الرئيسية / الأعمال العلمية / كتب علمية / كتاب: من حركية الجنون إلى رحاب الناس مرورا بالعلاج الجمعى

كتاب: من حركية الجنون إلى رحاب الناس مرورا بالعلاج الجمعى

 من حركية الجنون إلى رحاب الناس

 (مروراً بالعلاج الجمعى)

 أ.د. يحيى الرخاوى

2019

اعتذار (وتوصيات سخيفة):

إخراج هذا الكتاب مرّ بأطوار عجيبة الشأن، حاولت تجنب غرابتها بعدة محاولات ولم أنجح، فكان لزاما أن أقدم هذا التوضيح وأن استسمح القارىء فى اختيار الطريقة التى يتناول بها هذا العمل.

أولاً: يمكن للقارىء المستكشف والمبدع أن يكتفى بالنص (المتن) وأن يستغنى عن كل ما جاء بعد ذلك من هوامش أو شروح أو تعقيب، وقد كان هذا هو الحل الأمثل الذى شعرت أننى أنتمى إليه، وأنه يتفق مع توجـُّـهى ألا أكون أنا أو بعض علمى وصياً على تلقائية الخبرة ونبض التواصل الإنسانى حتى لو كان الوصى هو الطب النفسى شخصياً.

ثانياً: كما يمكنه بعد ذلك – أو مع ذلك- أن يسمح بقراءة ثانية فيقرأ النص مع الهوامش  والشروح الواردة فى كثير من فقرات المتن والمثبتة مرقمة أولاً بأول، علماً بأننى قد وجدت صعوبةً ما وأنا أعاود البحث عن علاقة كل هامش بأصله تحديداً دقيقاً.

ثالثاً: (بسخف خاص) يمكنه أن يكتفى بالهوامش باعتبارها ملاحظات علمية عملية مهنية مفيدة!!

 

الإهــداء

إلى أساتذتى المرضى وعلى رأسهم الابن “محمد”

                                                بطل هذا العمل

وأيضا إلى أبنائى وبناتى من المتدربين

                                      عرفانا وآملا.

يحيى الرخاوى

تذكرة تاريخية شخصية:

أول ما انتبهت إلى فائدة نشر الحالات كما هى كانت أصلا فى كتب الطب النفسى الأقدم نسبيا، حيث مازلت أذكر أن أول كتاب قرأته فى الطب النفسى وأنا بعد طبيبا مقيما (1957 – 1959) كان كتاب هندرسون وجليبسى([1])، وكان مليئا بالحالات الشارحة الممثلة للأمراض المختلفة أولا بأول، ولكننى فوجئت وأنا أستعد لشهادات التخصص الأعلى بعد ذلك (الدبلوم ثم الدكتوراه) بطبعة أحدث لهذا الكتاب، وإذا بالحالات التى علـَّـمتنى فى الطبعة السابقة تختفى أو تـُـختصر، واحترمت المؤلف فى مقدمة هذه الطبعة الأحدث وهو يعتذر بأمانة إذْ يقرر انه “أضطر لوداع “أصدقائه”: المرضى الذين أثبـَتَ معالمهم فى الطبعة الأولى: تماشيا مع النقلة من تفاصيل الحالة إلى اختزالها فى أعراض تشخيصية بذاتها، وقد وصلنى أسفه وألمه بشكل برر  لى ما عانيته لفراقهم.

 أنا أيضا حين رحت أقرأ الطبعة الأحدث وحين قمت بتأليف أول كتاب فى الأمراض النفسية بالاشتراك مع المرحوم أ.د. عمر شاهين (“مبادىء الأمراض النفسية” ABC of psychiatry) أصررت على إثبات عينات من أقوال المرضى بالنص من فرط إعجابى واحترامى وتقديرى لضرورة فعل ذلك، لكن هذا الأسلوب ظل يتوارى بانتظام حتى اختفى تماما (تقريبا) من الكتب الأحدث فالأحدث.

العمل الحالى هو عودة إلى هذا التقليد آملا أن يحقق عدة أهداف معا:

(1) أن يؤكد من جديد على ضرورة التمسك بلغتنا الأم (الفصحى) وأيضا وقبلاً لغة الأم (العامية).

(2) أن يظهر بعض معالم ما يميز ثقافتنا الخاصة حتى لا تكون المسألة مجرد استعارة معلومات من ثقافة أخرى، ومصادر أجنبية ومعلومات تم تطبيقها ميـْكنيـًّـا على أفراد من ثقافة مختلفة فعلا.

(3) أن يصبح وصلة بين موقفى النقدى للأدب والشعر، وبين ما اسميتـُه مؤخرا “نقد النص البشرى”، الأمر الذى يشير إلى أن ممارسة الطب النفسى هى أقرب إلى  العمل الفنى الذى يستعمل أبجدية وأدوات علمية ومعلوماتية بما يسمح له بإعادة تشكيل النص البشرى لكل من المريض والمعالج باستمرار، وبالتالى يسمح بمواصلة دورات النمو النابضة، فالتطور النوعى من خلال الإبداع بكل مستوياته وعطائه فى كل الأحوال والمجالات.

(4) إن يسهم فى عرض بعض جوانب نظرية تقول:

إن المريض النفسى (فيما عدا الأمراض العضوية التشريحية) يهدف بمرضه إلى إبلاغ رسالة ما، لكنه يفشل فى توصيلها وتفعيلها، وبالتالى أنه يمكنه – وعليه – أن يسهم فى عملية شفائه بالمشاركة فى إعادة تشكيل ما اختلَّ فيه: مواكبةٌ مع نفس العملية التى يشارك فيها المعالج وهو ينمو ويزداد حذقا، وهى بعض مبادئ أساسيات ما أسميـتـــُـه “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى”.

[1] – Henderson and Gillespie’s textbook of psychiatry for students and practitioners (Oxford medical publications) 9th Edition, Oxford University Press; 9th edition (1962)

الفصل الأول: ملامح المنهج، والتعريف بالحالة

الفصل الأول: ملامح المنهج، والتعريف بالحالة

الفصل الأول:

ملامح المنهج، والتعريف بالحالة

مضطرٌّ أنا أن أبدأ بحالة حديثة نسبيا (ضد رغبتى فى أن أنشر محاولاتى بجمع هذه السلسلة من الحالات تاريخيا) لأننى وجدت أنها حالة محورية تمثل جوانب عدة مما وصلت إليه مؤخرا وكاد ينتظم فى منظومة متكاملة تحت عنوان “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الذى أحد آلياته وتقنياته الأساسية هو ما أسميته “نقد النص البشرى”.

العمل الحالى يعرض حالة واحدة!!([1]) أمكن تتبعها – بالقدر المتاح – لمدة تناهز عامين من  (13/7/2006 ) إلى (16-8-2008) وقد مرت بمراحل فى التوصيف، والحوار، والفحص، وأنواع العلاج بالمستشفى وخارجه والمتابعة، مرت بمراحل مختلفة ومتنوعة، جرى فيها سبر أغوارها بالقدر المتاح، مع محاولة تفسير ذلك بالعلم والخبرة والمعرفة الممكنة والحوار والمراجعة طول الوقت.

كما أن هذه الحالة تعتبر نموذجا لتضفيــر وتكامل وتكافل أغلب العلاجات المتاحة وعلاقة كل منها بالأخرى، وهو ما يمكن أن يربط أنواع العلاج بعضها ببعض  فلا تكون المسألة كما يشاع “إما أو”:  إما علاج نفسى، أو بالعقاقير”، إما “علاج فردى أو جماعى” إما “علاج على مستوى العيادة الخارجية، أو بالحجز فى القسم الداخلى”….الخ.

وختاما:

فإنه من البديهى كما ذكرت فى أول المقدمة أن المعلومات الدقيقة الخاصة التى قد تؤدى للتعرف على الحالة – مثل كل حالة – والتى يمكن أن تدل على الشخصية المحددة لها قد استُتـْبِدلَت تماما كما حورت أو عممت معالم  الإقامة لنفس الغرض بحيث لا يمكن  التعرف على صاحبها تحديدا، وطبعا كان هذا عمل من أصعب الأمور نظرا للحرص الشديد على ألا يؤدى ذلك إلى تغيير معالم وأحداث ضرورية لإظهار كل جوانب الحالة داخليا وخارجيا بما يحقق الغرض من التنوير، والتعليم، والكشف، والإبداع أيضا.

توضيح مبدئى:

ابتداء، لم أجد مفرا من أن أقدم “نصوص” الحالات باللغة المصرية العامية، الأمر الذى يشعرنى بالحرج لأننى أفضل التواصل مع ثقافتى العربية الأوسع، لكن ما باليد حيلة: هكذا يتكلم مرضاى، وهم يمرضون بلهجتهم، فيعالجون بها، لكن ما يبرر لى المضى قدما فى هذا الاضطرار هو أملى أن تكون الأفلام والمسلسلات المصرية قد قامت وتقوم بالواجب فى كسر هذا الحاجز (المزعوم) عند اخوتنا العرب إن شاء الله.

تعريف الحالة ([2])  والأبجدية الخاصة:

من محمد “طَرْبَقـْهـَا”، إلى محمد “فرْكِشْنِى”،

  إلى محمد “دِلْوَقـْتِى”

مقدمة:

(عن تعدّد من هو محمد (المحمـّـدِين، والتعريف بهم)Untitled

أولا: محمد طربقها:

  • تستعمل كلمة “طَرْبَقـْهـَا” عموما بمعنى حطـَّمـَهـَا وكسَّرها وأتلفها، لكنها تستعمل عند “الصنايعة” المصريين المهرة بمعنى إيجابى يكاد يفيد عكس ذلك تماما، فهم يستعملونها تعبيرا عن سرعة الإنجاز ومهارة “تقفيل” مهمة معينة بسرعة فى وقتها أو حتى قبل موعدها، وقد كان مريضنا محمد، يتصف بكل هذه الصفات الإيجابية حالة كونه يعمل نقـّاشا، فسُمَّى كذلك “محمد طربقها”: اعترافا بقدراته على الإنجاز المتواصل وهو يصل النهار بالليل، لينتهى من عمله على أكمل وجه، وبذلك يزيد بعض الشىء من أجره وهو فى أمس الحاجة إليه، وكان الأسطوات والمقاولون يتنافسون لتشغيله معهم لهذه الأسباب، حتى أُنْهـِك، وقد أطلقوا عليه هذاالاسم اعترافا بجـَلـَدِه وقدراته، وكان هو فخورا بهذا الاسم ممتنا حين نناديه به، حتى وهو فى مرضه بعد أن عجز عن هذا الإنجاز المتميَّز، لهذا سوف نلاحظ أن المعالج الأساسى كان يناديه به مرارا أثناء اللقاءات والحوارات العلاجية.
  • Untitled2
  • أما “محمد فركشنى“، فهو الاسم الذى أطلقه المعالج أثناء حواره مع محمد طربقها، ربما بغرض أن يبين لهكيف أنه لم يستطِعْ أن يواصل مثابرته وإنجازاته حتى أنهك، فاضطـُرّ داخله أن يختار هذا التفكك البادىء الذى يبدوا أنه لحقه بميكانزمات مرضية أخطر: بتكوين الهلاوس والضلالات والخيالات التى سيأتى ذكرها فى عرض الحالة ومتابعتها، فاستعمَل المعالج ضمير المتكلم “فركشْنـِى” وليس ضمير الغائب (فركشْهَا قياسا على طرْبَقْها) ربما ليوصّل لمحمد – ولنا- أنه حين لاح له المرض حلاًّ فى أعمَق منه وجوده، فرضىَ به كاستراحة لم يكن يعرف مدى خبثها (كل ذلك تم باختيار أعمق بلا وعى ظاهر) أى أن ذلك كان باختيار نسبى، أى أن الفرض المبدئى يقول: إنه حين اختار أن يتفكـَّكَ ليلتقط أنفاسه، كان يتصور أنه تفكيك إلى رجعة يعاود فيها الكفاح بطريقة أكثر رحمة ورؤية، لكن الأمر خرج عن حدود اختياره بدرجة اضطرته إلى اللجوء إلى مزيد من الميكانزمات الخطيرة لتحقيق درجة من التماسك – مهما كانت مرضية – درجة قد تمكـِّنه – ولو مرحليا- أن يؤجل  التدهور، وقد أجـَّلتَ هذه الميكانزمات التدهور الأخطر فعلا (المآل السلبى)، لكنها شكـَّـلت مرضا خطيرا جاثما فى نفس الوقت، أرجو أن نكون قد لحقنا به فى محاولة إعادة التشكيل قبل أن يستشرى!
  • ثم يأتى اسم “محمد دلوقتى” وهو مفاجأة هذه الحالة، وكلمة “دلوقتى” فى العامية المصرية تعنى “حالا” و”فورا” و”الآن” معا، إن الذى صكّ هذا الاسم  كان أحد أفراد المجموعة العلاجية التى التحق بها محمد منذ كان بالقسم الداخلى ثم أكمل فيها بعد خروجه، وحكاية صك هذا الاسم جرت كالتالى:

كان محمد يصرّ من أول مقابلة مع المعالج أنه يريد أن “يرجع زى الأول“، أن يعود كما كان، وكان عنده حق طبعا، خصوصا مع تقدير زملائه و”الأسطوات” و”المـِـعـَـلـِّـمين” له  “كماكينة عمل” بالوصف السالف الذكر، وكان المعالج يصر أن الهدف الأوْلـَى أن نسعى إليه، والأضمن لتجنب النكسة، هو أن نستفيد من خبرة المرض لنخرج منها بموقف آخر من الحياة والعمل والعلاقات، موقف له عمر افتراضى أطول وبُعدٌ إنسانى أعمق، وكان محمد يوافق على الخطوط العريضة دون استفسار لحوح، لكنه سرعان ما يعود للإصرار على رغبته فى أن يعود “كما كان“، وحين ينبهه المعالج أن ما كان، هو ما يمثله “محمد طربقها”  وهو الذى أدّى إلى ما نحن فيه من كسرة ومرض ومعاناة، كان محمد  يقاوم مقاومة شديدة ويصر عادة     – فى نهاية النقاش – على أن يرجع كما كان: نفس “محمد طربقها” الذى كان يفخر بكفاءته ويعتمد عليه زملاؤه.

  وانتقل هذا الخلاف والحوار من اللقاءات والحوارات الثنائية مع المعالج إلى المجموعة العلاجية، وتواصل تركيز المعالج على رفض التفكك والدفاعات المرضية المترتبة على الاغتراب فى العمل، أى رفض محمد فركشنى، أى رفض المرض، لكن كان تنبيه المعالج المستمر يشمل التأكيد على رفض العودة “كما كنت” مثلما يصر محمد، لأنه – كما يكرر المعالج– هو الذى أدى إلى اختياره “الفركشة “، وكأنها سوف تريحه: 

تكررت العودة إلى هذه الحيرة فى المجموعة العلاجية وشارك فيها معظم الأعضاء، وبدا أن التوجه العام كان لمحاولة الوصول إلى حل يحقق الاحتفاظ بميزات “محمد طربقها” فى الإنجاز والالتزام والكسب والمثابرة، وفى نفس الوقت يحقق له حقه فى الرؤية، والتقاط الأنفاس، والاحترام والحب بديلا عن التصفيق الذى يصاحبه تكليف أشق وأشق، ولم يبد فى الأفق حل سهل، فرُحنا نبحث عن احتمال وجود بديل بعيدا عن هذا وذاك، ولاح فى الأفق نوع من التوفيق وبزغ بتردد “محمد الثالث”.

هكذا بدا أن الوعى الجمعى فى المجموعة، وليس المعالج فحسب، يحاول الإسهام فى تخليق “محمد الثالث” هذا، دون الاستسلام لما يبدو حلا وسطا بين محمد طربقها ومحمد فركشنى، إلا أن الممارسة كشفت ترددا فى قبول هذا الاسم حينما بدا فاترا بشكلٍ ما، وظهرت اقتراحات أخرى مثل: “محمد بس” (بدون طربقها ولا فركشنى ولا ثالث ولا رابع)، وخفنا أن يكون هذا حل سلبى أيضا، مع أنه كان أقرب إلى ما هو طبيعى، فمحمد هو محمد، دون أن يضطر إلى أن”يطربقها”، ودون أن يفشل حتى “يفركش” نفسه هكذا.

ظهر أيضا من بين الاقتراحات التى لاحت لنا بعد ألعاب درامية (مينى دراما مع محمد، وغيره)، وأعتقد أنه هو شخصيا كان صاحب هذا الاقتراح، وهو أن نسمى محمد الجديد الذى نسعى إلى تخليقه فى المجموعة “محمد طربقها  الجديد“، وكانت مبررات اختيار هذا الاسم هو أنه مع إصرار محمد على “أن يرجع زى ما كان”، فإنه يمكن أن يحقق ذلك إذْ يسمح لنفسه – من خلال اتفاقنا وسماحنا له–  أن يعود “يطربقها”، ولكن بطريقة جديدة، ومن ثَمَّ الاسم الذى يحبذ الرجوع إلى التمسك بكفاءته وإخلاصه فى العمل لكن دون إنهاك أو اغتراب حتى الكسر، فيكون هذا هو “الجديد”، إذ يكون قد تعلم من خبرة المرض ما يجعله فعلا: “محمد طربقها الجديد”، لكننا وجدنا الاسم طويل، ومركب وغير مألوف فى نفس الوقت، وبرغم المنطلق السليم وراءه، إلا أنه بدا وصفا ساذجا حسن النية لا يتفق مع عمق التخليق الجارى مثلا.

الإبداع فى المجموعة:

فجأة، ودون توقع، ونحن فى بؤرة الحيرة انطلق أصغر شاب فى المجموعة، متوسط التعليم والذكاء، انطلق دون استئذان وأعلن أنه يسميه “محمد دلوقتى“، وفرحت بشكل شخصى فرحا خاصا إذْ لم أكن أتوقع من هذا الشاب بالذات أن يكون بهذا الوعى والإبداع، فهو قليل المشاركة، بل وكنت أحسبه باهت الانتباه متواضع الذكاء، فرِحت به وبالاسم ليس فقط لأنه حل لنا إشكال الحيرة، بل لاننى عرفت من خلال قيام هذا الشاب بصكّ هذا الاسم أن رسالة هذا العلاج تصل إلى الأبسط فالابسط من الناس بطريقة سَلسِلَة نكاد لا نتبينها، وعرفتُ، وتأكدت أن قيمة وفاعلية مبدأ “هنا والآن” الذى نلتزم به فى المجموعة العلاجية تصل إلى أفراد الجماعة رويدا رويدا حتى تصبح صالحة لأن تصف ما يتخلق منا كجماعة، ثم كل على حدة، وأنها أرضية شديدة الخصوبة لإثمار تميز إبداعىّ: أعنى إبداع الشخص العادى على مسار نموه وهو يؤلف بين مستويات وعيه دون قصد ظاهر.

وعلى الرغم من غرابة هذا الاسم “محمد دلوقتى” (أكثر من سابقيْه) فإن أحدا فى المجموعة لم يعترض عليه، ولم يسأل عن أسباب صكّه، ولا مبررات أو كيفية استعماله، ولم يحاول المعالج القائد أن يطرح أى مناقشة حول ذلك برغم فرحته به، ثم إن مريضنا نفسه قد قـبـِل الاسم بقبول حسن، وفرحة بادية.

لكن ظلت معالم  “محمد دلوقتى” غير محددة لأى منّا، ويبدو أن الوعى الجمعى قد اعتبر أن ما يقوم به هو المشاركة فى عملية “التخليق الدائم”، وهو التعبير المفروض أن توصف به العملية المحورية فى كل إبداعات التطور والنمو وهو ما اسميته لاحقا الشخصية فى “اليـْـتـَـكـَـوّن([3]).

ثم ظهر “محمد نفسية” وهو الاسم الذى أطلقه المريض على نفسه بعد خروجه وعودته إلى عمله بجهد أقل نسبيا مما اعتاد قبل المرض (“طربقها”) وذلك حين بدأ يشكو من خيالات مجسدة: تقع بين الصور الخيالية، والهلاوس الحسية البصرية، وتختلف درجة تجسيدها فى مواقف متنوعة، وقد عزى ذلك ببصيرة نسبية إلى حالته النفسية، ومن ثم ابتدع المريض لنفسه هذا الاسم “محمد نفسية” وربما كان يصف به “محمد” الذى أصبح “حالة نفسية” تحتاج اهتماما “نفسيا” وراح بناء على ذلك يناقش المعالج فى وصف حالته الجديدة بلغة نفسية شائعة ربما مثلما تصله من عامة الناس أو المسلسلات أو كثرة من الأطباء والنفسيين، وقد رفض المعالج أن يستجيب لاقتراحه أو أن يـُـستدرج إلى علاج الأعراض الجديدة بالتفسير والتهدئة (النفسية) على حساب مواصلة تخليق “محمد دلوقتى”.

ومع ذلك ظلت معالم “محمد دلوقتى” غامضة على الجميع بما فى ذلك  صاحب الاسم، حتى قائد المجموعة، لكننا عشنا معه فى جلسات المجموعة وهو يتكون بعد ذلك بنجاح، وينمو ببطء، ويتراجع ليعود، وقد اعتبرت أن هذا الغموض فى حد ذاته هو دليل على سلامة ما نحن فيه ونحاوله، وأننا لم نستسهل الوصول إلى حل تقليدى يحدد المعالم بالشرح والتأويل، وتواصلت التفاعلات تسمح بتنشيظ حركية الجدل بين المحمّدين “محمد طربقها” و”محمد فركشنى”، ورحنا نعايش”محمد دلوقتى” بالتعتعة والمشاركة والمعية وتنشيط الوعى البينشخصى وتخليق الوعى الجمعى وتحفيز جدل بيولوجى إبداعى مستمر: فى جو من السماح المتواصل الضابط المنضبط مع سائر دوائر الوعى الممتدة إلى المابعد. (دون هذه الألفاظ طبعا)

محمد طربقها: إذن هو المثل الواضح لمواصلة الكفاح اليومى المغترب (جزئيا على الأقل)، مع ضعف الاعتراف والرؤية والعلاقاتية والسماح، لكن يبدوا أنه إن آجلا أو عاجلا يمكن أن “يطربقها” (بالمعنى السلبى) على دماغ صاحبه إذا لم يضبط جرعة الانهاك والمبالغة والاغتراب.

أما محمد فركشنى: فكان يمثل فعلا الحل المرضى باختيار الكسر فى مواجهة القهر والنسيان والتهميش والتصفيق الاستغلالى، وهو ليس حلا إلا إذا كان العجز الناجح والتدهور يعتبر حلا، ويتقبل المريض هذا الاقتراح ولكن بتذبذب واضح لما فيه من اتهام خفى بالإشارة إلى دوره فى اختيار المرض.

 ويظل محمد دلوقتى: هو الكيان الذى يتخلق “هنا والآن” أثناء العلاج الجمعي (وطبعا أثناء رحلة النمو السليمة بأى وسيلة مناسبة، فى الحياة العادية الطيبة السوية – إن وجدت- وطول الوقت) وهو الكيان دائم النمو الذى يتخلق من الجدل بين النقيضين نتيجة لتنشيط الوعى البينشخصى، واحتواء الوعى الجمعى لوعى المشاركين فى مسيرة الكدح وحمل الأمانة.

على أن ثمة أسماء ظهرت واستـُـعـْـمـِـلت بشكل سريع عابر وذلك أثناء التفاعل والمسيرة، لكنها لم تلق قبولا كامنا رغم دلالتها، وبالتالى ظلت تمثل احتمالات هامشية لا أكثر، ومن ذلك:

 محمد الثالث، إشارة إلى أن “محمد طربقها” هو محمد الأول و”محمد فركشنى” هو محمد الثانى ليكون محمد الثالث هو التوليف الإيجابى بين هذا وذاك، وبرغم سلامة المبدأ، إلا أننا كما نعلم أن الجدل لا يوصف بالألفاظ هكذا وبالتالى يظل أسم “محمد الثالث” تنظيرا، وربما تشويها أكثر منه إشارة دالة إلى جدل قائم نابض مستمر، ومثله “محمد طربقها الجديد”.

أما غير ذلك من المحمدين، ولا بد أن بذكر لاستكمال القائمة فكان اسم المريض المثبت فى شهادة الميلاد وبطاقته الشحصية([4]) “محمد عبد الله”.

تنبيه جوهرى:

بالرغم من كل هؤلاء المحمدين إلا أننى شعرت أنه ينبغى التنبيه ومن البداية على أننا لا نتعامل مع الشائع عن ما يسمى حالات ازدواجية الشخصية Double Personality ولا تعدد الشخصيات Multiple Personalities وأن تداخل كل هؤلاء المحمدين إنما يعلنون حوار وتبادل مستويات الوعى معا باعتبارها كيانات حاضرة ومناورة ومتداخلة ومتنافسة وليست كيانات انشقاقية متبادلة تحل الواحدة منها محل الأخرى وتـُـنسى الأخرى أو تـُـلغى حتى تعود وتحل فى الوعى والسلوك الظاهرين وهكذا، فكلا الزملتين المستبعدتين تنتمى إلى إمراضية انشقاقية تظهر فيها الشخصية أو الشخصيات الأخرى كبديل الشخصية  العادية، تظهر بعض الوقت، مع نسيان للأخرى واللأحداث..الخ وهو المفهوم الذى شاع فى مجالات موازية كثيرة مثل الأفلام السينمائية والمسلسلات التليفزيونية، وأيضا لبس الجان مؤقتا أو مذبذبا أو مستمرا، أو نسيان إحدى الشخصيات (وخاصة الشخصية العادية) نسيانا كاملا لفترات مختلفة من الماضى، كل هذه حالات هو من تجليات الانشقاق Dissociation وهى نوع من أنواع العـُصاب لا يصل إلى درجة التفكيك الذهانى ولا يعلن أى تفكك مفترقى أو تعتعة كيائية مواجـِـهـَـة، بل إنها تجليات تظهر فى مظاهر أقرب إلى العادية مثل “المشى أثناء النوم”.

خلاصة القول: نحن نحاول من خلال هذا العمل أن نتعرف على أبعاد ما هو:

(أ) نفسمراضية تركيبية Structural Psychopathology

(ب) حوارات مستويات الوعى البينشخصى والجمعى.

(ج) حركية الجدل النابضة المتنوعة المتعددة الأدوار

(ء) إمكانيات تحويل المسار إيجابيا بعد التفكيك من التفسخ إلى الإبداع

(هـ) نقد النص البشرى للمريض والمعالج معا فى الإبداع العلاجى.

وبعد

أكتفى بهذه المقدمة، وأختمها بتقديم هذا اللعب التخطيطى فى الشكل التالى، دون تعليق.

تعريف بالحالة:Untitled3

  هو شاب التقيته من تسع سنوات([5])، كانت أول مقابلة فى (13/7 /2006) وتتبعنا حالته لبضع سنوات، وكان مريضا داخليا بعض الوقت فى قسم الطب النفسى – قصر العينى- وخرج بعد تحسن نسبى، وعلاج بالعقاقير والمشاركة فى العلاج الجمعى، بالإضافة إلى الدعم التأهيلى المتواضع ما أمكن ذلك، وبعد الخروج من القسم الخارجى تم الاتفاق على أن يستمر فى العلاج الجمعى أسبوعيا على مستوى العيادة الخارجية، وقد حضر بانتظام جيد نسبيا لظروف عمله، وأصيب بنكسة واحدة لبضعة أسابيع أمكن احتواءها دون اضطرار لدخوله القسم من جديد.

لن أبدا بذكر التشخيص فى هذه الحالة كما فى معظم الحالات التى سوف تتالَى، فالمقصود التعرف على تشكيلاتها ومعايشتها أكثر من تعليق لافتة تصنيفية عليها، ولم يخطر لى ابتداع تشخيص جديد لها، ذلك لأن البدء بـِذِكـْر التشخيص (القديم أو الجديد) يمكن أن يبعد القارئ، خاصة الدارس التقليدى، عن عمق وحقيقة ما نريد تقديمه حين يبادر بأن يترجم أولا بأول كل معلومة تصل إليه وكل حوار يجرى إلى ما سبق أن سمعه أو قرأه أو حفظه من “الأعراض” التى لابد أن يتميز بها ما هو فصام (مثلا، أو غير ذلك من تشخصيات).

منطلقات أساسية:

فيما يلى بعض ما نأمل أن نقدمه من خلال هذه المحاولة:

أولاً: بيان كيف أن من يُسَمَّى مريضا نفسيا، حتى لو كان اسمه فصامى، قد يكون أقرب تواجدا وقربا وتألما ونبضا ليس فقط مما يشاع عنه، وإنما أيضا من الشخص العادى.

ثانياً: إن المغامرة بطرح بعض ما يلوح من معالم “النفسمراضية”([6]) مهما كان باكرا: يمكن أن يكسر الحواجز بين الطبيب والمريض بشكل يسهم فى استمرار الكشف عن المزيد من عمق معنى المرض وغايته

ثالثاُ: أن يظهر أن الهدف من الحوار، هو تحقيق جدوى علاجية وإن  لم تظهر للتو إلا أنها إنما تثبت عادة أن لها أثر باق.

رابعاً: إن الهلاوس والضلالات يمكن احتواءها مباشرة بالتفعيل العلاجى والاحتواء فى الوعى البينشخصى (أثناء المقابلات المتاحة) ثم من خلال الوعى الجمعى حسب الفرص المتاحة.

خامساً: إن فهم لغة النّفْسِمْراضيّة المباشرة هو فى متناول المريض ربما أكثر من الطبيب المكتفى بالمنهج الوصفى الكمى التشخيصى التقليدى (ومن كل من لا يتخطى السطح).

سادساً: إن تقييم حقيقة وطبيعة ما يسمى “الأعراض” مع مثولها للحواس أو فى الفكر أو غير ذلك: قد يحتاج وقتا أطول بكثير للتسليم به، من مجرد ما تسمح به الألفاظ أثناء المقابلة الأولى أو المقابلات الأولى.

سابعاً: إن الحكى عن بعض الأحداث التى تبدو “سـَـبـَـبـِـيـَّـهْ” قد تكون أحد مظاهر المرض وليست سببا له.

ثامناُ: إن مشاركة الطبيب (ثم المجموعة العلاجية) فى تشكيل الوعى البينشخصى ثم الوعى الجمعى هى التى تسهل قبول مزيد من أبعاد النفسِمْرَاضِيْة وفى نفس الوقت يمكن أن تسهم فى عملية الجدل فالتخليق اللازمتين لحفز نقلة نمائية محتملة.

تاسعاً: إن أيا من ذلك، بل كل ذلك، مهما صدقت البصيرة واتضحت النَّفْسِمْراضيّة لا يغنى عن المبادرة بالتأهيل الفورى والعودة إلى الحياة العادية فى واقع المجتمع مهما بلغ وصفه بالاغتراب العادى أو المفرط فى العادية.

عاشراً: إن العلاقة الممتدة مع المعالج، يمكن أن تقوم بدورها مهما تباعدت مدة اللقاءات، واختلفت أوقات المقابلات.

حادى عشر: إن الامتثال على العقاقير المناسبة – فى حالات الذهان بالذات- مع استمرار كل ما سبق هو أمر جوهرى طول الوقت، مع العلم بأن محاولة ضبط الجرعة الدوائية باستمرار وتغييرها كمًّا ونوعا إنما تتناسب دقيقا تناسُباً مع الخطة العلاجية أولا بأول على طول خريطة طريق العلاج.

 تعريف – تقليدى ضرورى –  موجز بمعالم الحالة:

محمد شاب عمره 25 سنة،  دبلوم صنايع، نقاش –  لا يعمل حاليا منذ  شهور–  يسكن فى حى شعبى  جداً، بالقاهرة.

الشكوى الأساسية (تلقائيا):

  • حاسس إنى تايه، مش حاسس بنفسى مش فى وعيى، ما عنديش قدرة على التركيز.Untitled4
  • التعب ابتدا من بعد ما طلعت من الجيش من 8 شهور، كنت مش منتظم فى الشغل وأنام كتير
  • من ست شهور رحت عند قرايبى علشان أسلم عليهم، حطوا لى أكل (مكرونة) وشربت بعدها شاى. بعدها بشهر حسيت إنهم كانوا حاطين لى حاجة فى الشاى وعاملين لى عمل وحاطينه فيه، أحس إن الناس كلهم فى الشارع بيتكلموا عليا، ويشتموا وبقيت أسمع أصوات (ستات) بالليل والنهار تؤمرنى أعمل حاجات مش عايزها، ودايما تشتمنى وتقول لى إنت عبيط، وناقص، وساعات تقول لى موّت نفسك.
  • ماكانش فيه نوم خالص، أقلق كثير بالليل على طول، خايف، حاسس إن فيه حاجة هاتحصل لى.
  • أنا تعبت جامد فى الجيش  ونفسيتى كانت تعبانى، وعايز أقولك على سر: اتحبست مع خمسة زمايلى فى الجيش، كانوا عايزين يعملوا معايا حاجات وحشة..،.. وكانوا دائما يدخلوا عليا، ويضربوا فيا، ويقولوا لى مثـّـل لنا فيلم جنس، قلد لنا صوت ستات بتغنى، وكانوا يضربونى لو ما عملتش كدا، ويهددونى إنهم هايموتونى

التاريخ العائلى: إيجابى.  الخال: فصام متدهور

المدرسة: كان بيحب المدرسة، وكان شاطر، ماسقطش ولا سنة، لحد ماخد الدبلوم.

العمل:  نقاش، محبوب، شاطر، يطبق النهار بالليل، ويصرف جزءاً من دخله لنفسه، والباقى للأسرة وساعات كان بيجيب هدايا لأخواته.

الأسرة: الأب: قاسى (شكاك عدوانى)، الأم: طيبة، طلقا والمريض صبى، تزوجت الأم، وتناوبت إقامته بين الأب والام.

الحالة العقلية الراهنة:

اضطراب الإدراك (المحتوى): هلوسة سمعية: أصوات نسائية تـَـسـُـبـّـه، وتأمره بأفعال لا يريد فعلها.

اضطراب محتوى التفكير: ضلالات الإشارة وضلالات المتابعة والإضرار (مع سلامة التفكير التجريدى)

اضطراب الحالة الوجدانية : قلق  وتوتر وحزن متماوج مع حكى الخبرات المؤلمة.

البصيرة: معطوبة نسبيا

الإعاقة: توقف عن العمل  فى الشهور الأخيرة

التشخيص: محجوب مؤقتا، وكذلك التشخيص الفارقى، وذلك لزوم الغرض من تقديم الحالة، وللتأكيد على أولوية “النفسمراضية” قبل وبعد التشخيص.

المقابلة:

كان اللقاء فى كلية الطب قصر العينى ، قسم الأمراض النفسية، أثناء مقابلة تدريبية مع الأطباء الأصغر (أطباء مقيمين) وطلبة الدراسات العليا حيث قدم الطبيب المقيم د. (هشام)  – فى حضور زملائه- تاريخ وشكوى وأعراض حالة “محمد” كاملة، وهو ما يسمى “ورقة المشاهدة” Sheet، مما قد نعود إلى الاقتطاف منه أكثر فأكثر مع تطور عرض الحالة.

صباح الخميس:  13/7/2006

سوف أقوم بتقديم المقتطفات اللازمة والدالة من المقابلة دون تعليق، ثم أتبع ذلك بالهوامش التى قد لا تهم إلا الممارسين والدارسين.

****

صباح الخميس:([7]) 13-7-2006

يدخل المريض محمد بعد أن أنتهى الطبيب المقيم د. هشام من قراءة ورقة المشاهدة بأكملها على الحاضرين، وهى  التى أوجزنا أهم معالمها حالا،  فيبادره د.يحيى قائلا:

د. يحيى: تعالى يا محمد صباح الخير، هو ده إجتماع دكاترة وعايزين نشوفك سَوَا، …. بس إنت عارفنى الأوّل ولاّ لأ؟

محمد: آه

د. يحيى: أنا مين؟

محمد: د. يحيى.

د. يحيى: عارفنى منين؟

محمد: د. هشام قال لى،

د. يحيى: قال لك يحيى مين؟

محمد: د. يحيى الرخاوى.

د. يحيى: أنا برضة عرفت إسمك من د. هشام، إنت الظاهر كنت نايم لحد دلوقتى مش كده؟(1)

(1) هذا التعريف المبدئى له وظيفة هامة، فليس من حق الطبيب أن يعرف اسم المريض دون أن يعرف المريض اسمه، وعادة ما تبلغ المريض من خلال ذلك رسالة احترام مبدئى، لطبيعة المقابلة المختلفة عن كل من الفرصة “للرصد” و”التحقيق”.

وسوف نرى كيف يمكن أن يؤثر ذلك فى المقابلة بعد تطور الحوار إلى ماهو النَّفْسِمْرَاضِيَّةْ.

محمد: أنا كنت نايم آه وصحيت.

د. يحيى: صحّ النوم، نستنّى شوية على ماتصحصح؟

محمد: لأ أنا صحيت.

د. يحيى: غسلت وشك؟

محمد: آه.

د. يحيى: هو كان مفروض نتقابل الاسبوع إللى فات، بس الظاهر إنك زوغت يعنى، حاجة كده.

محمد: آه، أنا تعبت، خفت من الجلسات، سبتها ومشيت على طول. (2)

(2) قسم الطب النفسى فى قصر العينى قسم مفتوح، يستطيع المريض أن يخرج منه دون استئذان، والمريض هنا تصرف  تلقائيا حين وجد أن ما يسمى “جلسات” (ويعنى جلسات الكهرباء: التى لا أسميها أنا كذلك)، وهذا ربما يعنى أن توقيتها لم يكن مناسبا، وأنا لست ضد هذه الأداة الناجعة على طول الخط. إلا لو كان تحضير المريض لها بمعناها الأحدث لم يكن كافيا، أو أن ما وصل المريض عنها لم يكن مفيدا أو صحيحا، وقد وضعت لذلك تفسيرا وفروضا تشير إلى أنها بمثابة “إعادة تشغيل الأمخاخ” Restat بعد الإعداد المناسب..الخ([8]).  

د. يحيى: أنا هاقولك على طبيعة المقابلة دى، أنا دكتور كبير شوية، فى السن على الأقل، يعنى، واللى احنا فيه دلوقتى إسمه “علم” و”تعليم”، يعنى  لقاء علمى، وتعليمى بس فى نفس الوقت إنشاء الله الناتج بتاعه يكون لفايدتك إنت أساسا، فا إحنا علشان العلم والتعليم بنقعد نراجع فى الكلام إلى إحنا بنصوره بالكاميرات دى (يشير إلى الكاميرات)، مش علشان التلفزيون بتاع الحكومة، ولاّ اللى بيتذاع فى البيوت، لأ، ده علشان العلم والتعليم، وعشانك قبل ده وبعد ده، فأنا باستأذنك ضرورى علشان أولا تتكلم قدام الدكاترة دول فى اللى انت عايزه بس، واللى مش عايز تتكلم فيه تشاور لى، وانا أحوّد بعيد عن اللى حاتشاور عليه، وبعد ده بنقعد نتناقش علشان مصلحتك وعلاجك، وده  هو أساس المقابلة دى وإنشاء الله بيصب فى مصلحتك أساسا زى ما قلت، وبعدين يمكن ينفع اللى زيك، ودى فايدة  التصوير ده،…..، إنت موافق؟

محمد: ماشى. (3)

(3) هذا الإستئذان للتصوير والتسجيل شديد الأهمية، من الناحية الأدبية ومن الناحية القانونية، ويكمل ذلك ما أشرنا إليه من الالتزام  بإخفاء ما يحدد المريض شخصيا بما فى ذلك محل الإقامة، ونادرا نوع العمل، مع الحرص على ألا يخل ذلك بالغرض العلمى، وكل ذلك حرصا على حق المريض فى سائر ما هو حقه.

د. يحيى: أنا مش هادخل فى أى تفاصيل إلا بإذنك، مثلا الحادثة اللى انت مـُـحـْـرج منها، ياترى هى حصلت صحيح ولاهى جزء من المرض، يستحسن نأجل الموضوع ده، بس أقول لك من البداية إنى أنا كدكتور كبير يعنى شوية، كتير جداً من عيانينى يقولوا حصل كذا كذا كذا، فا أنا أقول ياربى ما يمكن هما زودوها شوية نتيجة  للوحدة والخوف، فـَـكـِـبـْرِت معاهم، ولما بنعرف الحقيقة، ده بيفرق فى العلاج بجد.

محمد: هو شئ حصل معايا، بس ما فضلش معايا علشان أنا مش كده.

د. يحيى: بصراحة أنا رأيى على حسب ما سمعت من د. هشام إنه يجوز ماحصلش من أصله، ومع ذلك ما دام انت قلته، فيبقى حقيقة بالنسبة لاستقبالك، وده كفاية عندى، مش ضرورى يكون حصل فعلا فى الواقع ولا لأه، المهم إنت استقبلته على إنه حصل

محمد: أنا شايفها أنا كده. (4)

(4) من حيث المبدأ، من هذا المنظور العلاجى نحن نتعامل مع أعراض المريض بما فى ذلك ما يسمى ضلالات أو هلاوس على أنها واقع له قوة (واحترام) الواقع الخارجى، علماً بأن الواقع الداخلى أحيانا يكون أكثر موضوعية من الواقع الخارجى، ومن البداية يظهر أن  هدف المعالج هنا هو أن يُطَمئن المريض أنه يحترم ما يعايشه  (وليس: يأخده على قد عقله إطلاقا)، وفى نفس الوقت هو يلمـّح  بأنه سيرجع لفحص الواقع الداخلى جنبا إلى جنب مع الواقع الخارجى، وهذا المدخل يسمح، ومن البداية، بأن نـُـرجع بعض المثيرات والمدركات الخارجية إلى أصلها باعتبارها كيانات داخلية، وأيضا قد يكون تمهيدا للتعامل مع الهلاوس والضلالات كواقع داخلى فى الوقت المناسب، وهكذا يتراجع التفسير (أو الاتهام) الذى يتكرر من الأهل  وكثير من الأطباء قائلين للمريض بإلحاح أنه: “دا بيتهيأ لك، دا بيتهيألك”، ويوصل للمريض رسالة احترام حقيقية فتتولد الثقة بقدر ما يؤمن الطبيب بما يقوله للمريض (بما فى ذلك واقعه هو الداخلى: واقع الطبيب الداخلى والخارجى:  أنظر بعد) 

د. يحيى: يبقى اتفقنا، الحقيقة حقيقة سواء حصلت برّانا، أو شفناها جوّانا، إنت  قلت  كلمة جيدة جدا: أنا شايفها أنا كده، يبقى شـَوَفـَاَنك هو المهم.

محمد: لدرجة إن أنا قاومت نفسى.

د. يحيى: يعنى إيه قاومت نفسك؟

محمد: قاومت نفسى إنى كمّلت جيش.

د. يحيى: تكميل الجيش ده لوحده يمكن يكون دليل على إنها ما حصلتش إلا جوّاك، يعنى حصلت فى استقبالك إنت، وتكميلك الجيش يجوز يدل على إنك راجعت نفسك، أو على إنك متفهم الواقع  بس الحكاية كبرت منك عشان كنت عايز تتجنب عقوبة أكبرمن إللى حصل، إنما لا يدل على شىء آخر، مافيش احتمال يامحمد يكون ده ماحصلش، يعنى هل فيه إحتمال مايكونش حصل فعلاً، ومن كتر الخوف إتجسد لك  إنه حصل، إحتمال مجرد احتمال.

محمد: لأ حصل.

د. يحيى: أنا مش بدافع عنك، كده راجل وكده راجل، حصل غصب عنك، محصلش من حقك، بس عموما هى مخزونه جواك مأثرة عليك،  كده راجل وكده راجل، ولا يهمك، أنا مصدّقك تحت كل الظروف. (5)

(5) التصديق هنا، ينبغى أن يكون حقيقة وليس مجاملة، وهذا يحتاج من الطبيب أن يكون مؤمنا بوجود وتأثير الواقع الداخلى فعلاً، مهما كان خفيا عليه، لكن عليه أن يواصل طول الوقت التفرقة بين التصديق وبين التسليم لوصف المريض لمثول مصدر أعراضه من خارجه، وهذا لا يعنى  أن يواصل النفى طول الوقت، وإنما على الطبيب أن يهز الحقائق بطرح احتمالات أخرى، ثم لا يفرض رأيه، ولكن يطرح الاحتمالات والبدائل طول الوقت.

محمد: غصب عنى.

د. يحيى: ما يمكن ماحصلش من أصلهُ، باقول يمكن

محمد: آآآآآه.

د. يحيى: تانى مرة تقول آه بدلالة مهمة بالنسبة لى، كأنك ممكن تتقبل الفكرة إللى بقولها لك ده، ما هو يامحمد دى برضه علم وخبرة وجدعنة، أصل أنا صنايعى زيـَّك، ولا مش باين علىّ؟!

محمد: لأ باين  (6)

(6) كثيرا ما أفضّل استعمال كلمة “صنايعى” على لقب “دكتور“، باعتبار أن الصنعة فن، وأستعملها بسهولة مع أولاد البلد مثل محمد هنا، لكننى أتحفظ فى استعمالها مع طبقات أخرى تجنبا لسوء الفهم أو الاستهجان أو الاستدراج إلى مناقشات أو مجاملات بلا فائدة، وقد بدا لى أنها أقرب إلى محمد باعتبار أنه “صنايعى” ماهر أساسا.

د. يحيى: إنت كمان صنايعى شاطر.

محمد: كنت

د. يحيى: ومازلت،

محمد: كانوا بيحبوا ياخدونى معاهم فى الشغل، المعلـِّمين الصنايعية، بس دلوقتى خلاص

د. يحيى: ليه خلاص، “ياما قالت العين حبيبى ربنا يشفيه، ويطلع السوق ويخطر مثل عاداته”.(7)

(7) هذا جزء من موال يعرفه محمد غالبا، لأنه من ثقافته الفرعية  مباشرة، والاستشهاد به قد  يقرب المسافة أيضا.

محمد: مش باين

د. يحيى: ليه ؟

محمد: علشان التعب.

د. يحيى: هوّ انت تعبت ونخّيت ولا تعبت وتفوق؟!

محمد: ما أنا عايز أفوق.

د. يحيى: تفوق إزاى وإنت قاعد مبلّم كده، خد وادِّى معايا فى الكلام علشان نوصل وتفوق، أنا مش قلت لك الكلام إللى احنا بنعمله ده هايصب فى مصلحتك إنشاء الله، ومهما كان التعب فلازم أقول لك من الأول إنه  جزء من العلاج. (8)

(8) الشائع أن العلاج عامة، والعلاج النفسى خاصة هو للترييح،  وبرغم أن الراحة هى مطلب المرضى فعلا وحقهم، إلا أنه إذا اقتصر العلاج على ما يشيعه الأطباء  والإعلام عن ذلك فإننا  لا نقدم إلا نوعا من التسكين، وهو مطلب مشروع، لكن العلاج المكثف، والمستلهم فكرة دوام النمو، لا يضع الترييح مطلبا أولا،  ولا مطلبا أوحدا، ويلاحظ هنا كيف أن الطبيب بيّن موقفه من البداية كما نلاحظ أن المريض برغم كل آلامه لم يرفضه كما يفعل كثير من المرضى، وأهاليهم، بل ومعظم الأطباء.

د. يحيى (يكمل): أنا خلصت أسئلتى الأولانية، إسألنى إنت بقى أى سؤال، أنا سألتك كفاية، إسألنى أى سؤال.

محمد: أى سؤال عن إيه؟

د. يحيى: عن إللى احنا فيه عن أى حاجة، أى سؤال، إستفسار، حيرة، أى حاجة.

محمد: أنا كل إللى يهمنى، كل إللى أنا عايزه أرجع زى الأول.

د. يحيى: أقول لك على سر فى صنعتى وتستحملنى، زى ما قلت لك إن التعب جزء من العلاج.

محمد: آه

د. يحيى: أنا بقى عكسك، كل إللى أناعايزه إنك ما ترجعش زى الأول، قول لى ليه،

محمد: ليه؟

د. يحيى: لأن اللى زى الأول هو إللى وصّلنا للى احنا فيه دلوقتى، يعنى عايز ترجع كاشش، تسمع الكلام وتهرى نفسك وانت خايف منهم، تروح متكوّم لحد ما تنخ تانى، وساعتها تبقى إتنيلت أكتر، إن ماكناش أنا وانت والدكاترة يبقى هدفنا إنك تختلف عن الأول، إلى أحسن، ولو شوية صغيرين ، يبقى قلـّته أحسن.

محمد: بإذن الله.

د. يحيى: خدت بالك،ترجع زى الأول يعنى تبقى بتعرّض نفسك للى حصل تانى، ما ينفعش التلصيم ده، ماينفعش. (9)

(9) ابتداءً من هنا، وكما لاحظنا سابقا، سوف يزيد إلحاح المريض “للرجوع إلى ما هو: “كما كنت”! وسوف يحتد الخلاف مع المعالج الذى يصر أن تكون تجربة المرص “فرصة للتغيـّـر”، ومع أن هذه هى المقابلة الأولى، فلقد غامر الطبيب بإعلان الخلاف وتعميقه كجزء أساسى من التعاقد العلاجى.

محمد: آه، جايز إللى أنا فيه ده من كتر التفكير ومن كتر التعب النفسى.

د. يحيى: ماله ده بقى؟

محمد: هو إللى عمل فيا كده.

د. يحيى: بصراحة لا أنا فاهم التفكير تقصد بيه إيه، ولافاهم التعب النفسى تقصد بيه إيه.

محمد: يعنى من كتر التفكير فى الماضى إللى بيتعب (10) الموضوع اللى فى الجيش لسّه  تاعبنى برضة، دمرنى

(10) الشكوى من التفكير شكوى شائعة فى مجتمعنا، أكثر من غيرنا، حتى أننى تصورت أحيانا أننا ننشأ على أن مجرد التفكير هو إما عيب، أو مرض، أو حرام، كذلك فإن استعمال تعبير “التعب النفسى” مثل “كـُتـْر التفكير”، يبدو استعمالا فضفاضا يروج له الإعلام والأطباء طول الوقت، والمطلوب أن المريض حين يستعمل مثل هذه التعبيرات لانكتفى بها وإنما نتمادى معه فى الاستفسار حتى  نعرف قصده تحديدا.

د. يحيى: ماشى ماشى، بس مش انا قلت لك إن الموضوع ده فيه فصال، انت مركـّز على موضوع واحد، ما هو كل المواضيع فى الجيش صعب وبهدلة

محمد: وفيه حاجات تانية فى المـَـلـَـكية.

د. يحيى: إيه بقى الحاجات إللى فى المـَـلـَـكية ؟ زى إيه؟

المريض: بقيت اسمع صوت واحدة ست بتتكلم عليّا، وساعات تطلع أصوات مش هيّا، باسمعها فى ودانى

د. يحيى: وإيه يعنى؟ ما هو برضه الواحد ممكن يسمع بودانه من جوه، شغلانة يعنى، مش الودان متوصلة لجوّة برضه؟

محمد: لأ من بره.

د. يحيى: ماهو الصوت ممكن يجى من جوه، بس بتسمعه من بره حتى لو أصله جوه(11) على فكرة: هيّا الواحدة، الست، اللى بتسمع صوتها دى اسمها إيه؟

(11) نلاحظ أنه من المقابلة الأولى والطبيب يحاول أن يوصل للمريض ماهية “الواقع الداخلى”، وأن له دوره وشخوصه التى لا وسيلة لرصدها كما هى فى الداخل، فُنـُجـَسـِّمها فى الخارج، هذا علما بأننى لا أعتبر هذا مجرد حيلة نفسيه (ميكانزم: “إسقاط”)، وإنما أرصده وأتعامل معه كواقع آخر، حتى لا نخطىء فى تهميشه أو تجريده، وأحاول توصيل هذه المعلومة كحقيقة للمريض بصبر وإصرار، وهى عادة تصل إليه أكثر من الشخص العادى لو لم نتمادَ فى النقاش والشرح بالألفاظ، هى تصل للمريض أكثر – كما قلنا- مما تصل إلى الشخص العادى بما فى ذلك الكثير من الأطباء.

محمد:  إسمها إزاى؟ إيش عرفنى

د. يحيى: ما دام هى واحدة ست، يبقى لها اسم، إيه رأيك تيجى نِسَمـِّيها.

محمد: أنا اللى أقول إسمها إيه!!!؟

د. يحيى: أيوه يا أخى إسمها إيه؟ يا اللا نسميها، هوّا فيه واحدة تقول الكلام ده، وتعمل العمايل دى وما يبقاش لها إسم ، إسمها إيه؟

محمد: أى إسم وخلاص.

د. يحيى: إديها اسم

محمد: هالة.

د. يحيى: عندها كام سنة

محمد: 35

د. يحيى : بيضا ولاّ سمرا

محمد: بيضة

د. يحيى: شفت ازاى! أديك قدرت تشوفها جوّة، وإن اسمها هالة، وإنها بيضا(12)

(12) لم أكن أعرف قبل هذا “التفريغ” أن هذا النوع من التعيين([9])، هو نوع من تحريك الإبداع التجسيدى، أكثر منه خيال تجريدى، وأنه يمكن توظيفه فى المساعدة على أن يوصِّل نفس الرسالة العلاجية (أعنى تجسيد الداخل واقعا فعليا) بهذه الصورة المتعينة، التى يمكن أن تكون لها علاقة ببعض أنواع السيكودراما التى نمارسها فى العلاج الجمعى، بل لعل لها ما يقابلها أيضا فيما يقوم به الطب الشعبى، لكنه يضعها “كائنا” فى الخارج ويسميها “جان”، أو “لبس”، أو “أسياد”…الخ، فى حين انها تـُقَدَّمُ هنا على أنها “كيان” داخلى ضمن التركيب البشرى النيوروبيولوجى، كمستوى وعى قائم فى داخلنا، وبالتالى يمكن تحريكه بالعلاج إلى المشاركة فى جدل غائىّ ابداعى إلى وعى أشمل، عبر وعى بينشخص، إلى وعى جمعى …إلى ما بعده!

د. يحيى: اتفقنا: يبقى اسمها هالة، وبيضة، طب تسمح لى أغششك تغشيشة صغيرة، ماتيالا نخليها جوّة ونسمع صوتها من برّة.

محمد: يعنى إيه تبقى هىّ جوه بس الصوت جاى من بره؟

د. يحيى: ما هى تغشيشة والسلام، أنا ما باحاولشى أقنعك، بس يجوز تنفع.

محمد: آه، بقى كده!!؟

د. يحيى: إيه رأيك ينفع؟!

محمد: ينفع.

د. يحيى: إيه ده!!؟ هوّا إيه إللى ينفع؟ هوّا انا كل ما أقول حاجة صعبة تاخدنى على قد عقلى. هوّا إيه هو اللى ينفع؟ (13)

(13) يلاحظ هنا نوع الحوار الجارى، الذى يشمل احترام عدم الفهم، والبعد عن أى إقناع منطقى، وتبادل الأدوار تلقائيا، وكأن هناك حوارا موازيا  يجرى بجوار هذا الحوار الظاهر يصل بين المتحاورين ليوصل رسالةً ما، مهما كانت غير واضحة، وقد وصلنى ذلك أساسا من خبرتى فى العلاج الجمعى([10])، حين نؤكد لبعضنا البعض أننا “بنشتغل فى اللى مش فاهمينه”، وأيضا ” بنشتغل فى اللى مش عارفينه”، ثم نواصل التواصل دون توقف حتى خطر لى أن أسمى هذا التكنيك “الحوار الموازى”.

محمد: أنا كنت عايز أقعد معاك كده لوحدنا، أحسن.

د. يحيى: تقعد معايا لوحدنا؟!!

محمد: آه

د. يحيى: ليه بقى،”تشربنى حاجة أصفرا”، (ضحك) لا ياعم!

محمد : مش  قصدى

د.يحيى: ما هو طبعا مش قصدك، ما انت عارف أنى باهزّر بس الدكاترة دول لمّا يشاركونا حايساعدوا فى العلاج

محمد: يا ريت

د. يحيى: شوف يا ابنى: ربنا أتاح لك الفرصة دى.

محمد: ما أنا عايز أتكلم والكلام مش مجمّع معايا خالص. (14)

(14) مرة أخرى، وللزملاء الأصغر خاصة: عليهم ألا يأخذوا ألفاظ المريض بما تعنى حرفيا، فقوله: “الكلام مش مجمّع معايا خالص” لا يعنى بشكل مباشر أنه يعانى من تفكك الكلام أو اللا ترابطIncoherence  فكما نلاحظ أنه يواصل الحوار  بمنتهى الدقة والتسلسل، ومع ذلك فإن إعلانه ذلك يشير إلى وصف حركية الداخل فى نفس الوقت، أكثر مما يشير إلى اضطرابات مجرى الكلام أو القدرة على تشكيل التفكير  المعلن فعلاً، وبالتالى فإن هذا الوصف لا يعنى إطلاقا ما يسمى “الاضطراب الجوهرى للتفكير” Formal Thought Disorder 

د. يحيى: المسألة مش مجرد كلام، الكلام خطوه نطلع منها بحاجة سوا سوا، إنت بتجتهد بتجتهد، أنا شايفك بتجتهد معايا عالآخر، يعنى إنت جدع والله العظيم، إنما إن ماكـُـنـِـتـْـشْ تقوم من الكسرة دى هاتبقى النهاية سودا ولا مؤاخذة. 

محمد: لأ

د. يحيى: لأ إيه؟

محمد: مش عايزها تبقى كده،

د. يحيى: يبقى ياللا سوا سوا،

محمد : سوا سوا مين؟

د.يحيى: انا والدكتور هشام وانت  وكلنا

المريض: لأ، أنا حاسس إنى لوحدى

د. يحيى: عندك حق، بس الفرصة دى ربنا بعتها لك عشان ما تبقاش لوحدك

محمد: تهيؤات برضه؟ حاتقولوا تهيؤات!

د. يحيى: هوا انا سبق قلت لك إن اللى عندك ده تهيؤات، دَانـَا باقولك إنه  موجود، بس جواك مش برّاك، آدى كل الحكاية، على فكرة الفرصة إللى ربنا إداها لك دى، ربنا حايحاسبنى ويحاسبك عليها، مش هايحاسبك لوحدك، ولو الدكتور هشام خد باله حايحاسبه برضه، وحتى لو ما خدشى باله. (15)

(15) إن توصيل مثل هذه الرسائل بهذه اللغة ليس له أى بعد دينى تقليدى مباشر، إلا أنه مفيد جدا فى ثقافتنا خاصة، وهو يفيد الطبيب كما يفيد المريض، فهذا التجمع المشترك لحمل المسئولية معا، هو أساس الوعى البينشخصى، ثم الوعى الجمعى، ضمن الوعى الإيمانى الشعبى، ومشاركة المريض فيه على قدم المساواة مع المعالجين، هو أيضا أساس العلاج عامة والعلاج الجمعى وعلاج الوسط خاصة المستبصر بحفز مسيرة النمو([11]) فى مجتمعنا هذا على الأقل.

محمد: أنا تعبت.

د. يحيى: من إيه؟

محمد: من الصوت ده

د. يحيى: يخرب بيتك إحنا بنتكلم فى إيه ولاّ فى إيه، طب نرجع واحدة واحدة، هوّا الصوت جوه ولا بره؟

محمد: بره

د. يحيى: طيب بره، إنما هيّا فين؟

محمد: مش فاهم السؤال.

د. يحيى: إنشاله مافهمت رُدّ وخلاص،

محمد: هيّا مين؟

د.يحيى : هيّا “هالة”

محمد: هالة مين

د. يحيى: مش انت اللى سميّتها هالة! إللى بتطلـّع الصوت.

محمد: مش عارف، ما هو الصوت…

د. يحيى (مقاطعا): يا سيدى مابنتكلمش على الصوت بنتكلم على الست دى، الست هالة، جوه ولا بره؟

محمد: أنا باسمع صوت، وخلاص،

د. يحيى: أنا عارف إنك بتسمع صوت واحدة ست، هوّا أى صوت واحدة ست هايطلع منين؟! من خرم صفارة!! ماهو طالع من واحدة ست وانت وصفتها، وقلت إن عندها 35 سنة وبيضة واسمها هالة، تبقى جوه ولا بره؟

محمد: مش فاهم

د. يحيى: ما تخلنيش أقولك إنشاله مافهمت تانى، جاوب وإنت مش فاهم، جوه ولاّ بره؟(16)

(16) مرة أخرى: لاحظ الاستمرار مع عدم الفهم، بمعنى أن إعلان عدم الفهم ليس بالضرورة دليلا عى عدم الفهم، أو الأصح عدم الإدراك.

محمد: الصوت ده أنا باسمعه من بره.

د. يحيى: من بره فين؟

محمد: ما أنا مش فاهم السؤال.

د. يحيى: لأنك مركّز على الصوت مش على مصدره.

محمد: طبْ ما نسيبنا من مصدره ده

د. يحيى: نسيب إيه!، ماهى ست، وبتقول أصوات، نسيبها ونروح فين، علشان تستفرد بيك تانى فى الأودة وتقول لك موّت نفسك، إحنا حانلصّم، ، إنت مش نـَقـَّاشْ!

محمد: آه نَقـَّاشْ.

د. يحيى: لما بيكون فيه  شق فى الحيطة تبيّض عليه كده وخلاص.

محمد: لأ بنأفـّله،.. بنقفـَّله معجون الأول

د. يحيى: إفرض إن هو فارق، مسافة يعنى مش يبقى عايزتحبّشة بحاجات كده.

محمد: الكلام ده لما يكون الفلق كبير، بنعملـّه جبس.

د. يحيى: وساعات ماينفعش لما تكون الأرض مريحّة.

محمد: فعلا.

د. يحيى: تحط جبس ماتحط جبس ترييح الأرض يرجع يشرخ تانى (17)

(17) نلاحظ كيف يجرى الحديث بلغة المريض، وفى صلب حرفته ومصطلحات مهنته.

محمد: صحيح ممكن يشرخ تانى، ماهو بيبان، بس بندى وش بوية الأول عليه لوفتح تانى بنغمّضة معجون.

د. يحيى: يعنى إيه بنغمّضه؟

محمد: يعنى زى ما تكون بتغمض عينك، كنت فاكرحاجات كتير فى صنعتى، كانت الصنايعية يحبونى، كانوا مسمينى “محمد “طربقها”

د. يحيى: محمد إِيه؟

محمد: محمد “طْربَقْها”

د. يحيى: يعنى إيه ؟

محمد:علشان كنت جامد فى الشغل كنت ناشف،وباخلّص اللى بيدُّوه ليّا قوام قوام

د. يحيى: يا خسارة عليك وعلى أيامك. (18)

(18) لاحظ أصل ظهور تسميتة “محمد طربقها” ومغزاه الإيجابى فى العمل.

محمد: كانوا يحبوا أنزل معاهم الشغل، كنت أطلـّع أوض نوم لوحدى الدور الرابع والدور الخامس، كنت قوى فى الشغل، دلوقتى ماباقدرش.

د. يحيى: ما أنا بقول لك نخـّيت

محمد: 24 سنة وباشيل ده كله. آآآآآآآه، حقى (واغرورقت عيناه)

د. يحيى: العياط مش هايجيب نتيجة، هو شرف وكل حاجة لأنه صِدْق، إنما مش حايجيب لك حقك

محمد: أنا باحاول أكتم العياط، بس…

د. يحيى: هو حقك، بس هو برضه ضعف، ما تآخذنيش

محمد: بس غصب عنى

د. يحيى: بس برضه هوّا  حقك

محمد: عشان إللى أنا فيه ده

د. يحيى: ومن غير عشان، هو حقك.

محمد: ممكن يكون كمان المخ تِعب،

د. يحيى: هوّا فعلاً تِعب من بدرى من وانت صغير، والتعب جامد

محمد: ده أكيد، مريارالمريار، يعنى لوفيه أكبر من المريار كنت قلت.

د. يحيى: قصدك مليار .. مليار إيه؟

محمد: هو تِعب، مخـِّى تِعـِبْ

د. يحيى: من إيه؟

محمد: هو المخ بيتعب من إيه؟

د. يحيى: من الغباء، من التحمل من غير لازمة، من إنك تيجى على نفسك عمال على بطال، إنك تنسى حقوقك، إنك ترضى تبقى جزمة قديمة يلبسها كل واحد حافى، وبرضه يرميها اللى مش عايزها

محمد: لأه، أنا عايز أرجع زى زمان.

د. يحيى: عايز ترجع تانى يـِلـْبـِسُوك جزمة؟ أو يرموك جنب الحيطة؟

المريض: لأ ما أنا عايز أتغير

د. يحيى:أدى احنا قرّبنا نتفق، تتغير ، يبقى مش زى زمان

محمد: عايز اعرف أنا عندى إيه؟

د. يحيى: عايز تعرف إيه؟ تعرف إسم المرض يعنى؟ بصراحة مالوش لزمة، عايز تعرف إيه تانى، إفرض قلت لك إكتئاب، ولا مش إكتئاب أو أى كلام من إللى بيقولوه الدكاترة، ولاّ حتى فصام هاتعمل إيه؟!

محمد: مش هاعمل حاجة.

د. يحيى: طيب، ليه بقى تعرف حاجة  مش هاتعمل بيها حاجة، تعرفها ليه؟

محمد: يعنى مش هاستفاد حاجة يعنى لما أعرف إسم المرض؟

د. يحيى: خالص خالص، بالعكس، دا يمكن يعطلك لو سمعت الكلام اللى بيقولوه عليه الدكاترة، إنما يمكن حاتستفاد لما  نغلب المرض سَوَا سوَا، مش لما نعلق يافطته،

محمد: وحا نغلبه ازاى؟

د. يحيى: بإننا نكشف أصله وفصله جوّانا، ونشوف الدنيا اتلخبطت كده إزاى، مش أسبابه والماضى وخلاص، نقوم نقدر نتفاهم معاه ونصححه، معلشى أصلى معلّق على الحكاية دى: أصل لو الست اللى بتقول الكلام ده بره هاجيبها منين أشتغل معاها، إنما لو جُوّه هاقدر أشتغل معاها، قصدى حا نشتغل معاها سوا سوا، الشغل ده هوا اللى يمكن فيه فايده، إنما إسم المرض وحكاية هاتستفيد، بيه إيه، كلام مايجيبشى همـّـه.

محمد: أنا كل إللى يهمنى “إن ربنا يسهلى وأخف علشان أطلع أشتغل بقى،

د. يحيى: زى زمان برضه؟

محمد: آه

د. يحيى: آه إيه، ما هو يا إما أحسن من زمان، يابْقَى انا غلطان فى حقك،….، سمعتنى؟

محمد: لأ.

د. يحيى: طيب بالذمة ليه ماسمعتنيش فى دى، باقول لك: يا إما نرجع أحسن من زمان يا مش نافعة، كل العياط ده جى من اللى كنت فيه زمان، كل الألم ده من زمان ومن محمد طربقها، هايرجعوا ينفخوا فيك وهات يا دحْ، طربقها طربقها لما طربقت نفسك، وتقولى أرجع زى زمان!!؟

محمد: يعنى اعمل إيه؟

د. يحيى: يا محمد يا ابنى: رغم إحترامى للى إنت بتقوله هانبّهك على حاجة، هاتسمعنى بقى ولا حاتقفل تانى؟

محمد: آه، معاك أهه

د. يحيى: واضح طبعاً تعبك، مافيهوش أى مبالغة، بالعكس إللى ظهر ده جزء من مريارات زى ما بتقول،  لما هانقعد نتكلم فيه بقية حياتنا، مش حانخلص، .. (المريض يبدو ساهما).. سامعنى؟

محمد: سامعك.

د. يحيى: لما هانقعد نتكلم فيه بقية حياتنا هانزودُه ومش حا  ينقص، تصور!!

محمد: (مقاطعا) عايز، …

د. يحيى (مقاطعا أيضا): أكمّل ولا بلاش

محمد: كمّل.

د. يحيى: …. إنما لو اتعلمنا منه إن إحنا نعيش سوا سوا  فى الظروف إللى ربنا إداها لنا دلوقتى: يبقى يمكن نرجع أحسن، ويبقى نجحنا ويبقى لصالحنا، وتتنيك جدع وتتنك بطل، مش بس في إنك تطربقها، لأ إنك تعيش زى ما ربنا خلقنا، كل ده ممكن لو انت مش لوحدك، وماترجعش زى زمان، تبقى أحسن من زمان

محمد: طب ازاى؟

د. يحيى: مش يمكن الكلام اللى قلناه ده يطلع صح ويساعدنا

محمد: أنهو كلام

د. يحيى: اللى قلناه بتاع جوه وبره

محمد: بس أنا لو قلته لحد حايقول ده مجنون ده، ومش عارف إيه. (19)

(19) تذكرّ ما سبق أن قلناه فى التقديم من أن المريض قد يتقبل فروض النفسمراضية مهما كانت غامضة، أكثر من الشخص العادى، وأنه يمكن أن يغير موقفه من واقع العلاقة العلاجية النشطة، وليس باقتناع عقلى سطحى.

د. يحيى: قصدك حد من البشوات دول، (يشير إلى الحضور) لا يا شيخ حرام عليك، دول مع إنهم كاتبين تشخيص رسمى عامل بالنسبة لى زى السجن، إنما دول صغيرين (يشير للأطباء الحاضرين) ومستعدين يتعلمواـ إمال همّا هنا بيعملوا إيه؟ مش انا قلت لك من الأول إحنا هنا عشان العلم والتعليم، وبنصوّر عشان العلم والتعليم، وانت حاينوبك ثواب فى ده، لو استفادوا منك وهمّا بيعالجوا غيرك، وربنا يكرمك وتخف.

محمد: هو أنا مجنون يعنى؟

د. يحيى: ما احنا بنشوف أهه

محمد: هو أنا مجنون؟

د. يحيى: إسألهم (يشير إلى الحضور من الأطباء) همّا اللى كتبوا التشخيص

محمد: بس أنا مش مجنون، أنا ممكن أكون مريض نفسياً، تعبان نفسياً بس. لكن مش مجنون، مابامشيش أكلم نفسى.

د. يحيى: يا راجل صلى على النبى، هوّا حد يقدر يلقط ويفهم اللى انت لقطته ده، دا انت بتلقط وبتفهم زى العفريت.

محمد: بافهم إيه؟

د. يحيى: أنا متصور إنك لو صدقتنى وقبلنا وجود مصدر الأصوات من جوه، كنت هاتسمع الأصوات من جواك ويمكن تفضل فى ودنك برضه وساعتها مش حايهمك، ونكمل. (20)

(20) هذه النقلة من الأعراض إلى النفسمراضية، ومن الخارج إلى الداخل هى نقلة لا تتم بالإقناع المنطقى، لكنها كما يبدو من كل ما تقدم يمكن أن تسمح بقدر من التنوير غير المباشر عبر الإدراك الكلى وليس التفكير الخطّى وبالتالى تسمح لحركية المخ أن يعيد بناء نفسه (طبعا بمساعدة كل العلاجات الأخرى)، وعلى الرغم من أنها تبدو موازية لما يسمى الطب الشعبى إلا أنها عكسه تماما.

محمد: طب وانا لما اسمع الأصوات من جوّه حاتفرق إيه؟

د. يحيى: أقول لك مثلا: الست هالة دى بتقول لك الكلام قلة الأدب ده، وعمالة تلبّخ وتقول لك موّت نفسك، طب وهى هاتروح فين لما تكون جواك وتموّت نفسك، ما هو لو تصدقنى إنها جوّاك مش براك، هى حاتخاف تقول لك كده، لأنها هاتروح معاك.

محمد: إزاى يعنى؟

د. يحيى: لما تكون جواك وتقول لك موت نفسك،  تستعبط انت وتقول لها  “ما إنت جاية معايا يا روح أمِّك”، إنت هاتروحى فين، إنما لو تكون بره تموت إنت وهى تنفد  بجلدها، إنت منين ما تقول لك  موت نفسك تقول لها “سَوَا  سَوَا ياروح قلبى”، إيه رأيك؟

محمد: مش عارف دى خيالات دى ولاّ إيه!! ولا دى أوهام ولا دى حقيقة. وبرضة كان أبويا بيتعبنى برضة، كان يقعد يقول لى إنت بتمثل، أقول له أنا تعبان، يقولى إنت بتمثل، والصلاة برضه، والصلاة، مع إنّ يمكن إللى خلانى كملت الجيش: هـُوَّا الصلاة، كنت وأنا ساجد كنت باقول يارب قوينى، يارب قوى إرادتى وعزيمتى، لغاية ما قاومت وخدت الشهادة، بس خدتها بعد عذاب، مش عذاب لأ، فوق العذاب.

د. يحيى: شهادة الجيش؟

محمد: عذاب النفس، فوق العذاب، والصبر برضة، واقول يا رب…

د. يحيى: أهى قولة يارب دى لوطلعت صح، تلم حاجات كتير على بعضها.

محمد: ما هى طلعت صح وربنا ساعدنى.

د. يحيى: بس نخـِّيت فى الآخر.

محمد: ماهو أنا لازم أنخ بقى، ماهو كل دا وانا عندى 24 سنة استحمل كل ده، ومش عايزنى أنخ، دا كويس أن أنا ما انتحرتش، ماموتش، يعنى بعد كل ده وكل إللى أنا شفتُهْ وكل إللى حصلّى وما انِخِّشْ، دا الجمل بينخ.

د. يحيى: دا صحيح. بس برضه إحنا فى دلوقتى: يا تاخد الفرصة دلوقتى يا حاتضيع منّنا كلنا.

محمد: أناعايز أشتغل

د. يحيى: احنا كده إحترمنا كل حاجة، وانت صادق مليون فى المية، آن الآوان تسمعنى وتشوف حانعمل إيه.

المريض: حانعمل إيه؟

د. يحيى: أقول من تانى؟ حاضر، يا نعمل العلاج اللى هوّه، يعنى نعمله مع ربنا والناس والشوفان، يا كده، يا إما نعمل العلاج بتاع: عايز أرجع زى زمان، عايز أستريح.

محمد: لأ نعمله مع ربنا.

د. يحيى: بعد ثانية هاتقول عايز أرجع زى زمان، مع إن ثبت إن كلمة زى زمان دى مافيهاش ريحة الراحة.  قدامنا أهه الحكاية بانت زى الشمس: يا إمَا أرجع زى زمان، وعايز أستريح” والكلام ده: “يا إمّا اللى بنحاول نعمله ده مع بعضنا ومع ربنا، حانعملها مع ربنا.

محمد: لأ نعمله مع ربنا. (21) (يكمل): طب والصوت؟

(21) مرة أخرى: استعمال هذه اللغة ليست من منطلق دينى تقليدى، بقدر ما هو نابع من ثقافتنا الفطرية الإيمانية الأصيلة، ومدعم بالوصلة بين الوعى الشخصى إلى الوعى البينشخصى إلى الوعى الجمعى إلى الوعى الجماعى إلى الوعى المطلق إلى وجه الله، وكل ذلك له جذور خبراتية وعلمية وإيمانية وعلاجية فاعلة وموضوعية. 

د. يحيى: لا يا شيخ، حاييجى منين  الصوت بعد ما فقسنا مصدره من جُوَّه، وبقينا كلنا مع بعضنا، وربنا معانا،

محمد: يعنى نعمل إيه؟

د. يحيى: طيب علشان نخلـّـص يابنى، أنا فعلاً محترم كل حرف إتقال من د. هشام ومن إللى إنت قولته، وخايف أجيب سيرة حاجة تتوجع تانى. عايز أفكرك بحاجات أساسية:  نمرة واحد، مش هاترجع زى زمان، (صمت، واغرورقت عيناه بالدموع أكثر) ترجعٍ أحسن إنشاء الله، بإذن واحد أحد، (يزداد اغروراق عينيه) طيب نأجل المقابلة دى شوية، كل ما أجيب سيرة حاجة بتروح موجوع يابنى.

محمد: مش عايز أعيط…،  بس …

د. يحيى: قلت لك مرتين تلاته إن العياط محترم بس مش مفيد أوى، ساعات بيجيب العكس، يعنى بيفضى شحنة الألم، زى الكورة لما تفسَىِّ وأنا أسف معلش سامحنى

محمد: أنا مش عايز أعيط،… بس غصب عنى.

د. يحيى: أنا عارف

محمد: هو مافيش راجل يعيط، بس لو حد غيرى ماكـَـنـْـتش عيـّط، كان موّت نفسه.

د. يحيى: أنا عارف، بس انت شجاع وشريف، مش طربقها بس، وحانعملها سوا بإذن الله.

محمد: أنا بعيط صعبان علىّ نفسى.

د. يحيى: كفاية صعبانية يا محمد، لحسن تقضى بقية حياتك صعبانية، وإنت جدع وهاترجع جدع بطريقة أحسن من كل إللى فات.

المريض: صحيح؟

د. يحيى: بس بطريقة مختلقة.

محمد: آآآآه. آآآآه

د. يحيى: إنشاء لله، علشان ربنا معانا وعلشان إنت مش لوحدك، مين معاك؟

محمد: معايا ربنا.

د. يحيى: الحمد لله، دى البداية ومين تانى، أدى احنا قعدنا نلف نلف لحد ما جينا لأصل الحكاية، ومين تانى معاك إنت وربنا؟  

محمد: معايا حضرتك والدكتور هشام والدكاترة.

د. يحيى: بس، كفاية كده مع السلامة، إفتكر بقى آخر جملة قلناها، مع السلامة، واختبرنا بقى يابنى نطلع أهل لكده، إنشاء الله ربنا يقدّرنا كلنا مع بعض، مع السلامة.

محمد: (ينصرف).

[1] – مع نبذة ولقاء لنصٍّ مساعد هو موجز من حالة أخرى ظهرت فى الفصل الرابع جنباً إلى جنب مع الحالة الأساسية تدعيما لبعض الأفكار والمبادىء التى يقدمها هذا العمل عامة، وطبعا بالإضافة لبعض تفاعلات من لزم حضوره من المجموعة العلاجية (الجروب).

[2] – محمد اسم مستعار، قد يكون أحمد أو محمود أو مجدى، أنت وما تشاء، لكننى اخترت محمد لشيوعه دون تمييز.

 [3] – أول ما ما يقابل هذا التعبير كان ما عثرت عليه فى مرجع بالإنجليزية ينبه إلى رفض وصف الشخصية المتماسكة المحددة المعالم  بالشخصية القوية لصالح تدعيم الشخصية الطبيعية التى هى دائمة التشكل، على حد التعبير بالإنجليزية always in the making : وحين حاولت ترجمة هذا التعبير افتقدت الــ”ing” التى تتميز بها اللغة الإنجليزية، فنحتُّ كلمة من فعل معرَّف  بأداة التعريف التى لا تدخل على الأفعال، فتكون الترجمة هى:  “في الــْيَـتـَكوّن باستمرار“، وسخر منى الذين لم يألفوه، لكننى آمل أن يجد حظا أوفر مع استمرار استعماله.

[4] – “محمد عبد الله” وهو الاسم (الرسمى) الذى لم نتوقف عنده قليلا ولا كثيرا.

[5] – تاريخ كتابة الحالة من التسجيلات:  19/10/2015

[6] – من الآن فصاعدا سوف استعمل هذه الكلمة النفسمراضية التى نحتّها إضغاما تشجيعا من الرائد أ.د. على زيعور، محل كلمة الإمراضية، وأيضا محل “السيكوباثولوجى” التى هى تعريب كلمة psychopathology راجيا من المتابعين أن يتعودوا عليها دون حاجة إلى إشارة إلى أصلها فى الهامش لا بالعربية ولا بالإنجليزية.

[7] – الأرقام الموجودة هنا فى المتن تشير إلى أرقام الهوامش الخاصة بالشرح أو التعليق حيث يجرى التعليق على جزء من المتن السابق مما رأيت أنه يحتاج إلى توضيح تعليمى خاص.

[8] – أنظر (صدمة بالكهرباء … أم تنظيم للإيقاع) عدد أبريل 1982 مجلة الإنسان والتطور، وأيضا حوار حولها فى (نشرة 29-6-2008  “استشارات مهنية”)   www.rakhawy.net

[9]  – من العيانية  Concretization

[10] – يمكن مراجعة لعبة “يا خبر دا انا لمّا مابهمشى يمكن…..(أكمل)، وأيضا لعبة: “دا انا لو أقول كلام من غير كلام ……”(أكمل)   www.rakhawy.net

[11] – Growth Oriented  Therapy

الفصل الثانى بداية المشاركة فى العلاج الجمعى

الفصل الثانى بداية المشاركة فى العلاج الجمعى

الفصل الثانى

بداية المشاركة فى العلاج الجمعى

أواصل تقديم هذه الحالة بصعوبة بالغة، وحين تتجسد لى هذه الصعوبة بشكل يكاد يوقفنى أتساءل: هل يمكن أن يصل إلى من يقرأ ما أحاول تسجيله مما يصل إلينا مع المرضى، ومنهم، سواء فى المقابلة الثنائية أو عرض الحالة أو العلاج الجمعى؟ وتأتينى الإجابه كما ذكرت سالفا بالنفى، ومع ذلك أواصل، وما لا يدرك كله لا يترك كله.

قلت من البداية أن متابعة هذه الحالة شملت بضعه أسابيع فى القسم الداخلى، ثم حوالى سنة مشاركا فى العلاج الجمعى، وكنت أود أن أتجنب أن يكون التشخيص مثبتا من البداية لكن ألح علىّ بعض الزملاء أن هذا من حقهم، ومع عدم اقتناعى مع التحفظات السالف ذكرها فى البداية

بعد المقابلة الأولى قمت بتوصية لمحمد بالالتحاق بمجموعة العلاج الجمعى الجارية بالقسم مع مرضى من العيادة الخارجية تمهيدا للخروج لمعاودة عمله مع الاستمرار فى المجموعة، وكان الالتحاق  بالمجموعة متأخرا استثناءً بعد بدايتها بشهور، لكننى اضطررت إلى هذا الاستثناء حين قدّرت شدة حاجته إلى الدخول إلى الوعى الجماعى الذى يمكن أن يحول دون تمادى المسار السلبى، فضلا عن احتمال أن يسهل له إعادة التخليق أسرع.

التحق محمد بالمجموعة وهو مازال نزيلا بالقسم الداخلى وكنت حريصا على سرعة عودته إلى عمله فى أقرب وقت حتى يستطيع أن يستعيد علاقته بالواقع وبالالتزام، وعملا على التقليل من المكسب الثانوى السلبى بهذه الراحة المحميّة فى القسم، التى ليست راحة، وطبعا كما كان المنتظر، وحتى يستطيع أن يواصل مسيرة العلاج على أرض الواقع، كان عليه أن يرتدى شخصية “محمد طربقها” ولو من الظاهر مع وجود الدعم النفسى الجديد والتداوى بالعقاقير (النيورولبتات الجسيمة أساسا مع قليل من مضادات الاكتئاب برغم فرط الألم ووجود الاكتئاب).

أول مشاركة لمحمد:

فتحى: (ينتبه إلى سرحان محمد طربقها)، محمد إنت معانا ولا سرحان فى حاجه تانيه

محمد طربقها: لأه، معاكوا

فتحى: طيب هما بيتكلموا فى إيه

محمد طربقها: معرفش

فتحى: أمّال معانا إزاى

محمد طربقها: أنا سامعهم بيتكلموا عن الجنان والجنون

فتحى: آه، وبعدين؟

محمد طربقها: بس هما بيتكلمو كده وخلاص

فتحى: وأنت إيه رأيك فى الجنان ده

محمد طربقها: أنا مش شايف فيه جنان

د.حمدى: (محمد) بُصّ يا محمد اللى بيكلمك أنت عارف إسمه ولا لأه

محمد طربقها: لأه

د.حمدى: أسأله على أسمه

فتحى: فتحى

محمد طربقها: أهلا وسهلا بيك

فتحى: وانت قلت إيه فى الحكاية دى

محمد طربقها: أى إنسان لازم يكون فيه نسبة من الجنان

فتحى: نسبه من الجنان؟ طيب أنت شايف الدكتور حمدى فيه إيه

محمد طربقها: إنسان كويس يعنى عادى قاعد محترم مفهوش أى حاجه خالص، حاشوف إيه يعنى، وبعدين أنا ماعشرتهوش علشان أعرفه

فتحى: مش مشكله الإنسان بيتعرف من عينيه

محمد طربقها: يبان يعنى من أول مرة؟

فتحى: آه (1)

(1) يوجد احتمال أن السماح بكل هذه التفاعلات التى شملت أعضاء فى المجموعة، كما شملت طبيبا متدربا، قد مهدت أن تجعل من الجنون داخلنا حقيقة مقبولة للجميع بما فى ذلك مريضنا، وربما أسهمت هذه الإضاءة فى تنشيط حركية الوعى أو دعم بصيرة داخلية لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بما تم فى المقابلة الأولى، ونلاحظ أيضا أن أحدا لم يحاول أن “يقنع” الآخر برأيه، ويبدو أن ما يصل بالتفاعل هو مواز ومكمّل وربما أعمق مما يصل بالكلمات، وحتى “سرحان” محمد الذى لاحظه فتحى يمكن أن يكون دليلا على أنه قد وصله من خلال تنشيط الإدراك ما جعل انتباهه الإيجابى ينسحب دفاعا دون أن ينفى مواصلة انتباهه السلبى كما تبين من حواره اللاحق مع فتحى.

د. يحيى: إنت عارف يا محمد مين من أسامى اللى قاعدين دول؟

محمد طربقها: عارف بس الدكتور حمدى

د.يحيى: بس؟!!

محمد طربقها: آه

د.يحيى: وانا؟

محمد طربقها: وعارفك إنت

د.يحيى: وفتحى؟

محمد طربقها: والدكتور هشام ([1])

د.يحيى: لأه جوه الدايره الدكتور هشام مش معانا فى المجموعة

فتحى: إحنا هنا فى دايرتنا إحنا مالكش دعوة بالدايرة اللى برّه

د.يحيى: عرفت أسامى مين

محمد طربقها: معرفش غير الدكتور حمدى بس والدكتور يحيى

د.يحيى: بس؟؟ يعنى ماسمعتش حد بينادى اسم حد هنا وأنت قاعد ولو بالصدفة، اسم الدكتورة ولاء مثلا.

محمد طربقها: آه عارفها

د.يحيى: طيب ماقولتهاش ليه ما دام إنت عارفها

محمد طربقها: ما أنا عارفها

د.يحيى: ماقولتهاش ليه ضمن اللى إنت عارفهم

محمد طربقها: جايز نسيت بقى(2)

(2) من أبسط الآليات التى نقيس بها انتباه وعلاقات (وليس بالضرورة: ذاكرة) المشاركين معرفة اسماء الحضور، والأرجح هنا أن محمد كان غير منتبه أكثر منه ناسيا، ويمكن مقارنة انتباهه السلبى فى الجروب بحدة انتباهه الإيجابى أثناء حواره مع د. يحيى أثناء المقابلة قبل أسبوع واحد، علما بأن قاعدة “أنا-إنت” تتوثق بذكر اسم المخـَاطـَب ما أمكن ذلك، كما  أن إعلان الإسم يحدد المخـَاطـَب، وأيضا قد يدل على نوع العلاقة مثلا إن كان يعلنه مجردا، أم بسبقه بلقب أو صفه أو يكنـّيه باسم ابنه كالتالى:

د.يحيى: طيب حاول تعرف أسامى الباقيين

محمد طربقها (متجها إلى هدى): إسمِـك إيه؟ أم محمود؟

فتحى: لأه هدى

د.يحيى: إشمعنى يا فتحى، مش نحمد ربنا إنه فاكرها، ما إحنا مره بنقول لها كده ومره كده 

فتحى: لأه إحنا هنا ودلوقتى، أم محمود ديه فى البيت

د.يحيى: مين اللى حط القواعد دى؟ إنت بتحط قواعد على مزاجك؟ هنا أم محمود، وهدى برضه، كل واحد زى ما يشوف

فتحى: لأه هنا هدى بس

د.يحيى: إيه هو ده

فتحى: آه (3)

(3) يلاحظ هنا حدّة فتحى وقوة إصراره ومحاولة فرض رأيه ليس فقط على محمد طربقها، ولكن على المدرّب نفسه، ثم تزايد سرحان محمد طربقها برغم هذه المحاولات حتى بدا وكأنه يريد أن يعمق السرحان لينفصل عن الجارى، كما بدا وكأنه يهم بالقيام نحو  غير القسم الداخلى (وكان ما زال مريضا داخليا بالقسم)، وقد التقط ذلك المدرب فتحول إليه يعرض عليه ترك المجموعة، وخاصة أن هذه أول جلسة، وهذا تكنيك يتبع أحيانا لتأكيد بنود الاتفاق المبدئى على خطة العلاج وتعميق قرار الرغبة فى مواصلة الانضمام للمجموعة بعد معايشة عينة من طبيعتها وما يجرى فيها.

د.يحيى: يا محمد يا ابنى، انت خدت بالك لما فتحى لاحظ سرحانك، شدك من ودانك، أنت عايز تقعد معانا ولا تمشى

محمد طربقها: لأه قاعد

د.يحيى: خليك قاعد، طب قاعد ليه؟

محمد طربقها: أنا قاعد، عايز أقعد

د.يحيى: قاعد ليه ماتقدر تمشى

محمد طربقها: ما أنا لو عاوز أمشى حامشى بس أنا قاعد

د.يحيى: …. يا محمد: أى واحد بيخش هنا جديد بنعمل إتفاق معاه، زى ما عملت معاك وقلت لك، القواعد، وممكن نأكد الاتفاق بأننا نحاول نطفشه من الأول، الاتفاق أنك بعد ما تخرج من القسم تيجى كل يوم أربع الساعة سبعة ونصف الصبح وبنخلص الساعه تسعة إلا خمسة ونسيب خمس دقائق للأسئله والأدوية، وده كل أسبوع سواء كنت فى القسم أو بره القسم، كل يوم أربع حاتنفذ ده ولا لأه

محمد طربقها: حانفذه

د.يحيى: حاتفذه وأنت مبلـِّم كده؟ إنت فاكر يوم الخميس لما كنا مع بعض؟

محمد طربقها: آه فاكر

د.يحيى: كنت أول المقابله مبلّم بالشكل ده، وبعدين قربنا من بعض والمسائل مشيت، إنت جاى النهارده هنا مبلّم تبليمة فظيعه، النهارده زى أول المقابلة يوم الخميس.

محمد طربقها: علشان أنا أول مرة  ثم إنى حاسس إنى لاقى نفسى دايخ

د.يحيى: عندك حق لحد ما تتعود، أنا قلت لك بنود الكونتراتو حاتنفذها ولا لأه

محمد طربقها: حانفذها

د.يحيى: خلاص اتفقنا، وخليك فاكر إن الكرسى اللى أنت قاعد عليه ده فيه مريض زيك يستحقه، فيه ناس محتاجين الكرسى ده يامحمد أنا مش ضامن إنك حاتنفذ الاتفاق خالص وانت بالشكل ده، إيه اللى حايخليك تنفذه إلا إذا وصل لك حاجة تحرص عليها وتجيلها(4)

(4) هذا التوضيح المبدئى هو بمثابة المذكرة التفسيرية للاتفاق العلاجى، وحين يعلن هكذا أمام بقية أفراد المجموعة لكل قادم جديد تعتبر المجموعة شاهدا عليه وتسهم فى تنفيذه، وعلى الرغم من أن محمد كان لايزال بالقسم إلا أن الاتفاق كان باعتبار أنه سوف يخرج من القسم بعد يوم أو اثنين وهذا ما صعَّب الحوار بعد ذلك

محمد طربقها: بس أنا شايف نفسى إنى أنا لسه تعبان، …. تعباااان

د.يحيى: وحاتنيك تعبان زى ما اتفقنا لحد ما تعدى بالسلامة، كل واحد من اللى قاعدين دول تعبان، اللى بقاله سنه واللى بقاله عشرة.

محمد طربقها: أنا مش عاوز أمشى من المستشفى إلا لما ألاقى نفسى

د.يحيى: لأه مش بكيفك ، احنا مش بتوع أدوّر على نفسى، والاقى نفسى

محمد طربقها: لا لما ألاقى نفسى الأول(5) 

(5) تعبير ألاقى نفسى من التعبيرات الشائعة عند كثير من المرضى، وأيضا عند العاديين، وخاصة فى فترة المراهقة، وهو من التعبيرات التى يقابلها هذا العلاج يتحفظ حتى الرفض إذا تكرر وأعاق، وأنا أميل إلى اعتباره تعبيرا مستوردا، ولا أجد فى ثقافتنا الخاصة، وبالذات فى الثقافة الشعبية (وأفراد هذه المجموعة يمثلون هذه الثقافة) لا أجد له شيوعا، وإنما الشائع عند هذه الثقافة هو تعبير “أفضفض”، و”أطلع اللى جوايا”، وهذا يتفق بشكل ما على الحرص على البحث عن الأسباب، وهذا ما يحاول أن ننبه إليه من أنه لا يركز على ذلك أصلا، وهذا العلاج من البداية وقد يعود إلى تكرار التنبيه حتى لا تنقلب المسألة إلى تفريغ وفك عقد، حتى وصل بنا الحال أن نعتبر أن كلمة “لماذا” فى هذا العلاج الجمعى كلمة سيئة السمعة ([2]).

محمد طربقها: أنا قاعد هنا فى القسم علشان عاوز أخف

د.يحيى: ما هو مش على مزاجك، غيرك محتاج السرير زى ماغيرك محتاج الكرسى ده

محمد طربقها: إزاى دا حقى إنى اتعالج

د.يحيى: أيوه يا محمد بس قعادك فى المستشفى له حدود، وانا شايف دلوقتى إن مالهوش أى لازمة، انت حاتخرج بعد الجروب ده، وبعدين تيجى العياده الخارجيه تأخذ شوية حبوب زيك زى التمانين مليون مصرى مفيش حاجه إسمها حاقعد لحد ما أرتاح، دول كلهم 20 سرير و 8 كراسى يا تلحق نفسك وتأخذ الفرصه ديه ياتروح تشوف لك سكة تانية

محمد طربقها: لأه حأخذ الفرصة ديه

د.يحيى: يالاّ خدها، ما إنت أخذتها يوم الخميس، وبعدين رجعت فى كلامك، النهاردة أهه

فتحى: أنت بتشتغل إيه يامحمد

محمد طربقها: نقاش

فتحى: أه

د.يحيى: بصراحة يا فتحى هوّه جدع جدع، وبعدين استُهْلِكْ، وبعدين نخ فى الخط، تقل عليه الحمل بس هو برضه لسّه جدع جدع جدع

فتحى: ما أنا كنت كده يادكتور

د.يحيى: يعنى واحدة واحدة، إنت إتلميت وبقيت واحد مننا لكن هو جدع ولسه فى أول السكة(6)

(6) نلاحظ هنا تلازم التأكيد على الشروط، مع ضرورة إحكام التوقيت، ومحاولة منع الاعتمادية الهروبية المعلنة بالرغبة فى البقاء فى القسم الداخلى، وتشريط محمد للخروج منه أن “يرتاح” ليس هو هدف العلاج الأول ولا الأوحد، برغم اصرار محمد عليه ربما من كثرة انهاكه السابق (طربقها) ورعب تناثره اللاحق (فركشنى)

د.يحيى: إنت إستحملت كتير يا محمد وقلت إنه أكتر من الكتير مريار مريار([3])، كتير وأنا موافق بس ده مش مبرر، إنك تترمى هنا فى القسم بقية حياتك، ولا إنك تقعد مبلم كده وانت فى وسطنا

محمد طربقها: أنا مش عاوز أقعد فى القسم

د.يحيى: الحمد لله، بس إستنى يا محمد زى ما إستحملت كتير قبل ما تتكسر تستحمل وانت فى وسطينا هنا فيه فرصة جديدة، مثلا فرصة الإحترام هنا ديه فرصة من حقك تلاقيها هنا، مثلا فرصة معاملة المثل، الدكتور يقول عليك مجنون تقول على الدكتور مجنون، أنا أقول على هدى أروبه هى تقول عليّا أروبه

محمد طربقها: بس أنا مش عايز أخرج من القسم

د.يحيى: يا خبر يا محمد، رجعت فى ثانبة كده، باقول لك إيه، انت تعمل اللى انت عايزه، إنما مش حتفرض علىّ حاجة ضد مصلحتك، إذا كنت رافض الاتفاق قلت لك تقدر تمشى من الجروب، ومن دلوقتى

محمد طربقها: لأ مش ماشى(7)           

(7) توجد قاعدة فرعية تسهم فى تدعيم اتفاق الحضور، وهى أنه من حق أى واحد (عادة قائد المجموعة) أن يقترح – أو يضغط فى اتجاه – انصراف أحد الأعضاء فى أى وقت، لكنه قبل أن يفعل ذلك ينبه أنه من حق المطرود ألا يطيع الأمر، وأن يواصل الحضور وأن يعلن أنه سوف يواصل الحضور غصباً عن أمر الطرد حتى لو كان صادرا من قائد المجموعة، وعادة ما يطلب منه فرص ذلك بالألفاظ كما حدث فى المقطع التالى:

د.يحيى: طيب دلوقتى عاوز إيه؟ قعاد فى القسم مش حاتقعد، عاوز إيه دلوقتى ربنا إداك الفرصه ديه، حاتعمل إيه؟

محمد طربقها: فى حاجات تعبانه فى جسمى

د.يحيى: ما خلاص عرفناها، إحنا فى دلوقتى إنت عاوز إيه؟ قعاد فى القسم مش حاتقعد

محمد طربقها: حاأكمل علاجى

د.يحيى: انت عرفت سكة العلاج واتفقنا

محمد طربقها: طيب، بس أنا تعبت كتير

د.يحيى: لأه، مش حانتكلم فى الماضى تانى، أنا وإنت وهنا ودلوقتى، ولا حتى فى المستقبل حاتخرج يعنى وحاتشتغل وتيجى كل أسبوع، أهلا وسهلا

فتحى: (متداخلا) حاخده معايا وأنا ماشى

د.يحيى: عاوزين كلام فيه مسئولية يا فتحى، لحد إمتى حاتخده معاك ولحد فين، حاتروح تِقَعَّدُه مع العيال وتنزل فيه ضرب زى مابتضرب عيالك، ولا حاتأكله وتشغله وتستغله زى ما استغلوه، خلينا نتكلم على الأد علشان الإحترام

فتحى: لأه إستنى بس، حضرتك ما هو بدل قعادك هنا يا محمد، دى مش نصيحة، وهنجيبها برضه هنا ودلوقتى بتاخد إيه، بتاخد الحبوب هنا صح، زى مابتأخذها هنا حاتأخذها فى بيتك(8)

(8) يلاحظ هنا أن فتحى منتبه إلى قاعدة فرعية نستعملها أحيانا حتى لا نبتعد عن “هنا ودلوقتى” وهى أنه “ممنوع النصائح” لأن النصائح عادة ما تكون فوقية كما يكون تطبيقها مؤجلا بعيدا عن “هنا والآن”، لذلك قال فتحى “حاجيبها برضه هنا ودلوقتى”، لكن أيضا نلاحظ أن مبادرات فتحى يمكن أن تفسر بالمشاركة فى دعم القرار العلاجى، لكنها تبدو مفرطة فى الاقتحام ولا تخلو من لمحة سخرية مع الافتقار غالبا إلى المسئولية الكافية، لذلك على الطبيب ألا يفرح بمثل هذه الموافقات حرصا على جرعة الاحترام والتزاما بمسئولية التوجيه، أما تنبيه الدكتور لفتحى على الأذى الذى كان يلحقه بأولاده وكان هذا من بين الأعراض أثناء حدة تهيجه، فهو ضمن التذكرة بأن المبادرة بالمساعدة لابد أن تقاس بمقاييس موضوعية مناسبة ونحن نقيم مصدرها مثلما نفرح بظاهرها.

د.يحيى: طب خلينا فى دلوقتى يا محمد، الكونتراتو واضح الكرسى ده فيه اللى محتاج له، أنت قاعد عليه يبقى ننفذ اللى نتفق عليه، بس إنما الخففان دا بقى على ربنا، أعمل اللى عليا وأنت تعمل اللى عليك وربنا بيكرم وزملاتنا طبعا كل واحد بيعمل اللى عليه، واللى مش عاجبه بيمشى هه يامحمد أنت أول مره تيجى معانا وكلنا عمالين نقول طربقها محمد طربقها عشان ده اسم شهرتك اللى بتحبه، ومصصم ترجع له، بس الظاهر المسألة فيها فصال.

محمد طربقها: فصال فى إيه

د. يحيى: فصال فى الاسم مثلا فيه دلوقتى احتمال محمد الجديد ومحمد الواحد مننا، فيه فرصة إحترام دلوقتى يمكن تخفف شوية القهر والشقى اللى كنت فيه طول عمرك، أهى دى الفرصة اللى باقول لك عليها، هاتاخدها بجدعنه هاتأخذها، ولا لأه أنا تحت أمرك

محمد طربقها: حاخدها

د.يحيى: حاتأخذها دلوقتى، شوف إحنا كنا بنضحك على إيه وإتصاحبنا إزاى يوم الخميس ونكمل من المنطقه ديه لما إحترمنا تاريخك وإحترمنا شقاك وإحترمنا تحملك قرّبنا من بعض، وربنا أكرمنا، أنت جاى مبلم العن ما إبتدينا المره اللى فاتت يوم الخميس يا ترى وصلك أى إحترام دلوقتى يا ابنى حتى وأنا باشخط فيك

محمد طربقها: وصلنى، لأ حاكمل معاكم

د.يحيى: والله ما انا عارف، بس عموما حاسس إن احنا ابتدينا

محمد طربقها: يعنى

د.يحيى أهلا بيك، بس يا ترى وصلك حاجة طيبة تخليك تكمل، أدى فرصه جديده ربنا أتاحها لنا وليك، يلاّ نبتدى بإنك تختار لك إسم  بلاش، محمد طربقها، إيه رأيك محمد بس، ولا نضيف عليه إسم الوالد، عشان فيه محمدات كتير

محمد طربقها: محمد عبدالله

د.يحيى: أيوه كده، يا محمد عبد الله، كده تمام إيه اللى وصلك بقى من غير أى مجاملات خالص

محمد طربقها: تانى السؤال كده

د.يحيى: ربنا أتاح لك فرصه فيها إحترام وبتقول وصلك حاجة، وعرفت القواعد، “أنا وإنت وهنا ودلوقتى”، عاوز أشوف إنه وصلك حاجة، أى حاجة حلوة تبان على وشك. (9) 

(9) بدءًا من البداية ابتدأ تحريك الذوات التى نتعامل معها بأسماء مختلفة حسب الموقف وبدا أن هذا يلعب دورا فى الحفاظ على التعتعة المناسبة دون الجمود عند ذات محددة ثابتة، وأيضا دون التسلم لأى من الذوات الظاهرة المطروحة سابقا أن تفرض نفسها طول الوقت سواء كانت محمد طربقها وهو الاسم الذى أطلقوه عليه زملاءه ورؤساءه حتى استنفدوا قواه، أو محمد فركشنى كما اقترح المعالج تفسيرا لاختيار المرض المفسِّخ كبديل، وربما كان الرجوع إلى الاسم الأصلى كما فى شهادة الميلاد مع التذكرة باسم الوالد بديلا عن اسم الشهرة، تلويحا لإعادة البداية التى لاحت لإعادة النظر وربما لاعادة التشكيل.

ربما.

ما سوف يرد فى المقطع التالى هو ما اخترته أن أقدمه من هذه الجلسة فيما يخص محمد أيضا، وللتذكرة فإننا نتبع قواعد صارمة للمجموعة من أهمها التركيز على هنا والآن، والحوار بدون أسئلة أو نصائح وتجنب البحث عن الأسباب.

……….

……….

د. يحيى: (للدكتور محمد المتدرب) ….. أعمل إيه يا دكتور محمد فى الواد ده عاوز أمشِّيه، ياله إمشى يا محمد يا ابنى بس افتكر شروط القواعد بتاعه التمشية ديه ….

فتحى: (متداخلا): إن اللى يمشِّى حد، الحد ده يقدر يقعد غصب عن اللى مشَّاه

د.يحيى: يعنى يا محمد لو أنا طردتك أو إنت طردت حد أو فتحى طردك، أو لو أنا طردت فتحى من حق أى واحد مننا يقعد غصب عن اللى طرده

“محمد”: اللى عاوز يقعد يقعد براحته

د.يحيى: مفيش حاجه إسمها براحته، مفيش كلام من ده فيه إتفاقات وبنفذها، اللى ينطرد من حقه يقعد غصب عن اللى طرده، أهى دى الراحة المسموح بها هنا

فتحى: ولو غيبت إسبوع بس لازم يكون إيه بعذر

د.يحيى: دقيقة واحدة يا فتحى الله يخليك ما تكركبهاش عليه احنا مش فى مدرسة

فتحى: إتفضل

د.يحيى: وصل لك إيه بقى يا محمد؟ إتفضل إطلع بره، كفاية عليك ما دام انت مصر، كفاية عليك كده

“محمد”: أمشى يعنى؟

د.يحيى: من حقك تقعد غصب عنى علشان ننفذ القاعدة، عاوز تقعد تقعد غصب عنى، إنما أنا قلت رأيى، ده حقك زى حق أى واحد هنا ينطرد، وهو ده الإحترام، بنحاول نقيس بنفس المقاس كل الناس، حتى الدكاترة حتى لما  الدكتور محمد قال لهدى  انتى مجنونة، من حقها تقول عليه مجنون، وأنا بطردك دلوقتى فمن حقك تقعد غصب عنى

“محمد”: أنا قاعد

د.يحيى: لأه غصب عنى تقول لى حقعد غصب عنك

“محمد”: أنا حاقعد غصب عنك

د.يحيى: لأه تمشى، وادينى  بطردك تانى إستعمل حقك تانى

“محمد”: هو من حقى إنى أنا أقعد

فتحى: آه كده

د.يحيى: الله نور يا فتحى، ولو طردتك يا محمد تانى وتالت وعاشر تقدر تقعد حداشر يا للاه: كفاية عليك كده يا محمد غيرك أولى بالكرسى اللى إنت قاعد عليه

“محمد”: بس أنا عاوز أقعد

د.يحيى: مفيش عوزان إنت تفرض قعادك عليّا

فتحى: تقوله لأه أنا مامشيش أنا قاعد

“محمد”: أنا قاعد مش حامشى

فتحى: صح كده

د.يحيى: لو قاعد زى قلتّكَ كده، حاتضيَّع وقتك ووقت الناس، ياللا إمشى

“محمد”: لأه أنا مش قاعد زى قلتى

د.يحيى: قاعد علشان ترتاح؟ طب هنا ما فيش راحة، هنا فيه تقليب، وشغل زى ما انت شايف.

……………….

د.يحيى: رمضان([4]) بطّل يشتغل سنتين ورجع اشتغل يا محمد واشتغل بناءً على اللى عملناه هنا معاه، واللى عمله معانا، طلع شريف وجدع، ومتألم ومكمل، وكل حاجة، وهو أقرب وأجمل بس رجله لسه بتترعش..

رمضان: لأه بطلت يا دكتور الرعشه

د.يحيى: شويه شويه تيجى وتروح، مش مهم، أيوه يا محمد أنت مبطل شغل بقالك أد أيه

“محمد”: مبطل شغل بقالى حوالى 6 شهور

د.يحيى: رمضان بطل حوالى سنتين ورجع بناءً على علاقته بينا، عرفت يا محمد الجارى ووصلتك القاعده بقى، عرفت أنك مش معانا، وشفت قد إيه فتحى مصحصح

فتحى: أنت قلت الأول أن هو ليه حريه الأختيار أنه يقعد أو يمشى

د.يحيى: هوّا فيه أختيار أكتر من إنه يقعد غصب عنى

فتحى: هو ليه الحق أنه يقعد طبعا

د.يحيى: طبعا، هيّا دى أهم حاجة، هوّا ده اللى بيخلى العلاقة بينَّا متينه يا شيخ، هو ده حقه، واللى يتنازل عن حقه مالوش حقوق، حقوقك دلوقتى إيه يا محمد؟

“محمد”: حقى أنى أقعد أسمع

د.يحيى: تقعد تسمع وبس؟

“محمد”: أقعد أستمع وأتكلم

د.يحيى: بدايه كويسة، بس أسمع وأتكلم مش كفاية، انت لاحظت إن السماع والكلام هنا شكل تانى أيه، إنت شفته فى النص ساعه ديه لحد دلوقتى، احنا بنستمع ونتكلم؟ ولا بتخانق؟ ولا بنعيش؟ ولا بنشتغل؟، ولا بنشتم ؟ ولا بنعمل أيه؟

“محمد”: بيتكلموا

د.يحيى: بيتكلموا وانت مش معانا، بتتفرج علينا ولا إيه

“محمد”: انا معاكوا

د.يحيى: مش كفاية النية يا محمد خش يا راجل بسم الله.

……..

الذى حدث خلال هذه الشهور السته (تقريبا) هو أن واظب “محمد” على حضور جلسات المجموعة صباح كل أربعاء، ورجع إلى عمله نقاّشا حاذقا، دون أن يضطر إلى أن يطربقها إنجازا مرهقا مغتربا، وزاد تعرفه على أفراد المجموعة دون اعتماد مفرط على قائدها، لكنه ظل متمسكا – نسبيا- بأمله فى العودة إلى قديمه “كما كنت!!” (محمد طربقها) كما ظل المعالج وأغلب المشاركين يأملون فى حل أفضل، يتخلق منه محمد جديد فى رحم حركية الوعى الجمعى.

جاء فى النشرة الأولى لعرض هذه الحالة بتاريخ 19/10/2015 ما يلى:

“وكان المعالج يصر أن الهدف الأْوْلـَى بالتحديد، وهو الذى علينا ضرورة أن نسعى إليه، مهما كان الطريق صعبا أو طويلا، هو أن نستفيد من خبرة المرض لنخرج منها بموقف آخر من الحياة والعمل والعلاقات، وأيضا هو ما نأمل بتحقيقه أن نتجنب النكسة، وكان محمد يوافقنا مترددا، ويتمنى ذلك ابتداءً، لكنه سرعان ما يعود للإصرار على رغبته فى أن يعود “كما كنت!!”، وحين ينبهه المعالج أن ما كان، هو ما يمثله “محمد طربقها”  وهو الذى اسهم فى أن نصل إلى ما نحن فيه من كسرة ومرض ومعاناة، كان محمد  يقاوم مقاومة شديدة ويصر عادة – فى نهاية النقاش – على أن يرجع كما كان: محمد طربقها”.

وظل الحال يترجّح صعودا وهبوطا، مقاومة وتفهما طوال السته أشهرالأولى فى العلاج الجمعى، لكن المحصلة كانت فى اتجاه قبول احتمال إيجابى غير واضح المعالم، لكنه كان يتزايد اقترابه باضطراد، وببطء أيضا، وكانت محكات الحفاظ على الأمل هى: أولا: انتظام محمد فى الحضور دون تغيب إلا نادرا وثانيا: استمراره فى العمل دون انقطاع (وأيضا دون أن يطربقها).

كذلك جاء أيضا فى نفس النشرة الأولى لهذه الحالة ما يلى:

“وانتقل هذا الخلاف والحوار من اللقاءات والحوارات الثنائية مع المعالج إلى المجموعة العلاجية، وكان التركيز على رفض التفكك والدفاعات المترتبة عليه، أى رفض محمد فركشنى، أى رفض المرض، لكن فى نفس الوقت كان تنبيه المعالج المستمر يشمل أيضا رفض العودة “كما كنت” أى رفضت محمد طربقها“: 

وهنا مربط الفرس الذى احتاج منى إلى هذه الملاحظة المطولة، ذلك أننى بعد متابعة ستة أشهر للعلاج الجمعى، ثم بعودتى إلى المقتطف أعلاه وأنا أراجع هذه الجلسة: لاحظت فى المقتطف السابق أن التركيز كان على رفض محمد فركشنى، أى رفض المرض، لكن فى نفس الوقت كان تنبيه المعالج المتكرر يشمل رفض العودة كما كنت أى رفض محمد طربقها، لكننى عدت أتمعن فيما جاء فى هذا المقتطف فوصلنى أن التأكيد كان على الرفض دون الإشارة إلى القبول، وحين قارنت ذلك بما جرى فى الجلسة التالية، وإذا بى أجد أننا ركزنا فى هذه الجلسة – جمَّاعاً لستة أشهر– على أن نقبل لا أن نرفض كلا من “محمد طربقها” (دون أن يطربقها)، وأيضا أن نقبل بل نحب محمد فركشنى (دون أن يفركشها)، فحضرنى التأكُّد من أن الوعى الجماعى هو الرحم الجمعى المناسب للحمل لإعادة الولادة، وأنه لا يوجد رحم يرفض محتوياته مهما كانت المبررات، بل هو يضمه ويغذيه ويدفئه مهما بدت أجزاؤه متناقضة أو متباعدة فى مرحلة ما، وتظل الإحاطة والقبول سارية حتى تحين الساعة لولادة المولود الجديد “محمد دلوقتى” الذى ينزل – من خلال ذلك- سليما فى ثقة، لكن فى ضعف مشروع، مصاحب بألم المخاض وأمل النمو معا.

فالعلاج الحمل فى رحم الوعى البينشخصى أو الجمعى لا يرفض ابتداءً، بل يحتوى المكوّنات مهما كانت متنافرة وهو يتيح لها فرصة، التضفر، فالتشكيل، فإعادة التشكيل فالجدل حتى الولادة. وهذا بعض ما سوف نتابعه معا.

وقد انتبهت أيضا (وهذا ما سوف يرد تفصيله) أن الحمل فالتخليق فالولادة داخل الرحم الجمعى ليس له أى علاقة بما بسمى الحل الوسط (جزء من هذا + جزء من ذاك)، ولكنه جدل خلاق وحمل “وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ” لولادة سليمة واعدة، ويتواصل الحمل فالولادة بكفاءة فى رحم الوعى الجماعى امتدادا إلى المطلق ومن ثم إلى خالق هذا النص البشرى الذى يمثله كل منا، وهكذا يصلنى بلغتى الخاصة معنى حمل الأمانة بأن نتحمل تعهد النص البشرى ليرجع كما فطره خالقه: كدحا إلى وجهه وإبداعا للذات، وهو ما أسميته “نقد النص البشرى”

Untitled5

بعد خروجه من القسم واستمراره فى العلاج الجمعى:

ثم مضت سبعة أشهر ونصف، واظب “محمد” فيها على حضور جلسات المجموعة صباح كل أربعاء، ورجع إلى عمله نقاّشا حاذقا، دون أن يضطر إلى أن يطربقها إنجازا مرهقا مغتربا، وزاد تعرفه على أفراد المجموعة دون اعتماد مفرط على قائدها، لكنه ظل متمسكا – نسبيا- بأمله فى العودة إلى قديمه “كما كنت!!” (محمد طربقها) كما ظل المعالج وأغلب المشاركين يأملون فى حل أفضل، يتخلق منه محمد جديد فى “رحم حركية الوعى الجمعى”.

…………

وكانت محكات الحفاظ على الأمل هى:

 أولا: انتظام محمد فى الحضور دون تغيب إلا نادرا.

وثانيا: استمراره فى العمل دون انقطاع (وأيضا دون أن يطربقها)

…………

وانتقل هذا الخلاف والحوار من اللقاءات والحوارات الثنائية مع المعالج إلى المجموعة العلاجية، وكان التركيز على رفض التفكك والدفاعات المترتبة عليه، أى رفض محمد فركشنى، أى رفض المرض، لكن فى نفس الوقت كان تنبيه المعالج المستمر يشمل أيضا رفض العودة “كما كنت” أى رفض محمد طربقها: 

نقدم نص التفاعل الذى دار فى جلسة لاحقة بعد حوالى سبعة أشهر من أول جلسة حضرها محمد، وهو يبين تضافر معظم أعضاء المجموعة، وليس قائدها فقط فى احتواء الحمل فى “محمد دلوقتى” بمشاركته بداهةً،

 وفيما يلى نقدم نص المقتطفات التى تصوّر بعض هذا التطور الذى نأمل أن يؤكد هذه الرسالة.

المقتطفات:([5])

د. يحيى:  يا محمد يابني هو فيه حاجة: احنا بندور على إسم ثالث غير “محمد طربقها الجديد”، دا اسم طويل قوى، إحنا كنا قلنا إن فيه “محمد طربقها القديم”، لو كان ممكن يرجع، وفيه “محمد بس” من غير طربقها، وفيه محمد المشلول المجنون اللى فركش ولخبط الدنيا على بعضها وخلاص، وفيه محمد عبد الله اسمه بالبطاقة، وكنا بنقول مش عايزين نرجع للقديم علشان ما نكررش تاني، ولا عايزين المحتج اللى فركش كل حاجة.

محمد: يعني مش حارجع زى الأول؟؟!!

د. يحيى: تانى!!؟؟، أنا قولتلك 100 مرة لأ، وإنت قولت 100 مرة لأ على اللآَّه بتاعتى، ورجعت قولتلك 100 مرة لأ، وباين ما فيش فايدة، يا ابنى “زى” الأول اللى أنت عايز ترجع له هوّا اللي إنكسر مننا.

محمد: يعني فيه دلوقتى محمد أحسن من طربقها؟

د. يحيى:  باين فيه تالت يا شيخ! وقلنا نسمية محمد طربقها علشان نحترم الجدعنة بتاعتك وزودنا عليه كلمة “الجديد” لقيناها مش لايقة، ما فيش حد بيندهوله بتلات كلمات يا ابنى… “محمد طربقها الجديد” تقيلة علينا عشان نشتغل بيها، مش مهم الاسم، بس تكون الأول وصلتك الرسالة يابني بتاعة إن الرجوع للقديم ماهواش غاية المراد.

محمد: مش هو الحل يعنى!!؟؟

د. يحيى: لأ، مش هو الحل بأمانة، إحنا بقالنا ست شهور بنقول ونعيد فى الحكاية دى هو يمكن يكون الحل لما يكون تلصيمة والسلام، إنما إنت كنت مجنون رسمى يابنى، لما انكسرت الدنيا إتفركشت، حانرجع للقديم هانستحمل فوق طاقتنا، حتتفركش مننا تانى، أو تتليس بأسمنت مسلح بقى، أخدت بالك؟

محمد: أه.

د.يحيى:  فاحنا بندور على إننا نحترم القديم لأنه جَدْعَنَه، طربقها ده معلم وسهِل وكسِّيب وكده، ونحترم الجديد حتى لو فركشها لأنه إحتجاجي على الظلم اللي كان موجود، يقوم يطلع الثالث وهو بقى اللي بندور عليه، وبنحاول نألف له اسم خصوصى.

محمد: يبقى “محمد بس”.

د. يحيى:  دا كويس، يس أنا خايف ليكون كده مالوش معالم هوَّا إيه اللي بيتكون ما بينا دلوقتى؟ العيّل محمد برضه مش كفاية!

محمد: محمد طربقها.

د. يحيى: تانى؟!! مش طربقها ده هو اللي كان جدع وبيستحمل وكان ياعينى بيتظلم وياخد فوق دماغه، بجد، لحد ما انكسر، وبعدين اتفركشت منه أو انقلب محمد فركشها، يعني أنا باحترم محمد طربقها زى ما انت عارف برغم إنه اتكسر فى الآخر، بس مش عايز أرجعْ له، إيه رأيك؟ نسميه إيه اللى قاعد معانا ده؟ آدى احنا بنحترمه وفى نفس الوقت مش عايزينه؟

محمد: مش لاقيله إسم تانى.

د. يحيى: هو صغير قوي وخايب بس بيكبر برضه، وكان نفسنا يكبر بالراحة لكن باين علينا مستعجلين، لازم نستحمل ونديله فرصة.

محمد: نعمل إيه؟

يحيى: أصل الظاهر الثالث ده بيلم حسنات ده وحسنات ده عشان يطلع حاجة غير ده وغير ده، وهوه لسه صغير ومش متعرفين عليه، مالهوش معالم قوي… فاكر؟

محمد: فاكر.

د. يحيى: فاكر إيه يا شيخ؟!! بصراحة أنت باين عليك مُصّر قوى ترجع للقديم ودى جدعنه منك وشرف إنك تعوز ترجع لمحمد طربقها القديم لأنه كان جدع، بس خـّدْ فوق دماغه، كان ناشف فراحِ مكسور زى ما انت عارف بسهولة.

محمد: عايز أرجع أحسن من الأول.

د. يحيى:  أحسن دى فيها أحسن طربقها قوي، وفيها أحسن باختلاف، يعنى معدّى طربقها.(10)

(10) لا يظن أحد أن هذا المقطع الذى طال هكذا ليس إلا مناقشة نظرية أو أنه حوار للإقناع، فهو يجرى بعد أكثر من ستة أشهر فى المجموعة، وهو يذكرنا بأول مقابلة قبل بداية التحاق محمد بالجروب (نشرة المقابلة الأولى 26-10-2015)، وهنا نشير إلى أن عرض النَّفْسِمْراضية ([6]) منذ البداية مع تحديد هدف العلاج هو مجرد تخطيط لخريطة الطريق، أما تحقيق الغاية العلاجية النمائية فهو عملية جارية طول الوقت بكل آليات المجموعة  العلاجية، محاطة بالوعى الجمعى فالجماعى فى رحاب الوعى الأشمل كما ذكرنا، وأن هذا الحوار الذى جاء فى هذا المقطع الطويل السابق لم يكن ليجرى بهذه الصورة، ما لم يكن قد تم تحريك كل الكيانات التى يمكن أن تشارك فى إعادة التشكيل، بكل آليات العلاج مع مشاركة من يشارك من افراد المجموعة تلقائيا ضمن مسار التفاعل والنقد والتشكيل كما يمكن أن نرى فى المقطع التالى مباشرة:

 (تدخل “منى” – إحدى عضوات المجموعة) متأخرة ([7])

منى: إزيكوا !!

د. يحيى:  الساعة تمانية وتلت يا منى

منى: معلش إتأخرت بس غصب عني.

د. يحيى:  أيوه يا محمد، احنا عايزين حاجة أحسن من الأول، بس أحسن يعنى شكل تاني.

محمد: هو ده اللي نفسي فيه.

د. يحيى:  وأنا نفسي فيه برضه، بس الفرق لما يكون الواحد نفسه في حاجة، يكون بيشتغل علشان يعملها، أنا وإنت بنشتغل ومعانا زمايلنا والحمد لله، ومحمود النهاردة معانا، والحمد لله معانا فهمي من الأول، ألا قول لى يا محمد هوّ أنا باحب مين فيهم من التلاتة.

محمد: فى مين؟ أنهو محمد قصدك؟

د. يحيى:  عليك نور هما 3، واحد صغنطوط لسه بيكبر واحنا بنعمله سوا سوا، و”طربقها الجدع” “ومحمد المحتج” اللي إتفركش وإتفركشنا معاه، أنا علاقتي مع مين من الـ3 دول؟

محمد: محمد الجدع.

د. يحيى:  اللي هو طربقها القديم؟ والباقيين لأه!!؟؟

محمد: تقريبا.

د. يحيى:  يا شيخ حرام عليك!! بعد كل ده؟ يعني بذمتك أنا ما باحترمتش الفركشة بتاعتك، ولاّ أنا ماباحبش إلا اللي بيتكون معانا ده ومش عايز يتجدعن  ويكبر وسطينا ومش لاقيين له اسم؟ حابقى دكتور إزاى لو على كده؟ حابقى زيك بالظبط، واعوز أرجع للقديم وسلامتك وتعيش، ويا ريت نقدر، أصل الأمور مش نظرية، أنا عاذرك وعاذر الدكاترة، بس احنا ما قُدَّمناش غير كده، أنا باحب مين فيهم؟

محمد: شوف إنت بتحب مين فيهم وابقى قل لي.

د. يحيى:  لا يا شيخ، أنا باسألك عشان تقولى شوف انت، أنا باسألك انت عن اللي وصلك؟ أنا يهمنى اللى وصل لك مش أنى أقول، برضه يهمنى اللي وصل لمحمود، اللي وصل لفهمي، بس اللي وصلك أنت أهم، أنا باحب مين فيهم يا محمود.

محمود: بتحب محمد الصغير؟

يحيى:  والتانيين أوديهم فين؟ هو ممكن محمد الصغير يكبر إلا من خلال الباقيين.

محمود: أنا عن نفسي باحب محمد الصغير.

د. يحيى:  أه، من حقك، كتر خيرك، الصغيّر اللي بيكبر ولا الصغير بس؟

محمود: لأ الصغير بس.

د. يحيى:  طيب ماشى، دا منتهى الصدق، بس يا ترى ينفع؟ وانت يا فتحى؟.

فهمي: ممكن محمد الصغير.

د. يحيى:  الصغير بس ولا محمد الصغير اللي بيكبر.

فهمي: محمد الصغير اللي بيكبر.

د. يحيى:  إنت عارف الفرق؟

فهمي: أه.

د. يحيى:  طب كمل بقى، كمل اللي كنت بتقوله ولا خلاص كده !!

فهمي: خلاص كده.

د. علياء: طب إنت يا محمد بتحب مين؟

محمد: واحد معين ولا كله.

د. علياء: التلاتة

د. يحيى:  هي بتسألك عن التلاتة اللى همّا أنت.

محمد: باحب محمد طربقها القديم.

د. يحيى:  يا عَلْياء: هو بيحب محمد طربقها القديم، ومصمم، وبالتالي عايزني أحب محمد طربقها، واسيب التانيين وهوا يرجع له ونخلص.

د. علياء: (لمحمد) هو مش إنكسر يبقى مش نافع.

محمود: سيبه على جنب بقى.

محمد: أتمنى أشوفه أحسن من كده.

د. علياء: ماهو ده اللي بنقول فيه.

إبراهيم: أنا لا باحب محمد طربقها القديم ولا محمد طربقها الجديد.

د. يحيى:  إمال بتحب مين يا إبراهيم؟

إبراهيم: أنا باحب محمد دلوقتي اللي هو بيكبر(11)

(11) إبراهيم – كما ذكرنا – شاب حول العشرين – متوسط الذكاء، متواضع المشاركة كان يبدو أنه غير منتبه ثم فوجئت بهذه المشاركة الإيجابية التى أكدت لى أن ما يصل إلى أى فرد من أفراد المجموعة لا ينبغى أن يقاس بمدى مشاركته الظاهرة ولا حتى بدرجة انتباهه الإيجابى كما ذكرنا، نحن نفاجأ كثيرا من خلال عمق المشاركة والمواكبة لحركية الوعى الجمعى، نفاجأ بتلقائيته وإبداعية بعض من كنا نحسبهم بعيدين، كما حدث مع إبراهيم فى هذا الموقف.

د. يحيى:  ماشي… تصور يا محمود الواد إبراهيم ده غاب ثلاثة أشهر، وجه مصحصح وراح طالع بالإسم اللي كنا بنـْدَوَّر عليه، اسم أحسن من محمد الصغير، أصله مش صغير، راح سماه محمد “دلوقتي” حلو قوي يا إبراهيم.

منى: (متداخله) أه.

د. علياء: إسم جميل جداً.

د. يحيى:  لأ “محمد دلوقتي” أظرف، محمد دلوقتي وبس، حلوة دى.

محمود: محمد هنا ودلوقتي.

د. يحيى:  لأ خلينا “محمد دلوقتي” كفاية.

إبراهيم: أنا عايزُه “دلوقتي”.

د. يحيى:  واحده واحده يا إبراهيم، دى هيا طلعت كده منك تمام التمام، الله يخليك، مش عارف طلعت إزاى، ولو هو محمد دلوقتى زى ما وصلتك يبقى أنا اطمن إن حد اعترف بيه، يقوم يكبر يكبر ما فيش فايدة، (ثم لمحمد)، إيه رأيك يا محمد في “محمد دلوقتي”.

محمد: أنا شايف إن هو لسه تعبان.

د. يحيى:  صح أهو هوَّا ده الشرف الحقيقي إن هوه، تعبان، طبعا حايبقى دلوقتي تعبان، أمال حايبقى عيل وخلاص.

د. علياء: ما هو التعب ضرورى يا محمد، بس تعب شكل تانى.

د. يحيى: يعني يا محمد دلوقتي مش برضه ده إسم ميّه ميّه، الاسم اللى اخترعه إبراهيم ده، طب ندور نشوف محمد المحتج اللى كان اسمه فركشنى، يبقى عندنا محمد طربقها ومحمد فركشنى ومحمد دلوقتي إيه رأيك دى بقت شغلانة.

د. علياء: طب ومحمد طربقها القديم؟

د. يحيى: ما هو موجود، ما انتيش شايفة صاحبه متمسك بيه إزاىّ، بس ظهر واحد أحسن منه، ولسه محمد فركشنى موجود برضه بس يمكن يستاهل يبقى له اسم تانى، مثلا يبقى محمد المحتج، أهو اسم جديد برضه.

………………

مروان: طب هو محمد دلوقتي عامل إيه؟

د.يحيى:  زى ما انت شايف! إيه رأيك يا محمد.

محمد: خليها محمد طربقها.                                                                  

د.يحيى:  تانى؟!!! انت مابتهمدشى

محمد: طب نخليه محمد دلوقتي.

د: يحيى:  هما التلاته دول نخليهم مع بعض ازاى؟ إزاى وهمّا تلاته نكلم مين فيهم؟

محمد: طيب محمد دلوقتي، بس لسه التعب موجود فيه.

د: يحيى: أه صحيح ده تعب طبعا، أنا محترم ده خالص المهم إنك قبلت الإسم ولو بالعافية، خلينا نمسك التعب بقى علشان ده حقك مش حانتفرج ونسمّي وخلاص يا ترى نعمل إيه فى التعب ده يابنى؟

…………

…………

محمد: نعالجه.

د. يحيى:  صح، ايه رأيِكْ يا منى،([8]) “محمد دلوقتي” تعبان.

منى: ماشي.

د. يحيى:  انتى شايفه تـَعـَبـُهْ.

منى: باين عليه.

……………

……………

د. يحيى:  نعمل إيه بقى في محمد دلوقتى وهوّه تعبان، وبعدين أنا خايف يا منى بعد ما يزيد التعب بتاع “محمد دلوقتي” يهرب ويستخبى فى “محمد طربقها”، والألعن يمكن يستسلم “لمحمد فركشنى”.

منى: نشوف التعب بتاعه إيه ونبتدي نعالجه.

د. يحيى:  كويس إنك قولتي تشوف إيه وماقولتيش ليه ، كتر خيرك.

منى: نعرفه إيه هو؟ ونكلمه(12)

(12) واضح أن أعضاء المجموعة أصبحوا جزءا فاعلا فى الوعى الجمعى: (الرحم الجماعى،) فهذه “منى” الأم ربة المنزل، تلتقط كيف أن هذا المولود الجديد المتخلق من جدل المحمدَيْن (أو أكثر) مازال غير قادر على مواجهة متطلبات الواقع حتى لو كان هذا الواقع هو هذا الوعى المحيط الدافىء النشط من البشر، ثم ها هى لا تبحث كما اعتدنا قبل أن تُعلمنا الجروب، لا تبحث عن “لماذا”، وإنما تتقدم مباشرة إلى ما ينبغى علينا عمله، فهى تلتقط تعب وحيرة من تخلّق بيننا بتعبه، ثم تبدأ بالاعتراف به “نعرفه إيه هوا”، ثم فحص تعبه، ثم “العلاج” (ونبتدى نعالجه) لكنها لا تملك بعد ذلك إلا أن توجه له الكلام “ونكلمه”.

وهنا يَخَشى المعالج أن تستدرج الجماعة إلى الحوار بالألفاظ.

د. يحيى: يعنى نعزم عليه بكلام؟ دا ينفع؟!! أنا خايف يـِتـْقـِلبْ الكلام نصيحة، بصراحه هوّا محمد لما أخد دوا واتعالج بيه، إتلم شويه والحمد لله، بس راح رايح ناحية طربقها، إنما “محمد دلوقتي” مالهوش معالم بايْنَهْ، لسه صغير.

محمود: هو عنده كام سنة يا دكتور؟

د. يحيى:  قلنا مرة عنده سنتين و مرة سنة، ومرة شهر ، يعني إحنا وشطارتنا.

محمود: طب ما هو حايبقى صعب الكلام معاه برضه لسه.

د. يحيى:  صح، بس هوّا تعبان!

محمود: أيوه لسه.

فهمي: بس اللي عنده شهر مش هيقدر ييجى الجروب يا دكتور.

د. يحيى:  بس أهو معانا أهه، طول ما همّا بييجوا، حايروح فين؟

منى: نحاول نخليه ينطق بالتعب اللي عنده.

د. يحيى: يا منى… محمود بينبهنا إنه صغير قوي على الكلام ، أول مايتكلم هنلاقي “طربقها” قعد يعيـّط، يا إما “فركشها” يروح باعت لنا المساعدين بتوعه يتنططوا، و”محمد دلوقتى” يتسوّح.

منى: يتسوّح ليه؟

د. يحيى:  عشان لسه صغير، وتعبان.

منى: طب ساعتها هنا ودلوقتى، نعمل إيه؟

د. يحيى:  ساعة إيه، احنا مستعجلين على ايه؟ (13)

(13) أولاً: أن المشاركين يعيشون فعلا عملية الحـَمـْل (فى رحم الوعى الجمعى) فالولادة مع أحد أفراد المجموعة، وهى قد أعلنت بهذا الوضوح فى حالة محمد، لكن لا مانع من احتمال أن هذا هو ما يجرى عند الكثيرين بدرجات متفاوتة، ودون تسمية صريحة هكذا.

ثانياً: أنه مادام الكيان الجديد حديث الولادة هكذا، يصبح الكلام أقل جدوى وخاصة إذا استدرجنا إلى المناقشات والنصائح والأسئلة والإقناع.

ثالثاً: أن التشكيل الجديد (عملية إبداع = نقد النص البشرى) يكاد يكون له حضور عيانى حتى يدون الحديث عن عمر المولود وقدرته على الكلام، وأيضا يجرى التساؤل كيف يحضر الجلسات  وهو فى هذه السن، لكن  يبدو أن حضوره حالة كونه يتشكل هو  يغنى عن كلامه مؤقتا،

 وأهم ما وصلنى هو أنه كيف أن هذه المجموعة البسيطة من واقع أوسط وأدنى ثقافتنا الشعبية المتواضعة استطاعت أن تلتقط كل هذا الجارى بهذه المسئولية والتلقائية، دون أى خلفية من ثقافة نفسية أو نَفْسِمْراضِيَّة، ودون تساؤلات معقلنة لحوح عن معنى ما يجرى.

ثم يتواصل التفاعل ويظهر حضور الوعى الثلاثى الأبعاد، وموقف المشاركين منه فى آن.

………..

………..

د. يحيى:  انتى شايفه مين فيهم يا منى

منى: أه ، أنا شايفه التعب.

د. يحيى:  تعب مين فيهم، ما هو “محمد دلوقتى” غير “محمد طربقها” غير “محمد فركشها”.

منى: أيوه.

د. يحيى:  أيوه إيه؟ انتى شايفاه بجد؟

منى: أه شايفاه.

د. يحيى:  بتحبيه؟

منى: باحبه.

د. يحيى:  بتحبي طربقها؟

منى: باحب التلاته

“محمد”: (متدخلا) أنا شايف برضه.. (يسكت) (14)

(14) مرة أخرى: هذه التلقائية من “منى” تؤكد ما ذهبنا إليه فى التعقيب السابق، وعلى الرغم من أن سؤال د. يحيى فى البداية كان سؤالا عن الرؤية، وليس عن رؤية مـَنْ، فقد جاءت إجاباتها البادئة أنها ترى فقط: (شايفاه) لكن حين واصل د. يحيى سؤالها لتحديد رؤيتها (وعواطفها) نحو كيان محدد، هى التى تبرعت تلقائيا بأنها “باحب الثلاثة”،  ثم نلاحظ مبادرة محمد أنه “يرَى هو أيضا، دون أن يحدد أنه يرى الثلاثة مثل رؤية منى أى  أنه يحب الثلاثة([9])، أو أنه يرى رأيا آخرا….، لكن يبدو أنه تراجع، وهذا متوقع ومقبول مع استمرار التفاعل.

د. يحيى:  (لمحمد) الله يفتح عليك… لما أنا سألتك أنا باحب مين فيهم، قصدى “فيكم”، كنت منتظر يوصل لك اللي قالته “منى ده”، “منى” ببساطة بعد خبرتها معانا الشهور دى، قالت كلمة بسيطة خالص، يا رب تكون وصلتك، يا محمد  قالت أنا باحب التلاته، ايه رأيك؟

محمد: وصلتنى.

د. يحيى:  دى حكاية صعبة بشكل!!، كتر خيرك يا منى يا بنتي ، أظن هو ده الحل يابني

محمد: إيه هو الحل؟

د. يحيى: إنه يوصل لك إن منى وغيرها يقدروا ولو بصعوبة شديدة يحبوا التلاته، لو وصلتك دى يبقى مايتفضلش غير الوقت.

محمد: بس أنا باحب واحد بس.

د. يحيى:  أنا مصدقك، إوعى تستعجل

منى: حنّضم الأثنين مع واحد يطلع واحد بس ده في الأخر.

د. يحيى: سامع يا محمد منى بتقول إيه، نضم الاتنين مع الواحد يطلع واحد بس ده في الأخر، يعنى مش دلوقتى، على فكرة الآخر ده ممكن يطلع بعد 500 سنة بس مادام ماشيين يبقى ماشيين. (15)

(15) هنا نرى التأكيد على عامل الوقت والتوقيت. الحمل العادى لا يمكن اختصاره إلى شهرين أو ثلاثة لمجرد حرص الأم على الإنجاب والفرحة بالمولود الجديد، لابد أن تكتمل شهور الحمل (أو سبعة على الأقل) حتى يأتى المولود قادرا على الحياة، كذلك الحمل فى هذا الرحم الوعى الجمعى، بعد التأكد من سلامته وإيجابية بدايته، لابد أن ننتظر واثقين من وضع مولود سليم ما دام قد أحيط الجنين بوعى (رحم) قادر على التغذية والدفء والإحاطة لمدة كافية.

تـَرَاجـُع محمد هنا لا يدل بالضرورة على نكسة بل قد يدل على صـِدْقـِهِ وأمانته مع نفسهُ حسب المرحلة، ولكن تعقيب هذه الأم الطيبة، (مُنَى) الأميّة، يكاد يكون مدرسة متكاملة، فبعد أن نبه د.يحيى محمد إلى أهمية الوقت بل أوصاه ألا يتعجل “إوعى تستعجل” جاء تعقيب منى شديد الدلالة “حانضم الاثنين مع واحد يطلع واحد بس ده فى الآخر” إذن هى تدعم قول المعالج “بس ما تستعجلش”، وهى واثقة من الوضع السليم ما دام الحمل سليما فهى تكاد تبدو مواكبة لجدل التشكيل بفطرتها النشطة.

أما تعبير د. يحيى عن احتمال طول الطريق إلى هذا المدى فهو ربما يشير إلى فكرة جوهرية وهى أن البداية الصحيحة والاتجاه السليم هما الضمان الأول وربما الأهم لاستمرار النمو، وهو حين يقول لمحمد ده ممكن يطلع ولو بعد 500 سنة، فهو قد يعنى أن الوقت ممتد فينا وبعدنا أبداً، علما بأننى قد فوجئت بهذا الرقم الآن (500 سنه!!) وأنا اكتب، ولم أتذكر أننى قلته من قبل أبدا، فهو يحتاج مزيدا من الشرح:

تساءلتُ الآن وأنا أكتب هذا التعليق كيف قلت هذه العبارة ولماذا، ولمن؟ لمحمد “الصنايعى” العامل المجتهد النقاش؟ أم لمنى الأم ربة المنزل؟ أم لمجموع الحضور ؟ أم لمن؟ ثم انتبهت أن أحدا من المجموعة لم يعلق على ما قلت ولا بالتساؤل، لكننى اكتشفت من خلال ذلك أن ما وصلنى خلال ثلث قرن (آنذاك) من هذا العلاج خاصة، وهو مدعوم بما وصلنى – خصوصا مؤاخرا– عن ماهية الزمن، وطبيعته، وعلاقته بالتطور وعن تناهى صغر وحدات التغير (والإبداع) سواء فى تطور النوع أو إعادة التشكيل للوعى البشرى، ومن كل ذلك معا تعلمت، وحاولت أن أوصّل ما تعلمته حتى بغير قصد، أن المهم هو تحقيق أى درجة من تحوّل الوجهة نحو الهدف النهائى عبر الوعى الجمعى فى الوعى الكونى إلى الوعى المطلق، إلى وجه الله، وهنا تصبح الفرحة واليقين بسلامة المسيرة غير مرتبطة بكم التغيير أو تحديد معالمه أو اختفاء الأعراض بقدر ما هى مرتبطة بذرّات التحول وتوجه الأجزاء والثوانى اللازمة لاستمرار التشكيل، ومع اليقين بهذه الحقائق التى جعلت هذا الوعى الشعبى – الذى تمثله “منى”- بكل روعة الجهل المعرفى!! يتجاوب بهذه التلقائية لتصلنا رسائل الحياة بما لا يسمح بأى قنوط أو توقف، أو يحتاج لأى  إحصاء أو حسابات أو عدّ سنين من التى نعرفها.

ثم يعود د. يحيى يوجه الحديث إلى إبراهيم الذى ابتدع اسم “محمد دلوقت” فأعلن بذلك حضوره وشوفانه بما يستحق تسميته.

د.يحيى: (موجهاً كلامه لإبراهيم):  يا إبراهيم كتر خيرك، إبراهيم غاب 3أشهر ومعانا تمام التمام، يارب تبقى معانا كمان وكمان وتحس إحنا بنعمل إيه، كتر خيرك

مروان: أنا كنت حاسس باللى جارى

د.يحيى: كتر خيرك ربنا يخليك

محمد:خلاص لو كده، يبقى أشوف واحد محمد أحسن منى (16)

(16) تَدَخُّل محمد بعد أن رأى أن أغلبنا يرى الثلاث مستويات من وعيه، ربما وصله أن هذا يحمل شجبا للأصل وبالذات لمحمد طربقها، فى حين أنه مازال يصر أن شِفَاءَه يعنى العودة إليه، فكأنه يرضخ بغير اقتناع ويريد أن يستبدل نفسه بمن هو أحسن (تراجعا أو سخرية لست متأكدا)! أو إدراكا غامضا لنقل النقلة وطول المدة المحتملة.

د.يحيى: ما إحنا عندنا الثلاثه يا محمد حانجيب كمان واحد أحسن منين

منى: حانجيب الرابع ليه؟

د.يحيى: أهى قالت لك “منى” أهه

فتحى: وممكن نعمل واحد من الثلاثه محمد يكون أحسن

د.يحيى: لأه لأه احنا ما بنفاصلشى، منى قالت حاجات تانيه كويسة، ياريت يوصلّك يا محمد إن ممكن منى وغير منى يحبوا الثلاثه، حاتفرق جامد

محمد: خلاص أحب الثلاثة

د.يحيى: لأه، الأول توصل لك، ماحدش بيطلب منك إنك إنت تغير رأيك، هيا مش حكاية آراء، الأول يوصل لك شعور الناس ورؤيتهم وانت حر

منى: اللى إنت حاسّهْ (17)

(17) يلاحظ هنا مرة أخرى أن المسألة ليست إقناعا عقليا ولا هى إقرار بأغلبية الأصوات، لكنها حركية إدراكية متنوعة، وأن الرؤية من الآخرين – بما فى ذلك ما يسمى الحب – هى البدء، وهى التى قد تحفز محمد عبد الله، (مع كل المحمدين)، على أن يشارك الآخرين نفس الرؤية .

محمد: يعنى أنسى محمد طربقها القديم ده خالص؟!

د.يحيى: لأه طبعا، ما هى منى بتحب التلاته، تنساه ازاى بقى واحنا عمالين نحبه زى ما انت شايف، طبعا ماتنساهوش، بالعكس ده شرف تاريخك، حاتنساه إزاى بس، هوّا بس كان ناقصه حاجه، بنحاول سوا سوا نكملها، والحاجة اللى ناقصة دى هى السبب فى إن المسائل اتفكت منَّك، راح صاحبك جه يرفض راح مفركشها.

إبراهيم: محمد اللى كان أولانى مش وحش خالص، مش كله وحش، لازم تأخذ الحاجات الأولانيه.

محمد: بس يتغير

إبراهيم: تأخذ الحاجات الحلوه وتسيب الوحشة

محمد: هوّا أنا حاتغير عن الأول كتير؟

د. يحيى: طبعا، حتى يجوز تبقى أقل كفاءة فى الشغل، إنت كنت جاى على نفسك وبتطبق الصبح وبالليل، والبنى آدم ليه طاقه يابنى، كل الناس كانت بتحترمك علشان شاطر فى الشغل إنما فين محمد؟ أنا عاوزك تعرف إن منى بتحب الثلاثة، وأنا شايف إن ده هوّا الحل، ومش بطلب منك إنك تحب الثلاثه ولا حاجه، كل اللى أنا طالبه منك إن يوصلك اللى جارى ده، وتصدق وتستحمل التعب اللى عندك، بس ده تعب شكل تانى(18)

(18) المقصود هنا تعب “المأزق”، وهو ما يقابل مخاض الولادة من رحم الوعى الجمعى، وهو تعب شكل تانى لأن تعب “محمد طربقها” كان تعب الاغتراب والوحدة، أما التعب المشار إليه هنا، فهو تعب “محمد دلوقتى”، فهو تعب الدهشة والخوف من المجهول وآلام مأزق التغير وإلحاح لزوم العلاقة بالآخر.

هذا علما بأن العامل العلاجى الذى يساعد فى تخليق رحم (وعى) المجموعة ومن ثم فى تشكيل الكيان المتخلق من جدل حركية التناقض هو قبول النقيضين، حتى لو بدأ التفاعل برفض النقيضين – كما أشرنا – كمرحلة مؤقته، لكن تظل وظيفة الرحم (الوعى الجماعى) هى قبول النقيضين باعتبار ذلك من المكونات الأساسية فى حركية الجدل التى قد تبدأ برفض النقيضين حين كانا منفصلين متصادمين، النقيض وكل التناقضات هى فى حركية جدلية دائبة.

*****

[1] – الدكتور هشام هو الطبيب المقيم الذى كتب وقدْم ورقة المشاهدة لمحمد طربقها فى المرور التعليمى الذى عرضنا بعدها المقابلة الأولى فى نشرة 26-10- 2015 www.rakhawy.net وهو أحد أطباء القسم الداخلى المسئول عن محمد فى القسم، وهو ليس عضواً فى هذه المجموعة أصلا، لكن محمد يذكره كأنه معنا داخل المجموعة.

[2] – كما قال  “بيرلز”

[3] – لاحظ أن د. يحيى يستعمل نفس نطق محمد فى المقابلة للفظ مليار أنه مريار

[4] – مريض آخر من أفراد الجروب

[5] – المقتطفات هى عينة حرفية – تقريبا-  مع ما لزم من بضع حذف أو إضافة (بين أقواس) حتى يتواصل المعنى، لأن نقل أى جلسة كاملة يحتاج إلى عشرات الصفحات، وقد لا يوصل الرسالة العلمية أو التعليمية بشكل كافٍ هادف.

[6] – Psychopathology

[7] – منى سيدة، بلدى، محجبة، فى العقد الثالث أم لثلاثة، غير متعلمة، عضوة قديمة فى المجموعة، وقد مرت بتجربة إيجابية حين تخلصت من جانّ كانت تقول إنه لبسها، تخلصت منه من خلال التفاعلات والسيكودراما ضمن العلاج الجمعى، ثم صاحَبتْه ثم طردته واستغنت عنه، وكانت قد حضرت محاولات تخليق محمد (الجديد) منذ البداية.

[8]– (مرة أخرى) منى سيدة، بلدى محجبة، فى العقد الثالث أم لثلاثة، غير متعلمة، عضوة قديمة فى المجموعة، وقد مرت بتجربة إيجابية حين تخلصت من جانّ كانت تقول إنه لبسها، تخصلت منه من خلال التفاعلات والسيكودراما ضمن العلاج الجمعى، ثم صاحَبتْه ثم طردته واستغنت عنه، وكانت قد حضرت محاولات تخليق محمد (الجديد) منذ البداية.

[9] – وهذه مرحلة رائعة فى النمو نستبعد وصول محمد إليها فى هذه المرحلة: أعنى “أن يرى الفرد تعدده ويحب جميعه – فى واحد- دون أن يتفكك!!”

الفصل الثالث مرور (مقابلة) محمد بتاريخ 21/8/2008

الفصل الثالث مرور (مقابلة) محمد بتاريخ 21/8/2008

الفصل الثالث

 مرور (مقابلة) محمد

 بتاريخ 21/8/2008

حضر محمد الاسبوع التالى مباشرة يوم الخميس حسب الموعد الذى اتفق عليه مع د.يحيى الساعة 7 صباحا تماما! فى حين حضر د. يحيى متأخرا عشر دقائق، وبعد صباح الخير فاجأ د.يحيى محمد بسؤال غير متوقع:

د.يحيى: إنت أخر مرة رحت جنينة الحيوانات إمتى؟

محمد: من زمان اوى، ليه السؤال ده؟

د.يحيى: أصل علاقتى بجنينة الحيوانات وبالحيوانات عموما علاقة خاصة شويتين

محمد: ليه؟

د.يحيى: مش برضه همّا الأصل

محمد: مش عارف

د.يحيى: وانت جاى النهارده تعّوض الخميس اللى فات، أنا المرة دى بقى حاسيبك تقول براحتك. (1)

(1) قد يتعجب المتابع أن يبدأ اللقاء من جانب الطبيب بهذا الحوار غير المألوف، وطبعا لم يكن فى ذهنى شىء محدد، لكن يبدو أننى أردت هذه المرة بطريق غير مباشر، أن أكون البادئ بموضوع مختلف لم يخطر على ذهن محمد أصلا، وهذا فى ذاته قد يدل على أن العلاقة تأخذ شكلا آخر غير الشكل التقليدى بين الطبيب والمريض (بتشتكى من إيه؟ إزيك دلوقتى؟…إلخ) وهى بذلك قد تخفف من تركيزه على محتوى معين، كما قد تقطع عليه ما جاء محمّلا به من المرة السابقة فنلاحظ ما فى هذا الحوار من دلالة على نوع العلاقة الجديدة غير التقليدية بين المريض والطبيب.

وحين أشار الدكتور إلى هاجسه الشخصى عن التطور تلميحا لم يرفض المريض، ولم يستجب، وقد اعتدتُ أن أحضر مع هؤلاء المرضى بكل “ما هو أنا”، بما فى ذلك ما يشغلنى، وعادة ما يستجيبون لهذا الحضور بتقبل وطيبة، ولا يتمادون فى الاسئلة عن ما ألمحت، وكنت فى البداية أتعجب لموقفهم هذا مقارنة بجاهزية الناس العاديين للمناقشة والاستفسار اللحوح والاعتراض، مثلا على شرعية فكرة التطور، لكنى رويدا رويدا ومع تزايد قراءاتى فى طبيعة التواصل بالوعى، عرفت بعض معالم مثل هذا الحوار التحتى خاصة مع الذهانيين.

محمد: أنا جيت وخلاص،

د. يحيى: قول أى حاجه النهاردة، المرة دى غير الاسبوع اللى فات خد راحتك زى ما انا خدت راحتى وقلت لك اللى خطر فى باللى من غير ما أفسر ليه وعشان إيه(2)

(2) قد يبدو غريبا – على المريض خاصة – أن يحول الطبيب فى المقابلة السابقة بينه وبين أن يذكر ما بداخله، فى حين تبدأ هذه المقابلة بهذه الدعوة وهذا السماح، وهذا يشير إلى أنه لا يوجد أسلوب واحد للتعامل مع المرضى طول الوقت، وأن تغير الطريقة، وتنّوع التناول قد يغيران الاسلوب التقليدى، كما يشير إلى أن النهى عن “أطلّع اللى جوايا” ليس قاعدة مطلقة ينبغى اتباعها، ونلاحظ أن ما تم الأسبوع الماضى لم يفسد العلاقة بل ربما العكس، فضلا عن أن هذا التنوع يجعل الطبيب ممسكا بقيادة الحوار إلى ما يحقق لهما المهمة من اللقاء.

محمد: يعنى أنا أقول اللى خطر لى ولا تزعلشى

د. يحيى: أزعل إزاى، أنا باعمل اللى علىّ واللى يخطر على بالى للصالح، انت النهاردة جئ محمد مين فيهم؟

محمد: محمد نفسيه

د.يحيى: يا خبر اسود، ايه الاسم الجديد ده؟ نفسيه؟!!

محمد: آه والله

د.يحيى: ياباى!! كنت متوقع حاجه كويسه

محمد: هو اسم وحش؟ مش فيه يافطه متعلقه بره عليها “قسم الأمراض النفسية؟

د.يحيى: آه

محمد: قسم الأمراض النفسية، أنا بقى حاكتب تحتها “مع تحيات محمد نفسية”(3)

(3) أرجو ألا ننسى أن هذا المريض يوصف (أو يسمى) بأنه فصامى، وبالتالى أنه لا يُحسن عمل علاقة مع الآخرين، وأنه متبلد عادة…إلخ، لكننا نلاحظ هنا مبادأة محمد، ورفع الكلفة، واختراعه لاسم جديد لم يُطرح أصلا من  قبل لا فى المقابلات المنفردة (الثنائية) ولا فى جلسات العلاج الجمعى، وهذا قد يشير أولا إلى نوع العلاقة التى تنمو بينه وبين الطبيب، كما يشير إلى حركية تشكيله للموقف انطلاقا مما يخطر له دون توقف عند ما وصله من اقتراحات تسميات جديدة أخرى له.

د.يحيى: لأه لأه

محمد: آه والله، آه بجد والله، مع تحيات محمد نفسية

د.يحيى: نفسية إيه يا جدع انت؟ “محمد دلوقتى” أجدع، انت فاكر مين اللى اخترع الاسم الجميل ده “محمد دلوقتى”

محمد: محمد دلوقتى؟ ولا كمان شوية؟!(4)

(4) هذه سخرية مصرية طريفة، وقفشة دالة، فليس معنى ترحيبى بهذا الاسم (محمد دلوقتى) الدال على ما يتخلق فى المجموعة، وفرحتى به، وبرغم قبول سائر أفراد المجموعة له والتعامل معه وتوجيه الكلام إلى المحمدات الثلاثة فى المجموعة كما أشرنا فى النشرات السابقة وأظهرنا أن هذا الترحيب إنما يرجع الفضل فيه إلى تعود إلتزامنا بقاعدة “انا انت – هنا ودلوقتى” ومتابعة جدواها تحريكا للوعى البينشخصى ثم الجمعى، برغم كل ذلك، إلا أنه يظل اسما غريبا بالنسبة للتعامل العادى، وسخرية محمد بقوله “محمد دلوقتى ولاّ كمان شوية” ليست بالضرورة دلالة على رفضه لهذا الاسم ذى الدلالة الخاصة، لكنها قد تحمل إشارة إلى غرابته، وايضا – ربما – إلى أن “دلوقتى” (= هنا والآن) لا تعنى تثبيت الزمان، وإنما انطلاقا من اللحظة الراهنة، وهذا ما وصلنى الآن من سخرية خفيفة الظل: “محمد دلوقتى ولاّ كمان شوية”، وكأننا دخلنا “قافية مصرية”.

د.يحيى: الاّ قول لى: مين اللى إخترع اسم محمد دلوقتى، أنا مش فاكر

د.كريم:([1])  إبراهيم

محمد: أبو نظارة لأ؟ مش إبراهيم ، انت متأكد؟

د.كريم: هوّا إبراهيم، أبو نضارة

محمد: أبو نظارة ده ياسر، بيتهألى، بصراحة مش فاكر

د.يحيى: أظن إنه فعلا ابراهيم، طلع ولد جدع تمام، أيوه هوّا أبو نظارة، اللى كان ياعينى نظرة ضعيف، وكنت باحسب إنه مش معانا قوى

محمد: أيوه أيوه أيوه افتكرت

هشام العربى: (تدخل المساعد الذى يقوم بتصوير المقابلة فيديو)([2]) أيوه إبراهيم

د.يحيى: بصراحة برافو عليه، شكراً، إنما محمد نفسية دى كلمة أزعجتنى يا أبو حميد، مش عارف ليه

محمد: ليه؟

د.يحيى: بصراحة كلمة نفسية أنا بكرهها، عارف لما بييجوا يسألونى فى التلفزيون والكلام ده وإيه رأيك فى الحاله النفسيه بتاعه الشعب المصرى بابقى عاوز أرفض الإجابة وباشخط فيهم

محمد: ليه؟

د.يحيى: باشعر إنه سؤال تافه، أنا باصححه على طول واقول للمذيعة هيا حاتفرق ايه لما تسألينى أيه رأيك فى الحالة بتاعة الشعب المصرى من غير كلمة “نفسية”، إيش دخل النفسية فى الحاله بتاعة الشعب المصرى؟ الحالة بتاعة الشعب المصرى، هى الحاله بتاعة الشعب المصرى، وخلاص.

محمد: ما هو لازم الشعب له حالة نفسية.

د.يحيى: هوا أنا قلت لأ، بس أنا ما باحبش اوصف الشعب كله على بعضه بتصنيفات متخصصة فى النفسية، تمام زى ما باحبش أحط التشخيص قدامى الأول عشان أتعرف على عيانينى، انت اسمك محمد، مش اسمك نفسية الاسم البايخ اللى طلعته على نفسك ده.

محمد: طيب ايه الحالة بتاعة الناس دلوقتى؟

د.يحيى: انت حاتعمل معايا مذيع، الحالة زى ما انت شايف (يشير إلى الأطباء الذين دخلوا واحدا إثر الآخر)

محمد: شايف إيه؟

د.يحيى شايفهم بيحاولوا،

محمد: بيحاولوا فى إيه بقى، فهّمنْى

د.يحيى: بيحاولوا إن الحكايه ماتبقاش “نفسية”، تبقى “دلوقتى”

محمد: لكن هى نفسية

د.يحيى: لأه هيّا، “دلوقتى”، “النفسية” دى كتير بتبقى شماعه نعلق عليها خيبتنا، إنما “محمد دلوقتى” حاجة ثانية، يعنى إنت المرة اللى فاتت حاولت تتكلم باللى جواك وكلام من ده، فى الغالب كنت حاتقلبها نفسيه! ويمكن عشان كده أنا رفضت؟

محمد:  كنت كل لما باجى أتكلم الاقيك “واخدنى وش” ([3]) كده على طول

د.يحيى: أصل أنا حسيت، حتى قبل ما تألف اسم محمد نفسية ده، إنك ناوى تعيد وتزيد فى اللى جرى واللى كان، واللى تاعبك، ومش قادر، وكلام من ده، قلت نواجه مسئوليتنا “دلوقتى” الأول، وبعدين نشوف، وأديك شفت أهه

محمد: أيوه شفت، المرة دى غير المرة اللى فاتت

د.يحيى: الحمد لله

محمد: يستاهل الحمد (5)

(5) هذا يظهر أن ثمة فائدة وتواصل تم فى المقابلات السابقة برغم الحيلولة بينه وبين رواية الحكى الذى جاء من أجل أن يحكبه، كما أنه يظهر أيضا، ما أشرنا إليه فى بداية التعليق اليوم، من أنه لا توجد قاعدة دائمة، وأن تغير طبيعة الحوار تتغير حسب الموقف، وهذا مما يوثق العلاقة، ويحرك مستويات الوعى البينشخصى باستمرار.

د.يحيى: أديك استحملتنى على قد ما قدرت وآدى النتيجه أهه، أديك جيت فى المعاد، وأنا خصصت الوقت اللازم لك، وانتَ جاى منوّر النهارده

محمد: مش قوى، ما خلاص بقى

د.يحيى: ما خلاصشى، لازم يكون واصل لك إن ده خير، أديك شايف النتيجه إنك جاى النهارده وانت ميه ميه بعد ما عرفت إن الزَّن اللى جواك مالوش لازمة.

محمد: تانى؟!!

د.يحيى: النهاردة أنا سبقتك فى الكلام، وانت جاى وعارف إن إحنا مستنيينك فى الميعاد حتى مع إنى إتأخرت النهاردة عشر دقائق، ماينفعش والله، انا خجلان على الدقايق دول، آنا آسف (6)

(6) نلاحظ هنا محاولة استيعاب الرسائل الحوارية على مستويات الوعى المختلفة وربط ما حدث بالمقابلة السابقة بالمقابلة الحالية وبينهما أسبوع، كما يلاحظ اعتذار الطبيب الجاد عن حضوره متأخرا لهذه الدقائق بالمقارنة بالتزام محمد بالحضور فى الموعد بالضبط، وهذا أيضا يعمق الاحترام الواجب للمريض ووقته، وبرغم أنه غير مألوف فى ثقافتنا إلا أن الملاحظ أنه يبلغ المرضى رسالة علاقة متكافئة بشكل ما.

د. يحيى: شوف بقى ياسيدى إنت المرة اللى فاتت إنت قلت لى وانت خارج تلميحه كده وسط الكلام([4]) قلت: “ماعنتش قادر أتجنن” و”ياريت أرجع محمد طربقها”.

محمد: آه

د.يحيى: وأنا ولا موافق على ده ولا موافق على ده، زى ما انت عارف

محمد: كله بيقول لى كلام زى كده، حتى صحابى

د.يحيى: يبقوا بيحبوك،

محمد: لأه، بس طربقها بتاع زمان ده كان حكايه

د.يحيى: يا محمد ارحم نفسك، حكايه ايه وزفت إيه!!

محمد: والله باكلمك جد، على الأقل حتى كان فيه ثقه بالنفس، حتى ده أقل حاجه، يعنى باكلمك بجد والله

د.يحيى: كتك خيبة، أنا مش حاكرر اللى قلناه قبل كده، دا كان سُخرة وإنهاك.

محمد: بس لا كان فيه هلوسات ولا تهيوئات، ولا جنان، ولا دروشه، ولا بتاع، ولا كلام من ده (7)

(7) مرة أخرى نشير إلى مما يثبت ضمنا أن الجنون اختيار، هو أنه بعد إضاءة الأنوار عليه هكذا يبدو أنه لم يعد ممكنا، ومع صعوبة استعجال نمو “محمد دلوقتى” تعود فكرة الرجوع إلى محمد طربقها بهذه القوة والإلحاح ولعل هذا يدل على إصراره، أو على الأقل رغبته الشديدة أن يكون الحل، أو الشفاء من وجهه نظره، هو أن يعود “كما كنت!!” ثم إنه ربط ذلك بإيجابية بأنه حين كان محمد طربقها لم يكن مجنونا (لا كان هلوسات ولا تهيوئات ولا جنان”) وفى هذا أيضا عنده حق، إذ أنه لو كان الاختيار بين محمد طربقها بكل ما يعانى من ظلم وإنهاك واستعمال وتهميش وبين هذا الجنون اللى وصفه هكذا، فلابد أن ترجح كفة “محمد طربقها”، ويتأكد رجحان هذه الكفة حين يبدو أن ما يتخلق منهما “محمد دلوقتى” مازال يعيد المنال.

د.يحيى: واحدة واحدة

محمد: “محمد طربقها” كان عادى كان طبيعى

د.يحيى: يامحمد صلى عالنبى!

محمد: كان مفيش أى مشاكل ولا أى حاجه

د.يحيى: لا يا شيخ!!؟ واحدة واحدة علشان نعرف ازاى نشكر ربنا، وعلى إيه دلوقتى لا إنت قادر تبقى محمد طربقها مع إن الود ودك ترجع فورا.

محمد: آه

د.يحيى: ولا انت عارف تتجنن تانى مع إنك نفسك تلاقى سكة للهرب، أنا معاك إن “طربقها” كان جدع جدع، إنما إتذل وإتبهدل وانُهك لحد ما وقع، ما اعْرِفْشِى يستريَّح إلا لما فركشها، وكان حايروح فى ستين داهيه.

محمد: هوّا ما فركشهاش

د.يحيى: أهى اتفركشت منه وهو مسئول عن ده

محمد: هوّا إنكسر

د.يحيى: هوّا جه يستريح، فلتت منه، جاب عاليها واطيها، راح مفركشها وقعد يخرّف، وضحكوا عليه، إنت عاوز نكرر الموال ده زى ما هوّه؟ ينفع برضه؟ إنت ترضى؟

د. يحيى: (بعد أن يبتسم محمد ابتسامة تتسع حتى تبدو ضحكة فيها رضا وألم معا) أنا مش عارف بتضحك ليه؟

محمد: أنا مش باضحك، أنا مزنوق

د. يحيى: أنا معاك، الزنقة أجدع علامة، مادام الحكاية كده يبقى قدامنا إيه غير “ربنا”، و”هنا ودلوقتى” (8)

(8)  أحذر عادة من استعمال مثل هذه اللغة التى تبدو دينية ونحن نتكلم عن الله كعامل علاجى إيجابى فاعل، ذلك لأننى أخشى بحذر شديد (طول الوقت تقريبا) من استعمالها: أن يصل للمتدربين غير ما أقصد حسب الإطار المعرفى والدينى لكل منهم وفى عموم ثقافتنا، فتنقلب المسألة إلى التواكل والتسليم للمجهول وأنا أقصد العكس تماما، أما المرضى، وخاصة الذهانيين منهم، فهم يستقبلون ذلك استقبالا أعمق وأطيب، فأُرجِعُ ذلك إلى حضور وعيهم الأعمق برغم التناثر الذى هُمْ فيه، وبقدر الاجتهاد فى الربط بين الوعى العلاجى البينشخصى والجمعى، وبرغم محاولة وصل هذا الوعى إلى الوعى المطلق إلى الوعى الكونى إلى وجه الله أشعر بتقدم مسيرة العلاج، وأنا أعتقد (أو أشعر) أن كل ذلك يحدث بلا تفكير وبلا ألفاظ عند كل الناس، لكن بمجرد أن يوصف بالألفاظ أستشعر الحرج برغم أنى لا أجد سبيلا آخر، وأنه يصل المرضى أبسط وأعمق أيضا: فى نفس الوقت.

محمد: قدامنا إن إحنا نصبر

د.يحيى: لما ربنا سبحانه وتعالى إدالنا الفرصه ديه يا محمد لما بقينا سوا سوا، ينفع نقفل السكة الجديدة اللى فتحها لنا دى؟ ما دام مش عارفين نرجع لزِمَاَن، ولا قادرين نتجنن.

محمد: نعمل إيه؟                                            

د. يحيى: نستحمل سوا سوا، لوحدك مش نافعه، إنما سوا سوا ربنا يسهل، وأنا برضه يامحمد بينى وبينك بس ماتقولش لحد، لوحدى مش نافعه آه والله (9)، بس مش عارف إزاى أنا نسيتك وجيت متأخر النهاردة، وانت مانسيتش، وجيت فى معادك بالثانية.

محمد: أنا مانسيتش إيه

د.يحيى: ما نسيتشى المعاد بالثانية طلعت أجدع، وده شرف كبير جداً عندى.

(9) المفروض ألا يتكلم الطبيب عن نفسه هكذا، هنا تكلَّم عن وحدته مثلا، لكن يبدو فى هذا السياق، سياق “سوا سوا” يمكن أن يبلغ من خلال هذه الإشارة إلى أن المحاولة لكسر الوحدة، تجرى من الجانبين فى أمان الوعى البينشخصى ورحاب الوعى الجمعى،  لكن لابد من ألا يتمادى الطبيب أكثر من ذلك، فضبط الجرعة هو الذى يسمح بمثل هذه الإشارات الشخصية، وفى نفس الوقت علينا أن نتذكر أن “نقد النص البشرى” يشمل نصّ المريض ونصّ الطبيب معا، وأن سوَا سوَا لا تقتصر على العلاقة الثنائية وإنما يدخل فيها أعضاء الجروب الحاضرين والغائبين وربما الحضور من المتدربين، اعتمادا على إيجابية الوعى الجمعى بلا استئذان.

………..

………..

محمد: (يكمل) أنا جوايا كده مش طبيعى

د.يحيى: وإيه يعنى! هو احنا عارفين يعنى ايه الطبيعى عشان نعرف يعنى إيه المش طبيعى، يا راجل آدى احنا بندوّر أهه سوا سوا (10)

(10) نلاحظ الإشارة إلى صعوبة تحديد الحد الفاصل بين السواء والمرض (هوّ إيه الطبيعى وإيه اللى مش طبيعى) ولعل فى هذا دعوة ضمنية-للمريض وعموما- لقبول الواقع الداخلى، خاصة بعد أن أطلَقَت المقابلات والعلاج الجمعى عليه الأنوار ليصبح جزءًا لا يتجزأ من وجود المريض، وأن المطلوب هو تسهيل التواصل والجدل بين مكوِّناته فيصبح التنبيه الضمنى إلى الحد من مثل هذه التفرقة المباعِدَة الحاسمة بين الطبيعى وغير الطبيعى هو جزء من محاولة التبصير بقبول “كل الموجود”، حتى يعاد التوليف فالتخليق، وكانت “استجابة” محمد توحى بالطمأنيئنة حتى لهذا الموقف المحيِّر للشخص العادى.

محمد: المهم إنك تسيبنى قاعد كده قدامك

د.يحيى: إيه؟ يعنى إيه؟

محمد: يعنى ماتقولّيش إمشي، خلينى قاعد كده، أنا باكلمك بجد، والله أنا عاوز أقعد مش عاوز امشى.(11)

(11) نلاحظ أنه لم يجر حوار من المعتاد أن يسمى علاج نفسى، برغم كل ذلك فقد بدا أنه تم لقاء مفيد، مما يجعلنا نستنتج أنه قد تم من خلاله – دون تحديد- توصيل معنىً ما، وليس بالضرورة رسالة ترييح!، أو نصيحة توجيه ، كما نلاحظ اختلاف هذه المقابلة وتواصل الحوار دون الرجوع إلى إلحاح المقابلة السابقة لذكر أمرِ بذاته، وقد عبر عن ذلك محمد ببساطة برغبته فى إطالة اللقاء دون تحديد سبب لذلك، فنتذكر أنه جالس أمام الأطباء المتدربين والمقيمين دون أن يعمل حسابهم، ولا الطبيب بدا فى حواره مع المريض أنه يضعهم فى اعتباره بشكل معطِّل، اللهم إلا بتعبيره “أهم بيحاولوا”، وقد يعرج الطبيب أثناء الحوار إلى حضورهم ويكلم أحدهم أو يشير إليه، ثم يستطرد كما فى المقطع التالى:

د.يحيى: (لمحمد) ماتخافشى، بس والنبى تتوسط لى عند الدكتور عدلى([5]) علشان أخش الجنه علشان انا كل لما باشوفه واشوف بصِّتُه، باقول يا رب استر

محمد: (إلى الدكتور عدلى) والنبى خلى بالك من الدكتور يحيى

د.يحيى: متشكرين

محمد: طيب، وأنا أعمل إيه

د. يحيى: ما انت معانا هنا وهنا

محمد: هنا وهنا فين؟

د. يحيى: مش مهم، قول  يا رب ….  لسه عاوز تقعد؟

محمد: آه عاوز اقعد

د.يحيى: ….، أدينا قاعدين

محمد: هاجيلك الجمعة الجاية، انت مابتجيش الخميس فى رمضان مش كده، حاجيلك الإثنين

د.يحيى: لا يا عم أنا ماباجيش الاثنين، خلينا الأربع بعد الجروب.

محمد: ماشى، بعد الجروب

د.يحيى: أنا حاقول لك على مواعيد رمضان، أنا فى رمضان مابغيرش مواعيدى ابداً إلا مضطر، أنا رأيى اللى يغير مواعيده فى رمضان صيامه مش ولابد، ربنا مش عامل رمضان علشان ننام طول النهار، دا هروب مش تحمّل

محمد: مواعيدنا فى رمضان يوم الأربع مش كده

د.يحيى: ما هو أنا حاقولك اهوه، أيوه ميعادنا الأربع، بس بنبتدى الجروب الساعه ثمانية ونص مش سبعة ونص، يبقى تخلى معادنا عشرة وربع ولا عشرة ونص.

محمد: ماشى (12)

(12) نلاحظ أنه لم يمض بعد طلبه أن تطول الجلسة سوى دقائق محدود (وربما دقيقة واحدة) ويمكن الانتباه لمعنى  وقيمة الوقت فى مثل هذه الحالات وهذه اللقاءات، لأنه ظهر من هذا التصرف أن مجرد إعلان رغبته فى البقاء، والاستجابة لها بالسماح الحقيقى قد أوصلت “رسالة القبول” فتعمقت العلاقة، فاطمأن أكثر قبل انهاء المقابلة مما دعاه أن يعلن أنه ربما يكتفى بهذه الدقائق، ثم  يطلب المغادرة فور اطمئنانه لذلك([6])

بصراحة: أنا محتار فى تصنيبف هذه اللقاءات تحديدًا، هل هذا هو ما يسمى العلاج النفسى، أم أنه متابعة تأهيلية، أم أنه كما وصلتُ أخيرا ما يستحق الوصف الجديد عينات كافية “لمشاركة حركية وعى بينشخصى فى تشكيل مستوى وعى جديد عند الطرفين”؟ فهو “نقد النص البشرى”([7])

لعل اشارتى فى هذه المقابلة عن علاقتى بالحيوانات والتطور، ثم إعلان حساسيتى من استعمال صفة “النفسية” للتبرير والتفسير، ثم كلامى عن وحدتى المقابلة لوحدته وكسرها، ثم دعوتى الضمنية لقبول بعضنا بعضا فى رحاب عدل الله، لعل فى كل ذلك ما يشير إلى أن وعى الطبيب مهنيا لا ينفصل عن وعيه ذاتيا طالما يخدم نقد النص البشرى على الناحيتين.

د.يحيى: انت بتقول إيه يا جدع انت، ماشى إزاى وعشرة ونص إزاى، انت شغلك الساعة كام؟

محمد: أنا مش شغال

د.يحيى: يا نهار مهبب، ايه اللى بتقوله ده، امال ايه اللى جابك؟ إمشى يالَهْ روّح

محمد: لأه والله باكلمك بجد، أنا ماليش نفس لأى حاجه، نفسيتى كده مش قابله اى حاجه

د.يحيى: اقسم بالله ما أشوفك تانى

محمد: ولا حتى ليّا نفس آكل ولا أشرب

د.يحيى:  حاترجع تقول لى نفسيتى ومش نفسيتى، عرفت أنا رفضت “محمد نفسية” ليه، أقسم بالله العظيم ما أشوفك تانى

محمد: عاوز أشتغل بس فيه حاجه ما نعانى، نفسيتى مش قابله أى حاجة

د.يحيى: باقول لك إيه: شفت إمتى بتطلع كلمة “نفسيتى”!! لما تحب تبرر أنك تنام فى الخط.

محمد: والله العظيم عاوز أشتغل بس فيه حاجه منعانى

د.يحيى: مفيش حاجه إسمها عاوز ومش عاوز، ما احنا اتقفنا، امشى ياله إمشى روّح

محمد: يعنى أنا غلطت لما قلت لك إنى أنا ماباشتغلش

د.يحيى: لأ طبعا، إنت مش حاتكذب عليّا، إنت مابتكذبش علىّ أبداً

محمد: ماشى، أنا بقول لك الحقيقة

د.يحيى: ماهو الحقيقه لما تكون زفت، ماتبقاش فل وياسمين بمجرد أنك تقول إنها زفت، انت بتقول الحقيقة عشان تتحمل مسئوليتها، مش عشان تبررها “بنفسيتى ومش نفسيتى”، تقولها عشان نبدأ نغيّرها سوا سوا، إذا كانت زفت.

محمد: آه والله لما باقعد مع واحد صاحبى بيقول لى كده برضه

د.يحيى: دول باين أصحابك دول عيال جدعان، بيحبوك، باقولك إيه….؟

محمد: (مقاطِعاً) خلاص خلاص: هانزل الشغل يوم السبت

د.يحيى: وهاتشتغل فى عز رمضان، علشان ربنا يبارك لك، الصنايعيه الخِرْعِين بيبطلوا فى رمضان

محمد: لأه بس على قد ما انا تعبان، برضه رايح اشتغل برضه، الحمد لله

د.يحيى: أهو كده الجدعنه، بكره تشتغل لأن ده أساس العلاج زى ما اتفقنا، بس مش ضرورى تطربقها تانى

محمد: بصراحة أنا بابقى عامل دماغ وباشتغل وكل حاجه

د.يحيى: يا خبر اسود، إوعى يا واد يا محمد، تكون بتضرب انت كده حاتبوّظ كل حاجة

محمد: آه، عارف، بس دى حاجه بسيطه علشان تدينى قوة

د.يحيى: أنا عارف، بس قوة مزيفة وخطر وعمرها قصير، دا انت زى ما تكون بتكَرْبَجْ حصان فى مطلع، يشد شويه وبعدين يطب واقع قبل مايكمل المطلع، وتقع العربية الكارو اللى كان جاررها فوق دماغه

محمد: خلاص خلاص عرفت

د.يحيى: إياك يا محمد، ولا نُصّ قُرص، خلينا حبايب

محمد: حاضر حاضر ما انا عارف، حاحاوِل (13)

 (13)  “العمل” فى خبرتى، فى حدود ظروف مجتمعنا، هو محور جوهرى – كما ذكرنا فى بداية الحالة ودائما – فى خطة العلاج – وبرغم أن عمل محمد بالصورة التى كان يقوم به (طربقها) كان عاملا مهيَئاً لما أصابه من حيث أنه كان يتصف بالإنهاك مع التهميش حتى حل محل وجوده كله، إلا أنه لا مفر من عودته إليه دون انتظار، وكثيرا ما يقول المريض “سوف أعمل حين أشفى” فأصححه بحسم أن العكس هو الصحيح وأنه سوف يُشفى حين يعمل”، وكثيرا ما أوصى كتابة أيضا على الوصفة (الروشتة): “يعمل وهو مريض – يعمل وهو مش قادر – يعمل وهو مش عايز– يعمل وهو بيموت“، وعادة ما يلتقط المريض ما أعنى، ويعمل بهدف الاسهام فى إنجاح خطة العلاج، فى حين يعتبر الكثيرون من الأهالى أن ذلك هو نوع من القسوة بشكل أو بآخر.

أما بالنسبة لهذه الأقراص (الترامادول كما ذكر محمد قبلا) وهى بجرعة صغيرة أو متوسطة تعتبر منشطة فعلا وتساعد هؤلاء العمال المكافحين على مواصلة العمل وأحيانا على تطبيق ورديتين متواصلتين، فإن خطرها يزداد ويتضاعف بعد مثل هذه الكسرة الذهانية، ويصبح التوقف عنها توقفا نهائيا شرطا حاسما لا استثناء فيه لاستكمال العلاج، وتساعد مثل هذه العلاقة المتنامية بين الطبيب والمريض على الاستجابة لضغط الطبيب هكذا.

د.يحيى: مافيش حاجة اسمها حا حاول، المسألة دى بقى ما فيهاش حا حاول، خلينى أقدر أكمل معاك

محمد: لأه فهّمنى علشان أبقى فاهم، فهمنى

د.يحيى: انت عارف أنا مابافهِّمْش، أنا باساعدك إنك تفهم، روح ياواد إشتغل وإياك زى ما قلت لك، يالاّ مع السلامة، أنا متشكر، كل سنة وإنت طيب، وَعْد راجل لراجل، تشتغل  وبلاش الهباب ده

محمد: خلاص ماشى

د.يحيى: ياللا مع السلامه كتر ألف خيرك مع السلامه

محمد: السلام عليكم

د. يحيى: وعليكم السلام ورحمة الله (14)

(14) نلاحظ تكرار شكر الطبيب للمريض وهو ما أشرنا إلى دلالته سابقا، لكن الشكر هنا له دور آخر لأنه يتوجه بشكل ما إلى الشكر على ما سوف يحدث، وليس فقط على ما حدث، بمعنى الشكر  على أنه سوف يعمل، وسوف يكف عن أخذ هذه الأقراص المنشطة، ثم على بقية ما يجاهد لنواصل “سوا سوا”!!، وهذا دعم لما سيكون، فضلا عن ما فيه من تحقيق فرض أن المستقبل “يحدث الآن”!

بعض مقتطفات من الشرح للحاضرين بعد انصراف محمد

د.يحيى: آه يانا  يابا، طيب إنتوا شوفتوا العلاقه مع عيان شيزوفرينا وبارانويد!! هوّا ده اللى بتقروه فى الكتب؟ أديكو شوفتوه وهوّا داخل علىّ عشمان رغم اللى حصل المرة اللى فاتت، وشوفتوه قبل كده خلال الجروب، وشوفتوا إبراهيم اللى كان متشخص تقريباً فصام بسيط وفجآه راح مخترع كلمة “محمد دلوقتى” عشان تصدقوا إننا مابنعرفش معنى كلمة فصام (شيزوفرينيا) اللى بنستعملها على العمال على البطال، طبعا مش كل حالة فصام حاتبقى كده، وما تنسون إن المقابلة دى بعد شهور من إنتهاء الجروب اللى حضور محمد فيه كان منتظم بنسبة كبيرة.

(يدخل محمد الغرفة ثانية فجأة دون استئذان، ولا يرفض د. يحيى ذلك قائلا):

د. يحيى: أيوه يا محمد

محمد: انت جاى الأربع اللى جاى أكيد؟

د. يحيى: أيوه جاى طبعا ……، بس على شرط

محمد: أيوه عارفُه

د. يحيى: إيه؟

محمد: أشتغل

(ينصرف محمد ويعاود د. يحيى للشرح)

أنا عندى أربع خمس كلمات، معلشى أنا حاكررهم، أصل ماعنديش غيرهم، بلاقى فيهم نظريه باكملها، وساعات التكنيك بأكمله.

 أولاً: انتو لاحظتو لما قال إنه “مش قادر يتجنن”، هوّا اللى قال، أنا ماغششتهوش.

 ثانياً: وإنه مش نافع يرجع محمد طربقها لأنها سكة وفشلت بعد ما كسرها الجنون، وبعدين الجنون راخر ما عدشى نافع بعد ما سلَّطْنا النور على تركيبته كلها، ووصله إنه ما عادش نافع فعلا، يبقى مافيش غير إننا نكمل، بس خلوا بالكم ما حدش يضمن أى نكسة فى أى وقت لأنه ممكن الظروف تكبس عليه، يطفى النور وهات يا لخبطة.

 ثالثاً: بعد ما فشل الجنون وهوّه رفضه معانا، رجع يتلكك فى حكاية “النفسية” وما “النفسية”، هو جى النهارده يدوّر على تفسير نفسى للى هوّا فيه، هوا جَىْ مبسوط إنه لقى اسم غير الأسامى اللى كنا بنشتغل فيها (طربقها/ فركشنى/ دلوقتى/ طربقها الجديد. محمد الصغير) هُبْ راح جَىْ وقايل اسم عمرنا ما استعملناه فى الجروب، ليه؟ لأنه عاوز شماعه لحد ما يرجع فى كلامه، شماعة تسمح له إنه يكرر على العمال على البطال: “أنا مريض نفسى”، “أنا مريض نفسى”، وهات يا تبطيل شغل، وهات يا شكاوى وتفسير ولت وعجن،  وده بيشاور على قد إيه الإعلام والاستسهال الطبى جعل ما هو “نفسية” له هذه الوظيفة السلبية.

رابعاً: أديكو شفتو إيه علاقة محمد دلوقتى بربنا، دى علاقة بتشاور على إن الحل يبدأ من محمد دلوقتى من غير ما نستعجل، محمد دلوقتى، ومافيش غير كده، وبرضه ما فيش إلا ربنا هنا ودلوقتى، وفى نفس الوقت فى كل حتة نعرفها وما نعرفهاش، هُبْ يبقى لقينا حماية ومظلة دايمة وممتدة، حتى لو العلاقة هوّت أو سرقنا الكلام، فاحنا لو عرفنا نحافظ على وصلة الوعى شغالة ما بينَّا بجد هنا ودلوقتى، وممتدة وِبِنّشْطْهَا كل شوية: حاتفكرنا بالوعى الأشمل، وهات يا رحمة ومشاركة وربنا.

د. ساندرا: مش فاهمة؟

د. يحيى: بصراحة أنا منتمى للحركه، مش للمحتوى، الشغل حركة، ولما المريض بيشتغل باقول له متشكر، كل الفرق هو إنه كان بيشتغل سـُـخرة على حساب كل حقوقه ووجوده، ودلوقتى عايزينه يشتغل ويوجه عائد الطاقة بتاعته  لنفسه ولربنا واحنا معاه وهو بينجز، عايزه يا ساندرا تعرفى العلاقة بتعمل إيه لما تقارنى صورته المرة ديه باللى قبل كده، دى علاقة فيها رؤية ومشاركة وربنا، إنتى لما تقولى لواحد ذاكر أو اشتغل لك ولربنا، غير لما تقولى له إشتغل ليّا، زى الأهل ما بيعملوا عمّال على بطّال فى عيالهم اللى بيذاكرو لهم، البنى آدم موجود علشان يشتغل وياخد ويدّى، هايقعد ويقول “نفسية” و”مش نفسية” و”محمد نفسية“: مش حاينفع عشان كده رحت مقاطُعْه من الأول، ورفضت محمد نفسية من أصله عشان خايف من الشماعة والتبرير، ومع ذلك العلاقة بقت أمتن وممتدة زى ما انتو شايفين.

د. ساندرا: طب مش نراجع التشخيص أحسن؟

د. يحيى: نراجعه نعمل بيه إيه؟ هوّا اللى إنتوا شايفينه ده بارانويد وشيزوفرينيا برضه، فيه حد فيكم مصدق نفسه وهوّا بيحط اليـُفَطْ دى، ومع ذلك انا متأكد إن أغلبكم حاينسى احتياجه للتشخيص لو تعمق فى اللى جارى، مش معنى كده إن احنا مانشخصى، لأ طبعا عشان الدوا والأوراق والملفات والكلام ده، أنا باقول الكلام ده وعارف انكم حاتنسوه.

د. عدلى: ربنا يقدرنا

د. يحيى: ولا يهمك خبرتى بتقول إنكم حاتنسوه حاتنسوه، يمكن إلا حته، وأنا أتعلمت إن الحتة دى يمكن تكون كفاية، أنا باتكلم بجد فأنا علشان أنا مصاحب المخ البشرى وباحاول أصاحب مستويات الوعى كلها، بابقى راضى والحمد لله بأى حته تفضل، بس إزاى يعنى، أنا باستغرب إزاى بنى آدم ربنا خلقه، يلغى الكلام ده اللى هو شافه بعينه واتسجل فى مخه عينى عينك، عاوز أعرف حاننسى مين فيهم: “محمد طربقها” ولا “محمد فركشنى“، ولاّ “محمد دلوقتى“، وهُبْ يطلع لنا “محمد نفسيه” ونرفضه، إنتوا شايفين الخطوات والشغل وشوية دوا وعلاقه لافيها “أبوك كان قائد طبيه” ولا “عمنا أدويب” ولا “الست إليكترا”، مش معنى كده نهمل تاريخه وهو ملان باللى خلاه ينكسر، بس التفريغ والفضفضة عمال على بطال لوحدهم مش حايعملوا حاجة، التاريخ بتاعه احنا عرفناه من الأول، عندكم البِتّ اللى كان خاطبها، وبعدين خبرته فى الجيش، وأنا لحد دلوقتى مش عارف هيّا كانت خبرة حقيقية ولا من المرض بس ما وقفناش عندها، ومع ذلك أهوه قدامكوا أهوه، قدرنا نبتدى من جديد وربنا يسهل، أعمل إيه؟ أنسى أنا كمان وأقول ده بيتهيألى وما حصلشى؟ طب إزاى اثبته للناس؟ إزاى أوصّله للخواجات بتوع الدواء علشان يذلونا، إزاى أبلغهم إننا بنستعمل أدويتهم على العين والرأس، كتر خيرهم، بس بنستعملها بشكل تانى، لأغراض تانية، إننا نساعد المخ المناسب إنه يبنى نفسه زى ما ربنا علّمه، وإنه ينظم الباقى؟ إزاى حايصدقوا الكلام ده، أدينى باسجله واللى عايز يمكن حيلاقى كل حاجة متسجلة، بس أنا شاكك بعدى حايحصل إيه عموما، أنا ناوى آخدها معايا فى التربة إن شاء الله، ويمكن أسيب لكم نسخة عشان ربنا يحاسبكم.

شكرا

(ضحك)

[1] – طبيب مقيم كان قد دخل مع بعض الأطباء المقيمين الذين استأذنوا فى حضور المقابلة، وكثير منهم كانوا من الذين يتحوطوا المجموعة للمشاهدة وليس للمشاركة فى دائرة أوسع.

[2] – هشام هذا هو الإبن الفنى (وهو الذى يحضر معى) وهو الذى يقوم بالتصوير للمقابلات، وايضا للمجموعة، وهو يتابع باهتمام ما يجرى، وأحيانا يبدى لى ملاحظات دالة ونحن فى العربة أثناء العودة، ملاحظات تلقائية طيبة ذكية، تدل على أنه لا يقوم بعمله بطريقة آلية بحتة، ويساعدنى فى ذلك أحيانا فى معرفة ما يمكن أن يصل للشخص العادى جدا، المتوسط جدا عن ما يدور فى الجلسة على أعماق مختلفة.

[3] – “واخدنى وش” مصطلح يستعمله العامة المصريين يفيد ما يعنى المقاطعة والرفض المسبق أو الصدّ حتى المنع، ولا ننسى أن عمل محمد “نقاش” وهذا التعبير أقرب إلى صنعته.

[4] – هذا التعبير لم يرد فى الجزء المنشور الاسبوع الماضى الذى شمل المقابلة كلها، لأنه قاله بعد أن توقف التسجيل أثناء خروجه.

[5] – د. عدلى الشيخ هو طبيب مقيم، مسيحى، تصادف أن جده واسمه أ. د. عدلى الشيخ أيضا كان استاذى للأمراض الباطنة أثناء دراستى فى كلية الطب، وكان استاذا متميزا وكنت أحبه وخاصة حين يحضر متطوعا الساعة 7 صباحا يعلمنا المزيد من الأمراض الباطنة دون مقابل، ويبدو أنه قد بدأت علاقتى مع حفيده المسمى باسمه من خلال هذه الذكرى، وجاءت مداعبتى له مع محمد مثالا آخر لعروجى إلى مواضيع غير تقليدية بها جرعة شخصية زائدة.

[6] – ويمكن مقارنة طريقة إنهاء اللقاء فى الجلسة السابقة قبل أسبوع نشرة الإنسان والتطور بتاريخ: 24/11/2015  www.rakhawy.net

[7] –  أنظر “نقد النص البشرى” بتاريخ  (4-4-2016 و 23-4-2016) بموقعى   www.rakhawy.net

الفصل الرابع المقابلة: بتاريخ: 28/8/2008

الفصل الرابع المقابلة: بتاريخ: 28/8/2008

الفصل الرابع

المقابلة: بتاريخ: 28/8/2008

(بعد مرور أسبوع من المقابلة الماضية)

………..

“محمد”: يدخل على اجتماع الدرس دون استئذان: صباح الخير: فيه إيه إن شاء الله!! (يضحك)

د.يحيى: صباح الفل: زى ما انت شايف أهه مفيش أى حاجه، مستنيينك!! أدينى جيت مخصوص زى ما اتفقنا

“محمد”: طب كويس الحمد لله ، والله أنا مصدّقك، أهم حاجه إن إحنا شوفنا بعض

د.يحيى: إسم الله! اسم الله!!

“محمد”: خلاص بقى! أروّح (بهزار)؟

د.يحيى: إنت عارف الإثنين دول (يشير إلى طبيب وطبيبة من الحاضرين) إتخطبوا

“محمد”: والله؟ الف مبروك

د.يحيى: بس قاعدين مبلّمين زى ما يكونوا متجوزين بقالهم 10 سنين

“محمد”: مين دول

د.يحيى: الجوز دول ([1])

“محمد”: دول لسه صغيرين أهم وزى العسل الإثنين

د.يحيى: المهم حمد لله على سلامتك

“محمد”: الله يسلمك (15)

(15) نلاحظ: أن العلاقة تتواصل بطريقة غير تقليدية وكأنه أصبح أحد أفراد أسرة إنسانية، طبيعية، ليست أسرة رسمية (مريض <=> طبيب + درس الأطباء) ولا حتى تمثل أسرة علاجية منضبطة (العلاج الجمعى)، ويتأكد ذلك من لهجة الود من البداية وكأنه لقاء بين أصدقاء فعلا، وذلك بعد تجاوز الاستئذان مادام هناك موعد مسبق، كما نلاحظ درجة الدفء فى اللقاء منذ البداية مع دعوة لمشاركة الجالسين، ولو كخلفية، للقاء فلا يعودون مجرد متفرجين، وربما هذا وذاك، ومثله، هو ما ساهم فى كسر الحواجز ليس فقط بين المعالج و”محمد”: ، وإنما بين الجميع بدرجةٍ ما وكأن الوعى الجمعى يمتد من وراء ظهورنا بطريقة غير مقصودة!

د.يحيى: هو أنا طَلَّعت الشغل بتاع زمان اللى كنت كاتبه عنك بتاع الدكتور هشام أول مرة، وجايبه معايا على أساس إيه: أولاً أنا تحت امرك، وبعدين كان عندى حاجات كده عايز استفسر منك عنها

“محمد”: آه، وانا تحت أمرك.

د.يحيى: أنا لما سيبت لك الإختيار إنك تيجى أو ما تجيش، وانت فضّلت تيجى حسيت إن دى حاجه كويسه إنى آجى مخصوص، وإنت تيجى مخصوص، بصراحة انبسطت.

“محمد”: أنا مانمتيش عشان ماتأخَّرْش

د.يحيى: دا بقى كلام زى مواعيد الغرام

“محمد”: لو نمت مش هاصحى

د.يحيى: ولا ينام الليل إلا خلىّ البال

“محمد”: أصل الدكتور يحيى بحاله جايلى مخصوص، لازم انا أجى مظبوط

د.يحيى: يا واد بـَطـَّل بقى، المهم لما رجعت للكلام اللى إحنا قلناه سوا، إفتكرت يعنى حاجات مهمه ماكملنهاش.

“محمد”: هو أنا فيه شوية حاجات كده بتحصل لى اليومين دول مش فاهمها.

د.يحيى: طيب قول إنت الأول.

“محمد”: خيالات كده وحاجات جنسية غريبة مش فاهمها.

د.يحيى: جنسيه؟ أهى دى جديده دى.

“محمد”: مش قوى، آه، وافضل أعيش معاها كده والله الحاجات ديه تعبانى اوى.

د.يحيى: صبرك بالله.

“محمد”: أنا مش فاهم إيه اللى بيحصل ده.

د.يحيى: الصبر يا راجل، هى ظهرت إمتى؟

“محمد”: من ساعة ما تعبت، من ساعة ماخرجت من المستشفى

د. يحيى: من ساعة ما تعبت؟ ولاّ من ساعة ما خرجت من المستشفى؟

“محمد”: من ده على ده

د.يحيى: إنت خرجت إمتى؟

“محمد”: خارج بقالى فترة

د.يحيى: إنت خرجت من المستشفى وجيت الجروب وحضرت بانتظام تقريبا، ماكنش فيه خيالات جنسية ولا جبت سيرة على حاجة زى كده، هوّا إيه اللى جرى.

“محمد”: طيب دى بتيجى إزاى دى؟ مش فاهم

د.يحيى: أنا حتى لما قريت الورق القديم…، مالقيتش كلام من ده

“محمد”: (مقاطعا) ولا أنا عاوزها كده، ولا فيه حاجه

د.يحيى: بس واحده واحده حانشوف الحكاية سوا، عندنا فرصه النهارده بالراحة، بس الأول تحدد إنها جات لك من ساعة ماخرجت من المستشفى، ولاّ إمتى؟ بصراحة أنا مش فاكر، لو كان كده كنا اتكلمنا فيها مثلا

“محمد”: لأه مش من ساعة ماخرجت من المستشفى بالظبط

د.يحيى: ماهو أنا بشكـِّـكْ فى ده، لأنك قعدت معانا سنة بعدها ماكانش فيه خيالات جنسيه، وكلام من ده على الأقل ما جيبتش سيرتها فى الجروب، فهى ظهرت قريب

“محمد”: يمكن قريب، بس يعنى

د.يحيى: يعنى مثلا هى كانت موجوده مدفونه من زمان بس ظهرت قريب

“محمد”: من فترة، يعنى مش قريب قوى، لأه من فترة

د.يحيى: باين توقيت الأحداث عندك مهزوز شويتين، وده مش عيب، يمكن علشان كده الأحداث بتخش فى بعضيها. (16)

(16) نلاحظ محاولة ضبط توقيت ظهور الأعراض مع مسيرة العلاج حيث أن ذلك يعتبر من أهم ما يمكن الانتباه إليه فى علاقته بما يسمى بــ: “نقلة الأعراض”([2]) وتحديد وقت النقلة مع مراحل العلاج وطبيعة وحركية العلاقة العلاجية، ثم ظهور هذه الأعراض الجديدة (أو التى اعتبرها المعالج جديدة) بعد انتهاء انتظامه فى العلاج الجمعى الذى امتد بعد خروجه من المستشفى لمدة سبعة أشهر تقريبا، وفيه تنبيه لمتابعة تغير التركيب النـَّفـْسِمـْراضِى أولا بأول.

* كما نلاحظ أنه مهما اختلف رأى الطبيب مع “محمد”:  فإن الاختلاف لم يقلل من احترام رأى “محمد”:  تجنبا لاتخاذ موقف يشبه موقف التحقيق، إذ لا يوجد مبرر عند محمد لاختراع أعراض جديدة دون وجودها، كما أن ظهور الأعراض هو غير الحكى عنها كما أشار الطبيب بقوله: “يمكن هى كانت مدفونة من زمان بس ظهرت قريب”.

* ثم ننبه إلى تعبير “الأحداث بتخش فى بعضها” الذى يشير إلى احتمال اختلاف حركية الزمن عند “محمد”:  أيضا.

* وأخيرا نلاحظ التقبل الذى يجرى بين الاثنين لرأى كل منهما للآخر، وإدراك مستوى العلاقة من خلال ذلك.

……….

(ثم نكمل:)

“محمد”: يادكتور يحيى مش هاينفع

د.يحيى: هوّا ايه اللى مش حاينفع؟ أنا متصور إنها ظهرت قريب مع التعب الأخرانى دلوقتى

“محمد”: جايز بس هى معايا من فترة كبيرة

د.يحيى: يمكن موجوده من فترة كبيرة بس ظهورها باين إنه من قريب، ما هو “وجودها” غير “ظهورها”

“محمد”: أنا كنت فاكر أخر مرة كلمتك فيها، ما كانش فيها السيرة دى

د.يحيى: بصراحة احنا ماتكلمناش أوى يعنى، دى مقابلة على الماشى وانت واقف فى الطرقة ([3]) ده كان إزيك سـَلـَمَاتْ

“محمد”: آه صحيح مفيش كلمتين كده ومشيت على طول

د.يحيى: وقبل كده برضه ما جبناش سيرة الحكاية “الجنسية” دى نهائى، باين انها كانت على جنب خالص، إيه اللى خلاها تنط لنا دلوقتى

“محمد”: أهوه الموضوع ده اللى مـْضيعنى

د.يحيى: واحده واحده، أنا مصدقك، من إمتى الحكاية دى؟ هى مباشرة جنسية ولا صُوَرْ ولا إيه؟

“محمد”: آه، بقالها فترة طويلة

………

د.يحيى: مش يجوز هى موجودة من زمان قوى زى ما قلت لك، يمكن من سنين مثلا

“محمد”: مش قادر أحددها بس هى فترة كبيرة

د.يحيى: ما نحاول نحددها سوا دلوقتى

“محمد”: خلاص حَدِّدْها

د.يحيى: هو أنا الى باحددها؟ هو أنا اللى باشوفها (17)

(17) من أهم آليات هذا الأسلوب هو البدء بقبول حقيقى لما يقوله “محمد”:، مهما اختلف مع مقياس “العادى” والشائع، ولكن أيضا، وربما قبلا، مهما اختلف عن رأى الطبيب، كذلك مهما اختلف تحديد الفروض المبدئية ونكرر أن هذا ليس أبدا ما يقال عنه أن الطبيب “يأخذ “المريض”: على قد عقله” وإنما هو تصديق حقيقى باعتبار أن ما يعيشه “محمد”: حتى لو كان يؤلفه تأليفا هو يعيشه فعلا، أما مستوى حضوره فى واقعه الداخلى، أو تحويره أيضا بالواقع الداخلى، أو تأليفه بذاكرة وعى تحت السطح أو حتى تكملته بخيال ظاهر، فكل هذا نابع من “محمد”:  أيضا، صحيح أن العلاج يتناول كل مستوى من هذه المستويات  بشكل مختلف لكن البداية تظل دائما هى التصديق واحترام الخبرة.

* نلاحظ أيضا استجابة المريض الإيجابية ربما نتيجة لهذا التصديق، وأنه ترك التحديد الحاسم للزمن الذى ظهرت فيه جذور هذا الواقع قبل أن تظهر فى هذه الصورة التى لم نسمّها بعد، فأصبح الزمن مفتوحا لكن تم الاتفاق على أنها مدة طويلة (حتى قبل المرض)، وهذا يجرنا إلى الحديث عن ظاهرة سَبْق التوقيت([4]) ليس فقط لبداية المرض وإنما أيضا لكل عرض على حدة، من هنا وجب أكثر احترام توقيتات “المريض”: – خاصة الذهانى– حتى لو تعارضت مع المعلومات من أهله أو رأى الطبيب أو واقع الحال أو سابق حكْيه.

“محمد”: بس هى دى عندى أنا بس؟ ولا عند الشباب كلهم

د. يحيى: دى إيه؟

“محمد”: اللى أنا حكيت لك عليها دلوقتى.

د.يحيى: هوا انت حكيت حاجة، ثم يا ابنى دى خلقه ربنا

“محمد”: طيب مثلاً قول لى السبب مثلاً إيه

د.يحيى: مفيش سبب ولا بتاع، إحنا بنى آدمين وهى موجوده فينا طبيعى، ندفنها؟ ولا نشتغل فيها؟

“محمد”: ممكن تجيلى دلوقتى وأنا قاعد والله باكلمك دلوقتى، أنا باتكلم بجد

د.يحيى: يا خبر!! حاسب يا راجل احنا معانا بنات، بس برضه نعترف بيها.

“محمد”: لأه نشتغل فيها وياريتها تروح

د.يحيى: يا محمد يا ابنى، نشتغل فيها، غير مسألة يا ريتها تروح، لما نشتغل فيها بشجاعة وأمانة لابد أن نتوقع إنها تختفى وتتراجع لما مايبقاش لها وظيفة

“محمد”: أنا عايزها تروح عشان أعرف أشوف حالى

د.يحيى: يامحمد يابنى إنت بقيت عفريت، تروح يعنى إيه، يعنى نـِقـُصّ حته منك ونرميها فى الزبالة؟! ينفع ربنا يخلقنا بيها واحنا نعمل العمله دى؟! ماينفعش، ربنا خلقنا كل حاجة فينا على بعضها، نروح احنا ماسكين حته ونرميها فى الزباله وتقول تروح، تروح فين؟!

“محمد”: ماشى (18)

 (18) نلاحظ أن المناقشة دارت حول الظاهرة وراء العرض الذى يشكو منه محمد هذه المرة، وهو العرض الذى يبدو أنه أقرب إلى الصور الخيالية منه إلى الهلوسة الحسية، وهو ما سوف نرجع إليه فيما بعد.

* ثم نلاحظ إن إقرار أصل الطبيعة البشرية هو البداية قبل أى تفسيرات لاحقة، وهذا الإقرار يصل إلى المرضى من خلال علاقة علاجية بالمشاركة، أعنى غالبا من خلال أصالة حركية الوعى البينشخصى أكثر وأسهل مما تصل إليه التفسيرات النفسية التنظيرية المركبة.

* نلاحظ أيضا أن الحوار قد تواصل عن ظاهرة لم تتحدد بعد بالضبط بالألفاظ الصريحة بين المتحاورين، فقد كانا يتحدثان عن التعامل الكبتى لحيوية الجنس الذى خلقه الله فى البشر (وغير البشر) بالحظر الجاهز فـالقهر الشعورى واللاشعورى، وإن كانت المحاورة لم تحمل أى معنى بسماح غير مسئول، وربما كانت بداية محمد هى الأقرب إلى فتح الباب هكذا حين سأل “هىَّ عندى أنا بس ولاّ عند الباقيين كلهم” ثم محاولة التنبيه من المعالج أنها الأصل “احنا بنى آدمين، وهى موجودة، نرميها ولا نشتغل فيها”، وتعبير “نشتغل فيها” غير “نسمح بها” أو “نعترف بها” وهذا ما قد نرجع إليه، فيما بعد.

* وأخيرا فإن الحوار تضمن أن التخلص من جزء من الطبيعة البشرية هو بمثابة إلقاء هذا الجزء فى القمامة، وهذا ما يمكن أن يبدأ فى توصيل جرعة من السماح للمريض بتخفيف جرعة الكبت الجاف الذى يبدو أنه من فرط تراكمه وجاهزيته عند “محمد” قد تشقق حتى خرجت من شقوقه هذه الأعراض فى صورة هذه الأخيلة الجنسية التى لم نعرف تفاصيلها بعد.

………………………

………………………

د.يحيى: ممكن تقول لنا تفاصيل اللى جابك النهاردة وإيه الشوية الحاجات دى اللى إنت بتقول إنت مش عارفها أوى

“محمد”: مش عارفها إزاى؟

د.يحيى: إنت اللى بتقول، يمكن مش واضحه أوى، يعنى مش مفصـَّصْها أوى ولاّ أنا فهمت غلط؟

“محمد”: لأه واضحه معايا اوى، زى مايكون قاعد قدام تلفزيون وشايفها على الطبيعه

د.يحيى: طيب قول لى بيحصل إيه

“محمد”: عادى بنام مع واحده

د.يحيى: إنت؟

“محمد”: أنا

د.يحيى: يعنى بتشوف واحده، ولاّ بتشوف إنك مع واحده؟

“محمد”: أنا بشوف نفسى مع واحده وبشوف واحد مع واحده

د.يحيى: واحد عارفُه؟

“محمد”: لأه ماعرفهوش بس هى فى لقطه شوفتها على موبايل كده، اللقطه ديه سابت فى دماغى حاجة

د.يحيى: لقطه شوفتها على إيه؟!!

“محمد”: على موبايل مع واحد صاحبى

د.يحيى: موبايل ؟!

“محمد”: آه

د.يحيى: هوا فيه حاجات من دى على الموبايلات، أنا باحسبها فى النت بس

“محمد”: لأ، وكتير، عالموبايلات كلها

د.يحيى: معلش أصلى ماباعرفش فى الحاجات الموضة دى قوى، وبعدين؟

“محمد”: وبعدين أفضل أعيش كده مع نفسى، هى فوق وانا تحت، مع نفسينا كده لغاية لما أخلَّص

د.يحيى: يعنى تعمل العاده السريه عليها

“محمد”: لأه أنا نايم كده على الأرض وعايش كده معاها ومع نفسى وأنا نايم كده على الأرض

د.يحيى: لحد ما تقذف يعنى؟

“محمد”: آه هو ده الموضوع اللى تاعبنى دلوقتى

د.يحيى: حاضر يا ابنى، وإنت نايم على وشـَّك ولاَّ وإنت على ظهرك

“محمد”: لأه وأنا على ظهرى

د.يحيى: وهى نايمه فوقك

“محمد”: آه وممكن تكون هىَّ تحتى عادى

د.يحيى: وإنت على ظهرك وهىَّ تحتك، يانهار إسود ! إزاى؟

“محمد”: هاوضح لك اكتر.. أنا بابقى على ظهرى، هى بتبقى فوق، ممكن تكون هى تحت وأنا فوق، باعيش مع الإثنين

د.يحيى: طيب يابنى، معلشى، معلشى بس الحاجات ديه هى جديدة عليك ولاّ إيه؟، يعنى بقالها أربعه خمس شهور بس، ولا من أول المرض؟ ولا طول الوقت؟ (19)

 (19) واضح أن ما يراه، هو أقرب إلى الصور الخيالية منه إلى الهلوسات، وأنها استثيرت من مثير واقعى على الموبايل، وكأنه حدث ما يشبه ظاهرة الطبْع([5]) حيث ينطبع المُدْرَك بيولوجيا ثم يُتَعْتَع (ليس من خلال الذاكرة!) مع حركية التفكك الذهانى، بمعنى أنه نظرا للانهاك الذى يعيشه المريض والحرمان معا، انطبعت الصورة المثيرة فأثارت ما يقابلها مما هو مكبوت، وأصبحت مصدرا لتعويض خيالى، لكن درجة التجسد التى يحكى بها “محمد” خبرته تكاد تقترب من الهلوسات الحسية لدرجة إنهاء الفعل الجنسى حتى الذروة، وبهذا التصوير يمكن ألا نعتبر هذا العرض هلوسة ناتجة من إطلاق الداخل إلى الخارج، وإنما نوع من التعيين النشط ([6])

“محمد”: من زمان

د. يحيى: يعنى من امتى تقريبا

“محمد”: أكتر من ثلاث اربع اشهر، يمكن اكتر   

د.يحيى: 7 شهور مثلا؟

“محمد”: آه ممكن حاجه زى كده

د.يحيى: هو الجروب بتاعنا خلص إمتى

“محمد”: مش فاكر

د.يحيى: خلص إمتى يا ياسمين ([7])

د.ياسمين: من سنة وتلات اشهر

د.يحيى: سنة وتلات شهور! طيب يا محمد تبقى، الحاجات دى ظهرت من بعد ماخلص الجروب بأد إيه

“محمد”: مش فاكر

د.يحيى: يعنى شوية كتار حسب كلامك

“محمد”: آه

د.يحيى: تفتكر بعد ماخلص الجروب وإنت كنت جدع أوى أثناء الجروب واشتغلت واخدت واديت، ولسه برضه جدع اوى لحد دلوقتى ، بأمارة إنك رغم كل شىء لسه بتشتغل

“محمد”: أهوه باحاول على قد الإمكان

د.يحيى: لأه، اسمع واحده واحده، أصل كله إلا الشغل

“محمد”: ماشى

د.يحيى: أصل فيه كلام أنا فاكره من أول جلسة، وأنا شكيت إنه حصل، فاكر؟ أنا قريته إنَّهَارده قبل ما آجى أقابلك، فاكر إنى شكِّكْت فى الحكاية اللى حصلت فى الجيش

“محمد”: آه، كان فى أول جلسه مع بعضينا

د.يحيى: بالظبط شكيت فى اللى حصل وقلت لك يمكن بيتهيالك، من كتر الخوف

“محمد”: لأه ده حقيقه

د.يحيى: بس ساعتها قلت لك إن فيه حاجات بتبقى قديمه بتتقلب من كتر مخاوف الواحد تروح نطّه فى مخه كإنها حصلت، وهات يا هرب وهات يا شكوى، وبتبقى فضائح أهو برضه اللى انت بتحكيه ده يمكن بيتهيأ لك، بس مش من كتر الخوف بقى ، لأ من كتر الرغبة والحرمان

“محمد”: بيتهيألى؟ يمكن! بس هوّا حقيقة

د. يحيى: طيب طيب بس هوّا ما ظهرشى إلا لما الجروب خلص وبعدها اشتغلنا فى محمد طربقها ومحمد فركشنى

“محمد”: ومحمد دلوقتى

د.يحيى: عليك نور أنا فرحت إنك انت اللى قلتها، بس إنت عرفت ليه أنا رفضت محمد نفسيه وقبلت محمد دلوقتى

“محمد”: لأ ماعرفتش

د.يحيى: لقيت محمد نفسيه حايقلبها لنا حكاوى وشكاوى، إنما “محمد دلوقتى” بيجرجرنا للأرض، للواقع، ويمكن يبعدنا عن الخيالات دى

“محمد”: انت عارف أنا قلت محمد نفسيه ليه

د.يحيى: لأ .. ليه؟

“محمد”: علشان تعبان نفسياً على طول

د.يحيى: أنا بقى ضد الكلام ده، أنا بأجى هنا كل يوم خميس علشان أنبه أولادى دول إنه ماينفعش نقلب المشاعر الحقيقية والآلام والوحده لألفاظ نفسيه، علشان كده رفضت كلمة نفسيه، إنت عاوز تلزقها فى أى إسم مرض بقى وتاخذ دوا وخلاص، أهو انا رفضت محمد نفسيه عشان نركز فى محمد بتاع ربنا، فى محمد دلوقتى، فى محمد محاولة، محمد جدعنة، أى حاجة  إلا نفسية، ومافيش مانع نستعمل أى أدوات نفسية تساعدنا إننا نرجع “دلوقتى”.

“محمد”: طب وبعدين (20)

 (20) نلاحظ محاولة الربط بين الفراغ النسبى الذى حدث بعد انقطاع محمد عن العلاج الجمعى، وعن المتابعة، وبين انطلاق الخيال التعويضى الذى تجسد لدرجة “التعيين” فاحتمال الهلوسة الحسية فى خيالات.

* كما نلاحظ أنه بعد هذه المدة (أكثر من سنة ونصف) يمكن مراجعة ما حدث فى العلاج الجمعى كجرعة تنشيطية، ثم إن المريض هو الذى أضاف فى هذه المقابلة “محمد دلوقتى” وكأنه مازال مستمرا فى تخليقه من كل هذه المحمدات، ولم يُفرض عليه من خارجه.

* وكل هذا ليس مرتبطا بنظرية نفسية معينة تفرض نفسها بقدر ما هى معايشة لما يتبقى فى الوعى الشخصى والبينشخصى من رحم الوعى الجمعى، ومن انطباعات الإدراك من مثيرات مرتبطة بالحرمان والرغبة معاً.

د. يحيى : هوّا فيه حاجة انت كنت عايز تقولها وماقلتهاش

“محمد”: آه موضوع الست اللى كنت باحبها ديه والموقف اللى حصل ومش عارف إيه

د.يحيى: إيه موضوع الست اللى كنت بتحبها ده؟

“محمد”: ديه واحده قريبتى كده حبيتها وبتاع

د.يحيى: بنت عمك؟

“محمد”: آه، يعنى أبويا يبقى خال أمها

د.يحيى: المهم قريبتك، وبعدين

“محمد”: بس هى مش ست من الستات الجامده هى حاجه كده صغيرة يعنى

د.يحيى : حصل إيه يعنى

“محمد”: ماحصلش حاجة

د.يحيى : وقلت لها أنا باحبك

“محمد”: لا .. لا .. لا،  ولا قلت لها ولا أى حاجة

د.يحيى : ولا اتقدمت لها

“محمد”: ولا اتقدمت لها ولا أى حاجة

د.يحيى : إمال حصل إيه بقى

“محمد”: بس موقف محرج شويتين

د.يحيى : هو إيه الموقف

“محمد”: (بعد فترة صمت طويلة نسبيا) عادى، كنت باروح عند ابوها كان فاتح محل حلاقه وكده

د.يحيى : وبعدين؟

“محمد”: فكنت على طول باروح هناك بقعد معاه شوية ومش عارف إيه وكده

د.يحيى : مع أبوها

“محمد”: آه فحبيت الناس ديه، حبيتها أوى يعنى، ولغاية دلوقتى

د.يحيى : حبيت الناس ولا البنت

“محمد”: الناس كلها، عيلتها كلها

د.يحيى : كلهم على بعضهم

“محمد”: ايوه العيله كلها، بس كنت باروح كده مثلاً أتردد عليهم نصف ساعة، ساعة إلا ربع

د.يحيى : بس هى ماكنتش موجودة فى المحل

“محمد”: طبعا ماكنتش موجودة

د.يحيى : وبعدين

“محمد”: ماهو أنا جايلك فى الكلام أهه، ما هو أنا قولتلك على إسمها على فكرة فاكر إسمها

د.يحيى : لأ والله

“محمد”: اسمها هاله

د.يحيى: عاشت الأسامى، طب يالـّه كمل، إنت بقى روحت بقى عند أبو هالة، وبعدين

“محمد”: رحت المحل عادى وقعدت طبيعى عادى مفيش أى مشكله فقلت له، يعنى طلبت منه حاجه غريبه

د.يحيى : خير؟

“محمد”: طلبت منه إنى اطلع أسلم عليهم

د.يحيى : على مين؟ على البنت ولاّ على أمها؟

“محمد”: يعنى، بس هىَّ ماكنتش فوق، البنت ماكانتش فوق

د.يحيى : إيش عرفك

“محمد”: ماهو أنا دخلت وقعدت بقى

د.يحيى : آه وبعدين

“محمد”: طلعت، سلمت، دخلت، قعدت، حاطت لى أكل أكلت،

د.يحيى : مين اللى حطت لك الأكل؟ هيّا ولا أمها؟

“محمد”: أمها طبيعى مفيش أى حاجة، ما هيا مش موجودة، ودماغى ما فيهاش أى حاجة، وشربت الشاى وأنا قاعد قام طلع إيه جوزها

د.يحيى: جوز مين

“محمد”: جوز أمها يعنى أبو البنت

د.يحيى: ماشى

“محمد”: وأنا استأذنت

د.يحيى : ماشى

“محمد”: والمهم طلع هو قام واخدنى من إيدى وراح منزّلنى

د.يحيى : كنت قاعد إنت وأمها بس مفيش حد تالت

“محمد”: آه قاعد عادى طبيعى باكل، وعملت لى الشاى، قام هوّا واخدنى من إيدى قام منزلنى، المفروض أنا بقى امشى مارجعش ليه تانى، لأه قابلت هاله وأختها

د. يحيى: فين

“محمد”: فى السكة فى أول الطريق وأنا ماشى وهمّا راجعين

د. يحيى: همّا مين؟

“محمد”: هالة وبنته التانية المخطوبة، إنما هالة هى اللى فى دماغى اللى أنا باحبها، هى كانت متجوزة واتطلقت

د.يحيى : هى هالة اللى كانت متجوزة ومطلقة

“محمد”: أيوه هى

د.يحيى : يانهارك مش فايت!! إنت كنت بتحب واحده سكند هاند يالَهْ

“محمد”: غشيم بقى، المهم

د.يحيى : مين الكبيرة فيهم

“محمد”: الكبيره هى اللى أنا باحبها

د.يحيى : هى أكبر من أختها المخطوبه

“محمد”: أيوه أكبر من أختها المخطوبه

د.يحيى : روحت انت حابب المطلقه على طول

“محمد”: اللى حصل

د.يحيى : توكلنا على الله

“محمد”: ماعرفش بقى، يمكن صعبت عليا بقى، قلت أوصلهم

د.يحيى : وهما رضيوا إنك توصلهم

“محمد”: يعنى، بس إيه البنت اللى مطلقه ديه سبقت، الناس فى الشارع مش عارفانى إنى انا قريبهم وبتاع

د.يحيى : أنهى بنت اللى سبقت؟ المخطوبة ولا اللى مطلقة؟

“محمد”: اللى مطلقة

د.يحيى : اللى إنت بتحبها

“محمد”: اللى انا بحبها

د.يحيى : يعنى علقّتك وراحت سابقه وإنت مشيت مع المخطوبة

“محمد”: أيوه كده كملت أوصّل المخطوبة

د. يحيى: قام حصل إيه بقى

“محمد”: ماحصلش حاجه عادى، أبوها شافنى بصِّ لـِى أوى كده قمت أنا واخد بعضى وماشى

د.يحيى : فين الحادثة بقى؟، حادثة إيه اللى بتسميها حادثة

“محمد”: طيب ماهو أنا تعبت بعديها، ليه أنا تعبت، بعد ماعرفت إن ده مايصحش وغلط وكده فتعبت فبقيت افكر أنا عاوز أراضى الناس ديه، أنا غلطت وعاوز أصلّح غلطى

د.يحيى : غلط فى إيه يابنى؟ مايكنش إنت ساعتها حاسيت بالرفض يابنى إن هالة هيّا اللى سبقت وسابتك مع اختها المخطوبة؟

“محمد”: لأه ماكنش فيه إحساس من ده، مش فاكر حسيت بإيه

د.يحيى : هيّا هالة سبقت ليه؟

“محمد”: على أساس إن هى مطلقه والناس مش عارفانى إنى أنا قريبهم وكده

د.يحيى : طيب ماهى سابتك مع أختها

“محمد”: مش فاهم، أهو دا اللى حصل

د.يحيى : هى هالة متجوزه دلوقتى ولا لأه

“محمد”: ده بقى اللى أنا معرفهوش دلوقتى، دى حاجه ماتخصنيش

د.يحيى : دلوقتى حسب كلامك الحادثة دى بقالها كتير، من ثلاث اربع سنين، إيه اللى جاب سيرتها دلوقتى

“محمد”: ما هوّا ده أول التعب

د.يحيى : إزاى

“محمد”: قعدت مع نفسى فى البيت 10 ايام بعدها، عايش مع نفسى مع العادة السرية، ومش عارف إيه، وماباكلش، وكده، حسيت إنى أنا تعبت فجأة كده العشر ايام اللى قعدتهم فى البيت لوحدى دول تعبونى حسيت إنى أنا إنسان تانى خالص

د.يحيى : قعدت 10 ايام لوحدك

“محمد”: آه قعدت 10 أيام فى البيت وكده تعبان مابخرجش، ومش أنا، والناس بره بتتكلم على اللى حصل

د. يحيى: هوّا إيه اللى حصل؟

“محمد”: اللى انا قلتهولك

د.يحيى : التعب إبتدى بقى بعدها، يعنى ومن ساعتها الناس يتكلموا عليك والحاجات اللى حكيتها فى الأول دى كلها.

“محمد”: لأ مش من ساعتها قوى، أنا اتهيأ لى إنى نسيت اللى حصل لحد حكاية الجيش.

د. يحيى: آه الجيش والتحرش اللى أنا قلت لك يمكن بيتهيأ لك

“محمد”: آه، وبعدين لقيت الناس بيتكلموا واسمعهم ساعات وأنا لوحدى

د. يحيى: يا محمد يا ابنى، احنا مش هانقعد نحكى ونمصص شفايفنا، احنا بنحل الحكايات دى بأننا نبدأ نواجه اللى حصل واحدة واحدة، الظاهر محمد فركشنى انتهز فرصة إنك حبست نفسك فى الأوضة بعيد عن الناس راح هاجم ولخبط الدنيا، فاحنا ردينا عليه بالناس اللى فى الجروب، اللى شفنا فيه إن الناس لبعضها برغم كل اللى حصل، مش انت لما كنت معانا فى الجروب كل ده راح قـُرْب الأخر

“محمد”: حصل، راح                                                                                            

د.يحيى: خد بالك إن كل دى والأصوات دى اختفت دى جت لك وانت لوحدك، واختفت وانت معانا

“محمد”: هوّا إيه لما كنت معاكوا وإيه اللى راح مش فاهم

د.يحيى : الأفكار الغريبة والحاجات اللى كانوا يحطوها لك فى الشاى، والسم، والكلام ده اللى هو خلانا نتعرف على “محمد فركشنى” و”محمد فركشها”

“محمد”: آه (21)

 (21) نلاحظ  من هذا المقطع أن البداية لم تكن فى الجيش كما ذَكَرَ فى المقابلة الأولى (التى تمت 13/7/2006 ونشرناها فيما سبق، وأن هذا الذى حكاه محمد فى هذه المقابلة الحالية يمكن أن يكون بداية العملية الذهانية بعد جرح الرفض أو الترك الذى لحق به من فرط جوعه ووحدته، وليس بالضرورة لأن أحداً تركه أو رفضه، ثم لاحظنا كيف ترتب على ذلك انسحابه، ثم بداية التغير: “حسيت إنى إنسان تانى خالص” هذه البداية بالشعور بتغير الذات Depersonalization  برغم أنها لم تتماد  من البداية فى ذهان صريح يمكن أن تعتبر إعلانا عن مدى جوعه للاعتراف والقبول، الأمر الذى لم يطرق بابه أصلا، فلا هو صرح للبنت ولا لأبيها ولا لأمها بمشاعره، وربما أنه اختار المطلقة حتى يضمن أنها سوف تقبله، وإذا بها تتركه (ترفضه) قبل أن يبدأ أصلا.

* كما نلاحظ أنه لم يذكر هذا الحادث (وهذه الخبرة) إلا بعد مضى هذا الوقت الطويل من بداية الذهان الصريح الذى أدخل بسببه القسم، ثم ما حدث أثناء العلاج الجماعى .

* يمكن اعتبار أنه بعد تقليب مستويات وعيه فى المجموعة العلاجية وقبولها الواحد تلو الآخر “معا” وترويض ما يلزم منها، (كل المحمدين) ثم بعد الاطمئنان لاستمرار علاقته مع الطبيب المعالج كما رأينا، كل ذلك قد سمح لأصل من أصول النفسمراضية أن تطفو إلى السطح، بما يسمح لنا أن نفترض أن ما حكاه هكذا فى هذه المقابلة لم يكن مجرد تفريغ لخبرة مؤلمة بقدر ما كان إعلانا للتقريب بين مستويات الوعى بعد الاطمئنان إلى مشاركة وعى آخر ثنائى أولا ثم، امتدادا إلى وعى جماعى، كل ذلك يسمح له بأن يستعيد خبرة الترك أو الرفض (برغم أنه لم يدخلها أصلا)، فى رحاب هذا الوعى الممتد الذى يتخلق مع المعالج، والأرجح أن الوعى البينشخصى بينهما إنما يستمد دعما من وعى المجموعة الجماعية الذى لابد أنه احتل وعى كل منهما وبقى منه ما يدعم العلاقة وينميها.

د.يحيى : نرجع مرجوعنا للى انت جاى تحكيه النهارده بالذات، باين الجوع للناس رجع، ما هو كله حرّك كله، الجنس عندك يا محمد جاهز عالواسع

“محمد”: ….. وبتحصل معايا وأنا فى الشارع عادى، وأنا ماشى فى الشارع يعنى شفت واحده مثلاً ركزت معاها أوى، تخيلت الأعضاء مش عارف إيه فى ثوانى أتخيل نفسى إن أنا معاها، إيه ده أنا مش فاهم، أنا ذات نفسى أتخيل كده إنى أنا معاها وعلى السرير عادى، وبمارس معاها طبيعى، إيه ده مش فاهم انا!

د.يحيى: شوف كلمة تتخيل هنا فيها برضه فصال، يعنى التخيل غير التجسيد غير الحقيقة يعنى، انت لما تتخيلها تبقى شايفها زى ما أنا قاعد كده؟

“محمد”: لأه أنا متخيلها عريانه أمامى بس أنا شايفها بالهدوم أنا شايفها كده قدامى بالهدوم فى ثوانى تبقى قالعة الهدوم، لحد ما أجيبهم

د.يحيى : يا خبرك اسود، ازاى تبقى قالعة وبالهدوم؟! وده بقى حانسميه خيال ولا حانسميه حقيقة ولا إيه؟ بالنسبة ليّا ماتفرقش أنا مصدقك يابنى كده وكده، احنا بنبدأ باحترام الموجود، وباحترام خلقه ربنا ونبتدى من ده، وده.(22)  

  (22) لست متأكدا من أن تحريك مستويات وعى محمد فى رحاب الوعى الجمعى هو الذى سمح بهذه المنطبعات الجنسية أن تطفوا إلى سطح وعيه لينسج منها هذه الفانتازيا المجسدة، أم أن ذلك كان نتيجة لتزايد ثقة المريض بالمعالج بعد السماح والتهوية عن المكبوت بهذه الدرجة التى سمحت باستعادة القبول الطبيعى لما خلقه الله،

* كذلك لست قادرا – فى حدود وصفه – أن أفصل بين الصور الخيالية والهلوسات الجنسية بعد أن وصلت إلى تجسيد الممارسة الكاملة حتى ذروة الشهوة هكذا، وهذا يسمح لنا أن نخفف من غلوائنا فى الاصرار على الفصل الحاسم بين الصور الخيالية والهلوسة خاصة بالنسبة لمجالى البصر واللمس، وإلى درجة أقل بقية الحواس.

* لكن محمد هنا يُشَغِّل خياله بطريقة إرادية جزئيا، فهى ليست فقط مدركات هلوسية أو فانتازيا خيالية لكنها فعل إرادى من مستوى وعى أعمق نسبيا، حتى فى إصداره أمر التخيل فى ثوان كما يقول.

“محمد”: هيا دى المواضيع ديه اللى تعبانى بس

د.يحيى : ماهو إحنا بنشوفها سوا أهه، مش يمكن معنى كده إن العلاقات اللى عملناها فى الجروب كانت مهمة، والدكاترة وانت وانا والعيانين عملوا شغل جامد، (يلتفت إلى طبيبة من الجالسين) مين اللى كان معايا يا ياسمين من الدكاترة

د.شريف: دكتور محمد عبد الفتاح وعلياء وولاء

د.يحيى :  طيب، يا محمد، مش احنا عملنا علاقات بحق وحقيق فى الجروب

“محمد”: علاقات؟ مش فاهم يعنى إيه؟

د.يحيى : يعنى اتصاحبنا يعنى (23)

 (23) يلاحظ أن استعمال كلمة “علاقات” غير مألوفة فى اللغة الشعبية بدرجة دالة، وكلمة صداقة أيضا غير كافية، ربما تعبير “إتصاحبنا” هو الأقرب إلى ثقافتنا الشعبية خاصة وأكثر دفئا، بصراحة الذى يتخلق أثناء العلاج الجمعى خاصة فيما يتعلق بالعامل الجامع للجماعة ليس له اسم واحد متفق عليه، فهو من ناحية تفاعلات جدلية متراكمة خلاقة، ومن ناحية أخرى هو ينشأ تدريجيا متشعبا مستمرا بأجزاء شديدة الضآلة لكنها بالغة الجاهزية للتشكيل والإبداع، ومن ناحية ثالثة هو شىء عصى عن الوصف بالألفاظ حتى بعد نموه نموا كافيا، ربما يصلح أن نشبهه بما يجرى داخل الرحم وهو يحيط بالجنين إذ يتخلق شهرا بعد شهر، بل يوما بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة بل أقل. أقرب اسم له الآن عندى هو “الوعى الجمعى” الذى يحافظ على بقاء  الجماعة كلها بقدر ما يحافظ على علاقة الفرد بالجماعة وقد أصبح وعيه جزءًا منها، الذى يفرق بين وعى البشر  الجمعى وغريزة القطيع هو أن الكائن البشرى يمارس برنامج الدخول والخروج طول الوقت من الوعى الشخصى إلى الجمعى وبالعكس طول الوقت، لكنه ليس دخولا وخروجا بنفس المسافة وإلا أصبح سيرا فى المحل داخل دائرة مغلقة.

“محمد”: آه اتصاحبنا، كنا بنتكلم مع بعضينا ومش عارف إيه

د.يحيى : عليك نور أهو “مش عارف إيه” دى هى اللى فيها البركة، عشان احنا مش كنا بنتكلم وبس، دا احنا كنا بنحس مع بعض ونشارك مع بعض، ونشيل هم مع بعض، ونتالم مع بعض، ونفرح مع بعض، ونفرح لبعض، أدى معنى اللى كان بينا، وكل حاجة رايحة جايّة حتى لما بِعِدْنا عن بعض، فضلت حاجات كفاية.

“محمد”: إمال ليه الحاجات ديه اللى انا فيها دلوقتى ظهرت من جديد

د.يحيى : جديد إيه يا راجل، إنت شاب عمرك ماارتويت من الناس اللى بصحيح، ولا وصلك حقك زى ما ربنا خلقك

“محمد”: آه

د.يحيى : كله طيـَّارى، ولما تتزنق تقوم مقفول على نفسك منه فيه، مش كنت بتعمل العاده السريه مرتين فى اليوم

“محمد”: أيوه، بس الكلام ده ماكنش فى دماغى خالص

د.يحيى : رحت قافل باب الصحوبية، ومْزَحْزَح العواطف بعيد، وقلبتها جنس منه فيه

“محمد”: آه، يعنى إيه؟

د.يحيى : يعنى عمرك يا محمد ما إرتويت بالناس أو مع الناس، وأبوك ساب أمك بدرى بدرى، يعنى يا ابنى طلعت لقيت البيت ناشف مما جميعه

“محمد”: آه مع إنى قدامى إنى أعمل الحكايه ديه، وصحابى كتير بيعرضوا عليا الكلام ده بس أنا مش عارف، مش فى دماغى الحاجة دى

د.يحيى : هوا انت فاهم انك لوعملت الحاجه دى زى اصحابك يعنى، الحاجة دى حاترويك؟ ولاّ هِيّا لغْوَصَه وطرطرة، وأبوك عند أخوك

“محمد”: هوّا انا يعنى أنا مثلاً لو عملت الحاجات ديه، الحكايات ديه تروح

د.يحيى : بصراحه لأ، خلى بالك اللى انا باقوله ده هو معلومات مهمة، مش بقولك اخلاق ولاّ دين ولاّ حرام وحلال.

“محمد”: يعنى حاتفضل هى هى حتى لو عملت الحاجة دى

د.يحيى : ويمكن تزود المصايب مصيبة من نوع تانى، أنا مش باقولك ده علشان ماتعملهاش ولا تعلمها، أنا العلم بتاعى بيقول إنك مش حاتتروى، ويا إما تلغيها، يا إما تخش فى ندم وذنب وكلام من ده

“محمد”: إمال اعمل إيه؟

د.يحيى :  البنى آدم يا محمد محتاج بنى آدم الأول، وبعدين جنس مش جنس ده كله له تنظيمات حسب الواقع، يعنى هوّا الجروب اللى كنا فيه كان إيه، مش كان بنى آدمين مع بعض، شايلين همّ بعض، واللى فيه الخير يقدمه وربنا

“محمد” : آه صحيح

د. يحيى: وبعدين لما انت بعدت عننا كنا لسه جواك، وبعدين غبت مدة، لا بتشوف دكاترة ولا زمايلك، ورجعت عمال تشتغل زى الحمار زى زمان، وحتى الشغل ابتديت تفاصل فيه (24)

(24) لابد من مراعاة أن مثل هذا الحوار لا يصلح مع أى مريض، وأن حضور محمد وتوثق علاقته بالطبيب وحدة درايته البصيرية هى التى سمحت به، فضلا عن أن هذه المقابلة ليست علاجية خالصة، لأنها تتم فى حضور وعلى مرأى من الأطباء الأصغر والدارسين (ليس أكثر من عشرة)، ثم إنها ليست لها أساس تنظيرى محكم بقدر ما تبدو تطبيقا إكلينيكيا فى محاولة الربط بين اختفاء الاعراض ثم ظهورها أو إبدالها مع فقد جرعات تدعيم العلاقاتية التى كانت تحتوى حركية عواطف واحتياجات المريض بما يتيح له فرص تأجيل أو توجيه مسارها حسب ظروف  تطور حالته ومراحل علاجه.

* كما يبدو أن الوحدة والجوع إلى الناس الذى زاد بعد انقطاع صلته بالجروب يمكن أن يكون مثيرا لتحريك هذه الخيالات البديلة، والتى بدأت فى شكل فانتازيا (صور خيالية) جاهزة للتحول لهلوسات حسية حقيقية.

* على أن الربط المباشر بين غياب التغذية العلاجية بالناس وظهور هذه الخيالات ليس سليما على طول الخط، حيث أنه توجد عوامل أخرى ترابطية طولية وآنية تتداخل بشكل غير مباشر ولا يمكن الكشف عن أغلبها فى مثل هذه المقابلات المتباعدة، بل قد لا يفيد الكشف عنها لتبرير هذا الربط المباشر حتى إذا توافرت السبل.

* وبرغم كل ذلك فإن استجابة محمد للحوار بهذه السلاسة قد تكون دليلا على نمو علاقة إنسانية علاجية قوية قادرة على توصيل جرعة أعمق لما وراء هذا الشرح النظرى المباشر  بشكل أو بآخر.

“محمد”: يعنى دى نكسة ولا إيه؟

د.يحيى : الظاهر كده، بس أديك جيت وانت مستعد لها، قصدى واحنا مستعدين لها

“محمد”: إحنا مين؟ هوّا فاضل غيرى انا وانت؟

د.يحيى: يا إبنى الدنيا مليانه بنى آدمين، اهم الدكاترة اهم حوالينا ([8]) مانطقوش ولا كلمة، ولا همّا جروب ولا حاجة إنما تلاقيهم معانا طول الوقت، و انا قلتلك إنهم مش بيتفرجوا، دول بيقرّبوا غصبِنْ عنهم.

“محمد”: بس ده مش جروب

د.يحيى : جروب مش جروب، الناس لبعضهم (يلاحظ تسهيمه) انت رُحْت فين يا محمد

“محمد”: لأ مارحتش أنا معاك

د.يحيى : طب كنت باقول أيه؟

“محمد”: ربنا خلق الناس

د.يحيى : خلق الناس بس، ما تنفعش ، هو خلقهم لبعضهم يا راجل، واديك شفت بعينك

“محمد”: مش عارف، أنا حاسس إنى أنا عايز أضحك ليه مش عارف، مش عارف ليه، كمّل كلامك

د.يحيى : أنا مش رافض ضحكتك، بس مش فاهمها بصراحة

“محمد”: أنا مش عارف باضحك ليه، مش عارف ليه كده عايز أضحك مش عارف

د.يحيى : مبسوط؟

“محمد”: مبسوط من إيه؟

د.يحيى : ماللى باقوله؟

“محمد”: يمكن

د.يحيى : المهم: لما بننجح إن الناس تبقى لبعضيها الأمور بتترتب صح، هوّا الجروب بيعمل إيه يعنى؟ بيعلم الناس يرجعوا يبقوا لبعضيهم، ده يطلع، ده ينزل، واللى يفضل يفضل، حتى لما بنبعد عن بعض بنلحق بعض من جوه، لما بِنِتْوِحِدْ بنلاقى بعض برضه من غير ما نحس

“محمد”: لما بِنِتْوِحِدْ؟

د.يحيى : آه لما بِنِتْوِحِدْ، ما بِنِتْوِحِدْشِى

“محمد”: لما بِنِتْوِحِدْ، ما بِنِتْوِحِدْشِى يعنى إيه؟

د.يحيى : مش عارف، يمكن يعنى لما بنبعد عن الناس بنلاقيهم جوانا

“محمد”: مش فاهم حاجة خالص بس عارف تأثيرها…، أنا فاهم كل حاجة، يمكن عشان كده.. (يسكت)

د.يحيى : يعنى إيه بقى مش فاهم حاجة خالص، وفى نفس الوقت انا فاهم كل حاجة، دى تيجى إزاى بذمتك، تصور أنا مصدقك، والله مصدقك فى الاتنين، بس الجماعة دول (يشير إلى الأطباء) لما يسمعونا كده يقولو دا كلام مش ماسك فى بعضه، ولاّ ضد بعضه، إنما شوية شوية حايقدروا يفهموا إن اللى ما يفهمهوش النهاردة يفهموه بكره(25)

 (25) من المفيد أن ننتبه إلى طبيعة نوع الحوار الجارى، كما نلاحظ أن الطبيب حين يعلن عن عجز معرفته، ولا يسارع بالإجابات النمطية يقترب من مريضه أكثر، ثم إن هذا الحوار على ما يحتوى من جرعة كبيرة من التنظير ليس شرحا نظريا بحتا، لعل ما يسمح باستمراره وتواصله هو استجابات المريض التلقائية السلسة، فنذكر ونتذكر أن من أهم معالم العلاج الجمعى هو أنه لا يتوقف عند “الفهم” و”التفهيم”، ولا يتمادى فى الشرح والتأويل، وأن المجموعة تتعلم باستمرار  بالفهم وبعدم الفهم الظاهر  – كما ذكرنا –  ويستمر الحوار دون إعاقة، ويبدو ذلك هنا فى تقرير محمد “أنا مش فاهم حاجة خالص”، وفى نفس اللحظة “أنا فاهم كل حاجة”، ثم قبول المعالج هذا التصوير بعد تساؤل لم يقصد به البحث عن إجابة، كل ذلك يؤكد على نوع تعدد قنوات الحوار، وأنه مختلف أشد الاختلاف عن حوارات المناقشات والشرح والإقناع، وحتى الحاضرين للدرس أثناء اللقاء كان يبدو أنه تصلهم طبيعة ما يجرى عبر هذا التواصل الذى يمكن وصفه الآن أنه يجرى عبر الوعى البينشخصى، وهذا ما أعلنه الأستاذ آمِلاً فى مشاركتهم.

“محمد”: ماشى كمِّل كلامك 

د.يحيى : أخر مره جأت لك إمتى الخيالات دى

“محمد”: مش قادر أتذكر، يمكن كانت معايا فى الجروب لما كنت بحضر الجروب

د.يحيى : يا خبرّ!! وكنت مِكَتِّمْ عليها

“محمد”: أفتكر إن هيّا كانت معايا برضه فى الجروب، أفتكر كده

د.يحيى : فى الأول ولاّ فى الأخر؟

“محمد”: ممكن تكون فى الأخر، أيوه اكيد فى الأخر

د.يحيى : وبعدين؟

“محمد”: وبعدين راحت من غير ما ألاحظ

د.يحيى : طب ماتكلمتش عنها ليه فى الجروب

“محمد”: ما أنا كنت حاكلمك عليها من فترة

د.يحيى : اتكسفت؟

“محمد”: لأ ماتكسفتش، بس يعنى حاسس كده إن ماينفعش

د.يحيى : ماينفعش نجيبها “هنا ودلوقتى”

“محمد”: حاجه كده، حاجة كانت مانعانى مش عارف إيه هيّا

 د.يحيى : ربنا ستر

“محمد”: ازاى

د.يحيى : يعنى كنت عايز تعرى الدكتورات بناتى فى الجروب، ولا تعرى زميلاتك بنظراتك اياها؟

“محمد”: مش قوى كده

د.يحيى : أهو دا الكلام، باقولك لك إيه

“محمد”: إيه

د.يحيى : طب إيه رأيك لو سمحت لك إنها تيحى دلوقتى

“محمد”:  مش قادر، مابتجيش

د.يحيى: انا حبيت أورّى نفسى وأوريك إنك تقدر تجيبها وتقدر تمنعها، وانت مصحصح

“محمد”: باين كده (26)

(26) عودة مرة أخرى إلى آلية الإمراضية وتكوين الأعراض، ودور “إرادات” الوعى الأخرى فى تكوين الأعراض، واختيار المرض، فالمسألة ليست فقط أن “الجنون اختيار”، بل إن تكوين الأعراض عرضا عرضا قد يكون اختياراً جزئيا وموقفيا حسب تطور حالة كل مريض ومراحل وطبيعة علاجه، على أنه لابد من الانتباه إلى ان قرار اختيار “الحل المرضى” (اختيار المرض) هو ليس بأية صورة ادعاءً للمرض، وإنما هو تنفيذ إرادة شخصية تعرض بديلا نكوصيا أو انسحابيا يرد على ما اعتبرتْه هذه الإرادة الداخلية تماسكا ظاهريا واغترابا جاثما معا، وهى إذ تفعل ذلك تخرّب وتمزق كل ما عدَاها.

* هذا بالنسبة لمستوى “محمد فركشنى”

* أما بالنسبة لمستوى صناعة أعراض الفانتازيا التى جاء محمد يشكو منها فى هذه المقابلة وكذا بالنسبة لتفعيل الهلاوس، فهى تنتمى غالبا إلى قرارات جزئية مكملة أو داعمة لقرار المرض النكوصى أو الانسحابى أو التفسخى، والحوار هنا يتضمن احتمال إبلاغ المريض استطاعته استعمال إرادات إيجابية أخرى مدعومة بالوعى البينشخصى والوعى الجماعى، فى مواجهة هذه الإرادات الأخفى، وليس على حسابها على طول الخط، وبالتالى هو نوع من التدريب على القدرة على اختيار السواء، فى مقابل الاعتراف باحتمال فكرة اختيار المرض، فمن يمتلك مقومات وأدوات ومستويات الاختيار يمتلكها على الناحيتن، خاصة إذا ما اتسعت الرؤية وعمقت البصيرة.

د. يحيى: يبقى خلى بالك، إيه اللى بيساعدك إنك تمنعها، بصراحة قصدى إنك تستغنى عنـِّنَا

“محمد”: إنتم

د. يحيى: طب بالذمة شوف انت بتعمل إيه: بتلغينا، وتستفرد بنفسك، وتعملها، وبعدين تشتكى

“محمد”: ألغيكم إزاى! هوّا انا باشوفكم؟

د. يحيى: تلغينا من جواك

“محمد”: وانا أعرف إزاى إنى لاغيكم من جوايا

د.يحيى: لما تظهر الحاجات دى تبقى لاغينا فى الغالب

“محمد”: الظاهر كده، طب وأنا أعمل إيه، ما هو مافيش جروب دلوقتى

د. يحيى: يا راجل الناس ماليين الأرض، احنا مش قلنا الناس لبعضها، الجروب يا دوب عشان يعرفك على الناس وأهميتهم، الناس اللى جواك واللى براك

“محمد”: بس انت ماتعرفش الناس التانيه عاملين إيه

د.يحيى: عندك حق، أنا ما اعرفش زيك طبعا

“محمد”: طيب انا حاروح أشرب وأجى لك

د.يحيى : لأه أجيب لك ميه هنا

“محمد”: ليه

د.يحيى: عشان ماتهربش

“محمد”: طب ليه ما انا قاعد كده من الصبح عايز أشرب (27)

 (27) هكذا يتواصل الحوار فى نفس الاتجاه، ليوضح طبيعة الوعى الجمعى وبعض وظائفه: فمن ناحية هو قد يوسع مجال الرؤية لتشمل التوعية بمعنى اختيار المرض، ثم اختيار العَرَض، ثم المشاركة فى الوعى الجمعى، والائتناس به، ثم الوعى بأثر انسحابه من الوعى الجمعى الذى وسَّع الرؤية،

* ومن ناحية أخرى هو يبين فكرة أن الوعى الجمعى ليس خارجنا فقط، ولا يشترط لوجوده فاعلا استمرار وجود الجماعة نفسها التى أسهمت فى تخليقه حاضرة فى الواقع الممتد، لكن بمجرد تخليقه فإنه يستمر فينا ومعنا بطبيعته، وهو بدوره يسهم فى التصالح بين مستويات الوعى الذاتى، إذا توفرت شروط التأهيل وتصحيح المحيط العلاقاتى بشكل مناسب.

* وكل هذا يتدعم بتواصله – خاصة فى ثقافتنا – بالوعى الجمعى فالوعى الجماعى فالوعى الطبيعى فالوعى الكونى فالوعى المطلق إلى الغيب إلى وجه الله.

 

[1] – (يشير إلى طبيب وطبيبة من صغار الحاضرين للدرس تمت خطبتهما من أسبوع)

[2] – Symptom Shift

[3] – كان “محمد”:  قد حضر بغير موعد فاعتذرت له فى الممر أثناء انصرافى.

[4] –  Antedating

هذه الظاهرة تعنى أن المريض قد يحدد وقت بداية المرض، قبل وقت ظهور العرض بوقت سابق بمدة طويلة لقدومه للاستشارة أو لمعاناته أو إعاقته، بمعنى أنه يعلن أن المرض قد بدأ من شهور أو سنين، فى حين أنه لم يظهر على السطح (السلوك والشكوى) إلا من أسابيع مثلا. وقد حدد لى أحد المرضى، – وكانت حالة هوس – أن مرضه بدأ منذ الولادة، فى حين أن المرض كان قد بدأ منذ أسابيع وكأنه كان يتكلم عن صدمة الميلاد لأتو رانك، Otto Rank ثم حدد توقيت الشفاء من هذا المرض ببداية نوبة الهوس وكأن هذه النوبة قد حررته مما فرض عليه منذ الولادة.

[5] –  Imprinting

[6] – التعيين النشط Active concretization  وصفه سيلفانو أريتى فى كتابه: “تأويل الفصام”

– Silvano Arieti: “Interpretation of Schizophrenia”  U.S. National Book Award. 1974

 حين يقوم المريض (الفصامى عادة) “بتجسيد المجرد عيانيا” فيما يَمُثُل أمام حواسه، والمثل الذى أضربه لشرح هذه الظاهرة هو أن الشخص العادى حين يقف فى طابور الخبز مثلا لساعات، ويرى الناس يتزاحمون بدافع جوعهم وجوع أولادهم: قد يعقب على ذلك أن “الناس تأكل بعضها” أما الفصامى – مثلا- فقد يحكى أنه أثناء تواجده فى الطابور رأى المرأة التى أمامه وهى تقضم ذراع الطفل الذى تحمله امرأة أخرى تقف أمامها، وعلى نفس القياس هنا يمكن أن يتم تجسيد الخيال الجنسى إلى تعيين مجسم يصل إلى الحواس، وكأنه اتنقل من صورة خيالية إلى هلوسة حسية وجنسية.

[7] – طبيبة حاضرة المقابلة وكانت متدربة بنفس المجموعة العلاجية التى حضرها “محمد” “الجروب”

[8] – الحاضرون المقابلة (والدرس)

الفصل الخامس مواجهة اختيار الجنون وثمنه

الفصل الخامس مواجهة اختيار الجنون وثمنه

الفصل الخامس

مواجهة “اختيار الجنون وثمنه”

مشاركة بالصدفة، ودعم الفروض

……………………..

………………………

د.يحيى: ……. طيب دلوقتى أنت مجنون ولا مش مجنون؟! أنا عايز أعرف

“محمد”: أنا؟

د.يحيى: آه

“محمد”: أنا حاسس انى نص نص

د.يحيى: مافيش حاجة اسمها نص نص، لما الأمور توضح: العلاج يوضح

“محمد”: اللى انت شايفه

د.يحيى: انا شايف، إنك إنت مجنون، بس مجنون جدع وشريف

“محمد”: لأه، أنا مش عايز أبقى مجنون من أصله

د.يحيى: والله فكرة!

“محمد”: مش عايز أبقى مجنون عايز أبقى طبيعى

د.يحيى: باقول لك إيه: ما هو محمد فركشنى دى يعنى مجنون، يعنى الدنيا اتلخبطت عاليها فى واطيها، عشان كده ظهر محمد فركشنى بقيت مجنون.

“محمد”: مجنون بقى من ناحية إيه؟

د.يحيى: اولاً من ناحية إنك تعتقد معتقدات مش موجوده وتتمسك بيها

“محمد”: زى إيه؟

د.يحيى: زى أنهم بيحطوا لك سم فى الأكل، وأنهم بيبصولك، وبيشاوروا عليك فى الشارع والكلام ده، ومن ناحية تانية إنك تجسد الخيال لدرجة انه يغنيك عن الناس والواقع، ومن ناحية تالتة إنك تبطل شغل وتبقى عالة على غيرك مع إنك سيد الرجال، وتنسى إن الناس لبعضهم

“محمد”: ياه، وانا عملت كل ده؟!

د.يحيى: امال انا اللى عملته

“محمد”: أنا عايز أستوعب الكلام وعايز أفهمه، دانا كنت سريع الفهم كده وبافهم على طول      

د.يحيى: المسألة يا محمد مش مسألة فهم، يعنى هىّ حكاية “إن الناس لبعضيها” دى عايزه فهم،؟! وإذا كانوا لبعضيهم بحق وحقيق لا بيتجننوا ولا بيحتاجوا للخيالات، لكن ساعة ما ينسوا بعض ويسيبو بعض، الحكاية تتفكك وهّما كمان يتفككوا(1)

(1) هذا الاسلوب فى المواجهة المباشرة مع مثل هذا المريض/الصديق  له ميزاته لمن يحذقه، والكلام عن المرض العقلى باسم الجنون هو أقصر الطرق – بعد تكوين علاقة – للبدء من حيث ينبغى، وعادة ما يتقبل المريض العقلى هذه الصراحة بقبول طيب: فى حين أن الأهل عادة يرفضون ذلك، وقد يحتجون وقد ينصرفون مع مريضهم إلى غير رجعة، وكثيرا ما يلجأ بعض الزملاء لاستعمال مصطلحات أكثر علمية وأحيانا أبعد عن الحقيقة، يفعلون ذلك غالبا بحسن نية، لتخفيف الواقع على المريض وأهله، لكننى وجدت أن مثل هذه البداية الحالية التى تحمل احتمال الصدمة تساعد فى توثيق العلاقة مع المريض أكثر من أهله، وقد تصورت أن قبول محمد لهذه المصارحة قد يكون دعما لفرض أنه “اختار الجنون”، وبالتالى فإن تسمية الأشياء بأسمائها تبلغه الموافقة ضمنا على اختياره من حيث المبدأ، ثم يبدأ عرض شروط الموافقة بالتدريج بتحويل المسار إلى تهيئة اختيار بديل نحو صحة على مستوى آخر، غير الذى كسره الجنون، أى غير الاغتراب أو التهميش أو أىٍّ مما اضطره لاختيار هذا الحل (الجنون).

محمد هنا استوضح من الطبيب عن علامات جنونه، ثم أعلن رغبته فى العدول عنه “أنا مش عايز أبقى مجنون من أصله”، ثم إن الطبيب واصل شرح وجهة نظره فيما يعتبره جنونا، وهو: “الهدم” و”النكوص” “والإعاقة الجسيمة” و”الانسحاب من الواقع” و”تمزيق الواحدية”، ويبدو أن كثيرا من ذلك قد وصل إلى محمد، فسأل متعجبا: كيف أنه هو الذى “عمل كل ده”!، وكان رد الطبيب “إمال انا اللى عملته”، تأكيدا لرغبته فى أن تتحدد العلاقة العلاجية بالمشاركة الإيجابية الواضحة من جانب محمد بالبدء فى الوعى بمسئوليته عن اختيار الحل المرضى تمهيدا لمواصلة مسئوليته عن اختيار طريق العلاج.

مطلب محمد أن يستوعب الكلام وأن يفهمه هو مطلب عادى ومألوف لكن المبادرة من جانب الطبيب بأن “المسألة مش مسألة فهم “لها دلالتها التى أشرنا إليها عن طبيعة العلاج الجمعى خاصة، والعلاج عبر الوعى البينشخصى عامة، وأما الفهم فهو يمثل قناة متواضعة من قنوات التواصل المتعددة.

السائر فى ثقافتنا أن “الناس لبعضهم” هو من مقومات العلاج الجمعى ويتناسب مع ثقافتنا بوجه خاص، أما المباشرة بين ربط فاعلية أن الناس لبعضهم بكونها العامل الإيجابى الوقائى من المرض والجنون والهلوسة فهو ربط مبالغ فيه هنا من جانب الطبيب بشكل أو بآخر، وقد لا يُسمح به إلا فى علاقة قد عَمُقَت وتوثقت ربما مثلما وصلت إليه العلاقة مع محمد فى هذه المرحلة، ومع ذلك يظل أقرب إلى النصيحة أو الحكمة، الأمر الذى نتجنبه عموما فى العلاج، وبالذات فى العلاج الجمعى.

“محمد”: طب أسألك سؤال؟

د.يحيى: الأول إنت سمعت أنا قلت إيه، سمعت، مش فهمت

“محمد”: ماشى، بس حاسألك سؤال

د.يحيى: إسأل

“محمد”: هوّا أنا لو أتجوزت الخيالات دى تروح

د.يحيى: حَسَبْ

“محمد”: حسب إيه

د.يحيى: والله ما انا عارف قوى يعنى مش عارف بالتحديد أقول لك إيه

“محمد”: حسب إيه بجد

د.يحيى: حسب إذا كانت ست طيبه وعاجباك، وهيه عايزاك ، وده واصل لك ولآ لأ

“محمد”: بس انا عندى إحساس غريب أوى 

د.يحيى: (يكمل) وتكون مستحملاك وأنت كمان

“محمد”: عندى إحساس غريب أوى من ناحية الجواز، عندى إحساس غريب أنا باحسه من جوايا يعنى مثلاً حاسس إنى ماعنديش يعنى معنديش القدرة إن أنا أقدر أجامع، أنا حاسس بكده بس عارف إنه مش 100%، هو يمكن إحساس50% بس.

د.يحيى: خير وبركة إنه مش 100%، بس والنبى واحدة واحدة، ماتكركبهاش على نفسك دلوقتى، وساعتها يحلها حلال، بس برضه عندك حق فى الإحساس ده

“محمد”: انا مش عايز أبقى مهزوز فى الحاجة دى

د.يحيى: انا قلت لك واحدة واحدة لـَـحـْـسَن تخرب حكاية الجواز هى روخرة، ما انت كنت بتطربق “الأُوَدْ” فى النقاشه، اشمعنى يعنى فى الجواز مش حاتطربقها

“محمد”: على الله

د.يحيى: ما هو ربنا هوّا اللى مخلينا نكمل مع بعض كده زى ما انت شايف

“محمد”: مخلى مين؟

د.يحيى: مخلينى أنا وانت

“محمد”: بس؟ 

د.يحيى: والناس

“محمد”: ناس الجروب 

د.يحيى: أى ناس بحق وبحقيق

“محمد”: بس همّا فين

د.يحيى: جرى إيه بقى؟ ما احنا بنمثل الناس، كل الناس همّا ناس: خلقه ربنا، وده العلاج الأصلى بقى

“محمد”: لأ انا عايز ناس زى بتوع الجروب 

د.يحيى: لا دى مرحلة عشان تِعَرّفْنا إن الناس زى ما ربنا خلقهم، ما هو كل الناس ربنا خلقهم حلوين، واحنا اللى بنبوّظ الدنيا

“محمد”: هوّا ما ينفعشى إنى آجِى واستمر فى الجروب تانى؟ 

د.يحيى: لأ مافيش جروب تانى، الجروب أدّى دوره، وأدى احنا بنكمل

“محمد”: يعنى مفيش جروب، يعنى اللى فاضل إنى آجىء كده أشوفك وبس

د.يحيى: يا راجل افتح جهاز الاستقبال اللى بيستقبل الناس، حاتلاقى يامَا، ما هم الناس حواليك أهم زى الفل (يشير إلى الحضور من الدارسين).

“محمد”: ما انا جيت أفتح جت الخيالات

د. يحيى: انت ما فتحتوش على محطة الناس، انت فتحته الناحية التانية وانت جعان نسوان. (2)

 (2) انتقال محمد فجأة وبتلقائية من الحديث عن الجنون ومعالمه، وأيضا عن اختياره ومسئوليته، إلى اعلانه عن مخاوفه من اهتزاز قدراته الجنسية يطرح احتمال رغبته فى عدم مواصلة الحديث الأول مما قد يشير إلى علامة تؤكد المزيد من توثق العلاقة مع الطبيب، أما استجابة الطبيب فقد حملت جرعة مفرطة من التنظير فيما يتصوره لشروط الزوجة القادرة على إرواء احتياجات محمد  (أو أى واحد) بالتفصيل، شعرت الآن وأنا اكتب كل هذه الصفات المطلوبة فى الشريكة مرة واحدة وراء بعضها هكذا، شعرت أنه ما كان ينبغى علىّ أن أفعل ذلك، أقصد أن أرصّ كل هذه الصفات فى جرعة واحدة، وأرى أنه اسلوب غير موفق لا أنصح به بصفة عامة حتى لو كانت العلاقة قد توثفت إلى الدرجة التى وصلت إليها بين محمد وبينى.

د.يحيى: ألاّ قل لى يا محمد، هوا مين اللى حَبّك من يوم ما اتولدت.

“محمد”: ما فيش

د.يحيى: يا راجل!! حتى وانت طفل

“محمد”: انا مفيش طفولة أصلاً

د.يحيى: مفيش طفوله؟!!

“محمد”: لا لا لا، طفولة مين، دا ما مفيش طفوله، ولا فيه شباب من أصله

د.يحيى: ولا فيه مراهقة حتى؟

“محمد”: ولا فيه حاجة خالص

د.يحيى: بصراحة أنا راجعت أوراقك تانى وحسيت كده بالضبط، حسيت إنك اتْسَرَقْتْ

“محمد”: شُفت الأغنية بتاعت فريد الأطرش اللى بيقول لك فيها: أ”نا عمرً بلا شباب وحياة بلا ماض” أنا باحب أسمع الأغنية دى أوى، أنا عمرى فعلاً بلا شباب، يعنى عندى كام سنه أهه، ولا عمرى كنت شاب، أنا ساعت لما باسمع الغنيوه دى باعيط (واغرورقت عيناه).

د.يحيى: يا راجل صلىّ على النبى (3)

 (3) تعبير محمد إنه “مفيش طفولة أصلا” “ولا فيه شباب من أصله”، هو تعبير شديد الدلالة والدقة، وهو لا يربط ذلك بما حققه فى العمل ونال مقابله هذا القدر من التقدير لكفاءته ومهارته، واعتماد المعلمين عليه “محمد طربقها”، ولعل هذا ما دعاه أن يصر من البداية على أن الشفاء هو ببساطة العودة إلى ما كان عليه “محمد طربقها” فهو يعلن هنا فخره بمحّمد الماهِر المُنْجِزْ، لكن فى نفس الوقت يعترف أنه لم يكن أبدا طفلا، ولا شابا. الحرمان من الطفولة ومن الشباب يعنى تحديدا أنه لم يُسمح له أصلا أن يعيش كل مرحلة بما هى: بحقوقها ومتطلباتها واحتياجاتها وضعْفها وخيالاتها وسماحها وقواعدها، لا الطفولة ولا الشباب، وهو على تواضع تعليمه وانتمائه إلى الشريحة الأقل فى الطبقة المتوسطة يصف هذا الحرمان بشكل مباشر وحاسِمْ، حتى يستشهد بأغنية فريد الأطرش حتى تغرورق عيناه بالدموع.

“محمد”: لأ….، بس عايز أقول لك على حاجة محمد طربقها بتاع زمان… (يسكت)

د.يحيى: ماله؟

“محمد”: كان عايش حياته

د.يحيى: لا يا شيخ؟! كتك نيلة، ده كان شقى وبيستعملوه وغلبان وزى الفـُرْشـَه اللى ماسكها بالظبط، كان هو والفرشه واحد، حانهرّج! حياة إيه ونيلة أيه؟ إذا كان ولا فيه طفوله ولا فيه شباب بـَلاَ نيله، تقول لى كان عايش حياته؟! أهو كان مـِتـْلـَصِّـمْ، لو كان عاش حياته ماكنش أنكسر، حانهرج!

“محمد”: طب هو انكسر من إيه؟

د.يحيى: من إن هو ماكانشى عايش حياته، كان عايش عمال يطربقها لحدّ لما أتطربقت على دماغه (4)

  (4) يمكن من ذلك أن نستنتج كيف أنه لم يدخل إلى هذا الدفاع التعويضى بالمبالغة فى الانجاز ومضاعفة ساعات العمل ليحقق كل تلك المهارة التى شهد بها الجميع إلا مضطرا، لكنه حين دخله اعتبر أنها كانت حياة ناجحة تستأهل الفخر، ولا يوجد ما يمنع من أن تكون كذلك فعلا فقد عوّضته عن طفولته وشبابه، ونال من خلالها كل تقدير وتصفيق، لكن كما شاهدنا، فإن عمرها الافتراضى كان قصيرا، فانكسر الدفاع بسكين الحرمان والنسيان والترك والعَمَى، وحين يناقشه الطبيب ويذكره بأنه عاش حياته يلهث حتى نسى نفسه، فإنه يتقبل ذلك بطيبة وصدق وألم.

هنا أود التنبيه إلى أن هذا الأسلوب الصدْمِى ينبغى ألا ننصح باتباعه بلا شروط، لأن من حق أى إنسان حتى لو أفشله المرض لفترة أن يفخر بإنجازه حتى ولو لم يستمر، وشروط استعمال هذا الأسلوب هو أن تتوثق العلاقة بالمعالج لدرجة تسمح بهذه المواجهة الصادمة، وأيضا أن يكون هناك “شغل” (علاج) جارٍ لتخليق البديل المناسب الذى يمكن أن يحتوى مثل هذا الانجاز لصالح المريض وليس على حسابه.

“محمد”: بس كان فيه ضحك وكان فيه تهريج وكده

د.يحيى: ما هو كله بيضحك وكله بيهرج على قلة مفيش، وجوَّه فاضى، أول ما يخلص الضحك والتهريج، يا إما يتجنن يا إما يشوف خيالات جنسية، يا إما أى مصيبة تانية

“محمد”: هو ماكانش فيه خيالات ولا كان فيه الكلام ده عند محمد طربقها

د.يحيى: ما أنا عارف، كان كله متغطى

“محمد”: ولا أصوات ولا الكلام ده

د.يحيى: هوّا انت فاهم إن الخيالات دى جايه دلوقتى؟ الخيالات دى عندك من بدرى بدرى، عند كل واحد، وساعات بتطلع فى الحلم، وساعات زى ما انت شايف

“محمد”: يعنى هيا طبيعيه يعنى؟

د.يحيى: آه، جزء من وجودنا بس أمتى بتطلع وامتى بتستخبى، واحنا صاحيين ولا واحنا نايمين، هوه ده المهم (5)

 (5) هذا المقطع يظهر منه ضمنا كيف أن محمد قد تحرك نحو موقف نقدى موضوعى، ففى حين أنه يفخر أن محمد طربقها حتى لو صدق كل ما قاله الطبيب عنه وأنه كان “متلصم” ومش عايش حياته، إلا أنه حتى وهو “متلصم” كان يضحك ويهرج ولا توجد أعراض: “لا خيالات ولا أصوات ولا الكلام ده”، وفى نفس الوقت نلاحظ قبوله للرأى الشارح حتى وصل إلى أن “خبرته فى المرض إلى هذه الدرجة يمكن أن تكون لها جذور طبيعية يعنى”.

 تلاحظ أيضا أنه أصبح يتكلم عن الأعراض من على مسافة وكأنه بدأ يعاملها فعلاً على أنها حادثة لها دلالتها أكثر من أنها حقائق جاثمة ينبغى أن يدافع عنها، لكن الطبيب ينتقل به إلى العودة إلى أصل هذه الأعراض وليس مجرد الرضا باختفائها وإحلال الضحك والتهريج (والعمل والسخرة محلها) مثلما كان الحال قبل المرض، (محمد طربقها) وهكذا نجد الحوار بتوجه بقبول هذه الأصوات والخيالات على أنها جزء من وجودنا الداخلى، مما يعتبر خطوة على طريق التوليف المحتمل.

“محمد”: أنا نسيت أقول لك أنا رحت لشيخ وكده، دا كان قبل ما آجى هنا خالص، وقال إنى عندى جنية وكده.

د.يحيى: وبعدين؟

“محمد”: ما انا لما قلت لك عليها، انت وافقت…

د.يحيى: أيوه إنت قلت لى، بس أنا ماوافقتش إنها جنية، انا وافقت انها موجودة بس أنا باسميها أسامى تانية

“محمد”: مش فاكر، لا إنت وافقت

د.يحيى: لا أنا قلت لك سميها انت زى ما انت عايز، وأنا أسميها زى ما انا عايز، بس نعترف بيها احنا الاتنين            

“محمد”: جايز

د.يحيى: أنا باوافق على الخبرة، إنما من حقى أترجمها بقى لشغلى، وانت زى ما انت عايز

“محمد”: بس أنا حاسس إنها جنيه معايا فعلا

د.يحيى: حِسّ زى ما انت عايز، بس باين عليها مش نافعة، وإلا بتشوف خيالات قلة أدب، وتعرى النسوان فى الشارع ليه؟

“محمد”: ولاّ هيّا الحاجات دى فى عقلى الباطن، ولا إيه مش فاهم

د.يحيى: انا ما باستعملش حكايه عقل باطن وظاهر، اهو عقلك التانى وخلاص، وانت مسئول عن كله

“محمد”: يعنى الحاجات اللى أنا باحس بيها دى والحاجات الغريبه دى يعنى…

د.يحيى: مالها؟

“محمد”: حاجات طبيعيه يعنى، ولا دِى عادِى

د.يحيى: طبيعية فى إنها موجوده وخلقة ربنا، ومش طبيعية لما تظهر بالشكل ده وتبقى برّه برّه، وتلخبطك

“محمد”: بس أنا عايز أقول حاجه: الحاجات دى ساعات بتزيد وساعات الحاجات بتقل

د.يحيى: ما هو تبع الجوع للناس، لما يكون مافيش ناس خالص تزيد، لما يبقى فيه ناس بحق وحقيق بتقل. (6)

 (6) فى تجربتى وجدت أن هذا الاسلوب ينجح فى ثقافتنا أكثر، إذ بدلا من دمغ الهلاوس بالذات (والضلالات أحيانا) بأنها مجرد أعراض جنون (ذهان) صريح، وخلل فى التفكير أو الإدراك، ويكون كل همنا التخلص منها وبأسرع ما يمكن، يبدأ قبول وجودها باعتبارها خبره معيشة مادامت هى فى مستوىً ما من وعى المريض وصلت إلى وعيه الظاهر، وهذا يتضمن درجة من قبول تفسيرات الطب الشعبى لأنه يبدأ من نفس البداية، لكنه يتمادى إلى تضخيم وجودها على أنها تأتى من خارج المريض، وأن المعالج وليس المريض هو المسئول عن صرْفها، وبالتالى تزيد سلبية المريض واعتماديته على مجهول غامض، فضلا عن مضاعفات أخرى كثيرة، من هنا نبدأ فى الاختلاف، وعادة أنا لا أطيل النقاش والشرح للمريض لبيان الفروق بين لغته، ولغة العلاج الشعبى، ولغة العلم، فقط استسمحه وأنا أقبلها أن أصر أن اسميها بأسماء أخرى، ولا أسارع بذكر الاسماء التى اسميها بها تحديدا.([1]) ثم أواصل التعامل معها على أنها موجوده، وهنا والآن، مع إشاره متكرره أنها فى الداخل، ثم نعمل معا على استيعابها فى عملية التخليق كما لاحظنا فى البداية حين قبل معظم أعضاء الجروب([2]) كل المحمدين، وأحبوهم.

…………………

…………………

“محمد”: هوّا انا مسئول عن كده؟

د.يحيى: ربنا حايحاسبنا حايحاسبنا، مجنون حايحسبك، نفسانى حايحاسيك، ومن دلوقتى مش بس فى الآخرة.

“محمد”: ياه!!

د.يحيى: ….. زيك زى الجماعة دول، (يشير إلى حضور المقابلة من الدارسين) حايحاسبهم على اللى بيعرفوه وعلى اللى مارضوش يعرفوه، برضه هوّا حايحسبك حايحاسبك، عملت الغلط حايحسبك، ماعملتش الصح الحلو حايحسبك، مافيهاش فصال، يعنى على كل اللى انت فيه

“محمد”: ماشى، بس أنا مريض؟

د.يحيى: هو عارف كل حاجه

“محمد”: ماشى، بس حايعذرنى لما اشرح له.

د.يحيى: هوّا مش مستنى شرح، ولا مستنى محامى، ولا وكيل نيابة (7)

 (7) غالبا فى ثقافتنا نجد حضور “الله” انطلاقا من “هنا والآن” أمرا بديهيا وإيمانيا فى نفس الوقت، ويمكن مواكبة ذلك من منظور الوعى الممتد. مرة أخرى، وهذه المسألة مرتبطة بالثقافة الشعبية والثقافة الإيمانية المصرية والعربية غالبا، ذلك أنه يبدو أن لهذه الثقافة دور فى الانتماء إلى عملية استعادة الهارمونى، أى الشفاء، ولم أجد فى ممارستى مع ناسنا – إلا نادرا– من يعترض على هذه اللغة أو يرفضها، وحتى الذين فى مرحلة الشك يلتقطون جذورها ويستشعرون ربحها فتصلهم جدواها التى لا تتعارض حتى مع شكوكهم (حتى يهتدوا أو لا يهتدون)، لكننى لاحظت أنهم إذا أمكنهم أن يكونوا أوصياء على تفكيرهم ومنطقهم المعقلن، فإنهم لا يملكون نفس قدرة الوصاية على طبقات وعيهم كلها، والتأكيد على مسألة الحساب (حايحاسبنا حايحاسبنا) لا يقصد به هنا، ولا يصل أبدا إلى أنه، حساب الآخرة فحسب، بل هو حساب كل لحظة إلى آخر اللحظات التى ليس لها آخر.

“محمد”: أنا قصدى إن أنا بازْنِى بعقلى الباطن

د.يحيى: مافيش باطن وظاهر فى الحساب، ما هو الباطن هو إنت برضه، ولاّ حانهرج، خلينا نشيل المسئولية عشان تخف، إوعى تقول الكلام بتاع النفسيين ده تانى، إحنا متحاسبين متحاسبين على اللى جوه واللى بره، الباطن والظاهر، خلينا نعيش واحنا بنعرف ربنا بحق وحقيقى، عشان نِتلم، طبعاً ربنا زى ما حايحسبك حايحاسبنى، يعنى مثلا لو أنا ماجتش إنـِّهـَارْدهَ أقابلك كان حايحاسبنى، إنت فاهم إيه، حايحاسبنى على الظاهر والباطن زيك تمام ولاحد حايشفع لى، حتى لو أنت سامحتنى إنى أتأخرت عليك.

“محمد”: ياه!! أهى دى الأصول

د. يحيى: واحنا بنستعين بالأصل والأصول

“محمد”: أنا نِفْسِى وباتمنى

د.يحيى: سيبك من التمنى ده

“محمد”: طيب بلاش التمنى، خلينا فى: أنا نفسى

د.يحيى: خلينا هنا ودلوقتى

“محمد”: أنا نِفسى نِفسى يعنى

د.يحيى: يا جدع أنت سيبك من نِفسى دى، حكاية نِفسى دى ممكن تأجِّـل كل حاجة بتحصل هنا ودلوقتى، احنا مع بعض يبقى نعيش، نحترم كل حاجة فى الثانية دى

“محمد”: فى الثانية دى !! ياه!! واللى فات؟ والتعب اللى تعبته طول عمرى

د. يحيى: أيوه يا محمد يا ابنى عندك حق، أنا لما قريت تانى الكلام اللى فى أوراقك لقيته شَقَى شَقَى، يامحمد من يوم ما أتولدت وأنت شقيان ومافيش أم، وانت عارف أبوك عمل إيه، الله يخرب بيته، ويكون فى عونك

“محمد”: ولا كان فيه أب ولا فيه نيله

د.يحيى: بالظبط، بس فيه رب، مافيش أب بس فيه رب

“محمد”: أكيد

د.يحيى: مش كفاية أكيد دى، لو واصلالك كنا اتصاحبنا أكثر، والخيالات دى كانت بِعْدت شوية وبقت حاجه تانيه، وكنت ما بقيتش مهزوز وخايف لما تتجوز ومش عارف إيه، ما هو كله مرتبط بكله، باكلمك جد. (8)

   (8) برغم أن الكلام يبدو غامضا مثل “كله مرتبط بكله” إلا أنه يبدو أنه يصل للمريض بسهولة أكثر من المناقشات المعقلنة، كذلك الربط بين حضور الوعى المشترك البينشخصى والوعى العام إلى وجه الله (شعبيًّا وإيمانيا ووعيا!) يعرض على المريض بلا فذلكة علمية ولا تقعير دينى شكلى! فيرد المريض ببساطة بما وصله، ويتوثق التواصل.

“محمد”: أنا فاهم

د.يحيى: (يشير إلى الحضور) إمال ليه الدكاترة دول مش فاهمين، هما أحرار، بس أنا لما كنت قدهم ما كنش فاهم زيهم، بس تصدق بالله، أنا عرفتها شوية شوية من محمد طربقها وكل المحمّدات اللى صاحبتهم وعالجتهم. (9)

(9) أكرر مرارا أننى أتعلم من مرضاى، وما أتعلمه ليس فقط معلومات عن الصحة والمرض، وإنما معرفة عن الوعى والإيمان والفطرة وحركية الإبداع، برغم أنهم مبدعون فاشلون مُجهضون، وحين أخبر “محمد” – مثلا – بهذه الحقيقة فأنا أبلغه ما أكرره، وفى نفس الوقت احترم تلقيه الذى لا أشك فى نوعه ولا أبالغ فى قيمته، لكن له دلالة شديدة الأهمية على طريق إرساء علاقة حقيقية.

****

……………………

……………………

“محمد”:  (يضحك) إنت عارف أنا باضحك ليه

د.يحيى: ليه؟

“محمد”: مش عارف،…. أنا باكلمك بجد والله

د.يحيى: أنا شايف إنك مبسوط من كلامنا وقعدتنا، يمكن بتحبنى

“محمد”: مش عارف

د.يحيى: إلا قل لى: هوّا أنا باحبك؟

“محمد”: آه 

د.يحيى: على فكرة، تصدّق إن ده مهم عندى من غير ما نقوله، أصل المهم هوّا اللى بيوصل لك صح، مش اللى أنا باقوله، تعرف: أنا حاصعـّبها عليك، أصله لو واصل لك إنى باحبك فعلاً، يبقى ماتطلعش لك خيالات تانى، يعنى لو مِصَدَّق إنى انا باحبك زى ما وصلك فى الجروب مننا كلنا، حاتلاقى مافيش لزوم للخيالات.

“محمد”: بس أنا باحبك بصحيح

د.يحيى: ما انا عارف إنك بتحبنى، زى ما أنت عارف إنى باحبك (10)

 (10) الكلام عن الحب هكذا ليس مطلوبا عادة، مع أنه لا تبدو فيه فرط الاعتمادية، وهو من ناحية متبادَلٌ، وهو من ناحية أخرى يبدو امتدادا للتواصل الذى حدث فى الجروب “زى ما وصلك فى الجروب” وكأن الطبيب يحاور (يتواصل مع) المريض بالأصالة عن نفسه، والنيابة عن الوعى الجمعى مرة أخرى إلى الوعى الجماعى…إلى ما بعد ذلك…الخ، لكن التحذير من استعمال لفظ “الحب” بالذات أثناء المقابلة والعلاج لا يأتى من أنه بعيد عن وصف العلاقة الجارية، وإنما لأن كلمة “الحب” كما غلبت فى ثقافتنا مؤخراً، وربما بصفة عامة، كادت تفقد معادلها الموضوعى ومصداقيتها، الذى جرى فى هذا الحوار لا يتصل مباشرة بما يسمى “حب” عادة، بقدر ما يُظهر سلاسة ودرجة التواصل عبر الوعى البينشخصى، كما أنه لا يصح أن يـُترجم إلى ما يسمى “الطرْح”([3]) بلغة التحليل النفسى، لأن هذا الوجدان المُتَخَلِّق ليس مجرد نقلة لمشاعر سابقة إلى موضوع آنىّ (الطرح!)، وإنما هو تخليق لتواصل وعيين فأكثر “هنا والآن” من جديد.

“محمد”: لو انت بتحبنى…

د.يحيى: (مقاطِعَا) الخيالات ماتجيش

“محمد”: دى حاجة يعلمها ربنا بقى

د.يحيى: طبعاً ربنا بيبارك فى الصَّـح، نعمل حاجه صح كده زى ما اتخلقنا، تروح كـَبـْرانه برضاه وبرحمته، هنا ودلوقتى.

“محمد”: تصدق وتآمِنْ بالله:

د.يحيى: لا إله إلا الله

“محمد”: أنا باحبك أكتر من أبويا

د.يحيى: ما أنا عارف

“محمد”: أنا ماباحبش أبويا أصلاً

د.يحيى: ما أنا عارف، بس….

“محمد”:  (مقاطعا) بكلِّمَك بجد والله

د.يحيى: خلّى بالك، إنت كده بتخففها: أصل لو ما باتحبش أبوك خالص خالص، يبقى بتحبنى اى كلام، يعنى أى شوية حب يبقوا أكتر من أبوك، يبقوا تمام التمام

“محمد”:  أنا ماباحبوش كده، بكلمك بجد

د.يحيى: بصراحة أنا مبسوط من حكاية “كده” دى، “ما باحبوش كده”، زى ما يكون الحب أنواع

“محمد”:  أنا صريح

د.يحيى: دا واصلنى من غير ما تقول

“محمد”:  طب ليه ماباحبـِّش أبويا

د.يحيى: أوووه!! دى حدوته تانية بقى، خلينا فى النهارده

“محمد”:  بس دى حكاية..

د.يحيى: برضه خلينا فى هنا ودلوقتى

“محمد”:  هيّا ليها تفسير عندكم فى علم النفس والكلام ده

د.يحيى: تانى!!؟ نَفْس إيه ونيلة أيه؟ إنت معلق على حكاية نَفْس ونَفْسِية، ما احنا قلنا مافيش حاجة اسمها “محمد نفسية” تعلق عليها كل خيبتك، عشان كده نبعد عن حكاية النفس دى خالص، خلينا فى ربنا، وعلاقتنا مع بعضنا، والخيالات، والجوع، والدكاترة، والشغل.(11)

 (11) نلاحظ: رجوع المريض إلى محاولة التبرير والتفسير باستعماله تعبير “علم النفس” – وما إليه- كما يتصوره، وكأن كل الذى يطلبه هنا هو: “هِيّا لها تفسير عندكم”، ولعلنا نذكر كيف رفض الطبيب وبشدة محمد “نفسية” فى الوقت الذى قبل فيه كل المحمديِنْ، وبديهى أن رد الطبيب هنا عرض بديلا مكثفا صعبا حين قال: “ربنا، وعلاقتنا، والخيالات، والجوع، والدكاترة، والشغل” فهل يا ترى وصلت هذه الجرعة بكل هذا الازدحام إلى المريض، وكيف؟

“محمد”:  آه، صحيح، الظاهر كده

د.يحيى : لو الحاجات دى تلمها على بعضها، الأمور حاتمشى، ولا تقولّى نفسيه ولا مانفسياش

“محمد”:  إنت عارف انا عايز أقول لك، عايز أقول لك الكلام ده من أمتى

د.يحيى : من امتى؟

“محمد”:  من فتره

د.يحيى : ما أنا عارف

“محمد”:  من فتره وانا باتخيل إن أنا هنا، وباقول، وقاعد أتكلم عادى، مفيش اى حاجه، وعادى عايز أقول حاجه للدكتور يحيى، أتخيل إنى قاعد كده وحاطط رجل على رجل، وباتكلم، وأنا جاى فى المواصلات وأنا فى البيت وأنا نايم وأنا صاحى مش فاهم يعنى أنا الحاجات دى بتتعبنى ساعات.

د.يحيى : يعنى أنا بقيت ضمن الخيالات يالَهْ

“محمد”:  ههه؟ أيوه

د.يحيى : بس إوعى تكون بتتخيل خيالات جنسيه عنى، إعمل معروف هههههه (ضحك)

“محمد”:  (ضحك) هههههههه لأ دى خيالات تانية

د.يحيى : بينى وبينك الظاهر فيه علاقة بين الخيالات دى والخيالات دكهه، أهه ده جوع وده جوع، هى واحده فى أًصلها بينى وبينك، يعنى، إنما تفرق….

“محمد”:  مش فاهم

د.يحيى : ما هو الجوع لبنى آدمين ساعات يظهر فى شكل جنسى، وساعات يظهر فى شكل علاجى، وساعات يظهر فى شكل ودّ وحنّيه، واحنا بقى ندور على المصدر الحقيقى المناسب اللى بيِسدّ الجوع ده، لأن لو سبنا الحكاية كده راح تتملا بأى حاجة مِنْ جُـوَّه والسلام

“محمد”:  آه، باين كلها واحد

د.يحيى : بتقول إيه؟ يا راجل دانا مستصعب الكلام ده على الدكاترة، وساعات ألاقيه صعب حتى علىَّ شخصيا، يقوم يوصلك كده بالسهولة دى؟ إمال إيش حال لو قلت لك أنه ساعات يظهر فى شكل إيمان.

“محمد”:  ما هو صحيح كلها واحد

د.يحيى : يا راجل دانا باجرجرك فى الكلام، تروح واخدنى على قد عقلى وتقول لى كلها واحد، يا رب تكون بتقصدها بصحيح عشان الدكاترا يفهموا (12)

(12) كانت مغامرة أن تطرح كل هذه الجرعة من النفسمراضية التركيبية ومالها من أهمية لاختبار نوعية “العلاقة البينشخصية” (التى تسمى أحيانا “العلاقة بالموضوع”)، كانت مغامرة أن تطرح بهذه المباشرة على مريض بهذا المستوى التعليمى والثقافى والاجتماعى المتواضع، لذلك ظهر الشك على الطبيب أن المريض يوافقه “والسلام”.

لكن لم يتم الربط هذه المرة بين ظهور الخيالات وبين غياب الموضوع أو جفاف العلاقات، ويبدو أن الجرعة فعلا كانت زيادة، إذ أن المريض راح يتراجع تقريبا عن أن “كلها واحد”، وربما يكون قد اكتشف دون أن يقترح الطبيب – أن الخيالات أو الهلاوس – قد ضـُمّنت فى “كلها واحد”

“محمد”:  بس الخيالات الجنسيه دى حاجه تانية

د.يحيى : ليه بقى؟ ما انت لسه قايل كلها واحد

“محمد”:  خيالاتى معاك إنت حاجه تانية

د.يحيى : يعنى مش واحد؟

“محمد”:  لأ مش واحد

د.يحيى : أمال قلت واحد ليه من شويه

“محمد”:  ماكنتش مركِّز

د.يحيى : ولاّ بترجع فى كلامك، ولا يمكن الاثنين موجودين جنب بعض، زى ما قلت قبل كده: “مش فاهم” و”فاهم”، يمكن هنا برضه “كلها واحد”، و”مش واحد”، بصراحة المسألة دى صعبة ومن حق الدكاترا إنهم ما يفهموش، عشان كده بيتلخبطوا، إنما المجانين اللى زيك بيفهموها دى بالذات.

“محمد”:  ازاى بقى؟!!!

د.يحيى : ما هو كله جوع،….. جوع للبنى آدمين

“محمد”:  جوع إزاى؟

د.يحيى : جعان بنى آدمين، وعطشان كمان بنى آدميين، يا إما تتغذى وتشرب خلق الله، يا إما تشرب من كيعانك([4])، وبعدين لما يزيد الجوع والعطش: تنشف من جوّه: تروح مشقق ومتفركش زى ما حصل واتجننت وبقيت محمد فركشنى

“محمد”:  (ضحك) بس انا مش مجنون أوى يعنى

د.يحيى : هوّا فيه مجنون قوى ومجنون نص نص 

“محمد”:  مش مجنون اوى زى زمان

د.يحيى : هوّا أنت يخرج من يدّك تتجنن تانى؟ ما خلاص راحت عليك! كتك نيله

“محمد”:  طبيعى برضه، مفيش اى حاجه من دى. (13)  

 (13) نلاحظ أولاً أن إقرار الطبيب بحق المريض (أو الحق عموما) فى أن يفهم ولا يفهم فى نفس الوقت، أو أنها كلها واحد وكلها مش واحد فى نفس الوقت وهو ما يسمى بحركية التناقض، وهو أقرب إلى ما تتصف به حركية الإمراضية، وهى مرحلة مشتركة بين المجنون والمبدع،

لكن فى حين أن المجنون قد يفهمها ويقبلها بطريقته ولو نسبيا ثم يتوقف عندها أو يشكو منها، فإن المبدع يحتويها ويشغـِّلها فى جدل خلاق حتى تتضفر إلى وُلاف أنضج، وبهذا يمكن أن نقبل إقرار محمد بقبول التناقض هكذا، وفى نفس الوقت صعوبة ذلك عند الشخص العادى (الممثل فى الحاضرين مثلا) نفهمه على حقيقته ودلالته بالنسبة للمريض فى هذه المرحلة.

ثم إن هذا المقطع يرجعنا أيضا إلى قضية “اختيار الجنون” وهنا إشارة إلى “اتخاذ قرار الجنون”، والمدهش أيضا أن المرضى وخاصة الذهانيين يقبلون هذا الاحتمال أثناء العلاج دون شعور بأنهم متهمون أو متمارضون، وهم يقبلونه بالمعنى الذى سبق شرحه فيما سبق، أكثر مما يقبله أو يفهمه الأشخاص العاديون، وأكثر من الإعلاميين، وأكثر من كثير من كثير من الأطباء النفسيين والمعالجين.

 وذات مرة أثناء علاقة طويلة مثل هذه قال لى مريض حميم بعد أن تطورت علاقتنا هكذا، “الله يجازيك يا دكتور، إنت قفِّلت علىَّ السكك، ما عنتش قادر اتجنن”!!

****

[1] –  أسميها: حالات الذات، أو حالات العقل، أو منظومات الوعى.

[2] – بدأت استعمل لفظ “الجروب” بدلا من استعمال “المجموعة العلاجية” والذى شجعنى على ذلك أن المرضى جميعا يستعملونها منذ بدأت معهم على أنها كلمة معربة (فأهلا بها).

[3] – Transference

[4] – “تشرب من كيعانك” تعبير بالعامية المصرية، شائع فى هذه الطبقة ويعنى يصيبك الأذى والحرمان والاحباط (تقريبا).

الفصل السادس الحزن الحيوى على مسار التعافى

الفصل السادس الحزن الحيوى على مسار التعافى

الفصل السادس

الحزن الحيوى على مسار التعافى

(يحول دون التفسخ)

المقابلة الأخيرة: بتاريخ 16/10/2008

د.يحيى: إزيك يا محمد

“محمد”: الحمد لله 

د.يحيى: انت النهارده خدت إجازة من الشغل من غير إذنى؟                        

“محمد”: آه، أنا إنهاردا خدت إجازة بعد إذنك عشان اكمل اللى قلته لك امبارح

د.يحيى: بس أنا ما أذنتش لك تسيب الشغل، ثم إيه اللى مقعدك هنا يابنى بدرى كده فى البرد ده من الساعة 7 الصبح.

“محمد”: لأ مش من الساعة 7 أنا هنا من الساعة 6

د.يحيى: هنا بتعمل إيه؟

“محمد”: باستناك

د. يحيى: كنت قاعد فى العنبر ولاّ فى البلكونة

“محمد”: قعدت فى العنبر شوية وبعد كده دخلت البلكونة

د.يحيى: تعرف أى حد هنا من العيانين اللى فى القسم

“محمد”: آه عارف شوية بس مش كلهم

د.يحيى: كنت قاعد لوحدك ولاّ مع حد

“محمد”: قعدت شوية مع واحد وبعد كده سابنى ومشى

د.يحيى: واحد عارفه يعنى ولا  بالصدفة

“محمد”: آه عارفه بس ماعرفش أسمه

د.يحيى: سابك ومشى راح فين

“محمد”: ماعرفش

د.يحيى: طيب احنا على ما يدوّروا على العيان بتاع الدرس، يا يلقوه يا ميلاقهوش، انت وبختك أنا تحت أمرك، أنا بصراحه يعنى عايز نتكلم بس فى حاجات ماتعطلناش، قلت لك الأول الشغل، وبعدين ننتقل للشكوى، وبعد الشكوى احنا ونصيبنا نشوف هانعمل إيه سوى بعد كده، أصلك لسّه لما بنبتدى فى الشكوى ما بِتْخلَّصْشى بتتقلب “محمد نفسية”، إنت من حقك تحكى بما فى ذلك الخبره بتاعة امبارح، لكن مش على حساب الشغل والعلاقة بتاعتنا.(1)

 (1) إن العلاقة مع الذهانين عامة، وفى مثل حالة محمد التى بدأت منذ كان نزيلا فى القسم الداخلى ثم عضًوا فى الجروب ثم بالمتابعة ينبغى ألا تتحدد بمواعيد ثابتة طول الوقت، وليس معنى ذلك أن تترك مفتوحة فى أى وقت، لكن ينبغى أن تكون مُـحـْكـَمـَة مع قدر مناسب من مساحة سماح مشروطة.

إن المريض، خاصة إذا كان قد مارس خبرة تنشيط الوعى البينشخصى ثم الوعى الجمعى يعمل علاقة بالمكان كجزء من الوعى، حتى بغض النظر عن من يشغل المكان، يصبح عنده كل مَنْ فى المكان – تقريبا- جزءًا من الوعى الجمعى المتضمن وعيه الخاص، بغض النظر أيضا عن كون الموجودين قد شاركوا فى العلاج الجمعى أم لا.

إن التذكِرة برفض أن تكون اللقاءات مجرد شكوى وتطمين، أو “شوية صحوبية” مهمة، وقد عاد الطبيب فأكد حذره من العودة إلى المرحلة التى اقترح فيها محمد اسم “محمد نفسية” وقد سبق أن رفض الطبيب نـَفْـسَنـَه العلاقة بينهما، ثم بعد ذلك توثقت العلاقة وتحددت أولوياتها: استمرار العمل – الشكوى – المشاركة.

ومع ذلك يظل السماح بالحكى وارد كما بدا هنا حين كان الطبيب هو الذى طلب منه أن يكمل ما حكاه أمس.

“محمد”: ما أنا قلت لك

د.يحيى: لأ، إنت قلتها لى باختصار قوى وأنا قلت لك أنا مصدقك لحد ما يبقى فيه وقت، هوّا إيه اللى حصل امبارح؟ كنت فين؟

“محمد”: كنت نايم على السرير

د.يحيى: نايم… نايم؟ ولاّ نُصّ نصّ؟

“محمد”: بس مش نايم صاحى يعنى، لأه، عينى مفتحه كده

د.يحيى: كان الساعة كام ؟

“محمد”: كان بالليل يعنى حوالى الساعة 3

د.يحيى: كانت الدنيا ضالمة يعنى؟

“محمد”: آه

د.يحيى: طب وإش عرفك إنك كنت صاحى؟ مش يمكن نص نص بين النايم والصاحى.

“محمد”: لأ كنت صاحى

د.يحيى: حصل إيه؟              

“محمد”: أنا اتخيلت إن أنا مُتّ وباتغسّل

د.يحيى: إنك انت إيه؟!   

“محمد”: إن أنا مت وباتغسل وكده

د.يحيى: بتتـ … إيه؟

“محمد”: باتغسل عشان اندفن

د.يحيى: لا يا شيخ، البقاء لله

“محمد” (يضحك): آه شوفت نفسى كده 

د.يحيى: شعور، ولاّ تخيـُّل

“محمد”: مش عارف، هو كان شعور آه: أنا حسيت بكده يعنى     

د.يحيى: طب عملوا إيه فى الغُسل يعنى، قلعوك مثلاً وجابوا ميه وكده، فيه كلام بيتقال ساعتها ودعوات مش فاكرها، إيه اللى حصل؟

“محمد”: آه، وأتخيلت برضه إن أنا هنا

د.يحيى: هنا فين بقى؟.؟! اتخيلت ولا شفت؟

“محمد”: إتخيلت إن معايا الست اللى باحبها، وكده وأنا مت وفرشوا عليا الملاية وكده      

د.يحيى: فرشوا الملاية قبل الكفن ولا بعد الكفن

“محمد”: ده غير الكفن

د.يحيى: غير الكفن؟ كل ده فين؟         

“محمد”: هنا وفى البيت

د.يحيى: هنا فين يا جدع انت؟

“محمد”: هنا وفى البيت

د.يحيى: هنا فين؟ فى المستشفى؟

“محمد”: فى المستشفى آه

د.يحيى: مش فاهم حاجة، يا جدع قول لنا الأحداث واحده واحده، إتخيلت إيه بالظبط أو يعنى عشت إيه؟ إنت عشت ولا اتخيلت؟ كنت نايم كده مفتح عنيك ولا مغمضها

“محمد”: كنت مفتح عينى

د.يحيى: مفتح عنيك يعنى اتخيلت، اتصورت يعنى، يعنى مش حقيقة  

“محمد”: آه مش حقيقة ياريت كان حقيقة (2)

 (2) نلاحظ أيضا ما يلى:

إن اصرار “محمد” على أنه كان يقظا طول هذه الخبرة مهم وهو ينفى حتى أنه كان يحلم أو أنه كان بين النوم واليقظة، ويشير أيضا إلى تأكيد توجُّه النقلة العلاجية ذات الدلالة من الهلوسة إلى تشكيل الخيالات هكذا، ولعل أدق ما يمكن أن يوصف به وعى محمد هو ما أسميناه “وعى الحلم”، لا “وعى اليقظة”، ولا “وعى النوم” ولا “وعى أحلام اليقظة” الذى هو هو” (للتذكرة) وعى اليقظة”، كما أنه ليس هو أيضا “وعى الذهان”، وكل هذا يدعم المفاجأة التى عشناها وفسرناها بالذات فى لعبة العلاج الجمعى “أعمل حلم”([1])،  بمعنى أنها وعى مختلف فعلاً لكنه حقيقة معيشة، وهى وعى آخر غير كل ذلك.

إن محمد أجل إرادة التخيل (الخاص: فى وعىٍ خاص) محل تصنيع الهلاوس فى الذهان من (واقع) حقائق داخلية موضوعية، ومع أن الخيالات التى يحكيها تتجسد حتى تصاحبها أحاسيس حسية إلا أنها تظل خيالات .

اعتاد محمد فى الفترة الأخيرة أن يحكى عن الخيالات الجنسية، التى تأتيه ليس بموافقته تماما، وأيضا هو لا يرفضها بل ويستعيدها بنفس قوة تخليقها، لكنه فى هذه المرة تكلم عن خيالات الموت والكفن ربما بطريقة أعمق وأصدق.

فى مؤتمر الجمعية العالمية للعلاجات الجماعية([2])، سمعت مقتطفا من رئيسة الجمعية نقلا عن مورينو (رائد السيكودراما)([3]) يقول: “نحن نعيش موتنا” وأعتقد أن هذه المقولة لها علاقة بما يحكيه محمد هنا.

نلاحظ أيضاً كيف أن قدرة محمد على تشكيل خيالاته تكاد تصل إلى نوع من التأليف الإبداعى.

ربط الموت بالحب وبدرجة أقل بالجنس وصلنى بشكل مميز لهذه الخبرة.

إن استقباله هذه الخبرة بقبول حسن، بل بالتمنى أن تتحقق “ياريت كان حقيقة” هو مكمل للخيالات الجنسية والغرامية وليس ضدها.

…….

…….

د.يحيى: كنت لابس هدومك ولا لأه؟                            

“محمد”: كنت لابس الهدوم

د.يحيى: انت متأكد إن ده حصل هنا وفى البيت؟ يعنى أيه “هنا وفى البيت”؟، قصدك إيه

“محمد”: هنا، وفى البيت أيوه

د.يحيى: يعنى مرتين 

“محمد”: أيوه مرتين

د.يحيى: قول كده، وامبارح؟ اللى حصل امبارح كنت فين؟

“محمد”: امبارح كنت فى البيت

د.يحيى: والست اللى غسّلتك دى هى اللى كنت بتحبها ؟

“محمد”: محدش غسلنى أنا مُتّ كده وإيدى فى إيديها، وفـَرَشِتْ عليّا الملاية، يعنى عادى   

د.يحيى:  انت متأكد من الواحده دى؟

“محمد”: أيوه هى الست اللى أنا كنت باحبها دى اللى هى قريبتى

د.يحيى: اللى هى قريبتك اللى حكيت عنها فى الأول خالص

“محمد”: آه

د.يحيى: كنت بتحبها من إمتى؟ أنا نسيت

“محمد”: من فتره

د.يحيى: قد أيه           

“محمد”: من فتره كبيرة

د.يحيى: قد أيه                 

“محمد”: يعنى 3 سنين حاجة زى كده

د.يحيى: آه، هيا دى اللى مشيت وراها هى واختها اللى كانت مخطوبة، افتكرت

“محمد”: كتير كنت بافكر فيها وكده، برضه قبل ما أجى هنا كنت بحلم بيها وكده

د.يحيى: قبل ما تيجى هنا خالص؟

“محمد”: أيوه، قبل ما أجى هنا خالص

د.يحيى: يعنى قبل ما تتعالج خالص، وإمتى بطـَّلت تحلم بيها؟

“محمد”: لأ هو الحلم كان مره واحده قبل ما أجى هنا خالص لما الموقف ده حصل معايا وأنا تعبت وقعدت فى البيت لوحدى وكده (3)

(3) نلاحظ هنا أن استحضار الخيالات وحبيبته تمسك بيده فى البيت يمكن أن يكون له ما يفسره أو يبرره، أما استحضار نفس الخيالات فى المستشفى فهذا ما دهشت له ثم إنى رجحت أن المستشفى (وامتدادها فى خبرة الجروب) قد جعلها بمثابة يبته التانى (من حيث أنه الرحم أو القبر أو الأمان الآخر)

هذه النقلات التبادلية: الحلم والهلوسة والتخيل، لها دلالتها عن حركية إعادة التشكيل، من حيث أنه مع بداية الذهان يتراجع الحلم ثم يختفى ليحل محله الذهان، لأن الداخل أصبح منفتحا على الخارج، ثم مع العلاج يتراجع الذهان حين يصبح فى متناول الوعى البينشخصى ثم الوعى الجمعى، ليحل محله التخيل، وهى تبادلات ذهابا وإيابا، لكن المحصلة فى حالة الصحة أو مع العلاج النمائى هى فى صالح: التخليق لا التفكيك.

إن طريقة حكى محمد لا تشبه الحكى عن ما يسمى “حلم يقظة”، كل ما نقدمه إنما يعرض حركية بعض مستويات الوعى بالتبادل وإعادة التشكيل مع الوعى البينشخصى على مسار العلاج من منطلق استعادة حركية إطلاق النمو.([4])

د.يحيى: هى الست دى جارتكم ولا قريبتك، ولاّ لا ده ولا ده

“محمد”: ما انا قلت لك هى قريبتى: أمها تبقى بنت عمتى

د.يحيى: أمها تبقى بنت إيه ؟

“محمد”: أمها تبقى بنت عمتى

د. يحيى: يعنى انت ابن خال أمها

“محمد”: آه

د.يحيى: وهى دلوقتى اتجوزت ولا لأه

“محمد”: ما أعرفش

د.يحيى: طيب، أمها بنت عمتك وماتعرفش خلال 3 سنين إذا كانت أتجوزت ولا لأه

“محمد”: ماعرفش، إحنا مقاطعينهم من زمان

د.يحيى: هوّه مش من عادات الأسر عموما انهم بيعزموا القرايب والصلح خير، يعنى ماحدش عزمك على فرحها أو سمعت إنها اتخطبت أو إنها أتجوزت

“محمد”: أنا سمعت من أبويا

د.يحيى: سمعت من أبوها

“محمد”: لأ من أبويا

د.يحيى: قالـّك إيه

“محمد”: قالى دى إتجوزت وكده

د.يحيى: طيب دلوقتى باسألك بتقول معرفش ليه

“محمد”: معرفش؟ يمكن كنت مش فاهم، عاوز أقعد هنا أرتاح شوية

د.يحيى: نعم؟ نعم؟ تدخل القسم يعنى

“محمد”: آه

د. يحيى: ليه

“محمد”: عاوز أرتاح شوية

د.يحيى: يا محمد يابنى هيا دى طريقة راحة إنك تهرب، ولاَّ أنت عايز تتخيلها هنا براحتك؟ ولا إيه؟

“محمد”: انت مش عاوز ترَيَّحنى ليه؟

د.يحيى:  هيا دى راحة؟ الهرب راحة؟ احنا لما فتحنا السيرة دى واتربطت بحلم الموت والكفن والغسل، رحت ناطط وقايل الحقنى: عايز ارتاح شوية، أدخل القسم، هو القسم ده القبر اللى انت كنت بتتغسل عشان تدخله؟

“محمد”: مش قوى كده

د.يحيى: أنا سألتك إتجوزتْ ولا لأه قولت ماعرفش، بعد كده قلت إن أبويا قالى إن هى إتجوزتْ، مش كده؟ رجعت تانى تقول ماعرفش، بعدها مافيش دقيقة رجعت قلت إن أبويا قالى إن هى إتجوزت، ماترْسَى لك على بـَرّ يا ابنى

“محمد”: بس أنا مش مصدقه

د.يحيى: ليه مش مصدقـُهْ؟ حايكذب عليك ابوك ليه؟ دى أخبار عاديه خالص، مش أبوك يبقى خال أمها

“محمد”: أيوه (4)

(4) نلاحظ هنا:

إنكار محمد زواج فتاة أحلامه يبدو منطقيا أكثر من اعترافه بما أخبره به والده، وهو إنكار يدل على استمرار غلبة منظومة خيالية على مستوى آخر هو مستوى تحقيق الرغبة، وكأن محبوبته حين تكون لم تتزوج بعد، تصبح احتمالا قائما لعلاقة لم تبدأ أصلا، فلعلنا نتذكر أنها كانت طول الوقت علاقة من جانب واحد، وأن شعوره بالترك وعدم الرؤية احتدَّ قرب بداية الذهان من حادثة زيارته لتلك الأسرة، وفكرة تصوّر توصيله للمحبوبة وأختها (المخطوبة)…الخ

د. يحيى: طيب روّق روّق واضح إنك إنت النهاردة حزين جداً، تعبير الحزن النهارده باين عليك حتى قبل ما تدخل وإنت قاعد لوحدك بره كان واضح واضح، يعنى مش محتاج تقول أنا حزين

“محمد”: أنا حزين على طول (اغرورقت عيناه)

د.يحيى: إنت عارف أنا مابكرهش الحزن أوى ثم ده ألم أكتر منه حزن، أنا ماباحبش العياط، إنما عنيك لمّا ترغرغ كده حاجة تانية، بس لما الألم بيزيد وبيبقى ثقيل أوى، باخاف منه

“محمد”: بيأثر على جسمى أصلاً، بيخلينى مش قادر أمشى زى دلوقتى، أهو أنا دلوقتى برضه مش قادر أمشى

د.يحيى: بس هو أحسن من الجنون والفركشه، هوّه مؤلم مؤلم وإبن كلب بس أحسن

“محمد”: ما هو أنا حاسس إنى أنا قربت أتفركش تانى أصلاً

د.يحيى: لأه بقى، لأه، بعيد عن شنبك، ما عادشى ينفع، يعنى عارف إمتى تتفركش؟ إمتى تقدر تتفركش

“محمد”: إمتى؟

د.يحيى: لما تلغينا كلنا، تروح شاطب علينا كده تقوم تتفركش، وممكن تبوظ منك، ثم انك حتى ماعدتش تقدر تلغينا من أصله، أطْلَعْ لَكْ زى العفريت كده وأقول لك عيب.

“محمد”: إن شاء الله (5)

  (5) نلاحظ هنا:

أن ظهور الحزن الحقيقى مع استمرار تطور العلاقة يعتبر فى كثير من الأحيان إعلان لحركية تطوير علاقة حقيقية موضوعية مع موضوع إنسانى آخر ذلك أنه يحمل خبرة ثنائية الوجدان ليس بمعنى التناقض وإنما بالمعنى النمائى: أى أن مصدر الحب هو هو مصدر التهديد بالترك، لذلك فأنا أعتبر هذا الحزن الألم فى هذه المرحلة إعلان آخر عن مزيد من التواصل، ولا أرجح أنه بسبب ذكرى فقدان حبيبته التى لم يكن بينه وبينها أية علاقة أصلا من البداية، إلا فكرة احتمال التقدم لها.

ولعلنا مازلنا نذكر تعبير محمد عن آلامه وهو يحكى عن بداية المرض فى الجيش وما قبلها، وخاصة فيما يتعلق بهذه الفتاة وأسرتها.

ثم إن هذا الألم (الحزن) الجديد الذى حضر به اليوم هو أقرب ما يكون إلى الوجدان المؤلم الذى عبر عنه أنه أكثر من كل تصور وهو يقول: “مريار مريار” ([5])

ونؤكد هنا من جديد كيف أن معايشة هذا الحزن يشير – بالإضافة حركية نشوء علاقة- أنه ظهر كدفاع ضد التفسخ، كما جاء فى قول الطبيب “هو أحسن من الجنون والفركشة، مؤلم مؤلم بس أحسن”

أن وجود الآخر والآخرين فى الوعى يمنع أيضا من التفسخ والتمزق حيث أن ذلك إنما يعنى حضور الوعى الجمعى الضام مشاركا وعى محمد طول الوقت حتى وهو يتخيل، وهذه وقاية أخرى تحول دون اختياره التفسخ (فركشنى) كما قال له الطبيب “بعيد عن شنبك” “ماعادشى ينفع”، اللهم إلا إذا استطاع أن ينفى هذا الوعى الجمعى من داخله “حاتلغينا كلنا وتروح شاطب علينا كده تتفركش” (لاحظ كلنا هنا)، وهكذا يبدو أن الطبيب يمارس المشاركة فى الوعى البينشخصى، وأيضا لعله يمثله بالأصالة عن نفسه والنياية عن الوعى الجمعى الذى بدأ يتكوّن فى “الجروب”، وهو إشارة فى نفس الوقت إلى دعم فروض دور  المريض فى قرار الجنون، وأن الوقاية الممكنة هى إعادة تشكيل مستويات الوعى (والمخ يعيد بناء نفسه طول الوقت) ليتخلق وعى وقائى جديد لا يستطيع أن يقدم على قرار الجنون بنفس الطريقة، ولا فى نفس الظلام الذى كان حين اختار الجنون سابقا.

د.يحيى: لما تحاول تتفركش مرة تانية مش حاتقدر، أدى العيب، الحزن ده بالذات بيقول أدينا أهه سوا سوا ومش قادرين نخفف منه قوى، وعلى فكرة مفيش دوا يخفف الحزن ده بالذات، وبينى وبينك أنا مش مستعجل رغم إنى معاك زى ما انت شايف، وإنت فى منتهى الصدق، ومش مزودها ولا حاجة، يعنى حزين حزين بصراحه “مريار مريار” زى ما بتقول، وبعدين زى مايكون لو ماكنتش أحزن معاك، ولو قريب من ده شوية، وأشيله معاك يبقى زى ما يكون باتفرج عليك، تصور؟

“محمد”: إنت بتعمل اللى عليك

د.يحيى: والله مش أوى يا محمد يابنى، أنا بعمل اللى اقدر عليه، بس مش أوى برضه، ساعات من كتر الزحمه باخاف أكون باتفرج فعلا، والله باكلمك بجد، وخصوصاً لما يكون واحد عايش حزن زى حزنك ده، وأنا أشوفه كده،

 أنا أسف يابنى معلشى أشوفك الجمعه الجاية، فى نفس الميعاد وتكون اشتغلت، الشغل على فكرة بيطلع الطاقة اللى لو كتمناها الحزن يزيد وبما إنك مش قادر تتفركش حايزيد حايزيد، يا للا مع السلامه ميعادنا الساعه السابعه مش سابعه وربع هه

“محمد”: ماشى

د.يحيى: كتر ألف خيرك، مش عاوز تسلم عليا ياله ياندل، مع السلامه، أقولك بقى مثل من بلدنا؟: “عيش ندل تموت مستور”، ده علاج برضه خصوصا لما تستعمله مع الأندال بس

“محمد”: ياريت أبقى ندل

د.يحيى: هؤا انت تقدر، لو كنت تقدر ما كنتش عييت.

وبعد:

حين وصلت إلى هذا المقطع ووصلتنى روح المقابلة وخصوصية استعمال لغة الثقافة الشعبية التى ينتمى إليها محمد وأمارس من خلالها هنا ما يسمى العلاج (ليس بالضرورة تسميته العلاج النفسى)، قررت:

أن أتوقف دون تعليق على هذا الجزء الأخير .

[1] –  نشرة “نعمل حلم”: بتاريخ: 22-9-2010 ونشرة 28-7-2013 وغيرها  www.rakhawy.net

[2] – الذى عقد مؤخرا فى القاهرة فى الفترة من 14 – 17 يناير 2016.

– Jacob Levy Moreno M.D. (1889 – 1974) جاكوب مورينور: رائد العلاج بالسيكودراما

[4] –  أنظر نشرات: قارن وعى الحلم مع حلم اليقظة” بتاريخ: 16-8-2015،  4-10-2015)  وأيضا نشرات: “نعمل حلم” بتاريخ: 21-9-2015، 22-9-2015)  ومقال دورية نجيب محفوظ، بعنوان: “حركية الزمن، واحياء اللحظة فى إبداع (أحلام) نجيب محفوظ”، المجلس الأعلى للثقافة، العدد الثالث:  ديسمبر 2010 ثم تم صدور أطروحتى كاملة فى كتاب “عن طبيعة الحلم والابداع  أحلام فترة النقاهة” مكتبة الشروق 2011. فى موقعى   www.rakhawy.net

[5] – هذا هو التعبير الذى استعمله محمد ليصف مدى آلامه وأحزانه (ص 54)، ويقصد به “مليار مليار”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *