نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 18-4-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 4978
سلسلة “فقه العلاقات البشرية” (3)
(عبر ديوان “أغوار النفس”)
الكتاب الثالث: “قراءة فى عيون الناس” (1)
جاءت طلبات من أصدقاء البريد لأعرض المزيد عن الحالة التي استشهدت بها فى “حوار/بريد الجمعة” الأسبوع الماضى (14/4/2021) ردا على الدكتورة ماجدة عمارة، فوجدت من المناسب أن أعيد شرح هذه الحالة كما وردت فى سلسلة كتابى “فقه العلاقات البشرية”.
اللوحة الثامنة:
“نايم فى العسل” (2)
تكاد تكون هذه الحالة تطبيقا أكثر مباشرة وتوضحيا لما أسميناه “تسول الحب”، يتجلى ذلك هنا فى موقف علاجى محدد، يكاد يعرض مقارنة حادة بين العلاج النفسى الفردى التسكينى بالكلام، وبين العلاج الجمعى الذى نمارسه من منظور إيقاعحيوى تطورى أساسا.
هذه الحالة بوجه خاص، كانت لها تاريخ طويل فى العلاج النفسى الفردى معى، أنجزتْ من خلاله درجة معقولة من التكيف، والتسكين حتى تخرّج صاحبها من كلية قمة، واختفت الأعراض البادئة، ثم إنه طلب بوضوح أن يواصل العلاج الجمعى، فأعطيته الفرصة، باعتبار أنها مرحلة لاحقة قد تفيده فى استكمال النمو، خاصة وأنه – بتخرجه – لم يعد فى حاجة إلى جرعة زائدة من آليات الدفاع العامِية، وقد كان صادق النية فى أن يحاول أن يكمل.
الذى حدث هو العكس تماما، فقد عرّت تجربة العلاج الجمعى المواجِهِى الجرعة المفرطة من الاعتمادية التى ربما اعتادها صاحبنا أثناء العلاج الفردى، وقبله، لكنه أصر على مواصلة المحاولة، وكلما تقدم فيها، أكد موقف “المتفرج” دون مشاركة، وازدادت ميكانزمات العقلنة والاعتمادية، حتى صار واضحا للجميع أنه لا ينوى أن يتقدم إن لم يتراجع.
كان صاحبنا شاطرا تماما فى وصف ما به، بل وما بغيره، كما كان حاذقا فى الإعجاب بما يجرى حوله فى المجموعة العلاجية من محاولات وتجارب، ومفاجآت مخاطر، لكنه كان دائما يحمى نفسه بمزيد من الطلبات من موقف سلبى متلق، بلا محاولة جادة من جانبه لأى حركة نحو التغير الكيفى الحقيقى.
كان صاحبنا مثابرا منتظما فى حضور اللقاءات كلها تقريبا، دون أى تغيير من جانبه، وحين تكررت المواجهة، وتعرى موقفه أكثر فأكثر، بدأ العدوان الاحتجاجى يحل محل المقاومة الاعتمادية، ليختم تجربته بالاحتجاج على قائد المجموعة، معالجه القديم، وكان احتجاجه موضوعيا منبها، مؤكدا ما ذهبنا إليه فى العلاج النفسى بأنواعه، من ضرورة ضبط جرعة الرؤية الجديدة، لتتناسب مع فرص احتوائها، وظروف واقعها، على مسار النمو.
المتن أيضا تعرض لمقارنة مباشرة – ساخرة – ما بين الاقتصار على العلاج بالتسكين والضبط والربط باستعمال العقاقير أساسا، وبين العلاج التكاملى الذى يستعمل العقاقير دعما لمسيرة النمو بجرعات متغيرة حسب مسيرة الحالة كما ذكرنا دائما.
والآن إلى القراءة فالتداعى:
(1)
والعيون التـَّانـْيـَه دى بتقول كلامْ،
زى تخاريف الصيامْ؛
الصيام عن نبضِة الأَلـَم اللى تِـبْنى،
الصياْم عن أىَّ شئ فيه المُـغـامْـرَهْ،
الصيام عن إن لازم كل بـنِـى آدم لازمْ يـِفَتّح،
مش يتنَّـح
الصيام عن أى حاجة فيها إنى: عايز أكونْ:
زىّ خلقةْ ربنا”
مسألة أن أكون “زى خلقة ربنا” تكررت كثيرا فى هذا العمل، وأنا – بصراحة – لا أجد لذلك بديلا، حتى كلمة “الفطرة” أجدها بديلا أكثر غموضا فعلا من “زى خلقة ربنا”
يتحفظ العلماء عادة على هذه اللغة، وربما عندهم حق، فما أن تنطق بهذا التعبير “زى خلقة ربنا” أو “كما خلقنا الله” ينبرى أهل السلطة الدينية ليستولوا على كل ما بعد ذلك لصالح تعميق سلطتهم، وترصين أبجديتهم الخاصة، وليس لصالح إطلاق المسيرة البشرية لتكمل مشوارها “إليه”، وأيضا ينبرى العلماء المحدودون يتهمونك بالقفز وراء الحقائق العلمية المحددة إلى ما يسمونه الميتافيزيقا، الذى أقصده، وغالبا يقصده الناس، بهذا التعبير، هو أن يكون الإنسان إنسانا، كائنا متميزا، يحمل تاريخ تطوره كله، لا يلغى أوله لصالح آخره، ولا يطلق لأوله العنان على حساب مكاسب تطوره، هذا ليس حلا توفيقيا وسطا، لكنه تاريخ الحياة وتاريخ الإنسان، هو الحركة الدائبة، المتناوبة، لتحقق الجدل فى دوراتها المتعاقبة، هذا تحديدا ما أتصور أن الحق تعالى من خلال التطور قد هيأه لهذا الكائن الفائق الرقى، الظالم نفسه برقيه المنقوص.
حين يقول المتن إن صاحبنا قد أغلق وعيه فَصَام عن أى احتمال أن يكون كذلك، فإن المقصود (وهو الذى حدث فى هذه الخبرة) أنه راح يقاوم كل محاولة تفاعل يمكن أن تهز ما استقر عليه من دفاعات مجمّدة، (مريحة!!) وربما بالذات تلك الدفاعات التى قويت أثناء العلاج الفردى، وكذلك، وحتى انتهت الخبرة (القصيدة) كان يضع اللوم على قائد المجموعة معالـِـجـُـهُ الفردى السابق: كل ذلك وهو لا يتحرك من موقعه، خوفا من: “نبضِة الأَلـَم اللى تِـبْنى“، من “أىَّ شئ فيه المُـغـامْـرَهْْ”، من الرؤية الجديدة “إن لازم كل بـنِـى آدم يـِفَتّح، مش يتنَّـح“.
حتى لو كنت قد حددت هذا التعبير “زى خلقه ربنا” بفكرى التطورى ضمنا بأن ربنا خلقنا نحب بعضنا، حتى من واقع برامج التطور للبقاء، وأن ما يحدث بعد ذلك ليحول دون ذلك، هو بفعل فاعل، حين يرفض هذا الصديق أن يكون “زى خلقة ربنا”، فإن هذا يعنى أنه متمسك بميكانزماته التى اكتسبها لتحميه من التهديد بعلاقة مغامِـرة ربما فيها شطح غير محسوب حتى لو كان على مسار النمو، هذا ليس عيبا ولا نقصا فى مرحلة معينة، أما أن يكون هذا هو نهاية المطاف، فهو الأمر الذى نتوقف عنده، ونتعلم من مثل هذه الحالة أن المسألة ليست كذلك.
حين أتيقن من مثل هذه الحالات أن موقفها صلب وحاسم، أتراجع عن الحماس للنصح بالعلاج الجمعى خاصة، وأحيانا، ولو أنها نادرة، أنصح مثل هذا الشخص بالتوقف فعلا عن المشاركة فى علاجات تعرضه لما ليس فى حسبانه، نعم، أن يتوقف – ولو لفترة– عن التردد على هذا النوع من العلاج النفسى الجمعى، لكن الذى يحدث عادة هو أن يصر مريضٌ ما على أن يخوض التجربة، وله كل الحق، وفى هذه الحالة أستسلم للانتقاء الطبيعى، فكم من مريض تصورت أنه لن يتحمل أن يكمل معنا المسيرة، وإذا به يفعلها ونصف، وكم من آخر بدا متحمسا جاهزا للتغير، لكن ما إن تبدأ الخبرة حتى يتراجع بسرعة إلى دفاعاته المتينة تماما، حتى ينقطع عن العلاج المهدد بخلخلتها.
أهم صفة تصف هذه الوقفة الحالية فى هذه الحالة هى الاستسهال، ومحاولة تجنب الألم، وتصور العلاج تصورا سحريا يحل المشاكل بدون ألم (بالبنج).
ورغم انبهار صاحبنا الكلامى بما يجرى، وإعلانه البدئى أنه يريد أن يكمل المسيرة، إلا أنه، ومن البداية، يحدد طريقه الذى يؤدى به إلى عكس ما يعلن دون أن يدرى. هذه الصورة الاعتمادية المرفوضة من حيث المبدأ لها ماوراءها من مبررات، أهمها، كما بدَت وفى هذه القصيدة بالذات: تجنب الألم مهما ضؤلت درجته، ناقشنا فى الحالة السابقة “ألم البصيرة”، لكن الذى مر بجرعة مفرطة من الألم (يحدث ذلك عادة فى بداية أزمات التطور الحادة أو بداية الخبرة المرضية) ثم لم يجد أحدا بجواره، ولم يجد دفعا بداخله لتحمله أو تجاوزه، ثم لملم نفسه بدفاعات أيا كانت، إن من مر بمثل هذه الخبرة يأبى – عادة – أن يعود إليها تحت أى إغراء، ولو رأى أن هذا هو السبيل الوحيد لاستعادة دفع الخطى على مسار النمو. لكن العجيب فى مثل هذه الأحوال أنه لا يستسلم لدفاعاته – مثل أغلب العاديين – بل يظل يتصور أن فى الإمكان أن يحقق أمنيته النظرية، بجرعات جاهزة من الهدهدة والتفريغ والاعتمادية. ويظل الموقف هكذا طول الوقت، كما تبين القصيدة: لا هو يكف عن إعلان المحاولة دون محاولة، ولا هو يحاول فعلا، ولو بأى درجة كانت، صاحبنا كان يبدو، دون بقية المجموعة، مرتاحا، حالما، مستقرا، لكنه دائم الإعلان عن نيته فى المشاركة، ولكن بشروطه.
(2)
العيون دى صرّحت إن صاحبنا
عمره ما حايعلن يسيبنا
بس شرطه يْـتّنه نايمْ فى العسل، عمال بيحلَم،
بَسْ عامل نفسه بيحاول، ويتكلمْ، ويحكُـمْ،
شرطِ إنه لمْ يخطّـى أو يِسلّـمْ
مشْ على بالُه اللى جارِى،
”كل همّه، يستخبَّى أو يدارى”.
وان وَصلُّه، غَصْب عَنُّهْ
يترمى سْطيحَهْ ويُطْلُبْ حتّه مـِنُّـهْ:
شرط إنه يجيله فى البزازة دافْيَةْ، جَنْب فُمُّهْ.
أعتقد أن هذا الجزء من المتن، هو المقابل الشعرى المباشر لما سبق شرحه حالا قبل عرض النص، إن الذى كان يميز هذا الموقف بوجه خاص هو إلحاح صاحب هذه العيون لإعلان “نيته” فى المشاركة، وفى نفس الوقت طلبه المباشر أن يعطيه أحدهم ما يتصور أنه حقه دون سعى من جانبه.
هذه الرؤية المعقلنة هى مكافئة تماما للعمى الدفاعى النفسى، “مش على باله اللى جارى”، لأنها رؤية مع وقف التنفيذ إلا بهذه الشروط التى هى ضد كل قواعد ما يسمى “مسيرة النمو”.
مرة أخرى: إن مما يستدعى العجب هو تساؤل يقول: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يصر صاحب كل هذه الدفاعات القوية، على استمرار المحاولة بهذا الإلحاح والانتظام فى طرق الأبواب؟ بالرغم مما يصله من صعوبات، وما يرى من مشقة وألم لازمين للخوض فى التجربة؟
إن التفسير الأقرب هو نجاح آلية (ميكانزم) العقلنة بشكل فائق بما يجعله يواصل الرصد لما يجرى من على مسافة آمنة، بحيث يصبح العقل النشط المتفرج مصدًّا قويا طول الوقت، ضد التغير، ويصبح صاحبه غير مهدد فعلا بالتغير الفعلى، وكأنه يكتفى بالفهم المعقلن، فهو لذلك يواصل المطالبة بالتغيير ألفاظا منطوقة لا أكثر.
ويمكن إيجاز الخطوط البدئية لهذا الموقف كالتالى:
أولاً: لا يكتشف صاحبنا أن المسألة لا تقتصر على قناة التوصيل بالكلمات والرموز المعقلنة، فالجسم يتلقى، والوجدان يتلقى، والوعى – بمستوياته – يتلقى، ومن هنا تأتى أهمية البيت فى المتن “وان وصل له غصب عنه”، نعم الذى يحدث أن الرسائل التى تصل لمثل صاحبنا من وراء ظهره، تصله فعلا غصبا عنه، وهو لا يرفضها بل يمحوها فورا بعكس ما نتصوره، يمحوها بأن يتقبلها ويطلبها من الوضع مستلقيا رضيعا فاهما.
“وان وصل له غصب عنه،
يـِـرتمى سطيحة ويطلب حتة منه”!!!
ثانيا: فى هذه المرحلة يستغنى صاحبنا عن فعل التغيير بمتابعة كل ما يجرى، وبالتالى يتجنب مواجهة داخله وكأن أفراد المجموعة تحقق بالنيابة عنه أمانيه وتحل صراعاته أما هو فيتصور أنه “عرف” الحكاية فلا توجد مشاكل ولا خطوات بعد ذلك.
ثالثا: فى نفس الوقت يجد صاحبنا نفسه فى موقف المقاومة العنيفة بإعلان “عدم الفهم” متى ما اقتربت الرؤية الذاتية منه، أو متى تهدد بضرورة التفاعل.
رابعا: هذا لا ينفى أبدا أن يصله ما يغيرّ تركيبه الدفاعى ولو من خلف ظهره، أو من خلال ما يسمى الانتباه السلبى، فلاشيء بهذه الجدية يمكن أن يُهْدَرُ بلا جدوى تماما حتى ولو توقف وصوله عند مرحلة التنظير والعقلنة.
خامسا: وبسبب هذه الزحمة من المتناقضات: (مثل الحضور مع المقاومة، والفرجة برغم الاستيعاب السرى) يستمر هذا الموقف ربما إلى أجل غير مسمى، وينبغى على المعالج أن ينتبه إلى ذلك كله وأن يتعامل معه على هذا الأساس فى حينه.
(3)
كان صاحبنا حلو خالص فى الكلام
كان بيتفرج، وهوه بعيد تمام،
كل ما نديله حتـّه، يترسم ويقول كمان.
عايز أخطى، بس شرطى، فى الأمان
كان مركـِّـز عاللى كان واخد عليه
لما كان بيحكَّى للى شافُهْ “بيهْ”:
كلٌّه “مين”، و”زمان” و”ليه”!!
……….
………..
بس ده ياناسْ لقاهـَا حكاية تانية ـ
يعنى شغل “هنا” و “حالا” كل ثانية
كل ما واحد يهمّ
نفسه يعنى يهم زيّه، بس لأْ، من غير ألمْ !!
يقلب الخبرة مشاهدهْ كإنه فيلمْ:
…………….
قالُّهْ سمَّعْنَا كمان حبّةْ نغَمْ:
كِيدِ العدَا،
يا سلامْ!! هوا جوّاك كلّ دا!؟
أنا نِفْسِى ابقَى كده؟
بس حبُّونِى كمانْ.
حُط ّ حتَّهْ عالميزان.
أصلِى متعَّود زمانْ:
إنى انام شبعان كلامْ.
تأكيد جديد لنفس الموقف، لكن يضاف إليه الحذر من موقف المتفرج، الذى انفصل عن المشاركة حتى بدا مستلذا بألم الذى يحاول، “بس سمعنا كمان حبة نغم”، أما إضافة “كيد العدا” فقد تكون إشارة إلى أنه يقر أن هذه المحاولة يرفضها أغلب الناس، بل وقد يدمغونها باعتبارها اختلافا يصل إلى درجة مخاطرة الجنون، لكن صاحبنا يتصور أنه يربأ بنفسه أن يكون من هؤلاء، فهو يصفق لمن خاض هذه التجربة الجديدة، وبالتالى هو “يكيد العدا” بالتصفيق والانتظام فى الحضور فحسب
ليس هذا فقط، بل إنه يبدى إعجابه بالمؤدى ويقصد أى فرد فى المجموعة، “يا سلام!! هوه جواك كل ده!!”، وكان يعلن أمنيته (الكلامية) أن يتقمصه “أنا نـِـفـْـسِى ابقى كده”.
هذا الموقف يعتبر أكثر سلبية بكثير من موقف الشخص الذى رضى بالعادِيـّـة، أو حتى بفرط العادية كنهاية للمطاف، فصاحبنا هنا لا يرفض المحاولة كما قلنا، لكنه حتى وهو يعلن أنه يتمنى أن يمر بمثل ما يمر به زميله هذا المتقلب على جمر الحقيقة، يلحق نفسه بما يكشف أن هذا التمنى نفسه هو الذى يخدعه ويحول بينه وبين المحاولة الحقيقية، فهو يلحق أمنيته فورا بأن يمد يده “متسولا”:
“بس حـِـبُّـونِى كمانْ.
حُط حتُّهْ عالميزان”
وهو يعزو ذلك إلى خبرته السابقة فى العلاج الفردى الكلامى التسكينى التأويلى
“أصلِى متعَّود زمانْ:
إنى انام شبعان كلامْ”.
الذى حدث أن المجموعة وقائدها انتبهوا إلى كل هذه السلبيات التى جعلت وجود صاحبنا مثيرا للدهشة من ناحية – لماذا يستمر؟ – ومانعا للمشاركة الزائفة السطحية التى كان يمثلها أصدق تمثيل، حتى أن الباقين لم يكتفوا بتنبيهه والتفاعل معه لإفاقته، بل خافوا ورفضوا أن يسلكوا سبيله.
