نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 17-1-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 4887
كتاب: مقدمة فى العلاج الجمعى
“من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق (1)
الفصل الحادى عشر
علاقة العلاج الجمعى بالعلاجات غير النفسية (العضوية) الأخرى (1)
أولاً : العلاجات (الفارماكولوجية) بالعقاقير
يتميز ما يجرى فى خبرتنا – وفى هذا البحث أيضا- بأن تصنيفات المشاركين فى هذا العلاج غير متجانسة، وبالتالى هى تشمل أغلب أنواع الاضطرابات، بل إنه يكاد يغلب فيها عدد الذهانيين واضطرابات الشخصية على غير ذلك من تشخيصات، ويبدو أن البحث الحالى كان يمثل تحديدا هذا الترجيح، فقد كانت أغلب الحالات من نوع الاضطرابات الجسيمة، وكان حوالى نصف المرضى يتعاطون عقاقير فى نفس الوقت، ولكن هذا البحث لم يقدم لنا إشارات واضحة عن دور هذه العقاقير والعلاجات “مع” العلاج الجارى أو “بديلا عنه” أو “معوقاً” له، ولا أستبعد نقداً من بعض العتاة يقول: “من أدرانا أن هذا التغير الذى تزعمون ليس نتيجة للعقاقير التى يتناولها هؤلاء المرضى، فهو ليس نتيجة للعلاج الجمعى بالذات؟” إلا أن الباحث كان حذراً منذ البداية، فأعلن أنه يبحث فى طبيعة وأبعاد العملية العلاجية، وليس فى نتائجها تحديدا، ولا هو وضع فرضا عن علاقة النتائج بمتغير علاجىّ بذاته، وربما ترك بحث هذا الأمر لمرحلة تالية.
وأبدأ بأن أوضح بعض الخطوط العريضة بهذا الشأن:
1- مجموعة هذا البحث تعانى من اضطرابات شديدة بصفة عامة: 6 فصاميين، 7 اضطراب شخصية شديد مما يعتبر مكافئا غائيا للفصام من منظور تطورى خاص.
2- كثيرون من مجموعة البحث لم يستجيبوا “لكل” العلاجات السابقة وحدها بما فيها العقاقير الكيميائية والجلسات الكهربائية، ليس بمعنى أن حالتهم متدهورة أو مستعصية، ولكن بمعنى أنهم مروا بعلاجات كيميائية وفيزيقية مختلفة لم تحقق لهم الشفاء، ثم التحقوا بهذا العلاج.
3- أثنان من المجموعة دخلا المستشفى فترة من الوقت أثناء العلاج، الأول: لبضعة أسابيع، والثانى: مازال بها (وقت إجراء البحث، وكان يحضر خصيصا من المستشفى ليحضر جلسات العلاج في عيادتى الخاصة).
الأساس التطورى البيولوجى لاستعمال العقاقير عموما، وفى العلاج الجمعى.
كانت فكرة التغيير الفعلى لتركيب الدماغ واصلة إلىّ من الممارسة منذ البداية، وذلك من خلال العلاج عامة بما فى ذلك العلاج النفسى، والعلاج الجمعى خاصة، على أن ذلك كان – ومازال– مرتبطا بانتمائى للفكر البيولوجى التطورى بالمعنى الاوسع، هذا المدخل هو الذى هدانى إلى فروض فاعلية العلاج (نقد النص البشرى) من حيث أنه يؤكد إعادة تشكيل بناء المخ من خلال العلاقة العلاجية، وهو الذى تطور مؤخرا مع نمو العلم المعرفى العصبى، وتبنـِّى مفهوم المطاوعة النيورونية، فتحققت بعض فروضى الباكرة تدريجيا: وبناء على ذلك فإن ما يميز الطريقة المتبعة فى هذا العلاج طول الوقت هو التزاوج المرن بين التداوى بالعقاقير وخاصة النيورلبتات الجسيمة Major Neuroleptics والتى يمكن ترتيبها بحسب فاعليتها الانتقائية المتصاعدة هيراركيا تبعا لتأثيرها على مستويات المخ من منظور تطورى أساسا، بما يسمح بالتحرك مع جرعات الأدوية ونوعها، حسب تطور الحالة، ومتابعة فروض التغير في تشكيلات الأمخاخ وعلاقتها ببعضها البعض ويجرى تحديد ذلك بمشاركة المرضى أحيانا. (انظر بعد).
إن النظرية التى تنتمى إليها هذه المعالجة هى تطورية فى المقام الأول، وهى تتكامل مع مراحل النمو إذ هى موازية لنظرية “العلاقة بالموضوع” Object Relation Theories، وقد ظل هذا المفهوم التطورى بالإضافة إلى ما قمت بتطويره لنظرية الاستعادة (Recapitulation Theory) هو الذى يسمح لنا بالتعامل مع العقاقير انتقائيا حسب تطور العلاقة العلاجية من خلال ملاحظات حركية استعادة، وإعادة، النمو ومواصفات نشاط المواقع النمائية (التطورية) المختلفة (2) وليس مجرد ظهور أو اختفاء الأعراض.
وفيما يلى الخطوط العريضة لكيفية استعمال العقاقير عموما، ومع العلاج الجمعى حسب هذه الفروض التطورية:
(1) نحن نستعمل عددا قليلا من العقاقير المهدئات العظيمة (النيورولينات الأقدم عادة التى أمكن التعرف على فاعليتها الانتقائية على أى مستوى تطورى (أى الأمخاخ الأقدم فالاحدث…) ومضادات الاكتئاب التقليدية (ثلاثية الدوائر عادة) وهى التى نستعملها انتقائيا أيضا من خلال الخبرة الطويلة معها إذ أنها هى الأخرى الأقدم فى خبرتنا. (أنظر بعد).
(2) لا يرتبط ذلك تحديدا بالتشخيص التقليدى للمرض ولا بالموقع الكيميائى المشتبكى لفاعلية العقار، وإنما يتوقف على التخطيط الإمراضى (سيكوباثولوجيا) لكل مريض، حيث يوضع من خلاله فرض يصف ما يجرى من نشاط كل مخ من الأمخاخ المتراتبة تطوريا وهيراركيا ونمائيا وتحديد أى مخ ناشزٍ أو مغيرٍ من واقع الأعراض وتغيرها، والعلاقة بالمعالج واختلاف المسافة، وتلقائية المشاركة فى التأهيل والعلاقة بالواقع، ومن خلال ذلك يمكن رصد صراعات الأمخاخ مع بعضها، وتحديد غلبة أيها – فى هذا الاضطراب بالذات فى هذا المريض بالذات فى هذا الوقت بالذات.
(3) تُرسم الخطة العلاجية على أساس الحدّ من النشاط العشوائى للمستويات الأقدم التى تنشطت على حساب المستوى الأحدث الذى كان قائد فريق الأمخاخ (نقطة انبعاث النبض المخىPace Maker ) فى حالة اليقظة والسلامة، والمخ الأحدث هو المخ الذى يحتفظ بعلاقاته بالواقع فعلا يوميا، ويحافظ على علاقته بالآخرين (الموضوع) مسايرة مقبولة، وتبادلا متحـَمـِّلاً، وذلك بصفة غالبه ودورية وإيقاعية وقائدة، وليس بصفة جاثمة مستبعدة لغير طول الوقت.
(4) تُعطى العقاقير على هذا الأساس باعتبار أن المخ الأقدم الذى يحضر عادة فى شكل عدوان، أو بدائية، أو نكوص اعتمادى وانسحاب من الواقع: يحتاج لنوع من العقاقير الأقوى فاعلية جدا للتثبيط، ويبدو أن اروع ما يميز هذه العقاقير منذ اكتشف عقار الكلوربرمازين هو هذه “الانتقائية”، وأن أقوى هذه العقاقير بالتالى هو أقدرها على التحكم فى فرط نشاط المخ الأقدم وهو حتى الآن (3): عقار الهالوبيريدول. (ثم العقاقير الأحدث زيبركسا، أولابكس، القادرة على تثبيط النشاط الناشز لأكثر من مستوى بدائى واحد).
(5) يتم ترتيب العقاقير هذا الترتيب الهيراركى على مر السنيين، من واقع الممارسة الاكلينيكة، والمتابعة السيكوباثولوجية (النفسمراضية) حتى يصبح استعمال عقار حديث يحتاج لفروض تشكيلية لتحديد فاعليته الانتقالية أكثر مما يحتاج لتبريرات معملية بيوكيميائية.
وهنا أقر واعترف بصعوبة إقدامى على استعمل أى عقار جديد إلا بعد أن أجد له مكانه على سلم هذه الهيراركية بتجربته لمدة طويلة تصل أحيانا لسنوات.
(6) يُفضل استعمال الأسلوب المتقطع فى إعطاء هذه العقاقير Zigzag اعتمادا على أن المقصود ليس هو التثبيط القاهر حتى التهميد النهائى، وإنما هو الضبط والربط حتى إمكان ترويض نشاط وطاقة الأقدم للتكامل والتبادل مع فاعلية الأحدث.
(7) يتواصل تغيير جرعة العقار مع التمادى فى مسيرة التأهيل (بما فى ذلك العلاج الجمعى أو العلاج عموما) بمعنى أنه تنقص العقاقير تدريجيا – دون إلغائها- مع ظهور علامات استعادة المخ الأحدث نشاطه، وبالتالى احتمال استعادة قيادته لبقية الأمخاخ أثناء الصحو.
