الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / كتاب: مقدمة فى العلاج الجمعى “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق” الفصل الثانى عشر: “علاقة هذا العلاج الجمعى بالفلسفة، و(الديالكتيك)” (1)

كتاب: مقدمة فى العلاج الجمعى “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق” الفصل الثانى عشر: “علاقة هذا العلاج الجمعى بالفلسفة، و(الديالكتيك)” (1)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 7-3-2021

السنة الرابعة عشر

العدد: 4936

   كتاب: مقدمة فى العلاج الجمعى  

 “من ذكاء الجماد إلى  رحاب المطلق” (1)

الفصل الثانى عشر:

“علاقة هذا العلاج الجمعى بالفلسفة، و(الديالكتيك)” (1)

مقدمة:

عبر أكثر من أربعين عاما من ممارستى العلاج الجمعى فى قصر العينى ساعدنى المستوى التعليمى والثقافى لكل هذه المجموعات أن أتأكد من أن الفلسفة ليست كما يتصور المثقفون والأكاديميون، بل هى معايشة كل إنسان من حيث هو إنسان لما هو وعى ووعى بالوعى، فهى ليست نشاطا عقليا كما شاع عن العقل، وقد  ساعدتنى الألعاب النفسية بوجه خاص على كشف حركية ديالكتيك النمو من خلال التوليف الحيوى الماثل أمامى فى ممارستى محرّكا ومشاركا، كما اتضح لى أكثر فأكثر أن مفهوم “فعل الفلسفة” يتجلى من خلال التركيز على قاعدة “هنا والآن”.

…. عرفت الفلسفة من ممارسة مهنتى ووصلت إٍلى بعض مسائلها مواجهةً، ومحاولة حلٍّ من خلال تحدِّى مرضاى وهم يقذفون فى وجهى بمشاكل الوجود والصيرورة وأنا لا أجرؤ أن أسمى هذا أو ذاك بالعرَض الشائع “أفكار شبه فلسفية” Pseudo-philosophical thoughts وهو ما يسارع صغار المتدربين والزملاء إلى لصقه على المريض بمجرد ألا يفهم ما يقوله المريض، (وكذا، ربما زملائى كبار التقليديون)، وأسال الزميل الأصغر  عادة: وهل انت تعرف الفلسفة حتى تعرف ما يشبهها؟!! ولا يشبهها

إشكالة تعريف الفلسفة:  

 – هل هى الحكمة؟ أم حب الحكمة؟

 – وهل هى دراسة المعارف؟ أم أصل المعارف؟

– وهل هى علم الوجود؟ أم علم الموجودات أم ليست علماً أصلا؟

– وهل هى دراسة منظومات القيم؟  أم دراسة النسق الفكرى المتكامل؟ أم هى النشاط العقلى ذاته؟

–  وهل هى معرفة الواقع؟ أم ما هو ليس واقع لكنه واقع؟

 الفلسفة غير التفلسف، وعالم الفلسفة، غير دارس الفلسفة، غير الفيلسوف،  كما أن كل ما يمكن أن نتعلمه ونعلمة هو  علم الفلسفة، وأحيانا التفلسف وليست الفلسفة، وبالتالى فالذى قد يصعب علينا هو التفلسف أما الذى تخيفنا معايشته فهو الفلسفة.

إن قول أحد الوضعين المنطقيين مؤخراً “.. إن الجمع بين العلم والفلسفة أصبح ضرورة لا غنى عنها، وأن الفصل الذى تم بينهما فى غضون القرن التاسع عشر كان له أسوأ النتائج على العلم والفلسفة على السواء” هو قول يصدق أكثر جدا على علمنا هذا. (الطب النفسى إذا سُمِّى “علما” تجاوزاً)، وهو يصدق أكثر على هذه الخبرة التى تسمى العلاج الجمعى .

من خلال هذه الممارسة اكتشفت أن الفلسفة هى ممارسة أساساً، ثم يأتى التنظير بعد ذلك (أو لا يأتى)، تماما كما ذكرت بالنسبة للمنهج الذى أرى أنه الأقرب إلى ما نمارسه، وبغير احتمال شجاعة هذه الممارسة فإننا إنما نقوم بعملية عكسية غالبا: هى وأد كل محاولة تجديد مقتحم، لا تنطبق عليه شروط البضاعة المعروضة فى السوق.

إن الفلسفة برغم ما شاع بين الناس وكيف أنها تبدو من أكثر المجالات حاجة إلى التخصص والموسوعية، إلا أن من المعروف أن أسئلة الأطفال هى هى أسئلة الفلاسفة، دع جانبا الإجابات الآن، ولكل واحد منا موقف فلسفى تحت جلده وهو لا يدرى غالبا.

يوجد بين الأطباء النفسيين ظاهرة تسمى “رهاب الفلسفة”، إذْ قد تعتريهم أعراض حساسية أو أتونوميه بمجرد سماع الكلمة مع أنه توجد شعبة فى الجمعية البريطانية الملكية للطب النفسى اسمها “الفلسفة -علم النفس- الطب النفسى“ P.P.P Psychiatry – Psychology  Philosophy & وقد كنت عضوا فيها إلا أننى لم أشترك فى أى نشاط لأسباب خاصة، حتى استغنوا عنى غالبا.

اجتهاد:

يا ترى هل أستطيع أن أضع معالم لما أعنيه – هنا على الأقل –  بهذا اللفظ “الفلسفة”، دون طمع أن يصل إلى مستوى “التعريف” فأقول:

“الفلسفة هى المحاولة المستمرة المتجددة ، للحياة المغامرة فى اتجاه معين، فى لحظة ما … مع قبول مبدأ التغيـّر دائما مع استمرار المحاولة..والتعلم والنقد لإعادة التشكيل، وقد يصحب ذلك درجة من التنظير المعرفى أو لا يصحبها، لكن هذه المحاولة تتصف تقريبا دائما بالعمل الدائب فى منطقة حركية المتناقضات فى تنشيط جدلى واعد بولاف متصاعد، أى نمو مضطرد”

ثم إنى حين أعدت النظر فى هذا التوصيف الشامل خجلت لأننى وجدت أننى لا اصف الفلسفة، بل الحياة النابضة للإنسان النامى حالة كونه متناه يسعى إلى اللا متناه، مستعملا فى ذلك مكاسبه التطورية والبيولوجية، وخاصة الرمز والتجريد والإبداع، فى رحلة وجودية صيرورية معرفية مغامرة.

ما هذا ؟ هل أنا أشرح نفسى أم أزيد ألامور تعقيدا؟ وما علاقة ذلك بالطب النفسى، وما علاقته بالبيولوجى؟ وما علاقته بالعلاج الجمعى؟

الفلسفة ليست نقيض البيولوجى

 أعيش على أمل أن يتفلسف الأطباء وهم يخطون خطواتهم المتواضعة فى الحياة اليومية العملية وهم يمارسون مهنتهم بمعارفهم العضوية الثرية من كيمياء وطبيعة وفسيولوجى . .، فيتعرفون على علم الحياة Bio- Logy  فى عمق وحدته الأولية، كما آمل فى نفس الوقت أن يخوض الفلاسفة دنيا البيولوجى فى غير تردد، وقد فعلها منهم الكتيرون وأثروا معارفنا الطبيعية والرياضية بلا حدود، هل فى هذا الأمل بعض ما كان يعنيه أبو الأطباء “أبو قراط” حين قال: “إن ما يصلح للطب يصلح للفسلفة، وما يصلح للفسلفة يصلح للطبيب، والطبيب الفيلسوف هو فى منزلة الآلهة”؟

  • أغلب الفلاسفة عبر القرون كانوا يحلمون بمعمل للأفكار: يختبرون فيه أفكارهم ويتحققون منها ثم يُوَلِّدون غيرها ما أمكن، كما أن بعضهم قد زاد طموحه حتى تصوّر أن هذا المعمل هو الحياة العامة – والسياسية بالذات، مثل حلم أفلاطون بالملك الفيلسوف (ومحاولاته الفاشلة!!) وكذلك محاولات الماركسيين بعد ذلك … وأعتقد أن هذ الحلم ظل أيضا يراود الفلاسفة من بيكون إلى الوضعين المنطقيين، إلى غيرهم، ولعل فى هذا وحده دليل على إلحاح هذا الخيال، فهل يا ترى ما زال هذا الحلم قابلا للتطبيق، وكيف؟

يبدوا أن الفلسفة باعتبارها ممارسة نوعية لحياة بشرية نشطة ورائدة، إنما تتجلى فى رحلات أفراد ومجموعات صغيرة ، برغم أنها تغرى بأنها أسلوب قابل للتعميم من خلال مناهج وبرامج جماعية مختلفة، لكن التاريخ والواقع يحذران من هذا التعميم، كذلك فإن محاولات التطبيق فالإحباط ينبهان أن ثمَّ خطأ فى هذا الحلم الضاغط، فتظل الفلسفة هى البرنامج الحيوى الأقرب لكشف الطبيعة البشرية فى حدود الأفراد والمجموعات الصغيرة، مع إتاحة الفرصة لاستلهام معطياتها ببرامج أخرى لأغراض أخرى، ومن بين هذه المجالات المحدودة، اكتشف أن العلاج الجمعى – كما نمارسه – يمكن أن يكون إحداها.

العلاج الجمعى والفلسفة

فى السنوات الأولى لممارستى  هذا العلاج الجمعى فى “قصر العينى” خيل إِلىّ أحيانا أنى فى معمل لاختبار الأفكار كما كان بعضهم يصور الفلسفة، ثم تطور تصورى إلى أنه ليس معملاً لاختبار الأفكار فحسب بل إنه مصنع أيضا لتوليد أفكار جديدة، ثم إنه أيضا مجال عملى لاختبار فاعلية هذه الأفكار فى التغيير، لكننى مؤخرا وبعد  دخولى إلى مرحلة التعرف على محيط الإدراك، وقنوات المعرفة الأخرى، تجاوزت التركيز على ما هو “أفكار” إلى النظر فى حركية الوعى، ومعرفية الإدراك، وتجليات الإبداع فى واقع الممارسة أساسا، ولم تغب عنى معالم “فعل الفلسفة” فى كل ذلك أبدا.

العلاج الجمعى ليس حقل تجارب لأفكار أو مسيرة مجموعة من البشر

القضية التى أتناولها من خلال ممارساتى هذا العلاج هى قضية كيانية تتعلق بالوجود وجوهره، حتى أننى اتجهت فى مرحلة من تفكيرى (حيرة طبيب نفسى) إلى تصنيف الأمراض النفسية إلى أمراض كيانية (وهى مركز اهتمامى) وأمراض تكيفيه (وهى على هامش انتباهى…)، والعلاقة بين النوعين وثيقة مما لا مجال لتفصيله هنا حالا.

قضية الوجود قبل الماهية تعتبر تأكيداً للاختيار، وأن الانسان صانع نفسه، ولكنى قد أشرت سابقا إلى أنى أضع الماهية الكامنة بدءًا من الإرث الجينى، والتاريخ الحيوى، أساساً لما يحدث فيما بعد، وكأن الوجود يحور الماهية بشكل محدود حسب فرص تفاعله فى المكان والزمان معاً، ولكنه لا يصنع الماهية ابتداء، ومن هنا جاء تركيزى على أن قضية الوجود البشرى ليست هى “تكون أو لا تكون” To be or not to be ولكنها مسار الصيرورة “تكون أو تصير”  To be or to become، علما بأن الصيرورة لا تحل محل ضرورة تحقيق الوجود أولا، ولكنها تنطلق منه.

ثم ماذا بعد:  

ثـَمَّ تساؤلات لا بد أن تطرح الآن قبل الدخول فى صلب التخصص.

  أين العلاج النفسى الجمعى  من كل هذا؟.

 ألا يشوه هذا التنظير مسيرة العلاج النفسى ويخرجه عن هدفه، أو يفرض عليه ما ليس له؟

وللرد على ذلك أجتهد فأقول:

1- إٍن هذه المشاكل الكيانية والصيرورية موجوده عند الشخص العادى، وهى ليست مشكلة خاصة بالمختصين فى الفلسفة، إنها طبيعة النمو، وحركية الوعى البشرى لا أكثر ولا أقل.

2- إن المرض النفسى هو المظهر الطبنفسى لإعلان الفشل (المؤقت أو المضطرد) فى هذه المواجهة العنيفة غير المحسوبة، مع هذه المشاكل الحية التى يعيشها الإنسان بغض النظر عن مدى وعيه بها، أو قدرته على تسميتها، أو نجاحه فى التعبير عنها.

3- إنه بحسب درجة الوعى ونوع اللغة المستعملة تكون الممارسة التى هى هى الفلسفة دون أن تسمى كذلك (وهذا أفضل).

4- إن وعى المعالج الجزئى والمتجدد بهذا الموقف دون حاجة إلى كلام، هو السبيل لإثارة وعى مقابل من جهة المرضى مما يساعد فى تحديد موقف مسئول تجاه ما فرضته الاستعدادت البيولوجية الأساسية لتتحرّك فى المجال المتاح، فى حدود فرص التفاعل مع المحيط بما يشمل الآخرين. (والمجال المتاح هنا هو “المجموعة العلاجية”).

5- لاحظنا أيضا أن  مسيرة العلاج النابعة من المشاكل المطروحة وكذلك قواعد العلاج التى مارسناها، وحورناها، وابتدعنا غيرها، تتصل اتصالا مباشراً بمشاكل الفلسفة الحية، التى إذا كنا قد نجحنا فى الهرب منها فيما يسمى العلم، فإِن المرضى جاؤوا يذكّرونا بها من واقع مآسى وجودهم، ومدى تعرّيهم، وليس أمامنا إلا أن نواجه مسؤوليتنا تجاهها (دون تسميتها فلسفة، هذا أفضل).

6- إن الأعراض التى هى الدافع الأول لحضور المريض للاستشارة، تزول، ليس بالضرورة بالتركيز على إزالتها، وإنما كنتيجة “لاضطراد النمو” من واقع “تنشيط جدله” الذى هو “فعل الفلسفة” أو من واقع تراجع المحاولة.

7- ليس مطلوبا من أى معالج (فى العلاج الجمعى خاصة) أن يتبع فلسفة بذاتها كما زعم “بيرلز” أنه يتبع الفلسفة الوجودية فى علاجه الجشتالتى الجمعى، مما لا يطابق الواقع تماما كما أشرنا سابقا، ولكن الذى يحدث هو أن المعالج يكتشف تلقائيا بعد تدريب وإشراف ووقت كاف، أنه يمارس فلسفته الخاصة دون تسميتها، وأنه مسؤول عن ذلك، وعن تغييرها كلما سنحت الفرصة من واقع تفاعله مع المرضى ونفسه ونتائجه، ثم يكتشف أن حركية النمو ونوعية النتائج هى التى تحدد المسار وليس محتويات المعتقد الذى يتصور أنه يعتقده.

……………

ونعرض الأسبوع القادم: بعض أوجه الشبه .. وعلاقة هذا العلاج الجمعى بالديالكتيك 

 

 [1] – يحيى الرخاوى (مقدمة فى العلاج الجمعى (1) من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق) (الطبعة الأولى 1978)، (والطبعة الثانية 2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط.

 

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *