الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق: الفصل الثالث: “.. والأصل فى الوحْداتِ أن تُجَمَّعا”

كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق: الفصل الثالث: “.. والأصل فى الوحْداتِ أن تُجَمَّعا”

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 4-10-2020

السنة الرابعة عشر

العدد:  4782

   كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى  

 “من ذكاء الجماد إلى  رحاب المطلق (1)

الفصل الثالث:

 “… والأصل فى الوحْداتِ أن تُجَمَّعا”

وقع فى يدى مؤخراً كتاب كنت قد بدأت فى قراءته منذ بضع سنوات عن “التاريخ الطبيعى للذكاء” (بعنوان أصلى يقول: ما بعد المعلومات)

 “Beyond Information” The Natural History of Intelligence

 وإذا بى أكتشف أننى خططت فى بعض صفحاته ما كنت أحتاجه الآن لدعم ما أقدمه فى سياق مفهوم الوعى الجمعى والإدراك، والتطور، ومن ثم العلاج الجمعى والإيمان والثورة جميعا، وخاصة من مدخل مرتبط بثقافتنا الخاصة، الكتاب من تأليف: توم ستونير Tom Stonier  والحمد لله أنه مترجم بدقة فائقة بواسطة صديق رائع (2)

ما همنى تقديمه فيما يتعلق بالعلاج الجمعى هو اتساع تعريف الذكاء ليشمل الحيوان والنبات بل والجماد فلا يقتصر على الإنسان، وقد ربطت ذلك بما وصلنى من خبرتى فى العلاج الجمعى التى أكدت لى أن الأصل فى الحياة كلها من أول تركيب الذرة حتى غاية مطلق الكون إلى وجه الله هو ما يقابل ما يسميه ستونير “التطور الدينامى لما هو المادة/الطاقة/المعلومات(3).

 انتبهت وأنا أتابع الاحدث فالأحدث فيما كتب فى العلاج الجمعى مع ربطه بخبرتى التى انبثقت منها هذه الكتابات المتناغمة مع ثقافتنا أساسا إلى احتمال أن تكون هذه التجمعات الإنسانية الإيجابية، وإن تولّدت من ممارسة مهنية محدودة: أن تكون ضمن الإفاقة التى أحلم بها لتكوين الوعى العالمى الجديد فى مواجهة الاغتراب الكمى المتمادى (النظام “العولمى” “الأمريكى” “الإسرائيلى” “الصينى” الجديد)، وفيما يلى بعض خطوط مبدئية عن هذا المنطلق الخاص:

أولاً: اتساع مدى تعريف الذكاء:

 استعمل الكاتب كلمة الذكاء استعمالا خاصا مفيدا جدا، وإن كان مثيرا للجدل، وقد أرجعنى هذا الاستعمال إلى كتاب “دانيال دينيت” “أنواع العقول” (4) الذى أكرر الإشارة إليه كثيرا، وكيف أنه استعمل كلمة “العقل” ليفيد بها: منظومة البرامج البيولوجية التى تحافظ على بقاء أى نوع من الأحياء من الفيروس حتى الإنسان، وهو ما يقابل ما استعمله أنا مرة باسم تشكيلات “برامج البقاء”، وأخرى باسم “مستويات الوعى”، يقول ستونير فى كتابه هذا ما يلى:

“تنزع القواميس إلى تعريف الذكاء بأنه “المقدرة على الفهم، والقدرة على الاستيعاب وإدراك مغزى الأفعال أو أحد التواصلات”

 وندرِّس نحن لطلبة الطب:

 “أن الذكاء هو القدرة على استيعاب العلاقات الأساسية”

 فنلاحظ أن هذا أو ذاك لا يصف إلا نوعا واحدا من العمليات العقلية المعرفية الهادفة، وأن كثيرا من العمليات التى نقوم بها، بل وتقوم بها الأحياء الأدنى، قد توصف بالذكاء دون أن تتوفر لها تحديدا هذه المواصفات السالفة الذكر، وينتهى مؤلف الكتاب إلى تعريف خاص يتفق مع تخصصه فى المعلوماتية والتطور معا فيقول:

 “إن الذكاء يعتبر خاصة لنظم المعلومات، وبما أن المعلومات هى خاصة فيزيقية أساسية …، فعلى ذلك يكون الذكاء نتاجا لتطور نظم المعلومات”،

 وبالتالى فإن الذكاء لا يمكن التأكد من أمره إلا بملاحظة “ديناميات النظام أو سلوكه.

 ثم يقول: “..عندما تكون البيئة متغيرة يحتاج الأمر إلى الذكاء للإبقاء على سلامة النظام استجابة للمؤثرات، والاستجابة الذكية قد ينتج عنها أحد الحالات التالية:

 (1) أن يعزز النظام قدرته على البقاء.

 (2) أن يعزز النظام قدرته على التكاثر.

 (3) إذا كان النظام موجها بالأهداف فإنه يعزز من إنجاز الهدف،

وهكذا يتسع مفهوم الذكاء ليشمل كل نظام معلوماتى متسق هادف.

على هذا الأساس سمحت لنفسى أن أربط برامج البقاء بهذا التعريف الأوسع للذكاء.

كما انتبهت إلى الإشارة إلى ذكاء النبات بوجه خاص، وقد توقفت طويلا بألم مناسب، واحترام واجب، عند تعبير “ذكاء النبات”، ذلك أنه عندنا – فى الطب النفسى– حين يتدهور المريض الذهانى (الفصامى السلبى خاصة) تدهورا شديـدا، نقول – للأسف – إنه وصل إلى “حالة نباتية”، وكنت أجد صعوبة فى شرح هذا المصطلح لتلاميذى، وأحيانا اخجل حين أصف إنسانا أنه اصبح كالنبات، وكنت أيضا أقع فى حيرة مترددة تشعرنى أننى على خطأ، حين اشرح لهم، ولنفسى، أن الذى يحافظ على الحياة، على استمرار الحياة، أعنى الحياة الجسدية والنفسية معا، هو وجود “معنى” أو “غاية” ما، لا تبدو سهلة التحديد عادة فى الأسوياء، فما بالك فى عمق الوجود الفصامى المزمن، وكان عندى صديق جميل ظل صديقى عشرات السنين حتى أصبحنا هو وأنا كهلين، رحمه الله، كان قد انسحب من كل شىء – قبل أن يستأذن– حتى من الكلام، وفشلت معه كل محاولات العلاج، وظل صامتا لسنوات طويلة قبل أن يرحل إلى خالقه، وكنت أسأل عنه كل فترة، ويخبروننى أنه ما زال كما هو، وأقابله فأجده فعلا كما هو: يذهب للمطعم فى المواعيد، ويجلس تحت شجرته المفضلة، وينظر إلى من حوله بين الحين والحين نظرات ذكية (هكذا نصفها جميعا)، ويعتنى بدرجة متوسطة بنظافته الشخصية، وينام ليلا، وكنت أصفه لطلبتى  بأنه اصبح فى هذه الحالة التى نسميها “نباتية”، وحين يسألونى عن ماذا يعنى التعبير، أشير إلى احتمال أنه أصبح مثل الشجرة التى يحبها ويجلس فى ظلها معظم الوقت، وكنت أذهب أحيانا أتأمل هذه الشجرة، سواء كان جالسا تحتها أم لا، وأسأل نفسى: هل هذه الشجرة لها هدف فى الحياة حتى تبقى حية، وأرد على نفسى أن: نعم، لها، و..و لَهُ. وأتوقف عند ذلك ولا أحاول أن أتمادى فى الإجابة، وإن كان يخطر لى أن يكون هدفها أن تظلل صديقها هذا، حتى أننى خفت أن تذبل وتموت بعد رحيل صديقى هذا وقد تجاوز السبعين.

ثانياً: ذكاء “الجماد”:

سمح اتساع مفهوم الذكاء السالف الذكر أن تمتد صفة الذكاء إلى ذكاء الجماد، وكان ابسط توضيح لذلك هو ما جاء فى الكتاب ليثبت ذكاء بللورات السكر، حيث ورد بالنص:

“فالجماد فى صورة بلورة السكر مثلاً يبدى أيضا قدرة على معالجة المعلومات، فعندما توضع بلورة السكر فى محلول فوق مشبع، فإنها تمد المحلول بالمعلومات التى تؤدى لبدء تفاعل يؤدى إلى تنامى البلورة فيما يُعرف عامياً بالسكر النبات.

 والمعلومات هكذا صفة فيزيقية أساسية فى كل النظم الكونية، والذكاء ليس إلا نتيجة لتطور نظم المعلومات هذه، ويمتد الذكاء – بهذا المفهوم الموسع– يمتد فى طيف متصل من الظواهر تبدأ من أدنى الدرجات بظواهر ما يشبه الذكاء البدائى فى الجماد، ثم ما هو أرقى من ذلك فى النبات، فالحيوانات البدائية، ثم الحيوانات الراقية، لنصل إلى أرقى الدرجات فى ذكاء البشر كأفراد وكمجتمعات.

………..

ونكمل الأسبوع القادم

 

[1] – يحيى الرخاوى (مقدمة فى العلاج الجمعى (1) من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق) (الطبعة الأولى 1978)، (والطبعة الثانية 2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط.

[2] – Tom Stonier: “Beyond Information: The Natural History of Intelligence”, Publication: Springer Science & Business Media 1992 .

تأليف: توم ستونير “التاريخ الطبيعى للذكاء: ما بعد المعلومات” ترجمة د. مصطفى فهمى إبراهيم، وصدر فى سلسلة المشروع القومى للترجمة، سنة 2001

[3] – Dynamic evolution of the / energy /power/ information

[4]- دانييل دينيت: الكتاب المترجم  باسم “تطور العقول” صادر عن “المكتبة الأكاديمية” القاهرة 2003

  Daniel C. Dennet 1996: Kinds of Minds Towards Understanding of Consciousness   

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *