الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق: الفصل الثانى: الخبرات التمهيدية والإعداد

كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق: الفصل الثانى: الخبرات التمهيدية والإعداد

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 27-9-2020

السنة الرابعة عشر

العدد:  4775

   كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى (1)

 “من ذكاء الجماد إلى  رحاب المطلق (1)

الفصل الثانى:

الخبرات التمهيدية والإعداد

استهلال:

أذكر أن هذه المجموعة الصغيرة، مجموعة المواجهة التدريبية، قد أدت هذا الدور بنجاح شريف، وطمأنتنى – ولو بطريق غير مباشر – أنى لست وحدى، وأن حدسى هذا ليس بعيداً عن الواقع تماماً، وتطور الموقف بعد ذلك تطوراً مهما وخطيراً فى نفس الوقت.. وقابلنا من المضاعفات إذ نواجه داخلنا ما قابلنا، حتى انتبهنا بأمانة منذ ذلك الحين إلى أن جرعة الرؤية دائماً، ومهما كانت نوعية المغامر، هى أكبر من احتمال الواقع المرحلى..، وتحملنا المصاعب فى صبر وشجاعة وتصميم، ونبع دور القائد تلقائيا من مواقع تفاعلات المجموعة، فكنُت أنا هذا القائد.. فزادت الأمور تعقيداً.. ثم مرت الخبرة بسلام نسبى رغم كل شىء وتوقفت المحاولة عندما حققت ما حققت من أغراضها دون مضاعفات جسيمة.

وهنا أقف وقفة واضحة مع القارئ ومع نفسى لأكرر أنى لن أعرج إلى هذه التجارب الخاصة فى هذا العمل وما يليه بالتفصيل .. لأنها لا تخصنى وحدى، وأفرادها لهم عندى مكانة الاحترام والحب والامتنان بحيث لا أسمح لنفسى بأن أتعرض بالحكم على أى منهم لأى سبب كان، أما بالنسبة لشخصى فالأمر له وجهان:

الأول: أنه لا يمكن أن أتكلم عن شخصى دون أن أتكلم عن هؤلاء الأصدقاء والأحباب، لأنى لم أمر بالتجربة وحيداً فى الصحراء، أو فى حجرة مغلقة.

والثانى: أن مارأيته فى نفسى ولنفسى أكبر من استيعاب أى قارئ أحاول أن أحقق معه لغة مشتركة، الأمر الذى جعلنى أشك فى أى سيرة ذاتية (2)، إذا أنها لا يمكن أن تعرض حتى الجزء المتاح لصاحبها .. وقد فهمت من خلال ذلك معنى أن “علوم المكاشفة” لم يصرح لهم (بعض الصوفية مثل إمامنا الغزالى) بالحديث عنها، فواقع الأمر من خلال خبرتى هذه (وهى ليست صوفية أصلاً حتى لا تختلط الأمور .. ولكنها علاجية عملية مباشرة) أن المكاشفة – كما عرفتها – لا تعنى الكشف الصوفى فحسب، ولكنها قد تعنى اكتشاف النفس ايضا .. وقبلاً، ولعلهما واحد فى النهاية، فمن عرف نفسه فقد عرف الله، وهى خبرة لم يصرح لهم بالحديث عنها … لأنها لا يمكن الحديث عنها من خلال لغة مشتركة، وبالتالى فبدون هذه اللغة المشتركة .. فلا قيمة للحديث ولا للكتابة… ولا للوصف، ويراودنى احتجاج داخلى بأنى لو “ذهبت” قبل أن أحكيها فإنى خائن لأمانة أثقل .. هى أمانة ما أتيح لى من فرصة المعرفة الأعمق..، لأن الحقيقة ليست ملكا لرائيها، إلا إن كان منعزلا غير مسئول .

     (10/2/2013)

*..ثم يبدو أنه قد حان الوقت والتاريخ لتسجيل بعض هذه الخبرة بشكل مواز لا يقترب من أى فرد من أفرادها بشكل مباشر، وإنما قد يكفى شرح  العلاقات البشرية والسيكوباثولوجى فى الحياة اليومية  من واقع الممارسة الحقيقية والموازية والخبراتية جميعا، وقد ظهر ذلك منى بشكل إبداعى أولا شعرا بالعامية: “ديوان أغور النفس”، ثم فى صورته العلمية ثانيا فى “فقه العلاقات البشرية” “دراسة فى علم السيكوباثولوجى(2)”،  وهو الذى نشر مسلسلا فى نشرات متلاحقة من نشرة الإنسان والتطور اليومية فى موقعى: (من نشرة 10/6/2009 إلى نشرة 15/9/2010) فى (628 صفحة) ثم ظهرت أخيرا فى نسخة ورقية متاحة (3).

كما أن الجزء الثانى من ثلاثيتى الروائية “المشى على الصراط”، باسم “مدرسة العراة”، كان من وحى هذه التجربة أيضا.

بصراحة أنا أعتبر أن هذه الأعمال (فقه العلاقات البشرية/أغوار النفس/مدرسة العراة) هو جزء لا يتجزأ مما أريد توصيله عن العلاج الجمعى، لكن بما أن هذه المجموعة لم تكن مجموعة مرضية أصلا، وكذلك نظرا للتحفظات السابق ذكرها، فإن كل ما استطعت أن أصرح به، بشكل غير مباشر، كان عن شخصى (4).

ثم نعود إلى متن الكتيب الحالى:

…. أرجع بعد هذا الاستطراد إلى تطور نشأة هذا النوع من العلاج من خلال التجربة الشخصية: حين حضر الصديق العزيز الأستاذ الدكتور محمد شعلان – محمّلا بكل العلم والخبرة والأمانة، والتجارب التى حاول خوضها، عاد والشوق إلى البحث فى داخله ليس أقل من البحث فى خارجه، وقد عاد بناء على رغبته وإلحاحى معاً، وبدأت تجاربه فى عناده الهادئ فى ممارسة العلاج الجمعى فى القصر العينى .. وقوبل بالمقاومة المتوقعة، وحضرت معه بضعة مرات .. وقارنت بين ما يفعله وما مررت به من خبرة شخصية، والتقت احتياجاتنا ببعضنا البعض، ثم اتّسعت الدائرة لتشمل شركاء التجربة الأولى، ولتمتد إلى بعض الأصدقاء من الناشئين فى مهنتنا وغيرهم، لتتكون “مجموعة خاصة” تماماً، نمشى من خلالها على الصراط، نقع مراراً ونقوم أحياناً .. نخوض النار ونلمح الجنة .. وتنتهى هذه التجربة بكل ما لها وما عليها لتختفى فى دائرة المحظور الذى أشرت إليه فى الفقرة السابقة .. وللأسباب التى عددتها…، وأكتفى بهذا القدر من التلميح عن التجارب الشخصية.

هنا يجب أن أقف وقفة واضحة حتى لا أدع لخيال القارئ أن يتصور ما ليس بحقيقة، فأقول إن كل ما أشرت إليه من مضاعفات وآلام وخبرات وأحداث – من وجهة نظرى على الأقل – ليس فيه سر يشين، ولا هو بعيد عن التجارب العلمية الصادقة فى أى موقع علمى فى العالم المعاصر، ولولا احترامى للمشتركين فيها، واعترافى بالجميل والامتنان لهم، وبالتالى ضرورة استئذانهم، لكان فى وصف هذه التجارب شرف أى شرف لكل من ساهم فيها مهما انتهى إليه اختياره.

ثم أعود لاؤكد هذه الحقيقة وهى أنه: “لولا هاتين التجربتين الشخصيتين المتلاحقتين اللتين خضتهما بكل ما حملت من رغبة فى المعرفة، وإصرار على المخاطرة واحتياج شخصى لما أمكن أن تكون ثمة “طريقة جديدة” فى العلاج الجمعى، ولما أمكن أن يتم هذا البحث فى “اتجاه مصرى” .. إلخ…، وهكذا أخلص من هذه النقطة إلى القول بأن: الخبرة الشخصية والتكوين الشخصى والمخاطرة الشخصية لهم أبلغ الأثر فى انتقاء نوع العلاج الذى يمارسه أى معالج دون سواه، وفى تحديد هدفه ووسيلته جميعاً.

