
- أنا أقرأ شعرك من قديم وأحس فيه بصدقك وحساسيتك وقدرتك.
- شكرا. أصبح الآن فى حكم الماضى. خاصمنى القلم إلى غير رجعة.
- كمال!!.
- نعم.
– ما رأيك فيما حدث لى فى المرة السابقة؟.
- أنت حر.. هذا أنت.
- أنا أتكلم معك فيه لأنى أشعر أنك ترفضه أيضا.
- ليس لى رأى محدد تجاه أى شئ.
- رأيك لاذع فى شعرك، ويقولون مثل ذلك عن لوحاتك رغم أنى لا أفهم فيها شيئا، كثيرا ماسألت نفسى هل أنت حقا كمال نعمان.
- وكثيرا ما سألت نفسى نفس السؤال. هل أنا هو؟.
- أنت فنان بكل معنى الكلمة.
- ولكنى لا أعرف لهذه الكلمة معنى محددا كما تحاول أن تصورها.
- هذه طبيعة الفنان بلا شك.
- أنا ما عدت أعرف طبيعة محددة لما هو فنان. أنا هنا لأنى لا أعرف، كلكم تبدون لى وكأنكم تدركون شكواكم، أما أنا فمشكلتى الأولى أنى لا أعرف ماهى شكواى على وجه التحديد، إلا إن كان التوقف عن العمل أصبح مرضا حديثا.
- ألهذا أنت صامت متأمل هكذا طول الوقت؟.
- ليس عندى ماأقوله أصلا.
- ولماذا تحضر إلى هنا؟.
- ربما لأعرف ماذا أشكو منه.
-… حضور إلى اللعب أشبه.
- هذه هى الحقيقة.
- وهل هذا هو ما أتى بك إلى هنا معنا؟.
-طبعا. هل تظن أننى حضرت بناء عن إعلان فى الصحف عن وظائف مرضى خالية؟.
-….
-…
- ما رأيك فيه؟.
- حرفــى ماهر.
- ألا تخاف منه؟.
- لا.
- لماذا ؟.
- لكل حدوده.
- هل تعتقد أنه صادق فى مشاعره؟.
- غاية علمى أنه فنان أيضا، وإذا كانت مادتى هى الألفاظ والألوان فمادته البشر.
- أنت تحترم الألفاظ أكثر مما يحترم هو البشر.
- الفنان لا يعرف الاحترام، ولكنه يحاول الصدق.
- تدافع عنه.
- أقول لك إحساسى.
-… خبرتى تقول أن هذه لعبة خطرة.
- يبدو ذلك.
- ومع ذلك ستستمر فيها؟.
-.. أجد متعة حقيقية فى الحضور والتأمل.
- كثيرا ما يخيل لى أنك لست معنا، رغم أنك الوحيد الذى تثيرنى، الشئ الوحيد الذى استيقظ فى. وظل كذلك، هو ماكنت أخجل منه رغما عنى. كنت قد ألغيته بالنسيان والاستسلام للوحدة.
- ماذا تعنى؟.
- إحساسى الفج أصبح على السطح، وهو إحساس عنيف.
- ماذا تعنى؟.
- ما فائدة أن أقول لك ماذا أعنى وأنت بعيد هكذا؟.
- لا أفهم؟.
- هل تزرونى فى البيت نكمل الحديث..
- لا مانع.
مناعتك ياكمال تفوق الوصف، كنت أحسب أنى أقدركم على الفرجة. يبدو يا كمال أنك اعتدت أن تفرز شحناتك أولا بأول على الورق فلا تضطر إلى مغامرة التفاعل فالتعرى والتشقلب شخصيا. هذا هو أحسن مايقدمه الفن لوجودنا المهدد. هل أعاود الكتابة التى فشلت فيها قديما؟ لماذا كتفيت بالقراءة؟ أقنعت نفسى أنه لم يبق شئ يقال. لم أدرك ساعتها أن فائدة القول قد تكون لصاحبه أولا. ما علينا. أتبين الآن أنه حتى لو قلت كلاما معادا فقد يحفظنى ويثبت تماسكى. ماتت الأصالة وسكب الحماس على صفحات الكتب وطويت الصحف. رسم الأولون كل الصور. وصفوا كل المشاعر. حددوا كل الآمال. ولم يتحقق أى من ذلك. كنت أحسب أننى أستطيع أن أتفرج على الناس الذين هم هنا مثلما أتفرج على ما قاله السابقون دون جدوى. اختلف الأمر لكننى لن أستسلم. سوف أضاعف من حبك خطة للدفاع المنظم حتى يتم الانسحاب فى الظلام.
* * *
لماذا تخليت عنى ياكمال؟ دعوتك إلى بيتى فتركت الطبق الشهى وذهبت، ولما لقيتك تجاهلتنى كأنك لم تكن عندى بالأمس. لن أجرؤ على دعوتك ثانية. قد تصبح قصة. عرفت حدودك وعرفت مابى. لست أنت.
* * *
تعجبنى يا مختار وأحتقرك فى نفس الوقت. هربك أنجح منى كما يبدو أنه ألذ. قرون استشعارك تبحث عن الفريسة فى كل مكان ولكن شيئا ما يفشلك فى آخر لحظة. لو أنك وغد فقط لما جئت هنا. أتساءل كثيرا لماذا أنت هنا؟ ولماذا تواصل الحضور؟ وكأنك سوف تجد شيئا لا تعرفه؟ أحيانا أشعر أنك تتساءل معى عنك. لماذا لم تغنك شهوتك عما سواها؟ أستطيع أن أستنتج نجاحاتك. محروم أنا من هذه المغامرة وأتقمصك أحيانا لأتعرف عما ينقصنى، أفكر فيك أكثر. تزرونى صفية فأواجه بعجزى.
هل تعرف يا مختار أننى على قدر ما أعجب بك، أحتقرك؟.
* * *
لو كنت أعرف يا عبد السلام يا مشد حقيقة ما ينتظرنى هنا من خداع لقتلتك قبل أن تدعونى لمثل هذه الخبرة المهينة. ألعن اليوم الذى طرقت فيه بابى. كنت قبله أستاذا يعرف كل شئ، وكنت أنت تلميذا لم تحفظ حروف الهجاء بعد.أحيانا أضبطك الآن وكأنك تعايرنى بأستاذيتك لى. أضحك عليك وأنت تتصور أنك تسير على طريق الصدق والحياة. خيبتك قوية. الصدق والحياة؟ ما أغباكم جميعا، لولا أزمة المساكن لتركت لك البيت من بابه حتى لا أرى امتداد مسرحية الخداع بينك وبين السيدة حرمكم طول الوقت. يخنقنى منظر الصدق المزعوم بينكما حتى لأفكر فى الهجرة إلى القطب الشمالى هربا من هذه التمثيلية المعادة. كل الناس تعيش فى ستر مؤلم وهم لا يدعون ما تدعون. استسلامهم أشرف من كذبكم، خدعتكم ألفاظ الحاوى فتعلمت فردوس هانم القفز المتقطع مثل الغراب. تصابيها لا يخدعنى وهى تدعى التطور والصحة. أمعن النظر يا عبد السلام وسوف تتبين أنها صحوة الموت قرب سن اليأس وصاحبك يوهمك أنها الولادة من جديد أو البعث. يتحدث عن سنها باعتبار أنها سن النبوة. ماشاء الله ياستنا فردوس، جعلنا الله من بركاتك. لو صدق أنكما نجحتما، لا أعرف كيف، فأنا مهدد أكثر من أى شئ. لا أقبل الكذب ولا الاستسلام.أنا أعيش شرف الوحدة وصدق العجز. بودى لو انتقم من فعلتك يا عبد السلام بدعوتى إلى هذه الورطة. صبرك. سوف أنسحب أولا ثم أمضى بقية عمرى انتظر فشلك الذريع. ساعتها قد أمد لك يدى صادقا لأقنعك باليأس الصبور: راحتنا الحقيقية.
لو صدقت ما تحاولان إقناعى به لانزلقت إلى شباك نجوى شعبان، أنا مهتم بها وهى تغطى فخ الزوجية السعيد بالأوراق المتساقطة من شجرة “كنظام الصدق والحب”.
هل أستطيع أن أنقذها من عماها قبل فوات الأوان؟.
- 1 -
- أنت تعلمين يا نجوى أنى مهتم بك شخصيا.
-… ما المناسبة.
- نتحدث بشجاعة؟.
- ياليت.
- أريد أن أحدثك فيما يجرى هنا.
- ولماذا لا نتحدث أمامهم.
- أنا لا أخاف منهم، ولكنهم يثيرون جوا من المفروض واللامفروض، بحيث يصبح الكلام ذا طبع خاص، وقوانين محفوظه لا تسمح بأى صدق حقيقى.
- ماذا عندك؟.
- ليس عندى شئ.
- غريبة,.. وأنت؟.
- أنا أحذرك.
- ونفسك أنت؟ هل ترى أنها انتفعت بالتحذير؟.
- إياك أن تتصورى أنى انهرت ذلك اليوم، كان تمثيلا فى تمثيل.
- طول الوقت؟.
- يعنى.
- محاولة كذبك على نفسك محاولة خائبة، لكنك عنيد، وأنا أحبك.
يا نهار أسود، أصبحت مثل شحاذى السيدة، فردوس هانم وعذرتها وهى توزع كعك الرحمة والحنان بنفس الاسم، أما نجوى التى كنت أحترمها وأقدر شجاعتها فى تحمل مسئولية فشلها الأول فلم أتصورها وهى تمنح هى الأخرى فضلات العواطف المبتذلة لأمثالى ممن تتوسم فيهم غباء الجوع الجبان.
ماذا يحركنى فى الداخل؟.
هل انفلت منى الزمام حتى لم أعد أحسن الحساب؟ هذا كلامه هو بلا نقصان، انمحت شخصياتهم حتى لم يعد يصلح أن أكلم أحدا وحده، أصبحوا نسخة واحدة، لن يقبلونى إلا إذا أصبحت مثلهم. بعيدا عن شواربهم. استفدت من الخبرة السابقة رغم عنفها بما يفوق الوصف، علمتنى ألا أسمح لنفسى أن أغيب عنى ثانية واحدة، ولا نصف ثانية. لولاها لما أشفقت على الست نجوى هانم. مالهم بى؟ ليذهبوا جميعا إلى جنة شيخهم الموعودة، حلال عليهم. هم هنا وهناك سواء. مسوخ لا تستطيع أن تميز واحدا من الآخر. ما الذى جاء بى بين هؤلاء الناس فاقدى المعالم؟ هل هو انتحار آخر؟ حين ضجرت من ذاتى المتضخمة، لوح لى عبد السلام أنه يمكن التنازل عنها دون جنون أو ضياع. كنت متمسكا بها حتى أمسكت هى بى فكدت أختنق. حديث عبد السلام عن النفس الكلية وعن الذوبان فى المجموع وكيف يشبه الناس بعضهم بعضا صور لى أنه مسموح الحلم بما لا يكون. وهذه هى النتيجة: ورطة وسط مجموعة من الكائنات الهلامية بلا كيان. هل يكون هذا هو هدفى الخفى من مجيئى؟.
شخصيتى المنهكة أرهقتنى ولم تغن عنى شيئا، فما الذى أرعبنى حين فرطت فى وعيى، لحظة، جزءا من لحظة؟ أنا أعلم أنى كنت دائما لا أرى إلا رأيى. أقـنعونى بطريق ما أن آرائى ليست آرائى، أنها مفروضة على. سلبوا حق ملكيتى لها.. وحتى حين أقول نقيضا فأنا أمارس عكس ما فرضه أبى، وما فرضته الحكومة. سيان. ماذا تبقى لى إذن؟ كدت أصدقهم حتى أنى بدأت فى طريق البحث عن آرائى أنا. كلام يشبه الجد. حين فعلتها عرفت أى خدعة استدرجت إليها. خيبك الله يا عبد السلام، ما أسهل البحث فى الكتب وتصور مصائر الاحداث دون الدخول فيها. التاريخ يحوى كل ما تريد دون محاولة لاختبار الحياة من جديد هنا أو الآن. لعبة يحذقها صاحبنا حتى لا يتبقى لنا إلا اللحظة التى يتحكم هو فيها بأسلاكه غير المرئية. سوف تنتحر الثقافة ويتحلل التاريخ تحت أقدامكم وأنتم تقفزون فوق خبرات الانسان كالغربان يا جهلة. يفقدنا هذا الرجل الدجال ذواتنا لنصبح آنية شفافة يضع فيها سائله هو. لا أمان عندى إلا أن يتنازل هو عن ذاته أولا. يبدو أن هذا هو المستحيل. أحاط هذا الرجل نفسه بسياج من ادعاء الطب وحذق ألعاب الحواة.
لن أكون عليا ليكون هو معاوية يا عبد السلام يا أشعرى. أنت غيرى حتى لو استعدت أنت وزوجتك الجنة المفقودة. لن أتنازل عن ذاتى إلا لله الذى تزعمون، وهو ليس فى حسابى. لست أبلها أضرب فى الظلام، آلهتى هى ذاتى، وواقعنا الشقى، ووحدتى المقدسة، وليذهب كل ماعدا ذلك إلى الجحيم.
- 2 -
- اسمعى يا نجوى.
-….
- هل هناك أمل أن نجرب شيئا آخر؟.
- طبعا.
- هذه اللغة الجديدة قيد على مشاعرنا التلقائية.
- قلها يا غريب، هات ما عندك.
- تقولين أنك تحبينى.
- طبعا.
- لاداعى لـ “طبعا” هذه، أليس هذا ما يحذرنا شيخكم منه؟.
- يعنى. إسمع يا غريب، إذا بقيت على هذه الطريقة فدعنى أذهب. ليس معقولا أنى كلما نطقت بلفظ، نسبته له أو لأى أحد غيرى. ألا ترى مبلغ خوفك؟.
- أنا أرتاح لك يا نجوى.
-… وأنا أرفض ضياعك. لا تؤاخذنى، مع أنك أقنعتنى يوما بجدوى اليأس.
- جروحى قديمة يا نجوى ولا أمل فى نسيانها.
- ليس عندى ما أعدك به.
- لا أملك أن أكون الوحيد فى حياتك، ولا أستطيع.
- لا أفهمك.
- أريد أن أن أطمئن على قدرتك على تحمل مسئولية ذاتك، دون الاعتماد على آخر.
- لا سبيل للاطمئنان إلا بالتجربة.
- ليس معى الآن على الأقل.
- أنت ترفضنا جميعا، ترفض المجموعة من حيث المبدأ، فلماذا تحضر؟.
- لا أعنى المجموعة.
- من تعنى؟.
- أريد أن أطمئن إلى اعتمادك على نفسك.
- لست إلهة. وفشلك أنت فى الاعتماد على نفسك لا يبشر بخير.
- فشلى أفضل من نجاح زائف.
- كلامك غامض. أكاد لا أفهم منه شيئا.
- عندك حق. لا شئ يطمئن. خصوصا هذا.
-… هذا ماذا؟.
- لا فائدة إلا أن تكونى بجانبى دون شروط.
- إسمع ياغريب. إعرف أولا ماذا تريد، ثم تعال نتكلم.
- أريدك بلا زيادة ولا نقصان.
- لا ياشيخ.. !! وشروطك الخفية؟.
-تقلبينها علاجا كما علمك شيخك المبارك.
-تعود لنفس الحكاية. أنت لا تريد أن تتحمل مسئولية ما تقول، أو ما أقول.
- تاريخى يقول غير ذلك، لم يتحمل أحد عنى مسئوليتى أبدا.
-… فأنت الشقاء ذاته.
- هذا شأنى.
- وشأنى أيضا.
- ترجعين إلى الوصاية تحت ستار العواطف المستوردة.
- الله يلعن جبنك يا أخى.. حيرتنى.
- ليكن. أنا أعرف طريقى.
- نعم؟.. نعم؟.
-.. أحاول أن أعرفه على الأقل. دعينى فى حالى.
- أنت فى حالك طول الوقت.
* * *
ياحثالة المجانين.. مرة ثانية تتركينى يا كلبة، يا مغرورة، تريدين ذكـرا تلقين عليه اللوم كله، وفى نفس الوقت تتمتعين بالحديث عن خدعة الحرية والتطور، هوايتك المفضلة مثل كل بنات جنسك هى امتصاص الرجال ثم الإلقاء بنفاياتهم مثل مصاصة القصب، لولا أنى مازلت أقدر عنادك لكان لـى موقف آخر. عماك صور لك أن اهتمامى بك يمكن أن يذلنى، عندك حق. فقدت نفسى منذ سمحت لك أن تتفرجى عليها ذلك اليوم.
كيف أمحو ما كان؟.
كيف أترك لهم صورة أخرى، صورتى القديمة، صورتى الحقيقية؟.
كلما قررت أن أتوقف قفزت إلى صورتى المسحولة بغير معالم.
هل أمضى فلا يذكرونى إلا بها؟.
لم يعد يصلنى منهم الآن إلا شفقة خفية، أو استهانة صريحة.
- 3 -
هذا الحاوى المناور، هذا الشيخ الساحر، ماهى حكايته؟.
المصيبة أننى أحبه أحيانا، وأحيانا أخرى أشفق عليه، وفى معظم الأحيان أشك فيه وأخاف منه. هذه اللعبة أنا أعرفها جيدا. كنت أتصور أننى أنهيتها لصالحى مع أبى منذ سن مبكرة. لم أنجح فى ذلك إلا حين كفرت به، وكفرت بالله، فلم يعد على سلطان يوجهنى إلا ذاتى. من يومها وأنا أومن “بي” إيمانا كاملا، فتفجرت فى قدرات خارقة جعلتنى ذات مرة قرصانا يقتل موبى ديك بطعنة واحدة، ويقضم أنياب الفك المفترس ثم يقفز قبل أن يبتلعه.
ذات شطحة أخرى حكمت العالم سرا فترة من الزمن. كان حكما رائعا لم أظلم فيه إنسانا ولا حيوانا ولا طائرا، كان عالما. ساد فيه الأطفال وكانت الأعمار تسير بالمقلوب فيولد الإنسان عجوزا ويصغر حتى إذا ما بلغ عمر الطفل تولى منصب اللاعب الأول فى الدولة، وزعت الأرزاق بالعدل وزرعت البحر كما نبتت أشجار الفاكهة على سفوح جبال السحاب. كان ديوانى مفتوح على مصراعيه لكل الناس وكان رغم صغره يسعهم الناس جميعهم. لم يكن عندى حجاب ولا وزراء ولا مساعدين. كانت الأمور أبسط من كل ذلك. وحين استتبت الأحوال أحسست أنه لا معنى لسلطانى ولا حتى لوجودى، قررت أن أتنازل عن كل شئ لكننى لم أجد أحدا يصلح له إلا الله، وهو غير موجود. تراجعت حتى لا يفسد الناس من بعدى وقررت ألا أتنازل عن مملكتى حتى أجده ليتولاها بمعرفته ما دام يدعى أنه خلقها. وهو لم يأت ليتسلمها حتى الآن.
حين كنت أنزل إلى العالم الأدنى لم أكن أعرف المشى ولا الحديث باللغة السائدة، ومع ذلك كنت أواصل السعى لأرجع مثخنا بالجراح إثر الوقوع واللطمات، لم يتركوا فى موقعا إلا طعنوه. أرجع وجراحى تقطر دما، أحبك اللفافات حولها حتى لا يهتز كونى حيث كنت أعرف تماما كيف أن رعاياى كانوا فى أشد الحاجة إلى طول الوقت قويا قادرا على كل شئ. حذقت كيف أجدد جلدى باستمرار. حميت بذلك نفسى من الشفقة الشماتة. الخيط الذى نفعنى فى نسج الكيس الجلدى حولى الواحد تلو الآخر وجدته فى الكتب التى راحت تؤكد لى فشل كل من سبقونى. مجرد وجود هذا الكم الهائل من الكتب هو دليل على فشل البشر فى الوصول إلى شئ ذى بال، لو كانوا وجدوه ما كتبوه. ثم تطلع لى يا عبد السلام يا مشد فى آخر الزمان تلوح لى من جديد بمملكة العدل والأمان على الأرض الخراب هذه. لقد كنت مستعدا للهجرة إليها فى سابع سماء. لم يكن عندى مانع أن أصحب البلهاء من المتدينين وهم يحلمون بها فى الآخرة وسط أغلفة المجهول فى مكان ما بالكون السرى الغامض بعد الموت. لم أستطع. يا ليتنى ما كفرت أبدا. يا ليتنى ظللت أحلم مثلهم. تركت لهم جنتهم بعسلها ولبنها حيث كل الناس مثل كل الناس. لا أنا وجدت جنتى، ولا أنا رضيت بجنتهم.
* * *
لماذا حكيت لى يا عبد السلام عن تلك الجنة المسحورة البديلة المشفرة فى عيادة هذا الطبيب الأرزقى؟ لماذا لوحت لى بإمكان الحياة بشكل آخر؟ من حقك يا عبد السلام أن تحلم بما يرضيك وأن تجرجر زوجتك المصونة وراءك كما تحب، ولكن من حقى أنا أن أحافظ على ذاتى من سطوة شيخك الغامض المغرور وهو أكثر خوفا واهتزازا منى ومن أى واحد فيكم، يغرينا بالتنازل عن ذاتنا فى حين يتمسك هو بكل قطرة من ذاته، ألا ترى أن نفسه متضخمة فاغرة فاها تلتهم كل ما يلقى فيها من ضحايا الوحدة والألم. وتقول دائما هل من مزيد.
نفسى هى زادى وغايتى وشقائى. وعيى يقظ طول الوقت.. لن يتفجر ثانية إلا لحسابى. سأعاود صنع مملكتى أنا. أتحين الفرصة للانسحاب. سوف أظل يقظا طول الوقت حتى تستغرقون فى سباتكم، فأتسحب مشفقا عليكم.
* * *
- قبل أن ذهب أريد أن أحذرك يا نجوى.
-…. ولكن تذكر أننا نحبك.
- ألفاظكم أصبحت متشابهة… مثل السمك الميت فى حلقة روض الفرج. أشم لها رائحة لا تسرك.
- تلوح لى فى كل مرة، ثم تقطع أى حديث بهذه السخرية المرة.
- أنا أشفق عليك تماما. جاء دورى لأفتح “سبيلا” للشفقة مثلما كنت تفعلين معى.
-..إفعل ما يحافظ على تماسكك، هذا حقك.
- هذا الرجل يوزع حيرته الكبرى عليكم بالتساوى ويتفرج عليكم من أعلى.
- يجوز.. فماذا عندك بدلا من ذلك.
- حافظى على نفسك المحدودة المعالم، فلن يعيش أحد بالنيابة عنك.
- هل نجحت أنت أن تعمل بنصحيتك. لماذا جئت هنا ولماذا استمررت هذه المدة؟. أليس لأنك أنهكت من المحافظة على نفسك المحدودة المعالم.
-… كنت مخدوعا حين تصورت أن تنازلى عنها سوف يلحقنى بالذات الكبرى.
- لأنك لا تعترف بأن هناك احتمال لوجود ذات كبرى.
- تبينت أن الذات الوحيدة فى هذا الكون هى ذاتى أنا الكبرى.
- ماذا تركت لى إذن فى هذا الكون؟ بم تغرينى؟.
- لكل وحدته الخاصة به.. لا علاقة لها بالآخر مثل النجوم فى السماء..
- النجوم تسبح فى كون واحد وبنظام واحد فى فلك واحد.
- عبث تدعونه. عدم تحملنا مسئولية الاستقلال ترعبنا من التناثر حتى نخترع إلها مزعوما يجمعنا إلى الضياع فيه أو نحوه. كل واحد هو إله ذاته,لا أكثر.
- أربعة آلاف مليون إله على الأرض؟.
- ما المانع؟.
- منظر الآلهة وهى تتقاتل على لقمة العيش أو قطعة أرض أو خمسة تعريفة، يهلك من الضحك.
- الآلهة طول عمرها تتقاتل.الإنسان لم يصبه البله إلا حين قبل خدعة التوحيد. ألم تكن حياة آلهة الإغريق ذوى الاختصاصات الرائعة أغنى وأجمل. إله للعدل، وإله للجمال، وإله للحب، وحتى الشر كان عظيما وله إله رائع، ثم جاء الهرب الشمولى إلى شئ ليس كمثله شئ، ثم يأتى صاحبك هذايسميه الصحة ويصلى له بهذه الطقوس العلاجية. أسماء جديدة لغباء قديم.
- نحن لا نملك إلا السعى والمحاولة.
- هل هذا كلام يا نجوى؟.. هل هذه عيادة أو نوع جديد من المخدرات؟.
- الوعى يزداد والإحساس يستيقظ.
- ثم يتلاشى الجميع فى الجميع، وصاحبك يظل هو اليقظ الأوحد، يتحكم فى أسلاك لعبة الإحساس الموجه لتحريك الجميع نحوه بمنتهى الحرية، حريته هو، ولا مانع أن يسمى ذلك إيمانا أو صحة أو ما شئت.
- ليس بالضبط، التوجه الضام إلينا لا يمحونا. يمكن أن تسميه الإيمان إذا شئت، وهو ماينساب إلى الجميع فيجمعهم دون استئذان، ويفرقهم دون ضياع.
- تعتبرين تلاشى الكل فى الكل إيمانا.
- إفهمها كما تشاء.
-…. خبرتى مرعبة.
- لم تكملها.
-.. لن أتشوه بإرادتى.
- كفرك بكل شئ إلا نفسك، يبعدك عن أى احتمال آخر، وعن نفسك.
-……
-…..
- كيف أراك خارج المجموعة بعد انقطاعى.
- ربنا يسهل.
- أحب أن أتتبع ما يجرى، لم أتخلص من حب استطلاعى تماما، ولكنى لم أعد أحتمل المخاطرة.
– لا أستطيع خداعك بوعد لا أضمن الوفاء به.
- أنا أستطيع أن أحمى نفسى بنفسى.
-…، يعنى.
- ما أسخف كل شئ.
* * *
كل ما أتمناه هذه الأيام هو أن أنجح فى إقناعى بفقد الأمل. أنا يائس مثل البداية وأكثر، هذا الذى يطل على من الداخل وبلا مناسبة يشبه ما يسمونه الأمل. بضاعة لا أعرفها. كلما عاودنى هذا الهاتف بالرغم منى تذكرت مسخرة ذلك اليوم، حتى تقفز إلى عقلى فكرة الانتحار. لم أعد أطيق أى شئ يوحى إلى بالأمل أو يدعونى إلى الحياة. حتى زيارات صفية أصبحت عبئا ثقيلا يواجهنى بعجزى أكثر. أفكر فى التخلص منها بأى وسيلة، يخطر على بالى أن أواجهها مباشرة. أرفض شعورها بالواجب وأمقت تصورها حبها لى. أفكر فى مختار. هل أنا أنتقم من إصرارها على ملاحقتى، أو مساعدتى، أو حتى حبى. ينقبض قلبى كلما أحسست أنى ألعب معها لعبة خبيثة لا أعرف حقيقة أبعادها.
هذا السؤال الذى يحيرنى بين أن أعيش أو أموت هو الذى يدفعنى إلى قطع كل صلة يمكن أن تربطنى بالحياة، لماذا لصق هذا السؤال بالذات فى خلايا عقلى من بين كل ما شاهدت عندهم من قمامة؟ زرانى عبد السلام ليدعونى ثانية إلى معاودة الحضور ولكنى راوغته وحاولت أن أحطم كل آماله حتى يحل عنى. هو شخص عنيد يخدع نفسه وتخدعه زوجته، ما لى أنا به، بهما؟ هو السبب. قبل دعوته الأولى كنت متمتعا بأنى لا أعيش ولا أموت كنت قد اكتفيت بأن أكون ناعى الحياة الصادق أمزج الموت بالحياة سرا، أتحدث عن الموت وكأنى أعيش، وأقرأ عن الحياة وأنا ميت. لا يتلاقى الضدان إلا تحت التراب. متى يحين ذلك.
أصبحت القراءة عبئا جديدا. الكلمات تتحدانى شخصيا. لم أعد أستطيع أن أحتفظ بمسافة كافية بينى وبينها. ألفاظ كثيرة تنبض بما تحوى فتحرك شيئا بداخلى يريد أن يلزمنى به، كأنى مسؤول عنه، عن تحقيقه، عن اختبار إمكانيته. أى مصيبة حلت بى، لم أعد أستطيع الاكتفاء بهذه النشوة الصومعية، أصبح للكلمة لسان تخرجه لى، حواجبها تتلاعب أمامى وتتحدانى، الحروف أسنة للكلمات تشكنى مثل الدبابيس فى مقلة وعيى.
مصيبة وحلت بى.. لا أستطيع نسيانها وإن كنت نجحت فى أن أخفى آثارها، أواجه مصيرى وحدى.
لا…
لن أنتحر.
و… و….و..
ولن أعيش.
* * *
الفصل الثالث
نجوى شعبان
كل شئ يقول إنه مستحيل. أنا لا أملك إلا أن أواصل فى اتجاهه. كلام غريب الأناضولى ينفذ إلى عظامى. غبى مسكين، أنا مثله.
أشفق عليه فى حماسه ومحاولته إقناعى وكأنى أعترض على آرائه، أنا أعلم حقيقة اليأس أكثر منه عشر مرات. أنا خضت التجارب لحما ودما. هو قرأها فى صومعته. اليأس والفشل هما قانوننا الأعظم. حطمت كل شئ لأفضح الواقع. وقررت أن أحاول المستحيل، غريب يثير فى رغبة فى الاقتراب منه، ربما لتحديه.
أقول له أحيانا إن إعلان بؤس العالم لا يبرر التسليم له، زوجى ليس له ذنب فيما أحمل فى أعماقى من نار أتصور أنها مقدسة،، كثيرا ما قدرت أنها نار جهنم. هى أيضا مقدسة لأنها من عند الله، أراد زوجى أن تـدفئه نارى تلك فأحرقته وانهار البيت بلا إنذار. تركت ابنتى الوحيدة معه بين الأنقاض، هو أولى بها، يرحمها من جريى وراء المطلق المجهول، أغرقت كل مراكبى قبل أن أطرق هذا الباب. لم يعد لى خيار تركت بيتى، وبترت أمومتى، وذهبت أبحث عن أصل وجودى لأعرف على أى أساس أبنى علاقاتى بعد ذلك، أحس أن هذا الطبيب يحبس عنا أشياء يجب أن يقولها.
هو لم يشترك فى قرارى ولكنه يلوح بإمكانية ركوب البراق. هو مسؤول رضى أم لم يرض. سوف ألاحقه مهما هرب وراء أصول الصنعة أو سر المهنة، عليه أن يساعدنى لأحقق ما أريد مما أعرف ومالا أعرف. لو فشلت فهى نهاية العالم. كل شئ يقول لا. كلام غريب ويأسه وصمت عبد السلام وصورة زوجته العروس الحلاوة. غيبوبة كمال، وذهول عبد السميع. تفاؤل إبراهيم المشبوه، وتردد الباقين. لا شئ يحاول أن يهدئ من لهيبى، كل ذلك لا يزيدنى إلا اشتعالا. لا أجد فيهم ما يثنينى عن عزمى إذ يؤكد لى أن المستحيل هو مستحيل فعلا، هكذا أجد مبررا لإثبات العكس. تشتعل نارى أكثر. وحتى حين أنجح فى أن أهملها أو أتلهى عنها فإنها تندلع فى أحلامى فتكاد تحرق كل شئ.
- لماذا أنت صامت يا عبد السلام معظم الوقت مع أنى أشعر بشئ يجمعنا.
- أنت تعلمين أنى أشعر بك تماما.
- أنت بعيد عنى.
- حملـك ثقيل ولا أريد أن أخدعك بتهوين الأمر.
- لم أطلب منك أن تهون لى الأمر أو أن تحمله عنى أو حتى معى.
- أعرف ذلك ولكنى أتساءل إلى متى تصبرين عليه وعليهم، طاقة البشر محدودة، وأخشى أن تنكسرى وحدك، حتى أمومتك ضحيت بها من أجل شئ لا معالم له.
- لن أنكسر أبدا.. أنا أعرف نفسى، أنا لم تتحدد معالمى أبدا حتى أخشى عليها من الكسر.
-أنت تزوجت، وأنجبت، وطـلقت، وها أنت تسبحين عكس اتجاه التيار.
- عملتها جميعا بنفس الشجاعة دون ندم.
- لا أعتقد.
- معك حق. ندمى سيكون أكبر لو لم أكمل طريقى.
- هذا طريق ليس له نهاية.
- أعرف ذلك.
- هل تريدين منى شيئا محددا؟.
- نعم.
- قولى مباشرة ماذا عندك؟.
- فردوس.
- مالها؟.
- لم أرتح لها أبدا، لافى الأول وهى كالبلهاء المذعورة، ولا الآن وهى كالطير العاجز المنتشى بوهم الطيران، فى حين أن قدماه تغوصان فى الطين، وهو فى غاية السعادة.
- أعرف…، المسألة أصعب من كل تصور.
- أخشى أن تيأس معها، فأحس بالوحده أكثر.
- لست هنا لأيأس، لا معها، ولا بدونها.
- اليأس يتربص بنا عند كل منحنى من الضعف أو المراجعة، وللعمر اعتباره.
-…..
-…..
-…..
-…..
- أنت إنسانة عظيمة.
-.. لا تكن غبيا كالآخرين.
- معك حق.
- 1 -
حين أحسست بحريتى، أطلقت لمشاعرى العنان فانطلق حبى الملتهب يغلف كل علاقة لى حتى بالجماد والموتى. لابد أن أعترف أن شيخنا هذا شئ آخر. أحيانا يبدو لى أنه أبسط من كل تصور، وأحيانا يبدو بعيدا غريبا لا تكاد ترى معالمه. أحيانا يبارك عواطف الضعف حتى أحسب أنه حمامة تضع الحب لصغارها، وأشك فى إمكان تحقيق أى شئ، ولكنه لا يلبث أن يثور كالنمر الهائج وكأن شعلة جنونه تصارع تاريخ البشرية المرعب، وحاضرها الساحق، ومستقبلها المظلم. أية مهنة هذه التى تفرض على صاحبها صراع الدينصور وركوب البراق فى آن واحد. أقسم أنه يحتاجها لكيانه الشخصى وأنه فى أشد الحاجة لكل هذا الإصرار والتحدى. ربما هذا هو الذى يحافظ على استمراره. أنا أحترمه وأحبه. أحس به بالرغم منه. يحاول أن يخفى شقاءه وراء صياحه وأن يغلف صناعته بتقديس المطلق والحديث عن إيمان جديد قديم، وهو لا يطلب إلا الأمان فى أبسط صورة، أخاف من سلطانه رغم يقينى بأن مبالغتى فى استقبال جبروته هو منى أنا. أحس أحيانا أنى لو سهوت عن نفسى لوجدت روحى ملقاة بين يديه، لا أدرى كيف أستطيع أن أسترجعها منه.
أنا لم أحرق مراكبى وأهدم بيتى لأسلم روحى لآخر، حتى ولو كان هذا الآخر هو النبى الجديد. لو رضيت بالتسليم لكانت ابنتى وأبيها أولى بى. أعذر غريب الأناضولى وهو لا يكف عن هجومه عليه ووصفه بأبشع الصفات. أتعجب لماذا يصر غريب هذا على الحضور. أتمنى أن يستمر فى الحضور. وجوده يطمئننى. أنا فى حاجة لأن أسمع رفضه باستمرار حتى لا أنسى. متى أستطيع أن أمسك خيوطى دون التماس العون من أحد؟ إبراهيم الطيب، هذا الفلاح الحلو..الدنيا بخير. ماشى. تحمل يا إبراهيم مشعلك المتواضع. مثل اللمبة ذات الشريط العارى التى لا يطفئها الريح أبدا..
- ألا يساورك الشك يا إبراهيم فى أن الدنيا بخير.
- يساورنى.
- وماذا تفعل؟.
- أتأكد أن الدنيا بخير.
- ألم يحدثك غريب؟.
-… حاول.
- وماذا فعلت؟.
-.. لم أجد ما أقوله. كانت مرارة حديثة أصدق وأقسى من أن يخففها فيضان النيل قبل السد… لكنه كف منذ يوم الحادثة. كاد يؤمن ثم ملكه رعب شياطين الأرض والسماء.
- عاد أسوأ من الأول.
- خاف حلاوة الإيمان.. لا شئ يقضى على الأمل إلا تحقيقه.
- كلامك يجعلنى لا أتعجل تحقيق المستحيل.
- ألفاظك ضخمة.. تبعث الشك فى حقيقتها.
- أليس مستحيلا يا إبراهيم؟.
- نعم… ولا حسب موقفك وما تريدين.
- أريد أن أجعله ممكنا، ولهذا أحضر بانتظام.
- ليس كافيا. غريب ذاته مازال يحضر بانتظام.
- أنا لست غريبا يا إبراهيم، وأنت تعلم ذلك.
- أعتقد أنه سيتوقف قريبا. لا قوة فى الأرض تستطيع أن ترغمه على الحضور.
- ولا فى السماء؟.
- إلا أن يفقد توازنه دون أن يفقد توازنه.
- ما أبشع رؤيتك. حكمتك، تخيفنى.
-… قوانين الواقع هى زاد المعاد.
- تصر أن الدنيا بخير.
- ولم لا؟.
- ألا تشعر أنك تهرب بهذا التفاؤل الغبى.
- هذا ما يبدو لى أحيانا. أنا لست متفائلا يا نجوى.
- إسمع، لا تربكنى. أنت تعلم أنى أهوى الحيرة. تعفينى من مسئولية التحديد.
- هذه مصيبتك.
- ردك سريع وجاهز، ومع ذلك هو محير أيضا.
- اسمعى يا نجوى، لا تغترى بشجاعتك وتذكرى دائما أنك تسيرين على الأرض. كل ما عدا ذلك هو الهرب بعينه.
- تسمى تحدياتى هربا.. وتفاؤلك ليس هربا.
- قلت لك لست متفائلا.
- الجميع يطمئنون إليك لأنك متفائل. حتى غريب لم يسمح لأحد أن يحتويه ذلك اليوم إلا أنت.
- صحيح، كانت بضعة ثوان، ولكنه لم يهدأ إلا فى حضنك أنت.
- لا أنا ولا أنت. كنا كلنا فى حضنه هو. ما رأيك فى الدكتور؟.
- له شطحاته. أشعر كثيرا أن وحدته أقسى من أى واحد فينا.
– أحيانا أحتار من الذى يعالج الآخر: أنت أم هو.
- هو طبعا.
-بذمتك ألا يكلفك سرا ببعض مهامه؟ يدهشنى منظرك وأنت تدفع الأتعاب كل مرة للممرض مثلنا.
- فضله على لا يمكن الوفاء به.
- تبدو أكثر تماسكا منه.
- هو الرائد… ولابد من احترام شقائه وألمه وحدته.
- أنا أحبه يا إبراهيم، أحيانا أشعر أننى تخطيت حدود ما تسمح به العلاقة المهنية.
- أعرف ذلك، لا حظته، ولم أرفض، ولم أنزعج.
- ماذا أفعل؟.
- تعرفين الطريق.
- ليس تماما.
- سوف تعرفينه.
يتركنى إبراهيم فى كل مرة أحادثه فيها وأنا فى جو من الأمان يرعبنى. كيف يمكن أن يكون هذا الإنسان هكذا. أريد أن أعرف عنه أكثر، أريد أن أخترق صفاءه لأرى بحره حين يثور. أريد أن أعوم فى أمواجه ثم أغوص فى أعماقه، ثم قد أعلن مثله أن الدنيا بخير، أو أنه أكبر أبله فى العالم.
* * *
حين أرجع من هناك، أواجه عالمى الأوسع فى البيت أو فى العمل. أحس أنى أختنق. يعتبرونى فى العمل بائسة أستحق الشفقة بعد طلاقى وحرمانى من ابنتى. ويتهامسون أحيانا وكأنهم يشكون فى عقلى. لا أعدم محاولات اقتراب مشبوهة بوصفى مطلقة حسناء. حاول أحد الوجهاء يوما أن يأخذ منى ميعادا خاصا وقبلت لتوى دون أن أعرف سببا واضحا لهذا السخف، كدت أتراجع بعدها ولكنى أصررت على أن أختبر قدرتى على الرؤية بعيدا عن جوكم الصناعى. رجل فى منتصف العمر، شديد العناية بالتفاصيل من أول ربطة عنقه حتى لمسات أصابعه وهو يبادلنى التحية. لاأنكر أن شيئا فى انجذب إليه. زاد تصميمى على الذهاب حتى أتعرف على ذلك الشئ الذى مازال مختفيا بين طيات نفسى. اكتشفت بلا دهشة أن هذا عالم تركته من زمن، ولا أمل فى الرجوع إليه. كنت أتتبع حركاته ومحاولاته للتظرف – رغم أنه كان يبدو ظريفا فى بعض الأحيان. رحت أتعجب من عماه وبلهه، حاولت أن أثنيه من طرف خفى، ولكنه كان يواصل كفاحه الغبى دون توقف. غرباء هؤلاء الناس. حتى زوجى الطيب كان أكثر إحساسا بحقيقة الإنسان وبعض داخله، من هذا الأعمى. إذا كانت هذه هى العلاقات المتاحة فلابد من تحقيق المستحيل. يبدو أن الرجال صنفان لا ثالث لهما: واحد طيب غارق فى حسن النية متلهف إلى أمومة سرية، والآخر غبى لا يرى إلا ذاته الذكرية اللامعة يباهى بها فى سذاجة. هذه هى الاختبارات المطروحة يا إبراهيم فما قولك فى حتمية المستحيل؟ إياك أن تقول لى بعد ذلك سيرى على الأرض. ليس على أرضكم سوى ذكر الطاوس أو ذكر النعام. إن الله لم يخلقنا لنتراجع عن إنسانيتنا عند أول تهديد بالوحدة أو بالهجر. حتى أنت تخيفنى أكثر من أى آخر، أكثر من الطبيب نفسه. أخشى أن تتكشف عن إنسان مخدوع لا يعرف ما يقول، سوف أخوض المعركة وحدى حتى أتحدى يأس غريب وتفاؤلك معا. أنا مع غريب أكتفى بأن ألقى فى وجهه – بصدق ما – كلمات الحب بين الحين والحين لأتمتع فى خبث سافل بخلجات وجهه المرتعدة تترجم عن رعبه المروع، أخشى أن يخطئ مرة فيقبل أحد عروض ودى فجأة. ساعتها سوف ينتقل الرعب إلى. لو أنى سمحت لأحد بالاقتراب فليس أمامى إلا تكرار الخيبة. أتمتع الآن بالعلاقات على مسافة، ما زالت جروحى تدمى ويعاودنى الندم على ما فعلته فى زوجى الطيب وابنتى الطاهرة، أين أنت يا حبيبتى. أخشى الانتقام من فعلتى وأحاول أن أكفر عن ذنبى بالاقتراب من بسمة وكأنها هى. هل أستطيع أن أساعدها؟.
- لماذا كل هذا الحزن يا بسمة؟.
- لست حزينة. رأيت أكثر من احتمالى.
- أنت رقيقة. لماذا سبقت سنك الغض، هلا اكتفيت بذلك ومضيت تسعدين بشبابك.
- لا تقولى ذلك وأنت خير من يعلم أنه كذب.
- أشفق عليك بصدق.
- لن أكرر مأساتك أو مأساة فردوس، أنت لا تعرفين أن ما هربت منه هو البضاعة الغالية فى سوق العلاقات.
- هذا كلام عجوز يا حبيبتى.
- وغير ذلك كذب لا يقنع حتى الأطفال.
- الحكمة قبل أوانها تـفقد الحياة بهجتها.
- لا حكمة فى تسمية الأشياء بأسمائها.
- وسهر الليالى، وسحر الخداع، ونبض الحنان؟.
- لا شئ يجمل الكذب إلا كذب أنعم.
- “بدري” عليك يا حبيبتى.
- لا مجال لمراعاة فروق التوقيت.
– حين تكبرين يا ابنتى هل سوف ترين ما رأته بسمة هكذا مبكرا، هل سوف تكونين وحدك أم سوف تجدينى بجوارك لو نجحت فى تحقيق هذا المستحيل. ساعتها أستطيع أن أخفف عنك. ربما. سوف أنقذك من الاستسلام الميت، ومن اليأس المر، ومن الخداع الأعمى. تركتك وتركت أباك من أجلك.حين أتم الطريق سألقاك. أنا أنتظرك. سوف تحضرين إلى وحدك. أنا واثقة أن بك شعلة من وجودى، أو حتى شعرة من جنونى. لن تتحملى المضى بها طوبلا تحت الرماد، قولى على ما شئت الآن ولكنى لن أكف عن الصراع من أجلك، ومن أجل بسمة، ومن أجل كل البنات الزهور حتى لا تذبل قبل أن تتفتح.
- أريد أن أحدثك فى كلمتين يا نجوى.
- خيرا يا فردوس.
- لا. على انفراد.
- سر يعنى؟.
- تقريبا. أخشى أن تردينى خائبة.
- ما هذا يا فردوس؟.
- خرج الآخرون وأستطيع أن أقول لك الآن.
- خيرا.
- أنت جميلة كالقمر.
- شكرا.. ولكننا نتعلم هنا أشياء أخرى.
- وأعرف أنك معجبة بجمالك.
- ليس تماما.
- أنا أعرف أننا هنا.. نتطور أليس كذلك؟.
- نتــ… ماذا؟.
- نتطور.. أى نصبح أحرارا.. أليس كذلك؟.
- تنطقين بهذه الألفاظ الرنانة وكأنك تتحدثين عن المقادير اللازمة لطبق اليوم.
- لماذا لا تصدقونى وأنا فى غاية السعادة بفضل علاجكم، وإصرار زوجى على إحيائى.
- ماذا تقولين يا فردوس بالله عليك؟ ما هذا الكلام؟.
- يخرج الحى من الميت.
- هل تدركين معنى ذلك يا فردوس.
- هو الذى يقول. وأنا أحفظ وأردد، هذا أكثر راحة. استسلمت.
- أنت تظلمين نفسك.
- كنت زمانا كذلك، كم ضيعت وقتى فى المطبخ ومع العيال، أما الآن بعد مسألة التطور هذه، لم أعد أظلم نفسى، ولا غيرى. إسأليه حتى. الفضل يرجع له. عبد السلام يجعلنى أضئ فى الظلام مثل الساعات الفسفورية.
- قلبى يتقطع عليك.. وأخشى أن أصدمك.
- لا تكونى مثله. ماذا تريدون أكثر من ذلك.
- عبد السلام يحبك لو أنه يرفض هذا السهل الجاهز.
- سهل ماذا؟ وجاهز أين؟ أنتم تحبون الكلام. بينى وبينك، يبدو أنه يفرح بتطورى فى الليل، ويرفضه فى النهار.
- أخشى ذلك.
- ولم تخشينه؟ كله مصلحة.
- وأنت؟.
- أنا مالى؟ كفى الله الشر.
- فى رأيى أنك كنت أفضل قبل هذا التحول المفاجئ، كنت أحس بترددك وحيرتك ورفضك، كانت عيناك لا تغيبان عن بسمة فى أمومة محيطة.
- لا داعى للهم والفكر. ما دام الدكتور وعبد السلام يعرفان الطريق، فسوف يساعدان بسمة كما ساعدانى حتى ينقلب كيانها، وتنسى الهم إلى الأبد.
-….
- أخذنا يا نجوى الكلام.. أنت حلوة كالقمر.. وخسارة شبابك فى كل هذا الفكر.
- ماذا تريدين قوله؟.
- زوجك الأول قليل البخت ولم يعرف كيف يحافظ عليك.
- كان رجلا طيبا ولا لوم عليه، الذنب ذنبى.
- عندى عريس.
-….. نعم؟.نعم؟.
- عريس كله شباب وصحة، وحالته مستورة وقد حدثته عنك كثيرا.
- ماذا قلت؟.
- فردوس… يبدو أنك لست معنا أصلا. فردوس، حاولى أن تفهمى ما يجرى.
- حاولت فى الأول حتى تعبت، ثم كان ما كان. أنا ليس عندى مشاكل فماذا أفهم.
- ما أنت فيه؟.
- أنا فى ماذا؟.
- أبدا.. ولكن لا بد أن تعيدى النظر.
- أنا أفكر كما تريدون. لا تنسى أنى أحمل ليسانسا فى التاريخ، أنا لست جاهلة.
- ياليتك تستعملين فكرك بضع دقائق بطريقة أخرى.
- أنا مستعدة. قولى لى أفكر فى ماذا، لماذا؟.
- فى الناس، فى، فى سبب طلاقى.
- أنت أدرى بهذا كله، قولى لى إذا شئت لم طلقت؟.
- لأبحث عن المستحيل.
- اسم الله عليك وعلى حواليك.. لقد حفظت هنا كلمات كثيرة مثل التطور والحرية، وها أنت تضيفين إلى القاموس كلمة أصعب، ما هى حكاية المستحيل هذه؟.
- أن نعيش كما خلقنا الله.
- اسم النبى حارسك وضامنك.. أنت امرأة مثلى وشبابك خسارة. دعى هذا الكلام الصعب للرجال.
- فردوس.
- نعم.
- الله يسامحك.
- 2 –
عينا مختار لطفى لا تتركانى فى حالى. ماذا يريد منى هذا الجائع، عيناه فيهما سحر غامض ينفذ إلى خلاياى الأنثوية دون استئذان. ليس فيه زيف ذلك الوجيه المتأنق ولا وضوح ابراهيم المزعج، ولا يأس غريب الأسود. نظراته وقحه عارية تصل دون أن يغلفها بأى محاولة أخرى. مع غريب أجد لذة فى التحدى والعناد. مع إبراهيم أحس بالطمأنينه والأمان. مختار شئ آخر: ذكر فحل. ينادينى وكأنه يكتشفنى أو هو يدعونى لاكتشاف الطبقات الأخرى من أنوثتى. أتجنب التفكير فيه معظم الوقت حتى لا أجد نفسى أتجول فى بستان حلم وردى لا يكفى لتبرير تحطيم بيتى وإغراق كل مراكبى. ينجح فكرى طول الوقت فى السيطرة على الإثارة التى تسببها لى نظراته، أحيانا لا أجد مبررا لمقاومته. قد يكون هذا كله عبث فى عبث ولكنه جزء من لعبة الحرية التى أريد أن أكملها للنهاية. أنا أسعى لتحقيق المستحيل، ولن أعرف طريقى إليه إلا إذا طرقت كل باب. قانونى مسئوليتى الشخصية. قمت فزعة من نومى أمس حين حلمت به يسبح معى عاريا فى حمام سباحة سرى يقع فى بدروم مسجد أثرى. كيف أتحدث عن الصدق والشجاعة وأنا لا أسيطر على أحلامى ولا أتصالح مع بقية ذاتى. واجهته فجأة وكأننا نكمل حديثا بدأ منذ زمن.
- نعم يا مختار.
- نعم يا نجوى.
- عيناك تريدان أن تقولا شيئا باستمرار.
- صحيح.
- لماذا لا تقولها مباشرة؟.
- لأنك تعرفينها مادمت قد أحسست بها.
- دعنا من الألغاز، أنا أدفع عقلى ثمنا للمعرفة.
- كلامك كبير والحكاية أبسط من كل هذا.
- حين أترك بيتى وابنتى فلابد أن تكون الحكاية أكبر من كل تصور، أنت لا تفهم معنى البيت والأمومة.
- هذا اختيارك فماذا تريدين بعد؟.
- أن اخترق المجهول.
- أنت شجاعة، ولكنك لست حرة.
- لا تتحدانى وإلا ندمت.
- المسألة ليست مسألة تحد. أنت تضعين حدودا لحريتك، والحرية الحقيقية ليس لها حدود. أنا فى انتظارك بلا خوف ولا شروط.
- الخوف الصادق جزء من لعبة الشجاعة.
- ستظلين سجينة خوفك بقية حياتك.
- ماذا تريد منى.
- أن تكونى حرة.
- ماذا تقصد؟.
- الحرية عندى هى الوجود ذاته، الوجود قبل ودون أى شروط أو تفكير، هى حرية قانون الخلية الحية الأعظم من كل قيمة.
- سمعت أن الخوف هو من قوانين الخلية الحية أيضا.
- أنا لا أفرض آرائى على أحد. تعرفين احتياجك، وسأظل فى انتظارك.
أحيانا أحس أنه أقرب إلى من نفسى، ابتسامته الوديعة ونظراته النافذة تقول لى تصبحين على خير قبل أن أنام، وفى أحيان أخرى استطيع أن اقسم أنه لا يعرف اسمى. هو لا يخصنى بهذه النظرات بل يوزعها بالعدل على كل أنثى من أول مساعدة الطبيب حتى ملكة مناع. الفائدة التى يمكن أن أحصل عليها هى ألا أتراجع مهما تكن النتائج.
تمضى الأيام ولا أستطيع أن أتخلص من تفكيرى فيه.
- 3 -
- الا يعنى ذلك نكسة إلى الحيوانية يا مختار؟.
- الحيوان كائن متناغم مع نفسه، يعيش فى حالة وجد كامل دون انشقاق أو ادعاء،..الانسان هو الذى تدهور حين انقسم على نفسه.
- كلامك كبير… وتتهمنى بالتفكير المعقد.
- هذا إحساسى الكامل بلا تفكير.
- أجد صدى لما تقول، صدى يثيرنى ويغرينى بالمخاطرة.
- ليست مخاطرة ولكنها عودة للوجد التلقائى. أين الخطر.
- الخطر خطر.
- هذا الخطر من صنعنا نحن، هو يعوق تكامل وجودنا ويحد من انطلاقنا.
- انطلاقنا إلى إين؟.
- إلى جنة الحيوان فى توافقه مع ذاته تماما.
– نحن بشر.
- حيوانات أعقد، لكننا جزء من الطبيعة لا أكثر ولا أقل، وما شقاؤنا وضياعنا إلا لأننا خاصمنا الطبيعة بغباء. لا سبيل للتوافق إلا إذا رجعنا إليها بلا تباطؤ.
- أخاف من كلمة الرجوع.
- إذا اكتشفنا خطأ الطريق فلابد من الرجوع.
- الحيوان ليس مثلى الأعلى.
- الحيوان أكثر توافقا وصدقا.
- الحيوانات يأكل بعضها بعضا.
- الحيوانات لا تفعل ذلك إلا إذا جاعت، أما الإنسان الكذاب فهو يغلف هذه الجريمة بالمبادئ ويمارسها لمجرد الجشع.
- عندك تفسير لكل شئ يا مختار. رؤيتك كاملة الوضوح، فلماذا أنت هنا؟.
- لا أسأل نفسى لماذا إلا نادرا، أنا أفعل ما أحس أنى أريد أن أفعله فحسب، أنا لا أعرف لماذا أنا هنا، وجدت نفسى هنا، قلت أكمل، حتى لم أسأل: أكمل ماذا؟.
- أنا خائفة.
- بل أنت شجاعة ولا أحسبك تركت الزواج وضحيت بالأمومة إلا لاسترداد حريتك.
- أحيانا أحس بالندم وأفكر فى الاحتماء بأول رجل يطرق بابى. أستظل بظله من جديد.
- لا أعتقد أنك تستطيعين أن تربطى مصيرك بواحد فقط مرة ثانية.
- يعنى،.. ولكن…
- لو أنك من أهل لكن لما هدمت بيتك من أجل حريتك.
-… هل أنت حر يا مختار؟.
-… تماما…
- تماما؟!! تماما..؟!.
- بلا أى قيد.
- فلماذا أنت هنا؟.
- ألم أجبك؟ طائر بلا عش.. أرتشف رحيقى من كل الأزهار.
- أنت وحيد.
- لا أسعى لقتل الوحدة، ولا للتمسك بها.
- ليس لك أصدقاء.
- لى… ولكن دون وفاء مــلـزم، حتى الوفاء يحد من وجودنا الحر.
- أى شيطان يزين لى كلامك.. تتفتح أنوثتى بلا استئذان.
- أنا واثق منك… ومن صدقك.
- ليكن، وبعد؟.
-… حرة… و… وشجاعة.
* * *
لاقوة فى الأرض تستطيع أن توقفنى ولا أن تنسينى هذا الحديث. هل هذه هى حقيقتى فعلا؟ ماذا يفعل بى هذا الرجل؟ هل هذا هو المستحيل الذى سعيت إليه؟ الذى تركت الدنيا من ورائى لتحقيقه؟ هل أنطلق حقيقة إلى عمق أعماقى الحسية؟ هل أنا أنتقم من نفسى أو أمارس حريتى؟ نظرات إبراهيم لا تتركننى وكأنه يعرف كل شئ.
- 4 -
- إذن ما الحرية يا إبراهيم؟ فلقـتنى.
- هى المسئولية.
- وهل الحيوان مسؤول؟.
- وهل هو حر؟.
- يخيل إلى أنه كذلك، أليست حريته هى حرية الخلية الحية.
- الحرية اختيار، والاختيار وعى، والوعى مسئولية، والخلية لا تعى أيا من ذلك.
- لا تبالغ فى فلسفة الأمور أنت الآخر، فأنا فى مأزق حقيقى.
- أعلم ذلك، ومختار ليس حرا على أى حال.. بل لعله أبعد واحد فينا عنها.
- لم أذكر اسمه.. هل تتجسس على؟.
– أعرف ألفاظه جيدا وخاصة حين تخرج من شفاه غيره.
- الحقيقة ليس لها صاحب.
- وأعرف قصته كذلك.
- أنا أسألك بلا لف ولا دوران.
- وقد أجبت.
– تقول مسئولية..مسئولية عن ماذا؟.
- عن كل شئ: عن سعادتنا وشقائنا، وسعادة الآخرين وشقائهم.
- توسع الدائرة…. حتى تضيق على الحرية فى النهاية.
- إما هذه الحرية.. وإما الكذب والتبرير.
- البساطة فى الانطلاق بلا قيود ولا قيم من الخارج.
- ما عليك إلا أن تجربى.
- هل جننت..؟ أنت لا تعرفنى.
- النصح لا يفيد فى مثل هذه الظروف، لن تربيك إلا التجربة.
- اسمع. أنا لو أطلقت نفسى فسوف أكتسح العالمين. قد يتغير التاريخ. أنت تعرف أن طاقتى بلا حدود.. شهيتى لا ترحم.
- أعرفها، وأخاف منها. ولكنى أعرف أنها ليست هى الحرية، ربما تكون عكسها.
- هلا راجعت نفسك يا إبراهيم؟ ربما كنت مكبوتا خائفا طول عمرك. ربما كان هذا هو سر صبرك وتفسير شقائك الذى لا يعرفه أحد.
- ربما يكون شقائى هو حريتى.
- أنا لا أعيرك يا إبراهيم.. لا تكن حساسا هكذا، ولكنك تقيد فكرى حين تخطر ببالى، كلما هممت بالانطلاق أو تجرأت على علاقة ما تذكرتك. صورتك وصوتك، صبرك وشقاؤك. كل ذلك يذكرنى بجانب الحياة الذى أتمنى لو نسيته إلى الأبد.
- هذا ليس ذنبى.
-.. تأثيرك سئ على حريتى.
- لن أتصنع الانطلاق من أجل مساعدتك على إشباع حيوانيتك.
- حيوانيتى ليست سبه، هى أنا.
- ألهذا سعيت للطلاق؟؟.
- ربما. الحيوانات لا تتزوج على أى حال.
- ليس دائما.. بعضها يفعل.
-.. أنا من فصيلة الطيور التى تملك كل السماوات.
- لابد من عش فى النهاية. وأزواج الحمام تهدل فى كل مكان.
- بماذا تغرينى يا إبراهيم؟ هل تلوح لى بالرجوع إلى زوجى؟.
-ليس عندى ما أقوله.
- وأنت؟ لماذا لا تتزوج؟.
- أنا متزوج.
-…. نعم؟ نعم؟.
- أنا متزوج.
- وأين هى؟.
– مع عشيقها… عشاقها.
- ماذا تقول يا إبراهيم!!؟.
- أقول ما قلت.
- أهذا هو الذى علمك الفضيلة فرحت تبخرنا برقيتك “أن الدنيا بخير”.
- لا شك أن الدنيا بخير.
- كذاب، هارب… هارب. من منظرها بين أحضانهم.
- أنت حرة…
-…. رغم أنفك….
- 5 -
تأكدت أننى مجنونة. الألفاظ الرنانة التى كنت أستعملها لأخفى جنونى بدأت تتكشف على حقيقتها حين دخلت إلى الاختبار الحقيقى. النار المقدسة التى كنت أفخر بها هى نار جهنم بلا نقصان، المستحيل الذى كنت أحاول التماس الطريق إليه هو الشكل الجميل لخيال مجنون. كنت أسخر من كل من يتهمنى فى عقلى لمجرد أنه يرفض تصرفاتى، كنت أعتبره جاهلا لا يفهم. كم تساءلت لم أذهب إلى الطبيب وليس عندى أعراض؟ الآن، عرفت أن ما بى هو ألعن من كل الأعراض!! لو كنت أرى أشباحا أو أعتقد أن الناس تضع لى السم لهان الأمر على وعليه. لماذا لم يقل لى الطبيب أنى مجنونة رسمى منذ البداية؟ هو المسؤول منذ البداية، كان عليه أن يشخص حالتى ويعطينى المهدئات اللازمة فى الوقت المناسب حتى أرجع إلى زوجى وابنتى، لا أنكر أنه عرض على ذلك فى أول الأمر وأنى رفضته بإصرار، كان عليه أن يصر حتى ولو أدى الأمر إلى استعمال القوة، تركنى لنفسى حتى اكتشفت مصيبتى بنفسى.. ولكن بعد فوات الأوان، أين أنت الآن يا ابنتى يا حبيبتى. كيف تنامين؟ وكيف ترضعين؟ على صدر من تبكين؟.
هل تقبلنى يا زوجى الطيب بعد الآن؟ بعد ما كان؟ كنت أخاف الانتقام مما فعلته بك. لم أتصور أنه سيكون بهذه البشاعة، الانتقام يأتى من داخلى، نار جنهم هى بالداخل.
أنا وهؤلاء الناس المخدوعين وقلوبنا التى تحجرت هى وقود هذه النار بلا نفاد. ضاق على الخناق فى كل مكان. مازالت صفعة أخى الأصغر أول أمس تكوى وجهى بماء الذل، صوته يرن فى أذنى كالرعد، ذلك الولد الذى كنت أعلمه المشى صغير هو هو الذى صاح بى أمس لا حرة ولا زفت، مومس يا كلبة لم أرد عليه، بل إنى لا أنكر أنى تمتعت بالصفعة كجزء من الجزاء الذى أستحقه. لو أن ربع هذا حدث قبل ذلك لكنت انتحرت أو قتـلت. بلعتها فى صمت جزاء لما اقترفت فى حق أبرياء.
أتبين الآن أن طلب المستحيل الذى يبدو براقا وكأنه الشجاعة والطموح فى أرقى صوره ما هو إلا مهرب حقير من مواجهة تحمل مسئولية حياتى اليومية، هأنذا – يا طالبى المستحيل- أنتقل من وجيه يعرض على خدماته فى كازينو على النيل إلى مختار الذى يغرينى بالحرية لحسابه الخاص، وهو لا يكاد يعرف اسمى، إلى إبراهيم الموتور المخادع، إلى غريب المرعوب من مجرد اللمس. كل ذلك يدور فى فلك سيدنا الشيخ ناظر مدرسة تحضير الأوهام؟ هنا والآن.. أى عبث، هدمت بيتى من أجله؟ وأى ضياع ينبغى أن استمر فيه؟ متى تغلق الحكومة هذه المحال التى تبيع الأوهام للعجزة والأغبياء أمثالى؟ قاع البئر سحيقة حتى لتبدو بلاقاع.
- ماالعمل يا إبراهيم؟ أنا لا أسألك. أنا أعرف ما ستقوله لكنى أريد أن أسمعه منك أنت بالذات.
- ترجعين، وبأسرع ما يمكن.
- أبهذه السهولة ؟ لا آكل من بيتك، سوف أرجع حين أريد.
- مازلت تتكلمين عما تريدين وما لا تريدين.
- سافل جبان..تنتقم من زوجتك فى.
-…الرجوع أو التراجع أفضل من الهلاك مثلها. إنك هكذا ترقصين على السلم، لا تحصلين على عنب الشام ولا بلح اليمن.
- صفقة هى؟ أنت لا تدرك ما بى من ثورة، وتنتهز هذه الفرصة لتسقط على مخاوفك، وعجزك عن إكمال الطريق.
- مازلت تتحدثين عن الطريق وإكماله وأنت إلى الخلف در.
- أحسن منك يا من أحكمت رباط عينيك وتوقفت تماما تدعى الفضيلة وتفرز الشقاء.
- أنا سأكمله يا نجوى بالرغم من كل شئ.
- وامرأتك؟.
- لها عذرها.. لم تر شيئا غير ماهى فيه. لكنك أنت عرفت كل شئ.. وحدك.. وهذا مادعانى للائتناس بك.
- لا تخدعنى..أنت تحتقرنى من البداية.
- كانت ثورتك تخجلنى من عجزى، وكان إصرارك يزيد يقينى بالخير دون أن نتبادل كلمة، كنت دائما آنس لك من وراء ظهرك.
- كفى يا كذاب..أليس أنت الذى كنت تنصحنى منذ لحظة بما لا ترضاه لنفسك.. بالرجوع بأسرع ما يمكن.. يا فرحتى بائتناسك بى.
- أنا لا أنصح. أنا أقول ما أرى الآن.. وكل واحد يتغير باستمرار.
- شكر الله سعيك..أنا عملتها وحدى، وسوف أتحمل مسئوليتها كاملة.
- احذرى أن يدفعك عنادك لتكرار ما كان بصورة أخرى.
- حتى لو كررتها، فمالك أنت؟.
- تكرار بتكرار، زوجك وبنتك أولى بك.
– هذا ليس من شأنك.
- هو شأنى ونصف، سأمنع ضياعك بكل وسيلة، إما الرجوع وإما المسئولية كاملة
- جبان.. كذاب، لماذا لم تمنع زوجتك من الضياع من قبل؟.
- نهايتها البشعة هى التى علمتنى ألا أتهاون فى أن اقول ما أرى، وفى الوقت المناسب.
- 6 -
ضاقت بى السبل. انطفأت حاجتى للرجال، أعلن جسدى الموت، تجمد الثلج فى أحشائى وتراكمت الأتربة على مشاعرى. مازلت أصر على الحضور بانتظام. نسينى مختار تماما وكأنه لم يعرفنى أبدا، انقطع غريب عن الحضور. طلـق إبراهيم زوجته بعد أن اختفت من المنزل بضعة شهور. امرأة شجاعة. أشجع من كل هؤلاء المخدوعين، شيخنا العنيد يحصل على الإتاوة بانتظام. كان عليه أن يعلن زيفنا وخداعنا منذ البداية لنتحمل المسئولية فى كل الأحوال، أحسب أنه ينتظر أن نصنع له المعجزة التى عجز عن أن يصنعها لنفسه، عبد السلام مازال يحاول فى إصرار، فردوس بدأت تعيد النظر على ما يبدو.
- عبد السلام.
- كنت أنتظرك يا نجوى، من زمن وأنا أتابع كل ما يجرى.
- قلت لك من الأول أن هناك شيئا يجمعنا.
- أعرف ذلك.
- أرهقت تماما وفشلت كل الحلول.
- تقتربين من بداية أخرى، لعلها أطيب.
– صبرك رائع ومزعج.
- لم أتعلمه فى يوم وليلة.
- وكيف حال فردوس.. أظن أن هناك شيئا ثالثا بدأ يظهر.
- أنت تحبيننا يا نجوى، أنت إنسانة كريمة.
- لا أظن، أريد نجاحكما لأستند إلى مستحيل ممكن.
- لم تتعلمى بعد يا نجوى.
- لولا أن زوجى تزوج لذهبت خادمة له بقيه عمرى.
- لا أحسب أنك تعنين ما تقولين.
- لاأعنيه.. ولا أستطيعه.. تعبت، هل يمكن أن يصبح السجن جنة مختارة؟.
- كل شئ ممكن إذا لم نختصر الطريق.
- المشى على الصراط لا يقدر عليه إلا ذو قلب سليم.
- قلوبنا سليمة ما لم نشوهها بالعجلة أو الطمع.
- لو عرض كلب على الزواج الآن لقبلت.
- جهنم شرعية.. بدلا من جهنم البحث الفارغ أو الكذب أو الخداع.
- جلدى رخام صدئ. ونار جهنم لم تعد تؤثر فيه.
- هذا تشويه بلا مبرر.
- يبدو أنى سأستمر بلا أمل.
– أنت لم تبيعى نفسك، أو تكذبى عليها.
- هذه مرحلة استهلكت فعلا. أتساءل كيف تحاول مع فردوس، وباستمرار.
- وستحاولين أنت أيضا.. ولكن بشكل آخر، مع شخص يستأهلك.
- حاولت مع إبراهيم لعبة الزواج. وفشلت قبل أن تبدأ.
- إبراهيم مجروح، وهو يتجاوز جرحه دون أن ينساه.
- لماذا لا يتزوجنى ألست كزوجته السابقة على الأقل؟.
- لسنا هنا لنعيش على الأقل.
- على الأقل، على الأكثر. أنا تعبت.
- يخاف أن تعملى منه نسخة من زوجك السابق. ربما شعر بذلك.
-.. لا تبدو أمامى أيه فرصة لمحاولة أى شئ آخر.
- أنت لا تعرفين نفسك، ما تحدثه فينا هذه التجربة أعمق من أن يظهر على السطح فى ألفاظ.
- الوحدة صعبة.
- وأصعب منها الكذب والضياع.
* * *
أغلقت وراءك الأبواب الجديدة التى فتحت على مصراعيها. لم يكن لها مزاليج أصلا. تتعمق الوحدة حتى تسحبنى الدوامة إلى أعمق بؤرة لا أعرف لها قرار، ثم أطفو فأجدنى أقدر على السباحة والطيران. لم يعد الواقع فى السماء، ولم تعد الأجنحة للطيران. أسير ببطء لكننى مفتحة العينين طول الوقت. يتسحب إلى معنى آخر للواقع، أرى الناس من جديد، أكاد أعرف ما أريد. الأمل ليس فيما وراء الأفق، بل فيما بين أيدينا.
…….
…….
- إبراهيم. سوف أتزوجك الليلة..
- يا خبر أسود.
- ليس أسود من ظلام الوحدة وعمى الكذب بإدعاء الاستغناء.
-… تتحملين مسئولية ما تقولين؟.
- أعرف أى مصيبة نحن مقدمان عليها.
- بشرك الله بالخير…، لم تنتظرى ردى.
- أنا أتكلم بالأصالة عن نفسى والنيابة عنك.
- سبق أن رفضت محاولتك الأولى. ماذا حدث؟.
- كان عندك كل الحق.. شتان بين زواج الاختباء… وبين اقتحام الواقع.
- وإذا فشلنا.
- خيبتك ثقيلة.
- تعرفين ما تفعلين.
- وأنت؟.
- أعرف الضرورة، فأقترب منها دون أن أتنازل.
- ليكن ما يكون.
- ليكن ما نصنع.
- لا وقت للكلام.
-…المستحيل هو أبسط صور الممكن.
- بلا ألفاظ رنانة..
- ولا حديث عن التطور ولا يحزنون.
-الحديث عن القيمة يهدرها.
- كل يوم زاخر بكل شئ.
-..كم يظلم الإنسان نفسه بكل هذه الضجة!.
- لابد أن فى الأمر سرا.
- هو أن للاستمرار معنى.
- ربما..
الفصل الرابع
ملكَة مَنّاع
– إلى متى تظل تذهب إلى هناك يا غالى؟.
- إلى أن أعرف ماذا أريد؟ وماذا يريد هذا الرجل منى؟.. أو.. لى.
- لقد عرفنا ماذا نريد من زمن، وانتهى الأمر، أما هو.. فما هو إلا طبيب يسترزق، وهو يريد نقودنا ونقود أمثالنا.
- أعرف ذلك، لكنى أعرف أيضا أنه يمكن أن يحصل عليها بطريق آخر، ربما أيسر، وربما أكثر.
- أعتقد أنه مضطرب مثلهم. هذا ما يدفعه لسلوك هذا الأسلوب. هو لا يعدو أن يكون برجوازيا مدعيا رغم ما يتظاهر به من حسن نية، وزعم الشعور بالناس.
– قد يكون كلامك صادقا، ولكن عليك أن تواجهيه لتعرفيه.
- هو لا يهمنى فى شئ. أنا أذهب معك لأنك حبيبى، ورفيق طريق كفاحنا، هذا كل ما هنالك.
- لست أدرى ماذا كنت أفعل بدونك.
- حبنا أقوى من أى اهتزاز. لم نعثر على بعض مصادفة جمعتنا المبادئ والإصرار على رفض ظلم الكادحين واستغلالهم.
-… طبعا.. كفاح الشعب هو الذى سينتصر.
- أحيانا أشك أن هذا الطبيب يأخذ عمولة من القوى الرجعية والامبريالية لتحطيم الثورة التى تعتمل فى صدرى وصدرك وصدور الطبقة العاملة، هو يحاول جاهدا أن يقلب كل شئ إلى “مشكلة شخصية”. مع أن المجتمع هو المريض.
– يجوز… ولكن.
- لا تلغى فكرك يا غالى، الامور تتضح كل يوم. هو رجعى هارب جبان، لا أكثر.
-عبد السميع يعتقد أنه عميل لنا، ويحاول اتهامه بين الحين والحين بالإلحاد.
- إلحاد؟ إنه أجبن من أن يلحد، حديثه ملئ بكلمات الإيمان والخير والتوحد، يضرب اليمين واليسار فلا يبقى إلا نفسه.
- رجل محيـر.
- ليس تماما، “الذى تغلب به العب به” هذا هو مبدؤه الذى لا يفتأ يردده.
- لو ثبت ذلك، فهى أكبر خدعة قابلتها فى حياتى.
- ليس هناك أدنى شك يا غالى يا حبيبى.
-… ما الذى يدفع كل هؤلاء المختلفين أن يذهبوا إليه بكل هذا الإصرار.
- نفس الذى يدفعنا: ورطة.. وأمل مجهول.
- لا بد أن شيئا ما بداخلنا يطلب بضاعته.
- بضاعته ليست سوى الخرافة فى صورة عصرية.
- سنرى.
- متى؟.
- لست أدرى.
- أحيانا أدعو على صديقك الذى أشار عليك بالذهاب اليه.
- كنت أيامها لا أنام الليل.
- ياليتك أخذت أقراص الطبيب الآخر، وخلـصنا.
- كانت تقتلنى بلا نوم حقيقى. أنت تعلمين أن صاحبنا هذا قد عرض على أقراصا فى أول الأمر. أنا الذى قلت له أننى ما جئت لمثل هذا، أنا الذى فضلت حضور “المجموعة العلاجية” بنفسى.
-…أذكر ذلك، لم أكن مرتاحة أبدا. قلبى حدثنى.
-هذا ما جعلنى أحترم شجاعتك أكثر وأنت تصرين على الحضور معى من أول مرة.
- وسوف أكون أشجع حين نتوقف عن الحضور معا أيضا.
- تعجبت وهو يوافق، بل يرحب بحضورك وأنت لست مريضة.
- زيادة الخير خيرين. كله مكسب.
- لا تبالغى هكذا، ودعينا نرى.
- مالنا ومالهم؟ نحن ثوريون، وهم مرضى، ولا سبيل إلى الالتقاء.
- أحيانا.. أعتقد أنهم ثوريون أيضا، بل إنى أحيانا أظن أنهم هم الثوريون ونحن الأدعياء.. ياملكة.
- غالى !!.
- أقول ما أشعر به.
- بدأت مخاوفى تتحقق، حافظ على ثقتك بنفسك وبمبادئك.
- لا خوف إطلاقا. طالما نحن معا، فلا تهديد بالتغيـر.
- نفسه طويل.. وطريقه يبدو بلا نهاية.
- الثائر لا يخاف المغامرة..ما دام على حق.
-.. وهل يوجد حق أحكم مما نحن فيه. هذا معمار صنعنا به وجودنا بعرق عقولنا.
- من يدرى؟.
- أنا أدرى.
- صبرك يا ملكة.. أحيانا أقارن بين هؤلاء الناس وبين جماعتنا الثورية، وأتردد.
- إنتبه يا غالى. عقيدتنا أغلى مافى حياتنا، فكيف نقارن هؤلاء المجانين الذين يتذرعون بالمرض بجماعتنا وكفاحنا.
- لا تنكرى حقيقة ما يدور هنا، فلا أحد منهم يعتذر بالمرض أو يستجدى الشفقة. أشعر أنها دعوة لمواجهة الحياة بشكل آخر.
- واجهناها وعرفنا أولها من آخرها. الكفاح الكفاح. رفع الظلم والمساواة. ماذا هناك غير ذلك؟.
- طبعا..طبعا. لم أقل شيئا.
- هذا الرجل خطير. أشعر أحيانا أنه ليس إلا عميل مهمته تمييع مواقف الناس لإجهاض الثورة بأن يلصق عليها لا فتات طبية؟.
- يجوز،.
- مؤكد.
- مؤكد. إن كان هناك أى شئ مؤكد.
- ماذا جرى لك يا حبى ؟!!!.
- 1 -
قلبى يحدثنى أن غالى يتغير فى السر، لن أفرط فيه ولو دفعت حياتى ثمنا لذلك، مسكين، طيب القلب، استدرجه هذا الرجل ليبتزه ويشوهه. لا أنسى كيف استقبلنى ببرود أول يوم حين فرضت عليهم نفسى دون استئذان. لم أصدق أنه رحب بمشاركتى كما يقول غالى. صدق ما ادعيت بعد ذلك من شكاوى أبرر له بها ما يلهفه منى كل جلسة.
ثقتى بنفسى لا يزعزعها شئ على الأرض، أريد أن أنهى هذه الورطة بأسرع ما يمكن. غالى مصر. لو عارضته فسوف يعاند كالأطفال. سوف أتركه حتى يمل هذا التكرار السخيف، نضالنا أشرف وأصدق من كل هذا. ماذا يفعل شيخ المنسر هذا إلا أنه يجهض النضال ويثير الشكوك حول كل حل شامل. زوجى يوافقنى غالبا على أرائى ولكنه ينقاد له بلا مبرر. فوجئت بوجود كمال نعمان. معرفة قديمة. سوابقه فى الهرب تبرر وجوده هنا. كمال زميل نضال قديم. خاف السلطة فأصبح فنانا، حين التقيته هنا تعجبت. لا أنكر أنى أحسست فى قرارة نفسى بالشماته، هذه هى نهاية الانسحاب من المسئولية الجماهيرية، المرض وعيادة الأطباء بدلا من الناس وإرادة التغيير. إدفع يا كمال الثمن حتى لو استمرت سخريتك لاذعة، وشكك قاتل.
لا أستطيع أن أخفى عن نفسى تساؤلا مذلا: إذا كان كمال قد مرض لأنه انسحب من ميدان النضال فلماذا حضرنا نحن هنا إذن؟ لابد أن تنتهى هذه القصة سريعا حتى أتخلص من هذه المذلة، لا أحتمل هذا الموقف الذى يذكرنى كل ساعة أنى مريضة، أو أن غالى مريض. أى مرض هذا الذى نضيع فى البحث عن اسم أو مبرر أو شكل له؟ لماذا نمضى هذه الساعات الطوال فى النقاش والعراك و”محاولة” الإحساس؟ كل إنسان يحس بكل شئ فما الداعى للتشكيك؟.
حتى أنجح فى إقناع غالى بالكف عن كل ذلك؟ لابد من خطة مضادة. المسألة تحتاج إلى تنظيم وتكاتف لكسر هذا الوهم المحيط. أبدأ بكمال. أعتقد أنه أوهى الحلقات. صديق قديم أعرف مداخله وأحب فنه. لو نجحت فى إقناع كمال فلسوف يستجيب غالى أسرع.
- هذه المناقشات تذكرنى ببعض ما كان يدور بيننا فى اجتماعات الإعداد لمجلة الحائط، هل نسيت يا كمال؟.
- ربما لهذا أنا هنا. يا ست ملكة.
- تسخر من جديد. “ست” فى عينك. أنت هنا.. لأنك نسيت؟.
- بل لأنى لم أنجح أن أنسى.
- ولماذا تريد أن تنسى.
- لابد للانسان أن ينسى الفشل حتى يستطيع أن يستمر.
- مازلت تتحدث عن الفشل كالقدر.. وهو اختيارك. نحن لم نفشل يا كمال. الشعب لا يفشل.
- لقد فشلنا جميعا.
- أنت انسحبت، فلا تحكم علينا.
- ليكن،.. لكل رأيه.
- تحاول أن تبرر فشلك بأن تثبت على واجهتك “لافتة مرضية” تعفيك من تحمل مسئولية الناس.
- أفضل من لافتة “ثورية” توهمنى بتحمل مسئوليتى فضلا عن مسئولية ناس لا أعرفهم.
- نجح الرجل أن يفسد عقلك. هذا هو ما حسبت حسابه.
- لا أحد يفسد عقل آخر إلا باختياره. الفشل اختيار، وفساد العقل اختيار.
- واختيارك الآن هو أن يـفسد عقلك؟.
- خير من أن يفسد ضميرى وأخدع الناس تحت عناوين ثورية.
- ماذا جرى لك يا كمال، أنت فنان حساس، ولابد من عمل نضالى بين الجماهير.
- جماهيرك يا ملكة فى عقلك، لن تعرفى الجماهير إلا إذا كنت أنت الجماهير، إلا إذا عرفت نفسك. هذا هو ما أحاوله.
- من أين نبدأ يا كمال؟ قصة قديمة، الفرد أولا أم المجتمع؟.
- لن أنخدع ثانية بمناقشة القضايا العامة قبل أن أحدد موقفى.
- أكبر خداع هو ما أنت فيه الآن، ماذا بك حتى تتردد على طبيب هكذا؟.
- عاجز عن فعل أى شئ.
- أوهمك الطبيب بالعجز والمرض، ولو لم تستسلم لهذه الإشاعة العصرية لكنت مستمرا معنا الآن.
- من أنتم؟ وأين انتم، الآن؟.
- نحن مع الطبقة العاملة.
- ولكن الطبقة العاملة ليست معكم.
- الكادحون مسحوقون، والنضال مستمر، والعمال بدأوا يدركون حقوقهم.
- كلامك يوحى بأن القتال يدور من بيت لبيت ليل نهار، ولا أرى إلا تأجيل مواجة الذات لأجل غير مسى.
- نترك الناس ونواجه أنفسنا؟ فى عيادة طبيب أرزقى؟.
- أفضل من أن نترك أنفسنا ونضحك على الناس.
- حتى لو صح اتهامك.. فالناس أقوى من أن يضحك عليهم مثلى ومثلك إلا بعض الوقت، ماذا جرى لك يا كمال؟.
- لابد أن نعرف من نحن، من هو “أنا” “الآن”؟ وإلا..
- نوقف مسيرة العالم والتطور حتى نعرف من هو “أنا”.. ومن هو “أنت”؟.
- حتى لا تباع الثورات لغير أصحابها.
- الثورة للمطحونين من سواد الشعب.
- أنت لا تعرفين سواد الشعب ولا بياضه يا ملكة يا مناع، كل ما تفعلينه أنك تحافظين على “قلعتك الخاصة” بأسلوب أيديولوجى عصرى. أنت وغالى من مستحقى “وقف” الثورات.. أما صانعوا الثورات فأنت لا تعرفينهم.
- ليس لى قلعة ولا بيت، حتى أمومتى ضحيت بها من أجل مبدئى.
- أنت لم تضحى بأمومتك. كل ما فى الأمر أن الحمل والرضاعة لم يعودا لازمين لممارسة الأمومة لديك، أنت تتبنين غالى سرا وعلانية. ملكية أضمن تكفيك وزيادة.
- خبيث.. مهزوم تشوه الناس لتبرر انسحابك، كله من تأثير هذا الرجل المجنون.
-.. لا تبالغى، لقد جئته مهزوما جاهزا.
- كنت تهرب منا فى الفن، والآن تهرب من الفن فى المرض.
- الحياة كلها تأجيل لمصيدة القبر، وعلينا أن نختار الشكل المناسب للهرب، قبل أن تطبق المصيدة علينا يوما ما.
- حكمة اليوم هى إضفاء صفة الشرعية على الهزيمة، ما أروع ما يجرى هنا.
- ألا تحاولين النظر داخلك، ولو قليلا؟.
* * *
يبدو أننى أخطأت الهدف، غالى أهون من كمال ألف مرة. شعرت أن كمال انتهزها فرصة ليسوى حسابا قديما. أردت أن أستقطبه فكاد يهزنى وأنا لا تهزنى قنبلة ذرية.
- أنا لست مريضة يا كمال كما تتمنى.
- تحضرين للفرجة؟ أليس كذلك؟.
- زوجى يحضر وأنا مع زوجى للنهاية.
- تخافين أن يضيع وهو راجع إلى البيت، أو يخطفه أبو رجل مسلوخة؟.
- شيخكم هو الخطاف الذى أخشاه.
- ليس لى شيخ.
- ينتهز ضعف الناس ليستولى عليهم لحساب جنونه الخفى.
- حتى لو…، فهو يعملها علانية، وعلى من يستسلم له أن يدفع الثمن.
- كذب، كذب.الطب سلطة خبيثة. الرهبان يمارسون الدعارة مع أطفال.
- إلى هذه الدرجة تخافين منه، أم تكرهينة.
- هو يقتل وحدته بإلغاء كيانهم.
- هو لا يخدع أحدا.
- أنت أول المخدوعين به.
- لا أنكر أنى احتاج لرعايته بعض الأحيان.
- غالى له من يرعاه.
- تريدين أن تحتكرى رعايته حتى يظل طــفلك الكبير ملكك وحدك.
- أنا أكثر أمانة عليه من شيخ المنسر هذا.
- ملكة يا غالى.. قوى التملك تتنازع زوجك مثل الحدود الصينية السوفيتية.
- سخريتك سخيفة. أنت لا تعرفه. غالى سيد الرجال.
- هل تتصورين أننى لا أعرف متى رفع الراية البيضاء بعد زواجه بك.
- وغد لا تريد أن تنسى أنك كنت غريمه، ألم تعرض على الزواج قبله.
- قدر.. ولطف.
- مازلت تريد الانتقام.
-… أنت تحلمين.
- هو سعيد بحبى.
- أراه يسير ويداه مرفوعتان، وفوهة حبك مصحوبة طول الوقت إلى ظهره.
- ترسم صور له صورة مثل صورك الباهتة وهو ظفره برقبتك.
- ها أنت تتشطرين فى تسعير الرجال بعد تسعير الطبقات.
- لن تستطيع أن تسخر حتى النهاية.
- أنا لا أعرف النهاية ولا أسعى لها.
- خيبت ظنى.. إلى متى تنوى الاستمرار.
- حسب التساهيل. أنا أول الهاربين فى أى اتجاه، وكل اتجاه.. أكره التحديد كرهى لعماك.
- وغد.. تفخر بجبنك.
– أحسن من ادعاء غيره.
- لابد من وقف هذا العبث.
- تخافين المواجهة.
- قلبك ممتلئ حقدا.
- … ألم يكن الحقد ثروتنا التحريضية؟ فلماذا تتنكرين له الآن.
– 2 -
الخوف يتزايد ويحيط بى من كل جانب، لو تركت نفسى استعمل لغتهم لاكتشفت مصدر التهديد من داخلى. أنا لا أخاف على نفسى. كل ما أخشاه أن يتغير غالى بالرغم منه. لو تغير بإرادته فقد أتحمل النتائج مهما كانت، أما أن يتغير تحت وهم العلاج وتأثير “شيخ الطريقة الصحية لتمييع الثورية” فهذا ما يهددنى.
غالى يكرر إعلان أنه لا يتغير ولكنه يستزيد من المعرفة. يقول إنه بذلك يستطيع أن يختار. أنا أتساءل هل سيختار من أول وجديد. لقد اخترنا طريقنا بعد طول عناء. لقد أجابت “النظرية” على كل شئ. ماذا بقى أمامنا لنختاره ونحن نتعرض لهذه الخدعة الامبريالية الجديدة. أحس أننا نستدرج إلى مجالات ميتافيزيقية ألعن من كل المخدرات التى تعاطتها الشعوب عبر التاريخ. هذه الخدعة العصرية تلبس مسوح العلم وتدعى الطب لقد اخترنا طريقنا بعد أن أنهكنـا البحث، فما الداعى لأن نعيد الاختيار. لقد بدأنا النضال من زمن بعيد وقطعنا فيه شوطا أعطى لحياتنا معنى، فماذا نريد أن نختار بعد ذلك يا غالى الله يهديك؟ وأنا..؟ هل أنا من ضمن ما سوف يعيد النظر فيه؟. يا غالى.
- أما آن الأوان أن نكف عن الحضور لننتبه إلى ما وراءنا من واجب تحرير الناس.
- نحرر الناس.. دون أن نتحرر نحن يا ملكة؟.
- نحن أحرار تماما.. وأنت تعرف ذلك يا غالى يا حبيبى.
- مم تخافين إذن؟.
- أنا لست خائفة.
أعلم أنى كاذبة، كل ما حولى يؤكد لى أن أخطر الخطر هو ما يقع دون سابق إنذار هنا خطر متسحب. شئ ما يتحرك فى داخلنا ويقترب من السطح دون إذن.
لا أستطيع أن أنسى ذلك اليوم، لم أكن أتصور أبدا أن ذلك يمكن أن يحدث لغريب أو من غريب بالذات. ذلك الإنسان الهادئ المثقف، كيف فقد كيانه هكذا فى لحظة، مازلت أذكر كيف رعبت، وكيف تحرك داخلى يكاد يقفز ليحتويه ويحول دون تماديه. كنت أريد أن أحميه من كذبهم وادعاءاتهم “المحبة”. لو كان رحمى عباءه لفردته عليك يا غريب ساعتها. لو كان فكرى حصانا أشهب لاختطفتك عليه من وسطهم حتى أحميك من هذه المهانة يا غريب. فخورة بك أنا. سرعان ما رجعت محصنا أكثر من ذى قبل رغم محاولات نجوى التى لا تيأس. تلك السيدة المدعية لا تكتفى بإغراء مختار، أو الكذب على إبراهيم. هى لا تكف أيضا عن ملاحقتك بكل الصور. حتى الطبيب نفسه لم يسلم من محاولاتها. لا. لن أفرط فى “غالي” أبدا. لن أخدع فى أحاديثهم وتمثيلياتهم، ما أدراهم بالحب والمساواة والعدل التى يتكلمون عنها ليل نهار، صورة جديدة ليوتوبيا المأفونين. مقاعدهم وثيرة وكفاحهم بالألفاظ، يتعاطون أفيون العواطف فى حجرة مغلقة، لابد أن يتغير المجتمع من أساسه أولا. المادة أساس كل شئ، أما العواطف الإنسانية فلابد وأن تصان من هذا العبث والتشويه. الذى ينبغى أن نسارع بتحطيمه هو الملكية الفردية لا الكيان الشخصى، أما العواطف فهى شئ آخر. هذا هو التركيب البشرى الذى ينبغى احترامه. العواطف أمور هلامية ليس لها علاقة بالتطور المادى. العواطف ملكية خاصة لا ينبغى أن يقترب منها أحد، فما بالك بما يجرى هنا؟!.
-… أصحاب الأملاك يقولون أيضا أن ملكية النقود والأشياء من طبيعة البشر.
- يدافعون عما يملكون بتشويه طبيعة الإنسان.
- لعلنا نفعل ذلك أيضا حين نصر على خصوصية العواطف.
- ألم أقل لك يا غالى إن هذا الرجل يتسحب إلى خلايا عقلك من الباب الخلفى.
- أنت تعرفين أنى أحب أن أفحص كل الاحتمالات مهما كان الثمن.
-… حتى لو كنت “أنا” الثمن.
- أنت فوق هذه القاعدة..، بالنسبة لك..، استقرت الأمور من زمن.
- عماذا تبحث إذن بعد أن استقرت الأمور..؟.
- عن أى احتمال يوصل للحقيقة. ربما للقدرة، أو للفعل.
- نعم.. نعم..؟ وهل ستجد ما تتحدث عنه هنا عند هذا الرجل؟.
- ربما.
- هذا الرجل لا يقدم إلا احتمالا واحدا، هو: ذاته.
-.. أحس أنه هو ذاته لا يعرف من هى ذاته. فكيف يقدمها، لعله يبحث مثلنا، معنا. كل شئ جائز.
- هذا الرجل عنده جواب لكل سؤال. رؤيته حادة مثل السكين، تقطع كل من ينحرف عن حدودها.
- إذا كانت كذلك، فما هى؟.
- لا أراها بوضوح.
- كيف إذن هى حادة كما تصفين.
- سألته مرة عنها، فقال إنها: “الحياة”.
- كلمة مائعة مثل “الفطرة”، كلمة تصلح لكل العصور. تختبئ وراءها كل الحيل.
- ها أنت تفهم أحابيله. مازلت غالى حبيبى اليقظ الثائر.
- لا أنال منه. المسألة أصعب من هذه البساطة، فلا تبالغى فى تجسيم اعتراضاتي.
- تدافع عنه ثانية.
- أنا لا أدافع عنه، ولا عن أحد، وإنما أنا أسعى إلى المعرفة.
- وفى سبيل ذلك تنسانى، وتغفل حبى يا حياتى.
- ما دخل حبك يا ستى الآن؟.
- لا حياة لى بدونـك، لقد وجدنا الطريق من زمان فلا داعى لضياع الوقت.
- أى طريق؟.
- هل نسيت يا غالى: الحرية للشعب، والسيادة للطبقة العاملة..، هذه هى المقدسات الحقيقية لأنها واقع الناس. مالك؟ هل كفرت بكل هذا؟.
- لم أكفر ولا يحزنون. أنا انتهز هذه الفرصة لكى نتعرف على هذه الألفاظ من جديد، “الواقع”- “الناس”. ربما تكون مسئوليتها أكبر من احتمالنا.. أو ربما عشنا أصدق.
- نتعرف على “الواقع” و”الناس” من فوق هذه الكراسى الوثيرة؟.
- حيرتنا هى التى دفعتنا لهذه الكراسى الوثيرة، وهى جزء من واقعنا، وهؤلاء “ناس” من لحم ودم بغض النظر عن عدد “السست” التى تهتز من تحتنا.
- حيرتنا انتهت من زمن.
- فما الذى أرقنى تلك الأيام؟.
- كل الناس تصاب بالأرق أحيانا.
- ليست المسألة بهذه البساطة، أنت تذكرين جيدا كيف أنى فجعت فى صديقنا المسؤول؟.
- خطأ عادى وما نحن إلا بشر.
- عادى؟.. أسوأ استغلال وأبشع سرقة. خادمة قاصر!!.
-… لكل واحد هفوته.
- دفعنا حياتنا لمحاربة الاستغلال، وهو يعلمنا الدرس تلو الدرس، ثم أكتشف أنه يمارس أبشع استغلال.
- كفاحه المقدس لا تلغيه زلة عابرة.
- كفاحه أم صياحه؟.
- زلة شخص واحد لا تهز المبدأ.
-..دفعتنى للتفكير فيمن يقدر على حمل مسئولية المبدأ.
-… نحن قدرها يا غالى، حتى لو أخطأ أحدنا.
-… بدأت أشك فى كل شئ حتى فى ما هو نحن.
- مازلت تغلى بالغيظ.
- بدأت حكاية الأرق من يومها دون ربط ظاهر.
- أزمة وعدت، أنت تنام هذه الأيام مثل القتيل.
- أغمض عينى فحسب. أشعر أن داخلى لا ينام. لابد من حل.
- وهل الحل فى هذه المسرحية المعادة بلا نهاية فى عيادة طبيب مجنون.
- الحل فى الحصول على حريتى الداخلية.
- داخلية ماذا، وخارجية ماذا؟ كلنا أحرار إلى قاع القاع.
- القاع ليس فيه أحرار مالم يسعوا إلى القمة المسؤولة. هل نستطيع؟.
- نحن نستطيع.. ونصف. استطعنا ونستطيع.
- ليس بهذه البساطة.
ماذا جرى لك يا غالى؟ شكك يتزايد بدرجة لا تطاق، حتى حريتك التى لا جدال فيها، أصبحت مجالا للشك والمراجعة، أنت حر مادمت معى يا حبيبى. ماذا لو كنت زوجا لامرأة أخرى ليست “ثائرة” مثلى؟ امرأة تضيق عليك الخناق وتحاسبك على نظراتك وسكناتك. إننى لم أصر على حقى فى الإنجاب حتى لا أقيد حركتك. ماذا تريد بعد ذلك؟ فكر قليلا. ماذا لو أنك زوج ست البيت المتصابية فردوس هانم، أو ست الحسن المغرورة نجوى شعبان. ضبطتك آخر مرة متلبسا وأنت تتأمل جسدها ولم أفتح فمى. أنت حر حتى النخاع. مالذى أدخل إليك الشك بعد كل هذا؟ الحرية هى أن تحبنى كما تشاء وأن أحبك طول الوقت. أنت إبنى وأبى ودينى وعقيدتى، تستطيع أن تفعل بى ما تشاء من واقع حريتك، أنا أحبك يا غالى وليس لك سواى.
* * *
- كل شى تم تحديده بصفة نهائية يا كمال.
- نهائية !!؟ نهائية جدا طبعا. أفيدينا يا ملكة الحسم أفادك الله.
- تسخر منى؟.
-… أحاول أن أتذكر ما كنا نقوله ليل نهار.
- المادية.. والحرية.. والحب. ماذا تريد أروع من ذلك.
- بضائع الرصيف المستوردة.
- سخريتك قبيحة.
- كرشك يسع عشرين رجلا وطفلا بلا تمييز.
- لقد اكتفيت بغالى. فلا تحرك أمانيك القديمة.
- مجنون أنا إذا تمنيت أن أتمتع بعصارات هضمك الملتهبة.
- غيرتك تقتلك.
- غيرة ماذا يا ملكة؟ أنت أين؟ غالى يريد أن يتملص من سجن حبك قبل أى شئ.
- غالى ليس جبانا مثلك وهو لا يتمتع بحريته إلا بين أحضانى.
- حرية أن يختار إن كان يؤكل مسلوقا أو مشويا جدا أو نصف نصف؟.
- تحقد عليه، مازلت. أنت لا تكف عن الحقد عليه.
- لا تحلمى.. لا أحد يحقد على من يشوى فى أتونك.
……
……
أفسدكم يا أغبياء إلى هذا الحد؟ ماذا لو انتهى غالى إلى ما انتهيت إليه يا كمال، سوف لا أتعرف عليه.
كيف السبيل إلى إيقاف عجلة هذا العبث البرجوازى القبيح؟.
- 3 -
كان غريب هو الوحيد الذى يتعاطف مع مشاعرى العدوانية تجاه هذا الطبيب سرا وعلانية، حين يدخل فى نقاش معه، أو حين يتحوصل وينظر إلى هؤلاء البله فى تعال، أحس أنه يقوم عنى بما أود أن أفعله.. حين يتكلم أحس أنه يستخرج الألفاظ من وجدانى. ها هو ذا ينقطع عن الحضور فيتركنى وحيدة تماما، كنت أحس به سندا قويا فى إدراكه لحقيقة ما يجرى. فرحت لغيابه. طمأننى أننا يمكن أن نخرج من هذه الورطة ونحن أكثر صلابة وتماسكا بذواتنا وعقائدنا عن ذى قبل. ليس معنى أن يصاب إنسان ما بالأرق لبضعة ليال أن يفرض عليه التنازل عن كل تاريخه ومكاسبه لمثل هذا الطبيب الذى ينتهز الفرصة ليدعى أن ظهور الأعراض ما هو إلا طلب للتغيير. يشترط ضمنا أن يكون تغيرا فى اتجاهه. هذا الجاهل الذى لا يكف عن الكلام عن العلم وعن الحرية وعن التطور يخلط بين ذاته وبين العالم بطريقة بلهاء. العجيب أن أحدا غيرى وغير غريب لا يكتشف ذلك. أكاد أشعر أن قانونا غير مكتوب يحكم هؤلاء الناس. غاية أملى أن يفهم غالى خبث هذه اللعبة قبل أن ينساق إلى مالا يدرى. لماذا التغيير؟ ليس فى الإمكان أبدع ولا آمن من القوانين المادية الراسخة العظيمة. ما جدوى البحث فيما انتهينا من البحث فيه؟ أريد أن أحتفظ بغالى كما هو. لا يخالجنى شك فى أنه سيترك هؤلاء الناس يوما ما ويعود إلى هو، هو. متى؟ لماذا تطول هذه المسرحية كل هذا الوقت؟ ماذا ينقصه وأنا معه؟.
الرجال لا يحمدون النعمة.
كمال هو الذى أحذره أكثر من شيخهم نفسه، حين يكلمنى يعرينى دون استئذان هل يعيبنى يا كمال أن كل همى هو أن أحافظ على زوجى؟ غالى إنسان صادق، تألم بما فيه الكفاية واضطهد بما فيه الكفاية. أنت تعلم كيف تعامل الأقلية من الأكثرية بغباء لا نظير له. يكفيه ويكفينى ما كان من آلام.
- ألسنا نكرس حياتنا لتخفيف آلام المسحوقين بدلا من اجترار آلامنا الخاصة.
- لا نستطيع أن نكف عن معايشة الألم بقرار يا ملكة.
- الحب يخفف الآلام.
- الخطورة أنى بدأت أتساءل حتى عن الحب. اختلف معناه. أحيانا يعاودنى سؤال قديم يقول: هل ثم من يحبنى “أنا”.. فعلا؟.
- نعم؟ نعم..؟ ماذا أفعل أنا إذن؟ هل ألغيتنى يا غالى؟.
- لا أقصد. أنت حياتى.. ولكن…
- لكن ماذا؟ هل تشك فى حبى أيضا؟ أو أنه لا يكفيك؟.
-…. أخاف منه أحيانا.
- فيم الخوف؟ نحن على وفاق حتى فى أفكارنا.
- ربما هذا هو سر خوفى، لقد ضحيت بكل شئ من أجلى. حتى حقك فى الأمومة. أخشى ألا أستطيع دفع الثمن.
- لا أطلب منك ثمنا إلا استقرارنا وسعادتنا.
-… ماذا كنت أفعل بدونك؟.
- آن الأوان للانسحاب من هذا الذى تسميه علاجا.
- ما بالك منزعجة هكذا؟.
- هذا رجل صاحب دعوة سرية. هى تسرى فينا تحت شعار الصحة، لا تنس أننا أقلية ولابد أن نحمى أنفسنا بكل وسيلة.
- لا أشعر هنا معهم أنى أقلية.
- نحن أقلية مهما انتمينا إلى أعضاء هذا السرك الجديد.
- أريد الحقيقة، حتى ولو كنت وحدى.
- قوانين المادة تفسر كل شئ حتى التاريخ. لماذا نعود لطرق أبواب الخرافة؟.
- لست واثقا إن كان ما نحن فيه علم أم خرافة.
- هذا الرجل يستغل ظروف المجتمع وآلام الناس لترويج أفكاره.
- أحيانا أشعر أنه عالم حقيقى.
- وهذا سر خطره.
- أى خطر؟.
- خطر أن ننسى عقيدتنا وواجبنا إزاء نضال الشعوب.
- المواجهة الداخلية هى الضمان لاستمرار الشعلة التى تشعل نضال الشعوب.
- تقول داخلية، هلى سنغير العالم من الداخل؟ هذا العبث يكاد يلهينا عن بيتنا الذى أسسناه لنكمل النضال من أجل الشعب العامل.
- هل تخافين على الشعب العامل.. أو على بيتك؟.
- تنسى تضحيتى بأمومتى لنتفرغ للكفاح؟.
-…أنت لم تحبى الأطفال أبدا.
- لا أحب تعريضهم لخطر حياة كلها ظلم واستغلال.
- الخطر الحقيقى هو أن نخدع أنفسنا. أن نرقص على السلم.
- نحن نعرف طريقنا.
- أحيانا أعتقد أننا نهرب فى الناس من أنفسنا، بلا انتماء حقيقى لنا.
- صرت تتشكك فى كل شئ. ما الحكاية!!.
- نتحدث عن حتمية التغير. أرعب من تغيير بعض من سبقونا ممن أتيحت لهم فرصة أن يختبروا بكرسى السلطة.
- ماذا جرى لك؟ هذا الكلام أشبه بهمس رجال المباحث.
- أراجع مواقفنا. أتساءل وأرعب من تصور منظرنا على كراسى الحكم يوما.
- نتركها لهم بالسلامة يمصون دم الشعب حرصا على نقاء داخلك. ماذا تكون النتيجة إذا توقف الجميع عن النضال نتيجة لمثل أفكارك؟ سيقيم الطغاة الأفراح، وتسحق الأقليات بلا هوادة.
- هذا يرعبنى أكثر.
- من إذن سيغير المجتمع؟ أصحابك المجانين. وشيخهم الأرزقى؟ فى هذه العيادة السرية.
- هذا ما يزعجنى أيضا.
- يخيفنى !!! يرعبنى !! يزعجنى !! أهذا ما نجنيه من صحبة هؤلاء المعوقين داخل عيادة مجنون؟.
- عجز هؤلاء المعوقين كما تقولين، لا يبرر كذبنا نحن.
- نحن لا نكذب.
- ضرر هذا الرجل إن وجد لا يتعدى عشرة أو عشرات، أما نحن، فثقة الناس لو ملكنا أمرهم ترعبنى وتلزمنى بمواصلة طريق المعرفة الشائك ضمانا لى ولهم.
…..
…..
أنا لا أستطيع أن أوقف تدفق الشلال. بيتى مهدد، حريتى مهددة، عقيدته تهتز. كل هذا نتاج عناده وإصراره على الاستمرار فى لعبة حمقاء ليس لها معالم. أنزعج حين أفكر فيما وصل إليه من عمى. ماذا يريد منى؟ أحيانا يعرض على أن أدلو بدلوى فى العلاج، وأن أتوقف عن موقف الفرجة ؟ هل يريد لى أن أكون مثل فردوس العروس الحلاوة الحمقاء. تلك المرأة لا تخجل من وصف نشوتها الجديدة، وكأنها عثرت على كنز قارون. كيف تجرؤ على هذه الوقاحة أمام طفلة مثل بسمة؟ أنا امرأة مثلها ولا أعرف تلك الأحاسيس التى تخترعها فردوس هذه اختراعا لتثبت لنا شفاءها الشبقى، وكأنه النجاح الأعظم فى حياة البشرية المشمولة برعاية زوج متفرغ. كيف لا تخجل من تصابيها المنفـر؟ كلامها يثيرنى أحيانا لدرجة تشككنى فى أنوثتى. ما هذه القمم المجهولة التى تصعد إليها مع زوجها؟ ما تلك الغيبوبة التى تصفها وكأنها انتقلت إلى الجنة فى كل مرة؟ لن أشك فى نفسى مهما كان. ممارستى الخاصة هى الطبيعة ذاتها. أنا أعطى غالى كل ما يرضيه وأنام راضية مسترخية أغلب الأوقات. أرفض، وأخاف من هذا الحديث العابث الكاذب عن الأجنحة التى تطير بها هذه المرأة متعبدة فى فحولة زوجها راقصة تحت سمائه. أراهن أنها تعد له خفية وصفات رجب العطار مع توصيات مجلة الشبكة.
هل هذا هو ما تبحث عنه يا غالى فى روضة أطفال الدعارة هذه؟ هل هذه هى حقيقة الداخل الذى تريد مواجهته؟ هل هذا هو طريق المعرفة الشائك؟ هل أصبحت فردوس مثلك الأعلى فى المرأة ؟ أم أنك تريد نموذجا آخر مثل نجوى المغرورة بجمالها وهى تريد أن تكمله بالديكورات العلاجية الحديثة، والإكسسوارات الثقافية المناسبة؟ إلى متى أظل محكوما على بتأمل “غرائب الطبيعة” هنا على هذه الصورة؟ نجوى التى كانت لا تفهم معنى كلمة أيدلوجية تتحدث الآن عن الصدق والحرية والناس. هى تروج بضاعتها الجديدة عند مختار وإبراهيم بعد أن هرب غريب بجلده. ليس أمامى خيار. على أن أستمر فى التمثيلية إلى النهاية حتى أسترده وأرجع. كيف أستطيع أن أتحمل كل هذا الذى يجرى هكذا؟ كيف أسيطر على مشاعرى إلى النهاية؟ كيف أمنع شكى فى أنوثتى من خلال تفجـرهم الصناعى؟ هؤلاء المجانين يخلطون بين كل شئ وكل شئ: الجنس والـله والحب والناس، كلام خطير يحرك خلايا الحجر.كيف أتحمله؟ وإلى متى؟ هل أنا باردة حقا؟ هل هو يرغبنى هكذا. إن كان يعرف أصلا. ما هذا. هذا يكفينى. هذا الرضا يخفف آلام الاقتراب الجنسى ذاتها.
أحيانا تساورنى رغبة مجرمة للتحدث معهم فى موضوع هذه الآلام وخاصة بعد أن أكد لى طبيب أمراض النسا سلامة أعضائى. لن أسمح بذلك ولو بعد ألف سنة.
- 4 -
بوادر خير تلوح فى الأفق.
بدأ غالى يفكر فى لعبة بديلة، ذهبنا إلى بعض الأصدقاء الذين اعتادوا أن يتجمعوا حول الشيخ الضرير بعوده المتحفز ولسانه السوط. فرحت بذلك وتمنيت أن نستغنى بهذه الجلسات عن ذلك الرعب الأسبوعى حتى لو كان الحشيش هو الوسيلة إلى ذلك حشيش الجوزة أهون من حشيش ذلك الطبيب النصاب، دعانى غالى لمشاركتهم ولكنى لم أستطع. ضحك كثيرا وتكلم كثيرا ولكنه بكى ونحن راجعان فى التاكسى.
لم أدر ماذا أفعل.
* * *
انتهى غالى.. بعد أن أفرغ شحنته، وتمدد على ظهره هذه الليلة دون أن ينام. أصدرت أوامرى لخلاياى بالسكون بعد أن أدت مهمتها الثقيلة، وابتدأت الآلام تتضاءل تدريجيا. نظرت إليه فى تساؤل: لماذا لم ينم هذه المرة كما اعتاد أن يفعل كالطفل الرضيع.
- مالك يا غالى الليلة؟.
- لا شئ. أنا أفكر فيك؟.
- أنا بخير ما دمت سعيدا، ألم أرضك الليلة؟.
- وأنا.. هل أرضيتـك؟.
- أنا راضية بك وبجوارك ليل نهار.
- طرأت على فكرة مرعبة فور انتهائى الليلة.
- الأفكار التى تطرأ عليك هذه الأيام أغلبها مرعب، وأنت مصر على الاستمرار.
- هذه جريمة استغلال.
- تتحدث عن ماذا؟.
- عن ما حدث الليلة.
- ماذا حدث..؟ الليلة مثل كل ليلة.
- ألسنا نحارب استغلال الإنسان للإنسان؟.
- هذه بديهية.
- وهذا الذى فعلتـه بك الليلة، أليس أسوأ استغلال؟.
- غالى… ماذا جرى لك؟ أنت أغلى من عينى وروحى. أنت زوجى وحبى. أين الاستغلال؟.
- تفتحت آفاقى على معان أخرى للاستغلال.
- ماذا عندك أيضا من مفاجآت؟ بدأت أخاف كما لم أخف أبدا؟ من يستغل من؟.
- أنا أستغلك يا ملكة.
- برضاى. هذا غاية سعادتى.
- أغلب العبيد كانوا يمنحون أرواحهم برضاهم وهم يعتقدون أنهم فى غاية السعادة فى ظل الإقطاع.
-…أنا فى كامل وعيى، وبكامل حريتى، كيف تشبهنى بالعبيد؟.
- تكتمين آلامك ولا تتمتعين بحقك، وتطلبين عبوديتى ثمنا لذلك.
- درس جديد حفظته من حضرة الناظر فى روضة الدعارة الصحية الحديثة؟.
- لا تنسبى إليه كل شئ.
- نحن نعيش فى وفاق نحسد عليه.
- أحسست أنى مجرم فى حقك.
- نعم؟ نعم؟ شفقة أم احتقار أم إثارة؟.
- أفكر فى حقوقك. أبسط حقوقك كامرأة.
- وهل اشتكيت لك يا أخى؟ عجيبة.!!.
- هذه الجريمة يجب أن تتوقف.
-… أى جريمة يا مجنون؟ هل اشتكيت لك ؟ أنا لا أجد مبررا لكل هذا الذى تحكى عنه.
-… السعادة شئ آخر.
-… لابد أن تكون ممهورة بإمضاء شيخ الطريقة الجديدة حسب المواصفات التى يلقنها لكم. أليس كذلك؟ عـد إلى رشدك يا غالى قبل أن تفقد شخصيتك تماما.
- قولى لى بصراحة: هل تصلين إلى.. إلى “النهاية”؟.
- ماذا جرى لك يا غالى؟ نهاية ماذا وبداية ماذا؟ هذا وهم وإشاعات تريدنى بقرة رقطاء مثل الست فردوس. أم لبؤة جوعى مثل الست نجوى؟ أنا امرأة حرة ومثقفة، وهم لا يعرفون القيم الإنسانية فى الاقتراب الجنسى.
- قيم؟ وإنسانية ؟ يبدو أننى لم أعد أفهم. عموما أنا آسف على كل ما كان.. منذ..البداية.
-أية بداية.
- منذ زواجنا.
- منذ ماذا؟ ماذا تقول؟ ياسيدى أنا راضية وسعيدة بكل ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، مادام منك، ومادام يرضيك. مالك بى؟.
- لم يعد يرضينى. لا أولاد..ولا جنس.. من أين تأتى السعادة؟.
- غريبة أمورك هذه الأيام، نحن نعيش هكذا من سنوات ماذا جرى؟ ماذا استجد؟.
- رؤيتى تتضح يوما بعد يوم.
- نجح الطبيب المجنون أن يقلب مشكلة استغلال الطبقة العاملة إلى البحث عن الجنة الجنسية الموعودة.
- الصدق يؤكد الصدق. البداية منا نحن، ثم تمتد إلى كل شئ.
-.. البداية من على السرير، أليس كذلك. أهذه آخرتها؟ ما ذنبى أنا؟.
- أنا لا أتهمك.. أنا اتهم نفسى بالعمى والصمم. لن أقبل أن أستغلك بعد الان، العادة السرية أشرف من هذه العلاقة.
- هذه ليلة سوداء لن تمر بخير.
…..
…..
نجح شيخهم الكلب أن يقلب حياتى رأسا على عقب. دخلها من أسفل المسارب، سوف أنتقم لا محالة، لا أحد يحس بى. لا أحد يفهمنى. حياتى مهددة، وغالى يبتعد عنى إكراما لإنسانيتى على الطريقة النور الدينية!! لن أيأس. لن أستسلم للغضب. سوف أقاتل حتى النهاية. سوف أسترجعه بكل وسيلة. يبتعد عنى ويسمى ذلك حبا واحتراما، هذا آخر تفسير للحب. أحدث التفسيرات تقول إن أحسن طريقة للتعبير عن الحب هو الهجر فى المضاجع ثم الضرب بإذن الله (;) هكذا ننسى جوع الجماهير الكادحة ونتفرغ لتصنيف أنواع الحب السبعة، أو الأربعة وأربعين. طيب.
* * *
- 5 -
بدأت المظاهرات من باب اللوق وانتشرت إلى وسط البلد بلا ترتيب سابق، جاءت فى وقتها يا غالى يا جوهر. عليك أن تواجه ذاتك يا كمال يا نعمان، أما أنت يا عبد الحكيم يا نور الدين فلسوف تتضائل أمامنا جميعا حتى يسعك جحر يليق بجبنك وخيانتك. وحين يقرصك الجوع سوف ألقى إليك بكلمة صدق عليها “سم” الفئران الحديث جزاء وفاقا لما تفعله بالناس. ها هو الشعب قد استيقظ وهو يطالب بحقوقه. الحوانيت تتحطم، والمتاجر سوف تنهب ليسترد العرايا والجوعى حقوقهم. الأتوبيسات تحترق، الثورة أعلنت فى الوقت المناسب، وقت أن طعنت فى أنوثتى حتى كدت أنهار، هذه هى الحياة والحرية والمسئولية الحقيقية يا غالى يا ابن جوهر، نحن ننتمى طول عمرنا إلى هؤلاء الناس وليس إلى أصحابك المعوقين فى عيادة سرية. هذا هو الامتحان الحقيقى. من شاء أن يرى صدقه فلينزل إلى الشارع الآن يا كلاب حين تعرف كذب ادعاءاتهم يا غالى فسترجع الى أحضانى آمنا نواصل الكفاح مثل زمان.
- قامت الثورة.. وعلى كل إنسان أن يعرف مكانه ودوره.. ويتحمل مسئوليته.
- أية ثورة؟ هل أخبرك أحد شيئا.
- المسألة لا تحتاج إلى إخبار، الشارع يغلى يا غالى.. فأين دورك؟.
- ياليتنى أعرف.
- دورنا فى الشارع يا غالى، هل نسيت؟ ننزل فورا.
- ننزل إلى أين..؟ هل فى ذلك ما يفيد؟.
- أى شئ أحسن مما نحن فيه من ضياع منذ شهور؟.
- كنا نبحث عن حل.
- ثم جاءنا الحل بأن نواجه مسؤليتنا بحق. ما قولك الآن؟.
(برودى الجنسى يابن جوهر أشرف من برودك السياسى يا حبيبى الغالى).
- لا أنكر أنى أخجل من موقفى ومن جلوسى هنا الآن. لكن…
- هل اكتفيت بالتدريبات الداخلية فى “مصنع” العواطف المستوردة ؟؟.
- أحتقر نفسى ولا أعرف كيف أشارك الناس حقيقة مشاعرهم.
- الأحداث أقوى من كل تساؤل.
- هل نترك التلقائية تتحكم فى مجريات الأمور؟.
- أفضل من الحسابات الجبانة.
- وهل التحطيم يكفى؟.
- إذا كنت لا تؤمن بالتحطيم فلماذا حاولت تحطيمى؟.
- هذا ليس وقت تصفية حسابات شخصية. هل يمكن عمل شئ الآن فعلا؟.
- هذا وقت الحساب الحقيقى. أين أنت وأصحابك المجانين من كل هذا، وعلى رأسكم شيخ المنسر؟.
- مواجهة النفس هى بداية الطريق، هذا ما تصورت أننى تعلمته.
- ويموت الناس جوعى حتى تتم مواجهة أنفسنا بالسلامة، أليس كذلك؟.
- الحماس وحده لا يكفى.. لابد من تخطيط وضمان للاستمرار.
- فى عيادة سرية تبيع الوهم للمجانين جلوسا؟.. أليس كذلك يا غالى يا حبيبي!؟.
- أى صدق لابد ينتج ثائرا عنيدا يمكن أن يتحمل نتائج مثل هذا الغليان فى الشارع.
- الصدق الذى تمارسونه هو تبرير التأجيل إلى ما لا نهاية.
- محتمل. محتمل جدا. ولكن ما حيلتى أنا وهذه هى رؤيتى الجديدة.
- لم تصدقنى وأنا أقول لك إنها رؤية مغشوشة، رؤية تبرر التأمل بديلا عن الثورة. لو طبقنا إشاعة حتم هذه الرؤية على هؤلاء الشباب إذن للزموا بيوتهم يتأملون ذواتهم بالسلامة.
- هم يؤدون دروهم بحماس من وجهة نظرهم.
- يا ليتنا أحذية فى أرجلهم.
-.. هل تضمنين أنهم إذا دخلوا الامتحان الأكبر سوف يتحملون مسئولية استيعاب هذه المشاعر الجماهيرية الغالية لصالح الناس؟ أصبح رعبى من ورثة الثورات أكبر من فرحتى بهتافات الأبرياء.
-.. وصى حضرتك على وعى ومسار المكافحين الشرفاء !!.
- لست وصيا ولكنى خائف.. خائف من الخدعة الكبرى. للكراسى سحر آخر.
- وحتى نفك السحر، نرضى بالواقع. ماذا جرى لك يا غالى؟ أليس بديهيا أن حالنا لم يعد يحتمل أى استمرار. لا بد من التغيير حالا، وجذريا.
- صحيح، لكن: هل آن الأوان أن نمد بصرنا حتى نعرف من الذى سيمسك الدفة بعد أى تغيير. مجرد الفرحة بالغليان لم تعد تكفى. أنا أشك فى نفسى، بشع ما هو بالداخل. أتصور أن مثله عندهم ولا أعرف السبيل إلى ترويضه لصالح هذا الحماس.
- نؤجل الثورات حتى يتم ترويض الداخل بالسلامة. هذه هى التعليمات الجديدة. هؤلاء الشباب هم أمل الأمة، هم شرف الوطن، ماذا يبقى لو رفضنا ما يفعلون؟.
- أنا لا أرفض ولا أقبل، من أنا؟ أنا أتصور أن أيا منهم لا يقدر على التعرى لمعرفة حقيقة وجوده. فلا ضمان حين تتغير دوافعهم وظروفهم وآمالهم وموقعهم من السلطة والناس. لا ينبغى أن ننسى دروس التاريخ، لا بد أن نعد من يرث الثورة مثلما نعد من يشعلها.
- أصبحت فيلسوفا؟ عينك شيخ الطريقة قاضيا على منصة يقسم الناس إلى شغالة وورثة بعد أن يحكم على المناضلين بالتسطح العاطفى.ألا تخجل من نفسك؟.
- أخجل، أخجل جدا، أريد أن أتوارى. أحاول أن أنسى كم تحمسنا وقتل زملاؤنا، ثم ورثها الأعلى صوتا. لا الأعمق إحساسا بالناس ومسئوليته عنهم. أخشى أن تتكرر المأساة كل مرة. لا يا ملكة سوف أرفض تكرار المأساة.
- وماذا يفيدك أو يفيدنا اعترافك بخجلك من نفسك هذا الذى تدعيه؟.
- أواجهه بكل الألام قدر استطاعتى.
- ثم تعلقه على الحائط مصلوبا.
- لا أستطيع أن أخدع نفسى وأنا بكامل وعيى.
- الناس تموت فى الشوارع.
- قد يكون هذا هو الحل.
- أن يموت الناس؟.
- لا… أنا الذى..
- غالى.. ماذا تقول؟.
- العجز يحكم قبضته على، والخجل أكبر من احتمالى.
- المشاركة..هى الحل الحقيقى.
- شاركنا قبل ذلك واستلمها من هم ألعن ممن أزلناهم. هؤلاء يستعملونا، وأولئك يزيحونا. يبدو أن المسألة تحتاج لإعداد جاد وطويل.
- أفسدك العلاج.
- أنا أحمل مسئوليتى وأمضى.
- والشعب يا غالي.
- من الشعب؟.
- الطبقة العاملة.
- وأنا وأنت؟.
- هذا ليس وقت للقافية.
- أعنى ما أقول.. هل نحن من الشعب أو لا؟.
- نحن من صميم الشعب الحر.
- ولكننا لسنا أحرارا.
- سجننا هو خوفك.. وخوف أمثالك.
- آن الأوان أن نحترم الخوف حتى نزداد شجاعة تمنع أن يسرقونا ثانية.
- كنا نعيش فى وضوح وصدق.
- ثم جانب آخر لما كنا نسميه الوضوح أو الصدق.
- يا خسارة ! حتى النار المشتعلة فى الشوارع لم توقظك.
- نارى أشد اشتعالا.
- ماذا ؟.
- لو لم أصل إلى “معني” للآن وما يترتب عليه، فالنار جزائى بلا ندم.
- تراتيل الخرافة الحديثة؟.
- ماذا يفيد لو كسبت العالم وخسرت نفسك؟.
- ترتد إلى الغيبيات تبرر بها سلبياتك.
-سمها ما شئت.
- الأفيون يسرى فى عروقك بسرعة البرق.
- لن أخدع نفسى ثانية.
* * *
ضاعت الفرصة وهدأ الشارع بفضل الأمن المركزى والطب الحديث. توارت الفرصة يا ملكة ولم يعد غالى. لن أهمد.
* * *
-إلى متى يا غالى. ألا يكفينا ما جرى؟.
- لا مفرمن مواصلة المحاولة.. ولو هلكت. من يفتح عينيه مرة لا يستطيع أن يغلقهما بخاطره ثانية.
- نمشى على حافة النار مغمضى العينين ونتحدث عن الرؤية الصادقة.
- لا أعرف سبيلا سريا إلا العمى الاختيارى ولو تحت اسم حركى آخر.
- أصبح للتفكير الخرافى شكل علمى طبى حديث، يعفى من المسئولية على صك جديد يسمى روشتة “وهو يستدرجنا إلى ما وراء الطبيعة هربا من مسئوليتنا.
- بل إلى ماوراء العقيدة بحثا عن حقيقتنا.
- لا حقيقة إلا فى المادة.
- المادة البشرية شديدة التعقيد.. ولابد أن نبحث قوانينها بأسلوب آخر.
- قوانينها هى أيديولوجيتنا الرائعة الصالحة لأى عاقل يحترم عقله.
- هل تعرفين تعريفا للعقل أو للاحترام؟.
- يبدو أنهم يصنعون الأفيون هذه الأيام فى أقسام الطب النفسى.
- هذا لا يعفينا من مسئولية البحث.
- ويهلك الكادحون حتى ننتهى نحن من البحث أولا؟.
- من يسمعك يخيل إليه أن يدك على الزناد فى ساحة القتال ليل نهار.
-…… تسخر منى لتبرر هربك.
* * *
المناقشات لا تنقطع. إصراره يزيد. أين أنت يا غالى، أين حماسك وإصرارك؟ إلى أين أنت ذاهب فى مجاهل الغيبيات، ونحن لم نخرج منها إلا بعد جهاد مرير؟ هل نسلم عقولنا ثانية للقوى الخفية حتى ولو سمت نفسها بأسماء علمية؟ ثم تتهمنى أنا بالجمود ;؟.
- أحيانا أفكر فى وجه الشبه بينك وبين عبد السيمع الأشرم يا ملكة.
- أنا.. يا غالى ؟!! عبد السميع يا غالي!!!.