ويتكرر الموقف وكأنه سوف يهم أن يفعلها، لكن سلوكه، وإعلانه، وإصراره على التمسك بموقع المتلقى طول الوقت، يكشفه بسرعة هائلة:
هذه الفقرة بالذات، وتعبير “بنج اللذاذة، كله دايب فى الإزازة”، هى من أصرح الفقرات نهيا عن المفهوم الشائع: أن العلاج النفسى هو ترييح وتسكين وتفريغ. معظم المرضى، وأهلهم أكثر منهم، لا يطلبون من الاستشارة النفسية، أو العلاج النفسى وبالذات فى البداية إلا “أن يرتاحوا”، وقد ناقشنا ذلك فى هذا الكتاب مرارا، (وغيره) ونكرر هنا أن هذا حقهم، ولكن ليس على حساب رحلة نموهم.
كل هذا لا يعنى أن يمتنع المعالج أن يعطى جرعة “الترييح ” الضرورى بين الحين والحين، وخاصة فى البداية، ولو على سبيل الرشوة حتى تستمر مسيرة العلاج إلى أن يعاد التعاقد لدفع عجلة النمو.
المقطع التالى يمكن أن نقرأه على لسان حال المجموعة، أو على لسان حال قائدها وهو يبدأ بتنبيه صاحبنا أن يكف عن التسول ويشرع فى المبادأة، إن كان صادقا فى أنه “أنا نـِفـْـسـِى ابقى كده”.
(4)
”يا أخينا مِدّ إيدك
يا أخينا هِـمّ حبَّـهْ.
الحكاية مِش وِكالة بْتَشتِرِى منها المَحَبّةْ”.
قام صاحبنا بانْ كإنه مشْ مِمَانـِعْ،
بس قاعد ينتظر “بِنجِ اللذاذة”
كـلّه دايب فى الإزازة
رضعة الحب اللى جىّ جاهز ودافى
رضعه كامـِلـَةْ إلدّسم، سـُكـّـرها وافى !!
(5)
والمعلّم صْبُرهْ بحباله الطويلةْ،
قال “لابد أشوفْ لُه حيلهْ”:
قال لـه يا ابنى تعالى جنبى
إنت تطلب، وانا الـــَــبّى،
راح صاحبنا معرّى جوعه، نطّ كل اللى مْدَارِيهْ
عرضحال كاتب جميع ما نـِفـْسُه فيه:
“.. بعد موفور السلامْ،
نِفْسِى حبِّةْ حُبْ، أو حتِّةْ حقيقهْ،
نفسى أشارك فى اللى جارى ولو دقيقهْ،
نفسى أعرف فى اللى بتقولوا عليهْ،
نفسى اشوف دا إسمه إيه”
موقف صريح آخر لإعلان التسول، لكن التسول هنا يتجاوز تسول الحب، فهو يتسول أيضا المشاركة كما يتصورها، فهو يدرك – من بعد أعمق – أن كل رؤيته لحقيقة الجارى، بما في ذلك معاناة من يحاول أن يخوض التجربة جادا ، ليست إلا رؤية زائفة، بل إنها يمكن أن توصف بأنها حتى: “ضد الرؤية” (قارن الحالة السابقة)، وقد عرى المتن داخل صاحبنا حين يقرن تسوله للحب، بتسوله للحقيقة، ويلحق ذلك مباشرة بإعلان جهله بما يجرى حوله برغم كل مزاعمه أنه يراه ويعرفه، وبالتالى يطلب منه، ويحاول أن يكونه، بل إنه يعترف أن كل الأسماء التى أطلقها على هذه الخبرة أو الخبرات، غير كافية للإحاطة بها:
“نفسى أعرف فى اللى بتقولوا عليه،
نفسى أشوف دا إسمه إيه”.
فى خبرتى كنت أترك مثل هذا الشخص وكأنى أهمله، لعله يُستثار من بعيد لبعيد، وبعد فتره تطول أو تقصر حسب حساباتى أحاول بداية الحوار معه، ومن ثم الأمل فى التفاعل، ولكنه فى العادة يعود يكرر الكلمات الجارية فى المجموعة، دون إحاطة كافية بمضمونها، أو تحمل مسئوليتها، أو حتى محاولة احترام حفزها.
الذى حدث – كما قلنا سابقا – أن المعالج السابق لصاحبنا (أنا) كان هو هو الذى ظهر فى المتن وكأنه يحاور صاحبه القديم، وهو يحاول أن يظهر له الفرق بين خبرة العلاج الفردى، وخبرة العلاج الجمعي.
الفقرة التالية من المتن تظهر محاولات هذا المعالج استدراج صاحبنا إلى كشف مدى ما يريد من هذه الاعتمادية، التى حلّت محل المواكبة التى لوّح المعلم بها:
“المعلم قال له: ماشى ياللاّ بينا”، ولكن …..،….،
(6)
المعلّم قالّه: “ماشى، يالله بينا”
يالله بينا!!! يالله بينا؟ على فين؟
دانا مستنى سعادتكْ.
روح وهاتْ لى زى عادتكْ.
أى حاجة فيها لذّة،
الكلام الحلو، والمنزول، ومزّة.
أنا أحكى، وانت تتصرف براحتكْ.
أنا تعجبنى صراحتك،
يبدو فى هذه الصورة من جديد الأثر السلبى للإصرار على مفهوم أن العلاج النفسى ليس إلا تفريغا بالكلام، الحنين هنا إلى مرحلة العلاج الفردى الكلامى التسكينى واضح بصورة صارخة.
كثير من المرضى يتصورون أن دورهم ينتهى عند الحكى، والباقى على المعالج “آنا أحكى، وانت تتصرف براحتك”، وإعجاب صاحبنا بصراحة المعالج وتعليماته قد يكون إشارة إلى استقباله هو وليس إلى دور المعالج الحقيقى، فأى معالج مهما بلغ تعاطفه مع مريضه، وتأثره بفكرة الترييح والتسكين والتفريغ، لا يمكن أن يقبل أن يطول هذا الوضع، وإلا انتهى إلى السلبية، صراحة المعالج حتى فى رفض القيام بهذا الدور، قد يقلبها مثل هذا المريض إلى تصفيق للمعالج دون أن يصله رفض المعالج لكل هذه الاعتمادية.
وهنا أحب أن أشير إلى أن التحسن الظاهرى الذى قد يتوهم المريض والمعالج معا أنه تم فى العلاج الفردى، قد تتبين طبيعته الهروبية والدفاعية إذا ما أتيحت الفرصة لاختباره فى بوتقة العلاج الجمعى بما يحمله من مواجهة وتفاعل ومقارنة واختيار، خاصة حين يتصاعد موقف المعالج حتى يرفض مثل هذا المريض، وكأنه يعاقبه “يزعل منه” يهمله، يكشفه، يواجهه، يلوّح بقطع العلاج، لكن صاحبنا يكاد يكون على يقين من حقه فى ألا يتغير مهما تغيّر نوع العلاج، وهو يواصل طلب المعونة، ولكن بشروطه.
نقرأ المتن (وهو يواصل):
إٍوعَى تزعلْ منّى: دنَا عيّل باريّل،
لسَّه عندى كلام كتير أنا نفسى اقولهْ،
عايِز اوْصف فى مشاعرى وإٍحساساتى،
واقعد اوصفها سنين،
مش حا بَطّلْ، خايف ابطّلْ،
لو أبطّل وصف فى الإحساسْ حَاحِسّ،
وانا مِش قد الكلام دهْ.
يلاحظ هنا أن الخطاب هو بلغة الجزء الأعمق من النفس. كما هو الحال فى هذا العمل كله، لأن كل هذه الدفاعات تحدث – طبعا – بعيدا عن وعى المريض الظاهر، أمّا الطبيب “أو المعالج” فإنه يلتقطها من خلال تقمصه بالجزء الأعمق لمريضه، ثم قد يتبينها المريض فيما بعد، أو لا يتبينها.
عندما أستشهد بهذه الفقرة التى تقول “لو أبطل وصف فى الإحساس حا حس”، لا يصدقنى أغلب تلاميذى أو زملائى الأصغر، ناهيك عن مرضاى.
المعتقد العام هو فى الاتجاه العكسى (كما أشرنا سابقا غالبا)، معظم الناس يعتقدون أن وصف الإحساس هو سبيل إلى تعميق الإحساس، النص هنا ينبه إلى أنه فى كثير من الأحيان، ولا مجال للتعميم بداهة، يكون وصف الإحساس بالألفاظ هو بديل عن معايشة هذا الإحساس، وفيما يلى مشهدان يؤكدان ذلك، الأرجح أننى أشرت إليهما سالفا أيضا، وهما:
أولا: فترات الصمت التى تحدث مصادفة فى العلاج الجمعى، فتتفجر خلالها أحاسيس مختلفة، لمن يحمى نفسه بسبات خفيف أو عميق، أو على الأقل بسرحان ممتد، قد تكسره زيادة فترة الصمت أكثر وأكثر، فى هذه الحالات التى عايشتها فى العلاج الجمعى عددا متوسطا من المرات، كانت المشاعر الحقيقية التى تظهر خلال الصمت أعمق، مما يسهـِّل علينا التقدم إلى طبقات أخرى من الوجدان، ومستويات أخرى من الوعى.
ثانيا: تلك التجربة التى وصفتها أيضا فى حلقات سابقة: حين أعرض على مريض فى لقاء إكلينيكى – تعليمى فى الغالب – أن يسمح لحزنه أن يظهر دون (ا) أن يعزوه إلى سبب، حالى أو سابق، وأيضا (ب) دون أن يعبر عنه بالألفاظ، (أحيانا أستعمل تعبير: يمارس حقهُ فى “الألم”)، وإذا بنوع آخر من الأحاسيس يطل من العينين والوجه والجسد دون ألفاظ مؤكدا الفكرة التى جاءت فى المتن هنا: أنه “لو أبطل وصف فى الإحساس حا حس”.
داخل “صاحبنا” هنا، يعلنها : أنه لن يسمح لمشاعر أصدق أن تطل منه رغما عنه.
ينبغى أن ننبه هنا إلى أن وصف الإحساس ليس منهيا عنه على طول الخط، فالقدرة على ترجمة الأحاسيس إلى ألفاظ هى أداة للفنانين والشعراء خاصة، وإن كانت قد مرت علىّ فترة شعرت فيها أن الشعر بالذات قد يكون ضد الثورة، اللهم إلا شعر التحريض، وهو ليس شعرا جدا، أو على الأقل ليس من أفضل الشعر، وإذا كنا نشجع الطفل فى نموه العادى أن يتعلم الرموز (الكلام) فى طريقه إلى التفوق الإنسانى، فإن الرموز اللفظية التى تصف الانفعال بوجه خاص هى من أعجز الرموز وأكثرها غموضا وتداخلا. إن النمو عند الأطفال وغيرهم لا يعنى أن يحل الرمز محل الخبرة، الكلام يساعد الطفل ليستطيع وصف بعض خبراته بما تيسر من رموز.
فى هذه الصورة التى أقدمها هنا يخرج اللفظ عن هذه الوظيفة – كما ذكرنا – ويصبح بديلا عن الخبرة، يصبح اغترابا عن الوجود.
حين يتأكد هذا الموقف هكذا، من داخل داخل المريض، يصبح الاستمرار بنفس شروط التعاقد البدئى مضيعة للوقت فى أغلب الأحوال، وهنا يحق للمعالج أن يفرض توقف العلاج الأمر الذى قد يحتاج إلى إعلان فرصة “إعادة التعاقد” حفزا للمريض بالحرص أكثر على المشاركة.
المقطع التالى فى المتن يعلن مثل هذا الموقف من المعالج ببساطة “شوف لك حد غيرى”، ولعل هذا يبين أيضا أن النصح بإيقاف هذا العلاج بالذات ليس حرمانا للمريض من العلاج عامة، وإنما هو اقتراح بعلاج آخر، قد يكون المريض فيه أقل مقاومة، وأكثر استفادة حسب شروطه.
المقطع التالى يعرض أيضا مقارنة ساخرة بين العلاج التسكينى بالعقاقير المهدئة أو القامعة (مع أنها هى هى التى تستعمل منظّمة، ومنسِّقة مع اختلاف الطريقة والجرعة والتوقيت بحسب مسيرة العلاج التكاملى)، وهذا المقطع يشير أيضا إلى وسائل هروبية أخرى، من أول الهجرة الهروبية إلى التوقف عن مسيرة النمو تماما مما نسميه أحيانا – برغم قسوة الاسم – الموت النفسى، وهو يقابل الاغتراب المزمن، وما يسمى “فرط العادية” أحيانا.
المقطع التالى لا يصرَّح به الألفاظ طبعا، وإنما هو يترجم لسان حال المعالج المسئول الحريص على إنهاء الموقف السلبى بشكل أو بآخر.
(7)
المِـعـَـلـِّم قالُّه: شوفْ لَكْ حد غيرى،
جَنْبِنَا دكّانة تانيةْ،
فيها “بيتزا” مِالّلى هيَّهْ،
أو “لازانْيَا”.
فيها برضكْ وصفهْ تشفى مالعُقدْ،
إسمها “سيب البلد”.
فيها توليفةْ حبوب من شغل برّة.
تمنع التكْشيرهْ، والتفكيرْ، وْتمِلاكْ بالمسرّة.
فيها حقنةْ تخلِّى بَالَكْ مِستريـَّـحْ.
تِنتشِى وْتفـضَلْ مِتَنَّحْ.
فيها سرّ ما يِتْنِسِيشْ.
لِلـِّى “مِشَ لازِمْ يـعـــيش”!!
المتن يظهر لنا كيف استجاب صاحبنا لهذا الطرد الصريح بأن أعلن مقاومته للتغيير رغما عنه، وهذا لا يتعارض مع إصراره البدئى على التغيير مثل الآخرين “أنا نِفْسى ابقى كده”، لكن حين وصل الأمر إلى التهديد بـ “إنهاء التعاقد” هكذا، استثار هذا الموقف مقاومة صاحبنا فراح يكشف عن أسبابه للمقاومة.
هذا النوع من العلاج بالمواجهة والتعرية، إن لم تضبط جرعته، ويمتد زمنه إلى درجة كافية، ومهما كانت حسن نية من يشترك فيه، وموافقته على شروطه، وأيضا مهما سمى أنه علاج من منظور النمو والتطور ومثل هذا الكلام، فإن فيه خطورة أن يطغى عليه فكر مثالى، تحت تأثير معالج له حضور قوى، أو منظومة ذاتية طاغية ظاهرة أو خفية، وبالتالى، فإن المريض الذى يلتقط أيا من هذا مهما كان حماسه، يخشى على هويته، على منظومته الخاصة من الاهتزاز، سواء كانت منظومة دينية، أو أيديولوجية سياسية، أو ذاتية ظاهرة أو خفية، يخشى عليها لدرجة أن أية دعوة للمخاطرة بالتغيير تترجم لديه بانها إغارة من منظومة المعالج الأقوى، أو من منظومة المجموعة ككل، وهنا تقفز المقاومة (المشروعة بصراحة)، ولا تهدأ إلا حين يكتشف المشارك أن له حق الاحتفاظ “بنفسه وهُويته كما هى”، وأن المطلوب هو السماح بإضافة جدلية من خلال الاختلاف الموضوعى المقيس بمقاييس النمو والتكيف والإنجاز معا.
هذا ما أعلنه صاحبنا بصريح العبارة هكذا:
(8)
قام صاحبْنَا إِنْقَمَصْ، بسْ ابْتَسَمْ.
قالْ عليكْ نور يا معلم،
”بسّ انا مش ناوى اسلِّم”
قال لـِنَفْسُهْ: مشْ حاشوفْ غير اللِّى انا قادر أشوفه.
هيـّا لعبهْ؟
هوه عايزنى أكون من صنع إيده؟
واللى بيْقُولُهْ، أعيدُهْ؟
إنما بعيدْ عن شوارْبُـهْ،
مشْ مِصاحْبُهْ.
حا نزل اتدبّر شُؤونى
وسط هيصهْ الناس حاَضِيـعْ.
لما أصِيعْ،
زنقة الستات ألذْ.
مالِحقيقه اللى تهزْ.
بس ياخْسَاره مانيش راجل يِسـدْ،
والنِّسـَا واخداها جَدّ.
الاحتجاج هنا والمقاومة يعلنهما “داخل” صاحبنا، وليس ظاهره، كما أشرنا سالفا، وحين تـُـرفض علاقة الاعتمادية العلاجية بهذا الوضوح، سواء بسبب لاجدواها، أو بسبب تناقضها مع قيم هذا النوع من العلاج وأهدافه، تتجلى فى داخل المريض بدائل استسهالية ليس فيها مخاطر الرؤية، ولا أشواك العلاقة الموضوعية، ومن أهمها الاعتماد على المواد أو الاكتفاء بالجنس المنشق، وهذه البدائل الهروبية لا ينبغى الحكم عليها بأحكام أخلاقية أو دينية ابتداء، وإنما بمدى سلبيتها أو إيجابيتها على مسيرة النمو، فقد يكون فى مثل هذا الاستسهال تنازل عن الهوية الحقيقية بقبول الضياع وسط كتلة الناس الممتزجة “وسط هيصة الناس حاضيع لما اصيع”.
مثل هذه الحلول الواردة على لسان حال صاحبنا ليست بالضرورة سلبية على طول الخط، حسب الثقافة التى تتم فيها، وحسب العائد منها على المشاركين فيها، وعلى المجتمع الأوسع، فى ثقافتنا هنا، الأرجح أنه يتم استعمال المرأة بشكل يخلو من العدل نظرا لظروفها الأكثر انسحاقا، تاريخا وحاضرا.
صاحبنا هنا يأمل أن يجد مَنْ تقبله هكذا مستسهلا، أو حتى مُستعمِلاً، لكن يبدو أنه حتى هذا ليس متاحا لمثل هذا الشخصيات الاعتمادية المرتعدة، وها هو داخله يعلنه أنه لن تتحقق ذاته، ولا حتى لذته، وهو بهذه الصفات، لأن المرأة التى يمكن أن تمارس علاقة حقيقية، لا تريد هذا النوع من الاعتماد من ناحية، ولا تستطيع أن تملأ احتياجا مثقوبا هكذا، من ناحية أخرى.
المقطع التالى يعلن أن هذا الحل “الدون جواني” هو فاشل أيضا لأن صاحبنا (وأمثاله) ليس حتى دون جوانا.
كثيرا ما ينخدع الناس فى مثل هذه التصرفات الدون جوانية وكأنها تصرفات ناجحة مثرية، إلا أنى فى خبرتى المهنية على الأقل، كنت أتبين من خلال معلومات متراكمة أن كثيرا من هؤلاء الذين يلجأون إلى هذه الوسائل لتأكيد الذات، كثير منهم يعانى من ضعف جنسى إن عاجلا أو آجلا بشكل أو بآخر، وتفسير ذلك عندى أن هذه المحاولات الدون جوانية تتم بشكل نكوصى منشق (وليس نكوصا واعيا) وبالتالى تأتى الإعاقة من جانب من النفس فى مواجهة الجانب الناكص على المستوى اللاشعورى، وكأن أحدهما يقول للآخر: إذا كنت نجحت فى الإغراء فسأُفْشِـلـك فى التواصل، ومن ثمَّ ستعرف ما هو الفشل الحقيقى، مع استمرار السعار وراء تعدد العلاقات، واستبدالها وتكرارها بلا جدوى.
ها هو المتن يعلن على لسان “داخل صاحبنا الناقد” احتمال فشل هذا الحل هكذا:
بس ياخْسَاره مانيش راجل يِسـدْ،
والنِّسـَا واخداها جَدّ
“النِّسَا عايزالْها راجل يِملى راسها،
مش يبيع روحه لِها علشان ما باسْها.
النِّسَا عايزهْ اللى عيبُه مش فى جيبه، وماشِى حالُهْ،
عايزهْ واحد يِنْتبه لِلِّى فى بالها، زى مايشوف ما فى بالُهْ،
النِّسَا عايزهْ اللى يعرف امتى بيقولْهَا “انّ لأَّه”،
أيوه “لأهَّ”، بس “لأهَّ” ليهَا بيهَا.
عايزهْ واحد تحِتويهْ، بس تضمن إنُّه قادرْ يِحتويَها.”
وانا مش قد الكلام ده!!
الاعتراف هنا صريح من جانب هذا “الداخل الناقد” برغم كل ظاهر اعتماديته، اعتراف بأن هذا الحل الذى لاح له فى البداية سوف يفشل أيضا، والمتن هنا يعبر عن أن العلاقة الحقيقية التى تبنى الطرفين، هى علاقة نـِـدّية بها من العدل والرؤية ما يؤكد أنها علاقة بين اثنين من جنس البشر، وليس بين مُلتهمٍ ومأدبة، ولا بين مستعملٍ وأداة، من هنا، وعلى لسان نفس الناقد الداخلى، وليس المعالج، ولا زملاء التجربة، يـُظهر المتن بوضوح فشل الهرب فى اللذة العاجلة بالمقارنة بحاجة مثل هذا الشخص وغيره لامرأة تقبل وتستطيع أن تمنحه الاعتراف، وليس مجرد اللذة والتفريغ، مثل هذه المرأة تريد شريكا يمثل لها آخر حقيقيا، بما يشمل تواصلا متعدد القنوات، من أول أن يملأ كل منهما وعى الآخر، “يملا راسها“، وليس من يذل نفسه طلبا لرضاها، أو رشوة للحصول عليها، أو يشتريها بما فى جيبه ليس إلا، وأيضا: تتعدد قنوات التواصل لتشمل الحدس المتبادل “عايزهْ واحد يِنْتبه لِلِّى فى بالها، زى مايشوف ما فى بالُه”.
وأيضا: صاحبنا ينبهه داخله إلى أن العدل المتبادل يسمح له أن يعترض على شريكته بأمانة موضوعية، وليس مجرد دفاعا عن النفس، فلا يتنازل عن حق الاعتراض المسئول لمجرد إرضائها، ويكون حق الاعتراض “إن لأه” متبادلا ومسئولا بقدر ما يعود عائده على دفع العلاقة أكثر فأكثر إلى علاقة إنسانية حقيقية،
النِّسَا عايزهْ اللى يعرف امتى بيقولْهَا “انّ لأَّه”،
أيوه “لأهَّ”، بس “لأهَّ” ليهَا بيهَا.
وأخيرا، فيبدو أن داخل صاحبنا يعرف مدى بعده عن كل ما تتطلبه المرأة التى تجاوزت أن تكون مجرد جسم أنثوى منحشر فى “زنقة الستات”، بهذا الشكل، والمتن ينهى هذه الرؤية بإظهار أن العلاقة الحقيقية، سواء مع امرأة، أم فى العلاج الجمعى، وما شابه، هو تبادل الاحتواء لتعميق حركية “الدخول والخروج”، بديلا عن الالتهام، أو الاستعمال،
“عايزهْ واحد تحِتويهْ، بس تضمن إنُّه قادرْ يِحتويَها”.
يعود صاحبنا الذى نحمد له استمراره هكذا، ينتبه إلى أن هذا الوعى الناقد الذى كشف له شخصيا فشل مهاربه، هو ناتج من خبرته فى هذا النوع من العلاج، وبالتالى جعله كمن رقص على السلم، فلا هو أعمى تماما يمشى حاله مثل غيره، ولا هو يواصل رحلة النمو ويدفع ثمنها، حتى الحل الهروبى اللذّى الذى يبدو أنه أفشله قبل أن يبدأ، مع ملاحظة أن الإفشال لم يأتِ من نصائح المعالج، ولا من القياس على خبرة الذين يحاولون فى المجموعة، لكنه جاء من واقع رؤيته الأمينة، برغم أنها لم تنفعه حافزا لاستمرار تجربة نموه، فهى رؤية صادقة وكاملة، برغم أنها عاجزة، وذلك لأنها معقلنة تماما.
هل هذه الرؤية الناقدة دفعت صاحبنا، أو تدفع مثله، أن يواصل رحلة النمو الصعبة، من خلال المغامرة المحفوفة بالمخاطر، والألم الواعد بالتجاوز؟ الإجابة هى أن الوعى المعقلن، حتى من داخل الداخل ناقدا قويا هكذا، ليس كافيا – عادة – للتغلب على مثل هذه المقاومة القوية.
وها هو صاحبنا يعلن أسفه أنه لم يستطع أن يتخلص مما وصله من رؤية، وفى نفس الوقت لم يستطع أن يكمل، فيروح يضع اللوم كل اللوم على من عرّضه لهذه الجرعة المفرطة، دون أن يتأكد من قدرته على تحملها، هذا هو ما تناولناه سابقا مكررا عن ضرورة ضبط الجرعة، ليس فقط جرعة العقاقير وتناسبها مع مسيرة النمو، وإنما أساسا جرعة الرؤية، وتناسبها مع الألم، والحركة.
نسمع عتاب صاحبنا الهجومى على المعالج، وهو محق فيه، برغم احتمال عدم موضوعيته:
…………
(9)
كله منَّكْ يا مِعلمْ:
ليه تفتَّح عينىٍ وِتْوَرينى نَفْسى؟
ليه تلوَّح باللى عمره ما كانْ فِى نِفْسِى؟
واحده واحده، كُنت هَدِّى،
قبل ما تْحَنِّسْنِى ،يعنى، بالحاجاتْ دِى.
ليه تخلِّى الأعمى يتلخبط ويرقص عالسلالم ؟
كنت سيبْنِى فى الطَّرَاوةْ، يعنى صاحى زى نايمْ.
داهية تلعنْ يوم مَا شُفتَكْ.
يوم ما فكرت استريحْ جُوّا خيمتكْ.
يوم ما جيتـْلَكْ تانى بعد ما كنت سبتكْ.
يا معلّم: إما إنك تقبل الركاب جميعاً
اللى واقف، واللى قاعدْ، واللى مِتشعبط كمان،
أو تحط اليافطةْ تعلن فين خطوطْ حَدّ الأمانْ.
كل واحد شاف كده غير اللى شايفُهْ،
يبقى يعرف إنه يمكن لسّه مِشْ قَدّ اللى عِرْفُهْ.
ثم نختم بشىء من الإعادة، وهى إعادة تتعلق بنفس القضية الخطيرة التى تبدأ بالتساؤل: إلى أى مدى يحق للمعالج أن يغير من نوع وجود المريض، وقيمه؟
إن احتجاج صاحبنا الأخير هذا هو إعلان من جانبه محذر رائع، الاختلاف حول هذه القضية شديد، وأغلب الآراء ترجح صراحة أنه ليس من حق المعالج أن يتدخل بأية صورة فى نوعية وجود آخر، أو منظومة قيمه، وبرغم أننى مع هذا الرأى ابتداء إلا أننى أعيد صياغة التعبير هكذا:
ليس من حق المعالج من حيث المبدأ أن يتدخل فى نوعية وجود آخر، أو منظومات قيم من يعالجه، أو نوع وعمق رؤيته بشكل مباشر، ولكن أيضا ليس مطلوبا منه أن يخفى عن مريضه نوع وجوده هو (وجود المعالج)، خاصة مع المريض الذهانى، فالأرجح أن هذا الأخير سوف يلتقط منه ما يشاء دون إذنه، وعلى ذلك: فكلما كان التدخل واعيا كان آمن وأكثر انضباطا.
وأضيف: إن الحديث عن المعالج والعلاج يختص بدائرة محدودة فى المجتمع، وإن الذى قد يسمح للمعالج بهذا التدخل الواعى المسئول هو عاملان أساسيان:
أولا: وجود أعراض ضاق بها المريض وبالتالى فهو ساع إلى التغيير ابتداء.
ثانيا: حضور المريض باختياره النسبى للعلاج، ثم تأكيد حضوره هذا بانتظامه فى الحضور برغم كل شىء.
إذا ما توفر أحد هذين الشرطين فهو اعتراف ضمنى بأن المريض يوافق على تغيير ما، والمعالج عادة – كما تبينت أثناء خبرتى – يعرض تغييرين:
أحدهما تغيير على مسار النمو والتطور (وعليه أن يكون ناجحا شخصيا فى ممارسة هذا السبيل ولو جزئيا، وإلا فالخدعة أخطر من كل تصور)، فهو يقف مع هذا التغيير ويساهم بالمشاركة فى استمراره، وهو يشير ضمنا، من واقع ممارسته إلى نتائجه.
أما التغيير الآخر الذى يعرضه المعالج – بطريق غير مباشر – فهو تعديل ما استجد من أحوال مرضية (أعراض وإعاقة) بالرجوع إلى نوع الوجود القديم شريطة اختفاء الأعراض والاستمرار فى الأداء على أرض الواقع.
على المعالج أن يترك المريض يلجأ إلى هذا التغيير الأخير بنفسه – وربما ضد محاولات دفعه لمواصلة النمو – حتى يتحمل مسئولية نتائجه، أما الذى ينبغى أن يرفضه المعالج فهو الحل الوسط المائع المتذبذب فى صورة استمرار الأعراض أو استمرار الاعتمادية أو استمرار الخداع “بالرقص على السلم” بين الاختيارات المطروحة.
الخلاصة:
نستنج من كل هذا أن المطلب الذى انتهى به المتن على لسان صاحبنا المحتج، هو مطلب حر فى ظاهره، لكنه تبريرى سلبى فى نهاية الأمر، لأنه لم يدفع المريض للانسحاب من الخبرة، وتحمل مسئولية ذلك.
صاحبنا هنا يتمنى – ويطلب ويعمل على – أن يوقف المسيرة، لكنه يفتح الباب بأمانة شديدة، لاحتمال استمرار النمو إذا أحسن ضبط الجرعات جميعا، وتناسب البصيرة، مع الألم، مع الحركة، مع المواكبة، مع النمو.
يا معلّم: إما إنك تقبل الركاب جميعاً
اللى واقف، واللى قاعدْ، واللى مِتشعبط كمان،
أو تحط اليافطةْ تعلن فين خطوطْ حَدّ الأمانْ.
كل واحد شاف كده غير اللى شايفُهْ،
يبقى يعرف إنه يمكن لسّه مِشْ قَدّ اللى عِرْفُهْ.
****
[1] – يحيى الرخاوى: سلسلة “فقه العلاقات البشرية” (3) (عبر ديوان “أغوار النفس”) الكتاب الثالث: “قراءة فى عيون الناس” (2018) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.
[2] – يحيى الرخاوى: “قراءة فى عيون الناس” قصيدة “نايم فى العسل” (ص 130) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2018).