“نشرة” الإنسان والتطور
بقلم : يحيى الرخاوى
2001-1980
نشرة يومية من مقالات وآراء ومواقف
تعتبر امتداداً محدوداً لمجلة الإنسان والتطور
14-7-2009
السنة الثانية
العدد: 683
الفصل الأول
لعبة الكلام
تمهيد: فى الطبعة الأولى، كان عنوان هذا الفصل هو ” سبع جنازات”، وهو نفس الاسم الذى ظهر فى مقدمة هذه النشرة، لكننى وجدت نفسى غير مرتاح لهذا الاسم حالا، لا أعرف لماذا، فوجدت أن الأفضل ان أعرض الحالات مرقـّمة دون أن أصفها بأنها جنازة، وربما أجد أثناء كتابة الشرح اسما أكثر إحاطة بما أريد أن أبلغه، كما أننى قمت بتغيير معظم عنواين القصائد، مفضلا أن يكون العنوان بيتا أو شطر بيت من القصيدة
الحالة (1)
أنــا ماشى ”سريع” حوالين نفسى !! (1من 2)
العلاج النفسى هو مسيرة (معا) نحو تغيير طبيعى، ما أمكن ذلك.
يحدث ذلك عادة بعد وقفة، أو قفلة، أو عرقلة، (تسمى مرضا)، حين يحول أى من ذلك دون استمرار مسيرة النمو الفردى.
أى “تغييير” حقيقى، هو مخاطرة من حيث المبدأ، ربما لهذا فإن التغيير يحدث عادة دون وعى كامل، بل هو عادة لا يحتاج إلى قرارٍ واعٍ أصلا، التغيير هو نتاج طبيعى لحياة صحيحة طبيعية، والعلاج يهيئ الفرص لتحقيق هذا، ولكن هل توجد مواصفات محددة للتغيير الذى نعنيه فى العلاج وغير العلاج؟ وما هى المقاييس التى نقيس بها ما نسميه : “حياة طبيعية” ؟
لا شىء يستحق أن يوصف بصفة أنه “حياة” لو كان غير عرضة للتغيير،
من البديهى أن نفترض أن التغيير لا بد أن يتم إلى أحسن، أما ما هو الأحسن وما هو الأسوأ فهذا أمر نختلف حوله للأسف بما لا يقاس.
فى الأحوال التى نسميها “عادية” لا يحتاج الأمر للحديث عن التغيير باعتبار أنه يجرى ولو من وراء ظهورنا،
أما فى حالات المرض، فالدعوة للتغيير تفرض نفسها من خلال ما يسمى “العلاج“، وذلك بهدف تحويل مسار التغيير السلبى الذى كان نتاجه المرض، إلى تغيير إيجابى.
فى جميع الأحوال، ومهما صنفنا التغيير إلى سلبى أو إيجابى، وكذلك مهما بدت حتميته أو أُعلنت ضرورته من خلال ظهور الأعراض وتجسيد الإعاقة، فإنه يظل مغامرة محفوفة بالمخاطر حتى لو سمى علاجا، لعل وراء هذا حكمة شعبية بالغة الدلالة تقول محذرة : ‘اللى تعرفه أحسن من اللى ما تعرفوش’، ليكن، لكن المرض هنا قد أعلن فى نهاية المطاف أن الذى نعرفه فى هذا الظرف بالذات هو ليس “الأحسن”، وهكذا نجد أنفسنا فى الموقف العلاجى وقد خرجت المسألة عن مجرد ‘عرض’ اختيارى (Option) للتغيير إلى أنه ضرورة يفرضها المرض بشكل أو بآخر (ولو من حيث المبدأ).
نحن لا نقصد بالتغيير من خلال العلاج مجرد اختفاء الأعراض الظاهرة على السطح، الأعراض تختفى أحيانا لتحل محلها حالة من اللاأعراض التى قد تكافئ أحيانا حالة من اللاحياة إذا ما توقفت الحركة لحساب مجرد اختفاء الأعراض، (فلا تغيير بعد اليوم !!).
قد تختفى الأعرض كحيلة دفاعية ضد احتمال التغيير الذى تدعونا إليه خبرة المرض، ذلك أن المرض بقدر ما هو سلبى، قد يكون فرصة لإعادة النظر، ومن ثم التغيير، فهو دعوة ضمنية للتغيير، ومن هنا يبدأ التهديد.
ونظرا لأن أى تغيير هو مغامرة تحفها المخاطر، فقد يكون الحل عند المريض أن “يرجع فى كلامه” ويتنازل عن الحل المرضى، وبالتالى يتجنب مخاطرة التغيير، بمعنى أن الأعراض قد تختفى تحت تهديد التغيير.
نحن لا نرفض ذلك فقد يكون مفيدا مرحليا، لكننا ننبه فقط إلى أن مجرد اختفاء الأعراض فى حد ذاته ليس دليلا على التغير، بل إنه قد يكون تراجعا عن المحاولة (وهذا نوع - على أية حال- من العلاج لاينبغى رفضه لأنه الغالب)
المتن
(1)
الشط التانى الـْمِشْ بايِــــنْ:
كل مااقَرّب لُهْ، يتّاخِـرْ.
وِمراكبْ، وقلوع، وسفايــنْ،
والبحر الهــِوْ مالوش آخــــرْ.
شرح على المتن:
الشائع أن رحلة العلاج تبدأ بطلب مباشر أو غير مباشر من المريض أن “يرجع كما كان” (عايز أرجع زى ما كنت قبل ما اعيا)، وهو مطلب مشروع بداهة، لكن العلاج النمائى Growth Oriented Therapy ينبه، بطريق مباشر أو غير مباشر أن هذا المطلب، مع أنه منطقى وطيب ومعقول، إلا انه ليس هو غاية المراد، لأن حالة الـ “ما كان عليه“، الذى يريد المريض أن يرجع إليها، هى هى التى أدت إلى المرض، ومن ثم نوصل للمريض أن نهمّ معا لنطلب، أو نأمل، أو نعمل على : أن نرجع (يرجع المريض معنا) أفضل مما كان، طبعا يوافق المريض آمِلا، ويتمنى الطبيب[1] مجتهدا، (لكن : ما كل ما يتمنى المرء يدركه).
الإشكال فى هذه الدعوة (العزومة) إلى أن نخرج أحسن مما كنا فيه هو أن أى تغيير هو نقلة إلى مجهولٍ ما، الصورة هنا تبدوا وكأن المريض واقف على شاطئ هش، ينذر بالانهيار، أو انهار بعضه فعلا، وبالتالى فهو يهم أن يعبره إلى الشاطئ الآخر (التغيير)، لكن هذا الشاطئ الآخر، برغم التأكيد أنه موجود، إلا أنه غير ظاهر “الشط التانى المش باين“، ليس هذا فحسب، بل إنه شاطئ يبتعد كلما اتجهنا نحوه، وكأنه سراب بشكل أو بآخر، حتى نشك أنه موجود أصلا “والبحر الهـِوّ ما لوش آخر“، هذا فضلا عما يكتنف رحلة العبور من أهوال الزحام وأخطار التصادم ” ومراكب، وقلوع، وسفاين“.
إن ما يحدث فى العلاج النفسى أنه كلما لاحت معالم تغيير ما، تم نفىُ الاحتمال تلقائيا، أو تم التراجع عنه بالمحو، بمعنى أن المريض، من فرط تردده ورعبه من التغيير، وبرغم رغبته فيه فى نفس الوقت ولو من حيث المبدأ، يبادر بأن يمحوه أولا بأول،
إذن ليس الشاطئ هو الذى يتباعد باستمرار، ولكن المريض يكتشف أن المراد بعيدا، وصعبا، وغير مضمون، ” كل ما اقربْ لهْ يتّأخر“، فيتخذ قرارا داخليا أنه لا داعى (الطيب احسن !!)، ويتراجع (داخل داخله، حتى لو بدا متعاونا ظاهريا)، وتظهر تبريرات التأجيل بما يشاع عن العلاج والتفسير والتأويل فى الجزء التالى من المتن:
المتن:
(2)
لأ مِشْ لاعِبْ.
حاستنى لمّا اعرف نفسى، من جـوّه.
على شرط ما شوفشِى اللـِّى جــوَّهْ.
واذَا شفته لقيتـُـه مشْ هـُوٍّه،
لازِمْ يفضَلْ زىْ ما هُوَّهْ.
برغم أن التغيير هو محور العلاج كما أشرنا، إلا أن مقاومته أيضا هى قضية التحدى التى لا ينجح العلاج إلا بحمل مسئولية التصدى لها، إعلان المريض هنا (من مستوى أعمق، بعيدا عن ظاهر الوعى عادة) أنه لن يغامر بالتغيير الحقيقى “لأ مش لاعب“، هو التفاعل المبدئى الذى يجب أن ننتظره منه كاستجابة عميقة تعلن مخاوفه من مغامرة التغيير، وإلا فلماذا حضر إذن للعلاج؟
لا أحد يحضر للعلاج ليتغير بالمعنى الحرفى للكلمة، برغم أن هناك الكثير من المرضى يطلبون ذلك من أول مقابلة، لكن هؤلا بالذات – غالبا- هم الذين لا يتغيرون أبدا، التغيير ليس مطلبا من الوضع جالسا كأنك تطلب “واحد شاى!!”، لا يوجد شىء اسمه “عايز واحد تغيير وصلّحه“، كما لا يوجد تغيير سهل مثل تغيير لون الشعر مثلا،
فى جميع الأحوال علينا أن نتوقع، ونحترم هذا الموقف الرافض للتغيير، الخائف منه، هذا حق المريض وطبيعة الأشياء، بمجرد أن يدرك المريض، ولو من بعيد، أن المسألة جِدا خالصا تحتاج جهدا حقيقيا، وليس مجرد تفريغ وترييح، تبدأ المقاومة.
هذا الموقف المقاوِم هو موقف أصدق من زعم طلب التغيير دون دفع ثمنه،
وهنا يقفز إلى السطح سؤال بديهى، إذا كان الرفض هو الموقف الأصدق، فلماذا حضر المريض أصلا، وماذا يمكن عمله إزاء ذلك؟
كثيرا ما يحدد المريض أنه حضر لأنه يريد “أن يعرف نفسه“، ويتصور أن الطبيب قادر على أن يعرّفه نفسه، وكأن الطبيب يقرا الطالع أو يحكى ما يقوله له الودع”،
وفى أحيان أخرى يتصور المريض أو يطلب من الطبيب أن يساعده على أن “يعرف نفسه”، وبالتالى: إنْ كان لا بد من التغيير فيكون بعد أن “يعرف نفسه“، وكأنه يقول إنه يريد أن يقبل ما يقبل، وأن يغير ما يغير، بناء على هذه المعرفة، فربما لا يحتاج الأمر إلى تغيير أصلا بناء على أنه “عرف نفسه، فوجدها تمام التمام !!.
التحليل النفسى، أو الإشاعات التى دارت حوله، هو مسئول نسبيا عن هذه الوقفة، صحيح أن العلاج يسمح بشحذ البصيرة، ومن ثم معرفة النفس، وأنه كلما كان النور كافيا، كانت المسيرة أكثر أمانا، وأن المعرفة هى الخطوة الأولى نحو اتخاذ القرارات، لكن أن تكون المعرفة المعقلنة هى البداية والنهاية، فهذا هو تعطيل واضح، وقد يكون تعطيلا دائما لمسيرة العلاج. بل إن المعرفة، حتى من خلال التحليل النفسى قد تدور بعيدا عما ينبغى أن نعرفه، فكثير من تحليلات المحللين النفسيين تدور فى المساحة التى يسمحون بها لأنفسهم – من خلال إطارهم النظرى- أن يبحثوا فيه، أما باقى الأهوال البعيدة عن تنظيرهم، وأحيانا البعيدة عن تحملهم، فهى تزداد إظلاما وبُعدا، (يصدق هذا أيضا على كل منتم لنظرية نفسية أخرى ثابته محكمة، مهما كانت الأقرب إلى الحقيقة والصواب)،
يأتى النص هنا وينبه أن المريض والطبيب معه يتوقفان عند حدود المنطقة المتاحة، حتى لو كان الزعم المبدئى هو كشف ما بالداخل (من جوه).
حين انفصل يونج عن فرويد، نبهنا إلى أن فرويد يلعب فى ملعب تدريبى صغير، هو ما أسماه اللاشعور الشخصى، أما الملعب الأكبر، أو الأهم، فهو الملعب الأصلى الذى أسماه يونج “اللاشعور الجمعى”، وقد كان غضب فرويد من يونج، (وحسده له، ربما) وتأثره من تركه، ليس فقط لأنه المسيحى الوحيد بن مريديه الأوائل، وإنما لأنه تجاوز المنطقة التى توقف عندها فرويد.
النص هنا ينبه إلى أنه من الجائز أن نجد، أو على الأقل أن نفترض، أن ثمة طبقات تكمن وراء ما نكتشف باستمرار، وبهذا ينقلب العلاج النفسى إلى مسيرة من الكشف والإبداع تتواصل مع التقدم باضطراد وهى تنتقل من معرفة محتوى الداخل، وربما فك رموزه، إلى معرفة “الطريق (المنهج) إلى المعرفة” بشكل ليس له نهاية (شىء قد يكون موازيا لمقولة : الإيمان بالغيب، بمعنى الكشف المتواصل أبدا)، معرفة المنهج بالتدريب العملى، أهم من تقليب المحتوى، إذن فطلب المريض أن ينتظرحتى يعرف نفسه من الداخل، هو طلب لن يتحقق أبدا، لأنه لن يعرفها – كما هى أبدا-، والمتن ينبهنا هنا إلى أن أغوار المريض تحذر أن تكشف عن نفسها، لأن صاحبها نفسه لا يريد ذلك “على شرط ما شوفشى اللى جوه” .
ثم إنه حتى لو رضينا بالتوقف عند معرفة الممكن أو المسموح برؤيته، فإن هناك آلية دفاعية (ميكانزما) جاهزة لتثبيت التوقف والاكتفاء بالمعرفة دون الفعل، أى دون تغير حقيقى، المتن ينبهنا هنا إلى أن المريض لو اكتشف من خلال هذا المغامرة المعرفية (المعقلنة) أن هذا الذى رآه هو فعلا ليس كما ينبغى، أو كما يرجو، ” واذا شفته لقيته مش هوّه”، فإن تفاعله الأعمق، يمكن أن يكون عكس الظاهر، بمعنى أنه بدلا من أن تؤدى هذه المعرفة إلى التغيير كما بدأ التعاقد، فإنها قد تكون بديلة عن التغيير و “يستمر الحال على ما هو عليه، وعلى الأعراض أن تلجأ إلى الاختباء !!”،
وحتى لو لم تختف الأعراض، فيمكن أن يكون الحل هو أن يعتادها المريض !!.
هناك نكتة قديمة، يمكن أن تكون حديثة، تطلق سخرية من التحليل النفسى تقول:
“إن مريضا كان يعانى من التبول اللاإرادى، وذهب إلى محلل نفسى، وحكى له، وطلب العون، فاقترح عليه المحلل أن ينتظم فى العلاج بشكل تقليدى، خمسة أيام فى الأسبوع، ساعة كل يوم ..إلخ، فتجاوب المريض مع النصيحة، وانتظم فى العلاج لعدة عدة سنوات، ثم قابل صديقا فسأله عن حاله، وعن فائدة العلاج ونتيجته، فأجابه بأنه: “كله تمام“، وأن الفائدة مائة فى المائة، ففرح الصديق وقال له “إذن فقد أصبح فراشاك جافا” (النكتة بالإنجليزية وهذه هى الترجمة الحرفية dry bed)، فأجابه المتحلل بأنه ما زال يتبول ليلا، لكن ذلك لم يعد يهمه “ما عدشى بيهمنى” I don’t care any more،
هذه النكتة التى حضرتنى الآن تكاد تكون تصويرا لما يريد المتن أن يبينه كاحتمال جاهز “وان شفته لقيته مش هوه، لازم يفضل زى ما هوه“،
أكتفى بهذا القدر اليوم، لأنشر المتن مكتملا حالا، أملا فى قراءته استعدادا لتكملة شرح ما تبقى منه غدا،
مع الاعتذار للشعر !!!
المتن كله :
(1)
الشط التانى الـْمِشْ بايِــــنْ:
كل مااقَرّب لُهْ، يتّاخِـرْ.
وِمراكبْ، وقلوع، وسفايــنْ،
والبحر الهــِوْ مالوش آخــــرْ.
(2)
لأ مِشْ لاعِبْ.
حاستنى لمّا اعرف نفسى، من جـوّه.
على شرط ما شوفشِى اللـِّى جــوَّهْ.
واذَا شفته لقيتـُـه مشْ هـُوٍّه،
لازِمْ يفضَلْ زىْ ما هُوَّهْ.
(3)
أنــا ماشى ”سريع” حوالين نفسى،
وباصبّح زىْ ما بامَسِّى،
وان كان لازم إنى أَعدّى:
رَاحَ اعدّى مِنْ شَطّىْ لـشَطِّىْ،
هوَّا دَا شَرْطى.
(4)
ولحدّّ ما يهدَى الموج،
واشترى عوّامة واربطها على سارى الخوف،
ياللا نقول “ليهْْ”؟
و”ازاىْ؟”
”كان إمتَى”؟
“يا سَلاْمْ”!
“يْبقَى انَا مَظْلومْ”.!!!!
…!!
شكر الله سعيكْ!!
[1]- أستعمل كلمة الطبيب لتشمل كل من الطبيب والمعالج حتى لو يكن طبيبا، وفى خبرتى وتدريباتى للمعالجين لا أفرق بين الطبيب والمعالج، على شرط أن يمارس المعالج مهمته طول الوقت، أو معظم الوقت، وهو على اتصال إشرافى مباشر مع بقية أطباء المؤسسة التى ينتمى إليها، خاصة لو كان يمارس العلاج مع أمراض جسيمة، مما تسمى عادة “الامراض العقلية”، والتى هى ثروة المعرفة، ومفتاح العلاج. ولن أكرر ما جاء فى هذا الهامش بعد ذلك مع أنه صعب الإشارة إليه أو تذكره فى هذا النشر المسلسل إليكترونيا.