“متواطئــون!!!”

“نشرة” الإنسان والتطور

7-1-2009

السنة الثانية

العدد: 495

“متواطئــون!!!”

اعتذار(آخر)

يبدو أننى سأطرح جانبا من هذه النشرات موضوع الطب النفسى حاليا، بل وربما كل الأمور المسماة “نفسية” لفترة لا أعرف مداها. ما زلت أعانى من شلل الكتابة نتيجة ما يبلغنى من الجارى دون مشاهدة، تجمدت أصابعى على مفاتيح الحاسوب وأنا أهم بالرجوع إلى حالة “سامح”، ذكرت أمس ما حضرنى من سخف التعرض لحالة صبى بما عرفتم عنه، مهما كان فى ذلك من علم أو تنوير أو مسئولية علاجية.

كيف أفعل ذلك وسط هذا الجارى فينا وحولنا وبنا هكذا.

من لا يتحمل مسئوليته فهو متواطئ

رحت أتابع مرغما بعض ما ينشر فى بعض الصحف، بعد أن قاطعت مشاهدة التليفزيون، متجنبا الصور حتى فى الصحف ما أمكن ذلك، وإذا بصحافتنا القومية  بوجه خاص، وبعض  الصحف العربية، تكثر الحديث عن  المتواطئين المسئولين عن الجارى، من أول هنية  حتى ليفنى مرورا بمحمود عباس وحسنى مبارك، ثم بصفة أشمل: بسوريا وإيران، وأمريكا وحزب الله، واللاجئين الفلسطينين، وجمهورية مصر العربية، ولا مانع من ضم دارفور، وبنجلاديش، والهند أو الصين، من يدرى؟ كل هذا ليس عندى اعتراض مباشر عليه، ولكلٍّ وجهة نظره بشكل أو بآخر، الجميع مشتركون فى المسئولية طبعا، وحتى حكاية متواطئون، فلا مانع أيضا، فمن لا يتحمل مسئوليته فهو متواطئ بشكل غير مباشر.

صدمتنى هذه الجملة الأخيرة وكأنها خرجت منى غصبا عنى، هذه جملة خطيرة، قد يصلنى عبؤها أول من تصله، ألا يكفينى ما بى؟ بماذا أرد إذا حاسبت نفسى متسائلا: هل  أنا تحملت مسئوليتى فعلا، هل أنا فعلت أو أفعل ما يبعد عنى تهمة التواطؤ إن صح ما أنهيت به الفقرة السابقة من أنه، “فمن لا يتحمل مسئوليته فهو متواطئ“؟

هل يجرؤ أن يسأل أى منا نفسه بشكل مباشر، أو غير مباشر، عن تواطئه، المباشر أو غير المباشر؟ فإن كان الله قد أمر بالستر، وكانت رحمته قد فاضت علينا بنعمة ميكانزم “العمى” الذى يلهينا عن أنفسنا حتى نستطيع أن نواصل الحياة، فكيف يمكن أن يستمر عمانا بنفس الحجم  والجارى هذا جار هكذا، إلى هذا المدى؟

هذا الذى يجرى ليس ببعيد عن تاريخ هذا الكائن الحى الغبى المسمى “الإنسان”، تاريخ هذا الإنسان ملئ بالقتل والدم والظلم والقهر والإبادة، تاريخه الذى أعنيه قد سجلته الأساطير أصدق وأدق من كل مراجع التاريخ المعروفة، تـُنبؤنا الأساطير كيف أكل الآباء أبناءهم، وبالعكس، وكيف قتل الإخوة إخوانهم، وكيف قتلت النساء رجالهن، وكيف أبيدت شعوب لحساب أخرى، وكيف اختفت لغات لتحويل أصحابها إلى من ليسوا هم، وكيف وُئدت بنات، ومُحيت حضارات، وهـُدمت صوامع، وسُحق ضعفاء…إلخ، لكننا كنا نتصور أن الأمور تسير إلى أرشد وأكرم بعد أن نبهنا ربنا أنه كرم بنى آدم  بعقله، بعقوله معا، حين أرسل لهم رسله تهديهم إلى بشريتهم ==> إليه سبحانه وتعالى، كنا نتصور أن هذا التاريخ الدامى قد أصبح حكيا نطالعه فى الأساطير، فأذا به يواجهنا رأى العين، بأبشع وأقبح مما سمعنا، وما لم نسمع فى الأساطير، وغيرها.

ما العمل الآن والأمر كذلك؟

دع الحكومات والرؤساء يتراشقون بالاتهامات، أو يتبادلون الأحضان والقبلات بين كل جولة قذف وسباب، ودع الهتافات تصعد إلى عنان السماء، دون أن تقلب نظاما ظالما واحدا، ودع أوباما يرقص مع مذيعة التليفزيون الأمريكية بعوده السمهرى وهو يلوح بآمال يبدو أنه لا يعرف حجمها، أو أنه دون حجمها، ودع ساركوزى يصرح فى شرم الشيخ أن حماس تصرفت بشكل لا يغتفر (الأهرام 6 يناير 2009)، ودع ممثل الاتحاد الأوربى يصرح أن ما تفعله إسرائيل هو دفاع عن النفس،  ودع ميركل تنصح وتفتى وتحذر وتفسر وكأنها تنصح بوصفة جديدة لعمل كعكة عيد الميلاد القادم حتى لا تخرج بنفس بشاعة هذا العام حيث المسئول عن نتانة رائحتها هى منظمة حماس وحزب الله، و….، و….، و…، ودع النفسيين الطيبون يفتون كيف أن هذه الأحداث الجسام تسبب الإكتئاب والأحلام المفزعة جدا جدا، ثم يرشدون الناس مشكورين  إلى  ما يخفف عن نفسيتهم بعض ما يعانون من مشاعر يستحيل وصفها بأبجدية الطب النفسى الحديث  أو بغيرها، ودع الجراحين يلحقون أو لا يلحقون ما تطاير من أشلاء، يجمعونها إلى بعضها  ليخلقوا مما تبقى منها شبه جسد لم يأذن الله بأخذه كله، ودع أصوات عربات الإسعاف تخترق جدر الأنين المكتوم والصرخات الملتهبة وهى  تعايرنا أننا ما زلنا أحياء، ودع الأمهات يحتضنّ بقايا أطفالهن وهن ينتحبن، و…، و….، و……و…،

(لم أذكر أن عليك أيضا أن تدع تعبيرات وجوه الملوك والرؤساء والمسئولين العرب، منهم لله، لأنك تدعها من تلقاء نفسك).

 دع كل هذا جانبا دون أن تنساه، ودون أن تتقطع ألما وهو لا يتركك تدعه، ودون أن تفرج عن غضبك بتعليق مغيظ أو تفسير دامع،

 دع كل ذلك واحترم ما لم تستطع أن تشارك فيه، فكل من شارك بأى شىء بأى طريقة هو أفضل ألف مرة من مائة متفرج،

دع كل ذلك وتعالى نبحث عن مسئوليتك أنت، مسئوليتى أنا، فى هذه اللحظة تحديدا، “هنا والآن

 قبل وبعد أن نتناقش عن مـَن المسئول من الحكام والأشاوس والأبطال والأوغاد، ولم يبق أمامنا إلى أن نسأل الشهيد عن مسئوليته عن شهادته بالمرة، وكيف سمح لنفسه أن يتخلى عن حياته دون إذن منا، نحن الجلوس على مقاعدنا الآن نفسر، وننظر، ونحكم، ولا ننتظر!!

 قبل وبعد هذه اللعبة التى تتعالى فيها الأصوات، قد تضبط نفسك فخورا وأنت  تذرف الدموع، وقد ينفجر الغضب، وخلاص!!

قبل وبعد اشتراكك فى مظاهرة احتجاجية رائعة،

قبل وبعد تصنيفك  بيقين واضح وثقة مطلقة كل من على الساحة إلى “مسئول”، و”جبان” و”خائن” و”صامد” و”بطل”، و”شهيد” و”متواطئ“.

 بعد وقبل كل هذا: أرجوك أن  تقبل دعوتى لكلينا: أنت وأنا، أن ينظر كل منا فى دوره ومسئوليته، خوفا من أن نكون متواطئين ونحن لا ندرى؟، مسئوليتنا  ليس فيما مضى، وأدى إلى ما نحن فيه، ولكن بدءا من هذه اللحظة؟

 ماذا أنت فاعل منذ الآن بعد أن بلغك ما بلغك؟

 ماذا أنت فاعل حتى “تملأ وقتك بما هو أحق به”؟

أليس هذا هو سبيل النصر الممتد لمن لم يشارك فى المعركة الآنية بأى عذر أو بدون عذر؟

 لقد ملأ اليهود عبر ثلاثة آلاف سنة وقتهم بما هو أحق به، من وجهة نظرهم، فكان ما كان من إبداعاتهم غيرالمسبوقة، ثم ما تلاها من طغيان غير مشروع، وبرغم التناقض الظاهر، فإن هذا ما كان، وهو يتجلى على الجانبين بالقتل والتدمير فى ناحية، والاختراق الإبداعى طول الوقت فى الناحية الأخرى، وإن رجحت كفة التدمير حالا، وهى التى قد تحرمهم من فضل كل إنجازاتهم  التاريخية بكل أسف.

ليسأل كل واحد منا “حالا” نفسه عن ماذا وصله مما شاهد أو سمع أو قرأ، وماذا ترتب على ما شاهد وسمع وقرأ، من إعادة ترتيب أوراقه شخصيا فى فعله اليومى، (بعد البكاء والألم والغضب والعويل، ولا أزيد..) ليسأل كل منا نفسه عن نوع إسهامه فى صد الإغارة الآن ومستقبلا.

أبدأ بنفسى:

واحدٌ مثلى، “هنا والآن”، ماذا يمكنه أن يفعل فى النصف ساعة القادمة أو الثلاث ساعات، أو اليوم كله ؟

 ما ذا عليه أن يفعل؟ حالا ؟ حتى يملأ وقته بما هو أحق به؟ حتى لا يكون متواطئا ؟

  • يواصل إصدار النشرة التى لا بد أن تصدر غدا، كما صدرت يوميا طوال عام ونصف عام فلم يقرأها “من يهمه الأمر” إلا هواية، أو ضغطا أدبيا؟ لماذا؟
  • يبادر بكتابة شيك تبرعا ببعض ما أفاضه الله عليه ليشتروا به أغطية للمشردين فى هذا البرد القارص؟
  • يرتدى ملابسه الثقيلة ويشد الرحال إلى جبهة القتال لعل الله يكرمه بشهادة ترحمه مما هو فيه، بما فى ذلك كتابة هذا الكلام؟
  • يقتدى بزملائه الأفاضل ويكتب عن الآثار النفسية لهذه الأحداث الجسام ليس فقط على الضحايا بشكل مباشر، وإنما عن الآثار التى يمكن أن تترتب على هؤلاء الأطفال الذين امتحنوا بالبقاء أحياء وماذا يكون حالهم حين يكبرون؟
  • يتوجه إلى حيث يمكنه أن يساهم فى ترشيد وتدريب المتطوعين من شباب الأطباء والتمريض للقيام بدور ما فى تخفيف الآلام ورأب صدع النفوس؟
  • يواصل الكتابة حيثما أتيحت له الكتابة وهو يحرّض الناس الذين رضوا أن يكونوا مع القواعد على مزيد من التظاهر والاحتجاج لعل الحكومات تتحرك؟ تتحرك فى أى اتجاه بالضبط؟ تتحرك بالجيوش أم بالنقود أم بالاحتجاج أم بدعوة عقد مجلس الأمن؟ أم بالخطب والتصريحات فالتأجيل والاستعباط؟
  • يتوقف عن كل هذا وينتظر إلهاما غامضا يهديه إلى ما لا يعرف؟

ليست عندى إجابة حاسمة لأى من هذه الأسئلة فورا، هذا لا يعنى أن ارضى بشلل الحيرة الذى قدمت به هذه النشرة ونشرة أمس، لكنه يعنى أن كل تهمة التواطؤ تلاحقنى إذا أنا لم أبدا مختلفا الآن.

إيقاف

 (والله العظيم ثلاثا هذا هو ما حصل)

رسالة على المحمول

دق صوت الرسائل (مسيج!!) على المحمول بجوارى، فتوقفت لأقرأ الرسالة التى وصلتنى حالا، فوجدت نصها كالتالى:

 “… المقاومة الإسلامية فى غزة تطلب من جميع المسلمين فى العالم قراءة “سورة الفتح” الليلة ، داعين الله عز وجل لهم العون والنصر فى هذه الحرب  الشرسة، وعلى العدو الغاشم . أنشر جزاك الله خيرا”

حين وصلتنى هذه الرسالة وأنا فى هذه الحالة من الانفعال بعد الشلل، قرأتها خطأ، قرأت سورة “الفتح” على أنها سورة “الفاتحة”، فتوقفت عن الكتابة وقرأت سورة الفاتحة، وأنا احبها جدا جدا، (وأرفض أغلب تفسير المفسرين والفقهاء لها)  ولم أقصر دعوتى على نصر المسلمين فى هذه الحرب الشرسة، بل دعوته أن ينصر الحق وأصحابه فى كل مكان بكل وسيلة، ثم خجلت من ربى أن أعشم فيه هذا العشم كله، وأنا لم أرد على الأسئلة السالفة الذكر.

هذا ما سوف أحاول الإجابة عليه فى نفس هذه السلسلة من النشرات، وأنا حالى كما يلى:

  • أولاً: أمام ربى (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً)
  • ثانيا: أمام نفسى (بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)
  • ثالثا: مستحضرا – خجلانا– شهيدتين فلسطينيتن كتبت عنهما
  • رابعا: وأنا أقبل يد أم  ثكلى فى خان يونس وهى ترمقنى بغضب
  • خامسا: وأنا أدرس لزملائى مبينا دور شركات الدواء فيما يجرى
  • سادسا: وأنا أستحضر تاريخ أجدادى معتذرا

وغير ذلك كثير

أنا آسف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *