جريدة التحرير
10-3-2012
تعتعة التحرير
متى نملأ الوقت: بما هو أحق بالوقت؟
أمارس العلاج الجمعى منذ أربعين عاما وواحد (منذ سنة 1971) أسبوعيا فى قسم الطب النفسى فى قصر العينى، بالإضافة إلى ممارسة أقل انتظاما خارجه، المرضى فى قصر العينى أصدق تمثيلا لما يسمى “الشعب المصرى” حيث العلاج بالمجان، والحضور اختيارى، والمستوى الاجتماعى الاقتصادى التعليمى يمثل أغلبية الشعب المصرى الحقيقى، لا شعب ميدان التحرير، ولا حتى أغلب شعب صناديق الانتخاب، هم ناس كادحون بسطاء يعانون مثلما يعانى المصريون الطيبون، وتزيد معاناتهم لدرجة يصنفها الأطباء على أنها تحتاج رعايتهم، فيسمونهم مرضى بالتعريف السائد، لكنهم أساتذتى بحق، لم أتعلم منهم مزيدا من تفاصيل تشريح الطبيعة البشرية فحسب، وهو ما أسميته مؤخرا “نقد النص البشرى”، وإنما تعلمت منهم “مصر” ووعى شعبها الجمعى، وطريقى إلى الحق تعالى، ثم تعلمت منهم معنى الزمن، وجوهرية اللحظة وثقل أمانتها.
سوف أركز اليوم على هذه النقطة الأخيرة عن اللحظات والزمن، فالزمن يتجسد فى هذا العلاج الجمعى من خلال تفاعلنا معا معالجين ومرضى فى عمق اللحظة التى هى جماع كل الحياة وجوهر الوجود المتجدد، وأنا لم أفهم جوستان باشلار فى “حدس اللحظة”، إلا من خلال ممارسة هذا العلاج.
رحت أتابع بكل المشاعر على الناحيتين ما يجرى فى بلدنا، ومن الشباب خاصة طوال هذا العام، وتساءلت: هل يعرف هؤلاء الناس، والشباب خاصة، شيئا عن هذه اللحظة التى نعيشها معا أنا وهؤلاء الذين أعتبرهم أكثر تمثيلا للمصريين الطيبين البسطاء العباقرة؟ هل هم يعرفون كيف نحاول أن تمتلئ لحظاتنا الواحدة تلو الأخرى بما ينبغى أن تمتلئ به؟ هل يحاسب أى منهم نفسه بعد الغضب والاحتجاج والثورة والمطالب والشجاعة والتضحية، هل يحاسب أى منهم نفسه عن حمل أمانة لحظاته واحدة واحدة؟
إذا كانت الثورة هى إعلان أنه قد آن الأوان لتغيّر كيفى جسيم إلى أحسن، فهى بداية رائعة لاحتمال خطير غير مضمون عادة، فهى بعد هذه اللحظة الفارقة لا تعدو أن تكون “أزمة مفترقية” مثل كل أزمات النمو للفرد، وأزمات التطور للنوع. قبل هذه اللحظة الفارقة وبعدها تأتى مسئولية “ملء الوقت بما هو أحق بالوقت”، (تعريف للتصوف).
لم أكن أتوقع أن لمثل هذا القول ما يقابله فى ثقافة أخرى، حتى قرأت على نتيجة أصدرتها ابنتى أ.د.منى التى لها– مع زميلاتها وزملائها- فضل تأسيس أول جمعية مصرية للعلاج الجمعى فى الشرق العربى، قرأت كلمة شهر فبراير التى زينت بها ابنتى نتيجة الجمعية لهذا العام 2012، وهى كلمة لواحد اسمه “بالمر” (لم أهتد بعد لمعرفته أكثر) يقول فيها: “إنك لا تعلم أبداً مدى تأثير ما تقوله أو تفكر فيه أو تفعله اليوم على حياة الملايين غداً”.
تصورت أن شبابنا الرائع قرأ هذه العبارة مثلما قرأتها، فالتقط كيف أن الفرصة الآن لتحقيق مصداقية هذه الكلمة هى أكبر من أى وقت مضى نتيجة لثورة التواصل والاتصالات، التى أصبحت تسمح لكلمة أى واحد أن تصبح ذات تأثير على الملايين عبر العالم، وليس فقط تأثيرا فى تربيط أو تفكيك الشرق الأوسط الملوّن، تصورت لو أنهم قرأوها مثلما قرأتها فشعروا بمسؤولية كل ما يفعلون، وما يقولون، وما يهتفون به، وما يطالبون به، بل وما يفكرون فيه حتى لو لم يخرج عن حيز التفكير، لو أنهم صدقوا أن كل فرد يعيش كل ثانية وهو يشارك إيجابا أو سلبا ليس فقط فى مصيره، بل فى مصير نوعه، لو حدث ذلك، أو بعض ذلك، إذن لراهنتُ عل نجاح تشكيل ما أسميه “الوعى العالمى الكونى الجديد” القادر على مواجهة “النظام التآمرى العولمى الأمريكى الصهيونى الجديد) إن ثورة التواصل وشبكية التبادل قد أتاحت أكثر فأكثر أن تكون اللحظة، والفكرة، والكلمة، من كل فرد عبر العالم، مسئولة عن مصير كل النوع بطول الحياة وعرضها، لعل هذا ما يمكن أن أستلهمه من قوله تعالى “أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا …… (25) (سورة إبراهيم).
ما دام الأمر كذلك فإنه من أهم أولياتنا حتى تكون ثورة، وليست أزمة مفترقية يمكن إجهاضها، أن نحمل أمانة لحظاتنا وما نملأها به من عمل أو فكر أو قول، حتى نحمل شرف أن تدرج مع ما هو طيب يؤتى أكله كل حين، أو قد ننتبه إلى معنى الحديث الشريف أن ما نقوله “لا نلقى له بالا” قد يلقينا فى جحيمنا عددا لا حصر له من السنين!
اتسعت علينا المعركة نحن البشر، وأصبح من الممكن أن يؤثر سلوك كل فرد على حدة فى مسار ومآل نوعه جميعا
يبدو أن الحال كان كذلك على مدى التاريخ الحيوى لكل الأحياء التى نجحت أن تفلت من الانقراض عبر التاريخ، حتى بدون أن تتورط فى الوعى باللحظات والرصد بالكلمات، فلا شك أن سلوك كل وحدة من الكائنات الحية ساهم فى تحديد مصير ملايين الوحدات من نفس النوع إما مع التطور والبقاء، وإما ضد الحياة ومع الانقراض، تم ذلك عبر تاريخ الحياة بدون فضائيات، ولا فيس بوك، ولا تويتر، ولا صحف والعياذ بالله، فما بالك وقد امتلك أحد هذه الكائنات المسمى الإنسان كل هذه الأدوات كما هو الحال الآن؟
حين أتذكر أنه قد مر على بداية الأحداث وفرصة التغيير النوعى عام وبعض عام، وأن عمر الحملة الفرنسية هى ثلاث سنوات لا غير، وعمر الاحتلال الإسرائيلى هو ثلاثة أرباع قرن، تطل على أسئلة فى نفس السياق عن علاقتنا بالزمن، وضياع أغلبه فى حسابات الماضى والانتقام، وتراودنى عشرات الأفكار عن ثقافة اللحظات، وأمانة الوقت، فأتمنى أن يشاركنى ناسى وشبابنا خاصة هذه المسئولية، التى لا بد أن تنبهنا إلى أنه آن الأوان أن نتجنب تكرار النص، (إعادة السكريبت) لكى نبدأ فى القيام بدورنا الرائع بأن نملأ الوقت بما هو أحق بالوقت، فتكون حضارة، ويكون انتصار للبشر والحياة فى كل الدنيا.
إذا كانت هذه هى معالم علاقة الشخص العادى بالوقت، وكيف سيحاسبنا الوطن عليه، وكيف سيدفع النوع ثمنه، ناهيك عن حساب رب العالمين، فما بالك بوقت من يتولى أمرنا، ومتى ينتبه أن ما يفعله، وما يفكر فيه، وما يقوله، يؤثر فى ملايين ناسه حالا، وملايين البشر غدا؟