الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق: الفصل الرابع: “البحث العلمى فى العلاج الجمعى” (2)

كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق: الفصل الرابع: “البحث العلمى فى العلاج الجمعى” (2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 25-10-2020

السنة الرابعة عشر

العدد:  4803

   كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى  

 “من ذكاء الجماد إلى  رحاب المطلق (1)

الفصل الرابع

البحث العلمى فى العلاج الجمعى  (2)

………………….

………………….

مادة البحث

مادة هذا البحث – وربما كل بحث يجرى فى مجال العلاج النفسى – مكونة من ثلاثة عناصر اساسية:

1- المرضى والمترددون.

2- المعالج (والمعالجون المساعدون إن وجدوا).

3- الباحث نفسه.

ولنتحدث عن كل جانب من مادة هذا البحث على حدة:

أولا: المرضى والمترددون:

بادئ ذى بدء، لابد لنا من وقفة عند تعبير “المرضى”، ففى الوقت الذى أجرى فيه البحث على هذه المجموعة كان عمرها قد بلغ ما يزيد عن عام ونصف لأغلب أفراداها، وكانت معظم الأعراض عند أغلبهم قد زال … بحيث ينبغى مراجعة تسميتهم “مرضى”، وقد أشار الباحث إلى أن التشخيصات كانت قد تغيرت فعلا من خلال العملية العلاجية، وأكاد أسمع رداً جاهزاً يقول أنهم ما داموا لا يزالون يترددون على العلاج فهم مرضى، ولن أتطرق هنا إلى مناقشة هذا الادعاء، ولكنى أحيل القارئ إلى نظريتى عن “مستويات الصحة النفسية على طريق التطور الفردى” وأقول إن مجرد التردد للعلاج لا يعنى المرض بل قد يعنى رؤية أعمق، أو أملا أشمل، أو إصراراً أقوى على الحياة الأفضل على طريق التطور، ولهذا استعملت لفظ المترددين بجوار المرضى وبينهما حرف عطف لأحدد أن المتردد ليس مريضا بالضرورة، وبالتالى أفتح بابا للتبادل بين صفتى المرضى والمترددين لأؤكد أنه طريق ذهاب وإياب، وفى هذه المجموعة بوجه خاص ذكر الباحث أن حضور بعض أفرادها كان بهدف التدريب، ولكن باقترابهم من “المأزق الوجودى العلاجى أو النمائى” ظهرت الأعراض لدرجة أنهم أعلنوا بأنفسهم رغبتهم فى الانتقال إلى صفة المرضى حتى يمارسوا حقهم الطبيعى بكل أبعاده، وكأن المرض أصبح حقاً اختياريا مرحلياً فى الطريق إلى التغيير الواعى.

ثم أنتقل بعد ذلك إلى التعريف بأفراد المجموعة، فبالإضافة إلى ما ذكر الباحث عنهم من معلومات – بعد أن استبدل أسماءهم – فهم بالنسبة لى من أقرب من عرفت، من حيث فضلهم على فكرى، وعلى وجودى، وعلى علمى أيضا، فهؤلاء الناس بكل سلبياتهم وإيجابياتهم وعدوانهم وظلمهم ومحاولاتهم وشقائهم وألمهم وهروبهم .. بشر بحق، وإذا كانت تعريفات الإنسان قد تنوعت بشكل مربك بادئين من أنه حيوان ضاحك إلى أنه حيوان ناطق أو مفكر إلى آخره، فإنى هنا أحب أن أعلن أن هؤلاء الناس قد علّمونى أن الإنسان “… هو الكائن دائم المحاولة الواعية إلى الرقى “معا”، برغم وعيه الآنى بضرورة الاستقرار المرحلى”.

ولكنى أقر هنا أن من حق هؤلاء المرضى أن يتصفوا بما هو يخصهم أكثر، بالإضافة إلى ما أورد الباحث من مواصفات وتشخيصات.

1- هم جميعاً – تقريبا- فى عناد عنيد ضد استسهال حل بذاته سواء كان هذا الحل حياة عادية هامدة، أم مرض مزمن جاثم، أم موقف انسحابى متفرج.

2- وهم جميعا – تقريبا- قد قبلوا أن يستمروا فى الحضور، وبالتالى فى ممارسة المحاولة الموجـَّـهة فى أن يقبلوا هذا العناد لمواصلة محاولة التغيير بكل ما يحمل من مخاطر وآلام.

3- وهم – جميعا تقريبا- وربما يرجع ذلك جزئياً إلى تأثير العلاج، قد واصلوا احتكاكهم بالواقع والتكلم باللغة السائدة، رغم مواصلتهم تعرية أنفسهم والتفاهم – مؤقتا – بلغة خاصة أثناء العلاج فى نفس الوقت.

4- وهم جميعا – تقريبا- قد قبلوا التعرى أولا أمام بعضهم البعض وأمام المعالج، وثانيا أمام الباحث، قبلوه فى شجاعة وصراحة، وتفسيرى أنهم وصلوا إلى درجة من الصدق مع أنفسهم، ولأنفسهم لم يعد عندهم معها ما يخشونه من رأى آخر، أو فرجة آخر، أو تسجيل آخر، فضلا عن إدراكهم لاتصال نفعهم الشخصى بالنفع العام كما ذكرت.

لكل هذا فإنى أعلن شعورى أنهم هم الذين قاموا بهذا البحث أساسا وفعلا، لأنهم واصلوا البحث الصادق فى داخلهم وخارجهم، ثم ساهموا بالموافقة على تسجيل ذلك وتوصيله دون تصنع أو افتعال، ففضلهم على الباحث وعلىّ وعلى العلم وللحقيقة فضل مباشر ليس له جزاء إلا أن تنجح محاولتهم لهم، وهذا ما يضاعف ديْنى – وربما دين الباحث إذْ يدرك حقيقة عطائهم – إليهم وإلى من هم مثلهم، فأنا لا أعنى بوصفى لهم أشخاصهم، بقدر ما أعنى كل من “هم كذلك” سواء كانوا هؤلاء الناس أم أى ناس.

ولنا هنا وقفة، فهناك من سيقول: إذن هؤلاء نوع خاص من الناس، وبالتالى فهذا العلاج لا يصلح إلا لأمثالهم.

والرد المباشر: ولم لا؟ .. والرد التالى: نحن لا نستطيع أن نجزم إن كانوا قد قدموا للعلاج بهذه النوعية أم أن العلاج قد أسهم فى كشف غطائهم فظهرت هذه الإمكانيات الإيجابية العنيدة؟ والرد الأخير: إن أحدا لم يدّع أن هذا العلاج هو العلاج الأوحد، بل بالعكس إنى أقر وأعلن أن لكل نوع من العلاج نوع من المتعالجين.

ثانياً: المعالج

ثم ننتقل إلى مادة البحث الثانية وهى “المعالج” نفسه: وأول ما نبحث هنا هو ما أشار إليه الباحث من أن هناك وجه شبه بين المعالج وبين هؤلاء المرضى، وأنه مجرد فرد فى المجموعة مع تميز خاص من حيث فعالية دوره، ودرجة مسئوليته فى التغيير، واتجاهه ووضعه المهنى الذى يأخذ به أتعابه، وإنى إذْ أقره على ذلك .. أقره أيضا على ما أشار من خلاف .. أضيف إلى هذا وذاك أنى كنت شبه متعاقد معهم عقداً لم يعلن أبداً، وهو الاستجابة من جانبهم لدعوة من جانبى تكاد تقول: “… إنى مثلكم .. ولكنى مصر على الاستمرار بلغة الواقع دون التنازل عن اى جوهر رأيته فى نفسى، فهل نحاول – يا جماعة – أن نمارس حياتنا سوياً إلى غاية عمق وجودنا بكل أبعادها المترامية، لنرى الحكاية ..، بل وقد نساهم فى توجيه المسار من خلال نجاح موقفنا العنيد .. كعينة قادرة على التطور بوعى وألم ودون تناثر أو صراخ”؟ وقد سمعت استجاباتهم واحداً واحدا بالموافقة “من خلال فعل الحضور والاستمرار فيه”، وعزوت هذه الموافقة – النسبية طبعا– إلى ضغط داخلى مباشر أعلن بظهور الأعراض، وإغراء خارجى مباشر هو محاولة المعالج الذاتية المهنية المستمرة.

ومهما يكن من أمر اضطرارهم لخوض هذه التجربة بسبب أعراضهم، ومهما يكن من أمر وضعى بالنسبة لهم كطبيب وظيفته الأساسية هى تخفيف الألم وإزالة الأعراض، فإن هذه وتلك كانتا الاتفاق الظاهرى فحسب، أما العقد غير المعلن – حسب تصورى – فكان يتعلق بخوض هذه التجربة الكيانية، ومن هنا جاء شعورى بالعرفان تجاههم، وإنى إذ أعترف بهذا البعد الذى لم ترد مناقشته فى البحث بطريق مباشر (وإن كان الباحث قد أشار أنه بتطور المجموعة لم يعد المعالج إلا عضواً فيها) أقول إنى إذْ اعترف بهذا البعد أقرر من وجهة نظرى أنه موجود عند كل معالج رضى أم لم يرض، وعى به أم لم يع، فالعقد فى العلاج النفسى بوجه عام والعلاج الجمعى بوجه خاص هو دائما أبداً عقدان:

العقد الأول: عقد ما بين طبيب (أو معالج) – طرف أول – ومريض – طرف ثان – الأول يرتزق ويمتهن مهنة إنسانية (بالمرّة)، والثانى يشكو من أعراض مرضية أدت إلى أن يذهب إلى الأول ويريد أن يتخفف منها.

أما العقد الثانى: فهو العقد الأعمق غير المعلن بين إنسان وإنسان: الطرف الأول (المعالج) يعيش مرحلة وجود ناجحة نسبيا وبالتالى فله تصور لأبعادها، وسلوكه إنما يمثلها ويبررها حتى ولو ضعفت درجة وعيه بها، والطرف الثانى (المريض) يبحث عن مثل هذا التصور، فينتقى من المعالجين من هو أقرب إلى تصوره ليحققا معاً مرحلة إيجابية مشتركة – وليست متماثلة بالضرورة –  بصورة ما.

هذا، ولا يوجد حد فاصل بين العقد الأول والعقد الثانى، لأن العقد الأول هو الديباجة التمهيدية للعقد الثانى، ولأن العقد الثانى هو الوسيلة الفعلية لتحقيق أهداف العقد الأول (زوال الأعراض .. والاسترزاق).

ولابد أن أعترف أنى سمعت مثل هذا التفسير – فى سياق آخر–  لطبيعة العلاقة بين المريض والطبيب فى موقف العلاج النفسى أول ما سمعته من أستاذنا المرحوم الدكتور يوسف حلمى جنينة أستاذ الأمراض العصبية بكلية طب قصر العينى، حيث كان يقول – ناقدا أو ساخرا- ما معناه “إن الطبيب (المعالج) النفسى ينتقى من مرضاه من يماثلونه، ليرى نفسه فيهم بالساعات الطوال ويبرر وجوده من خلالهم”، وقد رفضت هذا القول الذى قيل هجوماً على العلاج النفسى سنين طويلة، ولكنى فى النهاية وصلت إلى نفس النتيجة مع تحوير بسيط فى العبارة الأخيرة إذ لابد أن تتعدل – فى بعض الأحيان – مـِـنْ “.. ويبرر وجوده من خلالهم” إلى “…. ليبحثوا سويا عن معنى وجودهم، وعن الطريق إلى إمكان تغييره إن لزم الأمر” وقد قلت “فى بعض الأحيان” لأنى مازلت أتصور أن كثيرا من العلاجات يصدق عليه كلام أستاذنا الدكتور جنينة، وآمل – متحيزاً – أن هذا النوع قيد البحث يصدق عليه التحوير الذى اقترحتـُه.

وأختم هذه النقطة التى ينبغى أن تتضح عند كل ممارس للعلاج النفسى، وكل باحث فيه بأنه “إذا كان الأمر كذلك، وهو عندى كذلك، فإن درجة الوعى التى يتم فيها هذان الاتفاقان ضرورة لازمة لتأمين المسار، والتقليل من المضاعفات، وتأكيد الاختيار”.

فإذا كانت هذه هى العلاقة بين مادتى البحث الأساسيتين (المرضى والمعالج) فإن موقف الباحث يزداد صعوبة فوق الصعوبات القائمة فعلا، لأن المعالج هنا هو المشرف على الباحث ايضا، وهو أستاذ له، ثم هناك علاقتهما العاطفية التى جعلت الباحث يشكره فى مقدمة بحثه باعتباره والده الروحى (!)، ولنا أن نتصور كيف يقوم باحث بعمل بحث مادته (أو ضمن مادته)، والده الروحى … ليبحث عن ضعفه واحتياجه وخطئه والتوائه..الخ.، وقد ناقشت هذه النقطة سابقا فى عجالة ولكنى أعود إليها هنا بتفصيل لازم:

فقد كنا أمام ثلاث اختيارات: إما أن يقوم بالبحث أحد تلاميذ صاحب المدرسة الناشئة الداعية لفكرة “الطب النفسى التطورى” والمسهمة فى تطبيق هذه الدعوة فى المجالات المتعلقة بهذا الفرع ومن بينها مجال العلاج النفسى الجمعى، وإما أن يقوم بهذا البحث أحد المنشقين عنها لأن عنده فرصة أعمق ومشاركة أطول لمعرفة عيوبها ونقائصها، وبالتالى فإن موقف المعارضة منها هو موقف يقظ يتيح له أن يحدد ما عليها أكثر مما يحدد ما لها، وأخيراً فالاحتمال الثالث أن يقوم بالبحث باحث “آخر” ليس إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء مما يمكن أن يطلق عليه – افتراضاً – باحث موضوعى.

أما الافتراض الأول: وهو الذى تم فعلا – فهو يضعنا فى موضع خاص إذ هو أقرب إلى “عرض” ما يجرى من وجهة نظر مشتركة تقريباً (مشتركة بين الباحث والمعالج)، وإلا ما انضووا سويا تحت لواء هذه المدرسة وهذا العلاج، وبهذا الإعلان يصبح العرض أميناً لو أسميناه “صورة من الداخل/الخارج، وبالعكس!.

أما الاحتمال الثانى: فسوف يمنحنا صورة دفاعية كذلك، فهو لا شك خليط بين موضوعية محتملة – حسب درجة تطور الباحث نفسه وأمانته مع وجوده – وبين تحيز مضاد أكيد – هو فى الأغلب مبرر انشقاقه عن المدرسة.

أما الاحتمال الثالث: فخبرتى ومشاهدتى واطلاعى على الأبحاث التى يزعم أصحابها الموضوعية، ثم طبيعة مثل هذا العلاج ومحتواه، كل ذلك يجعلنى أجزم أن مثل هذا الباحث المحايد ابتداء سرعان ما سيندرج خلال دفاعاته الخاصة تحت أحد الاحتمالين السابقين بدرجة أو أخرى، لأنه فى مواجهة هذا النوع من التفاعل لابد وأن يدافع أى باحث مغامر عن نوع وجوده ابتداءًا، وإذا كنا قد أشرنا إلى أن الباحث قد هرب من هذا المأزق – مؤقتاً – بأن أعلن أنه إنما يبحث فى آليات “العمليات” الجارية لا ” تقييم النتائج”، ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن ننفى أنه فى نهاية الأمر، لابد وأن يرتبط شرح هذه العمليات بتقييم النتائج، أو بتعبير آخر إن أبحاث النتائج ما هى إلا نتائج “العمليات الجارية” وليست شيئاً آخر.

ونخلص من هذه المواجهة الضرورية إلى إعلان واقع هذا البحث وهو أننا أمام “عرض وجهة نظر باحث تلميذ فى ما يفعله معالج هو أستاذ له .. لا أكثر ولا أقل”، وهذا الإعلان إنما يعيد وضع الأمر فى نصابه ولا ينقص حق التلميذ الباحث فى أن يقول رأيه فى حدود المستطاع..

أما موقفى الآن كمقدم لهذا البحث فهو أن أضيف للباحث وجهة نظرى فى كونى مادة البحث

……………

هذا ما سوف نعرضه الأسبوع القادم

[1] – يحيى الرخاوى (مقدمة فى العلاج الجمعى (1) من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق) (الطبعة الأولى 1978)، (والطبعة الثانية 2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط.

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *