الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / كتاب: مقدمة فى العلاج الجمعى “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق” الفصل الثانى عشر: “علاقة هذا العلاج الجمعى بالفلسفة، و(الديالكتيك)” (2)

كتاب: مقدمة فى العلاج الجمعى “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق” الفصل الثانى عشر: “علاقة هذا العلاج الجمعى بالفلسفة، و(الديالكتيك)” (2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 14-3-2021

السنة الرابعة عشر

العدد: 4943

   كتاب: مقدمة فى العلاج الجمعى  

 “من ذكاء الجماد إلى  رحاب المطلق”  (1)

الفصل الثانى عشر:

“علاقة هذا العلاج الجمعى بالفلسفة، و(الديالكتيك)” (2)

 مقدمة:

فى هذه النشرة سوف نغامر بنشر اجتهادات تتناول محاولة الربط بين تقنية علاجية محددة وهى بمثابة آلية فنية إبداعية بالغة الدقة، وبين ما يمكن أن يلامسها من أفكار فلسفية راسخة ومتنوعة وعميقة وصعبة، فنرجو السماح.

ربما يخفف من جرعة الصعوبة تأجيل نشرة بقية للنشر إلى الأسبوع القادم مع مغامرة قطع السياق حيث هما متكاملتان بلا جدال، حتى ننصح بقراءتهما معا الأسبوع القادم حيث تشمل نشرة الأسبوع القادمة: “الديالكتيك وحركية تشكيل نمو النفس وإبداعها”

وأيضا: “ماهية هذا العلاج وعلاقته بذلك”

………………………..

بعض أوجه الشبه

مناهج الفلسفة ، خاصة فى الممارسات الأصلية والحوارات الشارحة، هى آليات لها أسماء وتوصيف لا تقل قواعدها إلزاما عن آليات ومناهج العلاج الجمعى، وفيما يلى مجرد إشارات إلى بعض ما يمكن أن تلتقى فيه هذه بتلك:

(1) يلاحظ المتتبع لكثير من الحوارات والتفاعل فى العلاج الجمعى  ما يشبه مبدأ “التوليد” الذى اتبعه سقراط للوصول إلى الحقائق، وقد ظهرهذا جلياً فى رفض الإجابة على الأسئلة أحياناً، وقلبها جملا إخبارية أحياناً أخرى، وأيضا فى طرح أسئلة مقابلة بديلا عن الإجابة الجاهزة.

(2) يهدف العلاج عادة  إِلى تأكيد افتراض أن لكل مشكلة جانبين يكادان يتساويان فى القوة فنتذكر فى هذا الصدد  محاورة بارمنيدس حيث يقول أفلاطون “إن لكل مشكلة جانبين ويمكن الدفاع عن أيهما بمثل القوة التى ندافع بها عن الآخر”.

 (3) يظهر مبدأ رفض الثرثرة والجدل العقلى (الدردشة) الذى ننبه إليه  فى كل جلسة علاج جمعى تقريباً، وهو ما يقابل النقد الموجع للسفسطائيين عندما ذهب فكرهم إلى درجة أن أصبحت غاية التفكير هى الانتصارعلى الآخر وليس الوصول للحقيقة

(4) يتكرر فى العلاج الجمعى الهجوم على الموقف الحُكمى لأحد الأفراد على فرد آخر أو على الآخرين عموما، وفى ذلك ما يلامس مع الفارق الموقف الشاكّ لـ”بيرون” حين يؤكد أنه: لا مجال للحكم على شئ من حيث المبدأ؟

 (5) لعل فى التأكيد على الحرية والاختيار والمسئولية ما يؤكد المبدأ الأساسى فى الفلسفة الوجودية وهو أن الوجود يخلق نفسه باستمرار، وأن الانسان هو حريته.

(6) إن محاولة الانتقال من الحب الفردى والعلاقة التكافلية المعطِّلة إِلى التأكيد على تنمية “القدرة على الحب” لكل من يستحقه (أو من لا يستحقه أحيانا) ما قد يشير إٍلى موقف أفلاطون من الحب، ذلك الموقف الذى أسئ فهمه أشد الإساءة. بزعم أنه “حب عذرى” أو “حب مثالى”..الخ .

 (7) نلاحظ أنه باتباع مبدأ “أنا – أنت”، تسعى المجموعة فى إصرار إلى كسر التحوصل حول الذات بما يؤيد أن الوجود الفردى لابد له أن يتناسق مع الوجود العام، الأمر الذى ناقشه هيدجر تحت مفهوم “التواصل” و”ياسبرز” تحت مفهوم “الأنت”.

(8) إن فى التأكيد على ضرورة خوض تجربة – “هنا والآن”– حية كأساس للشفاء، أى الأساس للنمو والتغير، ما قد يلامس – من عمق معين– رأى جابرييل مارسيل فى ضرورة العودة إلى تلك “الخبرة الأولى”..

 (9) تتكرر فى الجلسات محاولات الدعوة إلى التقاط الفرصة لبداية جديدة من تجربة حية،  بما يشبه الرأى الوجودى فى مغامرة إظهار الضعف والاعتماد ، وربما يقابل ذلك هشاشة النفس عند ياسبرر أو تجربة سقوط الدفاعات القديمة قبل ظهور البديل أى الاقتراب من المأزق الذى ربما يقابل الغثيان عند سارتر

(10) ربما يكون فى السماح المحسوب بالنكوص المحدود، فى دراما، أو لعبة، (وخاصة ما أشرنا إليه من حماسنا للذات الطفلية عند إريك بيرن فى بداية خبرتنا) ما يذكرنا بشكل ما باتجاه المدرسة الأبيقورية فى تقديس مبدأ اللذة.؟

 (11) ثم إننا يمكن أن نستشعر ظهور مبدأ البراجماتية فى كثير من الأحيان،  وذلك بالإصرار على إرجاع كل مسار العلاج إلى الواقع العملى، ومثال ذلك حين تُرفض البصيرة العقلانية، ويصر المعالج والمجموعة على الوصول إلى البصيرة الحقيقية التى تستقر فى القلب ويصدقها العمل…، وفى كل ذلك ما يؤكد المبدأ البراجماتى من أن الفكر غائىّ بطبيعته، وأن المعرفة لا ينبغى أن تكون إلا أداة فى خدمة العمل.؟

(12) وقد لاحظنا أنه  فى محاولة تصعيد الإدراك لدى أفراد المجموعة من استقبال الآخرين والأشياء باعتبارهم “موضوعات ذاتية” إلى استقبالهم باعتبارهم “كيانات موضوعية”، ما يلقى بنا مباشرة فى خضم نظرية المعرفة Epistemology بأمواجها المتلاطمة بين المثالية والواقعية. إن تطور الإدراك من الذاتية إلى الموضوعية لا يتم فقط بالطريقة التى اقترحها “كانْت” فى مثاليته النقدية (التى لم أفهمها إِلا من خلال نظرية تنظيم “اعتمال” المعلومات) ولكنها أقرب ما تكون – أيضاً – إلى تصاعد مراتب الوعى عند هيجل فى ممارسة تجريبية عملية.. حية “هنا والآن”.

علاقة هذا العلاج الجمعى بالديالكتيك  

الحديث عن الديالكتيك، هو أصعب مراحل تقديم الخلفية النظرية لهذا العلاج ، وفيما يلى بعض ما يوضح موقفى إزاء هذه القضية:

أولاً: منذ وصفت هذا العلاج بأنه “تنشيط ديالكتيك النمو” وهذا مثبت بوضوح فى الكتيب المقدمة (1978) (2)، لم أعد إليه لمزيد من الإيضاح وحتى الآن.

ثانياً: إن قراءة هيجل أو الاستشهاد به أو فهمه، كل ذلك يمثل لى مهمة صعبة، لا أزعم أننى فى مستوى تناولها بالقدر الكافى.

ثالثاً: إن الحديث عن الديالكتيك، أو الكتابة فيه، هو ضد الديالكتيك نفسه، هذه ليست مقولتى، ولا أذكر أين قرأتها لكنها أفادتنى كثيرا، وهى مقولة صحيحة، بالغة الدلالة.

رابعاً: جرى استعمال لفظ الديالكتيك فى علاجات نفسية، مفيدة وهامة، لكننى وجدتها أبعد ما تكون عن ما وصلنى من هذا اللفظ، ومن استعماله لشرح طبيعة العلاج الجمعى الذى نمارسه،  ومن ذلك العلاج السلوكى الديالكتيكى Dialectic Behaviour Therapy، وقد ابتدعته مارشا لينهان Marsha M.Linehan 1999، (3)وهو علاج  ليس له علاقة بالعلاج الجمعى بالذات، كما أن آلياته وأساليبه مليئه بالمناقشات والتوجيهات والتدريبات السلوكية الظاهرة، يهدف كثير منها إلى تعديل الأفكار السلبية والسيطرة على موجات الانفعال الانفجارية، كما أنه يمثل إحدى تجليات العلاج المعرفى المتتالية مثله مثل علاج القبول والالتزام Acceptance Commitment Therapy   أو علاج “شحن الذهن”Mindfullness الذى يساعد المريض على احتواء فرط الانفعال …الخ، وما لكل ذلك من آليات لا تستعمل عادة فى العلاج الذى نمارسه، بل إن بعضها نتجنب استعماله بشكل عام، لكثرة ما فيه من التوجيهات المباشرة والتدريبات.

خامساً: لم أجد كلمة بالعربية – للأسف- تفيد ما وصلنى من الكلمة بالانجليزية Dialectic، بل إن الكلمات الجاهزة للترجمة مثل جدل وجدال تفيد أنواعا من الحوار (الفكرى واللفظى والتجريدى) تبعدنا عن حقيقة حركية الديالكتيك كما وصلتنى وكما أود أن أنجح فى تقديم بعض أبعادها.

سادساً: إن انتمائى الأساسى الجوهرى لنظريات التطور جعلنى أفهم كيف أتعامل مع ظاهرة الديالكتيك بشكل عام على أنها أساس فى حركية “الطفرة” التى تتخلق منها الأنواع من خلال الجدل الحيوى بينها، وأنا اعتبر هذا فرض يحتاج إلى فحص من علماء التطور أساسا أكثر من علماء النفس أو الطب النفسى.

سابعاً: إننى مثل كثير من الفروض التى وصلت إليها من خلال غوصى فى فعل الإدراك ودوره فى الحفاظ على الحياة عبر التاريخ (قبل وبعد التفكير واللغة) قد اكتشفت أن غموض طبيعة الادراك المتجاوز للحواس إنما يرتبط بشكل ما بغموض طبيعة الديالكتيك وصعوبة تناولها.

ثامناً: بفضل التركيز المتناهى فى “هنا والآن” فى هذا العلاج الجمعى الذى نمارسه وصلتنى من نشاط مجموعات بشرية لا تتناقش ولا تتحاور ولا تتصارع مع بعضها البعض، وإنما تتفاعل وتتواجه و”تتادَلَكْ” (4) أسبوعا بعد أسبوع (بل ثانية بعد ثانية، بل فى أجزاء الثوانى) وصلتنى طبيعة حركية التواصل البشرى على مسار النمو الإنسانى بشكل لا يفسره غالبا إلا الملامح الأعمق لهذه العملية المسماة الديالكتيك.

تاسعاً: قدرت أن تقديم الديالكتيك قد يتضح ولو نسبيا إذا أكدنا ابتداء على ما هو ليس هو كالتالى:

 (1) هو ليس الجدل حواراً عقلياً كما يتصور البعض.

 (2) وهو ليس محددا بصراع بين ضدين بمعنى “الصراع” Conflict ، ومن ثم تحقيق درجة مناسبة للتكيف فى محاولة حل هذا الصراع.

(3) كما أنه ليس حلا توافقياً وسطاً بين قطبين على أقصى محور ممتد، أى أنه ليس “حَلْوَسَطَاَ” Compromise  تسكينا.

(4) ولا هو احتواء أحد المتصارعين للآخر.

 (5) وليس الديالكتيك مبرراً للحفاظ على سلبيات الحياة بجوار أو حتى بداخل إيجابيتها (ولعل هذا الفهم الخاطىء هو ما استثار كيركجارد ضد هيجل وضد اجتماع الأضداد بالذات حتى الرفض).

(6) ولا هو عملية تبادلية تسمح باتفاق دورى يتم من خلاله تبادل الأدوار وتناوبها بين المتناقضين بشكل منتظم، لأن هذا ينتمى إلى “الإيقاع الحيوى” وهو أحد آليات التطور، وأساس استمرارية الحياة، وله علاقة بحركية الديالكتيك، لكنه ليس هو.

 (7) وأخيراً: فالديالكتيك ليس تجريدا منفصلا عن عيانية نشاط المخ، ولا عن الأساس البيولوجى للنمو والحياة.

…………..

ونكمل الأسبوع القادم

 

[1] – يحيى الرخاوى (مقدمة فى العلاج الجمعى (1) من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق) (الطبعة الأولى 1978)، (والطبعة الثانية 2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط.

[2] – يحيى الرخاوى، “مقدمة فى العلاج الجمعى”  دار الغد للثقافة والنشر.  الطبعة الأولى (1978)

[3] – Janowsky, David S. (1999). Psychotherapy indications and outcomes. Washington, DC: American Psychiatric Press. p. 100. ISBN 0-88048-761-5.

  1. M. & Dimeff, L. (2001). Dialectical Behavior Therapy in a nutshell, The California Psychologist, 34, 10-13.

[4] – أول مرة استعمل فعل تدالّكَ من ديالكتيك، وأعتقد أنه قد آن الأوان لنحته ربما نخرج من هذا المأزق.

تدالك، يتدالك، أى عايش وشكل الديالكتيك ومارسه فهو متدالك والاسم ديالكتيك!!.

 

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *