نشرت فى الوفد
22-12-2010
تعتعة الوفد
مازال المطلوب هو: “معارضة تلبس مزيكة”!!
لبس المزيكة لها حكاية عشتها فى أوائل الأربعينات، ونشرتُها فى مقال هنا فى الوفد (4/3/2001)، وخلاصتها : أننى كنت فى زفتى وكانت فرقة موسيقى البلدية تعزف كل يوم جمعة، وهى تمر فى الشارع الرئيسى، بعض الألحان الوطنية وخلافه، ..كان العازفون ثلاثة أو أربعة، لكن المطلوب أن يبدو فريق العزف أكثر عددا ..، فكان الباشجاويش المسئول، أو شيخ الحارة، لست أذكر، يستأجر بعض الناس المناسبين، ….، ويلبسهم لباس العازفين، ويمسّكهم آلات موسيقية كيفما اتفق، ويشترط عليهم ألا يقتربوا منها أصلا، فقط يشوّحون بأيديهم، أو ينفخون أصداغهم وهم يسيرون مع العازفين الحقيقيين. خلاصة القول أن لبس المزيكا لا يتطلب عزفا أصلا، بل إن شرطه الأساسى للحصول على الأجر، ألا يقترب لابس المزيكا من الآلة التى يلبسها مع الرداء الخاص”
قلت فى نفس المقال حرفيا منذ عشر سنوات: “… المسألة اتضحت بلا خفاء: إن المطلوب، أو المسموح به، هو إنشاء أحزاب “تلبس مزيكا”، تنشر مبادئها وآمالها على صفحات صحفها كما تشاء، لكن ممنوع أن تقترب من أوتار آلات االعازفين الأصلين على أعلى الكراسى العالية. مسموح بأحزاب تفسّر الأحلام، وتفتح مدارس لتعليم الحلاقة، وتصدر صحفا جيدة، وصحفا رديئة، وصحفا نصف نصف، بل مسموح جدا ولدرجة غير مسبوقة أن تنشر هذه الصحف كلاما مثل الذى أكتبه الآن، وهذا وحده دليل على أن الكتابة فى الصحف هى من أجمل ملابس المزيكا. يلبسها من يريد أن ينضم إلى”صفوف” فرقة العازفين على شرط ألا يقترب من أية آلة من آلات العزف على كرسى السلطة، فإذا سمح للبعض من الاقتراب من آلة السلطة (آلة العزف)، فيمكن أن يقوم بشد الأوتار، أو تلميع صندوق العود الخشبى، أو تسخين جلد الطبلة، أما أن يطمع أحدهم فى أن يشارك في العزف، فبعيدا عن شاربه، فإذا تجرأ وتمادى وتصوّر إمكانية أن يصبح مايسترو، (أو يؤلف لحنا) فعينك لا ترى إلا النور في ليلة القبض على النغمة النشاز التى تجرأت أن تفسد اللحن الأساسى
انتهى المقتطف!!
أليس هذا هو هو شكل المعارضة التى يمكن أن “تُجاز” بعد عشر سنوات، وإلى أن يشاء الله؟
ما هو المطلوب بالضبط من هذا الشعب الصبور؟ أن يعارض أم أن يؤيد؟!!
أن يسمع الكلام، أم أن يتكلم أى كلام، ما دام أنه مجرد كلام (ربما مثلما أفعل الآن)؟!!
المُتابع لبهجة وفرحة وأحضان وقبلات الحكومة (= الحزب) بعد مصيبة النتائج الأخيرة الساحقة الماحقة، لا بد أن يكتشف أن أحدا منهم لم يبلغه حجم المصيبة، لكن لماذا التعميم؟ ربما عاد بعضهم إلى تذوق هذه النتائج من جديد فوجدها ماسخة، فاترة، فراح يفكر أن يضيف إليها بعض بهارات وفلفل المعارضة، لتصبح حريفة “سبايسى” يمكن بلعها.
لكن يبدو أن الفرصة لم تعد سانحة من ناحية الأحزاب التى امتنعت بشكل أو بآخر عن لبس المزيكة، يبدو أنها تعلمت وهى تتساءل أين ذهب الرعب الفظيع من التغيير الذى غمر الحكام قبل الانتخابات بشهور وأسابيع، رعب من المحظورة حتى بعد أن بادرت بكسر حاجز مقاطعة الانتخابات، ورعب من البرادعى حتى بعد أن تأكدت أنه مصرى طيب ليس له فى السياسة أصلا، أين ذهب هذا الرعب وكيف حل محله كل هذا الحرص الشديد على أيها رائحة لمعارضة مهما كانت شكلية ؟
أعود أتمثل حدس ناسى وهم يسخرون مما تفعله الحكومة وهى تـُـلبس بعض المعارضين الجدد “مزيكة” ليكملوا منظرالآلات العازفة نفس اللحن، أتصور ناسى وهم يسخرون ويرددون على لسان الحكومة وهى تتحايل على المعارضين أن يعارضوها على خفيف، قائلة : “والنبى عارضنا”، “سايق عليك النبى لتعارضنا ، إنت حاتعارضنا واللا اجيب لك المحظورة تعارضك وتعارضنا؟
قبل الانتخابات مباشرة، حين بدى أن الحكومة حريصة كل الحرص على مشاركة الناس المعارضين بالذات فيها، تصور الكثيرون أنها أقرت أخيرا دور المعارضة الحقيقية حتى لو هددت بتداول السلطة، فشارك من شارك فى الترشيح، وانتخب من انتخب بأملٍ ما فى التغيير حتى ظهرت النتائج الأولى ، وعزاها أغلبهم إلى التزوير، ويبدو أن الحكومة (أعنى الحزب) قد فوجئت بانسحاب حتى الذين كان أمامهم فرصة للنجاح الحقيقى أو المدعوم من إكمال المباراة غير المتكافئة افتعالا، أتصور أن المفاجأة وصلت الحكومة (الحزب) متأخرة، فراحوا يتحايلون على المعارضين أن يظلوا فى الصورة ليعارضوا (نصف نصف)، كما راحوا يتلكأون فى قبول المستقلين للعودة إلى الحزب، حرصا على بقائهم مستقلين مع توصيتهم بأن يتحركوا سرا : خطوة إلى اليسار: وأخيرا لاح فى الأفق ما يشبه الدروس الخصوصية لتدريب بعض نواب الحزب الساحق كيف يعارضون جدا بالسلامة، (معارضة “كده وكده”) .
توضيح آخر حضرنى حالا رحت أستلهمه مما وصلنى طفلا من قريتى هذه المرة ، وهى حكاية من حدس فلاح مصر الفصيح، أرجو من القارئ الأفندى (بما فى ذلك نصف المجلس من العمال والفلاحين) أن يتحملنى قليلا وأنا أحكيها، إذ قد لا يفهمها إلا فلاح “أرارى” مثلى.
تحكى هذه الحكاية التى صارت مثلا ينبه إلى ضرورة فقس “كُـهن” الفلاح المصرى الجميل، وهى حكاية تحاول أن تنبه الجيران ألا يأخذوا أى شجار ينشأ بين جار وزوجته مأخذ الجد، لأنه قد يكون شجارا “مصنوعا” ، تتم من خلاله سرقة ما تيسر من أشياء الجيران.
تقول الحكاية إن زوجا (اسمه حامد) وزوجته (أمها اسمها حركات) اعتادا تصنع الشجار فيما بينهما، وبعد أن تبدأ المشاحنات، تتعالى أصواتهما، ويهجم الزوج على زوجته وكأنه سيضربها، فتخرج من دارها إلى الشارع مولولة وهى تجرى لاجئة إلى إحدى الدور المجاورة، وتدخل “القاعة” أو “المقعد” التى تخزن فيه هذه الجارة جِرَار “زلع” سمنتها، وتغلقها من الداخل، ويجرى وراءها زوجها متباطئا وهو ممسك بيده عصا يلوح بها، والناس بما فيهم صاحبا الدار اللاجئة إليها الزوجة، يهدئونه ويطيبون خاطره، أما الزوجة فتُخرج “الحُـق” من صدرها أو من جيب سيالتها، وتملؤه بما تيسر من سمن، ثم تخرج بعد أن يطمئنوها أن الزوج قد هدأ، وأن الصلح خير …إلخ .
أثناء هذه المسرحية القصيرة يتبادل الزوجان السباب من وراء الجدران ليؤكدا أنه شجار بجد. ذات ليلة تجرى إحدى هذه التمثيليات فى عز الشتاء، فتجد الزوجة أن السمن قد تجمّد من فرط البرد، فلا تستطيع أن تغرف منه لتملأ الحُق، فتروح تصيح من وراء الجدار وكأنها تسب زوجها بأبيه “يابن كذا ، ثم :يابن حامد جامد”، فيرد عليها سبابا بسباب وكأنه يعايرها بأمها قائلا “يابنت كذا وكيت، يا بنت حرّكِيهْ بالعود”، والناس تصدق ما يجرى من مسرحية السرقة الذكية، وحقيقة الأمر أن الزوجة كانت تصيح بزوجها أن السمن “جامد“، وكأنها تسب أهله، فيرد عليها أن “حرّكيه بالعود” لتفك صلابته، وكأنه يسب أمها، وتتم السرقة المتفق عليها.
أليس هذا أشبه بما يجرى الآن لتدريب المعارضة المصنوعة؟
ألا يذكرنا ذلك بتمثيل أخطر حين يصلنا بين الحين والحين ما يبدو خلافا بين إسرائيل وأمريكا، وهم لا يفعلون ذلك إلا ليلهونا عن حقيقة الاتفاق السرى الاستراتيجى الدائم، الذى يخططون به لسرقة الأرض، وإهانة العرض، وقتل الأبرياء؟ ونحن فرحون بالاختلاف بينهم. ألا يكون مثل هذا هو ما يكمن وراء بعض ما يتسرب إلينا (ولا تسريب ولا يحزنونَ!!) من وثائق موقع أسانج” مؤسس ويكيلكس
دعونى أعترف وأنا أختم المقال بأن أغنية ظريفة تتردد فى أذنى رغما عنى تقول:
“مهما الأيام تعمل فينا، ما بنستغناش عن بعضينا،”
“أرجوكو سيبونا حا تلقونا، حانصالح بعض لوحدينا”
تتردد الأغنية بلحنها الأصلى دون حاجة إلى أن ألبس لها مزيكة.