(8) قد يلزم الأمر مع تغيير الجرعة تغيير العقار من الأقوى جدا، إلى الأقوى فقط إذا ظهرت علامات ضبط كافية لنشاط المخ العشوائى الأكثر قِدَما لصالح الأحدث فالأحدث، وهكذا.
(9) يُعتير ظهور الاكتئاب “الأصيل” (الألم العلاقاتى) أثناء هذه العملية دليلا على الانتقال من غلبة المخ البدائى إلى المخ الإنسانى حيث يعتبر تنشيط هذا الاكتئاب الإنسانى دليلا على صعوبة محاولة عمل علاقة مع آخر، وفى نفس الوقت فإن هذا المخ يمارس درجة من ثنائية الوجدان من جهة، وألم التواصل من جهة أخرى، وبعض نقلات المزاج من جهة ثالثة، ويعتبر كل ذلك دليلا على التقدم نحو استعادة إيقاع مسيرة النمو الأسلم، وفى هذه الحالة قد يستعان ببعض مضادات الاكتئاب التقليدية بجرعة متوسطة للحفاظ على اضطراد مسيرة النمو، حيث أن جرعة مناسبة من الألم (الذى هو عمق هذا الاكتئاب) يعتبر علامة إيجابية لمحاولة عمل علاقة حقيقية مع الأخرين، بدءًا بمرضى المجموعة.
(10) مع ضمان إطلاق الطاقة التى كان يستولى عليها المخ الأقدم لتكون تحت تصرف المخ الأحدث لإرساء علاقة بالواقع (العمل أساسا) وبالموضوع ( تنشيط العلاقاتية) نقوم بإنقاص جرعات العقاقير بتناسب عكسى مضطرد، أى: كلما أمكن تشغيل الطاقة الحيوية (النفسية) فى التواصل، وشحن الواقع، أمكن إنقاص جرعات العقاقير.
(11) يعتبر العلاج الجمعى بالذات بمثابة خبرة أزمة نمو (4) علاجية ممتدة، يعود فيها المريض إلى رحم الجماعة حيث يمارس خبرة استعادة الثقة الأساسية، (5) ثم ينتقل إلى مواقف النمو المتتالية بشكل معلن أو خفى، مرورا بمرحلة “الكر والفر” (المخ البارنوى) ثم مرحلة المخ الاكتئابى العلاقاتى المتميز بظهور “ألم العلاقة” وذلك جنبا إلى جنب مع استعادة تنظيم الطاقة الحيوية وشحن الواقع والموضوع بها تدريجيا،
وهكذا يمكن اعتبار العلاج الجمعى من منطلق التطور والنمو بمثابة تخليق أزمة نمو علاجية منضبطة لاستعادة بسط نبضة نمو سليمة لتصحيح مسار التطور الفردى، بالعودة إلى الإيقاع الحيوى التكيفى النمائى المستمر.
………..
ونكمل الأسبوع القادم: “خطوات التطبيق”
[1] – يحيى الرخاوى (مقدمة فى العلاج الجمعى (1) من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق) (الطبعة الأولى 1978)، (والطبعة الثانية 2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط.
[2] – كلمة موقع Position تستعملها نظرية العلاقة بالموضوع بمعنى مرحلة من مراحل النمو، وبالرغم من أنها تستعمل كلمات مستقاة من المرض والإمراضية وهى الموقع الشيزيدى، والموقع البارانوى والموقع الاكتئابى Schicoid Position, Paranoid P., Depressive P. إلا أن ذلك لا يعنى أنها تصف مراحل مرضية وإنما هى مراحل نمو تبدأ من الولادة، وما أضفته إليها من خلال “النظرية التطورية الإيقاعية” Evolutionary Rhythmic Theory هو أن هذا التلاحق ليس قاصرا على مرحلة الطفولة، أو على تطور علاقة الطفل بأمه، فهو يتكرر بنفس الترتيب فى كل أزمة نمو، وأيضا فى أزمات الإبداع، وبشكل مرضى (فاشل) فى أزمات المرض، وأنها أطوار تستعاد وتنشط أكثر فى حالة المرض وليست مواقع (يرجع إليها نكوصا) فالحركية الإيقاعية هى دائمة الحدوث! إما للنمو والتطور وإما للنكسة فى الأمراض الدورية الصريحة وما يوازيها، فهى أطوار استعادة باستمرار مع كل نبض حيوى، وليست مواقع جاذبة بالنكوص.
[3] – سنة 1978، ولكن تم استحداث عقاقير!
[4] – Growth Crisis
[5] – Basic Trust