جريدة التحرير
8-9-2012
تعتعة التحرير
محفوظ لم يرحل، وها هو يعلمنا: “ما الحماقة”
“الموت لا يجهز على الحياة، وإلا أجهز على نفسه”
هذا ما علمنا إياه نجيب محفوظ: (ملحمة الحرافيش، ص 66)، ونحن لا نريد أن نتعلمه!!
فوجئت وأنا أقرأ سلسلة المقالات الطيبة والثناء العاطر بمناسبة ذكرى رحيله، فوجئت أننى لم أنتبه إلى تاريخ رحيله هذا العام مثل كل عام!!! هل نسيت؟ طبعا لا!! إذن ماذا حدث؟
اكتشفت أنه منذ زعم رحيله لم يتركنى ثانية واحدة، ليس بمعنى التذكر العاطفى ولا شجن الشوق، وإنما بمعنى الحضور الحى، فأنا ألتقى به كل خميس بلا انقطاع، وأعلن ذلك جهارا نهارا فى نشرة باسم “الإنسان والتطور” تصدر يوميا منذ أكثر من خمس سنوات فى موقعى المتواضع، وأحيانا أطلب من أصدقائه ومريديه أن يحسنوا ذاكرتى أو يثروا محاولاتى، ولم يبادر أى منهم إلا د. زكى سالم ببضعة تعقيبات مشجعة أو مصححة، وقد بدأت هذا النشر المنتظم بعد أن أفقت من آلام حنين الغياب الجسدى، فرحت استحضاره كل خميس من تاريخ 27-9-2007 بدءًا بسلسلة ما سجلت فى لقاءاتى الأولى معه: “فى شرف صحبة نجيب محفوظ” وحتى 21-4-2011، ثم تلتها مباشرة سلسلة نشرات “نقد أحلام فترة النقاهة” من تاريخ 17-9-2007 إلى أن انتهت بتاريخ 5-11-2009 والتى نشرت فى كتاب عن دار الشروق 2011، وبعدها مباشرة رحت أواصل مهمة أصعب وأثرى وهى “قراءة” فى “صفحات تدريباته” التى خطها عفوا وهو يدرب يمينه المصابة للعودة للكتابة فى كراسات متتالية وقد وصلت إلى الصفحة المائة من مئات صفحات أخرى متبقية. عامان كاملان وأنا أعايش خط يده الجميل وهو يهطل علىّ رذاذ من فيض وعى حضوره فيحفز، ويحفز تقليب بحثى وتنشيط معارفى.
نعم: أتلقى خطه مثل رذاذ غمامة وعى طيبة تحل به ولا يصلنا منها إلا تلك القطرات التى تذكرنى بشعر طاغور وهو يقول:
“قالت لى الغمامة: سأمّحى
وقال الليل: سأغيب فى الفجر المضطرم
وقال الألم: سألوذ بصمت عميق كآثار خطاه
وأجابت حياتى: سأموت وأنا فى منتهى الكمال
وقالت الأرض: إن أنوارى تلثم أفكارك فى كل لحظة
وقال الحب: وتمضى الأيام ولكننى أنتظرك
وقال الموت: سأقود زورق حياتك عبر البحر”
اختلفت قراءتى لهذا العمل عن سابقيه أنها أتاحت لى استمرار حضوره فى وعيى وأنا أعايش خط يده كل خميس، قبل كل خميس، بعد كل خميس، فكيف بالله عليكم أتصور أو أتذكر أنه رحل، وها هو حىّ معى بكل هذا الحضور طول الوقت؟ معى وهو يواصل تثقيفى وهدايتى، وهو يعلمنى قرآنى يشرق من جديد بالجديد، وهو يهدينى إلى تراثى وروعته، وهو يزيدنى حبا فى لغتى الجميلة العبقرية، وهو يدندن لى بألحان سيد درويش أو شدو أم كلثوم، ثم إنه يحضرنى أكثر ويملؤنى أكثر حين تتصادف تدريباته أن تحرك عندى حالا ما يرتبط بما نحن فيه من أحداث، أو مضاعفات أو أخطاء تحتاج منه تنبيها لنا، أو قرصة أذن للإفاقة مثل ما يلى:
ذات صفحة تدريب (رقم 30) كتب عن “الحماقة” ما نبهنى إلى ما نحن فيه الآن على أكثر من مستوى.
اولا: بعض نص تدريب الصفحة رقم “30”
بسم الله الرحمن الرحيم
نجيب محفوظ
لكل داء دواء
إلا الحماقة أعيت من يداويها
ان بعد العسر يسرا
ربنا ارحمنا واعف عنا
تبارك الذى بيده الملك
لا فرق بين أسود وأبيض الا بالتقوى
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
26 فبراير 1995
مقتطفات من قراءتى لها:
حين قرأت بعد البسملة، واسمه، السطر الأول وحده “لكل داء دواء”، لم تبلغنى الرسالة، لكننى حين انتقلت إلى السطر التالى وجدت أن السطر الأول ليس إلا جزء من شطر بيت شعر للمتنبى الذى يقول فيه:
لكل داء دواء يُسْتَطَبُّ به
إلا الحماقة أعيت من يداويها
رحت أتابع ما الهمتنى كلماته عن بعض أصل ما جاء فى “الحماقة” متبعا مسار سحاب الوعى الذى أتحفنا بهذا الرذاذ، فأوصلنى إلى قول الخليل بن أحمد: الناس أربعة:
“رجلٌ يدري و يدري أنه يدري فذاك عالمٌ فخذوا منه
… و رجلٌ يدري و هو لا يدري أنه يدري فذاك ناس ٍ فذكروه
… و رجلٌ لا يدري و هو يدري أنه لا يدري فذاك طالبٌ فعلموه …
و رجل لا يدري و لا يدري أنه لا يدري فذاك “أحمقٌ” فارفضوه …”
وبعد
ما رأيكم؟
هل رحل هذا الرجل أم أنه مازال يهدينا إلى حقائق تعيننا على تقييم أنفسنا، وشبابنا، وحكامنا الآن، او ربما ترشدنا إلى آليات اختيار من سيلونهم فى الانتخابات القادمة.
حين تثأر احتمالات أن هذا الربيع العربى هو بفعل فاعل، لحاجة فى نفس صهيون، لا ينبغى أن ينتقص ذلك من شرف أغلب شبابنا، ولا أن يشوه قطرة عطر من دم شهدائنا الزكى، لكنه ينبهنا أنه حتى لو صح ذلك فعلينا أن نحول الدفّة إلى صالحنا، ونحن نتعلم مما أوحى به ما خطه شيخنا بمحض الصدفة، ما نقيم به خطواتنا لنصحح خطانا.
ألا يجدر بنا أن نتعلم كيف لا نجمع كل شبابنا فى سلة واحدة ونحكم عليهم إما بالعمالة الخائنة، وإما بالبراءة العمياء، وإما بالجهل العشوائى، ألا يدفعنا بعض ذلك إلى حسن تصنيف هؤلاء جميعا لنفرز من بينهم الأبطال الحقيقيين الذى لهم الفضل – مهما كان الباعث- فى أية إيجابيه تبقى من كل ما جرى ونفرز الحمقى ونرشد طالبى العلم.
وعلى الجانب الآخر، ألا يجدر بنا ونحن نقيم قرارات وتصريحات وإجراءات حكامنا الجدد، فى الداخل والخارج، أن نتساءل مع شيخنا وما أوحى به لنا من عمق تراثنا، أى نوع من أنواع الناس يحكموننا، وحين نلتمس لهم العذر بعدم الخبره، أو عدم العلم لا نتسامح لدرجة قبول الحماقة التى يمكن أن تكون مهلكة بلا أمل فى التراجع.
وقبل كل هذا، وبعد كل هذا يلحقنا محفوظ فى نفس الصفحة فيؤكد لنا قبل أن نستسلم للأفكار السوداء التى تلوح لنا بالفشل – ولا يخلو بعضها من شماته – يلوح لنا أن بعد العسر يسرا، وأن ربنا أرحم من أن يعاقبنا بأخطاء الحمقى منا إذا نحن عرفنا معنى “التقوى” التى تشمل كل مستويات العدل وأنه لا فرق بين اسود وأبيض إلا بالتقوى، وأنه تبارك الذى بيده الملك، وهو على كل شئ قدير.
لا يا شيخى الجليل
لَمْ ترحل
ولن ترحل
وإلا فنحن لا نستأهلك