- تعصبك لدينك المادى ليس أقل من تعصبه لدينه السماوى.
- دينى المادى؟ ودينه السماوى ؟ وأنت يا ملك الرؤية والصدق، ما دينك الجديد. ماذا تريد منى الآن بعد كل هذا؟ ألا يكفى أن أذهب إلى شيخك المجنون أتحمل شطحه وتهويماتكم البلهاء، ثم تشبهنى بعبد السميع المعتوه يا غالي!!!.
- عبد السميع لا يدعى الحرية مثلك.. وهو ينتظر الفرج فيما بعد الموت.
- تطلب النجاة لتبرير ما انزلقت إليه بتشويهى وتشويه معتقداتى التى ماعرفتها إلا منك.
- مازلت مؤمنا بمعتقداتنا ولكننى أبحث عن الطريق الذى يحافظ عليها.
- وسوف تجده بالـسلامة فى عيادة طبيب ؟.
- لا أعرف.
- 6 -
مطعونة فى أنوثتى، مهاجمة فى عقيدتى، مهجورة فى سريرى. بدأ الشك يتطرق إلى طريقتى فى الحياة. بدأت تساورنى الشكوك حول غالى وحول علاقاته. أتتبع نظراته إلى نجوى برعب حقيقى. إصلاح مساعدة الطبيب تتعاطف معه بشكل ظاهر. تهتز كل خلجة فيها حين تتفاعل معه.
طبيبة مساعدة هى أم مريضة مثلنا؟ حين بكت تلك المرة حاولت أن أتهمها بالتصنع. لم أستطع. غالى تكلم كثيرا بعدها عن صدقها وإيمانها بما تفععل. لم أرد. يبدو أنى خدعت فى كل شئ. آمنت به وبمبادئه ودفعت ثمن العيش معه: أمومتى، وربما أنوثتى لو صح اتهامه لى. ها هو ذا يكاد يترك لى مبادئه ويتراجع دون إنذار. كأنه يطالبنى بالتراجع معه. كأنى مذياع تتغير المواد التى يذيعهابحركة خفيفة من مؤشر جانبى. هذا جزائى. هذا ثمن التنازل عن كيانى لأى شخص كان غيرى. لن ألوم إلا نفسى. كل الحلول التى تطرأ على بالى تفشل قبل أن تصل إلى وعيى.
لو تراجعت عن مبادئى من أجل خاطره سوف أحتقرنى. أتراجع إلى أين؟ لو أصررت على موقفى فلن يكف عن الهجوم والتشكيك فى. كيف أتنازل عن شئ حفظ كيانى وصورتى أمام نفسى وأمام الناس طوال هذه السنين؟ صحيح أنا التى تبعته، من أجله، لكننى اقتنعت بعد ذلك بغض النظر عنه.
سألت نفسى مرة فى لحظات يأس عابرة هل أنا – حقيقة – أعرف ماذا أقول؟ أجبت بالإيجاب “طبعا”. ولكنهم علمونى خيبهم الله أن أشك فى نفسى كلما قلت “طبعا”.
هل أطرق بابا أحكمت إغلاقه من سنين؟ باب أمومتى التى أنكرتها من أجل خاطره؟ هل يكون ابتعادنا عن ما هو عادى سببا فى ارتمائنا وسط هؤلاء المجانين ثم اهتزاز عقائدنا؟ هل مازلت امرأة تصلح أن تتحرك حياة جديدة فى أحشائها؟
- مازلت أحبك يا غالى.
- وأنا كذلك.
- هل راجعت نفسك وأعدت تفسير مبررات هجرك لى؟.
- لم أهجرك، أنا كففت عن خداع نفسى..، وظلمك.
- مازلت تسمى علاقتنا استغلالا.
- هذا ما يغلب على ظنى.. حتى أتأكد من حقيقة سعادتك معى.
- أنا راضية. وسعيدة.
- لا بد أن ترضى كل خلاياك.
- وكيف أعرف ذلك دون أن نجرب.
- معك حق.
حاولت أن أقوم بتمثيل كل ما سمعت عن القمم الجنسية والخلايا ذات الأجنحة فى جنة المتعة، ولكن يبدو أنى لم أنجح فقد كانت نظراته مليئة بالألم. وقد حاول أن يمنع نفسه من إنهاء مهمته إلا أنه لم يتمكن، وطال الصمت بيننا حتى قطعه بقوله:
- فشلـنا أفظع.
- هل يعنى ذلك انسحابك من جديد؟.
-……….
- أعدك أنى سأحاول.
- صحيح؟.
- على شرط أن تعاوننى.
- طبعا، أنا آسف.
-… لم تسألنى عن حبوب منع الحمل.
- هذا شأنك أنت.
- قررت أن يكون لى أطفال.
- هكذا فجأة؟.
- نعم.
- أرجو ألا تكون خدعة جديدة.
- لا خداع فى الأمومة.
- ليس لى سابق خبرة….
* * *
ما إن تأخرت العادة الشهرية حتى أحسست بالأمان يغمرنى بطريقة لم أشعر بها من قبل. طريقة لا تقارن بالأمان الذى كنت أتصوره من خلال حماسى لعقيدتى المادية. هذا شئ آخر. نجحت خطتى – لكن فشلى الآخر يتزايد والآلام الجنسية أصبحت أكثر حدة حتى أعلن غالى انسحابه ثانية، استقبلت انسحابه هذه المرة براحة عميقة، أنوثتى جرحت بنفس الحدة إلا أن أحشائى تحوى ما يـثبت أمومتى دون ادعاء اللذة المجنونة. الأنوثة هى الأمومة أولا وقبل كل شئ. ديننا الذى هجرته يقول هذا، أو مثل هذا.
أحيانا أفكر فى العودة إلى دينى ودين أهلى بدلا من كل هذا الضياع والوحدة. من يدرى؟ ربما يغنينى تدين مثل تدين أمى عن أنوثتى المطعونة؟ هل ينتهى بى المطاف إلى مثل ذلك؟ لم أعد أقدر أن أخفى جوعى. أتصور أحيانا أن أحدهم، وأحيانا كلهم، يعرفون كل شئ. هل قال لهم غالى؟ طبعا لا.ألتقط نظرات مختار النهمة التى لا تميز.
- من أنت يا مختار؟.
- طائر بلا عش، قادر على الطيران إلى مالا نهاية.
-غالى شككنى فى كل شئ، وهأنذا أشك فى حريتك.
- أتابع تطور علاقتكما بشغف.
- شغف؟.
- أكبر جريمة أن تنسى المرأة جسدها.
- جسدها…؟.
نفسه، هكذا يقول. يضيف أنه حين يجدها سينطلق لتضميد جراح البشر وإزالة الظلم، بتحقيق عقيدته هى هى. أصبحت لا أهتم بتحذيره من الطريق المغلق، أو بحساباته المرتعدة. أحيانا يتردد على الكنيسة دون أن يخبرنى وأنا سعيدة بذلك، مازلت فى انتظار إنهاكه.
توقفنا -دون ضغط مني- عن الذهاب نهائيا إلى حيث الكابوس الأعظم، قال إنه عرف ما يكفيه. غالى يزداد وداعة وتسليما يوما بعد يوم، علاقتى به هادئة. يبدو أنه نسى حكاية البرود والاستغلال بقدرة قادر. أنا التى لم أنسها. كيف أنساها.
أعفانى الحمل من الواجب الأسبوعى. لكن ماذا بعد الولادة.
سوف يحلها القادم الجديد كما سوف يحل مشاكل الكون.
* * *
تغير غالى تماما منذ الولادة.
حين أنادى على إبنى فيناغى وكأنه يفهمنى أقول لنفسى “إن الضمان الأوحد لاستمرار الإنسان وتطوره هو فى “أن تنجب النساء أطفالا”.
***
الفصل الخامس
غالى جوهر
المصيبة أنى لا أصدق ما أحاول أن أقنعها به، النقاش يزداد يوما بعد يوم وهى تدفعنى لأن أقول حججا وبراهين تكاد تقوض حياتى قبل حياتها. كأنى أنساق بهذا العناد إلى التشكيك فى كل ما كان. لا أستطيع أن أتخلص من ألفاظى التى لا تقنعها مع أنها تنساب إلى حتى تكاد تقنعنى أنا. يبدو أنى أحاول أن أقنع نفسى بالتمادى فى إقناعها. هى التى لا تكف عن النقاش. صحيح أنا الذى صنعتها على مقاس فكرى حينذاك، ولكن ماذا لو تغير المقاس بعوامل التعرية والزمن؟.
الأفكار التى لا تندمج فى عواطفنا وتحدد سلوكنا فى صحونا ونومنا ألفاظ داعرة، هذا ما تعلمته غصبا عنى مؤخرا. هى أجسام غريبة تدخل إلى عقولنا تطمسها ونبيع أنفسنا لها ونحن نتصور أننا نتخلص بها من الخوف ونتجنب المواجهة. أحاول أن أراجع نفسى فى حذر. أنا لا أحاول أنا مضطرر، لكننى اخترت بمجيئى واستمرارى أن أضطر. ملكة تتمسك بما كان كما لو كان مثبتا فى اللوح المحفوظ. صحيح أن الأفكار التى اعتنقناها قد رحمتنا من شعور الأقلية بالاضطهاد كما أدرجتنا فى طبقة الثوار التقدميين. وجدنا أنفسنا مع أغلبية صنعناها بأنفسنا، مع العمال الكادحين. كنا أقلية بالولادة فأصبحنا حماة حمى عمال العالم. هذا الموقف الجديد يكاد يضيع علينا تبرير الشعور بالاضطهاد والاعتذار به، صدقت ملكة أننا الأغلبية الجديدة، ونسيت وحدتنا القاسية الحقيقية.
شتان بين حياة داخل أسوار من الألفاظ الصلبة، هربا من الخوف إلى الحلم بالمجهول، وبين الحياة فى غابة مكشوفة. صدرك عار وقرار المستقبل بين يديك، تحمل هموم العالم ليل نهار، لا تنجح فى أن تخبئها حتى تحت الوسادة. تنام مفتوح العينين وإلا اغتالك داخلك والتهمتك الوحوش المتحفزة فى أعماقك. أى مصيبة جلبتها على نفسى. كنت مع الأقلية – بالولادة – وكان لى رب يحمينى، وأب يسمع أعترف له، وملكوت ينتظرنى. كنت أوقد نارا مضطهدة لكل من يضطهدنى أو يهمش عقيدتى. الآن، أعيش أملا مستحيلا أن يتساوى كل الناس بكل الناس ولو فى الفرص والأحلام. ليس أملا بل هو واجب يومى، عرفت الفرق ووجه الشبه بين ما هو واجب يومى وواجب قومى.
كيف؟ من معى؟…. “من” فعلا لا شعرا؟ حين وجدت نفسى متورطا بهذا الالتزام الجديد وجدتنى وحيدا تماما. حتى ملكة: ليست هنا رغم تشابه أفكارنا حتى التماثل.
بدأت مخاوفى وهواجسى إثر ما رأيت ذلك اليوم. اضطررت أن أراجعنا دون قصد. زميل عمل، وزميل كفاح، وزميل سجن، وزعيم رأى، وموسوعى. إجاباته جاهزة، وصوته مرتفع. كان مرجعى المذهبى دون منصب رسمى. تأخرت فى مكتبى لعمل إضافى وكان هو أيضا ينهى بعض مهامه بعد مواعيد العمل دون علمه بوجودى، سمعت صوت شجار عنده ثم ارتطام كراسى بالحائط ثم استغاثة. دخلت مسرعا فوجدته قابعا فى ركن الحجرة يرتعش مثل فأر فقد الطريق إلى جحره. رأيت “ذلك الغريب” ممسكا بالكرسى من أرجله وقد رفعه فوق رأسه فى الهواء وهو لا يضربه ولا يتركه. تسمرت فى مكانى أشارك الفأر رعبه المعدى. سمعت الغريب يواصل هجومه بعد أن ألقى إلى نظرات غضب واحتقار معا وكأنى شريك فى جريمة ما. قال له كلاما كثيرا ما بين السباب والمعايرة: “نذل، جبان، تغرر بالبنات وتفسد عقولهن لصالح شهواتك” زاد وجومى وتسمرت خوفا وحيرة ورغبة فى معرفة المزيد. الغريب ضعيف البنية وصاحبنا فحل جسيم. فيل ملقى على ظهره وقد رفع سيقانه أمام ابن آوى. بلغت المأساة أوجها حين صاح صديقى بى لما رآنى “إلحقنى ياغالي”. لم ألحقه، كيف ألحقه؟ قفزت من داخلى رغبة خبيثة – رغم علاقتنا الرائعة الممتدة – أن يستمر المنظر أكثر وأنا أتمتع، ضد مقاومتى بهذه الفرصة الفريدة للفرجة المستطلعة المندهشة.
أحسست بانهيار العالم حين تبينت جلية الأمر لما تمادى الغريب فى ثورته: “سرقتها وخدعتها مثل أى جبان.. انتهزت فرصة غيابى وهى أمانة فى عنقى، أحضرتها من بلدنا كإبنة من بناتى، سوف تدفع الثمن يا وغد، لا أعرف كيف.” أكمل الغريب “.. لو كنت تستأهلها لأرغمتك على الزواج منها يا جبان – طفلة ذات خمسة عشر عاما يا وغد !! – ولكن ظفر المكوجى الذى خطبها رغم علمه بكل شئ برقبتك، أما أنت فلا تستأهل غير هذه”.
بصق فى وجهه وانصرف وهو ينظر إلى باحتقار حتى تصورت أنه سوف يبصق على أنا أيضا. أخذت أهز رأسى يمينا وشمالا حتى أفيق من صدمتى وأستعيد الموقف. ظل هو قابعا فى ركن الحجرة كالمغمى عليه، لونه فى لون الموتى والعرق يعلن استمرار نوع ما من الحياة. لم لا يقوم يدافع عن نفسه حتى أمامى، لم لا يمسح البصاق من على وجهه؟ مرت فترة أخرى قبل أن أستطيع أن أتمالك نفسى وأسمع منه بعض ردود مقتضبة زادتنى اقتناعا أنه كما قال الرجل وأكثر.
لم أستطع أن أنسى منظر الرعب الذى كان على وجهه مهما تغير المكان والزمان، وجهه، ويديه، وجسده. كل ذلك غارق فى بصقة الرجل التى تكاثرت بحبات العرق المتفصد حتى تصورته يغرق فى بركة نتنة وهو يكاد يختفى تحت ريم سطحها الأصفر بصفرة الموت.
”حادث فردى عابر”، “حادث غير قابل للتعميم”، كلام كثير كالاعتذار أو التفسير أو التبرير، أخذ ورد ومحاولات تفكير. لم ينجح أى شئ من هذا أن يحول دون أن أشاهد أفكاره كلها، أفكارنا، وهى تتفجر من الفقاقيع التى تغطى سطح الريم على وجه بركة البصاق والعرق، قبل أن يغوص فيها ببطء. تتفجر ثم تختفى فى الهواء وكأنها لم تكن.
يبدو أننى كنت جاهزا لتصوير هذا المنظر هكذا تبريرا لشئ لا أعرفه. كيف أستطيع أن أستمر فى تصديق كلام يقال بلا اختبار واقعى لإمكانية تحقيقه، كيف أفصل بين ما رأيت وما كنت أسمع منه ومنهم طول الوقت؟.
عجزت أن أعتبره حادثا فرديا مع أنه كذلك.
لم أستطع أن أكف عن إعادة تقييم كل الزملاء، من خلال علاقاتهم الخاصة بعضهم ببعض، وبأنفسهم. أصبحت كلما اقتربت من أحدهم طالعتنى صفرة الموت، وتكاثر البصقة، وحبات العرق البارد، وحيوان عاجز يتلمظ جوعا واستجداء وهو يهز ذنبه يتابع فى شبق نهم رضيعة تحبو وهى لم تـفطم بعد.
- ماذا حدث لى يا ملكة؟.
- ما علاقة ذلك بواجبنا المقدس.
- واجبنا مقدس… نعم، ولكن كيف؟ من الذى سيحققه؟ بعد أن نخوض بحور الدم فوق جثث الضحايا نسلم القيادة لواحد مثله ونأتمنه على العمال الكادحين وهو لم يستطع أن يكون أمينا على طفلة ريفية لا خيار لها.
- حادث فردى. أسأت فهمه، لا تعمم. كل المؤسسات فيها وفيها، حتى رهبان الكنائس وشيوخ الطريقة.
- الكذب والصدق لا يتجزآن.
- ما دخل هذا بذاك.
- إما شرف، وناس، أو لندع كلا يسعى إلى مصلحته على مسئوليته، وليتصارع الجميع فى النور.
- أى نور تتحدث عنه ياسيادة “المقدم”.
- نور الوعى بحقيقة الضعف وضرورة العدل.
- كلام يشبه الجد، وهو يشبه أكثر كلام رجال المباحث وسماسرة البورصة.
- يجوز.
- تريد الناس ملائكة أطهارا أولا؟ أم نصنع المجتمع الذى ينشئهم كذلك.
- أنا لا أريد شيئا، ولا أعنى شيئا. أكاد أفقد الشئ والمعنى معا.
- أنت تبالغ وكأنك من أصحاب الفضيلة. كل واحد حر، وهو مسئول عما يفعل.
- الحرية قبل تكافؤ الفرص خدعة أزلية.أى حرية كانت أمام خادمة ذات خمسة عشرة ربيعا؟ تصورى أنه قال لى مؤكدا وهو يفسر فعلته أن ما تم حدث باختيارها! المسألة أن اللعاب يسيل فى الظلام… فى حين أن الخطابة تعلو إذا أضيئت الأنوار.
-..ماذا تريد الآن؟.
- أريد أن أجد ميزانا واحدا للناس…. والمال… والعواطف… والكلام.
- مبدأنا فيه كل ذلك، لا تلوم المبدأ إن أساء تطبيقه واحد هنا أو هناك.
- منظره وهو ويرتعد فى ركن الحجرة ثم ما تلى ذلك مما صوره خيالى راح يزحف وهو يشككنى فينا جميعا.
-.. ماذا تريد؟ نتراجع؟.
- لا. لا أريد شيئا. أنا أريد أن أنام.
- ذهبت إلى الطبيب وأعطاك أقراصا، ولكنك لا تأخذها بانتظام.
- الأقراص لا تمسح ما حدث، وجوهكم أمامى تتورد بصفرة الموت تعلوها حبات العرق والبصاق. إن ما يحرمنى من النوم ليس التفكير، ولكنها وجوهكم، ، ليس وجهه هو فقط بل كلكم.. كلكم. ياه !!.
- كل من؟ هل تخاطبنى ضمنهم يا غالى؟.
- لا أعرف، اختلطت على الأمور.
- لم أعد أفهمك. ما رأيك نذهب إلى طبيب آخر.
-1-
إما أن أعيش كما تصورت يوما للناس وبالناس بلا تفرقة ولا كذب ولا أقلية ولا أكثرية، وإما أن أهدم كل شئ بيدى حتى لو انهار المعبد على من فيه، حتى لو رجعت إلى سجنى القديم أتعاطى المخدرات الميتافيزيقية بمحض إرادتى. لماذا لم تهتز ملكة مثلما اهتززت أنا رغم أنى أنا الذى علمتها كل شئ. استجابت لى وأنا أحشر فى دماغها مالا شأن لها به، ثم ها هى ذى تتسمك به أكثر منى وتتركنى أتخبط وحدى. لماذا ارتاحت تماما لهذا الحل رغم أنه حرمها من أمومتها ذاتها، هل أجرؤ أن أعيد النظر فى علاقتى بها. أنا أحتاج إلى رعايتها المتفانية التى تحيطنى بها. هل هذا هو الحل السعيد؟ تطعمنى وتسقينى وتهز سريري- جسدها أحيانا- حتى أنام أحلم بالجنة والعدل والسلام على الأرض. إصرارها على التمسك بأيديولوجيتنا، لا أعرف لماذا صرت أشعر بوحدتى أكثر كلما لوحت بأيديولوجيتنا المشتركة. جانب من نفسى لا أدركه واضحا يتنكر لما أحاول أن أقنعها به.
تخليت عن جنة السماء هربا من اضطهاد الأقلية ومذلتها فى مقابل أن نحلم بجنة الأرض ونحن نصنعها صنعا. جنة السماء جنة مؤجلة لا يمكن التحقق من عدمها. جنة الأرض مصيبتها أنها تدخل امتحان التحقيق بسرعة. لماذا نتعجل اختبارها وقد رسبت فى معظم السنوات السابقة، حتى فى الملحق؟ الحادث الأخير قلب على التاريخ والجغرافيا. هو الذى استغاث بى وهو ينتفض كالفأر الهارب. أصبحت أشك فى كل شئ ، كل أحد. حتى ملكة لم أعد أتقبلها بنفس الترحاب والطمأنينة، أشك فى عواطفها كلما ازدادت سخونة. تعودت أن توصل الطعام إلى فمى فى كثير من الأحيان، مداعبة فى الظاهر وعادة فى النهاية. ذات مرة رأيت حبات الأرز وهى تقترب من فمى على الملعقة فى يدها وكأنها شظايا ذرية، انتفضت يدى فتناثر الأرز فى كل جانب، وأخذت فى الاعتذار.
- مالك يا غالى.
- لا شئ، لدغة برغوت.
- تمزح. ليس عندنا براغيث، إلا إن كنت قد استوردتها من والدتك.
-… أنت أمى وأبى.
- أنا أحبك.
-..أنا أخجل مما تفعلينه أحيانا.
- تخجل من حبى يا حبى.
- أخجل من نفسى.
تواصل إطعامى، وتغطيتى، وإحضار الشاى باللبن إلى سريرى كل صباح، كما تواصل ترديد أفكارى، والحماس لعقيدتى، بالأصالة عن نفسها والنيابة عنى. أتساءل: أى ملل يمكن أن يصاب به الإنسان فى الجنة؟.
حين اقترحت استشارة طبيب آخر ذهبت وحدى أتحسس طريقى أولا.. ولكنها لحقت بى بعد البداية بقليل.
- يا ملكة، أشعر أن الأقراص كانت أسلم مهما فعـلت، هذا العلاج الجديد تـطرح فيه أسئلة كثيرة وإجاباتنا المحفوظة لا تكفى يا ملكة. أخشى أن أتغير.
- تتغير، وهل هناك غير ما فسر لنا التاريخ ورسم المستقبل.
- ياليت.
- طول عمرك وأنت قلق.
- والأسئلة؟.
- لها إجاباتها.
- كلها؟.
- يعنى.
- وما يستجد من أسئلة!!.
- سنترجمه إلى ما عرفنا من قبل، فنجد الأجوبة جاهزة وكافية.
أنا لا أنوى، ولا أريد، ولا أقدر أن أتغير، فلماذا أصر على الذهاب إلى هناك؟. الشغف إلى المعرفة وحب الاستطلاع يملكان على حواسى إلا أنهما لا يكفينا لتبرير المخاطرة. أحس أحيانا أنها خدعة جديدة، عقيدة سرية مطروحة فى صورة علاج حديث، يشبهون أصحاب تجاربى الباكرة وإن كانت المواجهات أكثر حدة والمفاجآت أعنف والصياح أقل، أنظر إليهم واحدا واحدا وأحاول أن أجد وجه شبه يربطهم ببعضهم البعض فلا أجد. يحلم كل منهم بحلمه الخاص ويجمعهم حلم غير معلن هو سر جذب هذا الرجل الطبيب.
عبد السميع الأشرم هو أكثرهم إغاظة لى. نغم نشاز فى وسط فرقة لا تفعل إلا أن تمضى الوقت فى ضبط الأوتار قبل بداية اللحن الذى لا يبدأ أبدا. فكيف يكون عبد السميع وحده هو النشاز بالله عليك يا غالى؟ تكاد تفقد منطقك السليم إلا إن كنت تسمع لحنا خفيا تنكره.
عبد السلام المشد أكثرنا جدا وأعمقنا ألما ولولا زوجته المصون الست فردوس لسألته عن السبيل إلى الطريق الهادئ الذى يواصل السعى فيه دون كلل.
كمال نعمان أقربهم إلى. صديق قديم. سبقنى إلى الانسحاب من طريقنا المشترك لأسباب مختلفة. فنان بحق. يبدو أنه لم يجد شيئا آخر. فرحت حين وجدته معنا هناك. مجرد صدفة، وجدتها رائعة ومخيفة معا. تيقظ الحذر فى داخلى وهو ينظر إلى ملكة مع أن المعركة انتهت لصالحى من زمن. سمعتهما يتشاجران ولم أميز حديثهما أكثر من مرة.
إبراهيم الطيب يتحدانى دون استفزاز. إما أنه بسيط لدرجة لم آلفها، أو أنه مسحور يتلقى تعليماته من تحت الأرض.
نجوى شعبان ممتلئة بالحياة ولا أعرف مدى ما يمكن أن يذهب بها تيار تدفقها.
أتوقع أن تصادف شلالا عميقا تتحطم عليه كل أحلامها الغبية.
ما الذى حشرنى بينهم. كلما فكرت فى التراجع – مجرد فكرة- سهرت الليل كله حتى أقسم أمام المرآة أنى ذاهب، ولا أطمئن حتى يأتى الموعد وأتاكد أنى ذهبت. اطمئنانى هذا يثير قلقا فى الجانب الآخر، بسمة تؤنسنى فى وحدتى من بعيد. لابد أن أعترف أنى أذهب فى بعض الأحيان لأرتاح إلى أنها مازالت على قيد الحياة.
مختار ينتظر غمزة سنارته ولا أراه إلا وهو يصطاد كيفما اتفق. بشرته تنبض بحياة رخوة مغرية يظهرها أكثر وأكثر أنه فى أغلب الأحيان يجلس بجوار غريب الباهت وكأنه لم ير الشمس منذ ولد.
شيخهم ومساعدته يمارسان التبشير لعقيدة خفية فى صورة طبية عصرية غامضة. لو كانت المسألة دعوة جاهزة لدين جديد لأمكن مناقشته، ثم قبوله أو رفضه. أنا تركت دين أهلى وذهبت مع الناس من الطبقات العاملة. لن أتنازل عن موقعى مع الأغلبية الكادحة. لو صدقت ما لا أعرف ، سوف أجدنى أعود إلى أقلية سرية ألعن من أقليتى التى لا ذنب لى فى كونى ولدت منها. أرفض حلوله جميعا دون أن أعرفها حتى لو كانت مغلفة بأوراق العلم والتجربة. أشك فى أنه يعرف شيئا جاهزا. يخيل إلى أنه يعرف شيئا قويا داخل كل منا شيئا، مشتركا تلمسه كلماته فينا. شيئا يبدو أنه يتجلى فى كل منا مختلفا، لكنه هو هو.
- إلى متى تظل تذهب إلى هناك يا غالى؟.
- إلى أن أعرف ماذا أريد، وماذا يريد هذا الرجل منى، أو لى، لنا.
- هذا الرجل خطير، هو عميل مزدوج، يعنى، بل متعدد الولاء، لكننا لا نعرف أسياده الذين يجندونه.
- يجوز.
- مؤكد.
- لا شئ عاد مؤكدا.
-2-
- هل وجدت شيئا آخر يا كمال.
- أبدا.
- إذن ماذا؟ هل نستمر بلا هدف.
- لا تقول نستمر، فأنت غيرى.
- طول عمرنا معا، ولسنا معا. والله زمان.
- تركتكم وتركت مبدأكم الرائع حتى لا أكون مع أحد. ما الذى أتى بك إلى هنا؟.
- أبحث.
- منذ متى؟ تركتكم والأمور تمام التمام، لا تحتاج إلى مزيد من البحث.
- إعلان إفلاس الذات لا يشـهـر فى الصحف يا كمال.
- ولماذا لا نجلس فى منازلنا ونبحث، حتى تكتمل السرية؟.
- هل جئت تبحث عن الحل؟ أم تمحو ما وجدت من حلول؟.
- لم يعد يهمنى أن أجد الحل أو أفقده.
- والفن؟ لاح لك يوما وكأنه الحل.
- لم يعد يكفينى.
- أشفق على وحدتك وألمك.
- لا أحتاج إلى شفقتك، وليس عندى أى استعداد لأبادلك مثلها.
- أريد أن أسمع منك.
- تعرف أننى لا أنصح أحدا. دعنى أقولها لك بصراحة: لا تتراجع عن شئ قبل أن تجد بديلا ولو مؤقتا. ما يجرى هنا ليس بديلا أصلا.
- أنا لا أتراجع. هو الذى يتسرب منى يا كمال.
- أسخف المعتقدات أفضل من لا شئ.
- لو كان سخفا لاحتملته. ليس المبدأ. المصيبة فى أهله، بشع بشع ما وصلنى. بشع. - حيرتنى يا غالى. ماذا تريد منى؟.
- مازلت تؤمن بمذهبنا، ربما أكثر منهم، فلماذا انسحبت وتركتنا؟.
- قلت لك… لست مثلى فلا تطيل الإلحاح، إسأل نفسك عما أتى بك إلى هنا.
- ليست عندى إجابة، تصورت ذات مرة أننا نستبدل المرضى والمجانين بأصحابنا من المناضلين؟ دع الآخرين جانبا. مصيبتى مع ملكة أعظم وأخطر ولو أنى غير مدرك أبعادها بنفس الوضوح.
- لا يمكنك أن تستغنى عنها، إنها تعطيك كل شئ، فلا تتماد فى إيذائها.
- أنا أحبها… حتى وهى تخنقنى بعواطفها.
- هى إنسانة مخلصة إلى النهاية… رغم اختلافى معها ومعك.
- مخلصة إلى النهاية؟ نهاية من؟.
- إلى النهاية والسلام، إن كان لأى شئ نهاية.
- هى لا ترتاح لك وتتجنبك.
- أنا أرفضها.. ولكنى أحترمها. مثابرة وعنيدة.
- هى تقول إنك هارب جبان.
-…ربما لا تتعدى الصدق فى ذلك.
***
هذا الرجل.!! هذا الرجل يعترف بعيوبة وكأنها عيوب غيره. هرب بجلده، ثم يثنينى عن الهرب. أفضل ما فى الوجود أن تؤمن بشئ مائة فى المائة، أى شئ. ملكة كانت مؤمنة بكل الطقوس القديمة، ثم هاهى ذى مؤمنة بكل الطقوس الجديدة. لماذا لا أفعل مثلها؟ وكمال، عكس ذلك، لا هو وصل إلى شئ ، ولا يريد أن يصل إلى شئ. أنا على وشك أن أفعل مثله.
أنا لا أجد مبررا للتراجع. نفوس الناس ضعيفة لكن المبدأ ليس به عيب، لابد من العدل والمساواة، لابد من البدء بلقمة العيش، ثم يكون بعد ذلك مايكون، عقلى يكاد يشت يا ملكة.
- للمرة الألف يا ملكة: فلينهر من ينهار. المبدأ لاغبار عليه.
- ما فائدة أن تردد الصواب طول الوقت، ثم تفعل عكسه؟.
- لكن هذا الذى انهار هو الذى سيحكم البلد اذا ما ستولينا على السلطة.
- توزع المناصب الوزارية من الآن؟ تبرر موقفك وأنت تمهد للتراجع.
وحتى لو كان طريقنا الأول هو الطريق الصحيح، فكيف أتمسك به وقد طمست معالمه داخل نفسى. وهل البديل أن أحضر هنا مع هؤلاء المجانين؟ هل أنا مريض مثلهم؟ ملكة تكرس كل جهودها لكى أكف عن الحضور فأرد عليها تلقائيا بأن أعاند وأحاور وأداور دون اقتناع كامل من داخلى. يا ليتنى لا أحضر. لو كففت يا ملكة عن القفز والتشنج، فلربما فكرت أنا وعدلت وحدى. أنا لا أثق فى أحد منهم. مازلت أشعر بانتمائى للأقلية، أى أقلية، أينما ذهبت فأنا الأقلية وهم الأكثرية، كيف أثق فيهم أو فيه؟ أخشى أن يتكشف هذا الطبيب عن خدعة نذلة مثل صديقى عالى الصوت المتكوم فى ركن الحجرة فى بركة العرق، وتكاثر نتن البصمة، وبقايا شحوب الموت. بشعة، صورة بشعة. حمار جائع يشم مؤخرة غزال حديثة الولادة، ماذا لو جمع السلطة فى يديه؟ يدعو إلى تأميم المصانع ويبدأ بتأميم خادمة الجيران لصالحه. يتحاشانى منذ الحادثة،… صوته أصبح أكثر ارتفاعا ونبرته أكثر حدة، صوته أحيانا يصلنى وأنا فى سرحات خيالى وهو قابع فى ركن الحجرة ينتفض ممسكا صولجان السطلة مصدرا فرمانا يقول “رجال الحزب أولى بالحريم من ذويهم”. أكتشف أن خيالى كان يتربص بى الناحية الثانية.
متى أكف عن التذكر والتفكير؟…متى يكف خيالى عن المبالغة والتشويه؟ ماذا جرى لى…؟ هذا الزعيم المزعوم ليس كل الناس، ليس كل الرجال، وليس كل الثوار، أحس أنى أبالغ فى التشويه لأبرر هربى. كلما اتسعت الرؤية غمرنى هلع غامض.
-3-
- رجلى على رجلك… ولو حملونى على نقالة.
- هذا انتحار، حرارتك أربعون والطبيب أمرك بالراحة التامة.
-…. كيف تتركنى وأنا بهذه الحالة مادمت تعلم بخطورتها؟.
- مثلما تركتـك إلى العمل فى الصباح.
- العمل شئ.. وهذا شئ آخر.
- أنت تعلمين أهمية الذهاب وتحرصين على أن نتعجل النهاية.
- إنه مثل الماء المالح. كلما ذهبنا إليه اضطررنا للذهاب أكثر.
- فليكن… ولنشرب الماء المالح حتى نتقيأ.
- أنا فعلا أكاد اتقيأ كلما ذهبت، ربما ارتفعت حرارتى من ذهابى معك.
- لن تأتى معى اليوم.
هذا الرعب الذى يتملكها من هذه الرحلة الأسبوعية يثير داخلى ويدفعنى للتحدى بلا حدود. أكتشف أننى لا أتحدى إلا نفسى. لماذا لم ألاحظ على إبراهيم بعض ما أنا فيه؟ ملامحه مثل الصخر لكنها مغطاة بخضرة زرع مجهول المصدر. ترى هل وصل إلى الحل الأسعد أو أنه فى غيبوبه سرية؟ انتهزت فرصة تخلف زوجتى هذه المرة وانتحيت به جانبا.
- كيف ترتاح هذه الراحة والناس جوعى يا إبراهيم؟.
- ماذا تريد يا غالى، وأين ملكة؟.
- أريد أن تعطينا مما أعطاك الله.
- لم يعطنى الله شيئا. أنا الذى عرفت الطريق اليه.
- إلى الله؟.
- وإلى عطائه؟.
- أنت لست مثل عبد السميع. أنت أعقل من ذلك.
- لا أحد مثل الآخر.
-.. وكيف ستوصل عطاء الله إلى الجوعى، أفادكم الله؟.
- جوعى لماذا؟.
-لا يوجد إلا جوع واحد، جوعى للقمة والغموس.
- وهل أنت جائع أم هارب؟.
-.. فى ظل النظام القائم يمكن أن أجوع فى أى لحظة.
- وإلى أن تجوع بإذن الله، ماذا أنت صانع؟.
- أحمى الجوعى من حشيشك وأفيون عبد السميع.
- بالله عليك.. من الذى يتعاطى الأفيون؟ تهرب من جوعك فى الحديث عن جوع الناس ثم تتهم الناس بالتعاطى. أنت لا تكاد تفيق من مخدرات مستوردة تعميك عن نفسك وعن ناسك الذين لا تعرفهم إلا من الكتب.
- أكلمك لأعرف عنك أكثر. تستشيخ حتى تكاد تعظنى أن أدخل دينك.
- لم أعلن دينى لأحد. أنا أحاول ألا أخدع نفسى. هذه هى الحكاية.
- أنت مرتاح لأن دينك هو دين الأغلبية فلا خوف من الاضطهاد والنبذ.
- دينك داخلك فدعه يترعرع بلا إذن من ملكة ولا خوف من كمال ولاحساب لعبد السميع. ساعتها ستعرفه كما ستعرف الناس الذين تتحدث عنهم، وتحس بهم.
- دعوتكم خطيرة إلى الإحساس يا إبراهيم، ماذا لو أحس الجوعى.
- يقتلون الشبعى.
- وقد يقتلونك أول الناس؟.
- قد يكون هذا هو الحل.
- أنت يا إبراهيم تقول ذلك؟.
- الإنسان ـ ليحيا ـ إما قاتل أو مقتول.
- حسبتك مسالم حتى النهاية.
- أحيانا يكون القتل هو طريق السلام.
- لا أفهمك.
- أعيش مشاعر القتل لتصهرنى وأنا أقترب منك مسئولا عنها، رغم اختلافنا.
- هذا خطر.. و.. و.. غير مفهوم.
- فهمته لحظة ثم تراجعت.
- فهمته أو لم أفهمه هو خطر.
- مجرد وجودنا فى الحياة خطر.
- كلامك مرعب وقد كنت أحسبك فى سلام حقيقى.
- إذا أردت أن ترى من زاوية أفضل فحاول ألا تخاف من خوفها.
- خوف من؟.
- “ملكة”…
- إبراهيم؟ هل وجدت حلا؟.
-… أنت حلى.
- أنا؟.
- أقتلك بلا مجاملة.
- كلامك يرعبنى يغرينى بالاقتراب فيحمينى منك جوع الناس.
- نحن لا نصل إلى الناس إلا من خلال أنفسنا.
- ملكة لا تصدق شيئا من ذلك. إصبعها تشير إلى المخابرات الأمريكية تفسيرا لأى محاولة للمراجعة. هى تسمى حكمتكم حكمة الكراسى الوثيرة.
- هو طريق أطول، وربما أضمن أو أخطر.
- هى تفكـر فى جوع الناس ليل نهار.
- فيحل”التفكير” محل “الجوع” ومحل الناس بالمرة.
- الجوع هو المشكلة الرئيسية.
- بل المشكلة الأولى، نحن إما نعيش ونحن نحس ببعضنا البعض أو يأكل بعضنا بعضا.
- أشعر أننا فى محل توصيل الطلبات للمنازل “تيكاواي” “سندوتشات إحساس بالصدق الحار والليمون المتبل بالصحة والتطور.” ويذهب الناس فى ستين داهية.
- الناس الناس؟ وأنت وملكة ألستما ناسا؟.
- لا نكون ناسا إلا بهم.
- أنت تخلط بين الحديث عنهم والتمسح بهم، للناس يا غالى نبض آخر.
- كيف؟.
- المواجهة مستمرة.
-.. رعب أزلى، يعوق الأنبياء أنفسهم.
- لا بديل لذلك.
– كلام حلو.
- أنت الأحلى.
- إبراهيم.
- نعم.
- الله يخرب بيتك.
-.. حصل.
لا أستطيع أن أكذبك بسهولة يا إبراهيم. لا أرى طريقا واضحا ولا بديلا حقيقيا، سمعت مثل هذا الكلام مرة فى جلسة حشيش تنتزع القهقهات من جوفك دون المرور على قلبك، تتصاعد موجات الإحساس الزاعق على نغمات عود ذلك الشيخ العجيب الجميل الضرير. أوحشتـنى جلستهم. سوف أذهب إليهم لأعرف إلى أى سماء طار بهم الدخان الأزرق. لعل حشيشتهم تتحدى أفيونك يا إبراهيم، أنت وشيخك المغرور.
-4-
الشيخ الضرير النحيف يمسك بعوده فى حب غامر. يشرئب بعنقه إلى اليسار أكثر منه إلى اليمين فى حركة لولبية تشبه مسيرة التطور. يرتشف ريقه باستمرار وكأن صنبور الوعى قد انساب بلا انقطاع فى تجويف فمه. شعره الأجعد ولونه الأسمر وعنقه الطويل يذكرنى بآثار القدماء. حركات وجهه كلها إحساس صادق يا إبراهيم، هأنذا أوقظ إحساسى مباشرة بأنفاس الحق الأزرق، ملكة سعيدة بهذه الزيارة وتأمل أن يعود ما انقطع ولو من خلال غابة الجوزة، حين عرضت عليها الذهاب لسماع الشيخ، قالت إنها تفضله عن شيخ المنسر المجنون. ضربات العود تخرج بغير انتظام وأصابع الشيخ تعبث فى مفاتيحه استعدادا للسهرة، والدخان الأزرق يملأ الجو فى سحر أصيل، الطلبات تنهال على الشيخ فى وطنية اشتراكية، وأحيانا فى عروبة قومية.
- نريد أن نسمع شيئا جديدا.
- الجديد فى الحديد.. والجنرالات يذكرونا بما تحت الباط.
- بطاطنا سخنة.
- وصاحبة الجلالة تحب البليلة السخنة.
- وحمص “الشام” المتحدة.
تتفجر القهقهات فى عدوان قاس، والشيخ يرتشف ريقه فى انتصار وزهو بالغين. يقدم أحدهم إليه الجوزة.
- إسحب لك نفس، واستفتح.
- الانسحاب هذه الأيام هو للأمام يا فاضل.
- ليس لدينا حجة بعد العبور.
- سحبوا البساط من تحتنا بلعبة أمريكية رائعة.
- سحبوا البساط بجهاد رجال البلاط.
- حلقة جديدة من مسلسلة الوطواط.
-.. مغامرات السوبرمان.. فى قصر السلطان.
تفتح الأفواه، وتنطلق منها الأصوات عنيفة كالضحك، شلالات تجرف معها كل شئ. ملكة متحمسة أشد الحماس وتطلب من الشيخ أغنية خاصة.
يقول الشيخ:
- عقبال عوضك يا ست ملكة يا سكره.
يقول أحدهم.
- سنـدخل العوض مع المطالبة بحقوقنا فى حقول الملانة.
- من بنود الاتفاق السرية أن لهم الحق فى زراعة الصحراء بالمكرونة الأسباجيتى.
- دخلت إيطاليا طرفا رابعا فى الاتفاق.
- فلتعش صوفيا لورين.
-..وانا وانت، ولورين وهاردى.
ثم موجة أخرى من الضحك السالف الذكر، أين أنت يا إبراهيم يا طيب حتى تسمى هذا الشئ باسمه يا حامى حمى الإحساس الفطرى يا غبى.
أواصل سحب الأنفاس، فتنتفخ عضلات وجهى وتتباعد ملامحى وتخرج مني
أصوات مقهقهة، ليس لى أدنى علاقة بها.
قال أحدهم دون مناسبة:
- هيا نلعب قطرا.
رد آخر فى سعادة خاصة:
- قطر الندى خالة أفندينا.
تصورت أن أحسن ميتة لابراهيم الطيب هو الرجم بالقباقيب. ألم يقل أن الحل هو الإحساس: يا قاتل يا مقتول، فليمت وهو فى غاية الإحساس بضرب القباقيب، ولتتعلم عظامه معنى السحق.. وبذلك يكون قد أحس حتى النخاع، قهقه الجميع وهم ينظرون إلى فخشيت أن يكونى قد سمعونى وأنا أفكر مع أنى لم أفتح فمى.
أطل على وجه “بسمة” فجأة ولكن لحقه على مسافة وجه إبراهيم وهو ينظر إلى من ركن الحجرة فى سخرية صعبة. وجدتنى قادرا على أن أرد عليه بنفس عدوانه المغلف بكلام الحب الجسور: “سوف أريك معنى الإحساس يارائق يا إبن الكلب. سوف أومن بجهنم خصيصا لأراك فيها وبئس المصير، أنا سوف أدخل الجنة فى الحالتين يا أبو خليل: لن أحدد لك الحالتين حتى لا تفلسفها وأنت لست فاهما حاجة. يطل على وجه “بسمة” من بين ضلفتى خيمة من الحرير. أخطفها على حصان أبيض من رعايا كنيسة العذارء، نطير إلى جنة عمنا ماركس وهى تذكرنى أنها لا تحب اللون الأحمر.
أنظر إلى ملكة بعد مزيد من الأنفاس فأرى ملامح وجهها تتضخم. أتسحب فى هدوء النملة فوق أنفها الجبلى محاولا أن أتجسس على جهاز المخابرات المركزية الذى تخبئه فى تجويف أنفها لصالح الطبقة التى لانعرف عنها شيئا. أختفى وراء صخرة من الجرانيت على الجبل الشرقى. قبل أن أتبين أنها وحمة الزبيبة التى تظن أنها سر أنوثتها. صحت فى استغاثة.
- يا سيدنا توما الاكوينى.. مدد.
رد الجالس بجوارى.
- إكوينى مرة، واكوينى تانى…
انطلقت دفعة جديدة من الطلقات السريعة المقهقهة حتى كدت أصاب بشظايا مختلفة الأحجام. أتلفت حوالى لأبحث عن جحر فأر أختبى فيه، ولكنى أفضل الاختباء فى ثقب المفتاح لأمنعهم من الخروج حتى يواجهوا مصيرهم المختار. أغلبهم يتعاطى المنزول بدرجة ثائر. بعضهم من هواة الثقافة وهم يعمقون إحساسهم يا إبراهيم بموسيقى السيمياء الصامتة. قعدة أرخص من جلسة طبيبك المأفون، أقترب من اكتشاف السر تحت تأثير هذا العقار الساحر. نجاح قانون البقاء يتوقف على نوع المخدرات وعمرها الافتراضى. الأفيون الحديث تخطى أجراس الكنائس وأعالى المآذن إلى الكتب والعقائد، ثم إلى عيادات الأطباء. العاقل هو من يبحث عن أقصر السبل وأرخصها. لا تـستجاب دعوة مسطول ثورى إلا بإذن كتابى من جماعة الثوار المثقفين الموسيقيين العرب. لولاك يا ملكة يا بنت أبو مناع ياربة العفاف والجدل، لكنت الآن فى السجن او فى السرايا الصفراء. بفضل حساباتك وثورتك البيتية التى تلفينها فى محشى ورق العنب: هأنذا أمارس الاشتراكية الزرقاء تمهيدا للثورة الحمراء بعد الانقلاب السكلاما المخطط تكتيكيا دون مساس باستراتيجية الهرب المستمر.
قالت لى ملكة ونحن على الباب.
- رأيتك هائصا مثل زمان.
- وسيلة أسرع لإيقاظ الإحساس، مادام الإحساس هو السبيل إلى الثورة الحقيقية
- لا تردد كلام شيخ المجانين. هنا أصل السعى إلى الحقيقة.
- أنت الحقيقة الوحيدة فى حياتى يا ملكة لأنى ألمسك بيدى، وكله زائل إلا وجهك.
بدت على وجهها سعادة مختلطة بخوف، وحذر، ورفض وكأنى أعنى ما أقول.
* * *
دون إنذار، انفجرت باكيا فى التاكسى فزعا قبل أن ألحظ نظرة زوجتى الملتاعة الزاجرة الملتزمة، سيطرت على نفسى بسرعة، وخطر بعقلى بيت من الشعر لا أذكره.
-5-
المظاهرات تملأ الشوارع وأنباء تقول أنها لا تهدأ بمرور الوقت. لم أشعر أن الله تخلى عنى تماما مثلما شعرت ذلك اليوم، حقيقة أنى تخليت عنه من سنين ولكنه هو لم يتخل عنى بهذا الوضوح والصراحة إلا هذا اليوم. انتهزت ملكة فرصة الاضطراب والتحطيم وأخذت تهاجمنى بلا هوادة. شعرت بالعجز والحيرة والرفض بطريقة أحسست معها أن الموت هو الحل. رحت أهتف فى وحدتى “يارب”، رغم يقينى بأنه غير موجود. كنت أحتج عليه آملا أن يحمينى من هجوم زوجتى الشامت وكأنها هى التى قامت بهذه الاضطرابات لصالح إثنائى عن العلاج أحاول أن أخفى عنها هربى إليه وهو غير موجود.
- غالى، هل اكتفيت بالتدريبات الداخلية فى مصنع العواطف المستوردة؟.
- أحتقر نفسى ولا أعرف كيف أشارك الناس حقيقة مشاعرهم؟.
-….
-….
- لا بد من المشاركة.. هذا هو الحل الحقيقى، الشارع يغلى.
-… دعينى أفكر.
- أفسدك العلاج.
– أحسن.
طرقت باب السماء فإذا بها مازالت بلا أبواب، مجرد انعكاس الضوء على ذرات لا تـرى، ليس للسماء باب كما أنه ليس للأرض قاع، كل شئ قبيح خادع ولسوف تنتهى المظاهرات إلى لا شئ. سوف تعتبرين نفسك بطلة التحرير وتأخذين نيشان الصياح الأعلى، ثم تعود الحياة كما كانت. نخدع أنفسنا بأحلام ليست أسعد ولا أقرب من أحلام الجنة المفقودة وعفو الأب فى الأعالى، المسرة ليست بالناس ولا بالجان، المسرة خدعة الأفيون القديم، والسلام حجة العاجز، وها هو ذا الأفيون الحديث يتضاءل تأثيره مع استمرارالإدمان.
آخر صيحة فى المخدرات الأحدث هو ما وجدته عندك يا دكتور عبد الحكيم. تتكلمون عن الحب “هنا والآن” وأنا لم أعد أفهم أى معنى لأى كلمة بعد أن انهارت كلمات المسرة والمحبة والسلام، ثم انهارت كلمات المساواة والعدل والكفاح..، لعبة الثلاث ورقات بشكلين مختلفين. فأين أخفيت البنت القلب يا ملكة يابنة مناع؟.
- إذن ماذا؟ ما هذا الحب يا إبراهيم الذى تتحدثون عنه؟.
- هو الحياة.
- سئمت التعاريف الشعرية. أنا جاد.
- وأنا لا أمزح. أنا أراه فى كل حركة من أول طنين ذبابة حتى ذروة الشهوة بين ذراعى امرأة مؤمنة.
- مؤمنة؟ مرة واحدة؟ ما لك جاهز بهذه الألفاظ يا إبراهيم بهذه البساطة؟.
- أنت خائف يا غالى من كل شئ؟.
- لقد فترت تجاه زوجتى بعد أن اكتشفت أننا كنا نكذب طوال هذه السنين، وأنها كانت تتصنع الاستجابة لى لمجرد إرضائى.
- ثم ها أنت تحاول طرق أبوابها.
- أية أبواب؟ ربى القديم تخلى عنى، وأبوابهم لا تفصل إلا بين الفراغ والظلام.
- أنت الذى تخليت عنه. عاود الطرق يا غالى. وسوف تستجيب أسرع.
- أنا الطارق؟… وأنا المجيب معا؟.
- نعم.
- هذا ما خشيته حين قررت أن أحادثك، توقعت أنك سوف تضيعنى فى ألفاظك الحالمة الغامضة. يلوح لى أن الحل عندك، ثم تتركنى كما كنت وألعن. أنت أعظم كذاب فينا، بل فى الدنيا كلها، يا إبراهيم.
-… لكل واحد حله الخاص. مهما تشابهت البدايات فالمصير هو نتيجة ما نختار.
- مصيرى يقترب من النهاية أسرع مما تحسبون.
- بل إنى أراك تتقدم للأمام رغم بطئك.
- سأقترح على جلالة مولانا نور الدين أن يعينك حامل أختامه، تقسم الناس إلى متقدم ومتأخر. لو أنك تعرف ماذا تقول أو تدرك معنى للحياة لرأيت كيف أنى فى مصيبة لاأعرف لها بداية ولا نهاية.
- أعرف ذلك وأنتظرك.
- مصيبتى هى أنى كفرت مجانا، وحين عدت أطرق بابه لم أجد أحدا يرد.
- ولكنك فى طريقك للإيمان.
- تتشفى فى يا إبراهيم أم تبشرنى بدينك فى حظـيرة الأغلبية؟.
- ماذا تقول يا غالى؟.
- يراودنى خاطر ملح أن أرجع إلى دين أهلى بإصرار، أحتمى به منكم ومنهم، حتى لو عادت معه مشاعر الاضطهاد والنبذ، فهى أفضل من الضياع والوحدة.
- وهل تستطيع أن ترجع؟.
- لم لا؟.
- جرب.
- تسخر منى؟.
-.. أنا أحترمك يا غالى، وأحترم استمرار محاولة صدقك.
-…كلما رأيت طمأنينتك ازددت عدوانا عليك. كدت أقتلك فى خيالى ضربا بالقباقيب.
- طمأنينتى أنا لا تنفعك. لن يطمئنك إلا استمرارك.. استمرارى ليس لحسابك، لكنه يصب فيك، وفينا.
- ردودك تخترق عظامى وتغرينى باتهامك أو احتقارك أو تكذيبك.
- الصدق فى المحاولة لا توجد آراء صادقة، وإنما محاولات صادقة.
- صــدق مؤلم.. يكاد يـعجزنى.
- من يعجز فى النهاية هو الخاسر.
- إذن لماذا لا تساهم فى العمل السياسى. معنا؟.
- ما هذا الذى نعمله ليل نهار؟ أليس عملا سياسيا؟.
- أعنى تنظيمنا محددا.
- كل الطرق الجادة تؤدى إلى “وجهه”.
- وجهه أم وجه الناس؟.
- وهل يوجد فرق؟.
-.. هذه هى مصيبتى معك، كلما تحدتث بمثل هذا الكلام مادت الأرض تحت قدمى ولم أعد أفهم شيئا.
- بل تفهم.. ولكنك لا تأخذ بالك.
- لا تحيرنى وتزيد إلغازا.. قل بصراحة هل أنت معنا؟.
- طبعا.. رغم أنفك.
- أنفى أنا؟ رغم أنف ذاك المسئول عن انهيارى… ملتهم العذارى المشويات.
- لا تهرب من مسئوليتك يا غالى.. حكيت لك أن امرأتى فى أحضان من لا يعرف اسمها، ووجدانى يصطلى بآلام الوحدة والهجر، ومع ذلك تصر على تبرير انسحابك لأن فردا هوى تحت وطأة نزوة.
- المسألة ليست مسألة فرد، بل ما أثاره هذا الفرد من تساؤل حول طبيعة من يستلم منا السلطة.
- يا أخى.. ! يا أخى.. ! قانون البقاء سيلفظ كل هؤلاء على كلا الجانبين.
- وإلى أن يلفظهم ، كم عدد الضاحايا الذين سنقدمهم قرابين ونحن ننتظر؟.
- هذه هى ضريبة المحاولة.
- حيرتـنى يا ابراهيم. أنت بعيد قريب.. تدافع عنهم وأنت غريب عنا.. أخشى أن أكتشف فيك أكبر كذبة..
- يا أخى أطلع كذابا، أذهب فى ستين داهية، كل هذا لايبرر ضياعك أو انسحابك.
- إبراهيم: صورة ملكة تخايلنى. وأنا خائف.
- معك حق.
-6-
حين فـترت عاطفتى تجاه، زوجتى تفتحت بشكل مخجل نحو “بسمة”. لا بد من حب حقيقى جدا، وخاص جدا، حب يملؤ حياتى ولا يدع لى مجالا للتفكير فى أى شئ لا قبل الموت ولا بعد الموت. لم أعد أثق فى الأصل،… ولا أقبل الهروب الجماعى تحت أى عنوان ولسوف أفعل ما أريد.
ـ ماذا تريد؟.
ـ ….أن أعيش بأى ثمن.
ـ أنت حر.
ـ ياليت.
ماذا أريد منها على وجه التحديد، ليست على دينى ولا فى سنى ولم أتجاذب معها الحديث إلا مرات قليلة، ومع ذلك فهى تشغل بالى هذه الأيام بطريقة مخجلة، ومضحكة، وأحيانا ممتعة. لا أنكر أن خيالى سرح بضع مرات فى مناظر جنسية مع نجوى مصباح. أما هذه العصفورة فهى لا تثير فى الحيوان وحده بل تعيدنى إلى دنيا ذات طابع خاص. خيالاتى الجنسية معها لها رائحة عطرة. حبات عرقى الجنسى تتفتح فيها زهور بيضاء وينطلق من أكمامها عصافير منتشية.أليس هناك سبيل إلى الاتصال بها دون أن تنهار أحلامى أو أقتل رميا برصاص ملكة مناع زوجتى العزيزة، سوف أكتب لها خطابا أعبر فيه عن كل ذلك، هذا هو الطريق الأسلم.
”حبيبتى بسمه…
لا تتعجبى من ندائى لك بحبيبتى، هذا قدرى، أقولها دون لف أو دوران. أنا على غير دينك، لكنى بلا دين. فلا تضعى العوائق بيننا بلا مبرر، السن لن يحول بيننا لأنى لا أريد منك شيئا له دخل بالسن. لقد جئت هنا بلا عقيدة ولا مستقبل فما الذى جاء بك فى هذه الساعات المبكرة من العمر؟ هل نسعى جميعا إلى هدف مشترك لا نعرفه؟ فنحن نقترب بعضنا من بعض. الذى يهمنى أنى اقترب منك أنت على وجه الخصوص. أنا أحبك يا بسمه. أنا لم أحب أحدا أبدا، أحلم بك ولا أشوهك حتى فى الحلم. أرفض لك حزنك. هذا الحزن مؤلم فى هذه السن الحلوة، أريد أن أتسحب تحت ملامح وجهك لأرى حقيقتك، فرحتك، ألقى بين عينيك بقشرة ترمسه ونحن نسير سويا فى صمت على شاطئ النيل فتضحكين مثل رضيع يتعرف على صوته لأول مرة.
حبيبتى بسمة.
ربما أنت الوحيدة التى تستطعين مساعدتى فى محنتى التى ورطت نفسى فيها دون مبرر. كيف تساعدينى؟ لست أدرى؟ ولكنى أحبك.
توقيع: “غالى جوهر”
راجعت الخطاب مرتين ولم أصدق أنى أنا “غالى جوهر” الذى كتبته، نظرت إلى وجه امرأتى وهى نائمة تجز على أسنانها فى تنمر. تسحبت إلى الحمام وكومت الورقة فى إصرار وخوف وألقيت بها فى الماء وأخذت أشاهدها وهى تدور حول نفسها مع تيار الماء المتدفق، ثم تنسحب بقوة إلى مكان عام حيث يختلط كل شئ بكل شئ.
هذا هو ما تفعلونه بالحب الخاص يا إبراهيم، حين تتكلمون عن حب كل الناس لكل الناس. تعيشون فى الكذب ليل نهار وأنتم تدورون حول أنفسكم فى عيادة طبية مثل دورات هذا الخطاب فى قاع الماء القذر. الناس لا تتساوى إلا فى مكان عام مثل مصير هذه الورقة المطوية.. ما أبشع خيالى ولكنى أحاول الصدق حسب وصاياكم العشره.
ما أبشع الكذب حين يسمى بغير اسمه.. حين يسمى الأفيون الحديث منبها للوعى.. إسمع يا إبراهيم:
أنا ذاهب غدا إلى الكنيسة دون أن أقول لكم، وسأعترف بكل ما كان.
-7-
”جوهر غالى جوهر”، هل هذا هو نهاية المطاف أو لعله بدايته.
ماذا بعد أن قبل أبونا اعترافى وانتصرت ملكة على خوفنا، فأهدانا الرب هذه الجوهرة الغالية النادرة؟ ولد ليس كمثل الأولاد، نتاج المعاناة والصبر، زهرة العمر “جوهر غالى جوهر” ما هذا الذى كان قد حدث بعقلى حتى أحرم ملكة وأحرم نفسى من هذه النعمة التى ستزيد عدد شعبنا المظلوم على أرضنا التليدة. نحن الأصل. ما أغباك يا نجوى حين تركت طفلتك إلى هذا الضياع الذى كاد يطير بصوابى، ولكنك تراجعت فى آخر لحظة حين قبلت الارتباط بإبراهيم. هذا هو عين العقل. سوف تعرف معنى الحب يا إبراهيم من الآن فصاعدا.
من الغرور والغباء والأنانية يا كمال يا نعمان أن نحاول أن نحقق فى حياتنا ما ينبغى أن يحققه أولادنا وأولاد أولادنا. قال أبونا فى موعظة الأحد الماضى كما كان يقول دائما إن المجد لله فى الأعالى….، فهمتها ربما لأول مرة على كثرة ما ترددت على أذنى. كيف تحاول أيها العبد الحكيم – متخفيا تحت ستار العلم والطب – أن تجعل المجد للإنسان فى عيادتك القذرة. أما أنت يا ملكة، فلولا صبرك على هذا الصبر لضاعت الأرض والسماء والأصول والفروع.
ولكن لماذا يفارقنى النوم بالليالى الطوال – ومتى ينتهى الواجب الزوجى الأسبوعى الثقيل..؟.
يستحيل على أن أهدم المعبد على رأس الجميع لأنى ضبطت حارسه يتبول بجوار جداره.. لا أستطيع أن أنساكم أو أنسى الناس. “جوهر” إبنى ليس سوى الناس رغم أن ملكة تزداد بعدا يوما بعد يوم….
خائف خائف خائف أنا، مع أنى متأكد أنى على حق… أننا على حق مهما تعثر بعضنا.
مازالت شهادتك بصدق محاولتى تطمئننى يا إبراهيم. أنا لم أفهمك أبدا وأنت تصر على ابتغاء “وجهه”. أنا خائف يا إبراهيم. مضت شهور ولم أركم فيها. كم أنا مشتاق لرنين صوتك يا أخى، ولغمازتا بسمه.
”جوهر” يا إبنى هل تكون لى بديلا عن الناس؟.
أو أنك سوف تكون طريقا إليهم؟.
الفصل السادس
كمال نعمان
-1-
اقتربت من اللوحة، وابتعدت عنها. ملأنى الزهو بنفسى وبالريشة وبالألوان. أتذكر كلام صديقى أمس: “تـواصل الصعود إلى القمة بسرعة يا كمال! الآن فقط أحس أنك كنت محقا حين تركت الشعر”. صديقى هذا ناقد فنى لا يجامل، هزنى إلى الأعماق. هذه لوحة ستكون صرخة العصر لإعلان مرحلة جديدة، لم يبق على إنهائها إلا لمسات يسيرة ثم تصبح “هي” التى “هى”.
أتراجع أكثر حتى أتملى من ألوانها. جاءت وقفتى بجوار النافذة. لمحت الأتوبيس وقد خرج من كل فتحاته عجينة مختلطة من البشر “المصريين”.شعرت بوخز عنيف فى صدرى سرعان مازال ليحل محله هاتف قديم، هاتف كنت قد نسيته بعد أن استغرقنى العمل والنجاح واستوعبنى الفن. تردد بصرى بين اللوحة وبين الأتوبيس”هؤلاء البشر مصريون! وأنا…؟. من أى جنس أنا؟.” رجعت أشاهد اللوحة. هذا العمل يدل على أنى منهم. ولكنهم هم أصحابه، هو منهم، فكيف يصل إليهم.
كدت أذهب إلى اللوحة وألقيها إليهم فى محاولة كاريكاتيرية للسخرية مما دار بذهنى. لكنى لم أفعل. لم أستطع أن أطرد ما يدور بعقلى. شئ مشترك بينى وبين هؤلاء الناس لابد أن يتواصل. من حق صاحب هذا العمل الحقيقى أن يحس به. أنا أرفض ألا يحس بى إلا ناقد متحذلق. ترى هل يفهم الناقد نبضى أم أنه يتفرج ليحكم على. لا بد أن يعرف هؤلاء الناس ماذا أقول، ومن يقول ماذا، فعلا، أو حتى تقريبا؟. هل حقا أريد أن أقول شيئا أم أنه تفريغ والسلام؟. ترى ماذا أريد أن أقول. يتردد السؤال على لسان هاتف شديد الوضوح. ليس تفكيرا داخليا. صوت كأنه أنا، لكنه مازال بداخلى والحمد لله. يكرر السؤال بحدة أكثر مما خطر ببالى.
* ماذ تريد أن تقول فعلا؟.
* لا أعرف.
* ولماذا تريد أن تقول ما لا تعرف؟.
* لأنه يلزم أن يقال .
* من أين أتيت بهذا اللزوم؟.
* ماذا أفعل لو لم أقله؟.
* وماذا تفعل لو قلته؟.
لأول مرة أقف أمام عملى بهذا الوضوح أراجع قيمته ومعناه، كان يخطر ببالى مثل هذا الخاطر، وخاصة حين تثار المناقشات مع أصدقائى القدامى، الثوار منهم والأدعياء، حول قضية الفن للفن أو الفن للحياة وأحيانا الفن للشعب. كنت أرفض دائما منطقهم . أكثرهم لم يكونوا يعرفون عن ماذا يتكلمون. لا عن الفن ولا عن الحياة ولا عن الشعب.
فى عز وحدتى، ودون تدخل من إرهاب فكرى أو تشويه تشنجى. أواجه المشكلة بشكل شخصى محض. المسائل الشخصية تموع حين تصبح عامة، والمسائل العامة تلح حين تصبح شخصية. متأكد أنا من زيف أغلبهم وادعائهم وإلا ما تركتهم. زيف بعضهم لا يعنى فساد دعوتهم، كنت دائما أرفض أن يوضع بجوار العمل الفنى أية علامة استفهام. الفن كيان قائم بذاته لذاته لا يحتاج إلى “لماذا” أو حتى “لمن” فماذا جرى لى بحيث لا أستطيع أن أرى اللوحة إلا ووراءها الأتوبيس وعليه الناس بعضهم فوق بعض؟. ما هى هذه العلاقة الجديدة التى تفرض نفسها على؟.
- الفن لغة خاصة غير قابلة للترجمة، وعلى من يريد أن يتفاهم بها أن يتعلمها، هذا كل ما هناك.
* اللغة تواصل بين اثنين.
* ليكن ولكنها ليست مشكلتى.
* بل مشكلتك ونصف. كنت تؤجلها باستمرار.
* هل أنزل إلى الأتوبيس أوقظ إحساس الناس بمطواة قرن غزال حتى يعرفوا ماذا أريد أن أقول.
* تخفى فشلك بسخريتك.
* فشلى أنا ؟. من ماذا؟.
* من أن تعيش؟.
* أعيش؟. أنا عائش . من أنت؟.
* أنا أنت.
* من؟.
* أنا أنت.
* لا. بل أنا.. أنت.
* اعترفت بى على أى حال.
* .. لم أعترف. أنا أسمح لشطحات الفن أن تتجسد من باب العبث العقلى.
* حاول أن تتخلص منى ! ! جرب. هذه المرة ليست مثل كل مرة.
* نعم.!!. نعم.!! من أنت؟.
* إذا تخاصمنا عجز كلانا، فانتبه.
* قل هذا الكلام لنفسك.
* بل تقوله أنت فقد طال صبرى حتى كدت تنسانى، أنا الآن أريد حقى فى الحياة.
* حقك؟. هذا هو الجنون ذاته.
* أنت تسرق عملى، تفخر به، تتباهى وتنسى. صبرت عليك كثيرا لعلك تتذكرنى يوما بعد أن تشبع من جشعك، إلا أنك كنت نذلا كما كنت أنا غبيا.. فلنصف حسابنا.
* هواجس وعبث، ولقد “وصلت” بجهدى وعرقى.
* ونسيتنى.
* لم أنسك.. فأنت أنا، ألم تقل ذلك لتوك.
* كذاب..
* كلهم يعرفون من أنا، كمال نعمان، وماأنت إلا شيطان عابث.
* أنا إلهك وإله آبائك يا غبى.
وصلت المشادة إلى السباب الصريح حتى خفت أن يسمعه الجيران. انتابتنى رعشة شاملة، ثم صداع على جانب واحد، ثم خوف حقيقى من أن أكون قد فقدت سيطرتى على نشاطى العقلى. حاولت أن أكمل اللوحة فلم أستطع. يداى لا تقويان على الإمساك بالفرشاة وإن كانت تقوم بكافة الأعمال الأخرى بكفاءة ومهارة. الإحساس يغمرنى واللمسات فى ذهنى ولكنى عاجز عن أن أنقله إلى اللوحة، ما الذى أوقفنى وأنا أقترب من القمة هكذا؟.
* لكل شئ إذا ما تم نقصان؟.
* نعم..؟. نعم…؟. تشعر حضرتك، هذا شلل كامل وليس نقصانا؟.
* حقى برقبتى، لن تعرف كيف تتخلص منى بعد الآن.
* ما هو حقك؟.
* أن أعيش.. وأتواصل مع الناس وللناس.
* حاولت.. وأنت تعلم ذلك واكتشفت خداعهم وكذبهم.
* نحاول ثانية.. التعميم تبرير لليأس. خيبتك ومناوراتك لا ينبغى أن تدمغنى.
* لا أفهم ما تريد.
* سوف أوقف كل شئ حتى أطمئن على أنك لا تسرقنى..
* ……
* ……
* من أنت؟.
* أنا أنت.
* جنون هذا أم حلم؟.
* إبحث عن اسم تهرب به من حقيقة وجودى.
كنت قد قرأت عن مثل تلك الشطحات التى يمر بها بعض أمثالنا عبر التاريخ. ارتفعت إلى وجهى بسمه سعيدة خبيثة معا. يبدو أنى سوف أدخل التاريخ !! ازدادت ابتسامتى اتساعا وتراءت أمامى صور متتالية بدأت بليوناردو دافنشى وانتهت ببيكاسو مع وقفة طويلة أمام فان جوخ – يا حلاوة (!) أصبحت لى شطحات مثلهم. من يدرى إلى أين ينتهى بى المطاف؟. العصر تغير وأصبح دخول التاريخ صعبا مثل كل شئ هذه الأيام. أسهل من دخول التاريخ دخول مستشفى الأمراض العقلية.
لابد أن أكمل اللوحة أولا. ربما احتاج الأمر أن يمضى عليها اثنان من موظفى الدرجة الرابعة الفنية قبل أن يسمح لى بدخول التاريخ. ربما أصبح يحتاج إلى مكتب تنسيق بعد آن تزاحم المدعون على أبوابه. عجزت تماما عن إكمالها. أجلت المحاولة بضعة أيام، ثم بضعة أسابيع. بدأت أتأكد أن المسألة ليست وقفة عابرة. الديالوج الساخر المتصل يملأ عقلى. أنتقى من ألبوم الذكريات صور أصحابى القدامى الكذابين لأؤكد خواءهم وزيفهم. لا أستطيع أن أنكر صدق آخرين وكفاحهم. كلما هاجمت الضالين المضللين اقتحم وعيى الشرفاء يلوموننى ويحذرون من التعميم أحيانا يخيل إلى أنهم يتشفون فى وحدتى أو يعايروننى بهربى. يلوح بعضهم أننى أدفع ثمن انسحابى.
تركتهم حين تصورت أن السياسة مهرب خبيث، وهأنذا أكتشف أنه إذا كانوا هم قد هربوا جماعة فأنا هارب صولو. هل من وسيلة أخرى للتعبير عن هذه المشاعر الغامرة؟.
غيرت مسيرتى قبل ذلك، ولا أعرف وسيلة أخرى حاليا غير اللفظ واللون. كل الناس كانت تتسائل فى تعجب حين تركت الشعر إلى الرسم؟. هل أرجع إلى الألفاظ لعلها تكون أكثركفاءة وطيبة فتحمل مشاعرى إلى الناس فوق الأتوبيس؟. كانت الألفاظ صديقتى ورهن إشارتى. تطاوعنى حين أصالح بينها وأعيد تنظيمها راقصة أو متماوجة أو مشرعة مثل السيف فى وجه العدم واللامبالاة. حاولت جادا أن أمسك القلم وأن أدعو الألفاظ للرقص من جديد. استعصت على هى الأخرى وكأنها تعتب على لأنى هجرتها إلى الريشة دون إنذار . كل مرة كنت أهرب فيها من السجن إلى الخلاء، كنت أجرى هنا وهناك طويلا قبل أن أتبين أسوار الخلاء، السجن أرحب لأن أسواره محددة. إلا أنه سجن على أى حال. انتقلت من الحبس الانفرادى فى زنزانة المدرسة إلى فناء فى الجامعة، ثم إلى ملاعب الشعر حيث حققت ما يعرفه الجميع. ضاق بى اللفظ أو ضقت به، لم يعد يسعف خيالى. كنت، أحس أن حروفه تنوء بما أحملها من مشاعر وأحاسيس. أرهقنى اللفظ وأرهقته حتى أنقض ظهره. عجزت عن كتابة الشعر فتسللت من بين القضبان إلى حديقة الرسم الممتدة إلى غابة الدنيا الواسعة. دنيا الألوان والمساحات عامرة بالحركة والحرية. ظللت أؤلف بينها فى تناغم أرضانى بعض الوقت. فجأة أجد نفسى فى وسط الصحراء الكبرى. الأخرى الكبرى. لا شجر ولا ماء، لا ألوان ولا وأصوات. خواء الاستغاثة الصامتة أصعب من كل صياح.
هل توقف كل شئ؟.
كيف أواصل سعيى؟.
قبل ذلك وبعد ذلك: أين؟.
-2-
شتان بين السمع والمعاينة، كنت قد قرأت له بعض ما كتب حتى حسبت أنى أعرفه، يكتب عن الناس الناس، ويهون الآمر وكأن الجنون يمكن أن يكون فاتحة عهد آخر. كأنه رحلة اختيارية سعيدة. كنت شغوفا أن أعرف “كيف”؟. هاهى الفرصة تتيحها لى هواجسى التى لاترحم، الواقع الحى أبلغ من كل مقال، لا أنكر أنى أتمتع بالتجربة حتى النخاع. فرصة نادرة للنزهة داخل الإنسان دون استئذان، عادت إلى مشاعرى الفنية المتدفقة تستوعب كل همسة أو إشارة. لتكن فترة استقبال وتمثل من تجارب البشر وهم يتعرون فى غفلة من الزمان فى عيادة طبيب مغامر. هذا الرجل فنان كما قلت لغريب، يعيد صياغة الحياة بطريقة فنية بحتة. خطورة فنه أن مادته من لحم حى، أى لذة تجدها فى هذه اللعبة تجعلك تصبر عليها هذا الصبر، أكاد أعرفك يا عمنا أكثر من نفسك. ما أروعك وأنت تستخرج المشاعر من جوف أصحابها وكأنك تفرغ جراب الحاوى الذى تعرف محتوياته تماما. يا لهفتى عليك حين تفشل. أعرف أنك فاشل لا محالة. نحن السابقون. إياك أن تقترب منى فنحن أدرى ببعض، دع وجودى الجسدى واستمرارى فى الحضور يطمئنانك من بعيد. أصفق لك فى السر بعد إخراج كل لقطة تقوم بها. أثنى على لوحاتك الحية بابتسامة خفية. يسر خاطرك حين تبلغك رسالتى فتواصل عملك وأنا أحسدك وأنتظر دورى.
سألنى غريب مرة “لماذا أحضر هنا” . أجبته “إنى لا أعرف ما أشكو منه” ولم أقل له السر الحقيقى. يستحيل أن أقول له أنى أشكو “مني” أو أنى أعجبت باللعبة وأريد مزيدا من النمر والمفاجآت. أنا فعلا لا أعرف مالى، ياليتك تعرف يا عمنا، يا أبى أنت وأمى، من بعيد لبعيد، يا ليت.
ياليتك تقول لى ما بى دون أن تدعى علاجى. سوف أظل المشاهد الأمين لك ولروائعك طالما أنت تتركنى فى حالى. إياك أن تتخطى وتحاول هذه اللعبة معى وإلا فقدتنى وأنت تعلم قيمة وجودى “هنالك”. أنا المتفرج المتميز لمحاولتك المستمرة. كلهم لهم أدوار يلعبونها بمهارة توجيهك يا رجل،… إلا أنا. حتى غريب أتقنت استدراجه من خلال فيضان مشاعر صديقنا إبراهيم الطبيب. كم أحب النظر إلى ملامح هذا الإبراهيم، ضخم فطرى فى كل شئ. ملامحه، وعواطفه، وشعر صدره، وكفه المفلطحة وأصابعه المتزاحمة. لم أتوقع أبدا أن يتنازل غريب عن ذاته ولو ثانية واحدة، فما بالك بنصف ساعة بالتمام. هذه واحدة “لك”. حسدتـك عليها. كدت أصفق حينذاك. حتى عبد السميع ظل مثل جبل الجليد حتى أغمدت فيه سيفك عن طريق كلمة من بسمة. انطلق صاروخ النار من داخل جبل الجليد وقذف البركان بالحمم فى كل مكان. لولا أنى اشتركت فى الإمساك به بيدى هاتين ما صدقت. أخافك أحيانا رغم إعجابى بك، وكثيرا ما حسدتك وحقدت عليك. أولى بى أن أرفضك وأرفض تلاعبك بالبشر فى سبيل إرضاء فنـك الذى تدعى أنه طب. أنا عجزت عن مثل هذا التلاعب بالكلمة واللون ولم تعجز أنت رغم أن مادتك من البشر الأحياء. تستغرقك قدرتك الفنية فتتلاعب بمادتك الحية فى براعة ويسر. تتحدى عنادها وجمودها وتصنع بها الأفاعيل ولكنك لا تضيف إليها من عندك إلا ما بداخلها. “منه فيه”. أنا فعلا أحسدك. أحس برغبة فى قتلك حين تبلغ بك النشوة الفنية أن تنحت بأزميلك فى براعم غضة لم تتفتح بعد فترغمها على التفتح قسرا. كدت أصفعك وأنت تلغى ابتسامة “بسمة” الخجلة لتـظهر ما وراءها من حزن مر. دعها يا أخى تنسى بعض الوقت. أتذكر كيف هزمنى اللفظ واللون فى حين لا تهزمك لا البلادة ولا الخوف. أراقبك فى غيظ. هل علمتنى كيف أطوع مادتى ثانية لأرجع إلى قلمى ومرسمى ثم نكون أصدقاء بعد ذلك؟. لك على ألا أفشى سرك. سوف يظل الناس يحسبون أنك طبيب عالم، وسوف أكون تحت أمرك لأشاهد بعض مسرحياتك الحية. ساعدنى الآن حتى أعاود الإمساك بالقلم أو بالريشة ولن أنسى لك فضلك أبدا. النار المجنونة تحرقنى وأنا عاجز. أخشى ألا تتركنى إلا رمادا لا يصلح لشئ. أنا لا أصلح حتى لأتفه دور كومبارس فى لعبتك. نظراتك المغرية المتفائلة تكاد تقسم لى أن هذا ممكن. لماذا لا تفعل شيئا لى مثل الآخرين. هل تعرف أننى الأصعب؟. هل تريد إذلالى لأطلب أنا؟. أنت تعلم أنى سأموت قبل أن أفعلها. تتركنى الأسابيع الطوال أنتظر تعليقا منك أو ألتقط مفتاحا أعاود به فك الألغاز ولكنك أنانى بخيل. لا. لن أخضع لشروطك ولو انطبقت السماء على الأرض، فلألزم مقعدى هذا ولو مدى الحياة دون أن أمكنك من أن أنطلق لحسابك. أريد أن أسألك لماذاكل هذا؟. كيف تستمر وعملك محدود بمن يقبل ويتحمل؟. كيف تتحمل تكرار فشلك وهو معلن صريح؟.. تظل رغم هذا وذاك تحاول بلا تراخ. أنا أحسدك.
أنا توقفت عن الرسم حين سألت نفسي”لماذا”؟. و”لمن”. أما سألت نفسك أنت أيضا “لماذا” أو “لمن” . كيف نجحت أن تهرب من المواجهة. كدت أنفجر ضحكا لما سمعتك تجيب على “ملكة” حين سألتك “لماذا” “فقلت: لأكسب نقودا. على من هذا الكلام يا رجل؟. هل هذا هو الطريق لكسب النقود؟. تعالى أدلك على عمل أولى بذكائك وقدرتك على التعامل مع البشر الطيبين. خذ مثلا: “مقاول عمال للتراحيل”. أراهنك أنك ستكسب بنصف جهدك وربع ذكائك عشر أضعاف ما تكسبه فى هذه اللعبة الخطرة، التراحيل هذه الأيام تذهب إلى ليبيا وأبو ظبى يا غبى. لو صدقت فى مواجهة السؤال عما تفعل، إذن لتوقفت وأرحت نفسك وأرحتنا من الأمل. إصرارك يجعلك تعتقد أنك تعمل شيئا ذا بال.ليكن . هذا ما منحنى هذه الفرصة على الأقل للفرجة على مسرح حى. شكرا، تعيش فى أتيليه البشر العرايا والمعوقين. تنحت فيهم تجاعيد الألم على وجوه ملساء من الخوف والاختباء فى البلادة. أزميلك يحفر فى الوجوه وأنت تتقن حبك نسب التضاريس فى الجلود الميته. أكاد ألمحك وأنت تفرح حين تراها تدمى بالرغم من موتها بفعل أزميلك الخشن. أنت لا تبالى وتستمر فى جريمتك “الفنية” القذرة لتفجر من قطرات الدم المتناثرة طاقة هوجاء. لست متأكدا إن كنت تدرى أو لا تدرى ماذا يفعل بها من تفجرت فيه دون استعداد. تظل الطاقة تدفعهم لمواصلة الرقص على المسرح. فقط على المسرح. لم أفهم معنى رقصة الطير المذبوح إلا فى عيادتك. أعترف أننى لم أرصد فيك قسوة للقسوة. رأيتك وأنت تكاد تموت ألما حين تهمد حركة الطائر بعد ذبحه فيصمت والدماء تتناثر من حوله فى كل مكان. رأيتك تحاول أن تجمع أشلاء الطير المذبوح لتنفخ فيهامن روح أحلامك. ماأبشع هذا وأروعه.
يقول غريب عنك أنك نصاب مجنون. حاستى الفنية تعجب بك على شرط ألا تقترب منى. الخيوط بين أصابعك والمسرح بلا نص، والهدف غامض، وأنا كل جمهورك. وأحيانا، بل كثيرا أضبطه يتفرج مثلى، غريب. أنت لا تكف عن المحاولة والسعى إلى لا شئ. الشئ الذى تسعى إليه هو ما يحافظ على استمرارك ، لكنك لا تعرفه. فكرت أحيانا أن هذا هو معنى حياتك، ولكن هل فكرت أنت ماذا تفعل بنا لتحيا؟. عذرك أنهم يجيئون بأنفسهم، بمحض اختيارهم. هم يتحملون بذلك مسئوليتهم. لا تنس أنك مازلت تكتب على لافتتك لفظ “عيادة” لا “أتيليه” ولا “مسرح تجريبي”. أنت تشارك فى الخدعة، فلا توهم نفسك أنهم أحرار فى اختيارهم. جاؤوك على أنك طبيب فاعلـن لهم حقيقة موقفك من باب الأمانة إن كنت شجاعا. أنت أغرب وأجرم وأعظم فنان سرى. لا تتحدث من فضلك بكل هذا اليقين عن الاختيار إلا فى غيابى. نضحك على بعض ؟. اختيار ماذا يا عزيزى؟. أنا لا أستطيع وقف الإعجاب بك فى كل حال. لا أعرف أين سيذهب إعجابى هذا لو حاولت الاقتراب منى مثلما تفعل مع الآخرين؟. كل ما يخطر لى الآن هو أنى سأخدعك أول مرة ثم أنصرف بهدوء إلى غير رجعه حين أشك أننى لم أخدعك بدرجة كافية، أو أنك لم تهمد بدرجة كافية.
* إلى قلمى وفرشاتى.
* أين هما؟.
* سأسترجعهما حتما.
* فى السر؟. إن شاء الله؟.
* ليكن. لن أعرض وجهى وروحى لأزميله ينحته كما يتصور.
* ولماذا لم تسترجعهما حتى الآن؟.
* أتمتع بالفرجة وآخذ وقتى.
* تقول أنك ستمضى بانتهاء الفرجة. أو إذا تعجل بالاقتراب.
* أنت تعرف أنك السبب. أخاف إن استسلمت أن تنتهز أنت الفرصة فتنقض على.
* لى طريقتى الخاصة فى استرداد قدرتى ومعاودة الحياة.
* فلماذا أنت هنا؟.
* هذا جزء من طريقتى الخاصة. ولن أكشف ورقى.
* نسيت أنك هنا معى لأنك أعجز من أن تظهر صريحا مستقلا عنى.
* عجز مؤقت أخدعك به. أنا لم آخذ فرصتى بعد.
* تنتبأ بالغيب يا فاشل . .
* لم أفشل قبل ذلك.. أنا لم أحاول بعد.
* أنت فاشل الآن، وستظل كذلك فى الظل.
* تتحدانى وكأنك تشمت فى.
* من أنت؟.
* أنا أنت.
* الله يخرب بيتك.
* بيتى بيتك، هذا الجسد المسكين تحت رحمتنا نحن الاثنين.
* عبث خيال.
* هذا الخيال هو الذى منعك أن تواصل عملك بعيدا عن الناس.على حسابهم.
* سوف أعاود رغما عنك.
* لن تستطيع بدون موافقتى.
* سوف أفعلها بعد هذه الإجازة الطويلة.
* جرب.
قبلت التحدى. سوف أعود اليوم وأبدأ فى إكمال اللوحة بلا إبطاء. ما هذا الذى يجرى داخلى؟. ليس هاتفا مثل الهواتف العابرة. هو كيان قائم كما يحاول هذا الطبيب أن يصوره ويظهره ويشرحه ويعيد ويزيد حتى يحدده، لو علم أنه جاهز عندى بهذا الحضور لاستعملنى ليبين للآخرين كيف يبحثون فى داخلهم عن مثل ما عندى. أنا متأكد أنه يعرف أنى جاهز. لكنه لا يتعجل لأنه يعرف أنه لن يجدنى / يجدنا بعد أول جولة. أخشى أن أتورط فى المشاركة عند أول إعلان عما بداخلى. لذا فأنا حريص على الفرجة طول الوقت. تعلمت مما يجرى ألا أخاف الحديث مع داخلى فلا أسارع بتسمية حضوره فكرا. أستطيع أن أسمح وأشطح وأقبل التحدى دون أن أتهم بالجنون. قد أتعلم كيف أصلح ذات بينى. لو حدث ، سوف أنصرف من الباب الخلفى فى أمان ولا أحد رأى ولا أحد درى.
* بعيد عن شنبك كل هذا ما لم تشركنى وتأخذ رأيى.
* ملعون أبوك.
-3-
حاولت فى تحد خطير. عجزت تماما. ظلت اللوحة ناقصة ميتة مشوشة. أمسكت بالقلم أستعيد به أصدقائى القدامى من الألفاظ. أصالحها. أتوسل إليها. أبى القلم وراح يخلط بينها فصنع طبقا من السلطة المبعثرة على ظهر ظرف خطاب وصلنى من الخارج ولم أفتحه. خجلت من نفسى. لعل الذين يكتبون الشعر الآن يفعلون مثلما فعلت الآن. لو اضطلع أحدهم على ما فعلت لتصور أننى أخلط الشعر بالنحت بالتصوير. العجز له لغته الخاصة فلماذا يأخذونه مأخذ الجد.
لم تسعفنى الفرشاة، وتوقف فى حلق وعيى الشعر. ليكن. سوف أكتب رواية. سوف أكتب ما أعيشه الآن . هذه رواية تستأهل. مادتها جاهزة حاضرة وكل تفاصيلها بين يدى. بدأت فعلا ثلاثة أسطر بالتمام. ثقل القلم فى يدى وكأنه بقايا لغم من رصاص قبيح. نظرت إلى صفحتى البيضاء (لم تكن مسطرة بالصدفة) فشعرت بأنها صحرائى القاحلة، وأنها حريتى المخادعة، وأنها سجنى السرى، وأنها طريقى إلى المطلق معا.
- المطلق؟. هل حصلت عليه فعلا يا “مختار”؟.
- نعم.. بلا أدنى شك… والعقبى لك يا كمال.. أنت أقربهم إلى.
- أتأكد الآن من عبث الالتزام وخداعه.
- أنا حر تماما.
- بلا شكل ولا أبعاد ولا وظيفة، ولا هدف؟!.
- تلقائيتى تعطينى ملامحى.
- من أين تعيش؟.
- عندى ما يكفينى.
- وثورتك الداخلية، أين تذهب نارها؟.
- ماذا؟.
- ثورتك الداخلية؟.
- الثورة ضد ماذا؟.
- ضد الأسوار، والعوائق، والخوف والوحدة.
- ألغيت الأسوار والعوائق، بلا خوف ولا وحدة.
- وماذا تفعل بالألم؟.
- إذا لم تعد تحتاج لشئ فلا ألم ولا ثورة.
- ألغيت احتياجك يا مختار؟.
- بل استغنيت عنه.
– يا سبحان الله.
- هذا ما حدث.
- ولكنك ترسل إشعاعاتك الجنسية تثيرهن بلا تمييز.
- هذا هو اختيارهن، وهذه هى حريتى.
- وهو احتياجك أيضا.
- هو وجودى التلقائى بلا تحفظات.
- ثم ماذا؟.
- لا توجد فى حياتى “ثم”، كما لا يوجد “ماذا”؟.
- يا نهار أسود.
- هذا أنا.
- وهل يمكن تعميم ذلك على كل الناس؟.
- لا يهمنى إلا نفسى.
- ولماذا أنت هنا؟.
- أتأكد من طريقى.
- إذن.. أنت تشك فيه.
- لن أغيره حتى ولو كان هو الهلاك نفسه.
- لم تنكر أنك تشك فيه؟.
- ليكن.
- إحذر يا مختار.
- احتياجك أن تنصحى لن يجعلنى أسمع نصحك.
– أحسدك.
- لم أصل إلى هذا بالساهل.
لا أصدق أيا من هذا. لو كان الأمر كذلك فلماذا يحضر معنا؟. شئ ما يطل من داخله يقول لا تصدقنى فلا حرية بلا قيود؟. أنهى مختار القضية قبل أن تبدأ. صدق أنه تخلى عن كل شئ. يعلن إقباله على الحياة بلا شروط.
”غريب” يعلن إدباره عنها بلا أمل. الاثنان يشبهان بعضهما البعض بشكل ما. تجنبا المعركة بذكاء منطقى. خيبتى أننى يئست من الفن وفى نفس الوقت لم أحصل على الحرية.
أشاهد صراع ملكة وغالى وأشترك فيه أحيانا بحق الزمالة القديمة. أتعجب من العمى الكامل تحت ستار الثورية أو الإخلاص الزوجى أيهما أكذب. لا شئ يغرى بحل بديل، لماذا جاءا إلى هنا دون غيرهما يؤكدان منطقهما الهارب. لماذا لم يأت هنا ثوار حقيقيون يقنعونى بإمكانية الحياة بالصورة التى يلوحون بها للناس؟. أعرف الرد فهم هناك فى الصفوف الأمامية لا وقت لديهم للمرض أو لغيره. نحن الذين نقبع فى الصفوف الخلفيه بعد أن تركنا، أو قفزنا من، قطارالثورة. نحن لا نعرف شيئا عن الصفوف الأمامية وإلى أى مدى وصل بهم القطار. هل يوجد أحد فى المقدمة فعلا أم أن القطار يواصل السير دون ركاب وربما دون سائق بعد أن قفز منه الجميع الواحد تلو الآخر دون أن يعرف أين ولماذا قفز الآخرون؟. أحسن شئ أننى لا أعرف جوابا.
وجودكما بالذات يا ملكة ويا غالى يشككنى أنه ما زال فى القطار من صبر على ما كنا نحلم به. قفزت بعيدا حين شككت فى يقظة السائق وبرمجة الرحلة. تصورت أننى سوف أنشغل بالقلم والريشة لألحق بكم فى القطار التالى. لم يأت قطار تال وانتهيت إلى حيث التقيتكما. يا ليتنى ما التقيتكما. كان أفضل لى اليأس التام أو الموت الزؤام مثل “غريب” وأكثر. حين تختلط مرارة اليأس بخدر الاستسلام يتخلق ترياق يشفى أمراض الثورة واضطرابات المستقبل.أنت أنصحنا يا غريب. تواظب على تناول جرعات وحدتك الـمـــرة بانتظام حتى نسيت مرارتها . لا يعادل نصاحتك إلا مخدرات مختار اللذية. لست متأكدا من مدة صلاحية دواء كل منكما. رؤيتى أحد من كل المخدرات، وثورتى هى التى أصدرت قرار “وقفى عن العمل”.
حالة مستعصية باختيارى.
على الرغم من كل شئ فإن هذه المسرحية الحية مازالت تبهرنى. لو قدر لى فى يوم من الأيام أن أكتب، فسوف أكتبها بالتفصيل. يخطر على بالى أحيانا أن أحضر جهاز تسجيل أحتفظ عليه بكل ما يجرى. سوف أكتفى بالتسجيل الدائر داخلى، المفاجآت رائعة تهز كيانى وتزودنى بمادة لا مثيل لها. لم أكن أتصور أن غريبا المتحفز الحذر يمكن أن يسمح لنفسه بهذا الاستسلام ولو جزءا من لحظة، ولكنه استطاع – بملاحقة إبراهيم وفى حضن المجموعة – أن يتخلى عن يأسه وعدمه وسخريته. استطاع أو اضطر النتيجة واحدة. كان رائعا مرعبا ما حدث. كأن الدنيا يمكن أن تتغير فى لحظات. لماذا رجع غريب بعد كل هذا التفجر المضئ أكثر بأسا وشكا وابتعادا؟. لم يبق له من التجربة إلا نظراته الملهوفة إلى إبراهيم وإلى أحيانا.
غريب هو الذى حاول أن يفتح معى حديثا يشككنى به فيما يجرى ولم يدر أنى أكثر منه توجسا، وأن رفضى أكبر من رفضه ألف مرة؟. لم أفهمه حين تكلم معى عن إحساسه الفج الذى لا يميز رغم يأسه وضياعه، لم ألتقط موضوعه . كان غامضا فاستوضحته حتى دعانى إلى بيته.
أفكر جادا فى زيارته.
-4-
التراب والظلام والكتب. بيت هذا أم كهف أثرى؟.
- نفتح النافذة قليلا يا غريب؟.
- لماذا؟.
- ألا تحب النور؟.
- هذا الضوء أقرب إلى الواقع، ومع ذلك كما تشاء. أنا اليوم ملكك.
- ماذا تعنى؟.
- أحبك يا كمال.. هذا هو.
- شكرا، ولكن نظراتك غريبة ولهجتك لم أتعودها، أكاد أنكر أنك زميلنا هناك.
- هل تعرف الحب الذى أتحدث عنه؟.
– كلنا نتحدث عن الحب بمعان جديدة وخاصة تماما. هذه بضاعة صاحبنا.
-…..أشعر بالسعادة فعلا بجوارك.
- الحمد لله أنى أسمعك تستعمل كلمة السعادة لأول مرة.
- أنت تفهمنى وتقدر يأسى وحذرى أمامهم هناك، أما هنا.
- كنت أود أن أفهمك أكثر ولكنى الآن متردد تماما. ومرتبك أيضا.
- منذ ذلك اليوم، يوم أن خرجت أتجول من سجنى بينكم وأنا أحاول أن أطفئ النار التى اشتعلت. نجحت فى إخماد كل الجمرات التى نفختم فيها إلا جمرة واحدة تدفعنى إليك وإلى إبراهيم.
-…أنا أثق فى إبراهيم.
- ولكنى قدرت أنه لن يفهم مشاعرى هذه.
- لعلك اكتشفت الآن أنى مثله لا أكاد أفهم ما تقصد أو تريد.
- ترددت ألف مرة قبل أن أفاتحك بحبى.
- … حبك هذا، “هكذا” يربكنى.
- أريد أن تجرب السعادة معى فالصدق هنا أضمن، أريد أن أقدم لك شيئا.
طرق الباب طرقة منغمة فارتاع “غريب” وأنطفأ وجهه وصمت فيما يشبه اليأس ثم التفت برأسه سائلا.. وأنا مازلت مرتبكا:
- هل أفتح؟.
- لم لا…؟. هذا شأنك
- إنها “صفية” أعرف طريقة نقرها الباب، هل تريدنى أن أفتح؟.
- تتحدث عنها وكأنى أعرفها، هذا شأنك.. يا غريب… تفتح، لا تفتح، أنت حر.
قام متثاقلا يجر خطاه دون أن أفهم ماذا يريد على وجه التحديد، على أنى كنت قد بدأت أحس برائحة الخطر من خلال نظراته الجائعة المستجدية. أواجه تحديا لابد وأن أكسره. دخلت صفيه تطرقع باللبانه، قدمنى “غريب” لها على أننا أصدقاء.
قالت وهى ماضية إلى الحجرة الداخلية وكأنها تسير فى بيتها ونحن الضيوف
- نادرا ما أرى عندك أصدقاء يا غريب وهذا ما يشجعنى على الحضور دون إنذار، لم أقابل عندك أحدا منذ لقائى بجارك عبد السلام الذى كان يبحث عن الله وكأنه نسيه عندك بالأمس، كان دمه خفيفا وإن كان لم يحبنى كما يجب.
استمرت فى حديثها وصوتها يعلو كلما ابتعدت حتى اختفت فى الحجرة مع صوتها
قال غريب فى ود يخفى ضياع فرصة ما:
- صديقة حقيقية، أصدق من شلة المخدوعين الذين يتلمسون مبررا لعجزهم عند صاحبنا شيخ الطريقة.
- حضورها أتاح لى الفرصة لأعرفك أكثر.
-… بل هى فرصة لتجهل ما بى أكثر.
-“قل لى من صديقك… أقول لك من أنت”.
- ليكن..، هى إنسانة بحق، قلبها كبير وتحب كل الناس، هذه هى مهنتها الشريفة بلا أسماء طبية زئفة.
- كنت أحسبك لا تهتم بهذه الأشياء.
-.. لى طريقتى الخاصة، ولكنى لا أجرؤ على الحديث عنها.
- تبدو صاحبتك رقيقة رغم فجورها المصطنع.
- أنت لا تفهمنى. لعلك تريدها الآن.. هى لك إن شئت.
- شهيتى ضعفت هذه الأيام، وإن كان حب المغامرة يتحرك فى داخلى من جديد. ثم إنها تبدو أرق مما تقول.
- ليس فى الأمر مغامرة، المغامرة هى أن تستمر فى شئ، أما هذه العلاقات المؤقته فهى من أصدق العلاقات الموجودة فى عصرنا المظلم الكئيب.
- ألا تجد فى ذلك جرحا لإحساسك، أو إحساسها.
- يسعدنى أن تسعد معها، أو أن تسعدها. هذا يعوضنى أيضا خيبة أملى.
- .. مازلت غير فاهم.
- ما عليك. هذا شأنى. أنا أعرف طريقى.
أبعد فكرة الشذوذ متى خطرت ببالى رغم وضوح الرؤية بعد هذا النقاش الذى اقترب من الصراحة المباشرة، حضرت صفية ففرحت حتى لا أتمادى فى الشك، ربما استغرقتنى المغامرة الجديدة، كانت تلبس إحدى بيجاماته المخططة فبدت شهية فعلا دون تصنع، تركنا غريب فى هدوء سعيد غامض.
- إسمى كمال.
- ذاكرتى قوية.. لا أستعملها فى الكلام الفارغ.
- ماذا تعنين؟.
- مازلت أذكر عبد السلام جاره، وأذكر تساؤلاته. هل تعرفه؟.
- نعم.
- أمره عجيب هذا الرجل ، هل أنت مثله؟.
- هناك تشابه دائما، فى بعض الأمور على الأقل.
- أحب مهنتى هذه لأننى أطلع من خلالها على أشياء تدهشنى.
-.. صفية! فيلسوفة أنت؟.
- فـى… مذا؟. اسم الله عليك.
- حدثينى.
- يا عينى. أمر الرجال هذه الأيام عجيب، يحلـون شئون الكون من فوق إلى تحت مع أن الطريق السليم هو البدء من تحت لفوق. يبدو أن هذه الشقلبة المزعجة هى التى أوصلت غريب إلى الخيبة التى هو فيها.
- أية مصيبة؟.
- لن أتركه لشقائه..، أنا وراءه والزمن طويل.
- أنا أصدقك. هل أشكرك؟.
-.. أنا أحبه..
- وهو.؟. هل يحبك؟.
- طبعا.
- آسف لاجترائى على التواجد بعد ذلك.
– عندك.. إكرام الضيف واجب، لا تفعل مثل جاره “عبد لسلام” الباحث عن الله فى صرة الكون.
- وغريب؟.
- غريب يتشاجر معى إذا فشلت مع ضيوفه، يقول إن فشلى يضاعف فشله.
- الأمور تعقدت.
- بل هى أبسط مما تتصور، هيا بنا.
- أخجل من رغبتى هنا هكذا رغم أنها موجودة.
- لا تكن مثل العيال المبتدئين.
-5-
انقطع غريب عن الحضور بعد عدة مرات وحسنا فعل. لم يفاتحنى بعد الزيارة فيما حدث، ولم يعاود دعوتى أو الحديث معى حتى أحسست بعبء حقيقى من موقفه هذا. كان يتعمد الجلوس بحيث لا تلتقى عيوننا. بدا يائسا، منهكا خائفا وحيدا. أنا متأكد أنه بابتعاده سوف يجمع شتات نفسه كما اختار ورضى. تجربتى مع صفيه أنارت فى مشاعر جديدة لم أعهدها من قبل، كانت صادقة واضحة طيبة. أصرت على ألا تعطينى عنوانها رغم إلحاحى. فكرت فى الذهاب إلى غريب لعلى أقابلها مصادفة ولكنى خفت أن يسئ فهم ذهابى لأسباب أخرى تتعلق برغبته فى شخصيا. ثم إنها لا تذهب هناك إلا مصادفة كما قال. أعادتنى تجربتى معها من إجازتى العاطفية وبدأت حواسى تتحرك وإن كانت بشكل مختلف، نجوى تتفتح كل يوم أكثر وأكثر، وفردوس تذكرنى بالحريم المتخصص لشئون السرير حتى أكتم ضحكى وهى تتحدث عن ا لتطور، وأحيانا ما تردد كلمة الثورة وكأنها تتكلم عن السكر والليمون اللازمين لصنع الحلاوة اياها. أما “بسمة” فإنى لا أراها إلا ويضع خيالى فى يدها كوب شاى باللبن. إصلاح فاضل … تليمذة شيخنا المجتهدة، استحوذت على فكرى وحسى أغلب الوقت منذ لقائى “بصفية”. هى دائمة الصمت والنظر والتأمل، جادة الاستجابة إذا أشار لها أستاذها بالمشاركة، تلميذة ومريدة ومساعدة من الدرجة الأولى. أشعر أنها تقدس أستاذها رغم اختلافها عنه وشجارها معه فى كثير من الأحيان. لماذا تذكرنى بصفية باستمرار، ترى هل هى السمرة أو الملامح المحدودة أم شئ آخر، ترى هل عندها قدرة عطاء صفية، إنهما تشتركان فى البساطة والوضوح، صفية تبيع بضاعتها بشجاعة نادرة، ولكن ما هى بضاعة إصلاح على وجه التحديد؟.
- نعم.
- تأخر الأستاذ، فهل تسمحين أن نتبادل الحديث حتى يحضر.
- طبعا.
- أبحث عن الطب فيما يجرى فلا أرى إلا فنا مسرحيا من الدرجة الأولى.
- الطب فن على كل حال.
- نعم؟… ولكن.
- المناقشات النظرية تبعدك عن ذاتك.
- أشاهد أستاذك وهو يشرح اللحم الحى، وأحس أنى أمام نحات عظيم.
- ريشتك الساخرة تعطلك.
- نعم؟.. نعم؟.
- أتابع فرجتك وسخريتك طول الوقت.
- الرد خالص.. أنا أيضا لى القدرة على متـابعة ما يجرى فى الداخل.
- أعرف ذلك.
- أرفض أن أكون صخرة فى أتيليه جاهزة للتشكيل على مزاج طبيب قلق وحيد.
- هذا يتوقف على التزام الطبيب… وليس فقط على مزاجه.
- فماذا عن التزامك أنت؟.
- التزامى؟. التزامى هو بعالم عادل سعيد.
- هذا حلم مستحيل.. كيف تسوقانه مع أنكم مختصون بعلاج الإفراط فى الحلم.
- لا أحلم إلا بقدر ما أستطيع، وإن كان الأستاذ يقول إنى أبالغ فى أحلامى وفى تقدير قدراتى. هذا من أهم نقاط الخلاف بيننا.
- أستاذك غامض ومتناقض. هذه بعض صفات الفنان القدير على كل حال.
- يحاول أن يجذب أقدامى إلى الأرض باستمرار وحين أقاومه أكاد أتمزق من قسوة واقعيته.
- تكملينه.
- نتشاجر كثيرا.
- وتحبينه؟.
- أستاذى.
- بل أكثر.
- أحبه.. وأحبك.
-… على ما قـسم.
- أعنى ما أقول.
- والباقين؟.
- والباقين كذلك.
- سبيل للعطاشى؟. لعل هذا هو وجه الشبه بينك وبين صفيه.
- من صفيه؟.
- صديقة قابلتها عند غريب، بضاعتها جاهزة، وذاكرتها ضعيفة، ولا تحب كثرة الكلام.
- كلامك يغرينى باحترامها.
- .. صدقها لابد وأن يرعبك.
- هل غامرت فنظرت فى عمق آلامها.
- هل تعرفينها؟.
- أراها فى عينيك وأنت تتحدث.
- جسدها أصدق من ألفاظكم.
– .. صرخة احتجاج تنبهنا إلى ضياعنا فى الكذب.
-… صدقها يوقظ إحساس أى ميت.
- .. أرجوا ألا تخنقه جرعات الألم التى تكتمها.
- تلميذة مجتهدة أنت.. تعيدين كلام أستاذك . أتقنت الحدس مثله. كأنك رأيتها.
هذه المرأة حكمتها مخيفة. عالمها الفاضل مرعب، تتحدث عن ألم صفية وتنسى ألمها هى. سأحافظ على علاقتى بها عن بعد. ملكة وغالى لا يتركانى فى حالى، غالى يتهم ملكة بكذب إدعاءاتها الثورية، وفى نفس الوقت يحاول أن يقنعنى بالعودة إلى هذه الشعارات. ثم هو يرجع إلى حضنها مستسلما بعد كل جولة. حاولت أن أقنعها أن تركز على المحافظة على بيتها. كنت قاسيا. يبدو أنها أذكى منى. تعلم أن هذه المبادئ هى السبيل الأقرب إلى قلبه. زمان كان الطريق إلى قلب الرجل هو معدته فأصبح الطريق إليه مجلات الحائط وتبادل نياشين الثقافة. سمعت ملكة مرة وهى تشير إلى عنوان مقال فلسفى بطريقة ذكـرتنى بقيس وهو يشير إلى القمر حتى تراه ليلى. الصور تختلف.. والمصيبة واحدة.. والعاقبة فى المسرات.
أين أنت يا صفيه يا أصدق الجميع؟. لو عرفك غالى لغير رأيه فى المبادئ والنساء، غالى يحاول أن يسترجعنى بأن يذكرنى بفشلى فيما ذهبت إليه، كنت قد تركتهم معلنا أن الفن هو الحل الحقيقى الذى سيوقط الناس دون كذب، وهاأنذا أحس برائحة الشماته، غالى يتابع توقفى وعجزى.
- هل رأيت كيف توقفت حين واجهت حقيقة هربك؟. هل صدقت أن الفن ليس حلا؟.
- ولكنه قد يمهد للحل يا غالي.
- إذن لماذا توقفت؟.
- أعيد النظر.
- لعلك تفكر فى الرجوع إلى النضال معنا.
- غالى، تذكر ما تقوله لزوجتك ليل نهار، ولا تعيد على ما لا تعتقده.
- فشل حلك الفنى يجعلنى أتمسك بالحل الواقعى مها كانت عيوبه، وأنت تعرف أنى غير مقتنع بما أقوله لملكه.. أنا أحمى نفسى من الصوت العالى… ولكنى مصر.
- إصرارك يا غالى لا يطمئننى.. قد يكون هربا من المواجهة الحقيقية.
- والفن أيضا هرب.
- الفن لازم لصنع الثورة.
- ولكنه قد يؤجلها أو يجهضها.
-… بل يمهـد لها ويرسمها.
- فلماذا توقفت؟.. إن توقفك هذا يدل على أن الفن لم يستوعب طاقتك، الفن رمز بديل عن الحياة، وهو يفرغ الطاقة فى نشاط جانبى.. فهو مرحلة لا بد أن نتخطاها.
- أين تريدنى أن أفرغ طاقتى إذن؟. صفية تعرف الجواب أكثر منك ومني.
- مـن صفية؟.
-لا عليك. ماذا تقترح؟.
- الثورة.
- بلا ثوار؟. الثوار يصنعون الثورة، لكن الثورة لا تصنع الثوار.
- تتخلى عن ثوريتك، ثم تسأل فى سخرية عن الثوار.
- كنت أتصور أنى أساهم فى صناعتهم بالفن.
- وهأنت قد فشلت.
- فى إجازة يا أخى.
- إجازة ذات معنى. خاصة إذا طالت.
- إسمع يا غالى، أذكرك مرة أخرى بما تقوله لملكة.
- أحاول أن أقنع نفسى من خلال إقناعك.
- أنا لم أذهب عنكم وعن المكافحين المزعومين إلا حين تأكدت أنها لعبة مضحكة، نهرب فيها من ذواتنا.
- ماذا تقترح؟.
- نبدأ من جديد؟.
- مثلما يتصور هذا الطبيب أنه يجدد البدايات ليطلق لتطورنا العنان.
- هو ملبوس بحكاية التطور هذه. دعه جانبا فكل فضله أنه جمعنا تحت مظلة وهمه، أما ما يخرج من ذلك فهو اللاشئ نفسه، حتى الإشراقات الجادة، هى تضئ وتنطفئ مثل الألعاب النارية.
- لا تيأس يا كمال مثل غريب.
- لست يائسا ولكنى أتابع ما يجرى هنا، وما تتكشف عنه النفوس، جزع بشع، لا أحد ”يريد” أو “يستطيع” أن يقترب من نفسه لتحمل مسئوليته ومسئولية الآخرين.
- هنا نوع خاص من البشر، مرضى يحضرون للعلاج.
- لا أحلم بمصنع للثوار أفضل من هذا، ومع ذلك فها أنت ترى صعوبة العملية.
- لأنها حل فردى.
- الثورة هى إطلاق الإحساس الصادق على أرض الواقع، دون هرب أو التواء، وأظن أن بعضا من هذا يجرى هنا.
- بدأت تؤمن بالعلاج؟. هذا مهرب فردى واضح، وأنت سيد العارفين.
- الحل الجماعى يصلح لمن ليس على خشبة المسرح، ويا ويل من يلبس “المزيكة”.
* * *
غالى يحاول أن يستيقظ. ملكة تقف له بالمرصاد.خوفها يحيطه من كل جانب، وهى تصر على أن تقطع أى نقاش جانبى ليست هى طرفا فيه، يأسه يتزايد وتسليمه أصبح وشيكا.
* * *
- يبدو أنه لا حل ياكمال.
- نهتف بحياة غريب إذن، وننصبه زعيما لفرقة العدم.
- أحيانا يخيل إلى أن قوانين الدنيا ستختل لو وجدنا الحل .
- سر الحياة أنه ليس هناك حل.
- لو سمعتـنا ملكة لأغمى عليها جزعا وكمدا.
- طيب. وأنا… ماذا أفعل لو لم أرجع لفنى؟. قد ترجع أنت لملكة أما أنا فأين أذهب؟.
- على فكرة ملكة حامل.
- هكذا تعودان إلى الصف يا باشوات، وسوف تعيشان فى التبات والنبات، وتخلفان “صبيان وبنات”.
- فكرت فيك وأنا أعاود نشاطى الأزرق مع لابسى القمصان الموسيقيين العرب على أنغام صديقنا الشيخ “نجم” هذه الأيام.
- تنصحنى بالبحث عن الحل فى غيبوبة الدخان الأزرق.
- أنت فنان، وإن كان ثمة نهاية فلتكن سرية ولذيذة.
- هرب رشيق، ما أقبحه.
- لا فرق بين الهرب الرشيق والهرب البشع.
يبدو أن استمرارى فى الذهاب سيصبح مبررا لتوقفى النهائى عن كل نشاط. شيخ المخرجين يدعو إلى مواجهة مرة قاسية، فأزداد يقينا أن الفن فى هذه المرحلة يبعدنى عن الناس، ولكن الاقتراب من الناس هكذا مغامرة غير محسوبة، لو كان كل الناس مثل صفية لهان الأمر، ولكن من يدرينى كيف تتغير لو استمرت علاقتها بواحد فترة كافية؟. إصلاح تزعم أن ألم صفية هائل، وأن صدقها لا يفيد، فما الذى يفيد إذن يا حضرة التلميذه المجتهدة، لم تعطنى أى ضمان. لا أنت -برغم أنى أحبك- ولا أستاذك، رغم أنى أنحنى لمهارته ولعبه بالبيضة والحجر.
* * *
انقطعت عن الذهاب منذ شهور وقررت أن أواجه مصيرى دون مسكنات أو خداع. ليكن ما يكون . أندم أشد الندم على ذهابى هناك من أصله..، علمت وتعلمت ورأيت وفهمت وأحسست. كل ذلك كان أكثر مما ينبغى. ماذا ينبغى؟. لم أعد أستطيع أن أتصنع الحيرة أو أتمتع بالضياع.. فما بالك لو أكملت الرؤية فعرفت كل شئ؟. ياخبر أسود… إذن سوف يموت فى كل شئ تحت دعوى الصحة “آخر موديل”.
بداخلى بركان هائج لم أسمح له بأن يرى الخارج إلا من خلال ثقب إبرة الفن. أفتح هذا الثقب ليصبح بوابة تنفذ منها الصور والألحان. حين زاد الثقب ليهدد بأن يكون بوابة رأيت الوضوح واليقين فى متناول يدى فأصابنى الشلل. حضرت إليه على أمل أن نتفاهم فإذا به يحاول أن ينحتنى فى مرسمه بما يراه مناسبا. الله يخرب بيتك أيها الحرفى المجرم.. النحت فى كيان البشر فاق كل محاولاتى السابقة. تغرينى مهارتك وحيوية مادتك أحيانا أن أتمنى أن أمتهن مهنتك؟. هل يكون هذا هو السبيل الباقى أمامى؟.
ما فائدة الرؤية إن كانت تزيدنى عجزا؟. كيف أغلق الآن هذه البوابة المفتوحة؟.
لا أومن- ياسيدنا الشيخ – بحل تعرضه من عندك. حل أظن أنك أنت شخصيا لا تعرفه،ومع ذلك تغرينا به.
ليس لدى شخصيا حل، وأرفض أن أعايش الحيرة القديمة بعدما رأيت.
تغمرنى أجوبتك الجاهزة التى تضعها على ألسنتهم دون أن تنطق. تغمرنى مثل خراطيم المطافئ فتموت النار وأفرغ من الطاقة.
ألعن اليوم الذى رأيت فيه وجهك..
لا يا إصلاح يا فاضل.. لن أرجع خوفا منك أنت بالذات.
خربت بيتى يا رجل.
ماذ أفعل الآن؟.
***
الفصل السابع
عبد السميع الأشرم
-1-
سألت الممرض وأنا خارج هذه المرة” هل أحضر أيضا المرة القادمة؟”.
- مثلما قال الدكتور.
- لم يقل شيئا.
- تحضر حتى يقول.
- فى نفس الميعاد؟.
- فى نفس الميعاد.
- حاضر.
ما دخل “اضطراب أمعائي” بما يجرى هنا وما يقال؟. لولا أن الطبيب الباطنى هو الذى نصحنى بالحضور لا نصرفت من أول مرة. هذه زحمة ألفاظ، ومشاعر، وتمثيل، وأنا فيها مثل الأطرش فى الزفة. لا يصل إلى إلا هرجلة متداخلة. أنتظر أن يأتى على الدور وهو لا يأتى ابدا. أحضر باستمرار، وفى نفس الميعاد حسب تعلميات الممرض. العمر يتسرب من بين يدى وأنا أريد أن أكمل نصف دينى وأتزوج. أمعائى تثور على أكثر كلما فكرت فى الزواج. حين عجز الأطباء الباطنيون عن مداواتها أرسلونى إلى هنا وأنا لا أعرف ماهو نصيبى من هذا الذى يجرى، أو ما هو ذنبى أنا فى ذلك كله. أواظب على الحضور فى انتظار تعلميات الطبيب، وفوق كل ذى علم عليم، الوحيد الذى يمكن أن أفتح له قلبى هو إبراهيم الطيب. أنا مؤمن أن لله حكمة فى كل هذا، والمؤمن مصاب. إبراهيم يذكر الإيمان فى حديثه بين الحين والحين. هو ابن حلال. أشعر أنه يعرف أكثر مما يقول.
- سمعتك مرة تقول يا إبراهيم إن الإيمان هو الحل.
- بلا شك.
- أظن أن ما يجرى هنا ليس له علاقة بالدين.
- أى دين؟.
- إن الدين عند الله الاسلام.. هل تشك فى هذا؟.
- الاسلام هو دين الفطرة، والفطرة فى كل دين.
- ما علاقة ما يجرى هنا بالاسلام؟.
- نحن نبحث هنا عن حقيقة الفطرة السليمة.
- لم ألاحظ أن أحدا يبحث عن ذلك أمامى.
- أنت لا تريد أن تلاحظ أى شئ يا عبد السميع، أنت تنتظر الوحى من الطبيب، لا من الله ومنك.
- أنا مؤمن، ومع ذلك فإن أمعائى تؤلمنى وتنغص على عيشتى، وتحول دون أى متعة. هى تمنعنى حتى عن الزواج.
- لست مؤمنا كلك يا عبد السميع.
- استغفر الله، من كفر مسلم فهو كافر.
- أنا لا أكفرك، ربما أكفر أمعائك.
- لا تسخر منى، أنا جاد وأنت تعلم ما بى، كيف تكون الأمعاء كافرة يا أخى بالله عليك؟.
- إسألها.
- هذه مسخرة. كيف يكون المرض كفرا؟. المرض ابتلاء.
ماذا يقول هذا الإبراهيم؟. حسبته قانتا جادا فإذا به يتندر على دين الله. أستغفرك ربى وأتوب إليك. ما الذى أوقعنى هنا؟. وما الذى يمنعنى من التوقف عن المجئ مادامت أمعائى لا تتحسن، وما دام الطبيب لا يسأل فى؟. من أسأل يا ترى؟. هل أستشير طبيبا آخر؟. أحيانا يخيل إلى أن أمعائى تتكلم بهذا الألم فإذا سكتت أحسست أن دوامة تدور فى عقلى حتى أكاد أفقد توازنى. لابد أن هناك علاقة ما بين هذا وذاك. رضيت أن أحضر رغم عدم اقتناعى الظاهرى. شئ ما يدفعنى للحضور غير أمعائى. أحس بالرغم من كل شئ أن لى دورا آخر فى هذه الحياة لا يحول بينى وبينه إلا هذا الألم المستمر. أعتقد أحيانا أن هذا الدور هو “الزواج” لأزيد من ذرية المسلمين حتى يتباهى بهم الرسول صلوات الله عليه يوم القيامة. من يضمن أن ينشأوا مسلمين والفساد ضارب أطنابه فى كل مكان؟. لا بد أن يزول الفساد أولا. لعل دورى هو أن أساهم فى أن يزول الفساد حتى ينشأ أولادى مسلمين. كيف؟. لابد من أن يخبرنى الطبيب كيف أتخلص من هذه الآلام حتى أتفرغ لتنفيذ ما أعتقده. أمعائى تمنعنى. ليس أمامى إلا الصبر. حتى الممرض يرد على أسئلتى بنفس الطريقة.
- لم يقل لى الطبيب شيئا هذه المرة.
- سوف يقول عندما تحين الفرصة.
- نفس الميعاد؟.
- نفس الميعاد.
- حاضر.
- 2 -
- حاضر حاضر؟. ما هى الحكاية يا عبد السميع، ألن تتعلم كيف تقول لا ولو مرة واحدة، أين إيمانك الذى تختبئ وراءه؟. أين أنت؟.
- ماذا تريد ياإبراهيم؟.
- تتحدث عن الدين ولا أرى إلا شحوبك وخوفك.
- لا أفهمك.
- أحس أنك تذل نفسك بلا مناسبة، أحس بامتهان الإنسان فيك وأنا أراك مرتعدا فى انتظار أى لفتة أو تعليق.
- أنا لست خائفا. أنا مريض والطبيب يعالجنى وأنا رهن تعليماته.
-…. نسيت نفسك يا عبد السميع بشكل بشع.
- ما هذا يا إبراهيم.. ماذا تعنى؟.
- أعنى ما قلت.
- ماذا تريد منى؟.
- أكره مذلتك. كأنك تذلنى أنا لا تذل نفسك فقط.
- مالك أنت، وعن أى شئ تتكلم؟. ثم بأى حق؟.
- بحق حبى لك.
- هذا من فضل الله.
- أنت لا تعرف فضل الله .
- عندك يا رجل. أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره. هذا الذى تسميه استسلاما هو الإيمان بالقدر.
- لم يخلقنا الله آلات خرساء. خلقنا لنعيد النظر حتى نعرفه. أنت لست هنا من أصله يا عبد السميع.
- لماذا أنت عنيف هكذا؟. كثيرا ما أخاف منك. أخشى اقتحامك.
- لا أستأذن الناس لأحاول معهم.
– تحاول ماذا يا رجل؟. كفرت أمعائى، وتكاد تكفرنى، وتقول تحاول. هل بيدك مفاتيح جنة خاصة؟. بأى حق يا ابراهيم؟.
- بحق غيظى منك وحبى لك. أنت أعمى يا عبد السلام.
- أعمى ؟. أنــا؟.
- بل على قلوب أقفالها.
- يعجبنى فيك أنك تحفظ كلام الله وتستشهد به.
- كلام الله ليس للاستشهاد، هو فعل ماثل. أنت مسؤول عما أنت فيه.
- أنا لم أمرض بخاطرى.
- ياليته موضوع مرض، إنى أخجل من امتهانك لما كرمك الله به.
- لا إله إلا الله يا أخي!! تواصل الألغاز.
- ياليتك تعرف معنى التوحيد الحقيقى. إنه مدخل الحرية الحقيقية.
- لا راد لقضاء الله وأنا صابر.
- رجعنا للاستسلام.
- أنت تيئسنى يا إبراهيم.
-… وإن من الحجارة لما يشقق فيخرج منه الماء.
- من أين لك كل هذا؟.
- من كتاب الله.
- كأنك تحفظه.
- هو الذى يحفظنى.
- هذا كلام أشبه بما يقوله المتصوفة. أنا لا أفهم فى التصوف، وأنت؟.
- ساع إلى الحق.
- ولا أفهم فى الحق.
- لونك كالموتى.
- وهل أنا مسؤول عن لونى أيضا؟.
- نعم.
- دلنى على الطريق يا أخى إن كنت تعرفه بهذا الوضوح.
- لا أظن أنك تعنى ما تقول، حاول أن تتذكر متى خفت حتى مت.
- تتكلم وكأنك تعرفنى من قديم.
- لا يموت إنسان مثلك بالصدفة.
- لا أستطيع أن استرجع هذه الأيام، لا أريد أن أواجه رعبى مرة أخرى.
- أحترم كل ذلك، وأحترم أكثر استمرارك رغم كل ذلك.
- أنا لا أفهم شيئا سوى أنى مريض.
- فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا.
- المرض؟. عقاب للمرضى؟.
- هذا تأكيد لاختيارك، وتعميق لمسئوليتك. بصراحة أنا أشك أنك تقرأ القرآن مهما ردده لسانك.
- لا أفهمك.. لا أفهمك. ترعبنى يا ابراهيم.
- تخشانى والله أحق أن تخشاه.
- لا أفهمك. والله العظيم أنا غير فاهم.
- إن شا الله ما فهمت.
-3-
لو أن أى واحد آخر منهم قال لى ما قاله إبراهيم لرفضته واحتقرته وتركته. إبراهيم كاد ينزع جذورى دون هوادة أو تردد. من أين له بهذا اليقين وهذه القوة؟. ثم ما معنى هذه اللغة المحيرة التى يستعملها؟. يرجع بى إلى أيام زمان ويسألنى متى.. خفت حتى مت؟. من ذا يستطيع أن يتحمل ما تحملته من خوف وحيرة وألم ووحدة؟. تدعونى يا إبراهيم أن أوقظ إحساسى من جديد؟. قيام القيامة أهون من هذا. لو علمت ما كان ما عملت فى ما عملت. أنت تتكلم فى خلو بلادك. من على الشط شاطر. هل تعرف معنى إحساس شاب طفل وحيد ضائع ضائع ضائع؟. يرفض كل المسلمات ويرفض كل التقليد ويرفض التهريج ويرفض العبث ويرفض الرفض. تريدنى أن أوقظ إحساسى لأرجع إلى هذا العهد القاسى الظالم الساحق. إحساسى الآن مستقر آمن. تسألنى عن الخوف الذى أماتنى وكأنك تعرفه. لو كنت تعرفه لما سألتنى. خوف كصيب من السماء ياإبراهيم ما دمت تتكلم بالكتاب والحكمة، فيه ظلمات ورعد وبرق. لما أظلم على لم أقم من كبوتى. وضعت رأسى تحت جناحى مثل مالك الحزين حتى لا أرى شيئا ونسيت كل ما كان. أخشى أن أخرج رأسى وأنت وغيرك تتربصون بى كالثعالب. لا.. لن أرى ولن أفهم إلا ما ما أرى وأفهم. هذا آمن.
* لا أمان مع الظلام.
* بل إيمان به، وتسليم له.
* إرفع رأسك وانظر حولك، وإلا كيف تراه.
* لا أرفع رأسى إلا بإذنه.
* هذا هو الذل والشرك بعينهما.
* هذا كلام إبراهيم .
منذ صدر الشباب لم أسمع صوتى الداخلى هذا أبدا. ما الذى أيقظه هكذا؟. أنت يا إبراهيم أم أمعائى؟. بداخلى شئ كان يحاورك يا إبراهيم من ورائى. أهذا هو نهاية المطاف؟. سوف أشنق بحبل من أمعائى على منصة الضلال الذى تعيشون فيه جميعا، جئت أشكو من أمعائى فإذا بى وسط جماعة من المنحلين الكفرة، صبرت على مسخرتهم على أمل أن أجد علاجى، والتمست لهم الأعذار. ليس على المريض حرج. لما أنست فى إبراهيم خيرا قلبها على رأسى وأيقظ هواجسى. لماذا الحيرة وكل شئ وارد فى كتاب الله.
* ولكنه يعرف كتاب االله ويتكلم به أكثر منك.
* كل مشكلة ولها حل بين دفتيه.
* هو لم يقل غير ذلك، لكنه لا يتوقف عند دفتى جلدة المصحف.
* يفسره على مزاجه.
* لم يدع تفسيره.
* يتكلم به فى غير مواضعه.
* وهل أنت وصى على مواضعه.
* أنت معى أم معه؟.
* أنا مع الحق وتعالى.
* أنا أشك أن اسمك إبراهيم.
* بل عبد السلام وأنت تعرفنى.
* كنت قد اختبأت داخل كلمات المصحف.
* كتاب الله ليس مخبأ من نفسك، ولا مما يلهمه كلام المصحف.
* أراحنى من كل حيرة.
* أهنته وأنت تستعمله من الظاهر بدل عقلك ووجدانك.
رجعت إلى هواجس المراهقة دون إنذار، كنت قد استرحت بعد تلك الخبرة التى أجابتنى عن كل الأسئلة. هذا هو إبراهيم، الله يجازيه، يقلبهما على رأسى فيثور فكرى وكأنى لم أحل شيئا ولم أر شيئا ولم أسمع شيئا، مصيبة وحلت بى، ولا أدرى السبيل إلى تخليصها، هل أكف عن الذهاب حتى لو احتفظت بفضلات أمعائى حتى الموت؟. هل أراجع طبيبا باطنيا آخر لعلى أجد دواء حديثا غير ما تناولته قبل ذلك؟.
المشكلة لم تعد مشكلة بطنى وأمعائى. هذا الوسواس الخناس حل محلها. من الذى أرجعه بعد أن أتانى اليقين لحما ودما؟. سوف أذهب لأزداد إيمانا حين أواجههم واحدا واحدا بكل أسلحة الدين والحرام والحلال. لن تذلنى أمعائى هذه، لسوف ترى يا إبراهيم أى مصيبة ستلحق بك إذا تعرضت لى مرة أخرى، إذا ما حاولت أن تجعلنى “أفكر” ثانية”. لولا أن أمرنا الله بالأخذ فى الأسباب لذهبت إلى غير رجعة.
-4-
فتحت على أبواب الماضى. دخلت الذكريات تصفعنى بلا رحمة. أعيش مشاعر المراهقة بلا استئذان وأريد أن أنتقم من إبراهيم. كلما اقترب منى تحرك فى غول الانتقام وأنا لا أستطيع أن أستغنى عنه. الأدهى والأمر أن خلايا جسدى قد استيقظت مع عودة أفكارى القديمة وتساؤلاتى الحيرى. عدت أتأمل النساء فى الشوارع وأحس بطراوة أجسادهن فى الأتوبيسات فلا أتشنج. هل هذا هو الإحساس الموصل للإيمان الذى تتحدث عنه يا إبراهيم؟. الله يخيبك. هذا وحده دليل على أن ما تقوله هو من عمل الشيطان ياأخى. أنظر إلى بطاقتى الشخصية ولا أصدق أن هذا تاريخ ميلادى. كأنى توقفت عند سن السابعة عشر فى إجازة طويلة. أمانى الوحيد كان فى ثقتى بحواسى الخمس. كانت عندى الشجاعة أن أظل واضحا عنيدا لا أتصرف إلا بما أعتقد، ولا أرضخ إلا لمنطقى الخاص ويقينى الخاص حتى وجدت نفسى وحيدا تماما. لا يمكن أن تتصور يا إبراهيم معنى أن تجعل العقل سيدك وهاديك الأوحد فى هذه السن المبكرة فى بلد ريفى وسط عائلة تقرر أعظم قراراتها حسب نصيحة عرافة أو بمحض الصدفة. مع ذلك ظللت أقول..”لا” بكل مسئوليتها وعنفها، وحدة قاسية وخطيرة لا يحتملها إنسان “يحس” كما تقولون. احتملتها سنوات وحدى. سنوات طويلة طويلة طويلة. اكتشفت عجز الحواس بالمصادفة وأنا أنظر فى الميكرسكوب فى حصة الأحياء. ماذا لو كانت حقيقة الوجود تحتاج إلى ميكروسكوب أدق من هذا الميكروسكوب ولكنه لم يخترع بعد؟. أخذت أراجع مشاكل وجودى وعلاقتى بالكون – وأحمد الله أن الطب النفسى ساعتها لم يكن قد انتشر بهذا الشكل وإلا لحكموا على بالجنون دون استئناف. تريد أن تعيدنى إلى الجنون يا إبراهيم؟. أنت لا تعرف ما كان. أحسست أيامها بقدرة حواسى أن تخلق حواسا جديدة لها قدرة الميكروسكوب على رؤية ما لا يرى بالحواس القديمة العاجزة. مضيت وحدى أطرق أبواب الوجود أبحث عن اليقين بهذه الحواس الجديدة الغامضة دون أن أهرب إلى الحل الأسهل أو أرضى بالإيمان بشئ جاهز. ضيعت سن البهجة والمغامرة فى سعى جاد وحيد. هل تريد منى يا إبراهيم أن أرجع إلى هذا الألم وتلك الحيرة، سرت عاريا حافيا ضائعا تغوص قدماى فى أرض رخوة بلا قاع. كنت أغوص فى رخاوتها واختلاط معالمها ولكنى لا أشك فى بوصلة توجهى. سنوات طوال يا إبراهيم عشت فيها حياتين إحداهما سرية وليست مظلمة كما تتصور. ليس كل ما فى السر هو مظلم. أنت وأمثالك لا تعرف ثمن رفض المسلمات فى هذه السن. الوحيدة التى كانت تشاركنى الحيرة وتقبلنى دون شروط كانت هنية: خادمة سمراء ذات شعر أجعد. كانت تعانى من نوبات يقولون عنها لمسة أرضية، أحبـتنى وسمحت لى أن أفرغ حيرتى بين ذراعيها. أن أضع رأسى على صدرها دون سفسطة أو عقد صفقات مذلة. أن أتعرف على جسدى فى حضنها.
تفتح على يا إبراهيم بابا لا أعرف كيف أغلقه إذا وافقتك على فتحه. قل لى بربك من على الأرض يستطيع أن يتحمل وحده كل ذلك دون أن يجن؟. أنقذنى حضن هنية من الجنون صغيرا فأين الحضن الذى يحتوينى الآن إذا أنا سمعت كلامك؟. هل تعرف كم هو ساحق ألم الوحدة ؟.
ذهب كل شئ فجأة ، وذهبت هنية أيضا إلى سيد آخر يدفع ربع جنيه أكثر مما يدفع أبى، مع أنها كانت الوحيدة التى لم تقبل مقابلا لما أعطتنى. أعطتنى نفسى وأنا فى حضنها. أجلت ضياعى واستسلامى معا. كانت أثناء نوباتها تتكلم عن رفيق لها تحت الأرض، نصرانى الديانة. كنت أصدقها وأشعر أن داخلها يصالح الأديان مع بعضها البعض أصدق وأعمق. كانت هنية تسمع لى وتفهمنى وتسمح لى بجسدها بين الحين والحين دون هواجس الذنب أو وعيد الجحيم. ثم ذهبت لسيد آخر رغم أننى كنت أحتاجها أكثر منه، سيد كل ميزته أنه يدفع ربع جنيه أكثر. تركتنى وحيدا أبحث عنى من جديد. سنين طويلة وأنا أتقلب بين الكتب والوحدة والمساجد والكنائس والضياع. سنين طويلة أطرق كل باب يا إبراهيم بكل أحاسيس اليقظة الجياشة وليس لى من خبرة صادقة مع مخلوق إلا مع هنية. لا أبى ولا أمى ولا أصدقاء فى سنى، ولا أحد. أذهب إلى المقابر وأنام تحت شجرة التوتة وأركب النورج وأجنى القطن. رغم كل ذلك لم أكن مثل العيال ولا مثل الشباب. يحسبوننى معهم وأنا لست معهم. دائم البحث والصبر واليقظة. ظللت أحافظ على أحاسيسى لى خشية أن يحبسوها فى صندوق مغلق ليس له مفتاح. سنين طويلة كالدهر معاش عدة مرات، كيف تريدنى أن أعود اليها ثانية بعد أن وجدت إجابتى -فجأة -على كل الأسئلة؟. سكنت كل هواجسى إلى اللاشئ. سلمت الدهشة والتفكير والحيرة والرغبة إلى صاحب مجهول، فاسترحت لهذه الإجابات الواضحة الجاهزة على كل الأسئلة دون استثناء.
* كل الأسئلة؟.
* كل الأسئلة.
* يعنى أنت الآن عندك كل الإجابات؟.
* كل الإجابات.
* فما الذى أتى بك إلى سوق الأسئلة هذا من جديد؟.
* أمعائى.
* ولماذا لم تجد أمعاؤك الإجابة عما تسأل.
* من أنت؟. إبراهيم داخلى؟.
* أنا الوسواس الخناس.
* قل أعوذ برب الناس.
* إجابة جاهزة.
* من الجنة والناس.
عاد الوسواس الخناس دون استئذان. الله يسامحك يا إبراهيم .
خذ من القرآن ما شئت لما شئت، كل الأسئلة يا ابراهيم تجد لها جوابا فى هذا الكتاب. فلماذا الحيرة؟. ولماذا البحث؟. ولماذا الجرى والضياع؟. ما الداعى لأن تتحدانى وتحاول إرجاعى إلى غرور الشباب لمجرد أن أمعائى تؤلمنى ولا أستطيع تنظيم عملها، لو أنك مررت بما مررت به ورأيتهم حقيقة واضحة تمسك باليد وتسمع بالأذن وترى بالعين لعرفت مصدر اليقين الذى أنا فيه، ولكففت عن ضربى بسياط سخريتك التى تغلف بها نصيحتك وتقلب بها وجدانى.
– 5 –
كانت مصادفة، مجرد مصادفة ساقها إلى الرحمن الرحيم بعد طول الوحدة والحيرة والألم، ذهبت إلى “هؤلاء الناس” أتحدى خداعهم بعد أن ضاقت بى السبل جميعا وقلت أقفل هذا الباب أيضا، كنت متيقنا من دجلهم ناويا على إكمال طريقى وحدى فإذا بالباب يفتح على على مصراعيه.
شقة متواضعة ليس بها شئ غريب وناس من عامة الناس يبحثون عن الحقيقة مثلى ومثلك، ناس مثل هؤلاء الذين نجتمع معهم عند هذا الطبيب. كان لكل منهم حيرته ومشكلته ولكنهم اهتدوا جميعا بفضل قلوبهم المضيئة. ثم تجئ أنت يا إبراهيم لتقول لى بعد هذا اليقين: بل على قلوب أقفالها.
* * *
أقفلنا الأبواب والنوافذ وأحكمنا الستائر وأحضرنا البطاطين وسددنا بها أى منفذ أو شبهة منفذ حتى لا يخالج أى منا شك فى حقيقة ما يجرى ولا يتصور أنه وهم أو إيحاء. أخذنا نقرأ فى كتاب الله، لا طلاسم ولا طقوس غريبة. وضع الأكل ثم أطفئت الأنوار. أخذ الأكل ينتقل من على المائدة إلى أفواهنا مباشرة – مباشرة يا إبراهيم دون استعمال الأيدى. الصحاف لا تفرغ مما بها مهما أكلنا، شبعنا دون أن ننقص من الأكل شيئا ثم رفعت الصحاف دون أن نقوم من مجالسنا.
أخذنا نذكر اسم الله حتى حضر خادم الاسم بصوته الإنسانى العادى ورعبت يا إبراهيم رعب الأولين والآخرين. لكننى علمت فى نفس الوقت أنه قد آن الأوان لزوال حيرتى إلى غير رجعة. هذه أشياء لا جدال فيها ولا خيال ولا أحلام، جاءنى اليقين حتى ملمس يدى، هاهو ذا يتكلم ويرد على الأسئلة دون الحاجة إلى العناء والبحث والحيرة وإعادة البناء كما تقولون، جاءنى جاهزا وكلمنى كما أسمعك تماما مازلت أذكر حوارنا:
- هداك الله يا عبد العاصى.
- أنا عبد السميع.
- هذا اسمك على الأرض، أما اسمك عندنا فهو عبد العاصى.
- لم أعص أحدا . أنا أبحث عن يقين من داخلى.
- أنت تعيد العصيان، فتبتعد، أنت عاص من يومك.
- من أنت؟.
- أنا من مخلوقات الله مثلك، خلقكم من طين وخلقنا من نار.
- لماذا تتركوننا وتتركون الناس فى ضياع مادمتم بهذا الوضوح؟.
- لا نظهر إلا بناء على طلب الناس الصالحين. منا المؤمنون ومنا الكافرون . لو ظهرنا نحن خدام الخير لكل الناس لظهر الفريق الأخر دعاة الشر لكل الناس، واضطربت الأفئدة أكثر.
- هل هذا حلم أم خيال؟.
- ألم تشبع حيرة وضياعا.
- شبعت وتركتنى هنية.
-لكننا لم نتركك، ولن نتركك. هداك الله.
– ألمسكم، بيدى لأتأكد.
- هاك ما تريد… صافحنى.
مددت يدى يا ابراهيم وسلمت يدى عليه، لحما ودما مثلك تماما، سلمت على يده مثلما أسلم على يدك. من يومها وأنا فى حال من الطمأنينة والسكينة، مثلما ترانى.
- أين السكينة يا عبد السميع، إنه العمى.
- سمه ما شئت لكننى مرتاح.
- وأمعاؤك؟.
- إسأل الباطنى. هو الذى حولنى إليكم يا ابراهيم.
- لماذا لم تلجأ إلى الذى صافحك وهداك.
- لا أعرف.
- ألم يكن ذلك هو الطريق الأسهل، وربما الأسلم؟.
- لا أعرف. كل ما كسبته هو أننى لم أعد أحس بالحيرة أو بالألم.
- ميت بالسلامة.
- أكرهك يا إبراهيم حين أشعر أن إحساسى يعود إلى.
- جلدك يتجدد بمجرد أن يسيتقظ إحساسك فى لحظة إفاقة.
- لا تخدعنى وتسمى ما تفعلونه بى إفاقه، أنتم لا تعرفون معنى العذاب.
- العذاب داخلك وكل ما يجرى هنا يحركه. لا أحد يحقنك بعذاب من خارجك.
- تجرى هنا أشياء كثيرة منها الحلال والحرام، أين الخير فى كل هذا .
- تهرب من نفسك باستعمال لغة الحلال والحرام. أنت مسؤؤل عنهما معا.
- مسؤول عن الحرام، فكيف أكون مسؤؤلا عن الحلال.
- أنت مسؤول عن كل شئ.
- لن أرجع إلى البحث فالضياع والحيرة والوحدة . أنا أسعى لعلاج أمعائى، هذا كل ما فى الأمر.
- أمعاؤك جاءت بك إلى هنا أما استمرارك فهو محاولة سرية منك لمواصلة السعى إلى ذاتك.. إلى ذاته..
- إلى ذاتى؟. أم إلى “ذاته”؟.
- سوف تعرف بنفسك.
- طلبوا منى التزاما لم أستطعه، وحين حاولت الإستجابة له أحسست أنهم يتدخلون فى حريتى، بل فى نومى أيضا.
- فشل الطريق الآخر.
- لم يفشل. أنا الذى عجزت عن مواصلته، كيف أعيش وهم يراقبون حركاتى وسكناتى، ويقيدون فكرى، أصبحت مسيرا لا حول لى ولا قوة. ربما لهذا ثارت على أمعائى ثورة عنيفة حتى أعجزتنى عن مواصلة الحياة، هذا ما جاء بى إلى هنا.
-اختبأت فى جحر حرباء وتلفعت بأمعائك هربا من مواجهة ذاتك ومعايشة إحساسك
- ما فائدة الإحساس وهو الجحيم ذاته؟.
- الجحيم هو الضياع والعدم.
- أنهكنى المشى على الصراط ، لم أصل لشئ. وقفت فى منتصف الطريق، أغمضت عينى لأفيق على تقلصات أمعائى.
- وما زلت مغمضا. إلى متى؟.
- أتجنب النار التى تتحرك وأنت تقلبنى بكلامك وإثارتك.
- إن لم أوقدها أنا فستشتعل من داخلك فى أى وقت.
- دعنى فى حالى حتى تشتعل.. ساعتها يحلها حلال.
- أنت الحلال.
- أشعر أنى لو نجحت فى أن أكف عن المجئ هنا فلسوف أهنأ بما أنا فيه تماما.
- حاول..
- أشك فى قدرتى على التوقف بعد أن أثرتم فى كل ذلك.
- كنت وحدك تماما.. أما الآن فأمامك الفرصة ألا تكمله وحدك.
- لم أكن وحدى… كانت معى هنية.
- تركتك لسـيد آخر، يدفع ربع جنيه أكثر.
- لم تتركنى، هم الذين أخذوها قسرا.
- النتيجة أنها تركتك والسلام.
- ومن أدرانى أنك ،أنكم، لن تتركونى لمن يدفع أكثر.
- الضمان ينشأ من داخلك.
- لا ضمان إلا فى كتاب الله.
- لو عرفت ما به، واحترمت حقه عليك، لوجدت أنك أقرب إليك وإليه.
- خائف.
– وذليل.
- كفى يا إبراهيم.
- أنظر إلى وجهك فى المرآة.. ليس فيه ذرة إيمان.
- سوف أخاف أكثر لو آمنت بما تقول.
- هل يرضى ربك لمخلوقاته الذل والجبن؟.
- قلت لك لست ذليلا ولا جبانا.
- عبد السميع يا أشرم.
- نعم.
- أنت حر.
-لا أعرف معنى لهذه الكلمة.
-6-
لو أن الطبيب هو الذى قال لى ما قاله إبراهيم لشككت فى نواياه. لو أنه كان نقاشا عقليا مع كمال أو غالى أو ملكة لقلت ملحدين كفرة، أو على أقل تقدير خائفين ضالين. إبراهيم الطيب هزنى من جذورى، شدها فانخلعت من أرض الجان. ثم إنها لم تجد طريقا إلى أرض الإنس بعد. لا أستطيع أن أرجع إليهم بعد أن أفشيت السر فوقع المحظور، ولا أستطيع أن أواصل معكم لأنى لا أطمئن لأى منكم ولا لأى مخلوق. من أنتم يا إبراهيم وماذا تفعلون وإلى أين أنتم ذاهبون؟. هل تؤمنون أم تكفرون؟. أنا لا أعرف شيئا من كل ما يجرى أنت الذى أثرت الحكاية دون مناسبة، نكأت الجرح القديم. ماذا عندك تقدمه لى حتى أستطيع أن أعيش؟.
أقر واعترف أن الموضوع لم يعد موضوع أمعائى. هذا من فضلكم وهو هو مصيبتى. حسبت أن إخواننا من عالم النار سوف يوصلوننى إلى عالم النور، ولكن أمعائى ساقتنى إليكم ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذه ليست أول مرة أطرق باب الدين ثم أجد من يصدنى عنه من داخلى أو خارجى. اندفعت شوطا فى جماعة الحكم بما أنزل الله. كنت أؤمن أن من لا يفعلها فهو الظالم الفاسق الكافر وكنت أنتظر مرور الأيام حتى يشتد عودى فأقتل الظــلمة الكفرة الفسقة بلا تردد. ولما قامت الثورة ولوحت بالدين شعارا بين الشعارات فرحت فرحا شديدا ولم أكن قد تخطيت الصبا. تراجعت شخصيا قبل أن تتراجع الثورة، دهمتنى المراهقة بكل تساؤلاتها وعبئها وحيرتها. عشت السنين الطويلة أعانى وحدى ولا يخفف عنى إلا حضن هنية بين الحين والحين، كنت أتساءل وأنا أفكر – حين كنت قادرا على التفكير – عن حقيقة ما أنزل الله ليحكم به، وكنت أنظر إلى صديقى المسيحى الجالس بجوارى فى الفصل وأتساءل هل ما أنزل الله عليهم هو هو ما أنزل علينا؟. هل أفرض عليه رأيى أم أقنعه؟. وماذا لو لم يقتنع؟. وإذا وجدت فى دينى من القواعد ما يسمح لنا بالتعايش الطيب فى الدنيا فهل لابد أن يذهب هو إلى النار؟. وما ذنبه وقد ولد فى بيت على غير دينى؟. وماذا لو كنت أنا ابن أبويه؟. كان يرضينى أيامها أن أثق فى رحمة الله وعدله فأترك له التفاصيل. ظل نفس السؤال يلح على وكأنى مكلف برسم دستور تفصيلى للحكم بما أنزل الله. ثم تركت كل شئ وتركنى كل شئ. استسلمت لظاهر الأشياء والكلمات. أنت لا تعرف يا إبراهيم شيئا عن رعب معاناتى، لقد طردت من عالم الإنس ثم من عالم الجن دون جريرة. ماذا فعلت أنت يا إبراهيم لتحافظ على إيمانك هكذا وسط كل هذا. أدفع حياتى ثمنا رخيصا مقابل أن أعرف طبيعة إيمانك.
- هل أنت مؤمن يا إبراهيم.
- الحمد لله.
- ماذا تعنى؟.
- هذا شئ لا يتكلم عنه.
- أسرار تحبسها عن أمثالى؟.
- أبدا، … ولكنها أبسط من أن يتكلم فيها.
-أمامى أسئلة محددة تبحث عن إجابات محددة.
- أنت الذى وضعتها لنفسك حتى تنسى فيها مسئولية وجودك.
- أنا؟. هذه الأسئلة موضوعة قبل أن نخلق، ولابد أنك سألتها لنفسك.
- طبعا سألتها.
- وهل وجدت عنها الإجابة؟.
- وجدت أننى لا أستطيع إلا أن أكون مؤمنا.
- نعم؟. نعم؟.
- صدقنى يا عبد السميع – المسألة أبسط من كل ما تتصور.
- والمسيحيون والبوذيون والشيوعيون؟.
- فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فيهم وفيهم..
- يذهبون إلى النار؟.
- من لا يؤمن فهو فى النار. لا يحتاج الأمر أن ينتظر حتى يذهب إليها..
- … لا أفهمك.
- ولن تفهمنى. المصيبة الكبرى أنك لو فهمتنى لما حدث إلا تكرار لمأساة سابقة، كف عن تلقى تعليماتك من الخارج، لم تنفعك جماعة البشر، ولا تعليمات من تحت الأرض، ولا التزامات من الجان، فإياك أن تتلقى منى شيئا.
- تـرجعنى إلى ما هربت منه.
- إلى نفسك.
………….
* * *
منذ حدث ما حدث وأنا لا أنام. كيف حدث ما حدث.
عقب تعليق بسمة بعد توجيه السؤال من إبراهيم، انفجرت كالبركان فى ثورة هائلة، كانت بسمة فى ثورة غضب ساخط، التفتت إلى فجأة وصاحت.
- فعلا ذليل أعمى وجبان، لا تريد أن ترى أو تحس، أنت تجعلنى أشمئز أنى من مثل جنسك.
هكذا يا بسمة؟. حتى أنت يا بسمة؟. أنت الصغيرة الرقيقة الجميلة؟. أنتم لا تعلمون شيئا ولسوف ترون ياأغبياء من الذى يحس. أنا أحبس إحساسى وراء أسمك الجدران حتى لا أقتلكم، هاكم أنا.
………….
مطروح على الأرض، يمسك بأطرافى خمسة منهم إبراهيم وبسمة. أنظر حوالى أشاهد آثار ثورة الإحساس، لمحت صورتين كانتا على الحائط وقد تحطمتا تماما، كراسى مقلوبة، قميصى ممزق وجسمى كله يتصبب عرقا.
ماذا حدث؟. كنت ومازلت فى كامل وعيى، هذا البركان الذى ثار كان نائما فى قمقم الخوف والتسليم. كنت محقا حين تحكمت فيه بكل ما أوتيت من قدرة على الهرب والتأجيل . كيف كنت أجرؤ أن أسمح بهذا وأنا وحدى. هذا هو إحساسي: فج كما خلقه الله، فماذا تريدون؟. أنتم تسمحون لإحساسكم بالتجول لأنه ليس بداخلكم هذا العملاق. أنتم لستم مضطرين أن تحبسوه فى قمقم. ليس عندكم مثله. هل عرفتم لماذا كنت بعيدا متهما باللامبالاة ؟.
الآن؟. كيف أدخله ثانية إلى القمقم؟. ها هو ذا أمامكم لا يقدر عليه أربعة رجال أشداء وطفلة، أنت يا بسمة السبب ولعلك الآن تقدرين لماذا كنت جبانا وذليلا وأعمى. عندك حق، وأنا أيضا عندى حق. لو أطلقته يا بسمة لحطمت العالم وحطمت نفسى، لو أحسست لسلمت على النساء بمصافحة اثدائهن مباشرة، لو أحسست فسوف أقتل بلا رحمة.
- هذا أنا فماذا تريدون..؟.
- لا.. ليس أنت، هذا نصفك السجين وقد انطلق بعد طول نسيان وهوان.
- هذا هو إحساسى الذى تطلبونه.
- هذا انفجار وليس إحساسا.
- لا أعرف غيره.
- هذا جنون يا عبد السميع.
- إحساسى هو الجنون يا أخى. ماذا تريدون ؟. إحساس على مقاسكم، لم يعجبكم عقلى وحكمتى ودينى، ولا يعجبكم الآن إحساسى، تسمون العقل بلادة وتسمون الإحساس جنونا، ماذا تريدون ؟.
- أنت تتفجر لتخيفنا حتى نبتعد كى تبرر هربك القادم وموتك الجديد.
- .. أنا أتفجر،.. أموت.أذهب فى ستين مصيبة. ماذا تفعلون أنتم؟.
- لا تمهد لإلغاء إحساسك من جديد هربا من انفجار أنت مسؤول عنه.
- ليس عندى إلا هذا، تقبلوه أو تتركونى فى حالى.
- تفرض علينا أحد نصفيك.
- نصف، ثلث، ربع. لا شأن لى بشئ، عليكم أن تختاروا، ليس عندى شئ آخر..
- أنت الذى تختار.
- لا أستطيع، لم أستطع، لن أستطيع، لملمونى ثانية حتى أنصرف فى أمان.
-7-
جننتُ والحمد لله، هذا هو آخر المطاف يا عبد السميع، حضرت أشكو من أمعائى فشككونى أولا، ثم جننونى أخيرا. نهايتى السراى الصفراء مثل عمى وابن عمتى، رأيت خيالاتهم فى حلم أمس، عمى يفتح ذراعيه لاستقبالى فى مدينة مسحورة تحت الأرض، صنعت بيوتها من إفرازات البشر، وابن عمتى يزفـنى زفة العوالم برق كبير مصنوع من جلد إنسان يجيد الإحساس. عريس بلا عروس. ذهبت إلى الطبيب أتخلص من ألم أمعائى حتى أتزوج، وهأنذا أتزوج الجنون وأزف بلا عروس فى مدينة الفضلات والفن. هل هذا هو العلاج الحديث يا سيدى يا صاحب صولجان العلم ولابس عباءة الطب؟. هل هذا هو الإيمان الذى تدعوننى إليه يا إبراهيم؟. هل هذه هى نهاية المطاف؟.
- لا… ليست نهايته بل بدايته يا عبد السميع.
- أنت يا إبراهيم مسؤول عن كل ماحدث من صاحبك هذا الغشاش مدعى الطب.
- وأنت؟.
- سلمتكم نفسى يا إبراهيم، وسأنتهى مثل عمى وإبن عمتى.
- تنتهى حيث تريد.
- يا أخى كفى سخفا، أريد!!..أريد!!..أريد!!.. أنا لا أستطيع أن أريد أصلا.
- هذه بداية الطريق إلى الله.. إن شئت.
- كفى سخرية يا إبراهيم وخداعا. إياك أن تخلط فى الكلام.
- إسمع يا عبد السميع، صدقنى، هذه فرصتك. أقاربك الذين جنوا بدأوا ولم يحاولوا، توقفوا بعد أول خطوة.
- ما الفرق بينى وبينهم، الوراثة هى هى، وخيبة الأمل أكبر.
-الفرق أن ما حدث حدث بإرادتك وفى وسطنا وفى كامل وعيك.
- إرادتى؟. مازلت تقول إرادتى؟.
- مجيئك هنا وإصرارك، هو الذى أحدث كل ذلك، مجيئك وانتظامك هما إرادتك.
- إرادتى.. أن أجن؟. طول عمرى أخاف من جنون أهلى.
- لم يعد اسمه كذلك، أنت تستطيع أن تعملها الآن بكامل وعيك.
- أعمل ماذا؟.
- تستمر.
- الى أين؟. وكيف؟.
- ألم تعرف بعد أنه لا أحد يجيب على مثل هذه الأسئلة؟.
- أنا ممزق تماما.
- ليس تماما، فمازلت تحضر وتبحث وتحاول.
- أنا لا أبحث ولا أحاول فلا تخدع نفسك لتعفيها من مسؤلية ما فعلت بى.
- لن تستطيع أن تخدع نفسك ثانية يا عبد السميع.
- أستطيع.. لا أستطيع… ماذا أستطيع؟. لم أعد أعرف.
-… أن تعيش… وتؤمن.
-إياك أن تأتى بهذه السيرة من جديد.أنا مجنون فاحذرنى. قد أقتلك فى أى لحظة.
- هذه فرصتك فاغتنمها.
- سمه أى شئ آخر إلا الإيمان.
- سمه أنت ما تشاء.
- ماذا تريد منى ؟.
- مالك يا عبد السميع – اسأل نفسك ماذا تريد من نفسك ولنفسك ؟.
- أريد…، أريد أن أموت يا أخى.
- معك حق.
- نعم؟. نعم؟.
- إذا لم يستطع الإنسان أن يعيش، فليمت . هذا أفضل من الكذب والعمى.
- تشجعنى على الانتحار؟.
- ليس تشجيعا ولا تثبيطا . هى مسئوليتك، وهذا هو أنت.
- إسمع.. إما أن أنتحر أو أقتلك. أنت السبب فى كل شئ.
- أحمد الله أنى ساهمت فى عمل الخير.
- تحطمونى.. وتشمتون بى.. ثم تسمون الانتحار عمل الخير.
- أعنى بالانتحار موت الهرب القديم .
- إذا مات القديم فماذا يتبقى…
- تبدأ من جديد .
- شبعت بدايات .
-8-
طريق صعب قاس رائع مرعب. يصر إبراهيم أن أعملها وحدى، لماذا؟. يقول أن هذا هو السبيل الوحيد لتجنب الشرك. ماذا لو ذهبت إلى شيخى القديم؟. هل يقتلنى أم يلفظنى؟. سوف أذهب ولو لأطلب منه العفو.
- جئت يا سيدنا أطلب المغفرة، لقد بحت بالسر، وهأنذا أدفع الثمن .
- يغفر الله لنا ولك يا بنى.
- ماذا أفعل الآن؟.
- الله يهدى من يشاء .
- ولكنهم يقولون أن من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
- الله يهدى من يشاء أن يهتدى يا بنى .
- تحملنى أنت أيضا مسئولية ماكان.
- الإنسان حمل الأمانة من قديم ولابد أن يكمل حمل مسئوليتها إلى النهاية.
- أغلقت كل الأبواب فى وجهى.
- الله غفور رحيم، والقنوط من رحمته ألعن من الكفر به.
– هل تسمح لى أن أحضر الجلسات مع الإخوان، أستغفر وأتوب.
- الخير فى كل مكان.
- كيف حال الإخوان.
- يسلمون عليك.
- ألا فائدة من العودة؟.
- لا تكف عن السعى إليه.
- والطريق؟.
- الطرق مختلفة والغاية واحدة .
- عميت عن كل الغايات يا سيدنا.
- لا غاية إلا وجهه.
- أين وجهه؟.
- أينما تولوا فثم وجه الله.
- أين هو؟.
- الخير فى كل مكان.
- فقدت كل شئ، وأفكر فى الانتحار.
- هذا هو الكفر بعينه، وهو جبن لا إصلاح لعواقبه.
- أصبح الموت تحصيل حاصل، مات كل شئ فى، ولم يبق إلا جسد متحجر.
- حافظ عليه، فقد يشملك الله برحمته فى أى وقت. يحيى العظام وهى رميم.
- تتكلم مثل إبراهيم الطيب .
- إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، عليك بالنظر فى نفسك.
- .. كيف أنظر فى نفسى وأنا أبتغى وجهه كما علمتنا.
- هو أقرب إليك من حبل الوريد.
- أنا قادم من عند طبيب، لم يخبرنى أين حبل الوريد.
- سوف تجده بنفسك.
- حتى هذا أيضا.! بنفسى.
- من عرف نفسه فقد عرف الله.
كأنه هو، الحلقة تضيق ولا مفر من الاستمرار. كتب عليكم العلاج وهو كره لكم…
ليكن.
ولتصدق نبوءتك يا إبراهيم، هذا هو ما انتظرته من سنين إما الجنون وإما الولادة، إما الموت وإما الحياة. أغلقت كل الأبواب وكتب على أن أرفض الحل الرمادى الوسط.
-9-
شهور طويلة مضت وأنا أعاند الهزيمة. أتلمس أرض الواقع محافظا على كل ذرة من عنف الإحساس وألم الرؤية. شهور طويلة وأنا أرقص فيها على حبل مثل شعرة الصلب ممتد ما بين موت حواسى، وأملى فى الحقيقة فى أبسط صورها وأروعها. الحبل مشدود فوق واد من نار الرؤية العارية، يجعل الرعب يتملكنى كل لحظة.
- هو أقرب فعلا يا إبراهيم من أى شئ.
- أخيرا!!
- بل أولا.
ليس سرا، ولكنه أقدس من السر، بساطته تستهوى البسطاء، وعمقه بلا وسيله قد يؤدى إلى الهاوية. ليس لى أن أقول. ليجاهد كل من يريده حتى يصل إليه بنفسه، وإلا تعرض لخطر التبعية البلهاء كما فعلت ردحا من الزمن، ولكن كيف أحبسه فيبدو وكأنه أمر غامض ضخم مع أنه أرق من نسيم السحر، وأوضح من نور الشمس.
أزور إبراهيم وزوجته نجوى بين الحين والحين ونتبادل كلمات قليلة نتفاهم فى صمت أصدق، أوصيته وزوجته أن يبحثا لى عن زوجة طيـبة .
- كم أخاف عليك يا عبد السميع.
- آن الأوان أن أنصحك أنا، لا ينبغى أن تخاف إلا من العمى والضلال، وقد فات أوانهما.
- هب أنها لم تكن كما تريد .
- الله يفعل ما يريد.. وأنا وسليته على الأرض؟.
- ماذا ستعمل معها يا عبد السميع لو كانت ليست هى ،،؟.
- مثلما فعلت أنت معى يا إبراهيم. أرد لك الجميل فيها.
- كم هو صعب.
- أنت تقول هذا وأنت سيد العارفين؟.
- فى الزواج .. يختلف الأمر.
- وماذا فعلت أنت ونجوى؟.
- نحاول باستمرار.
-… لن يثنينى شئ عن الحياة .
- كتبت علينا الحياة ما دمنا أحياء.
- أعلم ذلك… وسأصنعها.
- لا أشك فى ذلك. صنعت ما هو أصعب.
- الأصعب أسهل.
- تكاد تسبقنى.
- العين لا تعلو عن الحاجب.
- من العين ومن الحاجب؟. ألم تتب .
-…أنا أختبرك.
- وهل نجحت؟.
- أنت أدرى.
-يا ترى يا بن الأشرم!!!…
- يا ترى يا ابن الطيب.
الفصل الثامن
بسمة قنديل
-1-
– ماله يا ابنتى؟. عريس لقطة.
- لا اعتراض لى عليه ولكنى لا أريد “هذا”.
- هذا..ماذا؟. أريد أن أطمئن عليك قبل أن أموت. أنا صاحبة مرض، وأنت تعلمين.
- إطمئنى يا أمى، أنا أعرف طريقى.
- ما هذا الكلام يا ابنتى؟. أنت بنت متى؟. أنت لا تعجبينى هذه الأيام. كأنك تحملين هم الدنيا على رأسك يا روح قلب أمك.
- مادام فى الدنيا هم ياأمى، فلا بد أن يحمله أحد.
- ماذا تقولين يا ابنتى، خل الهم لأصحابه، أنت شابه، وأمامك العمر كله.
- وأنت يا أمى؟.
- أنا انتهيت والحمد لله.
- انتهيت من ماذا؟.
- من واجبى نحوكم. أريد أن أطمئن عليك، بسمتى آخر العنقود، ثم يتذكرنى الذى لا ينسى .
- كلامك يقطر مرارة .
- استغفر الله ماذا بك يا ابنتى؟.
- عاجزة عن مساعدتك.
- نعم؟. نعم؟. من الذى يساعد من؟. الله يسامحك، أنت بسمتى يا حبيبتى.
- أنا بسمتك، وأنت شقائى.
- اللهم اخزك يا شيطان، ماذا تقولين؟. كل هذا حتى لا تقبلى ذلك الشاب اللقطة.
- وأنت؟… لقد تزوجت زين الرجال.
- الحمد لله…. ربنا يطول عمره، ماذا جرى لك؟. هل يصل الأمر إلى لمز أبيك؟. لا… لست أنت بسمة.
- أنا آسفة، ولكنى لن أقبل هذا أبدا.
- هذا ماذا؟. ماله يا ابنتى؟. شاب مستور، أعرف عمته منذ كنا فى مدرسة المعلمات معا، وهو من عائلة فاضلة تعرف الأصول.
- أتركينى الآن يا أمى .. الله يخليك.
- سبحان الله… أنت حرة. سوف تندمين.
وأنت يا أمى ألا تندمين؟. أنا أشبهك وأخاف منك. أخاف أن ينتهى أمرى إلى ما أنت فيه الآن، لم أرك فى حياتى تشعرين بشئ لك. لك أنت. أنت لا تقولين قولا من داخلك أبدا. شقاؤك يتحرك فى كل مكان، يوهمك ويوهمنا أن الحياة تسير، يارب ماذا أفعل لها، يارب لم جعلتنى أرى الآن هكذا،… كان مجرد حديث عابر بينها وبين أختى المتزوجة. أمى هذه لم تسعد أبدا. كتلة من الشقاء تتحرك. ترشو أبى بالمديح والتأليه والطاعة طول النهار حتى يعفيها من متطلباته ليلا. وجهها مازال ينبض بالحياة بالرغم من كل شئ. وراء كل تجعيدة أخدود من الألم والحسرة. شعرها ناصع البياض يذكرها بالنهاية، ولكن مشيتها الريفية تمضى فى قفز مستمر تتحداه.
لماذ لم تستسلم بعد؟. لماذا تصر بالرغم من مقاومتها أن أكرر نفس مأساتها؟. هل تريد أن تطمئن على أنه ليس هناك حل آخر؟. إننى أعتقد أنها تعى تماما بؤسها وشقاءها فلماذا تصدره إلى أعز الناس إليها على حد قولها. لماذ تصدر ما فشلت فيه…؟. كل تصرفاتها وطريقة انتقائها تؤكد الفشل.، سمعتك يا أمى وأنت تقولين لأختى فى صدق حكيم بائس إن المرأة هى الأولاد والبيت وراحة الزوج، وأن على أختى أن تقفل أذنيها ومشاعرها عما عدا ذلك. هل وظيفتك يا أمى بعد طول هذا الكفاح أن توزعين اليأس بالتساوى؟. ياليتك قلت هذا الكلام وأنت تلبسين قناع البلادة والاستسلام مثل خالتى أم حسين أو جارتنا الست جليلة أو حتى مذيعات التليفزيون. أنت غيرهم. أنت دائمة الحركة دائمة الحديث دائمة الشجار عظمية الشقاء. ثم تصرين على تكرار المسرحية بنفس فصولها. ترى هل يداعبك أمل ما… لا أعرفه…؟.
- هل هناك أى أمل يا أمى؟.
- فى ماذا يا ابنتى..؟. الله يهديك، مازال العريس يرسل المراسيل .
- لا يشغلك إلا عريس الغفلة، أنت لست معى يا أمى أصلا.
- بل أنا معك ولا يشغلنى إلا هناؤك. فكرى وهو مستعد لكل طلباتك.
- أفكر طول الوقت، ولكن فى شئ آخر.
- خير، هل هناك غيره يشغلك؟.
– نعم .
- ليس لى إلا راحتك، كلمينى عنه، من هو يا ابنتى؟.
- أنت. أنت يا أمى.
- أنا؟. كفى الله الشر.
- أفكر فى إسعادك طول الوقت.
- ماذا جرى لعقلك يا حبيبتى، أنا سعيدة والحمد لله .
- تكذبين على كل الناس. ولكنك لن تكذبى على .
- ماذا تقولين يا بسمه..؟.
- أحمل همك أكثر مما تحملين همى .
- إذا كنت حقيقة تحملين همى فلماذا رفضت العريس؟.
- لأنى أحمل همك .
- تضحين بمستقبلك من أجلى وتظنين أن هذا يسعدنى، لابد أنه قد جرى لعقلك شئ.
- أمى.
- روح قلبى .
- لن أكرر مأساتك ولو أموت.
- مأساتي!!. عن ماذا تتحدثين؟.
- عن شقائك، عن نسيانك لنفسك .
- منـك لله. أفسدتك كثرة القراءة.
- لا تنسى أنى ابنتك، وأنى أعرف ماذا أريد، وماذا تريدين؟.
-… وبعد؟… ماذا بعد؟. إلى أين أنت ذاهبة بى؟. بنا؟.
- لا تخفى الدموع التى تطل من عينيك، فأنت لم تفلحى أن تتبلد مشاعرك أبدا.
- بسمة.. أتركينى فى حالي: لا فائدة .
- وهذا ما يقطع قلبى.
- عن إذنك.. والدك ينادى.
* * *
كل شئ يهون إلا أن أرى أمى هكذا.
* * *
-2-
ذهبت إليه بعد أن سمعت من أختى عنه، كان أستاذها وتقول إنه يفهم ويحس، رحت أستشيره فى مشكلة أمى ولكنه كان غبيا وقحا وقاسيا. لو أنه اكتفى بأن قال لا فائدة مثلما قالتها أمى، لقلت طبيب عاجز وانتهى الأمر. قلبها على رأسى وقال إنى لا أهتم بها اهتماما حقيقيا وإنما أهتم بنفسى. ليكن. ماذا يضيرنى لو اهتم بنفسى؟. ثم لوح لى بأنى أنا التى ينبغى أن أعالج. لم يقلها صريحة ولكنه ألقى بطعم الأمل بشكل ما.. مهما يكن من أمر، فأنا أمامى الدنيا واسعة والعمر طويل، المهم ان تذوق هى طعم الحياة قبل أن ترحل بكل هذا الشقاء وهذا الألم الطاحن.
- مالك يا ابنتى كفى الله الشر؟.
- أفكر فيك ليل نهار.
- . . ثانية ؟. هذا ما لا يمكن أن يستمر، لا بد أن بك شيئا هذه الأيام، ماذا جد على حتى تنصبى هذا المبكى ليل نهار. كلما سألتك عن أحوالك، قلت أفكر فيك،أفكر فيك، ماذا بك يا ابنتى يا حبيبتى؟.
- أنا ليس بى شئ، ولكنه بك أنت.
- أستغفر الله العظيم. لا. لا لا ، لقد أفرطت يا ابنتى، هذا أمر لايمكن السكوت عليه، لعلها مصيبة من المصائب الموضة التى يقرفوننا بها هذه الأيام فى التليفزيون.
- أى مصيبة يا أمى..؟. هل عيب أن أنشغل بك؟.
- لولا الملام لذهبت بك إلى طبيب نفسانى؟.
- لا ملام ولا يحزنون يا أمى.. لقد ذهبت إلى واحد فعلا .
- يا حسرة قلبى، لقد كنت أمزح، لماذا ذهبت؟.
- ذهبت من أجلك.
- نعم؟. نعم؟. تفضحيننى بتخريفك أمام الغرباء، هل شكوت لك من شئ.
- لا…. لم تشتك وهذه هى المصيبة.. كل ما قلته له أنك لا تشتكين من شئ.
- عقلى سيطير بحق. ذهبت تقولين للطبيب أن أمى لا تشتكى من شئ، لا حول الله يا ربى.
- .. هذا ما حدث .
- سبحان الله يا بسمه..سبحان الله . وماذا قال لك؟.
- قال.. وانت مالك.
- عين العقل.
- ولكنه أضاف أنها مشكلتى أنا، وأنه على أن أتغير جوهريا لأتجنب مصيرك.
- مصيرى؟. ماله مصيرى الله يسامحك ويسامحه.
- هذه ليست حياة يا أمى.
- وكيف تكون الحياة إذن يا ست بسمة…؟.
- شئ آخر، أكاد أكون متأكدة أنك تعرفينه.
- أنا؟. لماذا تتكلمين بلسانى، وتحسين بجلدى، وتتألمين بمشاعرى، أكاد أصدق الطبيب أنك لا بد أن تنتبهى لما أصابك أنت فجعلك بكل هذا البؤس فى هذه السن.
- كلما نظرت فى نفسى رأيتك أتعس.
- وما ذنبى أنا، تحشريننى بين عظمك وجلدك وتنعين حياتى قبل الهنا بسنة؟.
- أين الهناء الذى تتكلمين عنه؟.
- الهناء فى الرضا والحمد لله.
- أنت غير راضية .
- أستغفر الله العظيم ، هل ينقصنا هذا الهم الذى تطحنينه ليل نهار؟.
- إن المصيبة أنه لا ينقصنا، ونحن لا نريد أن نواجهه.
- كيف نواجهه يا ابنتى؟. أنت صغيرة على هذا الكلام الكبير يا حبة عينى.
- لم أسمعك مرة تتحدثين مع أبى كما يتحدث الناس.
- ماذا تقولين؟. إذن كيف أتحدث معه؟.
- لم أسمعك مرة تقولين له.. كيف حالك مثلا.
- ماهذا الذى تقولينه؟. أنا ليس لى فى الدنيا إلا حاله.
- لم تقوليها مرة واحدة من قلبك.
- قلبى؟. إيش عرفك أنت بقلبى؟. إسمعى لا تدخلى أباك فى الأمر، أنا ليس لى فى هذه الدنيا إلا العمل على راحته ليل نهار.
- ولكنه لم يرتح وأنت خير من تعلمين ذلك.
- أنا عملت ما على، وهذا طبعه، ولا توجد امرأة فى الدنيا تستطيع أن تعمل مثلما عملت أو تضحى مثلما ضحيت.
- هذا هو.
- ما هذا الذى هو يا بسمه. برج من مخى سوف يطير.
- أنا برج من مخى قد طار فعلا.
- اسم الله عليكى وعلى حواليكى ، ماذا جرى؟.
- وياليته طار واختفى وأراحنى، إلا أنه وقف على رأسى يضيف تعليقا ساخرا. على كل مايدور حولى .
- لا.. لا .. لا.. فى الأمر شئ خطير، أنا لا أفهم ما تقولينه ولكنه خطير.
– أسمع تعليقه أحيانا وكأنه ينبع من داخل الآخرين، يبدو كأن هذا البرج الذى طار من مخى له أبراج صديقة تشبهه، عندك مثلا وعند أبى،… وعند كل الناس، وهو يستطيع أن يفهم لغتهم، وربما يحدثهم مباشرة من ورائى.
- ما هذا كله؟… ما هذا كله؟. يا رب لطفك.
- استيقظت على شجارك مع أبى قبيل الفجر ذات صباح. وشعرت فجأة بما أحكيه لك الآن.
- لا تلصقيها بنا، نحن لا نتشاجر أبدا، كان تفاهما بصوت عال.
- سـمه ما تشائين. من يومها وهذا البرج الذى طار استقل وراح يمارس هواية الترجمة الفورية لما تقوله أبراجكم.
- أبراجنا؟.. ماذا تقول أبراجنا؟. هل لنا أبراج دون أن ندرى؟. ماذا تقول أبراجنا؟.
- أخشى أن أقلب كيانك إذا قلت لك.
- لقد قلبته والذى كان قد كان.
- أسمع “برجك” يقول شيئا آخر غير ما تقولينه لأبى.
- شيئا آخر؟. ماذا يقول “برجي” من ورائى يا ست بسمة؟.
- تصرين على أن تعرفى.
- ماذا فى هذا؟. طبعا أحب أن أعرف ما يدور… الله!!
- أخشى أن تختل الأمور.. لو عرفت.
- قولى لى، وما يحدث يحدث.
- دعينى وشأنى، اعتبرى كل ذلك مداعبة ، كنت أضحك معك.
- لا يا شيخة !!.. حدثينى الله يهديك.
- هل تتحملين ولا تغضبين ؟.
- طبعا. أريد أن أعرف.
- إذا قلت لأبى، “ربنا يخليك”، سمعت برجك يقول “حتى أتشفى بانتقام الأولاد منك جزاء ما فعلته بي”.
- يا نهار أسود.
- وإذا قلت له “أنت سيد العارفين” سمعت برجك يقول “يا جاهل يا غبى”.
- أهذه آخر تربيتى فيك…؟.
- وإذا قلت “أنا تحت أمرك” سمعت برجك يقول “حتى أضمن سجنك فى خدماتى وتضحياتى”.
- كفى كفى كفى يا بسمة، سلامتك يا ابنتى ألف سلامة، لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، اسم النبى حارسك وضامنك.. لابد أن تذهبى إلى الطبيب فورا.
- ولكنى لا أشكو من شئ يا أمى، كل ما فى الأمر أنى رأيت شقاءك رأى العين.
- شقائى، مالك أنت وشقائى؟. لقد حدث لعقلك شئ والذى كان قد كان.. استغفر الله العظيم.. إرحم يا من ترحم، لابد من الطبيب ، لا بد من طبيب.
- قلت لك أنى ذهبت، ولكن من أجلك أنت.. وقد قال لى “إنه لا شأن لك بها، أنت التى تحتاجين للمساعدة”.
- هذا هو؟. هذا طبيب ناصح، وعرف أنك أنت التى تخرفين.
- أنا يا أمى يا حبيبتى؟.
- حبيبة ماذا ونيلة ماذا.. حاسبى على نفسك ولا تستمرى هكذا، بعيد الشر عنك ألف مرة.
- الشر ليس بعيدا يا أمى، الشر فى داخلنا يطحننا، الشر هو الجبن والنفاق، أنا لم أخلقه من عندى، أنا أعلنته ليس إلا.
- الله يسامحك، كان الله فى عونك. لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
- كان الله فى عونى أنا؟.
- من أين يارب أرسلت لنا كل هذا البلاء؟.
- ….
- خير يا بسمة لماذا سكت؟.
- …
- بسمة يا ابنتى فيم سرحت..؟.
- آسفة يا أمى آسفة، كنت أمزح وزدت فيها حبتين. أرجو أن تنسى كل ما كان، هل هذا معقول أن أعرف شيئا من داخل أى بشر، كانت لعبة أثيرك بها وطالت منى بالرغم عنى. آسفة يا أمى آسفة.. سأذهب من فورى.
-3-
ما هذا الذى فعلت؟. ما الذى دفع بسيل الألفاظ يجرف كل ما يقابله حتى تصدعت القوائم واختل الأساس. قلبت كيانها رأسا على عقب ولم تنفع كل تراجعاتى واعتذاراتي!! ماذا أفعل لك يا حبيبتى يا أمى؟.، لم أستطع أن أحتمل رؤية شقائك. وإذا بى أصبح سببا فى إذكاء نار جحيمك. لسانك يقطر مرارة وأنت تقولين لأختى أنك لا تعرفين المتعة أصلا، ولا مرة واحدة. كنت تنصحينها أن تكون مثلك حتى تعيش وتتستر. هأنذا أنصحك ألا تكونى مثلها. أنت مازلت أكثر حياة وإحساسا منها. أنا جئت أكحلها أعميتها. أنا مجرمة ولن أغفر لنفسى ما حييت. قال لى الطبيب لا فائدة، وقد قلتها أنت مرارا قبل ذلك، فما فائدة كل هذه الحمم التى ألقيتها عليك وكأنى كنت أنتقم من استسلامك وسلبيتى. لن يتكرر ما حدث ما حيت، سوف أعيش أكفر عنه بقية عمرى، يا رب.. كيف أمحو ما قلته لها، كيف أرضيها، كيف أجعلها تنسى. هل أتمادى فى تصنع الخبل حتى تطمئن أن ما قلته لا يعدوا أن يكون تخريفا عابرا، ولكنها أذكى من أن تصدقنى،و ليس أمامى إلا إعلان الهزيمة واتقان دورى المفروض فى هدوء وصبر حتى أقتل “الآخر” فيها وفى، فلأقبل عريس الغفلة، هذه قسمتى وقسمتها، إذا كنت لا أستطيع أن أرفع عنها الظلم، فلأشاركها فيه، ولتسقط كل محاولات الحياة.
- أنا موافقة يا أمى.
- على ماذا يا ابنتى؟.
– على الخطيب، ابن أخى صديقتك.
- أبدا، لن يكون ما دمت حية.
- ماذا جرى لك يا أمى؟. كنت تلحين على ليل نهار.
- غيرت رأيى.
- ماذا جرى يا أمى؟. أنا أطلب رضاك وأعلم أن هذا يسعدك.
- لم يعد يسعدنى.
- ماذا جرى؟. بالله عليك؟.
- تعالـجين أولا.
- أعالج من ماذا؟. لقد كنت أمزح وانتهى الأمر.
- حتى ولو كان حلما وليس مزاحا، فلن أتعسك بيدى، لا يمكن أن يحدث هذا ما دمت حية.
- تتعسيننى؟. تقولين إنه من أحسن الشباب.
- كان زمان.
- ماذا جرى له فى يومين، لقد كنت تعددين ميزاته أول أمس.
- أول أمس أصبح “زمانا” الآن. ونحن أبناء هذه اللحظة.
- تتقلب الأمور هذه الأيام بسرعة، حتى معك يا أمى.
- أدفع عمرى وتعالجين يا ابنتى.
- أعالج من ماذا بالله عليك؟.
- لست أدرى.
- تحسبيننى مجنونة؟.
- أبدا والله.. خطر هذا الخاطر على عقلى فترة ولكنى تأكدت بعدها من صدق رؤيتك.
-….. إذن مم أعالج؟. من صدق الرؤية؟. ثم إنى أكرر لك أنى كنت أمزح..
- ليس لدى ماأقوله إلا أن الطبيب أشار عليك بهذا، وهو عين العقل.
- عين العقل.. أن أعترف أنه ليس عندى عقل؟.
- بصراحة يا بسمة، لقد أيقظت فى أملا لم أستطع أن أحققه. فلتحققيه أنت،.. أنا أحس أن هذا الطبيب يعرف الطريق. هذا كل ما هنالك.
- وأنت يا أمى؟.
- إسألى طبيبك.
- ليس طبيبى بعد. أنا لم أقرر الذهاب.
- أسأليه حين تذهبين، ولسوف تفعلين من أجل خاطرى، وإن أشار عليك أن أذهب فلسوف أذهب دون تردد.
- لقد قال إنه لا فائدة.
- لا فائدة من حالتى أنا؟. هو طبيب ماهر ما فى ذلك شك. خذى فرصتك إذن.
- أنا مالى؟. مالى أنا؟.
- … أنت تعرفين كل شئ.
- أخشى يا أمى أن يصحو فى نفسى أمل يشقينى، ويشقيك أكثر.
- لقد صحا والذى كان قد كان. فإما أن تحققيه وإما أن تقتليه. الطبيب سوف يساعدك فى كل حال.
- ومن أدراك؟.
- إحساسى وكلامك عنه.. يبدو أنه يعرف الطريق.
- المهم أن أعرف أنا الطريق.
-4-
أعالج؟. أعالج من ماذا؟. من رؤية الحقيقة؟. من إحياء الأمل؟. لو كنت أسمع أصواتا أو أرى خيالات. لو كنت أهذى أو أهيم على وجهى. كل ما هنالك أنى رأيت، ثم قلت ما رأيت وإذا بكيانها ينقلب بلا رحمة. ها هى ذى تتراجع حتى عن الخطوبة ذاتها، كانت خطوبتى هى سعادتها وسترى هو غاية أمانيها، ثم ها هو ذا علاجى يصبح أولى مطالبها. هل حالتى خطيرة إلى هذا الحد؟. أو أنها صدقت حقيقة رؤيتى؟. هل تريد أن أحقق ما عجزت هى عن تحقيقه كما تقول فيكون فى سعادتى سعادتها؟.
مهما يكن من أمر فقد تورطت بالحديث معها، وتورطت أكثر بالذهاب إلى هذا الطبيب، لم أقاوم كثيرا وادعيت أنى أذهب إرضاء لها.
إننى أفهم أن تكون مهمة الطبيب أن يستأصل الزوائد المرضية، أن يخفف من حدة الآلام. هذا الرجل يزيد ما أصابنى من تضخم فى الرؤية، يريدنى أن أرى أكثر ويتركنى أتألم بلا رحمة. ثم أخيرا هو يحملنى مسئوليتها. هذا إجرام متستر.. مع سبق الإصرار. الحزن يلفنى من كل جانب، عمرى ألف عام، لم أعد أستطيع مزيدا من التعرى، أحس أنه لم يبق فى كيانى خلية لم يفتضح أمرها، بل إن كيان الآخرين أصبح لدى صفحة مفتوحة، كنت أحسب أن المصيبة مقصورة على أمى وأبى وأختى وزوجها ولكن يبدو أنها مصيبة عامة. أصبح الكذب والنفاق هو الأصل، ما هذا الذى يجرى بين غالى وملكة طول الوقت، أسمع النقاش المضحك بينهما، وبرج عقلى الطائر يسمع حقيقة ما وراءه واضحا لا لبس فيه ولا غموض، يتكلمان عن الاشتراكية وطحن الإنسان المصرى. برج عقلى الطائر يسمع أشياء أخرى؟. مرضى طريف يمارس الترجمة الفورية بشكل ساخر. يعرى كل الناس دون استئذان. يسمع الحوار “الآخر” بين أبراج عقول البشر. غالى وزوجته يتبادلان الحب فيترجم حوارهما برج عقلى فوريا:
– كم أكرهك يا غالي.
- من القلب للقلب رسول، يا ملكة يا آكلة لحوم البشر.
- لن أتركك تتمتع بحريتك إلا على جثتى.
- وأنا سأستغلك حتى الثماله.
- أنا التى أمتص وجودك وأسجنك فى آرائك التى حسبت أنك تفرضها على.
- وأنا ألهيك فى مشاكل لا تخصك حتى أستمر فى العيش على حسابك.
- تضحك على نفسك وأنت مستسلم تماما.
- شكلك كالبومة يا بنت الكلب.
- لن تتخلص منى حتى أزهق وحك].
ومع ذلك أصر أنى لم أجن. هى ليست أصواتا أسمعها. هى رؤية كاملة. أسمع أصواتهم الحقيقية كأنها تتحاور وأنا أرى هذه الصورة الأخرى وراء نقيق الضفادع الذى يتبادلونه. أصبحت قراءة القسمات والخلجات هواية مرعبة. نظرات فردوس الطبلاوى تهتف بى كل مرة أن أكف عن المجئ. امرأة طيبة متواضعة، ألغت شقاءها فى لحظة وانطلقت تتمتع بجسدها وزوجها “حسب التعليمات” كما تصورتها. يبدو أن عبد السلام يرفض هذا الذى حدث فجأة، يبدو أنه غير راض عن هذه السعادة الرخوة. ليس على بالها الآن إلا الدعة والجنس والمتعة، وتسميها تطور. أم طيبة مازالت. ترفض شقائى – وهى تناديني- صامتة أن أكف عن المجئ. أحس أنى أكبر منها عشرات السنين، التعرى فى هذه المجموعة يلهب كل خلية فى وجودى ثم يتركنى معلقة بين السماء والأرض.علاج يعمق التناقض ويشعل الألم. فردوس ذات الأربعين تعيش سعادة الأطفال وأنا أعجز من أهل الكف، لو علمت يا أمى مايجرى هنا لراجعت نفسك قبل أن تدفعينى للعلاج، ترى لو كنت جئت بدلا منى هنا، هل كانت براعمك ستتفتح من جديد مثل فردوس الطبلاوى، إذن لطلقك أبى بعد خمس دقائق، أو ربما سلمك للسراى الصفراء مع مخصوص. فردوس – رغم كل ذلك – ليست سعيدة كما ترسم نفسها. عبد السلام يأخذ منها وجه القشدة ثم يعيب عليها أن اللبن حامض. مختار لطفى يلتهمها على ما قسم فهو لا يدع أنثى إلا وناداها نداءه الصامت. موقف عبد السلام يحيرنى، ماذا يريد منها بالضبط، سمعته يقول لها مرة “من يضمن الاستمرار لو سلمنا لهذه السعادة السهلة، مازلنا على الأرض يا فردوس ولابد للسعادة من أشواك تحميها حتى لا يقطفها عابر سبيل ثم يلقيها بعد بضعة خطوات”. يريد ضمانا مدى الحياة، سمعه برج عقلى الطائر مرة أخرى يقول لها:
“لا يمكن الاطمئنان لإنسان بلا أعماق”.
ردت بحدة:
”.. من أين أشترى لى أعماقا حتى أعجبك” .
أمره عجيب ومحير عبد السلام هذا..، الظاهر أن الحق معك يا أمى. والدى أول من سيرفض سعادتك. الرجال يرفضون سعادة النساء التمليك. يخافون منها. عبد السلام مازال يواصل المسيرة، يبدو أنه مازال ينقصه شئ هام، شئ أساسى قد يسمح لعبد السلام أن يطمئن. ما أصعب كل هذا.
أقرأ نداء أمومة فردوس بسهولة مباشرة: “قلبى عليك يا بسمة يا حبة عيني”.
ماذا تريدين منى يا فردوس، يبدو أننا تبادلنا الأدوار، أنت طفلة سعيدة وأنا عجوز أصابنى داء الحكمة. برج عقلى الطائر هو السبب. المسكنات اللذية ليس لها عمر يا فردوس، تصورى أننى أنا الذى أقول لك هذا وليس العكس. هذا هو ما يخيف عبد السلام منك. أنت وأمى وجهان لعملة واحدة، أنت ضائعة فى السعادة الرخوة، وهى ضائعة فى الشقاء المر. أزعم أننى أواصل علاجى من أجل أمى. إلى متى ينجح هذا التلاعب؟. لست أدرى. قد تكون فائدة حضورى إلى هنا أن تعتقد أمى أنى مريضة فعلا، فتنسى ما قلته لها يوما فى لحظة تهور أعمى، لن يرحمها من حقيقتها إلا إقناعها التدريجى بأن كل ذلك كان جنونا، أو تخريفا.
يا رب سامحنى، ولا تحرمها نعمة العمى.
-5-
احتد الديالوج المرئى بين غالى جوهر وزوجته المقدسة ملكة، حتى دخلت طرفا ثالثا دون أن يستأذننى أو يدعونى أحد منهما. نظرات غالى لا تتركنى منذ عدة أسابيع. ماذا يريد منى؟. أحيانا تنتقل نظراته بينى وبين زوجته وكأنه يستنجد بى منها. أنا لا أريد أن أقلب كيانه أو كيانها مثلما فعلت بأمى.
لو عملها عبد السلام وفردوس… لو تم ما يجرى بين إبراهيم ونجوى، لو غامر كمال فتحمل مسئولية فنه دون جنون أو انتحار. لو حدث كل ذلك، أو شئ من ذلك، فسوف ألقى بنفسى إلى الأتون مباشرة. أنا الأصغر، عندى وقت كاف أغير فيه تاريخ البشرية. أحمد الله أن شيئا من ذلك لا يحدث.
ماذا تريد منى يا أستاذ غالى؟. أنا أشفق عليك وأنت تضرب بجناحيك فى قفصها المحكم، أكاد أقضم منقارك وأنت تلتقط ما تلقيه لك من حب. هل تريدنى أن أفتح لك القفص؟. سوف تطير إلى قفص آخر فلقد نسيت قيمة الخلاء. أحيانا تطلق سراحك من قفص حبها إلى حظيرة مبادئ الحزب دون أى طيران خطر. جناحاك أثقلهما الخوف وريشك مندوف أولا بأول. تحبنى يا غالى؟. أقرأ ذلك على وجهك . كيف تصدق نفسك وأنت لا تعرف معنى الحب أصلا؟. المصيبة أنى أعد من الجميلات. يحجزنى هذا الجمال وراء تقاطيعى المتناسقة . فإذا أضيف إلى شكلى ما يتصورونه من رقتى وذكائى المزعومين، ضعت أنا بلا أمل فى إنقاذ، لا أحد يعرفنى أنا، وخصوصا أنت يا غالى.
عندك حق يا فردوس، ورطتى أكبر من كل تصور، كيف سأتزوج بعد كل هذه الرؤية. هل أنا التى ستتزوج أم برج عقلى الطائر؟. لا أنكر أنى أغلى بالرغبة، هذا الإلتحام مع آخر حتى الذوبان فى كتلة واحدة من اللحم الذى يغلى باليقظة والنشوة يتمثل أمامى فى كل لحظة. لا أعرف سبيلا إليه. البضاعة المعروضة كلها بيع وشراء مع الاحتفاظ بحق المنفعة. لا أخدع فى العلاقات الحرة المزعومة فهى أخبث من الزواج فى نظرى. علاقات تشبه حجز ليلة فى فندق عام. الزواج عقد إيجار مفروش.
استدرجت نادرا زميلى أمس إلى بوفيه الكلية لأقطع عليه أحلامه التى تتبعنى فى كل مكان فى الكلية. لابد وأن يعرف أنى غير صالحة لما يدور فى ذهنه. عرض على الزواج بسرعة ومباشرة ظانا أنى دعوته لذلك. ابتسمت وأنا أنظر إلى المنديل الورق الملقى بجوار فنجان الشاى، كانت بنود العقد التى كتبها برج عقله إياه، مكتوبة بوضوح عليه:
“عقد إيجار مفروش”: يعرض الطرف الرجولى المدعو “نادر” أن يقوم بتأجير الجسد الأنثوى – الذى تحتله الآنسة بسمة قنديل – معظم ليالى الشتاء وبعض ليالى الصيف، وذلك على أن يظل محجوزا له بقية أيام العام لحسابه الخاص، مقابل أن يقول أحبك ثلاث مرات يوميا لمدة ثلاثة شهور تتناقص بمرور الزمن ويمكن أن تزداد أو تنقص لفترة محدودة حسب الظروف، خاصة لو تعرض هذا الجسد للإتلاف أو العطب نتيجة لسوء الاستعمال.”
- فيم تفكرين يا بسمة؟.
- أقرأ شروط العقد يا نادر.
- أى عقد تعنين؟.
- أنظر إلى هذه النقوش على المفرش الورق.
- جميلة.
- خسارة أن نلقى به بعد استعماله.
- هومصنوع لذلك. أفضل من الغسيل والمكوى.
- الاختراعات تتجه إلى الاستسهال، فتنتهك حرمة كل أصالة.
- حكمتك تخيفنى أحيانا.
- هل حاولت أن تقرأ معنى هذه النقوش يا نادر؟.
أخذ منديله بين يديه يحاول أن يقرأ نقوشه فى بله عظيم. استمرت عيناى تتابع بقية بنود العقد فى صمت.
”… على أن تقوم هى بتكاليف أكلها وكسوتها من مرتبها الخاص، حسب القوانين الحديثة لتحرير المرأة”.
- لا أفهم ما تعنين، أعرف فكرة قراءة الفنجان، ولكن هذه أول مرة أسمع عن قراءة مناديل الورق… يبدو أن فى الأمر لغزا.
- لا لغز ولا يحزنون، هأنذا أقرأ أمامك فحاول وسوف تجد السر.
- سر ماذا، هذه نكتة، أنا أعرف سخريتك. هى أكبر من احتمالى الآن.
- حاول ودعنى أكمل.
- تكملين ماذا؟.
- أكمل القراءة يا أخى.
-سأصبر عليك حتى أفهم، هات.
مضيت أقرأ بقية البنود فى صمت أيضا.
”… كما يقوم السيد نادر، دون اعتبار لدرجة غبائه، بالاستيلاء على روحها تدريجيا، ويشترط أن تكف هى عن التفكير نهائيا قبل مرور خمس سنوات من إبرام هذا العقد”.
- ماذا وجدت يا بسمة؟. تبدين وكأنك تقرئين شيئا مكتوبا فعلا.
- فرصة عابرة أردت أن أسمح لنفسى أثناءها بالتفكير العميق فى عرضك الزواج.
– ولكنك كنت منهكمة جدا..حتى تفصد العرق من جبينك وأنت تبحلقين فى الورق.
- كانت شروطا صعبة.
- أية شروط..؟.
- والمصيبة أن كل النساء يتقبلنها بترحاب شديد.
- يتقبلن ماذا يا بسمة، لا تحيرينى.
- … يبدو أنهن يضمن التنفيذ لصالحهن.
- .. هذا كثير..أكاد لا أتابعك.
- أعرف أنك لا تحتمل شطحاتى.
- للمزاح حدود، أنا لا أعرف عنك إلا الرقة والعقل والاتزان.
- ما رأيك أن تتزوجهم.
- أتزوج من ؟.
- الرقة والعقل والاتزان.
-.. أنا أحبك يا بسمة.
- أعلم ذلك. لكننى لست مستعدة للارتباط الآن. نظل أصدقاء إن شئت.
- أنا آسف إن كنت قد ضايقتك باعتراضاتى، ولكنى لم أفهم.
- لقد سرحت أكثر من اللازم وهذه غلطتى.
- هل أنت مصممة؟.
- تماما.
- قرار نهائى.
– جدا.
-… سأنتظرك ما حييت.
- ما حييت؟. لا تطل الانتظار يا نادر وإلا فإننى سأتألم لك بلا داع .
- أنا حر أنتظر كما أشاء ولا أريد الضغط عليك، عن إذنك.
عندك حق يا فردوس، ورطتى فى هذه السن أكبر من كل تصور، لابد أن أفقد الوعى قبل أن أوقع مثل هذا العقد، نجوى شعبان عجزت عن تنفيذ بنوده فهجرت زوجها وابنتها وها هى ذى تبدأ من جديد. يا ترى هل تستمر أم تعاود الكرة بوعى أشد يحميها من قراءة كل البنود بهذا الوضوح؟. نجح الأطباء فى إعادة الإبصار للعـمى فلماذا لا يقوم طبيبنا هذا بإعادة العمى للمبصرين؟. مازلت أذكر حديث نجوى مصباح، وأذكر كيف كان برج مخى يقرأ النسخة الأصلية وهى تظهر مكتوبة على ناحية بجوار حديثها الظاهر كأنها مجلة ميكى.
* لماذا كل هذا الحزن يا بسمة؟.
* (أنا فخورة بك وبشجاعتك).
-…….
* أنت رقيقة، فهلا اكتفيت بذلك ومضيت تسعدين بشبابك.
* (إياك أن تصدقينى واستمرى فى طريقك).
-…………
* أشفق عليك بصدق.
* (طريقك هو عين الحق… صدقيني).
- ……
كنت أرد عليها بصدق ولكنى كنت أحذر أن أتمادى فى إخبارها عن حقيقة ما يسمعه برج عقلى الطائر من داخلها. لم أكن متأكدة إن كانت سترجع إلى زوجها وابنتها أم ستواصل رفع الحجر بكفيها الداميتين إلى أعلى الجبل. تعلمت منذ حكايتى مع أمى ألا أقترب منهن أو أعلن محتوى الحوار المرئى أبدا.
كمال يفهمنى بلا حديث. يبدو أنه يستطيع أن يقرأ الديالوج المرئى مثلى، فنان تدرب على رؤية وتشكيل ما بعد الظاهر. أما عبد السميع، فالله يغفر لى إذ كدت أبصق عليه وهو يتشنج فى نقاش مع إبراهيم الطيب.
ما أصبرك يا إبراهيم وما أوسع صدرك.
-6-
- أنت معى يا كمال.
- بكل قلبى.. وأنت تعلمين، مع أنك صغيرة، لكنك تعرفين كل شئ، أكثر من كل الذين هنا.
- اتفاقنا فى الرواية لا يطمئننى، هل رؤيتنا هى الصحيحة؟.
- صحيحة… وصعبة.
- يعنى مستحيلة.
- ياليت.
- لا فائدة إذن.
- تقريبا.
- أنت فنان وتستطيع أن تصوغها فى رمز للمستقبل، أما أنا.. أما نحن؟.!
- لم أعد فنانا ولا يحزنون.
- هل كتب علينا أن نهيم على وجوهنا بغير هدف؟.
- لا شئ يعين.
- هذا كلام مزعج، ولا أحسب أنك تصدقه على طول الخط.
- هو مزعج فى البداية ولكنه مريح بشكل ما.
- ولماذا لم تسترح؟.
- فرشاتى جفت وسن قلمى قصف.
-… وبعد؟.
- أنا فى انتظار الفرج فى الفرشاة القلم.
-… والحياة؟.
- حياتى فيهما، أرسم المستقبل لمن يصنعه فيما بعد… أرسمه لك يا بسمة.
-… أنا؟.
-..أى بسمة مع أنى أشك أنهن كثيرات.
- أنا فى أول الطريق… أريد قدوة ، أتطلع إلى أى نجاح حتى أنجح مثله.
- تحملين عبئا.. ما أثقله.
- تتكلم يا كمال مثل الطبيب، على كل واحد أن يحمل مسئولية قراره،.. ولكنك أرق منه، أتساءل أحيانا ماذا يعمل فينا بكل هذا التخلى عنا.
- أنا مرتاح لهذا التخلى. لو تقدم أكثر لن يرانى.
- أعلم ذلك.
- هو يتقدم بلا تردد لمن يقبل تدخله.
- أحيانا أراه يربط غالى فى عنق ملكة حين يحاول أن يطير منها.
- يبدو أنه يعرف أنها ندفت ريشه فلم يعد يستطيع الطيران، ربما هو يخشى عليه.
– ما رأيك فيه يا كمال؟.
- فى مــن؟.
- فى شيخنا هذا؟.
- أعجب بمهارته أحيانا، أعتبره فنانا ليس له علاقة بالطب والحياة.
- تمنيت فى كثير من الأحيان أنى ولدت ابنته.
- حذار من الاعتماد عليه، وإلا فقدت نفسك.
- حاولت الاعتماد فعلا ولكنه راقد فى الخط، لا سبيل إلا الالتفاف من باب آخر.
- بل هو أخفى مما تظنين.
- إن كان ثمة حب.. فأنا أحبه.
- حذار يا بسمة. أنت تعرفين كل شئ. قد يشكلك على مزاجه..
- لا أبيع نفسى ولو للإله نفسه، ولا أستطيع أن أعيش وحيدة، وأنت جبان يا كمال.
- حرصى على حريتى لا مثيل له.
- هل ندفع ثمن هذه الرؤية التى ابتلينا بها: وحدة حتى الموت.
- يبدو ذلك.
- الموت أهون يا كمال.
- وأشرف، ولكنك صغيرة على كل هذا. كيف عرفت. هل جننت.
- جائز.
- أنت خبيثة. صغيرة… لكن خبيثه. ورائعة.
ياليتنى تعلمت فنا أفرغ فيه شحنات هذه الرؤية حتى أعفى نفسى من معاينة الفشل المر على أرض الواقع. كمال يفشل فى أن يواصل رسم المستقبل فيحاول أن يتخلص من أثقال الواقع ليجد نفسه متفرجا فى عيادة فنان أخطر. نقاش إبراهيم مع عبد السميع يجذب انتباهى أحيانا ولكننى أتقزز من تشنج عبد السميع.
- إبراهيم إنسان رائع يا كمال.
- وعنيد.. ولكن من يدرى حقيقته وراء كل ذلك.
- لو نجح مع نجوى، فسأعلم أن كل شئ ممكن.
- إنه يحاول النجاح مع كل واحد حتى عبد السميع.
- لا أطيق رؤية عبد السميع.
- إصراره على المجئ بانتظام يغفر له عماه.
- عبد السلام صبور ومثابر.
-… ومناور كذلك… ولكنه قد يستسلم أخيرا لطبق القشدة.
- لا أظن. لو تم نجاحه مع زوجته فهو المعجزة بعينها.
- أشفق عليه من أحلامه.
- ترى هل نستطيع أن نتكاتف لتحقيق نجاح واحد منا على الأقل.
- لن أخدع فى التماس الدفء باقتراب خائف.
- أرفض يأسك وسوف أعلن التحدى.
- تذكرى قول عمنا، القوة على أرض الواقع هى وحدها القادرة على قول “لا”.
- تخاف يا كمال من نجاح أى آخر حتى تبرر عجزك.
- وراء رقتك نمرة ذكية مفترسة.
- ووراء حكمتك ثعلب مراوغ عداء.
- نظل أصدقاء.
- لتكن صفقه أشرف من عقد إيجار مفروش.
- لا تبخلى على أحد بما يدور بخلدك.
- وماذا لو جرحته، فعلتها يوما مع آمى ومازلت نادمة.
- عندك حقك، لكنى عند رأيى.
- ما أمكن ذلك ربنا يستر.
-7-
لم أكد أعبر عن رأيى فى عبد السميع بصدق مباشر حتى كان ما كان، لست أدرى ما الذى دفعنى نحوه ثائرة مفترسة. كرهت وجهه وصفرته وهزة رأسه وإصراره على العمى وكلامه الشاحب عن الدين والطاعة. يبدو أنه لم يكن ينتظر ذلك، ومنى بوجه خاص.
لما انفجر كالبركان رعبت وكأنى فجرته بنفسى. أحسست أنى أنا التى انطلقت من داخله أحطم كل شى. عاودتنى الشجاعة وساهمت فى ضبط حركته والحد من مضاعفات ثورته. نظر إلى فى عتاب وألم لم أر مثلهما فى حياتى. شئ ما اهتز فى كيانى حين أصر أن هذا هو كل ما يعرف من إحساس. رعبت رعبا هائلا من التمادى. تمنيت أن ترجع بى الساعة سنة كاملة إلى الوراء وأن يأتى هذا الخطيب الذى عرضته على أمى وأن أقبله فورا. أحسست أنى على أبواب الجنون إن لم أكن قد جننت فعلا.
من يضمن أى شئ بعد ما حدث الذى حدث، عبد السميع الأشرم آخر من كنت أتصور أنه قادر على النطق باسمه بصوت مرتفع. فعلها كالنمر الهائج. لماذا أحس نحوه بكل هذا الحب الغامر بعد أن كنت أصاب بالغثيان بمجرد أن أسمع صوته؟. أخذت ألوم نفسى على سابق احتقارى له. حين تمادى فى هياجه كالثور الأعمى لم تعاودنى رغبة الهزء به أو النفور منه. كل أعمى مهما بلغ عماه هو بصير ولكنه عاجز. حتى أنت يا أمى. الوحيد الذى لم يهتز ولم يتراجع أمام ثورته هو إبراهيم الطيب، ظل يواصل معه الحوار، ويحمله مسئولية العجز والتحطيم فى آن واحد، كيف ذلك يا إبراهيم، إرحمه وارحمنا يرحمك الله، كان أقرب وأقوى وأقدر من شيخنا نفسه.
* * *
لن أذهب بعد اليوم..هذا فوق طاقتى وطاقة البشر أجمعين، وليذهب إبراهيم بإصراره إلى الجحيم…
* * *
- لم تذهبى للعلاج منذ أسابيع يا بسمة.
- شفيت يا أمى والحمد لله.
- قلبى دليلى يا ابنتى، مازال المشوار طويلا. هل حدث منهم ما يكدرك؟.
- قلت لك شفيت، وعندى دروس ولا داعى لضياع الوقت… كفى ما كان.
- هل هذا هو الشفاء؟.
- لست أدرى، فأنا لم أدر ما هو المرض حتى أعرف ما هو الشفاء. أنت تعلمين أنى ما ذهبت إلا إرضاء لك، وهأنذا قد شفيت والحمد لله.
- لهجتك لا تدل على ما تقولين.
- ماذا تريدين منى يا أمى؟.، أنا ما طاوعتك أول الأمر إلا تكفيرا عن تهورى.
- هل حدث شئ يا ابنتى؟.
- طبعا تحدث أشياء.
- ماذا بالله عليك؟.
- بالذمة هل هذا كلام؟. لم أحك لك عن أى شئ من قبل، فماذا أحكى الآن؟.
- أنا لم أسألك قبلا لأن الأمور كانت تسير.
- كانت تسير نحو الجنون.
- كفى الله الشر يا ابنتى، كان وجهك نضرا ونظراتك توحى بالأمل.
- ثم عقلت وتركت الأمل لأصحابه، وليس عندى مانع أن أتزوج اليوم قبل الغد.
- ظنى فى محله، دائما تذكرين حكاية الزواج هذه عند ما تسوء الأمور.
- لا تضطريننى يا أمى لما لا تعرفين، طاوعتك فى الأول حتى كان ما كان، فماذا تريدين الآن؟.
- تتكلمين بالألغاز وأنا لا أعلم شيئا من هذا الذى كان. كل همى أن أراك سعيدة
- وكان همك قبل ذلك أيضا أن ترينى سعيدة حين جئتت لى بعريس الغفلة.
- أعمل ما أراه مناسبا فى كل وقت.
- ما أسهل تمنيات السعادة وما أصعب الطريق إليها. لا فائدة يا أمى، لا فائدة.
- تذكرين أنى قلت لك عن نفسى لا فائدة”، وساعتها رفضت أنت استسلامى، وتريدين منى الآن أن أقبل هذا اليأس وأنت فى هذه السن يا ابنتى؟.
- ماذا تريدين أن تقولى يا أمى، ماذا تريدين منى؟.
- لن يكون مصيرك هو مصيرى.
- نعم؟. نعم؟. أنت تقولين ذلك يا أمى؟. الآن؟. ألم يكن هذا هو بداية اختلافنا منذ شهور، أنت يا أمى؟. ترفضين مصيرك في!
- قلت لك من الأول أدفع عمرى وتعالجين مما أنت فيه.
- مما نحن فيه..
…….
لست وحيدة.
هذه العجوز بإصرارها وشجاعتها تخجلنى من نفسى. تخلت عن أنانيتها بعد أن لاح لها الأمل ولو كان سرابا، الناس لا تستسلم اختيارا ولكنهم يقتلون الأمل أولا، أمى يا حبيبتى سوف أذهب وأصنعها مهما طال الزمن.
* * *
- شئ ما فى داخلنا يظل ينبض بالحقيقة حتى طلوع الروح يا إبراهيم.
- عدت بالسلامة يا بسمة.
- عدت أطلب السلامة.
- كنت واثقا أنك ستعودين.
- عدت من أجل خاطر أمى. ربما بدلا عنها.
- بل من أجل خاطر ابنتك.
- عنيد أنت مثل النيل يحفر طريقه بين الجبال عبر آلاف السنين.
- لا جدوى من أى بطولة خارجك، إبحثى عن النيل والشمس والجبال تجديها فى الداخل.
- أطمئن لإصرارك ووضوح رؤيتك.
- صدق أمـك وشجاعتها يطـمئن جيلا بأسره.
- اضطرابات الطلبة تغرينى بالمساهمة، ولتكن المسئولية فعل يومى.
- على شرط أن تكتمل فى وعى شامل.
- خوفى من ثورة مثل ثورة عبد السميع ذلك اليوم حين انفجر كاللغم غير الموجه.
- يبدو أحيانا أنه لا مفر منها. من خلالها ربما يراجع كل واحد قدرته وإحساسه معا، ربما يكون ذلك مكافئ لتاريخ الثورات بمضاعفاتها.
- لا ضوابط للجنون ولا حدود للتحطيم.
- أى شئ هو أفضل من الموت واليأس والضياع؟.!
- تشجعنى على التشنج والصراخ.
- بل أحملك مسئولية التشنج والصراخ.
- حكمتك ترعبنى، تزيد طاقة شبابى ومسئولية شيخوختى فى ذات اللحظة.
- قانون الحياة واضح رائع… لكنه كما تعلمين.
- لا سبيل غير ذلك، هربت من مسئولية أمى، ومسئولية بيت صغير هادئ، فوجدت نفسى أمام مسئولية الناس جميعا.
- دون نسيان مسئولية وجودك شخصيا بكل عبء العلاقات البسيطة العادية. لن أطمئن عليك حتى تتزوجى ويعلن انتصار الواقع جنبا إلى جنب مع استمرار الحلم.
- أنت كالصقر اليقظ، كيف أهرب منك؟.
- بل كيف تهربين من نفسك؟.
- وأنت؟. أنت هارب بجلدك من بيتك وتلوح لنا طول الوقت بما فشلت فيه.
- لا أنكر مصيبتى، ولا أخدع أحدا.
- ماذا فعلت مع نجوى.
- تعرفين كل شئ…
- أقرأ الحوار الصامت.
- أعرف ذلك.. وأطلب مساعدتك.
- لا تخف منها… ألمها يحميها من تفكك فردوس الرخو.
- لست وحيدا ما دمت ترينى بهذا الكشف.
- وأنا كذلك.
- من أين لك بكل هذه الحكمة فى هذه السن؟.
- ومن أين لك أنت بها؟.
- من الوحدة والهجر والدعارة والجنون والإيمان.
***
الفصل التاسع
مختار لطفى
-1-
قالها كمال فى صدق وحيد حائر، وقالتها نجوى فى خوف، وقالها غريب دون أن ينطقها، وأراها فى عيونهم فردا فردا، وأسأل نفسى قبلهم وبعدهم: “حقيقة.. لماذ أنا هنا؟”. كل واحد وله مشكلة. أنا أرفض أن يكون لى مشكلة أصلا. أختبئ أحيانا فى إجابات عابرة لا تعنى شيئا. تموت قبل أن تولد فلا تفيد فى التخفيف من سخف سؤال لا معنى له. عيونهم تريدنى كما أنا، وتتحدانى فى نفس الوقت، وتحاول أن تخلق لى مشكلة من لا شئ. لعلى هنا لأتأكد أنه لا يوجد حل آخر. لا حرية إلا بإلغاء كل شئ تماما. تماما. ألغيت الارتباط والمبادئ والأهداف مرة واحدة. صنعت منها لفافة مثل بقايا وجبة سمك: الشوك مع القشر مع الأمعاء. يبدو أننى كنت فى عجلة من أمرى حتى نسيت أن أستخلص اللحم الأبيض أيضا. إما أنى ألقيته مع اللفافة أو أن قطة بشرية انتهزت الفرصة فسرقته منى دون أن أدرى. لعلى هنا أبحث عنه. أبحث عن لحمى الأبيض فى حلقة السمك البشرية فى عيادة طبيب مخرف يحاول أن يصدق نفسه. لن أحصل على ذاتى بلا خوف إلا إذا تخلصت من كل شئ. كل شئ. حتى ذاتى نفسها. لا مفر من أن أتخلص منها. كيف أتخلص منها قبل أن أحصل عليها؟ أنا لست محاربا. أنا أرفض أن يكون لى قضية أحارب من أجلها. وجودى هو كل شئ من البداية إلى النهاية. هو ماهيتى وغايتى وقدرى. هل أنا بهذا أجعل منه قضية؟ ليكن. قضية قضية لكننى لن أدخل فى سبيلها معركة. المعارك تحدد وجهتى وأنا أريد أن أتحرك بلا وجهة. أريد أن أطير فى كل اتجاه.
”حريتي” هى زادى وسعادى وثروتى وكيانى. علمنى والدى ألا أتنازل عنها بأى ثمن. والدى اغتال كل من تنازل عن حريته وراح يمارسها هو بالنيابة عنه. كان سجانا ممتازا وقحا لا يتردد. ظلت والدتى نزيلة قفصه الذهبى حتى ماتت. لم أتعرف عليها أبدا إلا من وراء قضبان. لم تتعرف على هى أبدا حتى داخل ذلك القفص الذى حبسها فيه والدى. كنت أتسحب داخلا خارجا منه لصغر حجمى دون أن يلحظنى أحد. هى لم تلحظ ذلك أبدا. نسيتنى تماما – أو هى لم تعرفنى أصلا – ربما لانشغالها الدائم بالتقاط بقايا وجبات والدى الشهية. كانت تلملم نفسها كالمأخوذة فى سعادة غبية. ظللت أنتظر منها أن تفيق من هذا الانجذاب بأى قدر لكنها كانت قد نسيت كل شئ. حتى أوقات إفاقتها كان أغلب كلامها متفجرات تطلق سيلا من الشتائم والتوتر الذى لا يهدأ إلا بعودة التنويم والانجذاب. كبرت وأنا أشاهد هذه التركيبة العجيبة وأتساءل عن حقيقة استسلامها، تجرأت ذات مرة وفتحت لها القفص، وبدلا من أن تخرج منه كادت تقتلنى.
- لقد كبرت وأريد راحتك وسعادتك يا أمى.
- وهل اشتكيت لك يا أخى.
- أريد أن أعطيك بعض ما يمنحنى أبى من مال حتى تتصرفى فيه بما تريدين.
- “هو” يكفينى ولا حاجة لى بما تعرض على.
- كله من خيره، ولكنى أحس أنك لا تجرئين على الطلب منه يا أمى.
- أنت لا تعرفه، كبرت وكدت تـفسد. ظفره برقبة كل الناس.
- فلتكفى إذن عن الأنين.
- أنين ماذا يا أصم ؟ مالك بى أنت..؟ تشطر على خيبتك.
وتشطرت على خيبتى وخاصة بعد أن ترك مشكورا ما أعاننى عليها. أعفائى بما ترك من مال من معركة لقمة العيش، أعطانى فى حياته دروسا فى الحرية التى نصبها شركا للآخرين والأخريات، ثم فرضها على بعد موته. حاولت أن أطبق طريقته الخاصة فى ممارسة الحرية فلم أستطع، تأكدت أنه يمارسها حتى لا يستطيع أن يمارسها من حوله. حاولت أن أتزوج من شبيهة أمى وأن أمارس حريتها بالنيابة. فشلت فشلا ذريعا. شئ ما ثار فى حتى أفشلنى من البداية. عظمة أبى لن تتكرر، كان يطلق سراحهن فى الحجرة كما يشاء، (لم تكن أمى وحدها) ثم يرجعهن إلى القفص قبل أن يفتح الأبواب والنوافذ. أنا – بخيبتى – فتحت لامرأتى القفص عنوة فطارت لفورها. طارت بغباء لم تتمتع به أمى. طارت بلا أجنحة فوقعت تتخبط. ما أبشع منظرها وقد اختلطت دماء الإصابة بطين الكذب بنفايات البشر. وقفت أتأمل جريمتى فى هدوء سعيد وأنا أوقع ورقة االطلاق.
هكذا فشلت أن أكون أبى.
بدأت أسعى إلى حريتى بطريقتى الخاصة، حريتى هى وحدتى، جنتى هى سكونى، لا لغو فيها ولا تأثيم. كونى ينتهى عند أطراف أصابع قدمى. أسأل نفسى بعد كل ذلك “لماذا أنا هنا إذن”؟ يهتف بى صوت أبى فى حماس خبيث.
* أنت هنا لأنك تبحث عن الناس.
*جاءتك نيلة، تضحك على غيرى يا كذاب، أنت آخر من يتكلم عن الناس.
* كانت حياتى مليئة بالناس.
* العبيد ليسوا ناسا ولكنهم تكرار سمج لصورتك الأخرى.
* هذه الفلسفة ستحرمك من الحسنييـن.
* إشبع بهما، لن أكونك أبدا، أسعى إلى حريتى بطريقتى، زوجتى طلقتها حتى لا تصبح مثل أمى المسكينة.
* أمك لم تكن مسكينة يا غبى.
* أنت لم تعرفها على طول ما عاشرتها.
* لن تحتمل الوحدة وستقع صريع خيالك الأحمق.
* بل أحتملها فهى أفضل من كذبك.
* تشترى ناسا بعض الوقت فى عيادة مجنون. يا خيبتك. إنتظر ما يجرى لك.
* إطمئن. أنا قادر أن أفشل أى محاولة للاقتراب.. من أى نوع.
* أنت حر.. خيبت أملى فيك.
* هذا يسعدنى.. جنتى ليس لك مكان فيها.
* أنت لا تفعل شيئا إلا أن تواصل الهرب، فلا تكون إلا مقلوب صورتى.
* هذا أملك الذى لن يتحقق أبدا.
* * *
- قل لى بربك يا غريب لماذا أنا هنا؟.
- تسألنى؟ وأنا متورط مثلك تماما.
– أنت لا تعرف مثلى؟.
- بل أعرف مثلك!!!.
- إذن قل لى: لماذا نحن هنا؟.
- نحن نتحدى محاولة مجهولة العواقب.
- لا يا شيخ !!؟.
- محاولة فاشلة مسبقا، إلا أن فشلها هو عين النجاح.
- كنت أجد فى الأنفاس العطرة الزرقاء والماء الأصفر وتهاويم الخيال خير ونيس، فلماذا أحضر إلى هنا.
- لتتأكد أن المخدرات الكيميائية لتعديل المزاج هى خير وأبقى.
- فلماذا لا نتوقف بعد أن تأكدنا.
- لكل شئ أوان. أخاف أن نذهب مبكرا فنخدع فى تصور أمل ما فى مكان ما، لابد من التأكد من فشل كل البدائل.
- وحتى يحين أوان ذلك؟.
- بالنسبة لك، أمامك فرصة دائما لصيد ثمين.
- أعلم أنك تعنى إشعاعاتى الجنسية. لا أخفى عليك: إنه بالرغم من غمزات السنارة الأكيدة فإنها كثيرا ما تخرج خالية بعد أن يأكل السمك الطعم بنذالة.
- لا مفر من المثابرة حتى تنضج كل الثمار.
- ثم يقطفها غيرى. حتي”الحاجة” فردوس ترفل فى روض الشهوة فيقطفها زوجها عبد السلام فى متعة سرية، ثم هو يتصنع الرفض الكاذب.
- زوجها يا أخى.
- لا تنس يا غريب أننا فى الهواء سواء.
- يا ليت. أنت لا تعرفنى، وإن كنا نتفق فى أن هذا الالتزام الزواجى أخبث وأنذل من أن نتحمله.
- جربته يا غريب، ولا أخفى عليك أنى أعيش لذة الانعتاق حتى الآن، أحتفظ بصورة ورقة الطلاق فى حافظتى طول الوقت حتى أتأكد من حريتى بين الحين والحين، لم يبق إلا أن أكبرها وأعلقها على زجاج السيارة.
- فلماذا تحسد عبد السلام علي”الحاجة” فردوس.
- أنا لا أحسده يا أخى. أنا أقرر أنه حتى هذه البضاعة الرخوة، التى تفتحت فى الزحمة هى ليست فى متناول من يعرفها ويقدرها حق قدرها.
- مازلت يا مختار تطمع فى صفقة سرية.
- لا أحسب إلا أنك أيضا تتمناها.
- لى ظرفى الخاص.
- أنا لابد وأن أوفق بين حريتى وحقى فى حريم الدنيا.
- تريد امرأة من نوع خاص؟.
- بلا زواج ولا ارتباط.
- لى صديقة، أشعر أنكما أقدر على التفاهم.
- ماذا تقول بحق الطب والأطباء؟ كيف تواتيك كل هذه الشجاعة.
- قلت لك لى ظرفى الخاص، وأحب أن أضع الأمور فى نصابها.
- لا أفهمك.
- الشخص المناسب للشخص المناسب.
- لا أفهمك.
- أعتنق آراءك يا مختار ولا أستطيع تنفيذها.
- ليس لى آراء يا غريب، وأنت سيد العارفين.
- وهذا هو ما أعجب به على وجه الخصوص.
- لا أحتاج إعجابك، فهو يذلنى.
- كذاب.
- غريب؟!؟.
ثم ماذا يا غريب، أنــا كذاب وإبن كلب. ماذا تقترح حتى أكون صادقا؟ لولا أنى أعرف أنك لا تستطيع إيذائى، ولا تحاول تغييرى، وأن خيبتك أكبر من خيبتى لخفت من رأيك فى؟ هل تريدنى صادقا لدرجة أن أعلن حاجتى لهمسة رضا أو لفته تقدير أو كلمة رغبة أدفع مقابلها كيانى وعمرى ووجودى؟ ما أمارسه ليس كذبا فحاجتى إلى تقديرك أو حتى حضنهم لن تذلنى ما حييت، الفرصة سانحة كما قلت وسوف أواصل البث حتى تلتقطنى محطات الاستقبال المناسبة، أقرب محطة جاهزة الآن تلوح لى فى عينى نجوى شعبان، تستمع إلى بشغف وأملى كبير فى شجاعتها التى حطمت بها عشها الصغير. لابد أن تكتمل هذه الشجاعة بأن تستقبل بثـى الدافئ، مطلــقه وجميلة وتحسن الاستماع وتعشق الحرية. ماذا تبقى لها لتكون ذلك الطير الخليق أن يحلق معى فى السماء الواسعة.
- يا نجوى أنت خسارة، قلت لك ألف مرة أنت خسارة.
- مازلت أفكرفى حديثنا آخر مرة عن الحرية والحيوانية.
- هل عرفت كم هو راق ذلك الحيوان المتناسق مع نفسة؟.
-عرفت. إلا أن…
- لا لزوم لإلا، يقولون إنها مدخل الشيطان.
- هذا من صالحك.
- لا..، شيطانى واقعى لا يحب”الاستثاء بإلا.” يحب حروف العطف وعلامات الضم.
- يا مختار.. أنت لا يعنيك فى هذه الدنيا إلا هذا الشريط المعاد.
- هو أصل الحياة، ولابد من تعميق المعرفة من خلال التجربة.
- تجربة ماذا يا مختار؟.
- تجربة معرفتك، فى البدء كان الجنس.
- بإذن شيطانك الغبى؟.
- جربى.
- إبراهيم عنده حق.
- إبراهيم موتور مكبوت مدع، لا تغرك مساعداته ومبادراته، كلها لحسابه.. كلها لتضميد جرحه بلا طائل.
- حتى هذا – حتى لو صح – لا يخفى حقيقتك.
- ماذا تعنين بحقيقتى يا نجوى؟ أفسدك هذا الغبى المعقد.
- لماذا تخاف من مجرد ذكر اسمه؟.
- أنا لا أخاف، المحتاج هو الذى يخاف، وأنا ألغيت احتياجى من زمن بعيد.
- هلا نظرت فى نفسك قبل النوم وبعده.
- ماذا تعنين يا نجوى.
- أعنى أنك إن هربت من العالم كله فلن تستطيع الهرب من نفسك.
– لا تحاولى أن تخدعى نفسك بأن تختبئى فى الهجوم على الآخرين، هذه لعبة سخيفة ترددونها كالببغاوات.
- ماذا تريد.. يا مختار.
- لا أريد شيئا.
- لا يا شيخ؟.
- أريد حريتك المقدسة.
- فى حضنك؟.
- طبعا.
- اطمئن يا مختار، انطفأت حاجتى للرجال أمثالك ولا أملك لك إلا الاحتقار.
- هذه بداية الطريق المبهج.
- يقززنى عماك ودناءتك، وأنت لا تحس بأى مخلوق.
- أنظرى فى عينى تعرفين أنى أحس بك، وبجسدك الفائر الذى تدعين موته وهو يدعونى ويبعث فى الحياة حتى قاع وجودى.
- مختار يالطفى.
- نعم.
- الله يخيبك.
* * *
أفسدهن ذلك الوغد المدعو إبراهيم، لا فائدة وهو واقف لى كاللقمة فى الزور، حامى حمى الحريم، جبان موتور.
- ما هى حكايتك ياابراهيم؟.
- خيرا يا مختار.
- أنا الوحيد الذى يفهمك وأنت تعلم ذلك.
- يجوز,أنا أنتظر هذه اللحظة منذ سنين، أن يفهمنى أحد، قل لى يا مختار من أنا؟.
- أنت مجرم جبان.
- فقط؟.
- تسخر أم تميع الموقف بخبثك.
- أبدا.. ولكنى أريد رأيك كاملا.
- وقواد وحقود خبيث.
- صحيح.. إلا أنى أحاول فى المنطقة الأخرى أيضا.
- لا تخدع نفسك، فأنت تكبتهن لصالحك.
- هن؟ من “هن” يا مختار.
- كبتك وخوفك يحبس الأطفال فى مهودهم حتى تكاد تموت من الشلل والرعب.
- أنت تصور الأمر بمبالغة سخيفة، أنا لى أسبابى التى تخيفنى من الخيانة والغدر، وقد قلت لك إنى أحاول أن اخترق كل ذلك.
- أنت لا تستأهل إلا الخيانة، أى طائر يطير بعيدا عن حظيرة جبنك تعتبره خائنا.
– جرحى عميق يا مختار.
- لا تتكلم عن الجرح فكذبك لا يطاق ومسكنتك مزرية.
- الحياة صعبة يا مختار ولا أستطيع أن أعيش وحيدا حتى بعد أن كان الذى كان. أنا أعجب كيف تطيق أنت كل هذه الوحدة؟.
- أنت مالك؟. ثم من قال لك إننى وحيد؟.
- هل نجحت أنت أو غريب أو كمال فيما فشلت أنا فيه؟.
- أرفض تقييمك لفشلى أو نجاحى، معاييرك ياابراهيم يا طيب لا تهمنى.
- أنا أسألك عن معاييرك أنت، هل نجحت يا مختار؟ علمنى يا أخى.
- كفى تخابثا واستعباطا.
- أتحملك لأنى أقدر صدق محاولتك ولولا إيذاؤك لطفولة الآخرين لظللت بعيدا.
- حامى حمى العيال والحريم أنت. أليس كذلك؟.
- منظرك وأنت تتوسل الرضا بالإثارة الجنسية يؤكد لى فشلك رغم ادعائك. راجع عجزك أولا.. وأصلح نفسك قبل أن تعلن وصايتك على رعايا مملكة الخوف.
– الضحايا تملأ الشوارع والبيوت، والمجتمع القاسى يضرب فى عمى فى كل اتجاه وأنا مثل كل الناس.
- أمور لا تخصنى أنا أعيش وأحقق رغباتى، والضحية تريد ذلك.
- هكذا!!.. تلقائيا؟.
- نعم تلقائيا، أى فعل غير تلقائى هو حقير لا دوام له، التلقائية هى الأصالة.
- عنيد يا مختار ومحير، يا ليتنى افهمك. لعل هذا هو الطريق. هل نجحت؟.
- كفى تخابثا، خوفك يمنعك من أى فهم آخر.
- احتياجك يمنعك من أى فرصة للتفاهم.
- أقوالك تتردد كالحكمة على أفواههن أضعت على فرصا رائعة، قرفتنى الله يقرفك.
- أقول ما عندى، لأتيح فرص اختبار حقيقية، أليست هذه هى الحرية.
- وأنت تستعمل ذكاءك فى تكبيل عقولهن وكبت حرياتهن، أنت وحيد ياابراهيم آكثر منى.
- صدقت.. أنا وحيد يا مختار، وأسعى بكل جهدى لأكسر هذه الوحدة ليل نهار.
- بنشر تعليمات القمع ونشر أوهام أنت أول الواثقين من استحالة تحقيقها.
- سأظل فى المحاولة حتى النهاية.
- كلام فارغ.
…..
وغد لئيم. لن أتنازل عن حريتى حتى لو لم تكسر وحدتى. الوحدة غذاء الحرية وبالعكس. أنت لا تعرف شيئا عن الحرية ياابراهيم. ما أنت إلا مكبوت تكبت الناس لحسابك.
- 2 -
– إسمى صفية، قادمة من طرف صديقك غريب الأناضولى.
- أهلا.. وسهلا. لكن.
- ولكن ماذا؟ حدثنى عنك وقال إنك تحتاج إلى امرأة من نوع خاص، وأنا من نوع خاص، ألا ترى ذلك؟.
- هه..، لقد فهمنى غريب خطأ، لقد كان نقاشا لوجهات النظر.
-اعتبرنى مجرد وجهة نظر من لحم ودم، جاءت تتفاهم معك مباشرة.
- تجربة مثيرة.
- أنت لم تر شيئا بعد.
ماذا فعلت يا غريب بالله عليك,؟ فكاهة؟ أم سخرية؟ أم تحد؟ أم تجربة؟ أم أنك تتغابى؟ ماذا تظن بى أيها الأبله؟ أنا لا أفهمك. ومع ذلك فلتكن التجربة والمصادفة أروع من الحقيقة والحسابات.
لم أضيع وقتا. وجدتها امرأة من نوع خاص فعلا. تفاهمنا بسرعة ولزم كل منا حدوده. تعودت على الحضور كلما ضاق بها الحال أو عز الصيد، ثم زادت فترات حضورها بل انتظمت تقريبا، ثم لم تعد تطلب منى نقودا ولكنها أصبحت تتصرف فى البيت كما لو كانت صاحبته، سألتها يوما لماذا كفت عن الذهاب إليك يا غريب؟.
- أحسست بعجزى عن مساعدته تماما.
- مساعدته فى ماذا؟.
- كان الألم يعتصره فى كل مرة وهو يواجه عجزه.
- هل يكون هذا هو السبب الذى دعاه لإرسالك هنا؟.
- ربما.
-… شكر الله سعيه..!.
- لا مجال للسخرية، هل أنت نادم على ذلك؟.
- أبدا ولكنى أفكر فيه هو.
- أنا شخصيا ارتحت والشهادة لله.
- الحمد لله أنها راحة فحسب.
- ماذا تعنى؟.
- كنت أخشى أن تدعى حبى.
- أنت تعلم أنى أحب غريب أولا وأخيرا.
- هنيئا له من بعيد لبعيد.
– أما أنت فطريقتك فى الحياة تعجبنى.
- ليس لى “طريقة” فى الحياة.
- وكذبك هذا أيضا يعجبنى.
- حتى أنت يا صفية تتهميننى بالكذب.
- الكذب ميزة وليس تهمة ياأكبر حر.
- هل كذبت عليك؟.
- طبعا.
- فى ماذا، ذكـرينى.
– فى إدعائك إهمالى، وتصنعك التجاهل حين أتأخر أو أغيب.
- هذا بديهى.
- تقدمنى لأصدقائك على أنى خادمة نصف الوقت.
- لابد من تفسير لانتظام مجيئك أمام الناس والجيران.
- هذا أريح لى. أنا فقط أذكرك ببعض التفاصيل حتى لا تتمادى فى إدعاء الصدق.
تعودت عليك يا صفية والذى كان قد كان. لابد من رسم خطة إطلاق سراحى بسرعة. أنا لا يخفى على كيف تتطور الأحداث، وها أنت تسدين نقصا هائلا فى حياتى، لابد أن أفكر عشر مرات قبل أن أتخلص منك. تخلصت من زوجتى قبلك بأن طيرتها دون أجنحة، أما أنت فأجنحتك أكبر من طائرة بوينج. سوف أرتب أمورى حتى أطير أنا، جاء دورى.
- أحيانا أفكر أن أكتفى بوجودى هنا، ولو فى ليالى الشتاء الباردة.
-….
- ولأكن خادمة “طول الوقت”. أنا لم أنس عملى الأصلى.
- عرض مغر ولكن المقابل قد يكون خطيرا.
- لا مقابل إلا اللقمة والصمت.
- وماذا تجنين من هذا؟.
- وماذا أريد أكثر من هذا؟.
– أشك فى نواياك.
- أريد إجازة طويلة من دورى “العام”، ولن أكلفك شيئا.
-… لا…. لا….لا مانع…
- نكتب بنود الصفقة حتى لا نختلف.
- عندك..عندك؟ لم يبق إلا المأذون.
- لا تخف فلست غبية حتى أتزوجك.
لم أنتهز الفرصة، ولم أطمئن. بل زادت شكوكى. هى لا تطلب منى شيئا ولا تتعدى حدودها أبدا. يحسدنى أصدقائى عليها ولا يستطيعون إخفاء معرفتهم لطبيعة علاقتى بها، أخذت أفكر – بالرغم منى – فى طبيعة علاقتها بغريب ولماذا تكن له بالذات كل هذا الحب ؟ هل كانت ستحبه بنفس الدرجة لو أنه لم يكن عاجزا. حب هذا أم شفقة؟ هل الذى حافظ على حبها له طول هذه المدة أنه لم يدخل الامتحان الحقيقى: حب مع وقف التنفيذ. مالى أنا؟.
ضبطت نفسى متلبسا مرة – أو مرات – بأمنية أن تحمل لى صفية بعض هذه المشاعر، ولكنى طردت الفكرة فى ازدراء.
- ألا تذهبين إلى غريب الآن البته يا صفية؟.
-… إطلاقا.
- لماذا؟.
- قلت لك لأنى أحبه.
- أحيانا يتحرك فى داخلى شئ غامض حين تتكلمين هكذا بحرارة عن حبك له.
- إلى أين أنت ذاهب يا سى مختار، هأنذا أرد إليك جميل تحذيرك، حذار من الخروج عن بنود العقد، لا حب.. ولا مقابل.. ولا يحزنون.
- لم نتفق على حكاية “يحزنون” هذه.
- نضيفها للعقد يا سيدى ومولاي.
- لست سيدك ولا مولاك.
- ألست خادمتك؟.
- أمام الناس.
- ووراء الناس: ماذا أنا بالنسبة لك؟.
- إنسانة صادقة.
- هل تأكدت من صدقى؟.
- كل تصرفاتك تدل على أنك لا تكذبين.
- أنت أعمى يا مختار.
- نعم؟ نعم؟.
- لا ترى إلا ما تريد، حتى فى السرير.
- ماذا تريدين قوله.
- لا شئ.
بعد هذا الحديث: بدأت أراجع علاقتنا. خائف أنا. كنت أحسب أننا يمكن أن نعيش معا دون أن يكون هناك “علاقة” قابلة للفحص أصلا. كانت مفاجأة خبيثة حين أدركت أنها تقدم لى جسدها باحتراف خال من أى إرادة. فى تلك الليلة بالذات، نظرت إلى عينيها أتأكد من ظنونى فوجدتها تتفرج على من بعيد وأنا مزهو برجولتى، لم أحتمل نظراتها ولم أستطع أن أكمل الشوط.
- ماذا تقول عيناك يا صفية؟.
-… ربنا يعطيك العافية، لا تفتح الجرح يا مختار وخذ حاجتك دون تردد.
- لم أعد أعرف ما هى حاجتى؟.
- حديث عيناى ليس من بنود الاتفاق. فلا تفسد ما بيننا.
- ماذا “بيننا” يا صفية؟.
- خادمة بلا أجر، على أن تشمل خدمتها طلبات السرير.
-.. هذا صحيح,.. ولكن..، ألست أنت التى نبهتنى إلى طبيعة ما يجرى؟.
- كنت تتحدث عن الصدق والكذب، فحدثتك عن عماك.
- أفسد ذلك كل شئ.
- لا تبالغ فإنى مستعدة للتكفير عن خطئ بأن أدفع ضعف الحساب.
- ضعف ماذا؟ ونصف ماذا؟.
- ضعف الحساب… أرضيك أكثر (!).
- يبدو أن علاقتنا بدأت تتعدى كل ذلك.
- كله إلا الحب. لقد تجاوزنا كلانا مثل هذا الكلام الفارغ، لا مكان للكذب والخداع بيننا.
- التعود أقوى وأخطر من الحب.
- أخشى أن تكون النهاية قد بدأت، أنا لا أنكر أنى أفضل أن نستمر هكذا.. لا أكثر.. ولا أقل.
- لماذا..؟.
- سريرك المضمون أفضل من وقفة الأرصفة والكرسى الخلفى للعربات، خاصة فى ليالى الشتاء.
- أهذا كل ما أعنيه لك؟.
- هذا هو الاتفاق.
- ليس تماما..
- بل تماما ونصف، أم تريدنى أن أدفع مقابل دفء سريرك أيضا!
لم أنجح بعد تلك الليلة. بدأت أحس بالخوف كلما هممت بالاقتراب منها، أحسست بالخطر ولكنها لم تتنازل عن النوم فى سريرى حتى فكرت أن أتركه لها إلى الأريكة التى فى الصالة. لو كنت زوجها لطلقتها دون تردد. ميزة الزواج أنه يحتمل الطلاق، لا أدرى ماذا أفعل الآن.
هى لا تطالبنى، أى شئ.
أى تجربة قذفتنى فيها يا غريب حتى تختبر آراءك. أوقعتنى فى المصيدة وأنا الثعلب المراوغ إلى الأبد.. ولكنى متأكد أنى لن أعدم حلا.
-3-
قالت لى ملكة مناع.
-… آراؤك كلها لصالح غرائزك.
– تخافين من رغبتك فى الحياة وفى الحب الطليق، مصهر الجنس هو الطريق إلى الحقيقة.
- غالى يقول إنى باردة.
- لم يعرف الطريق إلى مفاتيحك.
تعجبت من نفسى وأنى ما زلت قادرا على أن أقول نفس الكلمات بسهولة وثقة، غالى لم يعرف مفاتيح ملكة وهأنذا أحدد العيب وأعد اللمبات المحروقة، وأتهيأ لإصلاح هذا الجهاز الأنثوى حتى أسهل المهمة لغالى فيدير مفاتيحه بنجاح، فأين مفاتيحك يا صفية؟ مع أن جسدك هو رأس مالك ولابد أن مفاتيحه ظاهرة للأعمى.
ماذا تنوين أن تصنعى بى يا صفية بعد أن تعودت عليك؟، يشغلنى ليل نهار البحث عن وسيلة للتخلص منك دون أن تشعرى، شريطة أن أكون قد تهيأت تماما لهجرك النهائى.
لا أكاد أتصور ذلك فى الوقت الحالى، إلا أننى لن أعدم وسيلة.
* * *
- عادت “فؤادة” فجأة وكأن القدر أرسلها لتنقذنى من الدوران فى هذه الدوامة الجديدة.
- أهلا يا فؤادة جئت فى وقتك.
- أنهوا مهمة البعثة الصحفية قبل أوانها لأسباب مادية.
-… الحمد لله على الفقر.
- لا أدرك ماذا تعنى فقد كنت أتمنى أن أكمل مهمتى. كنت بدأت كتابة شئ مبشر، كانت رحلة صحفية لها كل مبررات النجاح.
- أتكلم عن أشياء شخصية، فأنا أحوج ما أكون إليك الآن.
- تتكلم عن الاحتياج يا مختار. أنت سيد الاستغناء. ماذا جرى لك.
- ظرف طارئ وسيمضى.
- تغيرت يا مختار أثناء غيابى فماذا جرى؟.
- قلت لك جئت فى وقتك وبكفى هذا الآن.
عادت علاقتى مع فؤادة أبو النصر المحررة فى مجلة الصباح أقوى مما كانت، كنت أتعمد أن تعد صفية لنا كل شئ,لم تتردد أو تضجر أو تتساءل أو ترفض بل أصبحت أكثر هدوءا واستقرارا بعد أن ابتعدت عنها. كنت أحسب أن عودة فؤادة، وانقطاع علاقتى بصفية سوف يساعدنى على التخلص منها فورا ولو بالطرد الوقح. لم يحدث شى من ذلك. ذكاء فؤاده لم يخطئ موقف صفية.
- صفية يا مختار.
- مالها؟.
- فى عينيها شئ غامض.
- إياك أن يجرى لعابك الصحفى على بيتى وخادمتى.
- فى كل مرة تقدم لى شرابا أو طعاما أكاد أقرأ فى وجهها نداء ما.
- لا أكتمك أنى قلق من ناحيتها فقد بدأت تتعلق بى بشكل مبالغ فيه.
- لا أخال الأمر بهذه البساطة.
- ماذا تريدين قوله يا فؤاده؟.
- أرجو أن تعرف ماذا تفعل يا مختار على وجه التحديد.
- لا أفهمك.
- أحسن.
- رجعنا إلى الجدل العنيد ولم تمض على عودتك بضعة أسابيع.
- كنت متأكدة منذ البداية أنك لن تحتمل أكثر من ذلك.
- علاقتنا حرة، وهذا يجعلها أقوى من أى عهود.
- ليس بيننا علاقة يا مختار، فلا تخدع نفسك.
-.. هل تذهبين يا فؤادة؟.
- لا أنتظر إذنك على كل حال.
ما هذا كله؟ ما الذى جرى لى هذه الأيام؟ النحس يحيط بى من كل جانب، ولكن الشياطين مجتمعة لا تستطيع أن تشككنى فى طريقى. لو ظللت أجتر الفشل بقية حياتى فلن أتراجع. لست وحدى الفاشل. كل من “بالمجموعة” حضروا هنا لأنهم فشلوا، لعل هذا وحده يرد على التساؤلات الحائرة بلا إجابة، لعلى أحضر “هنا” لأشارك الفاشلين فشلهم. مفاتيح صفية مغلقة منذ البداية. لم أكتشف ذلك إلا مؤخرا، وفؤادة تهم بالهجر، ولا أدرى متى تعود؟ نجوى شعبان أصبحت بعيدة المنال ويبدو أن علاقتها تتطور بإبراهيم بشكل محسوب. بسمة الطفلة العذبة تنظر إلى بشفقة وكأنها أكبر منى بخمسين عاما. حتى ملكة مناع صاحبة المبادئ التقدمية جدا تمارس مبادئها فى استعادة أرض زوجها بلا زيادة.
رقصت على السلم يا مختار يا ابن لطفى، لم تنجح فى استعمال الناس مثل أبيك، كمافشلت فى إغراء الناس بالكذب والمناورة، ثم ها أنت تعجز عن إثارة النساء أو إرضائهن حتى النهاية.
من أنت يا مختار؟ ولماذا؟.
لماذا تفشل نفسك قبل أن تبدأ كل مرة؟ هل هذا هو سبب مجيئك إلى هنا؟ لتبحث أسباب فشلك أم لتؤكده؟ والدى كان ناجحا على حساب أمى ولابد من أن أنتقم منه، تـرى هل يتم ذلك بأن أفشل. فيلحق به فشلى وكأنى أفشله هو فى قبره؟. حينما أحاول أن أحطمه لا أحطم إلا نفسى.
مادمت هنا بينهم والدنيا تضرب تقلب: لماذا لا أستغل الفرصة وأعلن فشلى أو أكسره، ما فائدة هذا التكرار السخيف؟ كل أسبوع.. كل أسبوع، ومع ذلك أصر على المجئ. إذا قررت أن أفعلها وأشارك فلمن أعلن هذه المصيبة؟ لشيخهم الخبيث أم لإبراهيم اللدود؟ أين أنت يا غريب؟ لم ذهبت وتركتنى بعد أن لعبت هذه اللعبة البشعة، هل أذهب إليك أسألك وألعنك وأرد لك الهدية بأحسن منها؟.
* * *
لابد من المحاولة، وها هى ذى المساعدة الذكية إصلاح فاضل. تلميذة مجتهدة ولكنها لا تعطينى إلا شعورا أمويا هادئا.
-.. أرجو أن تفهمينى يا إصلاح.
- أحاول طول الوقت يا مختار. صدقنى.
- مشكلتى أنى أعبد حريتى.
- لا تتحدث يا مختار عما لا تعرف.
- ماذا تقولين يا إصلاح؟.
- أقول إنك لا تعرف معنى الحرية ولا تحتمل عبئها.
- أنا؟ أنا أتحمل عبئها وحدى حتى كدت أتحطم من أجلها.
- الحرية بناء يا مختار.
- الحرية هى اللاحدود حتى النهاية.
- هذا هو الذى لا يتحقق إلا بالموت.
- لو كان الموت ثمنا لها لدفعتـه عن طيب خاطر.
- كفى خداعا.
- أنا ما كلمتك يا إصلاح إلا بعد أن لاحظت رفضك لتعليمات أستاذك وهو يحاول أن يثبت رجليك إلى أرض الواقع البشع.
- أنا أعارض أستاذى لأتعلم، أنت أيضا علمتى الكثير.
- أنا؟… علمتك؟.
- طبعا. علمتنى كيف يكون الهرب الجبان ادعاء بتحقيق المطلق.
- يبدو أنى خدعت فيك أنت الأخرى يا إصلاح، خدعتنى مناقشاتك مع أستاذك وحماسك المتناهى بلا حدود. هل تراجعت عن موقفك فى طلب المطلق.
- معك؟. نعم.
- ماذا تعنين، هل تغيرين مواقفك مثل الجوارب والأحذية حسب المناسبات.
-… أنا حرة. أليس كذلك؟.
- أشرب دائما من نفس الكأس. ما عليك. سوف أتفرج حتى النهاية حين يجرجرك هذا التراجع إلى قفص الزواج الفولاذى.
- حسبك… لن أنزلق أبدا خوفا منك أو منهم.. لا إلى الزواج التقليدى ولا إلى حريتك المزعومة.
-.. النصف الأول من رفضك هو الذى شجعنى على الحديث معك.. ولكن يبدو أن الأمر أصعب مما نتصور.
- صعوبة أى أمر لا تبرر الهرب منه تلقائيا.
- هل أفهم من ذلك أنك ستتزوجين يوما ما؟.
- ولم لا؟.
- خيبت أملى يا شيخة.. كلكن سواء حتى صفية.
- صفية؟. من صفية؟.
- إنسانة لا تعرفينها.
- إحساسى يقول إنى سمعت عنها من كمال.
- هل تعرفينها يا إصلاح؟.
- ربما.
- لعلك تقصدين من “غريب”؟.
- بل كمال، قابلها عند غريب وحدثنى عنها حتى خجلت من صدقها وبؤسها وهى تمارس حياتهاالعملية الشريفة، ونحن هنا نتبادل أحاديث الوجهاء. هل هى هى يا مختار؟.
- لعلها هى. شغلتنى فأنا لا أعرف لها حكاية مع كمال.
- كيف حالها، قل لى بربك كيف هى؟.
- بخير، ولعلها هى التى ألجأتنى إليك.
- هى؟.. كيف؟.
- قصة ليست للحكاية، مشكلة سوف أحلها بنفسى.
- حاول يا مختار، فلعلك تجد ما تريد حقا، أو تراجع نفسك منذ البداية.
حتى أنت يا إصلاح، حتى أنت تغرينى بمراجعة نفسى، ومنذ البداية؟.
أنت لا تعرفين متى كانت البداية ولا كيف، أحاول أن أتذكر فلا يخطر على بالى إلا جبروت والدى وخوف والدتى المستسلم، متى بدأت عبادتى لذاتى وحريتى؟ لا أكاد أتذكر إلا أنى اضطررت أن أكون حرا منذ كل العصور، أهملنى الجميع حتى أصبحت حرا جدا، أى اقتراب منى يذكرنى بالتهام والدى لوالدتى، أحس أن بداخلى كليهما معا.
ما ذنبى أنا يا خلق هوه.
-4-
- عندى صنف الليلة يا فؤادة سوف يرفعنا إلى السماء التاسعة.
- ذهابا وإيابا أم ذهابا فقط؟.
- المصيبة الكبرى فى الإياب.
- لا فائدة فيك يا مختار. أريد أن أبحث معك…..
- يا ساتر استر. خذى نفسين أولا وحافظى على الطافية ثم نبحث ماتشائين ولو حتى شئون أنجولا أو مشكلة عجول البحر على شواطئ النرويج.
………..
………..
تبحث ماذا هذه الصحفية محررة أوهام الناس، عدة أنفاس ويبدأ البحث الحقيقى. البحث لا يكون إلا فى الداخل ولا بد للسفر إلى الداخل من ركوب البراق، والبراق هو مطية الست المفضلة موديل 1974، سبسيال، وطائرات الفانتوم المستوردة من شارع الشواربى تسير بالطاقة الشمسية.
………..
………..
- أين ذهبت يا مختار؟.
- معكى على الخط يا صفية.
- لست صفية…أنا فؤداه.
- ” فؤداه صفية… صفية فؤاده.
تطور شوية,…حرية زيادة، حشيشة هنية.. والوحدة سعادة “.
- ما هذا التخريف الذى تقوله يا مختار. لم أعهدك هكذا أبدا مهما شربت.
- أتصنع الخبل لأقرض الشعر، لم يبق أمامى إلا أن أرسم وأكتب الموسيقى.
- لا تزودها يا مختار.
- هل تعرفين من هو أول من قرض الشعر حسب نظرية التطور لأبينا القسيس العنين تشارلس ابن داروين.
- ماذا تريد أن تقول…؟.
- اسألى كمال نعمان.
-اسأل من؟.
- كمال نعمان.
- كمال نعمان؟ ما هذا الخلط يا رجل هل تعرفه يا مختار؟ إنى من المعجبين به ولكنى أفتقد شعره هذه الأيام. هل هو فى رحلة فى الخارج؟.
- فى الخارج جدا يا ست الكل.
- كفى مزاحا، أنا أسأل جدا.
- أقول لك الحق كل الحق ولا شئ غير الحق: تعين كمال نعمان خارج الهيئة العامة لقرض الشعر، بوظيفة مريض ممتاز عند طبيب مجنون، ولا عزاء للسيدات.
- مختار… المسألة اليوم ليست مسألة سيجارة حشيش، إما أنك فعلا تتصنع أو أن عقلك اختل.
- الاثنان معا يا سيدتى، يا سيدتى: هل لك فى قدح من الجعة الباردة أيضا؟.
- يبدو أنى سأضطر للذهاب إذا أصررت على التمادى.
- صفية.. يا صفية هذه سيدتى الجميلة تصر على الذهاب قبل الزفاف، فهى ناشز وأشهدك على ذلك لزوم بيت الطاعة.
- لست زوجتك يا غبى، فكف عن أحلام والدك البشعة.
- بسيطة، أتزوجك فى التو، على شرط أن أتزوج صفية فى نفس اللحظة، آمن وأحدث طريقة للزواج منعا للتسمم والمضاعفات: إذا اضطررت لأخذ السم النسائى دواء فضاعف الجرعة تنجو، هذا ما جاء فى تذكرة دواود العصرى ابن خالة أيوب المصرى وزوج عمة أبو حيان البصرى.
-…… هذا فوق الطاقة.
- إنتظرى. والله إنى جاد، نحضر المأذون الآن ونكتب الكتاب جماعة، ندفع الربع، والباقى على سنة وربع.
- قلت لك إن فى الأمر شئ.
- عليك نور على نور، يهدى الله لنوره من يشاء، اسألى إبراهيم الطيب، إن فى الأمر شيئا، وشيئا إسم إن مؤخر، وأنا لن أكتب المؤخر لأنى سأطلقكما فى الصباح معا.
- ليست المسألة سيجارة حشيش وأقسم على ذلك.
- دعينى آخذ تعسيلة حتى يحضر المأوذن.
* * *
أفقت فى الصباح فوجدتنى ملقى على الأريكة فى الصالة كما أنا بملابس الأمس. أخذت أتبين ملامح الحجرة بصعوبة حتى ظهر وجه صفية وهى جالسة على الأرض بجوار رأسى. هززت رأسى واعتدلت فى جلستى سريعا وتذكرت كل شئ. كل شئ منذ هربى الأول. ظلت صفية صامتة هادئة، أحسست برغبة جارفة فى أن ألقى برأسى فى حجرها، فعلت، وانفجرت باكيا. لم تتحرك صفية وظلت ساهمة تفكر فى شئ ما.. رفعت رأسى فى إصرار جاد.
- هل تتزوجينى يا صفية؟.
- انتظر ياسى مختار حتى تكتمل إفاقتك.
- أنا لم أكن واعيا ولا يقظا مثلما أنا الآن، وإنى جاد فى عرضى الزواج منك.
- هذا فصل جديد فى حلقات معادة لدرجة الإملال.
- لن يتغير شئ من واقعنا فماذا تخشين.
- ما لزوم الزواج مادام لن يتغير شئ.
- إتماما للتجربة.
-أية تجربة؟ يا سيدى، خلها على الله.
- فى الواقع إنى أتساءل عن السبب الذى يمنعك أن تعطينى نفسك تماما.
- وهكذا هداك ذكاؤك إلى أنى أنتظر الإذن من المأذو ن؟ أليس كذلك؟ يا سيدى: أنا أعطيك جسدى حسب بنود الاتفاق الشفوى.
-.. غير صحيح أنت لا تعطيه تماما.
- لم ترد حكاية تماما ولا جدا فى أى بند بيننا فلا تفسد الاتفاق بتصورات سخيفة.
- أنا أعرف ما أقول.
- وهل الزواج سيجعلنى أعطيك جسدى وروحى ببصمة على ورقة؟ لا تنسى أنى لا أفك الخط.
- تصورت أن الزواج قد يعطيك أمانا أو يؤكد لك صدق عواطفى نحوك.
- صدق ماذا ياسى مختار؟ اسم الله عليك.
- ألا تصدقينى والدموع مازالت على خدى.
- يتبخر كل شئ بتبخرها، لا تنس أنى ابنة كار ولكنى فقط فى إجازة ولم أنس أصول اللعبة.
- أنا أعنى ما أقول يا صفية.
- تعنى أن تتزوجنى أنا؟.
- وماذا فى ذلك؟.
- وماذا تقول لأصدقائك؟.
- لن أقول شيئا، لست ملزما بقول شئ لأحد.
- زواج سرى؟.
- مجرد طمأنينة لك.
- أم لك؟.
- لا أنكر أنى أخشى اليوم الذى ستتركينى فيه. أريدك كاملة بلا نقصان. حتى فؤادة لم تملأ الفراغ الذى يتهددنى بعدك، لقد تعودت عليك.
- تعودت على ماذا؟ وأنت لا تعرفنى.
- دعينا من التفاصيل، هل تقبلينى زوجا.
-……. دعنى أفكر.
* * *
هل جننت حتى أعرض عليها الزواج دون مبرر؟ أى شئ ينقصنى؟ التحدى يكاد يقتلنى، لا أستطيع أن أنسى نظراتها الرافضة يوم فشلى. لابد وأن ألف حولها حتى تلين ثم أحس بحريتى وأتخذ قرارى النهائى. لا يخلو الأمر من فائدة. لعلها تقبل فأجد مبررا لطلاقها فى حينه، أو لعها ترفض فأجد مبررا للتخلص منها احتجاجا مثلا، مغامرة مجنونة لكن نهايتها فى يدى، وسوف تنهى هذا الموقف الفظيع على أى حال.
تمر الأيام ولا يبدو على صفية أنها تنوى الرد، حتى مجرد التفكير لا أحس أنه يشغلها وكأن الأمر لا يخصها.
رجعت فى تلك الليلة بعد جلسة علاجية حامية انفجر فيها عبد السميع إثر كلمة رفض عابرة من بسمة قنديل. آخر شخص كنت أتصور أنه يحمل أى طاقة من أى نوع، أذكر أنى خفت على نفسى خشية أن يقتربوا منى أكثر فأكتشف فى داخلى أى شئ آخر غير ما أعرف فأتفجر مثله دون علم منى.
رجعت ملهوفا إليها لعلها تحمينى منهم ومن أى احتمال آخر. هجومها على ورؤيتها لى أهون ألف مرة من هذه الفضيحة المحتملة. دخلت عليها فإذا بى أجدها نائمة كالملقاة على الأريكة فى الطرقة الموصلة إلى حجرة النوم. لونها شاحب لا يكاد يتميز من لون الوسادة البيضاء. عيناها غائرتان. صعقت من منظرها حتى كدت أتراجع خارجا.
ردت بصوت لا يكاد يسمع.
- يبدو أنى أكلت شيئا فاسدا.
- ماذا حدث؟ خبريني!!.
- لا شئ، ولكنى لم أستطيع أن أقوم لمسح باقى القئ وسوف أقوم بعد قليل.
- لا تكادين تقوين حتى على مجرد الكلام، هل أستدعى طبيبا؟.
- أرجوك، أنا بخير. عمر الشقى. فى الصباح كل شئ سيكون على ما يرام، إبعد عن هذه الرائحة الكريهة، واذهب أنت إلى حجرتك. فى الصباح سأوقظك كالمعتاد.
ذهبت إلى غرفتى جزعا خائفا أحاول أن أنسى وجودها أصلا. خيل إلى أن أى تدخل فى حالتها سوف يحرمها من اختيارها. شربت، شربت، شربت.. حتى يلطشنى النوم وأمضيت ليلة لم أستطع أن أميز فيها بين الحلم واليقظة. اختلط على صوت كالقئ مع زئير لبؤة فى القطب الشمالى.
استيقظت متأخرا وما كدت أخرج حتى وجدتها: ملقاه على وجهها فى الأرض وقد غرق كله فى القئ الأسود والأخضر العفن ويدها متقلصة على الخيشة. هززتها بعنف فتحرك جسدها باردا فى يدى وانقلبت على ظهرها وأنا فى حال.
ماذا حدث؟.
فعلتيها يا صفية بذكاء مجرم، وفى الوقت المناسب.
* * *
رجعت من مدافن الصدقة مع غريب بعد إجراءات معقدة، كاد البوليس أن يتخذ موقفا سخيفا لولا البطاقة التى وجدتها فى ثيابها مع عنوان غريب، تولى غريب باقى الإجراءات وأنا فى مذهول. لم يتعرف أحد على أهلها فمر الاستجواب بسلام إذ يبدو أن البوليس لا يهتم كثيرا بمن لا أهل له.. كنت أسير راجعا مطأطئ الرأس وغريب مازال يذرف الدموع فى صمت.
– مازلت محتارا يا غريب فيما حدث، حياتى تكاد تنقلب رأسا على عقب.
- كانت شجاعة فى حياتها، شجاعة فى موتها.
- يبدو أن هذه هى الحرية الوحيدة المتاحة، حرية الموت…
- من يدرى؟.
***
الفصل العاشر
عبد السلام المشد
-1-
أول ما فعلته فى المستشفى بعد أن انتشلونى من النيل أنى بدأت – بمحض إرادتى هذه المرة – أتعرف على الأشياء من جديد. كنت فى لحظة يأس قد قررت أن أنهى كل شئ. لكن يبدو أنه على أن أتحسس طريقى من جديد.
هذه يدى وتلك هى ملاءة السرير بين يدى أتعرف على نسيجها الدقيق. للنسيج خطوط متداخلة فى رقة وعناد. هذا لون أبيض، واللون الأبيض غير اللون الأخضر، الأول لون الملاءة والثانى لون البطانية، والفرق أساسى إن أردت أن أعيش. ترى كيف عشت طوال هذه السنوات أنام على ملاءة وأتغطى ببطانية دون أن أعرف لونهما أو نسيجهما أو حتى وجودهما أصلا، فضلا عن الفرق بينهما. هذه الرؤية االجديدة تذكرنى باليوم الأول للأزمة حين فوجئت بضرورة التعرف على اسمى من جديد. مازلت أذكر كيف بدأت أميز درجات اللون الأخضر واختلافها. خضار لون الحشيش غير لون إشارة المرور غير لون أرقام عربات الدبلوماسيين. ثمة فرق جوهرى بين تلك التجربة وبين ما أنا فيه اليوم رغم اتفاق الظاهر. كانت التجربة فى أول الأمر مفاجأة مرعبة. الآن، أنا أتحسس طريقى بوعى كامل وإصرار على أن أعيش. فى أول مرة كان الوجود يصفعنى بلا هوادة ولا استئذان. الآن: أنا الذى أقتحمه بلا خوف أو تردد. كنت أفاجأ بالأشياء غريبة على، وكأن المفروض ألا أراها. الآن: أحس أن ما أفعله هو أبسط وألزم قواعد الحياة. كيف يمكن أن يعيش إنسان بأى درجة يستحق معها أن يسمى حيا وهو غير دار بالأشياء مـن حوله. ما كنت أعتبره غريبا شاذا حتى أسميته مرضا أعيشه اليوم وكأنه الحقيقة الوحيدة الممكنة.
دقت الساعة فى ردهة المستشفى فأخذت أستمع لدقاتها كأروع نغم موسيقى سمعته فى حياتى، بـعـد جديد دخل فى حياتى اسمه: الزمن. أدركت لتوى أن بين كل دقة ودقة شئ اسمه الوقت، وأنه أثناء هذا الوقت تدخل أنفاسى وتخرج وتنبض عروقى وتتتابع أفكارى فتتغير الأشياء من حولى. إذا صح أن أى واحد يمكن أن يعيش دون أن يتعرف عل الأشياء من حوله فكيف يفعل ذلك بلا وقت يمضى. حين تتوقف حركة الوقت تتوقف حركة الحياة مهما أصدرنا من أصوات وأفرغنا من قاذورات، أريد أن أعمق الفرق بين ما أنا فيه الآن من مشاعر وبين ما كنت فيه أول الأزمة، أفكر الآن بثقة وإصرار فيما سبق أن مر على خاطرى وأنا فى عز الدوامة، ترى ما هو الفرق؟ التجربة الأولى كانت مفاجأة مرعبة حاولت أن أهرب منها إلى كل مكان. أما الآن فهى إرادة واعية يبدو أنى لا أستطيع أن أعيش إلا بها. هل ينبغى أن يموت الإنسان فعلا حتى يبعث من جديد؟ هل حصلت على سر الحياة من ماء النيل العظيم؟ هل قابلت عروسه فى أعماقه فأفشت لى السر الذى كانوا يتخلصون منه معها كل عام حتى لا تفشيه؟ هل تخرج الحياة من الموت بهذه البساطة؟.
الذى تأكدت منه هو أن إرادة الحياة قد استيقظت فى ولا سبيل إلى إخمادها ثانية أبدا. وجوه الممرضات لها معالم ثابتة وواضحة وسمحة وطيبة، حتى صراخهم الحاد وغضبهم وسبابهم يؤكد وجودهم، أخلق معالمهم من جديد وأتذكر صرافة البنك قبيل انفجار الأزمة حين كانت بلا معالم أصلا ولا لون ولا طعم ولا رائحة، حين احترت أن أميز بين وجهها وقفاها، تصورت أنى لو ذهبت اليوم إليها ووجدتها هى هى فسوف أرى ملامحها خلية خلية تنبض من جديد، سوف أتعبد فى تقاطيع وجهها وأعيد تنظيمها رائعة متحدية، سوف أتصنت على أنفاسها وأسمع فى كل نفس صرخة انتصار على الموت، أعاهد نفسى أن أزورها فور خروجى من المستشفى.
أحاول أن أتعرف على نفسى كما حاولت أن أتعرف على ما حولى… أنا عبد السلام المشد، لم أمت، ولكنى لم أحى بعد، استحالة أن ترجع الحياة كما كانت، فلا أنا أستطيع، ولا هو ممكن، والأمام مجهول تماما، أراه أحيانا صفحة بيضاء ساكنة سكون الموت الجديد، وأراه أحيانا دنيا صاخبة تضرب تقلب بلا أول ولا آخر.
منذ وقعت الواقعة وأنا فى دوامة لم ينشلنى منها إلا اكتشافى أنى لابد وأن أمشى على الصراط بعد أن غلبنى الدوران حول نفسى. لم أعد أطيق لفة واحدة زيادة. ليكن الصراط شعرة أو علاجا أو صحراء بلا ماء ولا خضرة ولكنه أفضل من الدوران حول نفسى إلى ما لا نهاية وأنا أنسحب إلى قاع بلا قرار. لم أعد أستطيع أن أنسى الرؤية التى رأيتها فى تلك الأيام. كانت حادة وبسيطة. هى لا تنسى. أفكر فى غريب كثيرا وأتساءل كيف نجح أن ينسحب. أفكر أحيانا فى زيارته لأعرفه من جديدا ولأعلم كيف أغمض عينيه بعد ما رأى وكيف نسى. الأمر الذى يريحنى من هذا التساؤل هو أن أرجح أنه لم ير أصلا. عجزت عن إعلان فشلى حتى بالموت، اخترته فى يوم بائس وأنا أتصور المؤامرة وهى تحاك بالبلد كلها بل بى شخصيا. لم أنتظر، لم أستطع أن أنتظر عارا آخر وكذبا آخر، تعجلت وفعلتها لكن الحياة انتشلتنى على الشاطئ الآخر.
شاطئ مجهول، كل ما أعلم عنه أنه شاطئ “آخر”. انتشلونى من جوف النيل العظيم لأواجه حقيقة جبنى وهربى ولأجد العالم فى حالة فض اشتباك، لا سبيل أمامى إلا المشى على شعرة، إما أن أصل إلى النور المجهول أو يأذن فى أمرى أحد سواى. لا الدوامة أحتمل لفها ولا ثانية أخرى، ولا الفشل أستطيع إعلانه أو ادعاءه، ولا العمى سوف ينسينى الرؤية.إما حياة على أرض هذا الواقع الملئ بالعرق والدم والتراب والغباء والمحاولات من كل جانب وكل أحد، وإما عذاب المشى على الشعرة إلى المجهول. لست أملك بعد النفخ فى الصور إلا مواجهة مصيرى. لا أمل فى رجعة، ولا احتمال لوقفه، ولا إمكان حتى لسخرية تخفف من بشاعة الرؤية.
يداعبنى أمل من بعيد: أن الإنسان إنما خلق ليعيش.
* * *
- سمحوا لك بالزيارة اليوم يا أستاذ عبد السلام.
- شكرا، وإن كان لا ينقصنى شئ البتة. أنا أشعر أنى بين أهلى تماما.
- زوجتك سيدة طيبة، تنتظر هذه اللحظة منذ الحادثة، الحمد لله على سلامتك.
- شكرا.
زوجتى؟ لابد أن أعيد التعرف على نسيج هذه الكلمة مثلما أعدت التعرف على نسيج ملاءة السرير ولون البطانية ونفسى، أعيد التعرف عليها بنفس الهدوء وبكامل اختيارى ووعيى، ز.. و.. ج.. ت.. ى.. يبدو أن هذه الكلمة تعنى أمورا كثيرة معا، أمورا معقدة وربما متناقضة. يبدو أن من أوجب مهامى وأصعبها هو أن أحل رموزها بإصرار مثابر.
أذكر بوضوح أن لى زوجة اسمها فردوس الطبلاوى. من أنت يا فردوس وكيف اكتسبت هذه الصفة؟ ما معنى هذه الصفة، وكيف اكتسبت أنا بدورى صفة زوجك. طوال الأزمة وأنا أخشى الاقتراب منك حتى عجزت تماما بعد موت أمى وكان ما كان. الآن، أنا لا أستطيع الابتعاد عنك ما دمت أقترب من كل شئ.. بلا استثناء، كـتـب الموت على أن أحيا. هأنذا أحاول التعرف من جديد على كل الأشياء، وكل الناس، وعلى الزمن، وعلى نفسى. على كل أطراف معادلة الحياة البسيطة، ولكنى أجدك أصعب هذه الأمور جميعا. من أنت يا فردوس؟ كم أنت؟ هل أنت أمل الخطوبة؟ أو سيدة التسليم المطبخى؟ أو علاقة يأس المستقبل؟ من أنت يا فردوس؟ حلمت فى نوبة فرحتى بالجديد أن أبدا مع واحدة أخرى، ولكنى تيقنت أنى سأمر معها بنفس أطوار الخداع، وأن واقعى هو إلهى وهو مصيرى وهو التحدى الحقيقى وهو اختيارى الأصعب، ترى هل أستطيع؟ وحتى إذا لم أستطع فليس أمامى إلا أن أستطيع.
- حمدا لله على السلامة يا عبد السلام.
- الله يسلمك يا فردوس كيف حال الأولاد.
- بخير ويسألون عنك.
-…..
-…..
- لماذا فعلت ذلك بنفسك يا عبد السلام.
(كل الحسابات تتداخل حتى تكاد تختفى تماما).
- قدر ولطف يا فردوس..
-..
-..
فى لحظة تسطع الشمس فتضئ الكون جميعه حتى أحسب أنه لا ظلام، ثم تأتى سحابة قاتمة تافهة فتخفى ضياءها بلا استئذان، كيف تستطيع مجموعة قطرات الماء المحملة ببقايا التراب أن تقف أمام شمس جبارة تغمر العالم بالدفء والضياء؟ هذه هى الحقيقة التى كنت قد بدأت فى التعرف عليها كالشمس المضيئة. ثم ها هى ذى كل حساباتى تذهب هباء بحضورك يا فردوس. يبدو أنه أسهل على أن أتعرف على نسيج الملاءة ولون البطانية وحتى طبيعة خشب القبقاب من أن أتعرف عليك يا فردوس. تاريخنا قديم وطبقات الجرانيت والصلب والفحم والنفط والكذب والنفاق والجنس والمجاملات تحول بينى وبينك، كنت أحسب أنى تخلصت نهائيا من هذه المشاعر التى تجعل الخيط يفلت منى قبل أن أهم بالإمساك به. لماذا هذا معك أنت بالذات؟ مم يتكون نسيجك؟ هل لك نسيج أصلا أو لون أو تمييز؟ منذ لحظات كنت أزهو بقدراتى عـلـى إعادة خلق الملامح من جديد فلماذا فشلت معك؟ أنا أواجهك كواقعى الأول حيث لا مجال لمحاولة الهرب، ماذا تصنعين؟ مم تتكونين؟ فيم تفكرين؟ من أنا بالنسبة لك؟ كيف نواصل حوارا ما؟ أى حوار؟ ونحن لم نتعرف على بعضنا البعض أصلا.
- مازلت تسرح بعيدا حتى بعد ما حدث الذى حدث؟ ألم تشبع سرحانا ياعبد السلام حتى تفيق وتعود إلى أولادنا وبيتنا كما كنا.
- كنا؟ نحن لم “نكن” يا فردوس.
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، تعود تتكلم مثل زمان وكأن الذى حدث لم يحدث. هذا الكلام الفارغ هو أصل المصيبة كلها، أما كفاك ما كان؟ قلبى يحدثنى أنه لو استمر الحال على هذا المنوال فإن مصيبة أكبر تنتظرنا.
انفتح البركان وأخذ يقذف بالحمم دون حساب حتى اختفى كل شئ وراء أفق مجهول، الانسحاب مثل التقدم، لا فائدة على المدى القريب، فلنوقف إطلاق النار. اعتداء من جانب واحد وأنا أعزل.
- لا تنسى يا فردوس أنى أسترد وعيى بالتدريج فلا تتعجلى الأمور.
- قلبى عليك، وعلى مستقبل الأولاد.
- أعدك أنى سأحاول.
ماذا سأحاول بالضبط وكيف؟ قضيت يومين وأنا أحاول حتى خيل إلى أن الطريق ممهد، وأن الرؤية واضحة وأن العالم موجود من حولى لأنى موجود بداخله. حتى واجهت امتحان القبول فى مدرسة الواقع الحقيقى، فإذا بى في” وهم على وهم”.
- ماذا ستحاول ثانية يا عبد السلام، كفى محاولات. لماذا لا تعيش مثلنا، يا أخى؟ كن مثل الناس. ألم تشبع؟.
- ياليت يا فردوس، يا ليت.
- ومذا يمنع يا عبد السلام؟.
- يمنعنى الشديد القوى.
- نفعل أى شئ حتى تعيش مثلما يعيش الناس.
وهل هم يعيشون يا فردوس، يا ليت يا فردوس يا ليت، ماذا أقول لك الآن وكيف أنهى هذا النقاش؟ كل ما فتح الله به على أنى قلت:
- وهو كذلك.
- نذهب لمن يعرفون، نغير العتب، نفك العمل، أى شئ إلا أن يستمر الحال هكذا بعد ما حدث الذى حدث.
- ألم تتعلمى من حكاية فشلنا مع المرأة السودانية بأن هذا الطريق لا جدوى منه.
- هناك من هو خير منها، من يعرف أكثر منها.
- وثقافتك، وليسانسك، ودراستك للتاريخ حتى أحببته، وآمال الخطبة، وتحدى النسيان، والسرقة، والتسليم. مازلت يا فردوس، كما أنت. كنت أحسب أنك تغيرت وعرفت سر الحياة مثلما تصورت أنى عرفته. كنت أحسب أن تجربة الموت سوف تبلغك نفس الرسالة التى بلغتنى. يبدو أنك قد توقفت منذ زمن بعيد. لن أقدر عليك وحدى يا فردوس ولو أوتيت سحر هارون وقوة هرقل وحكمة سليمان. كل حل بعيدا عنك متجاهلا وجودك هو حل زائف منذ البداية. إما الواقع كله. وأنت صرة الواقع، وإما إعلان الكذب والبحث عن المسكنات أينما كانت وياليتها تفيد. يخطر على بالى أنى إنما أحاول المستحيل حين أصر على أن تكون زوجتى هى هى خطيبتى، لم يعد يملأنى اليقين أنها ستفشل أو أنى سأفشل معها. الحفاظ على أمل غبى هو أروع الألم، لا أستطيع أن أبرر توقفى عن المحاولة. سوف أخوض الدنيا بالعرض، ليكن ما يكون وأكثر. كل ما أستطيعه الآن هو أن أبحث عن معين.
أين أنت يا إبراهيم يا طيب. لوأنى أعرف عنوانك لذهبت إليك أسألك النصيحة والعون. مازلت أذكر كلماتك الواعدة أكثر من أى كلمات أخرى. قابلتك فى عيادة طبيب فهل لا بد أن ألقاك هناك دائما، لماذا يحتاج لقاء اثنين إلى ثالث؟ ما الذى يحدث عندما ينفرد اثنان ببعضهما البعض؟ كيف يسيل لعاب كل منهما لالتهام الآخر فى غفلة من الناس؟ كيف أوثق علاقتى بزوجتى دونك يا إبراهيم، وكيف أوثق علاقتى بك دون طبيب؟ لابد أن فى العلاقات الثنائية سرا معطلا لا أفهمه.
- ليس أمامى يا فردوس إلا استكمال العلاج
-… أى شئ… أى شئ… أوافق على أى شئ يساعد فى أن ينتهى السرحان، وأن تتوقف عن كلامك الغامض الذى لا يفهمه أحد.
- ومن أدراك، لعلك تضطرين إلى فهمه يوما.
- أنا أفهمها وهى طائرة. أنت الذى تعقد الأمور.
- ليكن.
- ربنا أرجعك لى ولأولادك بالسلامة.
- لا توجد إصابات ويبدو أنى سأخرج فى خلال يوم أو اثنين.
- ربنا يجعلها بداية خير.
- كريم..
-3-
الظاهر أنه لابد من المواجهة الشاملة. لا مفر من المحاولة حتى النهاية. ذهبت إليه وعندى أمل غامض أن ألقى ابراهيم عنده أكثر من حرصى على لقائه.
طلب منى الطبيب أن أحدد موقفى من زوجتى أولا. كان خبيثا وهو يتظاهر بإعطائى حق الإختيار فقد أفهمنى أن أى تقدم لا يمكن أن يتم على حساب “آخر” مجهول له. وعلى زوجتى بدورها أن ترى ثم تختار، خاصة – على حد قوله – وأن الأعراض شملت علاقتنا من كل جانب. جزعت من احتمال حضورها ولكن أملا استيقظ فى داخلى يلوح باحتمال أن أعيد التعرف عليها من خلاله ما دمنا قد عجزنا عن ذلك وحدنا. جزعى أكبر من أملى. هو خوفى القديم خوفى منها على وجه التحديد. سوف أعرض عليها الحضور ويا ويحى لو رفضت.. ويا ويحى لو قبلت، لا أنسى أنى أنا الذى أغريتها بالبقاء فى البيت دون عمل بعد أن حصلت على الليسانس، كنت أخشى أن تتغير من خلاله عملها بعيدا عن حساباتى وهأنذا أدعوها بنفسى لأكبر مخاطرة للتغير.
لم يعد أمامى اختيار. أقولها للمرة المائة، واللعبة تستدرجنى خطوة خطوة… متطلبات “الحياة” تزداد تعقيدا وصعوبة، واحتمال الموت اختيارا يختفى تماما.
- مالى أنا بكل هذا يا عبد السلام؟ الله يهديك.
- هذا هو رأيه، وهذه مهنته. هو يعرف الصالح أكثر منى ومنك.
- نحن بخير يا عبد السلام وكفى جريا وراء الأوهام.
- لست بخير يا فردوس.
- وما الذى يمنعك أن تكون بخير؟.
- أنت.
- أنا؟.
- لا أقصد أنت أنت؟ ولكن أى “أنت”؟.
- الله!.. الله!! رجعنا للخلط من جديد؟.
- آسف… ولكن…، آسف.
نعم أى أنت. فإذا كان لى أن أعيش فعلا فلا يمكن أن ينغلق العالم وراء حدودى أنا. لابد من “أنت”. هذه هى المغامرة الكبرى. حين تزوجتك يا فردوس كان عندى أمل فى أن تكون حياتنا هى هذه المغامرة، وأن ننجح فى تنفيذها. ها نحن نواجهها بعد أن حسبناها دفنت فى أعماق الخوف والموات. نحن نعود إلى نفس المغامرة ربما بأمل أوضح. ربما فى يأس أمر. هل ضاعت هذه السنوات هباء؟ أو أنها كانت استعداد للممكن “بالرغم منا”؟ دعينا نبدأ ثانيا يا فردوس لنرى ماذا هناك. إصرارك على المقاومة ييئس الأنبياء ويحيى فى مشاعر خبيثة تعفينى من بذل الجهد باعتبار أنك لن تتغيرى فأستسلم اطمئنانا. هل أستطيع أن أقترب منك وقد سبق أن أعلنت أعضائى العصيان لأى أوامر كاذبة مسكنة. هل أطلقك وأبدا من جديد مع أمل جديد؟ ماذا لو اكتشفت خيبة أملى فى الجديد بعد عشر سنوات أخرى؟ أكون ساعتها قد فقدت كل مقومات صراعى. هل أستسلم حينذاك انتظر صدقات العطف والتمريض؟.
حين أفقت من غيبوبة الغرق وبدأت أتعرف على الأشياء والناس من أول لون ملاءة السرير حتى الشغالة تنظف الأرضية، خيل إلى فجأة أنى إنسان آخر، ربما تصلح له كلمة لها رنين خاص، إنسان “حضاري” مثلا. نعم هذه هى الكلمة. لست أفهم معناها تماما بقدر ما أشعر بها. لم أعد أنا عبد السلام المختبئ فى حضن عماه المستسلم لمصيره، انتهى كل ماض لى بلا إستئذان. سوف أعمل شيئا باقيا قبل أن أموت وليكن هذا الشئ هو “الحضارة” ذاتها حتى لو لم يكن كذلك. سوف أعتبر أن الحضارة هى أن أمضى أربعا وعشرين ساعة واعيا عاملا متفاعلا. أنا “الحضارة”….!! يا حلاوة لابد أن أسجل نفسى، هذه فائدة الكتابة، سيأتى أحدهم بعد سنة أو مائة ليقول أن شخصا كان اسمه عبد السلام المشد كان إنسانا حضاريا. هل قبضت أثنا ءتجربة الموت قبضة من قاع النيل أصل الحضارة؟ لعلى بلعت بعض الطمى المشع بالحضارة فلبسنى هذا الوصف الجديد. خيل إلى أن مجرد بقائى على هذه الأرض بهذا الشكل الجديد خليق بأن يغير السياسة، ويعدل الاقتصاد، ويحدد مسار التاريخ. إذا كان ذلك كذلك فأنا مساهم لا محالة فى صنع نفسى. يعنى بلدى، يعنى الإنسان فى أى مكان فى الأرض. أنا لا أحلم ولا أتمنى. بدت الأمور بسيطة فى شكلها وتتابعها وكأنها نسيج متماسك مثل نسيج تلك الملاءة البيضاء. حين هممت أن أقوم من السرير لأول مرة ذاهبا لقضاء حاجتى وسألتنى الممرضة إلى أين أنت ذاهب ابتسمت. لم تدرك الممرضة أنى ساعتها كنت أهم بالقول “إن هذا أيضا فعل حضاري”، وكأن أى عمل أقوم به بهذا الوعى الحاد كان من ضمن رحلتى الجديدة مع الناس والأشياء. هأنذا – أنا، شخصيا- أصنع التاريخ!!! لو ناقشنى مائة متبحر فى سخف يقينى هذا، لأقنعتهم. كنت مستوعبا تماما أن الحضارة ليست نتاج الرفاهية ووفرة الوقت، ولا هى عناد فنان أو تقشف فليسوف. إنها أنا الذى هو كل هذا معا. الفنان أو الفيلسوف أو العالم إنما يسجلانى “أنا” لمن لا يستطيع أن يكون أنا.. الله أكبر!! يا حلاوة… أنا عبد السلام الحضاري!!!! جنون جديد؟ أبدا، هذا عكس الجنون تماما.
كيف انتهى هذا اليقين العام الممتد إلى مشكلة فرعية تشغلنى ليل نهار: كيف أعيش مع زوجتى، وكيف تتغير أو أتغير، حتى نتفاهم ونتواصل؟ هذا هو مربط الفرس وحتى ولو كان الاسم هو”الحضارة العلاجية الطبية الزوجية الحديثة”.
هل أنا صادق فى المحاولة؟.
لست واثقا.
* * *
بعد ضغط وإصرار ابتدأت فردوس تألف المكان والأشخاص. نظراتها إلى بسمة تعيد إلى صورتها الوديعة المحببة أيام الخطبة. تحاول أن تتبادل الحديث مع كل من بالمجموعة حتى خيل إلى أنها تستكشف الطريق أولا. سرعان ما ألفته وأصبحت تنطلق دون تردد أو استئذان. سمعتها تبادل ملكة الحديث – ربما بصفة أنها الوحيدة التى تحضر مع زوجها مثلها. كانت تحاول أن تثنيها عن الحضور دون جدوى وملكة تبادلها الخوف والاحتقار لما يجرى سرا وعلانية. ألاحظ محاولتها وتغيرها دون تدخل، ولكنى أشعر أكثر فأكثر بالخوف والأمل معا. أشياء كثيرة تستيقظ فيها تلوح لى بإمكان الحياة معها كما تصورت يوما ولكنى أحس بالتهديد حين توجه الهبات الجديدة إلى غيرى. سوف أواصل المحاولة ولو كانت هى الدمار ذاته. لابد لمن هو “أنا” مـن “أنت”، إفهمينى يا فردوس لأنك أقرب “أنت” إلى. لا يخفى عنك اهتزازى إزاء نشاطك الجديد، وأنت تريدين استغلال هذا الاهتزاز للنهاية. ربما يضطرنى خوفى إلى الرضوخ والتوقف.
-…
- أنا فى إنتظارك يا فردوس من زمن بعيد.
- لا أظن يا عبد السلام، أنا انتظرت طويلا، وأخشى عليك من انطلاقى.
-.. بماذا تهددينى يا فردوس؟.
- لن تحتمل لو تخطيت حدودك، أو الحدود التى رسمتها لى.
- يجوز.
- شئ يتحرك فى يا عبد السلام، فهل أستمر؟ وهل تتحمل نتائجه؟.
- كل واحد مسؤول عما يفعله.
هل أنا صادق فيما أقول؟ أراها تسرع الخطى لا أدرى إلى أين على وجه التحديد، مسؤول؟ ما معنى مسؤول؟ أعود أواصل بحثى لمعرفة معنى كل شئ من جديد. وجودها بين المجموعة ومفاجآتها تربك خططى. هى إما مهاجمة لى تهددنى فتنصحنى بالتراجع، وإما منطلقة ألهث وراءها لأعرف إلى أين تذهب فى عدوها الفجائى. كثيرا ما لا أستطيع تحديد وجهتها أو اللحاق بها. يملكنى الرعب. نظراتها إلى إبراهيم تحمل الكثير، ولكنى أثق فى إبراهيم.
- ليكن ما يكون… ماذا أصنع؟.
- هب أنى اكتشفت من خلال كل هذا أنى لا أحبك يا عبد السلام؟.
-… قسمتى.
- استسلام مائع.
- يملأنى كلامك جزعا.. وليس أمامى بديل.
أبحث فى الخفاء عن طريق سرى للتراجع فلا أجد على مدى بصرى حتى السراب، نار الضياع وسرعة الدوامة ينتظرانى حيثما التفت بعيدا عن هذا الذى يجرى، وحين أفترض أن الطريق الوحيد الباقى لى قد ينتهى إلى لا شئ، أو حتى إلى خدعة أنا مساهم فى صنعها، يظهر لى شبح الموت من جديد. أبعده بعنف وأجدنى مندفعا إلى الحياة..، سوف أفعلها حتى ولو لم يبق سواى. أنا أحترم هذ الإبراهيم وأحبه.
- الألفاظ لا تسعفنى يا إبراهيم فهل تعرف ما بى؟.
- أعتقد أنى أعرف ما بى، وأظن أن هذا يجعلنى أتعرف على ما تريد.
- لسنا متشابهين.
- أليست هى فى النهاية قضية واحدة؟.
- فردوس هى المشكلة، وعلاقتى بها امتحان يومى عسير. أحيانا أقول لنفسى إنى لو كنت خاليا مثلك لهان الأمر.
- ومن قال لك إنى خال.
- خيل إلى ذلك.
- خدعة الوحدة توحى بالاتزان الظاهرى. أنا مصر على كسرها رغم فشلى.
- حتى الفشل أفضل مما أنا فيه، صعوبتى معها متناهية. كل يوم هى فى شأن.
- الصعوبة موجودة مع أى آخر. لو صدقت فى محاولة الاقتراب لوجدتها هى صعوبة أى واحد مع أى واحد.
- أنت أذكى من أن تختزلنى هكذا إلى “أى واحد”. كثيرا ما يرعبنى تبسيطك الزائد للأمور.
- محاولة الاقتراب بجد هى مخاطرة حقيقية.
- لا سبيل غير ذلك وأنت خير من يعلم.
- أنت قصرت محاولتك عليها تماما.
- زوجتى… وأم أولادى.
-لهذا كانت أصعب من كل آخر.
- أخشى أى ابتعاد مرحلى فيلتقطها جائع نذل.
- حدث؟.
- ماذا حدث.
- دفعتها بنفسى إلى التمرغ فى الوحل.
- دفعت من؟ فردوس؟.
- لا… زوجتى….
- أنت متزوج إذن! وزوجتك؟ لماذا لا تحضر معنا؟ أين هى يا أبو خليل؟.
- قلت لك فى الوحل.
- وحــل؟؟.
- نعم… وحل؟ هى فى حضن أدنأ الرجال بلا أى أمل فى أن ترى ما تفعل.
- وأنت..؟ وهى..؟ زوجتك؟ هل مازالت زوجتك؟.
- نعم. أدفع الثمن صاغرا، أنا مسؤول أيضا، وربما قبلا، عن أى خطأ.
- أى خطأ.
- ماذا جرى لك يا عبد السلام؟ ألم تقل لتوك أنك تخشى الابتعاد عن فردوس فيلتقطها أى جائع نذل.
- وهل حدث لك ذلك؟.
- بالضبط.. لم نحتمل الانتظار، ولم أنتبه لضرورة المحاولة، فذهبت تبحث عـمن “يفهمها”، ومازالت فى بحث متصل.
- وأنت… تفهم الجميع هنا.. ولا تفهمها.
- هى تريدنى أن أفهمها كما تريد هى.
- ألا يوجد سبيل لأن تأتى بها هنا.
- لا سبيل إلا إذا جئت بعشاقها معها.
إبراهيم يا طيب، إذن هذا هو ما وراءك أيها الإنسان المتزن الهادئ. هذا هو سر حكمتك ياابراهيم. ماذا سوف تفعل إذن يا أخى ورفيق رعبى؟ هل كتب علينا أن نكذب عليهن حتى يرضين؟ أو أن نصبح قوادين سرا أو علانية؟ لا تكاد تفتح أحداهن عينيها حتى تبحث عن طريقة خاصة تبرر بها اعتمادها الجديد، وتعلن أنها إنما تبحث عن لغة للتفاهم، والاستماع لمن يقدر مواهبها الغائبة عن فراش زوجها الغبى. كيف تحتمل هذا الجرح المتقيح يا أبو خليل.
- لماذا لم تطلقها حتى الآن يا أخى؟.
- أدفع الثمن وأنتظر معجزة.
- أية معجزة؟.
- أن أفعلها دون حقد أو اصطناع بطولة، أو..أو لعلها تعود ونحاول من جديد.
مصيبة سوداء هذا الذى يجرى، كيف يمكن أن نبتعد دون خيانة؟ كيف يتحمل اثنان معا وعورة الطريق “معا”؟ كيف أبتعد عنها “لها”، واقترب منها “لنا”؟ ما الضمان وقد أرسلت مراسيلها إلى كل من يهمه الأمر؟ نظرات مختار لطفى لا تخفى على، ولولا أنها اختارت إبراهيم فى أول جولة لكان رعبى هو الجنون ذاته. هل أطلقها من الأول حتى أرتاح وأدعها تختار؟ تختار من؟ وكيف؟ ولماذا؟ هل أستمر بقية حياتى أفكر فيها، وفى احتمال خيانتها، وكيفية تغيرها، والحرص فى البعد عنها، واليقظة فى الاقتراب منها؟ يا حلاوة!! “والحضارة” التى هى أنا، هل نؤجل قضيتها انتظارا لشفاء ست الحسن والجمال؟ ما هذه الكلمة الجديدة التى دخلت قاموسى اليومى: “الحضارة” هل هى مهرب أو مطلب؟ ماذا قلت لها يا إبرهيم وماذا قالت لك، هل أنت كما أعتقد؟ أم أن جرحك قد يبرر لك لعبة جانبية لا تعرف أبعادها؟.
- الحمد لله أن فردوس طرقت بابك أولا يا ابراهيم.. قبل.. قبل مختار مثلا.
- ماذا تعنى؟.
- أتقزز منه يا ابراهيم، لعابه يسيل دون تمييز.
- حلمك يا أخى، مصيبته أكبر منى ومنك.
- وخطره أكبر كذلك.
-خطره أكبر على من يريد التعرض لخطره.
- الأطفال جوعى لقطرة عطف حتى ولو كانت مسمومة.
- الخوف والتبرير ليس لهما مكان.
-… النساء لا يحتملن الحرية والانتظار.
- والرجال ليسوا أكثر صبرا أو حكمة.
- حكمتك ورؤيتك تذهلانى. أتعجب كيف انزلقت امرأتك وأنت بهذه الحكمة.
- تعلمت الحكمة منها… من فشلى معها.. ومن فساد الكلمات، إما أن تصبح الكلمة واقعا أو أن نكف عن ترديدها.
-4-
وبعد يا فردوس؟ إلى متى تتلكئين وتقاومين وأنا ألهث وراء تقلباتك وكل حياتى معطـلة إلا من حكايتك، أملى يتزايد وإصرارى يتحدى ولا سبيل إلا هذا السبيل مهما طالت مناوراتك، إعقلى يا فردوس ووفرى الوقت لنا. ألاحظ أنك بدأت فى إدراك أن فرصتك أكبر وأن أمانتى معك هى نوع من الإرتباط أقوى من الكذب والنفاق والإستغلال.
-…
- فلتكن أيامنا مليئة بالحياة.. مازلت انتظرك يا فردوس.
- كلام غير مفهوم كالعادة، لكن ثم اختلاف. أشعر وكأنه يطرحنى أرضا..
وقد كان. كان فى تلك اليلة، طرحت مقاومتها أرضا، أشرقت شمسها حتى غمرنى دفؤها فسبحت فى ضيائها. تمنيت الموت خوفا من اللحظة التالية، المفاجأة أكبر من تصوراتى وحساباتى، لا يمكن أن يكذب الجسد يا فردوس، ها نحن نقترب. ليست خدعة من صنف جديد.أنا متأكد. ليس تماما. أريد أن يتوقف الزمن حتى لا أفاجأ بما بعد هذه اللحظة، يهددنى أى احتمال آخر.
أنظر إلى الباب وكأنه عالم غريب على. أخشى قدوم أى طارق يثبت لى أن هذا الذى حدث غير قابل للاستمرار.
* * *
تحققت مخاوفى تدريجيا. لا يمكن أن يكون هذا هو نهاية المطاف. لحظات اللذة الغامرة كلها صدق ومع ذلك فهناك نقص ما، نقص جسيم لا أدرك حقيقة أبعاده.
- أليس هذا هو نهاية المطاف يا عبد السلام؟.
- بل ربما بدايته إن استطعنا.
- لست أفهم ما تعنى.
- قلبى غير مطمئن.
- إذهب أنت، وسأنتظرك لأجعل من بيتنا الجنة نفسها.
- فى هذه الجنة خطأ ما… ولابد من الاستمرار
- ماذا تريد منى بعد ذلك، أو أكثر من ذلك؟.
- أين أنت؟ أكاد لا أرك على بعضك. كأن داخلك الرائع قد انقلب إلى الخارج جميعه فلم يعد هناك داخل. ليس للإنسان كيان إلا بالحفاظ على أعماقه دون أن يعريها فجة.
* * *
تيقنت يوما بعد يوم أن هذه الإشراقة الحقيقية لم تكن إلا نتيجة مباشرة للتراجع والاستسلام. ألغت فردوس كل القيود فحدث هذا التوافق الخادع. تحاول أن ترشونى بكافة السبل وأستجيب لها فى كثير من الأحيان. انتصرت على عجزى نهائيا. أحيانا يراودنى خاطر خبيث أن أتناسى بقية القصة باعتبار أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان. نكف عن الذهاب ونحترم السن والإمكانيات والأيام والواقع، لا أكاد أستسلم لهذا الخاطر بضع ساعات حتى يثور على داخلى (عقل بالى، والله زمان!)، وأحس بالخطر الداهم.
* لن تمر فترة حتى تنفرد بك لتلتهمك قربانا فى هذا المعبد الشبقى البهيج.
* يخيل إلى أننى أرفض الشئ ونقيضه؟ إلى متى؟.
* إلى أن تقبل الشئ ونقيضه.
* أحسدها أحيانا وهى فى قمة نشوتها ناسية كل شئ، متناغمة مع الجزء الذى حددته. وأنا مثل ذكر النحل. عاملا ثانويا يحقق تآلفها الشبقى المقدس. يا ليتنى كنت هى.
* كاذب.. لن تستطيع.. ولا أنت تريد
* أستطيع لو أغلقت على أبوابى ونسيت كل العالم وألغيت الوقت وعشت عمق اللحظة ونشوتها.
*… جرب
* أفكر أن أترك نفسى معها إلى نهاية النعيم، ماذا فى ذلك؟ هل ستتهدم الدنيا فوق نافوخى؟ هل ستتوقف الأفلاك لو شاركتها خدعتها
* حاول.. ثم قابلنى.
المصيبة أننى لا أستطيع، وفى نفس الوقت لا أستطيع رفضها، لا أستطيع أن أرضـى بما وصلنا إليه، ولا أنا قادر على تخطيه، بعض أفراد المجموعة يكاد يكتشف سرى ويتهمنى بالتوقف والسرقة. أنا لم أتوقف عن المحاولة يا جماعة. ليس من حقكم أن تحكموا على هذا الحكم القاسى، كلكم تخليتم عن مسئولية مثل هذه العلاقة إما بالعزوف أو بالهرب أو بالفشل. حتى إبراهيم الطيب، جرحه مازال ينزف ولا ضمان لنجاحه فى الجولة القادمة. نجوى هربت وتركت ابنتها ولم تحقق شيئا. ترى هل تدركين ما بى يا نجوى، أنا أحس أنك تقدرين صعوبتى وإصرارى.
- أخشى أن تيأس منها يا عبد السلام فأحس بالوحدة أكثر فأكثر.
- لست هنا لأيأس يا نجوى.
- اليأس يتربص بنا عند كل منحنى، وعمركما يبرر أى توقف.
* * *
دخلنا العقد الخامس يا فردوس ومازلنا فى بداية البداية. أى بداية مهما تأخرت هى أفضل من حياة كاذبة حتى لو مضينا بقية عمرنا عند نفس النقطة. الموت نفسه أصبح بعيد المنال، إن لم تكملى يا فردوس حتى تشعرى بالناس وبى دون أن ينقص هذا من وجودك وسعادتك فلن تنتهى إلا إلى الضياع من جديد، لن تنجحى فى خداعى مهما قدمت لى من أطباق شهية رغم ما تعلمين عن جوعي,… أنا فى حاجة إلى نوع آخر من الصحبة، أنا فى انتظارك يا فردوس، يثيرك رفضى وتتساءلين عن أسباب وساوسى. أنا مصر على إكمال الطريق. أنا لم أنس أيام العمى ثم العاصفة وهزات البرق والرعد وجبال الظلمات، لم أنس عجزى، ولا “أماني”، ولا أمها الحاجـه، ولا آمال ولا المرأة السودانية، ولأنى لم أنس كل ذلك فلن أرض بالتوقف لأن نتيجته هى العودة إلى كل ذلك بعد أن أكون أكثر ضعفا وأشد إنهاكا. لا يا فردوس لست بديلا عن الناس. سماح جسدك لن يقنعنى بالتوقف، أحس أحيانا وأنا معك فى السرير أنى سمسمة جافة على سطح وعاء مملوء بالدهن المتكاثف. حين تنصهرين أحس بالبرد والتقلص خشية التلاشى. الناس والتاريخ ينتظروننا يا فردوس. أنا لا أصرح لك بموقفى الجديد، أشعر أننى ممتلئ بشئ رائع، لا أستطيع أن اسميه ربما اسمه “الحياة”. ماذا لو قلت لك أنك شخصيا أول خطوة “نحو انطلاقى إلى رحاب حياة كاملة فيها فائض الوقت للإسهام بما يبقى ويفيد الحضارة”؟ هل هذا كلام عاقل؟ أنا لا أقوله، لا لك، ولا لغيرك. لا تستهينى بتجربتنا على بساطتها. تبدو لى أحيانا أنها مجرد أزمة إعاقة فردية لا تعنى شيئآ. يقفز لى يقين مضاد يؤكد أنها تحد للفشل ذاته لإثبات أن الإنسان يمكنه أن “يعيش”. كلام فارغ. لذلك لا أعلنه، مع أنه كل حياتى.
أشاهدك أحيانا تنفضين التراب عن كتبك أيام الكلية وأحس بدبيب الأمل يتسرب إلى عقلى ووجدانى. أحلم بصحبة حقيقية، آه لو فعلتيها يا فردوس، لابد أن تفعليها وحدك لك. كل ما أستطيعه هو أن أرفض استمرار كل حل آخر.
جرح إبراهيم وخوفى علـمانى أن أحافظ على شعرة معاوية، أشعر أحيانا أنى أطلب منك ومنى أسهل شئ فى الوجود، وأحيانا أشفق عليك من محاولة فشل فيها جميع من هنا على حد علمى. غريب أشجعنا. انقطع عن الحضور. هو يتجنب لقائى على السلم. أنا الذى دعوته فى أول الأمر. كان أشد حاجة إلى المساعدة منى ومنك، وها هو ذا ينسحب فى إصرار.
أفكر فى أن أعاود المحاولة معه.
-5-
- لماذا امتنعت يا غريب عن الحضور
- خدعتنى مرة… فلا تحاول استدراجى ثانية. أنت غيرى يا عبد السلام، هذا ما أحاول أن أوصله لك منذ اليوم الأول الذى تعارفنا فيه.
- أنا غيرك. هذا صحيح، ولكنا التقينا فترة، وأنا أفتقدك كل يوم أكثر فأكثر.
- لا تخدع نفسك. لم نلتق أصلا، يكفيك فردوس، أنا لا أستطيع التظاهر مثلها.
- لست مخدوعا، ولكنى صابر لأنى أعلم صعوبة الطريق وطوله.
- ماذا تريد منى؟.
- أنت “الآخرون”، وعلاقتى بكم تحمينى من بيع نفسى لها، أو سرعة الضجر منها.
- تريد أن تستغلنى لأحميك منها؟.
- أستغلك وأسمح لك باستغلالى يا أخى، يا ليت.
- هأنذا أسكن أمامك فافعل ما تشاء بلا تعقيدات فارغة، أم أنه لابد أن نلتقى عند طبيب مرتزق.
- هناك نتكاشف ونتعرى دون حرج، ثم لا تنس أنك تصدنى بطرق مختلفة باستمرار، وأنا ما عرفتك على حقيقتك إلا هناك.
- مالك أنت وحقيقتى، إياك أن تخدع فى ذلك اليوم الذى تنازلت فيه عن وعيى، كانت لعبة تصنعتها بمحض إرادتى، وأظنك أذكى من أن تتصور أنها تواصل ما.
- تراجعك لا يخدعنى ولست مصرا على نقاشك ولكنى أشفق عليك من وحدتك.
- يا عبد السلام كفى إشفاقا، شبعت نصائحا وتبرعات عاطفية منذ عرفتك، وأحب أن أواجهك بوقاحة تعلمتها من شيخك البذئ، إذا لم يكن فى قدومك هنا شئ غير النصح واتهامى بالمرض، أو دعوتى للعلاج، فأنا لا أريد أن أرى خلقتك ولا مؤاخذة.
- أحس بخوفك أكثر، ورغبتك فى الاقتراب أكثر.
- علمتـنا هذه اللعبة الوقاحة والتبلد معا.
- شكرا، ولكن أى علاقة أفضل من لا شئ.
- مثل علاقتك بفردوس، ملكة الحمام المحشى، هنيئا لك بها.
- أنا لا أكف عن مواصلة السعى معها وإليها.
- أريد شيئا آخر.
- أم لا تريد شيئا البته؟.
- من حقى أن أحلم كما أشاء، والنساء ليس لديهن إلا الخوف والكذب وأنت لن تفهمنى حتى الموت.
- المحاولة المستمرة أفضل من التسليم.
-… واللحم المذبوح “بطريقة شرعية” أرخص الموجود
- لا ألومك يا غريب، ولا أستطيع أن أنسى محاولتك الصادقة ذلك اليوم.
- يا ليتك تنسى يا أخى وتريحنا من ادعائك الشهامة والشعور بى كذبا وعدوانا.
- هل تستطيع أن تنسى أنت؟.
- أحاول جاهدا.. وسأنجح.
- يا ليت..
- وجودك قبالتى مصيبة فى ذاتها.
- أعلم ذلك، ولولا أزمة المساكن ما رأيت خلقتى بعد اليوم.
ما أبشعها وما أصدقها نهاية. لم يتغير غريب منذ عرفته. كنت آمل أن أجد صديقا حقيقيا فدعوته ليرى بنفسه هذه المحاولة الجديدة، خاصة وأنه قد بدأ طريق العلاج من قبل. توقف مصرا على اجترار ألمه ووحدته إلى مالا نهاية. أنظر فى سائر أفراد المجموعة وهم يترجـحون وسط السلالم فأشفق عليه وألتمس له العذر، ثم أنظر إلى وحدته وألمه فأشعر أن أى محاولة خير من هذا التوقف اليائس. كيف إذن يا فردوس تكون حياة أو سعادة أو حضارة وأنت تنسين غريبا تماما وهو يسكن أمامك؟ كيف تحلقين فى السماء السابعة وتتصورين أن هذا هو نهاية المطاف، وغريب على مرمى بصرك مطحون تحت سابع أرض بلا معين وهو لا يخطر على بالك ولا ثانية؟ لن أتحرك من موقفى. لن أقترب أكثر حتى لا تقفزى على كتفى، ولن أبتعد أكثر حتى لا تبررى لنفسك الدعارة، عليك أن تـكملى الطريق وحدك بعد هذه اللحظة… أبارك كل محاولاتك صادقا رغم أنى أشعر أنك تبتعدين عنى لكن دون ارتماء فى أحضان أحد إلا حضن ذاتك، يطمئننى ذلك أكثر إلى قرب عودتك ثانية إلى باختيارك، لن أرضى بالوحدة ولن أمارس الكذب وليتحقق المستحيل أو نمضى بقية حياتنا فى نفس النقطة. الصبر والوقت والإصرار والعدل، تلك هى قيمى الجديدة. لا أذكرها لأحد، ولا أفرح بإعلانها، لكنها أبسط ما أتصوره الحد الأدنى المبرر لوجودى. كل أملى يا فردوس أن تصدقى محاولتى من واقع مسيرتنا اليومية. ألاحظ تسهيماتك اليقظة أحيانا. أحس أن عقلك قد دبت فيه الحياة من جديد وأنتظر… لابد أن يحدث الشئ يوما ما
- التحقت بوظيفة مدرسة إعدادى.
- دون مشورتى…؟.
- نعم…
- هكذا..؟ ببساطة..؟.
- نعم..
- شكرا يا فردوس.
– ليس شيئا يخصك حتى تشكرنى عليه… ألم تكن أنت سبب بقائى بالمنزل؟.
- كان الخوف هو الموجه الأول، وعلى أن أعتذر وأشكرك لمحاولتك الإقتراب.
- أنا لا أحاول الاقتراب، ولكنى أزيل آثار العدوان.
- لا أنكر دورى المعـوق.
- لم أنتبه إليه إلا أخيرا، إلا أنى مسئولة عنه تماما، هكذا تعلمت.
- لم يكن لدينا خيار، كنا وحدنا…
- أنا وحدى الآن أكثر من أى وقت مضي
- أشعر بذلك، وهذا هو هو ما يشعرنى أنك أقرب إلى من أى وقت مضى.
- لا أستطيع أن أدرك معنى هذا الموقف الصعب. يبدو أنه يستحسن ألا أدرك معناه.. يكفى أن نعيشه.
- ليكن… ولكن كيف.. كيف يمكن؟… لا يهم، المهم.. أنه يمكن.
- سيحدث.
-6-
كنت أهبط الدرج ببطء، وإذا بى أجد نفسى وجها لوجه أمام غريب، واجهت منظرا لم أره فيه أبدا، أنطفأ وجهه أكثر من ذى قبل. زادت فيه التجاعيد فجأة، كما برزت عظامه وكأنه لم يأكل منذ شهور طويلة. لاحظت رباط عنق أسود مختبئا وراء ثنيات سترته التى تهدلت عليه بشكل ملحوظ بعد هزاله البادى. توقفت قليلا وترددت فى مفاتحته فى أى شئ ولكنى أحسست بألم طاغ منعنى من الانسحاب. هل فقد عزيزا دون أن يعلم أحد؟ هل هو ممن يواسيه العزاء أم يقلب أحزانه؟ أنا لا أعلم له أقارب يمكن أن يمثل فقد أحدهم كل هذا التغيير.
- أنا آسف يا غريب… لم أعلم شيئا.
- لا شئ.. لا شئ…
- لماذا هذا الرباط الأسود، نحن جيران يا غريب، ياليتك تسمح لى حقيقة أن أكون بجوارك.
- لا فائدة… كنت أعلم دائما أنه لا فائدة، ثم تأكدت الآن تماما.
- لماذا كل هذا اليأس يا أخى؟ لا ترفضنى فأنا أحوج أن أكون بجاورك مها كان.
- إفعل ما تشاء، لقد فقدت القدرة على أى شئ حتى على الرفض.
- من ذا الذى فقدت حتى يغيرك إلى هذا الحال.
- فقدت كل شئ.. كل شئ.
- لا يفقد الإنسان أى شئ ما دام نفـسه يتردد.
- كفى عبثا وتلاعبا بالألفاظ… شبعت أوهاما.
- يا ليت يا غريب ياليت.. ياليتك تقول لى أى شئ.
- لن تفهم شيئا.
- حدثنى يا غريب.. لعل الخيط بيننا لم ينقطع تماما.
- ماتت صفية أبشع ميته.
- من صفية؟.
- لقد التقيت بها عندى يوما، أشرف وأصدق من عرفت، هى الوحيدة التى أحبتنى بلا مقابل.
- آه… تلك الــ… يرحمها الله.
- الــ… “ماذا” يا عبد السلام.. أنت وجميع من تعرف لا تساوى شيئا بجوارها.
- قضاء الله يا غريب. لعلها تصنع لك بموتها ما عجزت عن أن تفعله لك فى حياتها.
- ماتت.. وأنا السبب.
- لا تتهتم نفسك بما لا يكون.. لا يتسبب أحد فى موت أحد.
- يا عبد السلام أنت لا تعرف ماذا فعلت. تخلصت منها بأنذل مما تتصور، أرسلتها بيدى إلى حتفها، يأسى وعجزى كانا السبب فى موتها.
- لعل الله قد رحمها يا أخى، كانت حساسة ضائعة فى عالم من الكذب والسـحـق، لعلها استراحت من كل هذا الشقاء والامتهان.
- وأنا؟ كيف أستريح من شقائى وامتهانى.
- لا أستطيع أن أقول لك ارجع إلى المحاولة بعد ما كان، فلا أخالك تقبل، إلا أنى متأكد أن ثمة طريقا لا يقفل بابه أبدا.
- طريق…؟ ألن تكف يا عبد السلام عن تهاويمك؟ حتى الموت لا يوقظك من سباتك.
- لن نتناقش ثانية مثل زمان، ولكن ثمة طريقا يظل مفتوحا، وهذا هو السبب الوحيد للاستمرار.
- لو كنت معى ورأيت جسدها بعينيك وهم يهيلون عليه التراب لعرفت ما هو الطريق الأوحد الذى تنادى به، إنه الطريق إلى هناك. لن يكمم أفواهنا عن الخوض فيما لا يكون إلا حين يمتلئ بالتراب الرطب الحنون.
- ما أبشع ألمك. لفتة صغيرة قد تريك ماذا يعنى الألم,… إنه تصميم على الحياة.
- جوف الأرض هو الرحم فحسب. الحقيقة الوحيدة تجدها فى مقابر الإمام يا عبد السلام.
- الله رحمان ورحيم يا أخى.
- تذكرنى بيقين ذلك الفلاح الفطرى إبراهيم الطيب..أو تشنج عبد السميع الأشرم.
- أنا أعنى فعلا “الطريق إليه”، هذا ما عنيته منذ بداية حديثنا.
- هل تعرف أى اسم من أسمائه، كنت أعتزم تسبيحه حين فكرت فى التصوف يوما.
- هل فكرت يوما فى ذلك حقيقة؟.
- كنت أنوى أن أسبحه طول الليل فى مكبـر خاص صائحا به: “يا جبار يا جبار” حتى أصل إلى الوجد الصوفى الذاهل.. أو إلى سجن مصر.
- لم تتركك سخريتك حتى بعد هذه الصدمة.
- لست أسخر يا عبد السلام ولكنى أحذرك من هذا التخريف الخادع.
- المسألة أقرب من كل هذه المخاوف، أحس أنه أقرب إلينا منا. من عرف نفسه عرفـه.
- خدعة جديدة، ومذهب نور الدين ينتشر بأسرع مما توقعت.
- أى مذهب يا أخى.
- أى مذهب تتبعه هو الضلال بعينه مادام يلهيك عن حقيقة الموت والتراب.
- يا غريب، يا غريب.. إسمعنى.
- يا عبد السلام، اذهب الله يخليك، إذا لم تجدنى فى الصباح فأعلم أنى سافرت إلى كندا.
- كندا؟ هكذا بين يوم وليلة، إن هذه الأمور تحتاج إلى ترتيبات.
- قمت بترتيب كل شى ء وأنا أودع صفية.
- ماذا تقول يا غريب؟.
-… لعلك لا توافق على كندا… اعتبرنى سأسافر إلى استراليا. الأرض هناك مازالت خاما لم يشوهها الإنسان، وهى أرحب وأكثر حنانا بأجسادنا.
- غريب
- نعم يا عبد السلام أفندى يا مشد
- لن أدعك اليوم.
- تضيع وقتك يا أخى بلا مبرر.. ولكنى لن أحرمك من هذه المتعة قبل سفرى.
- لا سبيل يا غريب إلا البداية من جديد.
- مهاجر فورا إلى كندا أو استراليا أو روسيا أو بنجلاديش أو الإمام الشافعى، ولكن أبدا ليس عند طبيبك المفتون.
- المحاولة مستمرة فى كل مكان.
- موت صفية هو من أثار هذه المحاولة المستمرة
- ماذا تقول يا غريب؟ ماذا تعنى؟.
- ألا يحضر مختار معكم حتى الآن؟ ألا يعالج بأحدث الوسائل؟ ألا يمثل أعظم صور الحرية العصرية؟!.
-….. مختار ماله مختار بما نحن فيه الآن، بما أنت فيه؟.
- هو يسهم فى استمرار المحاولة بطريقته الخاصة.
- لا أفهمك يا غريب.
- يوما ما، فى مكان ما..، قد نلتقى.. وتفهمنى.
***
الفصل الحادى عشر
إبراهيم الطيب
-1-
كلما اقتربت من نهاية مرحلة ما – أو خيل إلى ذلك – أحسست بخطورة الخدعة. لا بد من اليقظة المستمرة حتى لا يستدرجنى أى بديل مهما بدا براقا سهلا. أخذت دورا أكبر من طاقتى… أخذته بكامل وعيى وحسب رؤيتى، وأعتقد أنى قمت وأقوم به بكفاءة. ترى هل هذا الدور هو أنا؟ ألا يمكن أن يلهينى عن أصل الحكاية؟ عن حقى فى الحياة؟ هذا هو الخطر القائم المهدد. منتبه إليه ملء وعيى.. لكنى لست مترددا ولا متراجعا، “فالأمام” هو الطريق الأوحد.
وحيد تماما، بالرغم من أنى أشعر أن نبض الحياة فى داخلى يكفى لأن يدفع بعجلة الناس- كل الناس- إلى نهاية المطاف. المطاف الذى لا أعرف له نهاية. أتساءل لماذا لا يدفع عجلتى أنا أولا. أحيانا أحس أن عجلتى تلف حول نفسها مثل “كورونا” السيارة لكنها تدفع بهذه اللفات عجلاتهم إلى الأمام. هل تكون هذه الحركة ذاتها انتقال بى إلى الأمام ضمنا؟.
وهم آخر أخشى الوقوع فيه. لا أحد يدرى ما بى. ربما لا أريد أن يدرى بى أحد. أنا لا أريدهم أن يتوقفوا عندى لينظروا إلى وقفتى وخوفى. كل واحد منهم يتصور أنه يستمد منى شيئا ما. أجد فى هذا ما يبرر استمرارى حتى ولو كان الاستمرار هو أن ألف حول نفسى بقية حياتى. يطمئن أغلبهم لوجودى بينهم. يثقون فى. هكذا يخيل لى.. ولكنى أزداد وحدة حين تخطر على بالى حقيقة موقفى، وأن أحدا منهم لا يرانى كما أنا، ومع ذلك فأنا أحبهم بلا حدود، وهل أملك إلا هذا؟ تبدو حياتى فى حبهم وحب من هم مثلهم ومن ليسوا مثلهم، فقط أريد أن أحب نفسى بنفس القدر ونفس الوضوح.
أكرمونى بكل ذلك… ولكنهم قيدونى قيدا عنيفا لا أعلم كيف السبيل إلى أن أتخلص منه، ولا متى، ترى هل سيستمر الأمر هكذا إلى نهاية المطاف؟ جاهز أنا لحملكم من أول فردوس الطبلاوى حتى عبد السميع الأشرم…، أقوم بدور لست متأكدا أنه أنا. حتى غريب نفسه لم يتنازل عن ذاته تلك المرة إلا بين ذراعى. كل هذا يعطى معنى لوجودى. أحس أن بقائى على هذه الأرض – رغم كل شئ – هو مفيد بشكل ما، ألا يعطينى هذا الحق فى أن أستمر.
أرجع أتساءل: هل هو حقى أم واجبى؟ أحس أن الفرق ليس هينا، وليس كبيرا أيضا. لا أشعر بحقى فى الحياة إلا من خلال تواجدى معهم، فأين حقى الذى اكتسبته بالولادة، هل نسيت أمى أن تعطينيه؟ هل ضاع بين اللفائف والضجة وبقايا الأشياء؟ هل أخذه الناس خطأ قبل أن أتعرف عليه أنا صاحبه الأول؟.
وحيد حتى القاع، وحيد فوق القمة، وحيد معهم وبهم ولهم، وسأظل وحيدا حتى يرانى أحدهم دون أن يستدرجنى إلى لعبة البيع والشراء. دون أن يمصمص شفتيه. دون أن يجرجرنى إلى الوراء طلبا للراحة. دون أن يرفعنى على كتفه أو يقفز فوق رأسى ويدلى قدميه حول رقبتى. وحيد معك أنت شخصيا يا شيخى الطيب. لن أنكر فضلك ما حييت حتى لو لم أتقدم خطوة عما أنا فيه. حتى ولو ظل جرحى ينزف الدم ويفرز القيح إلى ما بعد البعد. كان موقفك هو مفتاح هذه المرحلة التى أخوضها بكل ألمها وقسوتها وعبثها وروعتها. لم تشوه زوجتى الداعرة.. ولم تصفها بذلك. أنا الجبان الذى كررتها مرارا. يكفينى هذا حتى الموت. جئتك وفى قلبى حقد العالمين ولم يكن قد تبقى إلا الترتيبات النهائية حتى أقبض روحها حقيقة لا مجازا. ماذا بعد الخيانة؟ مطعون فى الكذب والخديعة يخرجان لى لسانهما فى مرآة الحمام..، وزجاج الأتوبيس، وشمع الأرضية. صورتها تبصق فى وجهى والأطفال فى الشارع يشيرون إلى هاتفين “أبو خليل، أبو لبن” “كرباج ورا يا اسطي” قرأت ذلك فى نظراتهم، لم يصل بى الحال إلى سماع مالا يقال، ولكن الخيانة أكبر من احتمالى، وياليتها خيانة فيها قصة حب أو أى قصة مما نسمع عنها، كانت مجرد خيانة مفتوحة النهاية. كيف لم أشك فيها قبل ذلك؟ كيف عرفت كل ما حدث فجأة وكأنى كنت مسحورا أو منوما؟ جئتـك يا رجل لتصدمنى بحقيقة أن الحكاية – مثل كل حكاية – هى بداخلى أنا أصلا: تعلمت معنى. “المومس” الحقيقية. اكتشفت أن أى علاقة غير صادقة هى علاقة مومسية. جاءنى اليقين من خلالك حتى كدت أشكر زوجتى المسكينه أنها صدتنى بهذا الوضوح بدلا من أن تمارس معى نفس العلاقة بورقتنا المشروعة فأظل مسحورا منوما حتى الموت. رحمتنى معرفة هذه الحقيقة من الانسياق وراء مبررات القتل والانتقام التى كان يمكن أن تستغرق بقية حياتى، لكنها فتحت على أبوابا لا قبل لى بها، ورؤية لا يحتملها إلا نبى.
وحيد أنا تماما. أمى نسيت أن تسلمنى حقى فى الحياة. زوجتى أعلنت مومسية حياتنا جميعا، وأنت أوقفتنى على الأرض عاريا معزولا. نزعت منى سلاح الانتقام والبكاء على الظلم والاضطهاد. هأنذا أمضى عاريا: جلدى ينزف وجرحى يفرز الصديد، والناس من حولى تغرينى بالدوران حول نفسى لأدفع عجلتهم هم- ربما وأنا معهم. لست متأكدا. هل يكفينى هذا حتى الموت؟ كيف أكسر وحدتى يا شيخى الطيب وقد تخليت عن تبرير موقفى بعد أن سحبت من تحتى أرض الحقد والانتقام؟ عيناك تحذرنى من الاعتماد عليك، تخشى أن أتخذك بديلا عن نفسى؟ ولكنك أيضا أوقعتنى فيما ترى، فاتخذتهم هم بديلا عن وجودى.
أنت تحيرنى يا شيخى. ماذا فعلت بوحدتك أنت، لعلك وحيد وحدتى وأكثر. هل ياترى لك جرح مثل جرحى؟ ما الذى رماك على الناس هكذا إلا قلة الناس. أكاد أقسم أنى أعرفك ولا أملك لك شيئا إلا أنى أعرفك. هذه العلاقة الصامتة تعطى لحياتى معنى آخر ولعلها تعنى لك شيئا حقيقيا. يتهموننى أحيانا أننى مساعدك مثل إصلاح فاضل وأتمنى أحيانا أن أكون مساعدك فعلا. لو أن لى مثل مهنتك لاختبأت فيها بقية حياتى غير ملتفت إلى وحدتى وألمى أصلا، ولا مانع من الارتزاق على الماشى. أشك فيك أحيانا ولا أراك إلا حرفيا ماهرا. أعود وأراجع نفسى وأتساءل: وماذا فى ذلك؟ أليست حرفتك هى التى رأت بؤس زوجتى العاهر ومأساتها وهى تتمرغ فى طين جوعها وعماها فرحمتنى من أوهام الضحية وخدعة بطولة الانتقام؟ أليست حرفتك هى التى ضمدت جرحى فى نفس الوقت رغم أنه ما يزال ينزف؟ إلا أنى واقف أمسح ما يتراكم عليه بشجاعة عاشق الحياة المزمن؟ أحسدك على حرفتك وأشفق عليك منها. ربما تضطرك إلى نسيان نفسك بقية حياتك. أما أنا فمضطر لكسر وحدتى مهما استغرقت فى مساعدتهم. فرصتى أفضل منك. سأعطى نفسى لهم فترة موقوته تؤكد لى قدرتى، ثم أنطلق منها إلى.. إلى.. إلى أين؟ إلى نفسي! ولكن كيف؟ أحيانا أتصورك مريضا مثلنا سواء بسواء. لافرق بيننا إلا أننا ندفع وأنك تقبض. أنا أصارع وحدتى ليل نهار فماذا تفعل أنت؟ أنا أتقبل حبهم بصبر وحذر. هو يثرينى حاليا حتى أجد شيئا آخر، أعطيهم ما يريدون ولكنى لا أخدع نفسى.
- ابراهيم لا تبدو واثقا هكذا والا حسبـتــك ملكة.
- هذا طريق أعرفه تماما يا فردوس.. ,..، ليس تماما ولكنى أعرف ضرورته وأنه ليس لى إلا السير فيه. أنا لا أكذب عليك يا فردوس ولا على غيرك حين أقول أنى أعرفه تماما، وإلا فخبرينى أنت وزوجك عن طريق آخر.
- أنا أحبك يا ابراهيم.
- وأنا أيضا.
- يا نهارأسود.
- ليس أسود من قلوب الحقد.
أحبك يا فردوس، وأحب نجوى وبسمة ومختار وشيخنا الطبيب. هذا رغم وحدتى المرة. أو بسببها يا فردوس. هل أمامى شئ آخر غير أن أحب؟ إذا كنت تعنين حبا آخر فأنت تعيشين خرافة الأولين والآخرين. ماالذى جاء بك هنا إلا فشل الحب الآخر. الكذب هو الحرام الأوحد يا فردوس فلا تهربى من خوفك. غاية ما يمكن أن نحققه هو أن أراك بحجمك وترينى كما أنا. زوجك عبد السلام لا يعرف لك معالم، هو لذلك يكاد يغرق فى بحرك. لو أنك يا فردوس أكملت شيئا حقيقيا، لو أنك نجحت مع عبد السلام بشرط الصدق رغم العرى والصقيع، لو أنك فهمت معنى ما تقولين، إذن لانكسرت قوقعة وحدتى وأمنت للعالم من خلالك.، وحدتى قاسية والفرصة أمامك أكبر وأعمق، عبد السلام معك لم ينسحب بغباء الجبناء، عفارم عليك يا عبد السلام. أتمنى لو صبرت عليها حتى تتعلم المشى فلا تضطرها للتمرغ فى وحل الخطيئة وهى لم تفتح عينيها بعد.
- لماذا أسود؟….. بل هو أبيض من اللبن الحليب يا فردوس.
- ألا تخاف مما تقوله.
- بل أخاف مما لا أقوله.
- وعبد السلام ؟.
- هو مثلك يا فردوس بالنسبة لى، بل لعلى أحبه أكثر.
* * *
- ماذا تفعل يا عبد السلام وحدك؟.
- الألفاظ لا تسعفنى يا إبراهيم فهل تعرف مابى؟.
- الأطفال جوعى للمسة عطف.
-و النساء لا يحتملن الحرية أو الانتظار.
- والرجال أكثر.
فكيف أحتمل أنا الحرية والانتظار؟! جرحى ينبض ويصرخ على، فكيف أعيش إلا بكم؟ حسابات شيخى الطيب تلزمنى بالمسئولية عن كل ما جرى وما يجرى. آمنت بها حتى حسبتها حساباتى فزالت كل نوازع الانتقام. آلامى تثور على فجأة فأنسى كل شئ. أجرى نحوكم لاهثا أرتمى فى أحضانكم لأنسى. جرحى غائر يا عبد السلام، ومتقيح ورائحته نافذة. هو هو الذى أتى بى هنا إليك يا عبد السلام، وإلى فردوس، وإلى كل الناس. خطيئتها ليست فوق الغفران ولكنى أصبحت الآن أجبن وأعقل من أن أنتقم، أنا أيضا أعجز من أن أغفر. يقول شيخنا إنى مسؤول إذ لم أستطع أن أتفاهم معها فراحت تبحث عمن تتفاهم معه. وأنت تعلم يا عبد السلام ماذا تعنى المحاولة، لم أستطع أن أستسلم لها فانقطعت خطوط الاتصال بيننا. ذهبت هى تبحث عمن يفهمها وجئت إليكم أبحث عنى وسطكم. يا ترى هل ينفعنى ذلك؟ دفعت هى جسدها ثمنا لكل من لوح لها باحتمال تبادل لغة ترضيها وتخدعها، ودفعت أنا “نفسي” كلها لأجد سبيلا إلى التفاهم مع أى واحد منكم. لعبة الضياع ليس فيها كبير مهما اختلفت المعايير. من منا يا ترى وجد بغيته دون خداع؟ هى تتدهور علانية. تزداد عمى وتزداد امتهانا لنفسها وتزداد بلادة. لم تعد تفهم أبسط العبارات ولا أمل – فى مجال بصرى – فى إيقاظ إحساسها إلا بجراحة تغير جلدها وأحشائها، فروحها، ويا تري!، وأنا ؟ أنا لم أجد من يفهمنى لى.. حتى بينكم، مع أنى أتصور أنى أفهمكم مجتهدا.
أنا أعيش على أمل أن يرانى أحدكم “كما أنا”، حتى الشيخ الحكيم نفسه لا أجرؤ على خوض بحره وحدى. أخشى أن ينغلق عالمى عليه فلا يشعر بى إلا هو. أنتظر اصطحاب أحدكم إليه. أخاف أن أضع بيضى كله فى سلته. من يدرى فقد يكسرها فى لفتة هنا أو سهوة هناك – حتى بلا قصد. أنتم أهم عندى منه. وأنا أهم من الجميع. يا ليت!!. إياك يا عبد السلام أن تتوقف عن المحاولة مع فردوس، ليس أمامك إلا المومسية السرية المشروعة كبديل عن محاولتك الصعبة. ليست الشطارة فى أن تكتشف خدعة الحياة.. ولكن أن تتحمل مسئولية اكتشافك.
تبينت دون قصد كيف كانت علاقتى مع “عزيزة” كاذبة مرهقة ثقيلة طوال سنوات طويلة. كان اكتشافا متسلسلا هادئا اتخذ شكل الضجر الثقيل المر، حتى انتهيت إلى أن شيئا ما فى حياتنا لابد وأن يتغير، وما إن تراجعت بضعة خطوات، أنظم فيها صفوفى وأعود إليها نبدأ من جديد حتى فسدت اللعبة كلها. مازلت أذكر يوم أعلنا بداية النهاية.
- أنت أنانى وتريد أن تشكلنى على مزاجك.
- أريد أن نتفاهم بأى شكل.
- كاذب. ليس بأى شكل، ولكن بالشكل الذى تريده أنت.
- هل عندك شكل آخر؟.
- ليس عندى شئ، ولم أعـد أطيق الخوف منك أو طاعتك، أنت عنيف ومدع ولم أعد أحتمل مناوراتك.
- ماذا جرى يا عزيزة؟، أنا أريد أن أصنع شيئا يحافظ على حياتنا.
- أنت تتفلسف فقط ثم تنسانى تماما.
- كيف أنساك يا عزيزة؟.
- إما صامت كئيب، وإما تفكر فى تعديل شئون الكون.كأنى لست من شئون الكون.
- أنت تريدين أن تكونى كونى الأوحد.
- حقى لم آخذه وآن الآوان أن أنتبه لنفسى.
- ياليت.. ولكنك تعدين نفسك أنثى تنتظرين دائما، وأنا لا أراك هكذا.
- ترانى ماذا إذن؟ خادمة متخفية أم أسطوانة تردد ما يملؤها به صوت سيدها؟.
- سأتركك حتى تعرفين ما تريدين.
- ليس بيننا لغة حقيقية منذ تزوجنا، لا تشعر بى ولا تدرك أى شئ مما يدور فى فلك حياتى.
- تريدينى أن أهتم بفساتينك وباروكة شعرك، ولا أهتم بحقيقة ما بداخلهم.
- هذه هى الحجة التى تغلـف بها إهمالك لى. نحن مختلفان وأنا – بصراحة – لا أفهم أفكارك، وحين أفهمها أحتقرها.
- لماذا؟.
- لا تعنينى فى شئ، مالى أنا وما للناس، والمستقبل، و… ما لا أدرى ماذا؟ كلماتك تضجرنى.”.الوعي”.. العمق”..هل يمكن أن يرى العمق من لا يرى سطحى وحاجاتى.
- تعرضين على أن ينتهى عالمى عند رغباتك.
- ينتهى؟ يبدأ؟ أنا لا أستطيع التفاهم معك.
انتقل الضجر المر والابتعاد البطى ء إلى إعلان الشرخ الذى ظهر بيننا: عميقا متزايدا معلـنا عن الأخدود القابع فى حياتنا من داخل الداخل..، ابتعدت أكثر ونسيت كل شئ إلا استحالة الاستمرار. كنت أتصور أنى أنتظر أن ترى صدقى وصبرى – فتحاول أن ترى الجانب الآخر. لم تستطع الانتظار وذهبت تبحث عمن يفهمها ويتبادل معها لغة يبدو أنى لا أجيدها. سرعان ما وجدتهم فى كل مكان. لم أنتبه إلا مصادفة، وهأنذا أدفع الثمن. وما أغلاه يا عبد السلام، فلا تفعل مثلى يا أخى، الله يسترك ويسعدك. لا تترك فردوس ولا تستسلم لها. كيف؟ لست أدرى. لا تفعل مثلى والسلام. لا ترض برشوتها وفى نفس الوقت لا تعاف بضاعتها قبل الأوان، متى؟ لست أدرى. لا تفعل مثلى والسلام يا عبد السلام..
ياليتنى أساعدكما فيما عجزت عنه أنا. ربما كان ينقصنا ثالث أمين، فلأ كن لكما هذا الثالث الأمين فأكفر عن خطئ وألطف جرحى بنجاحكما ونجاحكم جميعا.. ياليت يا عبد السلام، ويا إصلاح، ويا شيخى ويا غريب.. ياليت.
لماذا كل هذا يا غريب بالله عليك؟ مصيبتك كبيرة وأنا أعرف ذلك. مصيبتى أكبر، ابتسامتى الواثقة، وجنونى المحب، ليسا دليلا على أنى أعب من نهر التفاؤل دون حساب، هما علامتا إصرارى على ألا أتركك لهذه الوحدة القاسية. أنا وحيد مثلك وربما أكثر. جرحى لم يلتئم بعد. أنا هنا بجوارك يا غبى.. صدق أو لا تصدق. موقفى منك يعطى حياتى معنى وأنا فى قاع الهجر والنبذ. إياك أن تحسب أنى أعطيتك شيئا من فضل. أنت الذى تعطينى لو قبلت اجتهادى ومحاولتى.
آه لو تسمعنى يا غريب يا أخى. ماذا فعلت بوحدتك حتى تاريخه يا غبى؟ أنا وحيد مصارع، أما أنت فوحيد تدعى الحكمة بالاستسلام قبل أن تحاول أصلا. الجبن ليس وراءه إلا الصقيع، والخيال المر، حتى لو ظللنا نحاول يا أخى مدى الحياة، فالمسألة تستأهل. تمضغ الزجاج المكسور وتشرب ماء النار، وتجعل الحروف التى تقرؤها تدخل فى عينيك كأسنة الدبابيس، ثم ماذا يا رجل؟.. ثم ماذا؟ لا أنت قادر على الموت والتبلد، ولا أنت تريد أن تحاول معى. يدى ممدوة لك وقلبى مفتوح ووحدتى أكبر من وحدتك. فقط: خوفى أقل. لتعش معى هذا الخوف ونحن نحاول بصدق. ليست دموعا ما ترى فى عينى. هى قطر الندى الذى يطهرنا من أوزار الوحدة. أراها وراء مقلتيك بعيدا بعيدا، فلا تحبسها. الضعف ليس عيبا ولكن العار كل العار فى هذه الحياة هو الشقاء. الشقاء جريمة. غول نذل غبى. هو سبة حياتنا مهما أقمنا حوله من أضرحة وقدمنا إليه من قرابين. المصيبة فى هذه الجريمة، جريمة الشقاء هى أن الجانى هو هو المجنى عليه والشهود الذين يحضرون ساحة الإعدام يدرجون فى كشف العدم حتى يأتى دورهم، وهم يسيرون فى طوابير الوحدة الجبانة.
حين تركت نفسك بيننا يا غريب ذلك اليوم أيقظت فينا أملا حقيقيا أن نتواجد معا دون أن يلتهم بعضنا بعضا. حسدتك يومها على شجاعتك وتمنيت أن يأتى على الدور لأفعلها فى حضنك. فى ظل أمانك، حسبت أنك ستحتفظ بها ولكنك تراجعت بعدها مباشرة يا غريب. لملمت نفسك وتراجعت إلى أبعد مما كنت، لماذا يا غريب؟ ماذا أخافك يا أخى؟ ماذا حجر على وجودك؟ من أرعبك من حقك فى الحياة؟ من يومها يا لم تعد أبدا. تركتـنى وحيدا كما جئت وأصعب.
وحدتى غير وحدتك. قلت لك. أنا مازلت أحاول مع غيرك فماذا تفعل أنت يا غريب، أسمع جـرس كسر الزجاج يملأ فمك وأنت تمضغ الألم وحدك. أرى قطرات الدماء تقطر من قلبى ووجدانك معا. لو كنت أعلم ما يبرر كل هذا لعذرتك فى أن تنجو بجلدك من التهام أو مساومة. لو كنت قد استمررت مع زوجتى وحدنا مع عجزى عن قتلها لاستمرت حياتى مثلك وألعن. أنت تركت المحاولة أصلا وجعلت كل الناس مثل بعضهم البعض كما يصورهم لك خوفك الغبى. حتى فى عز سخريتك اللاذعة كنت أرى الدم يتساقط من شدقيك، وحول قلبك، وتحت جلدك. أنت عار مهما حاولت أن تخفى وجودك. هو ينضح بالمشاعر وطلب النجدة بالرغم منك. لست غبيا حتى أضيع وقتى معك، لا سبيل إليك الآن. أشك فى قدرتك على النسيان. أنا فى انتظارك رغم أنفك، فمتى وأين ألقاك؟! سأعيش ما حييت على أمل أن نلتقى يوما فيخفف أحدنا من وحدة الآخر، ولتخف كما تشاء، ولتحذر كما تشاء، ولتحسب كما تشاء. لو لم تستسلم للغباء الأكبر وتختفى تحت التراب فلسوف نلتقى حتما.
- غريب يا إبراهيم
- ماله يا عبد السلام؟.. لم نره من زمان.
- هو جارى كما تعلم وهو هذه الأيام فى حال.
- ماله يا عبد السلام؟.
- شئ ما قد حدث له بعد فقد صديقة عزيزة عليه، شئ يبدو خطيرا، لا أفهمه جيدا، ولكنه يتكلم عن الهجرة إلى أستراليا، وعن حضن التراب، وعن أشياء غريبة أخرى، وقد أصابه الهزال بدرجة مخيفة.
- لا تقل هذا يا عبد السلام. أنا أنتظره.
- أكاد أحس أنه ينتظرك أيضا، ولكن لا سبيل إليه فهو يكاد يقتل من يقترب منه.
- هل كتب علينا يا عبد السلام أن نتفرج على بعضنا البعض بقية حياتنا.
- جرانيت الخوف لا تفتح إلا لمن ينسفها.
- هذا يزيد من إصرارى على المحاولة.
- إياك أن تفقد حساباتك.. أو تتهور.
- لو كان معنا الآن,.. ربما.
- ولا ربما ولا غيره. لا يخدعك أملك، الحواجز قائمة قائمة حتى ونحن مع بعضنا. لو كان هناك شئ يعمل قهرا لـمـن فى متناولك لعملتـه لزوجتك.
- ولكنها وجدت مخدرا يخفى وحدتها، أما غريب فيعيش بلا مخدر.
- المخدرات المغشوشة تضاعف من الوحدة لا تكسرها.
- أعلم.. للأسف.
- لا سبيل للأسف يا إبراهيم.
- وما السبيل إذن؟.
- السبيل هو تحقيق الممكن.
- ولكن المستحيل هو الممكن الوحيد الذى ينفع.
- أعلم ذلك.. فليكن السعى إليه هو تحقيقه.
-…… على شرط أن نصل يوما ما.
- يوما ما.
-1-
ما أقساك يا مختار وأروعك. رأيتنى كما أنا دون الآخرين، رغم أنك أقل من أخذ منى. أنا لا أكتمك الحقيقة إذ أقول لك إنى أخذت منك أكثر مما أخذت منهم جميعا. رؤيتك لى زادى وأملى. رأيتنى كما أنا ولكنك توقفت بعد إعلان بيانك القاسى الصادق. أخذت أتساءل هل كنت ترانى أم ترى خوفك منى؟ حسبتها بداية علاقة أفتقر إليها من قديم. لا علاقة إلا برؤية صادقة مسئولة. رؤيتك صادقة بلا شك ولكنها ليست مسئولة. ألم تسمعنى يا مختار، وأنا أستنقذ بك بملء وحدتى وألمى.
- أنا الوحيد الذى أفهمك، أنت تعلم ذلك يا إبراهيم
- يجوز. أنا أنتظر هذه اللحظة منذ سنين.
لكنها اللحظة التى لم تأت يا مختار. لوحت بها ثم ألقيتـنى معها بعيدا ونعتنى بأبشع الصفات. كانت تلك نقطة بدايتى ولكنك تركتنى وحيدا ملطخا بصدقك. كنت ترانى لك ليس لى. ياليتك علمت كم أنا محتاج لرؤيتك. أنت قلتها لتحمى بها نفسك من الجانب الآخر لوجودى. أنا جبان كما قلت تماما، ولكن ليس “فقط”. خشيت أن تقترب بعد بيان السباب الصادق. خشيت أن ترى الجانب الآخر فتضطر للحياة. تساؤلك عن سبب وجودك هنا يصلنى واضحا صارخا. أنا أقول لك فى السر إنك هنا لأنك ملطخ أيضا، وجودك يعنى أنك تحاول كسر وحدتك بالرغم من كل دعواك. كل منا هنا ليكسر وحدته وإن اختلفت الطريقة. أنا بالخوف ومد يد المساعدة فى غفلة من شيخنا المتيقظ. وأنت بالإشعاعات الجنسية تحت شعار الحرية. لم أنجح فى الوصول إلى ذاتى أو كسر حواجزى ولم أخدع نفسى. وأنت؟.. ماذا فعلت أنت؟ قلبى يحدثنى أنك أبأس الناس وأشقاهم رغم بريق حديثك وسحر استغناءك، غريب رأيته أثناء تفجره وعقدت معه معاهدة بلا توقيت. أما أنت فمختبئ دائما وراء ضباب أحلامك. قشرة غريب من فولاذ، ولكنها تغرينى بكسرها لأن لها ملمس صلب، أما قشرتك فرخوة تنسجها من جو حالم يغلفك بلا أمل فى اختراقه من فرط طراوته واهتزازه. تترجم كل ما يدور حولك إلى رموز خاصة تعينك على ندف الصوف من حولك حتى لا يراك أحد إلا فى غمامة من الإدعاء. تنسى أنك أرق من ذوقك الكاذب، وأيأس من صوتك الحالم، وأكثر وحدة حتى من غريب ومنى. حتى غريب له صاحب، إنه يصاحب الكلمات ولو فقأت عينيه “دبابيس” الحروف. أنت لا تدرك إلا ما فى عقلك، وعقلك ليس به شئ إلا صوتك الرخو وما نفستو حقوق الإنسان عن الحرية والمساواة، أنت لا تكاد تسمع حتى صوتك وأنت تتحدث عن الحرية، ياليت ما تقوله وما تريده ممكنا يا أخى. لو كان كذلك لكنت أول الحاجزين فى جنتك. هل هناك أروع من الحرية بلا شروط؟ والأخذ والعطاء بلا بيع أو شراء؟ والاختيار للفرد بلا خداع أو إملاء؟. ولكن كيف يا مختار؟ جنـتك تؤجل رفع الستار باستمرار إلى العرض القادم. ما يجرى وراء الكواليس لا يبشر بخير. كيف تلوح للأطفال بحرية لا تستطيع أنت تحقيقها؟ كيف تحمـل الرضع مسئولية الانتحار؟ كيف تغرى الجوعى بأكل السم؟.. ثم تتركهم يتلوون ذات اليمين وذات اليسار يدفعون ثمن جوعهم الحر؟ زوجتى فى أحضانهم وهى تقرئك السلام. ما أسهل الحلم يا مختار، وما أصعب تحقيقه. قبلت رؤيتك لى وسعدت بها فهذا أنا. تركتنى أتمرغ فى جبنى وادعائى وحدى. ألعق الدم والصديد من جرحى الغائر، ما أصدقك حين قلت لى:” كبتك وخوفك يحبس الأطفال فى مهودها حتى تكاد تموت من الشلل والرعب”. أنا لا أكتمك شوقى للجرى عاريا والبزازة فى فمى، فهل تضمن لى ألا يطلقون على النار؟ لن تدفعنى وحدتى للاستسلام لأحلامك ولن أكون حتى مثل غريب.
تـرى ماذا فعلت أنت بوحدتك؟ أراها وراء مجيئك إلى هنا، ولكن ماذا بعد مجيئك؟ هل جئت تحكم الرباط على عينيك؟ ترى هل يكسرها استجابتهن لك؟ ياليتك تواجه نفسك بشجاعة الفرسان. إذا كنت قد نجحت فأنا أول اتباعك. تقول إنك لا تحتاج أتباعا وأنك لست صاحب دعوة. أليس هذا القول فى حد ذاته دعوة يا أخى؟ يا شريك وحدتى على القطب المتجمد الآخر.
أمسك بخطاطيفى وألقى بها حيثما اتفق والجليد يخوننى فى كل مرة. أتصبب عرقا وأتلتف فى كل اتجاه لعل خطافى يشبك فى شجرة أو صخرة مدببة. لابد أن أسعى بعيدا عن الصقيع. يصاب بعض الأحياء أثناء محاولاتى الملهوفة للابتعاد عن قطبى المتجمد. لا أملك إلا هذا يا مختار. أنا لا أملك فراء أحلامك، ولا قوقعة غريب، ولا حتى شجرة كمال التى اعتلاها يتفرج علينا من فوقها. أتابع خطواتك وخطوات غريب وكمال بصدق وشغف وأنتظر بديلا خيرا من سعيى المتلهف الأعمى. كلما فشلت رمية خطافى نظرت إليكم فأصاب بخيبة أمل من جمودكم الساكن رغم ما يعلو وجوههم من بسمة ساخرة أو ثقة عنيدة. إخص عليكم يا أوغاد لماذا لا تنجحون وتريحونى. إخص عليك يا مختار يا أخى.. لماذا لا تغرب عن وجهى. تبرر جرائمك باستسلام الضحية؟!.
- أمور لا تخصنى، أنا أعيش وأحقق رغباتى، والضحية تريد ذلك.
- هكذا تلقائيا.
- نعم تلقائيا، أى فعل غير تلقائى هو حقير لا دوام له.
يا ليتك تنجح إذن يا أخى ياليت، ياليتك تكسر وحدتك حتى تحيى فى الأمل، وأنا أواصل سلخ جلدى حتى لا يتنجس من اليأس أو يتيبس من جفاف قبح الانسحاب وتزيف الحاجة. أفضل أن أظل أدمى حتى تحت التراب من أن ألبس درعا منسوجا من فشلك وخوفى.
-2-
متى ترجع إلى مرسمك يا كمال؟ متى تعود لشعرك لتبعث الحياة فى ألفاظ ماتت على ألسنتنا من سوء الاستعمال؟ متى ترقصها على نغمات إحساسك؟ حضورك هنا يا كمال كان مصيبة بالنسبة لى. قضيت بذلك على ما تبقى لى من أمل فى حل مؤجل، لماذا فشلت يا كمال؟ لماذا توقفت؟ إذا لم نستطع أن نصنع المستقبل، فلنرسمه لمن يصنعه بعدنا. ماذا فى هذا بالله عليك حتى تتوقف، ثم تأتى معنا مثلك مثل العجزة أمثالنا؟ أهم فى كل مرة أن أطردك من هنا وأنهاك عن المجئ لو كان لى هذا الحق، أدعو الله أن آتى يوما فلا أجدك معنا، أقلب الصحف لأراك فلا أجدك فيها. أبحث عن شعرك يوميا لأطمئن أنك عدت إلى قلمك سالما. سمعتك تتحدث مع مختار فى عنف صادق حين رفضت حريته الزائفة، ولكنك فشلت فى مواصلة الحديث بلغة فنك. تحتقر هرب غالى وزوجته حتى نخاعك، فماذا أنت فاعل أفضل مهما؟ لم تفاتحنى ولم أفاتحك إلا حتمتا، بعض مادار دون كلام كان أبلغ من الكلام، هذ تذكر؟.
- لن أكون مثلك أيها المسكين، حتى ولو كنت أنت الحقيقة ذاتها.
- لست الحقيقة… لست شيئا أدعو أن تكون مثله يا كمال فماذا أنت فاعل.
- وجودك هكذا عاريا عاجزا مدعيا يعطلنى.
- يعطلك عن ماذا… أنا أتمنى أن تذهب إلى مرسمك وأوراقك اليوم قبل غد.
- كذاب.. أنا أمـلك فى كسر وحدتك لأنى أكثرهم تماسكا وأقلهم رقصا على السلالم.
- لا أنكر أنى أتمنى أن أشاركك وجودك لحظة صدق.. ولكن خسارة.. خسارة أنت يا كمال… أنت فنان.
- كفى ادعاء. أية خسارة؟ ولماذا لم تلجأ إلى الفن أنت بدلا منى.
- لا أملك مقوماته.
- كذاب.. الفن ليس له مقومات.. هو كشف عن الآتى بوعى أشمل. دع رموزك تتحرك بلا وصاية.
- فلماذا توقفت؟.
- رأيت أكثر مما أستطيع أن أترجم.
- وهكذا أنا.. وأنت تعلم ذلك.
- إذن.. كفى ادعاء، ودعنا نواصل الفرجة.
- أنا لا أتفرج إلا مرغما، ثم لنفرض، إلى متى تمتد فرجتك يا كمال؟!.
- حتى أيأس من محاولاتك المستميتة مع هؤلاء الناس ونفسك. ساعتها سوف أرجع إلى أحلامى أضعها فى شكل يبقى؟ أتركها عهدة لأصحابها فى أفق المستقبل.
- تثنينى عن الاستمرار هنا والآن ونحن نصنع المستقبل لا نرسمه.
- أنت لا تستطيع التوقف، ولست أبلها لأحاول.
- جرحى غائر يا كمال.. ورؤيتى شملت الكون طولا وعرضا فماذا أصنع بها؟.
- أنا لا أنصحك… ولكنى أنتظر فشـلك، وإن كنت لا أتمناه.
- تتمنى نجاحى إذن.
- هذه هى المصيبة الأعظم. لو حدثت، فقد أحاول النجاح وأناغير واثف من قدرتى على دفع الثمن.
أنا يا كمال أشفق من اللحظة التى ستذهب فيها. أنا أعلم ما يمكن أن تعنى لى، لا أستطيع أن أغمض عينى أو أتناسى. قد تواصل فنك ثانية، ولكن ألم العالم يغلى فى داخلك… فليكن، وليخرج الغليان بخارا يتصاعد إلى سحاب يمطر أمل المستقبل، وليحققه أصحابه فينمو زرعهم أنفذ وأعظم. لا تطـل وقفتك يا كمال.
-3-
يا ناس يا هوه.. تدفعونى إلى معركة متصلة لتحدى سلبياتكم وهى داخلى ترعى. من يرانى يصفعنى بها، ومن يعمى عنها يتحدانى بها من داخله هو. وحدتى بلا حدود، وحيرتى دوامة بلا قرار، ومع ذلك فإن إجاباتى حاسمة وسأستمر بلا تردد أتحدى سلبياتكم أى سلبياتى حتى الموت. أنا لا أملك الاستسلام ولا التراجع مهما تراكمت سلبياتى أو سلبياتكم خوفا أو استسهالا أو عـمى أو ما تشاءون من تسميات. كلها لا تعنى شيئا ذا بال. وجودها لا يزيدنى إلا تصميما على استيعابها لأتخطاها إذا أردت أن أعيش. أنا أريد أن أعيش.. ولكن كيف؟ كيف يا ربى؟ أين أنت؟ كل ما حولى يقول إنك هناك، إنك هنا، يقول إنك الخير والمطلق وبك وحدك سوف أقتل وحدتى. رأيتك الضمان الأوحد فكيف السبيل إليك، أعيش بين مصيبتين أكتوى بنارهما معا، ومع ذلك فنارهما لا تدفعنى بدرجة كافية إليك، يسلمنى كذب الدعارة إلى صقيع الوحدة، حين أهم بالهرب من الوحدة أجد المومس البشعة ترقص لى وتلعب لى حواجبها، لم تعد تـخـفـى على صور الدعارة المتخفية. عذاب الوحدة تعدى احتمالى. أحاول أن أعرف نفسى لأعرفك، ولكنى حين أغوص فى ذاتى أبتعد عنهم فأرعب، وحين أتلاشى فيهم أبتعد عنك فأضيع.
عبد السميع يصر على زيفه وعلى الحديث باسمك وهو لا يعرفك إلا بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب والرشاوى والصفقات. وغالى يلغيك ويحطمك خوفا منك. وهو لا يحطم إلا خوفه بخوف أكبر. أنا لا أخافك أصلا. هذا أملى فى الوصول إليك. يكفينى خوفى من الشياطين والناس ولكنك بعيد بعيد. أجدك أحيانا فى لحظات سكونى الآمن اليقظ، أجدك أقرب فعلا من حبل الوريد، ولكنك لا تلبث أن تذلنى باختفائك. أعلم أنى المسؤول عن ذلك. لو كنت صادق السعى إليك لما تخليت عنى. أنت تعلم كيف ينهشنى الناس من كل جانب، وأنا أحبهم ولا أستطيع أن أستغنى عنهم لأحارب بك وحدك. يا رب أنا لست أنت الآن. الصور التى يشيعونها عنك ابعدتنى أكثر عنك وعن ادعاءاتهم. هل يعجبك منظر عبد السميع الأشرم وهو يتصور أنه الوحيد الذى يرفع رايتك؟ إنه مثال يشوه صورتك بادعاءاته. أنا أعرف أنى واصل إليك لا محالة، هكذا يقول التاريخ والمستقبل والطول والعرض. أنا فى “الآن”. أنا الآن أهرب منك إليك ولكن عن طريقهم. هأنت ذا تراهم راقدين فى الخط والعياذ بك منهم. أعلم أنك تعلم، فلماذا تتركنا هكذا سمك على شاطئ بحر هذه اللعبة الخطرة. جفاف الشاطئ يقضى على أغلبنا قبل أن نعود إليك، تترك كل من ينفـر منك يرعى تحت اسمك ويحتكر رحمتك متوهما أنه يوزعها على المحاسيب حسب درجة خوفه وعماه.
أكاد أصرخ فى عبد السميع أن “لا” ليس كذلك، يحاورنى ويداورنى وأنا واثق أنه لا يعلم شيئا عنك إلا باطل الأباطيل. وجهه الآخر “غالى جوهر” يثير زوبعة غبية يتصور أنه سيخفيك فى ترابها، يحاول تحطيمك دون أن يعرفك أصلا.
قال لى غالى فى سخرية
- أريد أن تعطينا مما أعطاك الله
- لم يعطنى الله شيئا اختصنى به دون خلقه، أنا الذى جاهدت حتى عرفت الطريق إليه.
كذبت يارب فأنا لم أعرف بعد الطريق إليك. لو كنت عرفته لما شعرت بكل هذه الوحدة ,ولما جريت خالعا جلدى وسطهم أهبش فى أى منهم. لماذا تفعل بنا ذلك كله؟… لا يمكن أن يكون وصولى إليك استغناء عنهم بل لابد أن يكون عودة إليهم باختيارى الذى هو إرادتك التى هى إرادتى. أكره الغيب والاستسلام والهرب من الألم بالذهول. أكاد أجزم أن الطريق إليك هو نفسه الطريق إلى. كله مسئولية وصحو شائك.
أنى لغالى جوهر أن يعرف عنى ذلك كله، هذا كلام لا يقال وإن قيل فهو لا يـفهم، أدفع نصف عمرى، حتى أعرف أين يقف هذا الطبيب منك، هل عرفك داخله أم أنه يستعملك من الظاهر، الهرب من مسئولية معرفتك هو المفسر لكل ما نعيشه من شقاء.
قال لى غالى ساخرا خائفا.
- وكيف ستوصـل عطاء الله إلى الجوعى أفادكم الله؟.
- جوعى لماذا يا غالى…؟.
- لا يوجد إلا جوع واحد، الجوع للقمة والغموس.
- وهل أنت جائع..؟.
-… فى ظل هذا النظام القائم يمكن أن أجوع فى أى لحظة.
- وإلى أن تجوع بإذن الله، ماذا أنت صانع.
- أحمى الجوعى من أمثال أفيونك…
هل أنا الذى أتعاطى الأفيون يا غالى يا جوهر، هلا نظرت فيما تفعله أنت وزوجتك المصون، أنا لا أكرهكم ولكنى أرفض أن أصمت وأنتم تهربون من كل شئ فى اللاشئ. ما أعظم الحديث عن الشبع والعدل والمساواة ولكن ما أصعب الطريق إلى تحقيق كل ذلك. أما أن يكون الحديث عن الجوع إلى اللقمة والغموس هو مبرر التوقف والغيبوبة، فيا ضيعة كل شئ. أشعر أنكما محقان، بل أحيانا أشعر أنكما أفضل منى ألف مرة، على الأقل فأنتما تمهدان للخطوة الأولى إليه حتى لو لم تريا غيرها. أنا ليس من حقى أن أحكم عليكما وأنا أعيش وحدتى فاشلا حتى أبدو مدعيا. أخاف من طريقكما فهو قد يزيد العميان عمى وينقل المعركة إلى الحارات والمستنقعات بلا أمل فى قهر موج البحر، أو ركوب الجبال.
ليس عندى بـراق أركبه إلى هناك، ولابد من اللقمة، والعدل والمساواة، أكاد أتصور أنى أعرف ما تقولان وأومن به وأحترم نبضه أكثر مما تدركان. منظركما لا يوحى بأى يقظة محتملة، ولو بعد نهاية العالم، عجبت من نفسى وأنا أقول لك فى ثقة بادية…
- دينك داخلك يا غالى، فدعه يترعرع بلا إذن من ملكة ولا خوف من كمال.
وأنا؟ لماذا لا أدعه يترعرع أنا أيضا، زوجتى وذهبت تعبد جسدها وهو يتمرغ فى الوحل، تبيع بضاعة لا تملكها لناس لا يعرفون ماذا يشترون. أنا وحيد مع خوفى يلفنى فى قمقم لا ترونه. أصارعه دوما بالهجوم على وحدتى ليل نهار، هزيمتى فى الخارج، لماذا لا يترعرع أملى من داخلى، لماذا أنصح غالى بثقة لا أعرف من أين تأتى. هم لا يدركون أن كل كلمة أقولها إنما هى موجهة لنفسى فى المقام الأول. أنا أكلم نفسى أولا، وأحاول أن أكون صادقا ثم يصلكم بعد ذلك ما تيسر. لا أحد يصدق.
حين أعلن خوفى أمامهم فإنى أعلنه بطريقة غير خائفة. يبدو أن أول الطريق للتخلص منه هو أن تواجهه وتحسم أمرك معه. فإذا أصر على البقاء فليكن الصراع علانية أمام شهود. يا خوفى التنين لن أستسلم لك أو أعتذر بك. أنت نقيصتى وسوف أستغلك فى حساباتى الخاصة بكامل وعيى. لن تغرينى بالوحدة – فكل من استسلم لها هو يائس بائس. ليس عندى حل وسط، الموت أهون من الاستسلام…
* كيف السبيل؟.
* المواجهة المستمرة.
* رعب أزلى يعوق الأنبياء أنفسهم.
أى والله يا غالى، رعب أزلى يعوق الأنبياء أنفسهم. أنا لست نبيا ولا مدعيا النبوة، الأنبياء أنقذهم الوحى من الوحدة، ونحن نريد أن نصنع صنيعهم دون وحى. رعب حقيقى من هول المشقة ومظنة الفشل. أنا أحاول أن أصنع من هذا الرعب ذاته أملا أخترقك به حيثما كنت، فإن هربت منى يا غالى كما فعل غريب فسألقى كل يوم ألف غالى وألف غريب. هذا هو عبد السميع نقيضك ووجهك الآخر بدأ يلين ويقشعر جلده، بعد أن كان قد نحــس بلا أمل فى أدنى اهتزاز. أنت تختبئ فى الناس، أو بالأحرى فى الحديث عن الناس وهو يختبئ فى الدين، بل بالحديث عن الدين.
من أين لى بما يشبه اليقين هكذا حتى أحكم عليك وعليه وأنا لم أصل بعد إليه؟ لماذا يارب؟ لماذا كتب على أن أرفض الاختباء حتى فى أسمائك أو مظاهر التقرب إليك أو معارك القضاء عليك؟ لماذا تركتنى أواجه كل ما أنا فيه بلا أمل فى غفوة أو سهوة؟ أواجه الدعارة فى بيتى، والوحدة حتى أثناء علاجى وأنا وسط من أحب. صراخ الحقيقة فى فكرى، وأشواك الخوف تحت قدمى، ولا سبيل أمامى إلا الاستمرار فى هذا دون أن أرفع أى شعار أحتمى به ولو بعض الوقت. لست متصوفا ولا زاهدا ولا مجذوبا، أنا عار من كل شئ. أعبد الحياة وأصر عليها وأنا أنزف دما من كل جانب ولا أحد يلتفت إلى حقيقة صراعى، يا دمى المسكوب أصرخ فيهم أنى وحيد، وأنى فى نفس الوقت مصر على تلقى الحراب والسهام عارى الصدر حتى النهاية.
بلغ بى الغيظ من عمى عبد السميع أن صحت فيه أن مرضه بأمعائه كفر صريح، قال منزعجا:
هذه مسخرة !! المرض كفر؟.
كنت ساعتها على يقين مما أعنى. نعم يا عبد السميع يا بن الأشرم، كـفر.
يا خيبتى البليغة، نسيت أنى مريض أتردد على عيادة طبيب، فهل أنا أيضا كافر؟ لابد أنى كذلك. هذه الوحدة وهذا الخوف كفر صريح بلا شك. شاطر أنا فى الهجوم على الناس. لا أكف عن إسداء النصح وكأن كل شئ عندى قد تم واستقر. عذرى أنى فى صراع دائم. أهاجم بلا هوادة، وأحيانا بلا دعوة. أقول كلاما كبيرا يخرج منى بيقين هائل لو وصل إلى عمق وجدانى لعشت بقية حياتى كما حلم كل الأنبياء.
قلت لعبد السميع بنفس اللهجة:
- أنت لا تعرف الله.
- لا تفكروا فى ذاته، ولكن فى مخلوقاته.
- أنت لا تفكر لا فى ذاته، ولا فى مخلوقاته، ولا فى أى شئ أصلا.
- أعمى أنا؟.
- بل على قلوب أقفالها.
- يعجبنى منك أنك تحفظ كلام الله وتستشهد به.
- كلام الله داخلنا، إذا ما صدقنا خرج سهاما للحق ومشاعل للحياة.
يا صلاة النبى على، من أين آتى بكل هذا الكلام كالقنبلة الذرية، كيف يخرج منى بلا تردد ولا خجل “سهاما للحق ومشاعل للحياة”، ثم أرتد فأجدنى وحيدا مسكينا لا حول لى ولا قوة، لماذا لا أشعل الحياة من حولى فورا وأضرب الباطل بسهام الحق فينصلح الناس. هذه خطابة خائبة فى الأغلب. ليس تماما.
أريد أن أعرف أين أنا؟ من أنا؟! أحاول أن أتحسس طريقى بهدوء وحذر. أنا على يقين من أنى على صواب م. لو أعلنت ذلك أو بعض ذلك بلا حساب لكان مصيرى هو المستشفى العقلى، أو السجن حسب مزاج الساسة، أو خوف الأطباء أيهما أغلب.
أحترم قانون العقوبات بنفس الدرجة التى أحترم بها هذه القوة الطاغية داخلى ذات القانون الخاص، أخاف من الخارج الكاذب القاهر الغبى. قانون العقوبات وكل القوانين أغبى قيود صنعها الإنسان بمحض إرادته ولكنها هى هى التى تحمينى من أن يقذفوا بى فى مستشفى المجانين بقية حياتى. ربما هذا هو سر خوفى ومبرراته، أرى الواقع فى نفس اللحظة التى أواجه فيها الحقيقة، الواقع غير الحقيقة. أحيانا يكون نقيضها.
يا للقسوة! ما أسهل أن ترى أيهما وترتاح، لو أنكم تعرفون قسوة كل هذا ما تركتمونى وحيدا هكذا؟ مر الواقع لا يخففه الهرب منه، أو التحايل عليه. أمضغه فى أناة، وأتجرع عصارته حتى الثمالة. ما أسهل الصياح والجنون والدعارة يا أوغاد، ما بين قانون العقوبات وإلحاد غالى جوهر ومادية زوجته العمياء، وتشيخ عبد السميع الأشرم لابس مسوح الدين يغطى بها عينيه وأذنيه ووعيه، سوف أعيش مصارعا إلى النهاية… لا تراجع ولا تردد، ولا استسلام يا عبد السميع، إسمع لما أقول لك يا جدع أنت: اتق الله، المؤمن ليس ذليلا ولا جبانا.
أقولها لنفسى قبلك يا أخى، سوف أقهرها بعنف الأولين، وحساب الآخرين، لا خوف ولا ذل بعد اليوم يا إبراهيم الكلب.
-4-
كيف يا نجوى أعيش بلا خوف وأنا أعانى كل هذه الوحدة، أجتر آثار الخيانة، وأنت تحسبينى الحكيم القوى إلى النهاية، هل غرك أنى أبدو وكأنى ملجأكم، وكأنى طبيب مجانى قبل الجلسة وبعدها؟ هل غرك صوتى العالى ومنطقى الواثق وحبى للحياة؟ أنا أحب الحياة يا نجوى لأنى أحمل فى داخلى موتا يكفيكم جميعا. حتى أنت جئت تسأليننى وكأنى أحمل مفاتيح خزائن السعد، وما أنا إلا مريض يصارع الموت والضياع. أتسلق جبال الوحدة وأقتحم كهوف الخوف دون سلاح إلا تعويذة حب الحياة والناس “تسأليننى ما الحرية؟” وكأنى أعرفها. أجيبك فى وضوح ثابت “هى المسئولية” وندخل فى نقاش حول حرية الحيوان وحيوانية الحرية. تتذكرين مختار وألاعيبه الخاصة، ونداءه المتصل مثل ذكر الصرصور الأسود فى ليالى الشتاء. أحذرك منه ومن خطره، وكأنى أحذر نفسى، ثم أدعك لنفسك. لا بديل عن أن تهتدى وحدك.
- إسمع.. لو أطلقت نفسى سوف أكتسح العالمين وقد يتميز التاريخ، أنت لا تعرف طاقتى ونهمى.
- أعرفها، وأخاف منها أحيانا، ولكنى أعرف أنها مهرب من حريتك الحقيقية.
نعم أخاف منها يا نجوى ومنك، لقد ذكرتنى أن كل هذا قد يكون “سر صبرى وسر شقائى الداخلى اللذين لا يعرفهما أحد”. أنا أجيبك بأن “شقائى قد يكون حريتي” فهل صدقتنى يا نجوى؟ ما أغباك لو صدقت، لقد ضبطتنى متلبسا بالشقاء مثلما ضبطنى مختار ممتلئا بالخوف، وضبطنى غريب غارقا فى الوحدة. ما كان أكذبنى يا نجوى وأنا أقول لك “لابد من عش فى النهاية، أزواج الحمام تهدل فى كل مكان”. كيف جرؤت على قول هذا وعشى قد أختبأت فيه حية رقطاء تلتهم زغاب الحمام، بل بيضه أولا بأول، لماذا صدمت لما عرفت أننى متزوج؟، وأن زوجتى فى تلك اللحظة فى حضن عشاقها تبحث عن زاوية مظلمة تختبئ فيها وهى تبرر بها عماها وإصراها على التوقف، حاولت يا نجوى أن تخفى صدمتك بهجوم وقسوة لم أفهمهما.
- “لهذا فأنت صاحب فضيلة، وتدعى أن الدنيا بخير”
هل أملك إلا هذا يا نجوى، لماذا أنتظر لو كانت الدنيا بشر؟ لماذا أعيش ثانية واحدة؟ هل أمضى وقتى أنفخ فى مزمارى للحية الرقطاء، وهى ترقص على أنغامى؟ والصغار ينزلقون فى جوفها مع نغمات المزمار، وهى تنفث سمومها فيمن يقترب منها أو تلتف حوله حتى الموت؟ لابد أن تكون الدنيا بخير حتى أجد لنفسى عذرا يبرر وجودى دون قتل أو انتحار، وإن لم تكن بخير فلنملأها أنا وأنت خيرا.. أو… أو لتنته الحكاية بيدى لا بيدها ولا بيدك.
ليس أمامى خيار بين الموت والحياة، لن أقبل أى صورة للموت إلا بعد أن تكف أنفاسى عن التردد، إما أن أواصل سعيى بكل ما يدب فى من نبض أو يهمس لى من أمل أو يهزنى من رعشة، وإما “لا” كاملة، والآن. لو قطعوا يدى ورجلى ولسانى وفقأوا عينى وأصموا أذنى لاستمررت أتدحرج هنا وهناك على غير هدى لعلى أصدم بكاذب يفيق من كذبه، إذ يرى بشاعة منظرى وإصرارى على الحركة حتى بلا غاية ولا وسيلة. أتصور نفسى وأنا على هذا الحال من العجز وأقول إنه حتى لو افترسنى وحش جائع أو التفت حولى أفعى دنيئة فلسوف أحس بقيمتى وأنا فريسة تصرخ لتعلن عدم استسلامها إلا لقهر خارجى لا تعرف مصدره أصلا ولا طريقة دفعه. سوف أحيا يا نجوى من أجل ما فى الدنيا من شر.. لأصنع الخير منه وربما أكتشفت أنه ليس شرا أصلا إلا لأننا تركناه يستشرى.
سوف أستمر يا نجوى حتى لو بقيت وحدى مدى حياتى. (أريد أن أصدق نفسي).
فلماذا تتركيننى وحدى يا غبية، يا أغبياء؟.
أحاول اختراقك واختراق كل من حولى؟ لنتواصل بأى درجة ممكنة من الصدق، ولكنك إما أن تهاجميننى أو تعتدين على. أنا لم أعد أطيق أيهما منك أنت بالذات، أفكر فى أن أنسحب إلى وحدتى فى انتظارك أو انتظار أى واحد يريد. قد أعذر بسمة وهى تطمئن لإصرارى ووضوح رؤيتى والتمادى فى نقاشها نقاشا حادا مثل السيف، قاطعا مثل الماس، ولكن معك يا نجوى يا من تركت الجمل بما حمل سعيا إلى حقيقة ذاتك…. فـلا، وألف لا. أدعوك للرجوع إلى زوجك وابنتك بدلا من التردى فى هاوية زوجتى الغبيه، زوجك وابنتك أولى بك. لو لم يكن لديك بديل إلا اللذة العابرة أو الركوب والإلتهام. حتى بسمة الرقيقة ترانى فى أوقات صحوها على حقيقتى وهى تحيى فى الأمل أن يرانى أحدكم قبل النهاية.
-… ولكن أنت، أنت هارب بجلدك يا إبراهيم وتخدعنى بألفاظ فخمة.
- لا أنكر مصيبتى، ولكنى لا أخدعك يا بسمة. حقيقة أنا أستعمل ألفاظا فخمة ولكنى لا أجد غيرها إلا الكذب، الألفاظ إما مسئولة نابضة، أو جوفاء باهتة، وألفاظى تخرج من أحشائى يا بسمة يا حبيبتى، لست على عقيدة غالى أو ذهول عبد السميع، وما أنا إلا مصارع دائم بلا حول ولا قوة.
- ووحدتك؟.
- لست وحيدا يا بسمة ما دمت أصارع وحدتى فى كل لحظة، قد لا أنجح أبدا فى التخلص منها، ولكن صراعى المستمر معها يبرر استمرارى منتصرا حتى النهاية، حكمتى يا بسمة -قلت لك – نسجتها من الوحدة والهجر والدعارة والجنون، قلبى عليك وقد رأيت كل هذه الرؤية وأنت بعد فى أول الطريق، ما أشجعك وأشقاك، ياليتك تمتعت قليلا بلذة العمى. يا ترى هل كان للعمى لذة؟ قلبى معك يا بسمة حتى لو تراجعت فهذا حقك ولو بضع سنوات.
أين أنت يا نجوى يا ابنة شعبان يا راقصة السلم بلا شمعدان.
-5-
مثل القضاء والقدر أبلغتنى نجوى بصدورالحكم دون استئذان أو انتظار لرأيى، وقبل التنفيذ طلبت طلبا واحدا هو أن يكون قتل الوحدة إعلانا للإيمان.
فعلتها يا نجوى وسط النار، والجرح لم يندمل بعد، وأنا على أتم الاستعداد لمقاومة أى اقتراب كاذب. لن تتكرر مأساة الكذب والدعارة بإذن المأذون أو بسببه، لن تتكرر قصتى أو قصتها.
- هل يمكن يا نجوى؟.
- قد أمكن.
- ماذا تنتظرين منى على وجه التحديد.
-.. لا شئ.
- لا شئ بتاتا؟.
-….. ربما التوقف عن الأوهام حتى ندع الفرصة والوقت لالتئام الجرح.
- هكذا ببساطة.
- لم لا…؟.
- وأوهامك يا نجوى…. لعلها أكبر من أوهامى.
- لذلك اخترت أخيرا دون تردد. قررت دخول الحياة.
- ومن يضمن الاستمرار؟.
- رحلة الداخل والخارج… منهم إليهم.
- هل تحبيننى يا نجوى؟.
- خيبك الله… طبعا لا.
- أعلم إجابتك أردت أن أسمعها لأطمئن.
- يا شيخ…؟!!!!.
- لا أنكر أنى أحتاج ذلك الذى يبدأ بك، وينتهى بك، مارا بكل الناس.. وأنا واحد منهم. هذا هو ما يشعرنى بالاختيار والطمأنينة معا
- أمامنا عمل لا ينتهى.
- دين الناس علينا.
- لابد أن نوفيه لأصحابه.
- ذهبت الوحدة إلى غير عودة.
- بل أصبحت السبيل الصحيح للحياة.
***
أعيش هذه الأيام معها بدونها، لا أصدق أن هذا ممكن، أدخل عالمها وقتما أشاء دون شرط أو مقدمات أو مطالب، وأستقبلها وقتما تريد بلا حقد أو عدوان أو اعتما.د تطردنى فلا أموت، وأطردها فلا تجرح كرامتها. أؤمن أنى سأجدها وقتما أريد، لأنها تجدنى حين تقرر، نحترم العلانية والناس بضعفهم وخوفهم. الناس يملئون حياتنا بلا واجب ولا اختناق، لا ننسى أنفسنا من أجلهم ولا ننساهم أبدا.. نعيش بعمق دون خوف من الوحدة أو الجنون مع أن الألم لم يختف لحظة. الناس جزء لا يتجزء من وجودنا، عماهم مسئوليتنا وعملنا الهادئ لا يساوى شيئا إن لم يفتح الطريق لأكبر عدد منهم للحصول على اللقمة والعدل طريقا للوصول إلى الله.. إلى أنفسهم.
أحبك يا نجوى لأنى أحب نفسى لأنى أحب الناس، حلقة بلا بداية ولا نهاية، أتجه إلى نفسى فأجد الله، وأتجه إليك فأجد الناس، وأتجه إلى الناس فأجد نفسى.
***
يارب… لم أطلت الطريق علينا..
أهكذا؟.
أوضح الأمور أصعبها؟!.
والمستحيل… هو هو أبسط صور الممكن؟!!.
الخاتمة…….
الوقت: بعد فترة ما من أحداث هذه الرواية.
المكان: عيادة د. عبد الحكيم نور الدين.
الأشخاص: الطبيب، ومساعدته إصلاح فاضل.
المنظر:
عدد من المرضى يخرجون الواحد تلو الاخر، ليسوا من أشخاص هذه الرواية، وما يكاد يخرج آخر واحد منهم حتى تـلقى إصلاح بنفسها على الكرسى، فى ثورة مكتومة، تنظر إلى الأرض مليا، ينظر إليها عبد الحكيم وكأنه ينتظر شيئا يعرفه، ترفع إصلاح رأسها وتواجه أستاذها بوجه غاضب:
- يعجبك هذا؟.
- مازلت يا إصلاح كما أنت رغم مرور السنين.
- أحس أحيانا أنى قوادة حين أفكر فى مصير الشموس التى تضئ هنا ثم تنطفئ وتهبط مثل النيازك المحترقة بعد حين.
- ولو..!
- أنت تعلم أنى أتهمك قبلي.
- طبعا أعلم.. ولا أتخلى عن مسئولية ما أفعل.
- أليست حكمتك وعقاقيرك أحيانا هى التى تسمح لهم بذلك؟ وأنا؟ ألست أساعدك فى ذلك؟.
– وهل جنونك الذى لا يهدأ هو الذى سيحافظ على شموسهم مضيئة يا إصلاح، ألم تتعلمى بعد؟.
- حيتان الظلام تلتهم بشائر النور أولا بأول.
- أبدا. حتى النيزك الساقط يضئ قبل سقوطه. علينا أن نقذف إلى المجتمع فى غفلته بحصان طروادة مشتعلا مخيفا بين الحين والحين.
- تصر أن المحاولة تستحق حتى ولو لم يفعل أحد شيئا.
- الجميع يفعلون بالرغم منك، وما علينا إلا زيادة الرؤية بالقدر المزعج المسئول.
- أليس هذا فنا لا ثورة؟.
- ولم لا.. ليكن خليطا بين هذا وذاك.
- يا ويحى من ثقتك وهدوئك، ويا خوفى من معادلاتك الصعبة.
- أنت تعلمين أن هذا هو ما أضطر أن أواجه به جنونك، لكنك أعلم بما بي.
- وتصر على الاستمرار؟.
- ليس لى خيار… إلا أن أتنازل عما هو إنسان في.
- تبا لك.. ولليوم الذى رأيتك فيه.
- مازلت مختارة، كل الطرق أمامك.
-عملتها، والذى كان قد كان.. ولكن أرجوك خفف من جرعة “الواقع” قليلا
- ليس أمامنا إلا اللغة العادية.. لكافة الناس.
- فالمصيبة أكبر يا مولانا.
- مازلت مختارة.
- إن كنت أنت مختارا.
- مختار رغم أنفك.
- تمتع بأوهامك.
- سوف نري.
- سوف نري.
* * *
انتهى الجزء الثانى، فتلاه – بعد ربع قرن – الجزء الثالث:
”ملحمة الرحيل ….والعود”
تحصيل حاصل
شخصيات هذه الرواية ليس لها وجود فى الواقع، بأى صورة، اللهم إلا إذا كان وجودها فى كيانى الذاتى هو هذا الواقع…
لذلك لزم التنويه!
(1977)
شكـر
رسم اللوحات فى هذا العمل الفنان محمد علوان (الآن: الدكتور محمد علوان) من المنصورة دون أن أعرفه أو ألقاه ودون أن يحدد لى أسماء الشخصيات..، وقد كان لإحساسه النابض بالعمل ما طمأننى على إمكانية التواصل.
أنا لا أستطيع أن أشكره فعلا إلا بأن أستمر فى المحاولة وأرجو له مثل ذلك بالرغم من كل شئ.
(1978)
الطبعة الثانية:
ثم ضاعت أصول الصور، فاضطررت فى هذه الطبعة إلى النسخ من الطبعة الأولى، الورق رخيص والطباعة رديئة، فكان هذا التشويه الذى ربما زاد منه ألعاب الحاسوب الغـبية. عذرا.
(2008)