ثانيا: الخبرة الطويلة فى العلاج النفسى الفردى

أما البعد الثانى الذى ينبغى أن أشير إليه فى وصف نشأة هذا العلاج قيد البحث فهو ما سبقه من ممارسات علاجية عموما، فقد ظللت منذ اختيارى هذه المهنة أقرنها مباشرة بالعلاج النفسى، لأنه بدون العلاج النفسى لا ينبغى أن نتكلم عن الطب النفسى، والعلاج النفسى (الذى هو تغير المريض إلى أحسن من خلال علاقة هادفة بينه وبين المعالج) هو فى عمقه صراع (حوار) بيولوجى بين نشاط مخ (أمخاخ) إنسان ذى خبرة ونشاط مخ (أمخاخ) إنسان فى محنة (5) وبالتالى فإن كل ما يتعلق بنشاط المخ من كيمياء وكهرباء وبيئة محيطة هو داخل ضمن العلاج النفسى،..، أقول إذن: إنه بدون هذا المفهوم الأشمل للعلاج النفسى، كان لزاماً علىّ أن أبحث عن مهنة أخرى، أو على الأقل أن أدرج نشاطى المهنى تحت لافتة أخرى، وقد مارست العلاج النفسى الفردى طوال ستة عشر عاما (منذ 1958 وحتى 1976)، وكنت أتبع فيه كل ما علمته وقرأته وسمعت عنه .. بالإضافة إلى التجربة والخطأ، وما علمنى إياه المرضى أساتذتى العظام، وكنت – بداهة – أشعر بالنقص وأتصور أنه كان لزاماً على ّ أن أتبع طريق التلمذة والتحليل التدريبى فى الخارج .. الأمر الذى لم يتح لى فعلا وواقعاً، وكنت أُرجع فشلى مع بعض الحالات أحياناً إلى نقص خبرتى التى تعيننى عليها قراءاتى الخفيفة ومثابرتى الطويلة (التى وصلت إلى سبع ساعات متصلة يومياً فى هذا النوع من العلاج خاصة) ….، إلا أنى كنت أصبّر نفسى أن فرويد نفسه قد خاض هذه المحاولة ابتداء من واقع نفسه وتجاربه دون تدريب سابق،  وأن أمامى ميزة إضافية وهى أن التجارب الأخرى مكتوبة فى متناول يدى، وقد أفادنى هذا الشعور بالنقص – بقدر ما عوقنى – فكان دائما يمنع غرورى، ويحد من غلوائى، ويهدئ خطواتى..، وحين كان يعود من الخارج أى  من زملائى ممن أتيحت له فرصة التدريب فى الخارج وأحاوره، أو حين كنت أناقش أستاذى الدكتور عبد العزيز عسكر (وهو قد تدرب ايضا فى الخارج) كنت ازداد ثقة بما أفعل، وحين سافرت فى مهمتى العلمية إلى باريس وشاهدت بعض جلسات العلاج النفسى (مع أنها كانت أساسا للأطفال) عبر الدوائر التليفزيونية (أ.د. ليبوفيسى، وأ.د. ديادكين) تيقنت أنى على الطريق السليم، وأن الوعى والمثابرة والمسئولية والتعلم من الخبرة السابقة هى الأسس الضرورية فى العلاج النفسى الفردى – فى بيئتنا هذه – بما لها من معالم خاصة أورد أهمها:

أولا: أنى جربت كل الطرق المعروفة تقريباً من أول الاستلقاء على الحشية والتداعى الحر إلى المواجهة وجهاً لوجه والعلاج التفسيرى المباشر والمنطقى.

ثانيا: أنى مارست هذا العلاج مع كل أنواع الحالات من أول الهستيريا التحولية التى ينتهى الإيحاء فيها فى جلسة أو اثنتين ليبدأ بعد ذلك علاج أعمق، أو لا يبدأ..، إلى العلاج المكثف للفصام الذى استمرت إحدى حالاته معى ثلاثة عشر سنة تماما، كنت أرى صاحبها فيها كل يوم تقريباً .. وأغوص معه إلى أعمق طبقات الوجود.

ثالثا: أن طول ممارستى لهذا العلاج مع ندرة سفرى وندرة انقطاعى عن العمل، أتاح لى فرصة التتبع الطويل للحالات المستمرة فيه، وكذا للحالات التى انقطعت عنه.

وقد خلصتُ من تجربتى الطويلة هذه إلى أن هذا العلاج الفردى هادف وضرورى لتكوين المعالج النفسى، وأنه ربما يكون لا غنى عنه للمعالج مثل المريض (وربما أكثر منه)، بل – وقد قررت ذلك بعد أن مارست العلاج الجمعى – أنه مرحلة لازمة لكل معالج قبل أن ينتقل للعلاج الجمعى ، ناهيك عن التفرغ له، كما خرجت أيضا من الخبرة الطويلة مع الذهانيين عامة والفصاميين خاصة، والصديق الفصامى (صاحبى فى الثلاثة عشر سنة السالفة الذكر) بوجه أشد خصوصية،.. خرجت من كل هذا بمعرفة عن أعماق النفس الإنسانية فى أزمة وجودها، بما هيأ لى فيما بعد أن أمارس العلاج الجمعى فى سهولة أكبر وتقييم أعمق من خلال معرفتى أغوار النفس حتى سر الجنون.

ولكنى لم أكن قادراً على تقييم حقيقة نتائج العلاج الفردى، وخاصة تلك التى استمرت عدة سنوات، فقد تصورت حينذاك أنى توصلت مع المريض – منهم – إلى درجات رائعة من الوعى والصحة والتوازن، ولكنى تعلمت – فيما بعد – من خلال هؤلاء الأفراد الذين انتقلوا معى من العلاج الفردى إلى العلاج الجمعى أن بعضهم كانوا فى خدعة لفظية اغترابية سطحية فى كثير من الأحيان، وقد قام العلاج الجمعى فى هذا بعمل بوتقة الاختبار الموضوعة على النار والتى تضع فيها المعدن المراد تقييمه فإما يزداد صلابة لأصالته أو أن يتفحم ويتناثر، وللأسف فإن عددا ممن “أتم” علاجه الفردى لم يحتمل اختبار المواجهة فى العلاج الجمعى، حتى عدلت عن قياسهم بمقياس مدى استيعابهم للنقلة من العلاج الفردى إلى العلاج الجمعى إلا إذا دعت الضرورة، والحق أقول أن هذه الخبرة كانت صدمة لى، تكاد تصرخ فى وجهى:” إذن .. ماذا كنت تعمل طوال هذه السنوات؟” (6)، وامتد اختبار البوتقة (العلاج الجمعى) ليكشف حقيقة توازن من حضر علاجاً فردياً حتى عند غيرى من الزملاء لمدد طويلة، بل إنى لا أذيع سراً إذا قلت أن بعض الزملاء من المعالجين الفرديين الذين صاحبونا بعض الوقت متدربين: لم يتحمل رؤية ما يجرى فى العلاج الجمعى فضلا عن المشاركة فيه، وكان كل هذا الانزعاج والهرب دليلا على الطبيعة المختلفة للعلاج الجمعى وعلى درجة عمقه معاً، بل إن الانزعاج والهرب كانا أكبر فى أولئك المرضى الذين كانت لهم خبرة سابقة فى العلاج الفردى عنه فى أولئك الذين يدخلون إلى العلاج الجمعى مباشرة، وكأن العلاج الفردى – بشكل أو بآخر – قد يبعد الفرد عن نفسه أكثر مما تفعل الحياة العادية .. ولكنى لم أتمادَ فى هذا التصور، لأن الحالات التى دخلت اختبار البوتقة قليلة، ومشكوك فى صلابتها ابتداء، ولم يدفعنى كل هذا إلى أن أفقد الثقة تماماً بالعلاج الفردى لصالح العلاجى الجمعى، بل تيقنت أنهما علاجان مختلفان.. وأنه لكل دوره، وقد خطر ببالى أن هذه المدة التى قضيتها فى العلاج الفردى قبل أن أواجه حقيقته وحقيقتى وهى حوالى الخمسة عشر عاماً، هى قريبة من المدة التى سمحت لأى جديد بالظهور فى مجالنا هذا وخاصة من بدأ حياته بممارسة التحليل النفسى على نفسه وآخرين (7).

خلاصة القول: أن هذه الفترة التى قضيتها أمارس العلاج الفردى كانت ثروة حقيقية أدت ثلاث وظائف على الأقل.

الأولى: معرفتى أكثر بالنفس الإنسانية فى أعمق مستويات مأساة وجودها وخاصة من خلال علاج الفصاميين.

الثانية: إيمانى بضرورة وجدوى هذا العلاج الفردى  كمرحلة وكبديل يحتاجه الكثيرون (بعكس بيرلز الذى اعتبره غير ذى موضوع حتى شبـَّـهَ التداعى الحر بالتناثر الفصامى)

والثالثة: عجزى عن الاستمرار فيه – شخصياً – وتطورى من خلاله إلى هذا العلاج الجمعى موضوع البحث (بالرغم من استمرارى فى الاشراف على من يمارسونه من المتدربين والمتدربات الأصغر).

أما بداية ممارستى المهنية للعلاج الجمعى فقد واكبت تجاربى الشخصية سالفة الذكر كما واكبت بعض بقايا حالات العلاج الفردى وكانت التجارب الأولى للعلاج الجمعى ثلاثة:

الأولى: بالمشاركة فى (وأحيانا قيادة) جلسات جماعية فى مستشفى دار المقطم للصحة النفسية حيث يحضر عدد يتراوح بين 15، 20 فرداً، مع خمسة  إلى ثمانية من هيئة العلاج والمتدربين، وهو يجرى يومياً، وكنت أحضره مرة أسبوعياً، وكان النقاش عقب كل جلسة مثرياً ومفسراً ونافعاً لى وللمتدربين معاً، ولكنه كان ذا طبيعة موقوتة بفترة تواجد المريض فى المستشفى، وبالرغم من ذلك فإن نتائجه كانت مشجعة وأحياناً رائعة.

الثانية: بعض المحاولات السابقة لهذه المحاولة قيد البحث، فى عيادتى الخاصة والتى كانت أساساً ليست إلا تجميعاً لأفراد كانوا يحضرون معى العلاج الفردى مع بعض المتدربين، والتى أشرت إلى أن أغلبهم لم يتموا جرعة العمق التى يحملها العلاج الجمعى بالمقارنة بالعلاج الفردى.

الثالثة: محاولة أصيلة لبعض المتطوعين (ليسو مرضى .. أو لم يعلنوا مرضهم) من طلبة كلية طب قصر العينى، وأغلبهم ذوو ميول يسارية أو ثورية أو شبه ثورية، وكانت هذه الخبرة علنية، يأتى ليشاهدها من يشاء من الطلبة والأطباء حيث تجرى فى مدرج مفتوح بالعيادة الخارجية للقصر العينى، وقد افادتنى هذه المحاولة تماما، إذ كانت تحمل من التحدى والعمق ما كان يحرجنى ويضطرنى إلى اكتشاف طبقات أعمق فى نفسى، أكثر من العلاقة مع المرضى الذين “يدفعون” فى عيادة خاصة، .. وقد استمرت هذه المحاولة ما يقارب العام الدراسى تعلمت فيها عن نفسى وعن الهرب فى المبادىء الثورية (أو شبه الثورية) ما كان يصعب علىّ أن أتعلمه من غيرها.

أما المصدر الذى اكتملت به هذه الطريقة، فهو بعض القراءات القليلة حول الموضوع وعن تعدد الذوات، وأهمها كتاب لإريك بيرن، (8) وبعض مقالات عن علاج الجشتالت جمعها “كاجان” (9)، والحق أقول أن دور الممارسة كان له نصيب الأسد فى نشأة هذه الطريقة قيد البحث، وحتى اكتشافى لمبدأ “الهنا والآن” وصلنى من الممارسة قبل أن أقرأه وذلك من خلال مصادفة فى العلاج الفردى…، حين أراد أحد المرضى أن يهدينى رمزاً من الرخام على أحد وجهيه اسمى (كما هى العادة) ثم طلب منى أن أقترح عليه الحكمة التى يكتبها على الوجه الآخر كما اعتاد المترددون علىّ فى مثل هذه المناسبات (مثل “الصبر” أو “الحلم سيد الأخلاق” .. الخ) فقلت له ما رأيك أن تكتب الحكمة التى انتهينا إليها معاً بعد طول صحبتنا؟ وإذا به يبادر أن يهدينى اللوحة التالية:

 نشرة 27-9-2020

وبقيت هذه الرخامة منذ ذلك الحين على مكتبى حتى الآن، حتى أن صديقا لى حين عاد من الخارج ووجدها على مكتبى سألنى “هل أنت جشتالتى”؟ وقلت له بقليل من الحرج “ماذا تعنى؟”، وشرح لى فى إيجاز مازح كيف أن هناك مدرسة تسمى العلاج الجشتالتى تركز على الـ “هنا .. والآن” والـ “أنا.. أنت” مثلما تشير هذه اللوحة .. الخ، وقد أوردت هذه الحادثة لأؤكد على دور الممارسة، ولأعيد إعلان طريقتى الخاصة فى اكتساب المعرفة، وهى نفس الطريقة التى أشرت لها فى “حيرة طبيب نفسى” حيث اعتبرت نفسى بالنسبة لما أقرأ ممن يعانون من ظاهرة القراءة السابقة Dega Lu إن صح التعبير، لأنى – فى فرعى هذا – أقرأ غالباً ما عرفته فعلا من خلال الممارسة..، الأمر الذى يمكن أن أعده تقصيراً فى بعض الأحيان.

ولكنى أوردت هذا التسلسل، لأشرح كيف سمح لنا هذا التركيز على هذه الطريقة أن نشعر بالمشاركة والتماثل مع الطبيعة البشرية، ومحاولات رأب صدعها، وتعديل مسارها مهما اختلفت الثقافات.

………..

ونعرض الأسبوع القادم: الفصل الثالث: “… والأصل فى الوحْداتِ أن تُجَمَّعا”

 

[1] – يحيى الرخاوى (مقدمة فى العلاج الجمعى (1) من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق) (الطبعة الأولى 1978)، (والطبعة الثانية 2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط.

[2] – علما بأنى ضمنت ما أتصور أنه خبرتى الذاتية – وليس بالضرورة سيرتى- فى معظم محاولاتى عرض تجاربى بكل لون وقلم من أول أدب الرحلات (الترحال الأول: “الناس والطريق)، (الترحال الثانى: “الموت والحنين)، (الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال) (وغير ذلك فى سلسلة “فقة العلاقات البشرية ) انظر هامش رقم (6).

[3]- وقد ظهرت هذه التجربة مستقلة شعرا مع الشرح اللازم فى طبعة ورقية مؤخرا: فى “فقه العلاقات البشرية”(في أربعة أجزاء متتالية) “قراءة فى نقد النص البشرى للمُعـَالِج”، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، سنة 2018.

[4]- يحيى الرخاوى (رواية المشى على الصراط): الجزء الثانى، “مدرسة العراة”، الطبعة الأولى 1978، الطبعة الثانية 2008، الطبعة الثالثة 2019 منشورات جمعية الطب النفسى التطورى وأيضا  الجزء الرابع من سلسلة “فقه العلاقات البشرية” “قراءة فى نقد النص البشرى للمُعـَالِج”.

 [5] – تعجبت وأنا أقرأ (أنقل) هذه العبارة التى كتبتها سنة 1976 ولم أكن أعرف شيئا عن العلم المعرفى العصبى، وتفسيراته للعلاج النفسى، ثم جاءنى مؤخرا كتاب مرجعى مهم  تأليف:  Louis Cozolino

“The Neuroscience of Psychotherapy” Building and Rebuilding the Human Brain.(2002)

وفيه أغلب ما كنت أعنيه بهذه العبارة وأمارسه، وحين نسخت  نسخة من هذا الكتاب الجديد وأعطيتها لزميلى وإبنى أ.د. رفعت محفوظ ، قال لى : اليس هذا هو ما كنت تعلمنا إياه منذ سنة 1974 ، ثم أضاف: إننى أكرر ذلك لكل من أدرس لهم أو أدربهم فى المنيا (2019) وغيرها، فحمدت الله.

 [6] – أنظر الفصلين الرابع عشر والخامس عشر.

[7] – راجع توقيت ظهور النظريات الجديدة لكل من كارين هورنى، وهارى ستاك سوليفان، وإريك فروم .وأغلبها ظهر بعد حوالى 18 عاماً من بداية تدريبهم وعلاجهم التحليلى،  وحتى بيرلز – مؤسس مدرسة العلاج الجشتالتى – أمضى نفس المدة تقريبا فى هذا السبيل قبل أن يطلق لثورته العنان، وكأن هذه السنين الطويلة ضرورة كحد ادنى يسمح بالتطور من واقع الممارسة، وليس التغيير لمجرد الرغبة فى اختصار الطريق.

[8] – Eric Berne, “Transactional Analysis in Psychotherapy in 1961”

[9] – جيروم كاجان (Jerome Kagan) هو عالم نفس أمريكي، وُلد فى عام 1929 فى  نيوجيرسي، ونشأ فى راهواي، نيوجيرسي. تقاعد كاجان مؤخرًا بعد عمله كأستاذ فى جامعة هارفارد ببرنامج التنمية. وهو يعد أحد الرواد الرئيسيين فى علم النفس التنموي. وقد عمل بشكلٍ واسع على مسألة الحالة المزاجية، وقدم فهمًا عميقًا للانفعال، تم إدراج كاجان فى المركز الثانى والعشرين كأبرز علماء النفس فى القرن العشرين

 admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *