نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 5-9-2020
السنة الرابعة عشرة
العدد: 4753
لا أحد يموت!! (1)
(1)
قالت البنت لأمها: لماذا كل هذا الجزع، أنت مؤمنة يا أمى، وقد استرد الله وديعته.
قالت الأم: دعينى الآن يا حبيبتى، أنت لا تعرفين معنى الثكل،
قالت البنت: بل أعرفه، هو أخى وأبى وإبنى حبيبى أيضا، أنا أخاف عليك، ربما كانت المسألة ليست كما تتصورين، ربما لها وجه آخر،
قالت الأم: أى وجه وأى آخر وأى تصور؟ إيش عرفك أنت بما أنا فيه! وهل هناك تصور بعد الذى جرى؟؟ لقد صرت أكره اللون الأبيض ورائحة الخشب وشكل التراب!! أنت لا تعرفين ما بى. حين تتزوجين، لا…، حين تحملين،..لا.، حين يتحرك فى وجدانك شوق غامض أن تجددى الحياة عبر خلاياك، ثم تحتوينه تسعة أشهر، ثم تطلقين سراحه وأنت مترددة لا تصدقين، ثم ترضعينه أو لا ترضعينه، ثم ترينه أمامك رائحا غاديا ليس هو، لكنه هو هو. حين يقتحم عليك حجرتك دون استئذان فتطردينه ليقفز قلبك وراءه يحتضنه حتى بعد أن يغلق الباب معتذرا، حين يتكلم فلا تفهمين ما يقوله لكنك تفهمينه، حين تدعين عليه وقلبك يقول “بعيد الشر”، حين تعيشين كل ذلك، سوف تعرفين ما أنا فيه.
قالت البنت: يا خبر!! أنا أحبك يا أمى، ..أنا أريد أن أقول لك…، يعنى… ، أصل..، أقصد أننا صحيح فقدناه، لم يعد قائما بيننا، لكن المسألة ليست كذلك بالضبط….لكن، آسفة،
قالت الأم: ماذا بك يا ابنتى، أية مسألة، وأى ضبط، ماذا بك؟!!
قالت البنت: الفقد غير الموت يا أمى، الفقد غياب، لكن، الموت شىء آخر،
قالت الأم: ماذا تقولين ؟
قالت البنت: أسفة، أعذرينى يا أمى، لم أقصد، آسفة، لاشىء.
(2)
قالت البنت لأخيها: لماذا لم تقل لأمنّا أنك لم تمت، وأن كل الحكاية أنك هناك، ونحن هنا؟
قال أخوها: هى لن تصدق، ولا حتى أنتِ،
قالت: كيف وأنت تكلمنى الآن كما كنت دائما،
قال: ليس كما كنت بالضبط، أنا أخشى أن أحكى -حتى لك- فلا تصدقينى،
قالت: إحكِ ولا يهمك، إحك وان شالله ما صدقت:
قال: لم أتبين فى أول الأمر إن كان سحابا أم ضبابا أم سرابا، كما لم أستطع أن أعرف ماذا ولا كيف صرت: لونا أو هواءً أو حضورا نورانيا محدد المعالم بقدر ما هو غامض، المهم أننى صرت أحتمل تلك الخفة الرائعة بعد أن فقدت الأرض جاذبيتها تسحبنى إليها، اكتشفت بيقين أنه لا يوجد شىء اسمه الموت، رأيت أمى وهى تتألم مفجوعة لفقدى، حاولت أن أناديها لأطمئنها أننى لم أمت، لم تسمع. لمحت بجوارى قطة سوداء، ومر أمامى ثعبان عملاق طيب، نظر إلىّ بحنان مزعج، وطارت حولى أوراق جافة انخلعت من شجرة عجوز، وقبل أن تختفى استطعت أن أقرأ ما سطر عليها، وتبينت أنها عناصر رواية تستغرق ألف ألف عام، وحلق فوقى طائر جميل لم أتبين أنه نورس إلا وأنا أحد جناحيه، وقفز نمر من فوق سور حديقة الحيوان بالجيزة يهتف للحرية، ولم يقبل أى من هؤلاء أن يبلغ أمى أن الفقد غير الموت، وأن الحياة لا تنتهى بالاختفاء.
قالت البنت لأخيها مقاطعة: كم الساعة الآن؟
قال أخوها: لم تعد عندنا حاجة إلى ساعة،
قالت البنت: كأنى أسمع أذان الفجر، الغطاء يتسحّب من علىّ، لابد أن أنهض، المعهد!!
عن إذنك.
(3)
قالت الأم للبنت: إذهبى وأيقظى أخاك، اليوم الثلاثاء، ومحاضراته تبدأ فى الثامنة،
قالت البنت: حاضر، لكن هل أنت متأكدة أنه نائم فى حجرته؟
قالت الأم: طبعا، أين ينام إن لم يكن فى حجرته؟ فى الشارع؟
قالت البنت: فما حكاية الموت هذه؟
قالت الأم: أى موت؟
قالت الفتاة بسرعة: موت الناس فى العراق وفى فلسطين وفى العبارة، وفى أقسام البوليس.
قالت الأم: ماذا جرى لك، نحن فى ماذا أم ماذا!! أيقظى أخاك بسرعة، ستفـوته أول محاضرة،
قالت البنت: طيب والقتلة؟
قالت الأم: قتلة من؟
قالت البنت: قتلة الحياة.
قالت الأم: وهل يستطيع أحد أن يقتل الحياة إلا أن يبدأ بنفسه، وسوف يجد أنه عاجز عن فعل أى شىء، وتستمر الحياة بالرغم من ميتته الغبية، ومحاولاته المجهضة؟،
قالت البنت: يا خبر، ماذا تقولين يا أمى؟ هل أنتِ أنت ؟ كيف قلت كل ذلك؟ قالت: إيش عرفنى!! هى جاءت هكذا وخلاص.
(4)
قال الشاب لأمه: لماذا لم توقظينى يا أمى كما طلبت منك أمس؟
قالت أمه: أختك يا سيدى أدخلتنى فى متاهات وهى تحكى لى أضغاث تخاريفها، بصراحة: أنا خائفة على عقلها.
[1] – نشرت بالدستور بتاريخ: 30 – 5 – 2007، كان العنوان الأصلى “…عن الموت والفقد والقتل والحياة!!”