· “خالتى صفية والدير” | بهاء طاهر |
· نيازك الخرافة والإيقاع الحيوى بين قنديل أم هاشم ولحس العتب | يحيى حقى |
· نبض المكان فى الوعى البشرى بين“لحس العتب” و”قنديل أم هاشم” | خيرى شلبى |
· قنديل أم هاشم وتحديات الإبداع قراءة فى “نص” الدكتور”إسماعيل رجب عبد الله” | |
· “الأفيال” | فتحى غانم |
· “ليل آخر” | نعيم عطية |
يحيى الرخاوى
2019
الاهداء
الاهداء
الإهــداء
إلى يحيى حقى
حبا وتقديرا وتعلّما وعرفانا
مقدمة
مقدمة
هذه مجموعة أخرى من محاولاتى فى قراءة النص الأدبى أتعلم منه وأبحث فيه عن مزيد من معرفة النفس البشرية مما ينير لى طريقى إلى معرفة أعمق بماهية وجودنا ومسيرة تطورنا الأمر الذى أعتبره محوراً أساسياً لممارسة مهنتى النفسية بل ولمواصلة حياتنا كما خلقنا بها وخلقنا لها.
وهى ضمن الاتجاه الذى اسميته باكراً التفسير الأدبى للنفس ردا به على الاتجاه القائل بـ “التفسير النفسى للأدب”.
على مسرح البصم والتقمصات فى خالتى صفية والدير بهاء طاهر
على مسرح البصم والتقمصات فى خالتى صفية والدير بهاء طاهر
1/ مقدمات
1/1
أبدأ من الآخر:
وددت لو لم يلحق هذه الرواية (القصة) بالذات هذا الملحق بعنوان “وسأنتظر..”
وعلى الرغم من أن الكاتب اقتطف العنوان من نهاية قصيدة عماد غزالى فى حب ضحى، إلا أن نهاية “خالتى صفية ” بلغتنى أكثر شاعرية – أو كادت – ثم خفتت هذه الشاعرية بهذه الإضافة.
ومن أكثر ما رفضت فى هذا الملحق إشارة الكاتب المباشرة إلى مصدر تسامحه الدينى، والنابع من أبيه الفاضل الذى رباه ليكون مسلما صالحا… إلخ.
وعلى الرغم من تحفظ الكاتب وهو يضيف والده إلى الذين أهدى إليهم الرواية (حيث لا إهداء أصلا)، ثم يلحق ذلك بإضافة لفظة “أيضا” (مهداة أيضا إلى روحه) فإننى ألومه إذ يبدو أنه وجّـه النقاد إلى هذا البعد التسامحى الدينى أكثر مما تحتمل الرواية، فإذا أضفنا إلى ذلك العنوان، وتوقيت النشر أثناء احتدام الفتن الطائفية، شعرنا كم يمكن أن يختزل هذا العمل الجيد جدا إلى ما ليس هو.
لكننى التقطت من هذا الملحق (الذى بدا لى زاوية من سيرة الكاتب الذاتية) الجانب الهام للراوى طفلاً، وهو الجانب الذى يصعب أن نفصلـه -بعد ذلك- عن الكاتب نفسه، وعلى الرغم من هذا أيضا، فقد تعرفت على الكاتب من طفولة الراوى فى الرواية أكثر مما تعرفت عليه من طفولة الكاتب فى الملحق( لاحقة السيرة الذاتية).
2/1
ثم هى فرصة جديدة أن أقرأ ناقدا هذا القاص المبدع الشديد الإتقان عميق الأداء، وعلى الرغم من معرفتى بالإنسان “بهاء طاهر” إعلاميا مثقفا ومصريا متميزا وإنسانا “خاصا” مبدعاً، فأنا لم أقرأه قاصا إلا هذه المرة (فيما عدا بعض القصص القصيرة المتفرقة التى لم أعد أذكر أيها تحديدا، ربما مثله فى ذلك مثل المرحوم الرائع: أحمد عادل، فكانت فرصة للتعرف عليه أكثر فأكثر.
فقرأت مجموعة “أنا الملك جئت” ثم “قالت ضحا”، ولم أكمل سائر أعماله خوفا من التمادى فى الاستطراد على حساب إنجاز قراءتى لهذه الرواية (خالتى صفية) .
وفى محاولة أن أنفى – كالعادة – عن هذه القراءة الحالية صفة النقد النفسى (رغم أنه نفىٌ مكرر يتزايد إثبات فشله) أعلن أننى عشت – هذه الرواية الفريدة بطفولتى الكامنة (وأنا أكبر الكاتب بسنتين وبضعة أشهر) بما أتاح لى أن أنغمس فى طبقاتها حتى حسبت أننى ملكت ناصيتها، بما سمح لى أن أكتب قراءتى المحملة بجرعة شخصية زائدة تبرر عنونـتى لكل أعمالى النقدية أنها قراءة “فلان” لا أكثر ولا أقل، وبالتالى فإن ما يظهر من جوانب نفسية هو ما يمثل تركيبى شخصيا حالة كونى طبيبا نفسيا ضمن أشياء أخرى، وليس ما يمثل تنظيرا نفسيا منفصلا عنى.
ثم أضيف موقفا شخصيا مختلفا:
”..مواكبا لقراءتى هذا العمل، كنت – مضطرا أيضا – لقراءة كتاب ابن منظور المصرى صاحب لسان العرب عن أبى نواس أثناء “ترانزيت” طال حتى كدت أنتهى من الكتاب، وتوقفت عند تعقيب على مقتطف يقول عن أبيات آخرها “فللخمر ما زرت عليه جيوبها وللماء ما دارت عليه القلانس” قال الجاحظ “أنشدت هذه الأبيات أبا شعيبا القلال، وكان عالما شاعرا، فقال: “يا أبا عثمان، هذا شعر لو نُقِرَ لَطَنّ”، فقلت له: “ويلك ما تفارق الجرار والخزف حيث كنت”، وكانت طفولتى قد استيقظت وأنا أتقمص راوى خالتى صفية مرة، وأتقمص الكاتب – فى ملحقه – وبعد أن انتهيت من القراءة السريعة الأولى قلت لنفسى “هذا قَصٌّ لو نُقِرَ لَطَنّ ”، فقد وقفت على صقل وحبكة بلا شرخ واحد (مع المبالغة) إذ حضرنى عم عبد الرحيم القناوى وأنا فى مثل سن الراوى فى بداية الرواية، وهو ينقر القلل والزلع بعد حرقها ليطمئن لعدم وجود شرخ فيها.
وتصورت بهاء طاهر وهو يكتب هذه الرواية هكذا:
هى قصة قصيرة تصاغ وتتشكل بسرعة وحذق، حتى تكبر رواية كاملة، ثم تحرق فلا تشرخ، فلو نقرت لطنت، هى تبدأ مثل قطعة الطين الصغيرة اللينة فى بداية عمل عـم عبد الرحيم، ونحن ننظر إليه فى دهشة وقامتنا لا تكاد تصل إلى طول الطبلية العليا ونزداد دهشة وإعجابا، وهو يدير بقدمه الطبلية السفلى، وأنامله ممسكة بكرة الطين الصغيرة المدَوَّرَهْ، فإذا بها تمتد وتتجوف وتتشكل حتى تصبح قلة أو إبريقا، ونطلب أن يخص كلا منا بواحدة مميزة، بأن ينقشها لكل منا نقشا مختلفا، فيفعل، وحين ننصرف تظل الوصلة بين هذه العجينة الكرة الصغيرة، وتلك القلة المزينة ماثلة فى وعينا مدة طويلة تأكيدا للمعجزة.
هذه الصورة هى كتابة بهاء طاهر، على الأقل فيما قرأت.
فخالتى صفية والدير رغم أنها رواية، إلا أنها قصة قصيرة امتدت، حتى تشكلت فى رواية، دون أن تفقد علاقتها – فى وعيى على الأقل – بأصلها المتناهى فى الدقة والصغر رغم ما أضيف إليها من تجاويف ونقوش تمت بمنتهى الحبكة والإحكام والصقل.
وقد ظلت هذه الصورة معى حتى فى قراءتى الثانية والثالثة وخاصة وأنا أتتبع حبكة اللغة وندرة الإطناب ( وقد كنت مازلت غارقا حتى أرنبة الأنف فى إطناب ديستويفسكى فى كرامازوف بالذات قبل هذه القراءة مباشرة)،
وقد يؤكد هذه الصورة تسمية الكاتب فصول القصة باسم أجزاء: الجزء الأول…،…، الجزء الرابع، فبالرغم من وضوح التسلسل الطولى للزمن، إلا أن تسمية الفصل باسم الجزء، يدعو وعى القارىء لرص الأجزاء بجوار بعضها البعض حتى يراها معا بشكل أو بآخر.
وهذا – أيضا – مما ساعدنى على جمع أطراف الصورة السالفة الذكر: بين كرة عجينة الطين … والقلة الكاملة المزركشة.
3/1: ما ليست هى كذلك
وأحسب أننى أفضل فى هذه المقدمة أن أستبعد ابتداء بعض ما قد يقفز إلى السطح من خلال هذه الرواية، مما ذهب إليه عدد من النقاد (وكثير من القراء فى الأغلب)، فأقدم هذه الفقرة النافية، لأعلن ما ليست هى هذه الرواية – بالنسبة لى – قبل أن أقدم ما وصلنى منها.
1/3/1
فأنا لم أستطع أن أستقبل هذه القصة فى إطار الوعى بمخاطر الفتنة الطائفية، الحادثة، أو المهددة، أو المحتملة، وبالتالى هى ليست قصة للدعوة للتآلف بين المسيحية والإسلام فى مصر مثلا.
2/3/1
كما أننى لم أتوقف قليلا أو كثيرا عند البعد الاجتماعى، رغم حضوره بشكل مباشر ومتكرر فى معظم العمل.
3/3/1
ولا أنا أحسست بأنها غاصت فى نقد سياسى بقدر يسمح باعتبارها نقدا مكملا لهذا البعد فى “قالت ضحي”، ورغم أن تناولها للنكسة كان شديد الحضور بالغ الأمانة، ورغم عنونة الجزء الرابع بهذا العنوان: “النكسة” إلا أن هذا البعد النقد السياسى ظل جيدا ومتواضعا فى آن.
وأنا لا أعرض ذلك فى المقدمة، اعتراضا أو احتجاجا، بل فقط أتحفظ ضد احتمال اختزالها إلى أى من هذه الأبعاد دون سواه، أو دون حقيقة ما هى.
فى نفس الوقت فأنا أرفض فى تناولى للرواية أن يـُـظن أننى أنسى أيا من هذا، إذ تظل هذه المستويات الطائفية والاجتماعية والسياسية والتاريخية متداخلة ظاهرة وكامنة بحسب بؤرة الانتباه ومستوى الوعى، تظل كذلك طول الوقت معا، أو بألفاظ أخرى تظل هذه المستويات أرضيات واقعية لا يظهر وسطها “الشكل” إلا من خلال تحديدها فعلا الواحدة تلو الآخرى أو وهى معا.
4/1: تحت المجهر
[ نمنمة رائعة، وفسيفساء مصقولة،
لغة محكمة، واستطرادات محسوبة]
لا أحسب أننى أستطيع أن أدخل إلى القراءة البؤرة أو المحور دون أن أفعل كعادتى فى الوقوف عند بعض التفاصيل التى ترصع العمل الذى بلغ من دقته، وإيجازه، وحبكته، وبساطته فى آن، أنه لا يجوز تجاوز نمنماته “الأرابسك” ولا أقول زخارفه، وهذه الوقفات ليست فقط للتأمل إذ نكبرها انبهارا، بل أيضا للتعرف على نسيج السياق العام من خلال العينات الدالة تحت مجهر الوعى لتعلن إحكام “اللغة “، ولا بأس من أمثلة، فمن الاستطرادات الدالة :
ص (8) “.. وكان ذلك يعفينى من الأخطاء التى تتعرض لها إخوتى حين تسقط الصينية من إحداهن فى الطريق”.
حتى “تنعى (أمى) بختها المائل فى خلفتها السوداء من البنات”.
أو، ص (14) “.. ويجب ألا أحدث صوتا وأنا أشرب، وكان مستحيلا بالطبع أن أقول لأبى إنه شخصيا والرهبان يشربون بصوت يسبقه شهيق كالصفارة قبل كل رشفة”.
أو ص (35) وصف صور البك القنصل “.. وقد اجتهد المصور ليخفى سمرته… إلخ”.
أو ص (38) “تضع الطرحة بين أسنانها وتزم عليها شفتيها.. الخ”.
أو وصف الطقس ص (51) يوم السلخ فالقتل:
”كان يوما شتويا جميلا دافىء الشمس كأنه الخريف”… الخ.
ص (47) “وتطوع البعض، قال، لحراس السراى..” إللى: … “واقفين كالعمل الردىء”.
أو وصف التقاط والد الراوى لطربوش البك بعد قتله مباشرة (ص62)
أو (ص 72) وصف مدة الزواج بتعبير: ”.. وربما تنازلن فأعطين أنفاسا لمن قضت مدة طويلة فى الزواج” – ولم يقل لمن تزوجت منذ فترة، ولا يخفى فيم يستعمل التعبير الأول.
أو وصفه لمشاعر الحصان المرة تلو المرة وخاصة (ص 88) فى موقع تهريب حربي.
أو ص (135) حين وصف بكاء القمص بشاى “وبعدها فقط وجد دموعه”، بعد موت حربى.
5/1 معالم وهوامش:
وأيضا وجب فى هذه المقدمة أن أقدم معالم عامة، وهوامش سابقة لما قد لا أستطيع أن أعود إليه أثناء النظر فى بؤرة الأحداث وعمق الشخوص، فأورد فى هذا:
5/1/1
إن المقدس بشاى لم يكن يمثل لا الدير، ولا المسيحية عامة، بقدر ما كان يمثل الفلاح القبطى المصرى الصعيدى الطيب.
5/1/2
إن بعد الثأر كان يمكن أن يؤخذ من منطلق تقليدى عادى فهو يكاد لا يختلف فى كثير من التفاصيل عما ينتظر فى مثل هذه الظروف، ولكن النظرة الأعمق تقول شيئا أعقد تركيبا وأجمل إبداعا (أنظر بعد).
5/1/3
إن إيقاع الرواية كان لاهثا ومفاجئا فى كثير من الأحيان مثل نقلة زواج صفية، أو طرد حربى، أوتغير صفية، أوانقلاب البك، كان كل ذلك إيقاعا لاهثا مفاجئا دون تمهيد أو إعداد، ولكن دون تناقض أيضا.
وفى نفس الوقت كان ثم هدوء مثابر واضح على عمق آخر فى جوف اللحن الأساسى مثل (أ) دوام عواطف الراوى نحو خالته صفية (إلا ما ندر)، أو (ب) ثبات عواطف ومسئولية والد الراوى ووالدته نحو الجميع أو (جـ) ثبات انفعالات الانتقام بما فى ذلك الموافقة على حق الثأر، وخاصة من أم الراوى رغم تنوع توجهاتها.
وأيضا كنا نجد الإيقاع يتباطأ حتى تصبح الحركة كأنها تصوير بطيء مقصود مثل موقف سلخ حربى فقتل البك القنصل، وإلى درجة أقل مثل موقف رص الكحك فى صناديق الأحذية الفارغة .
5/1/4
إن الكاتب لا يلجأ إلى ما يسمى تعدد الأصوات أو تعدد تيارات الوعى، فقد كان كل فرد يتكلم بصوت واحد ظاهر، صوت واضح يكاد يكون يقينيا من الأول للآخر اللهم إلا باستثناء الراوى أحيانا، والمقدس بشاى خفيف العقل أكثر قليلا.
وهذا الصوت الواحد لم يعد معتادا، وقد كدت أقلق فى البداية خاصة وأنا خارج لتوى من أدغال تعدد أصوات ديستويفسكى فى الكارامازوفية. إلا أنه برغم هذه الواحدية الظاهرة فقد كان لكل كيان بلا استثناء أعماق لا تخفى، وإن لم تستقل بأصواتها فتظهر منافسة أو متبادلة أو موازية، وبأسلوب آخر كانت واحدية الشخوص تكثيفية ذات أبعاد، وليست واحدية ملساء مسطحة منفصلة.
6/1: الاحتواء فى واحد!!.
ثم لمحت هذه الوحدة فى الفرد تنتقل إلى الوحدة فى الأسرة (أسرة عسران بالذات) ثم تكاد تنتقل إلى الوحدة فى القرية .
إلا أن تركيبا خاصا هو الذى أضاء لى قراءتى، بدءا برؤية هذه الوحدة الاندماجية فيما يمثله البك القنصل، فقد بدا القنصل فى البداية وكأنه العباءة التى لمـت فى طياتها أهم أفراد أسرة عسران من أبطال الرواية، لمتهم فى جوفها حتى انقلبوا أطيافا فى مسرح ذات البك القنصل، ثم خرج كل منهم يقوم بجانب من وجوده (وجود البك) فى حياته وبعد موته بشكل أو بآخر، ومع اتساع دائرة النظر قد نرى أن عباءة هذا البك قد احتوت القرية كلها فى ذاته، أو على الأقل هو قد احتوى أسرة عسران فى ذاته (ذلك قبل أن تعطيه صفية ولدا يخلع عنه عباءته).
وقد ساعد فى ذلك أنه بدا فى الجزء الأول من الرواية مستكفيا بذاته، حيث لم يلد ولم يكن له كفوا أحد، ولكن الصورة انقلبت أو انكشفت حين ولد ولدا، فظهر الجانب الآخر الذى هو العكس تماما، وهو الذى أسميته “الوجود الجسم الغريب”، فحين ينفصل الجسد الحاوى الكل، عن الكل، يصبح شيئا منفردا، جسما غريبا، قلقا غير آمن، وأورد هنا بعض ما يشير إلى إثبات هذا الفرض:
مثل أن أبطال الرواية جميعا (عدا رجال الدير، وربما المطاريد) هم من أسرة عسران.
أو مثل أن كتلة البشر كانت تحل محل تميز الأفراد (شأن قوانين القبيلة) فكل واحد هو عم وخال وجد وابن وأخ وأخت الآخر… وحربى وهو فى عز محنة سلخه كان يصرخ فى البك (ص 55) “فى عرضك يا خال.. لا تترك الغرباء يفعلون ذلك يا والدى.. لا تحملنى هذا العار يا جدى..”.
ويبدو أن جوانب هذه العلاقات المكثفة تظهر هكذا فى صورها جميعا فى أوقات الأزمات الطاحنة، فَتَعُّدد النداء ظهر فى موت حربى ووالد الراوى يناجيه “سامحنا أنت يا حربى، يا أخى يا ولدى، يا والدى، يابوووى”
وقد لفت نظرى أيضا إلى هذا الاتجاه التوحدى الاندماجى موقف ثانوى فى أرضية موقف السحق فالقتل، وهو قول ذلك الفلاح العجوز (من أهل القرية لا من أهل عسران “ص 55”) “.. هكذا كان آل عسران يفعلون بالفلاحين فى الزمن القديم، أتركوهم ينهش كل واحد منهم الآخر”.
وقد تركت نفسى أتمادى مع تنامى “الوحدات الاندماجية”، فرأيت الدير هو القرية وبالعكس (والشبه قد نص عليه حرفيا “الدير الذى يشبه قريتنا” (ص 14) ثم رأيت فى الخاتمة وقد تفرقت أسرة الراوى ما بين كندا وألمانيا والسعودية والقاهرة: “أن العالم نفسه قد أصبح هو القرية”.
بل إننى سمحت لنفسى أن أترجم تعبير “.. يا وِلد وَالدى” إلى ما يؤكد هذا الفرض الذى ذهبت إليه، حين لا تكون علاقة الأخوة، أو مستوى الأخوة بين أقران، فهى لاتتوثق إلا من خلال المرور بالأب، فيلزم أن يكون النداء تذكيريا دائما بأنك “ولد والدى…” وليس أخى هكذا مباشرة، فرباط الأخوة هنا لابد أن يمر بالوالدية كل مرة.
أشخاص وعلاقات
وسوف أكتفى فى قراءتى للأشخاص بثلاثة أشخاص محوريين دون افتراض أن غيرهم هامشى، حيث يستحيل مع هذه الرؤية فصل أى جزء، مهما صغر أو خَفُتَ ظله عن الوحدة الكلية، وهؤلاء الأشخاص هم “البك القنصل”، و”صفية”، و”حربى”، (لأرجع بعد ذلك إلى تعقيب ختامى عن الدير).
1/ البك القنصل:
1/2
لم أستقبل هذا البك بأى ترحيب منذ البداية، وفى نفس الوقت لم أستطع رفضه هكذا لمجرد أنه يغرى بأنه يمثل السلطة التى اعتدنا أن نكون جاهزين لرفضها، فسلطة البك كانت – منذ البداية – سلطة داخلية، داخل كل فرد من عائلة عسران (وربما من أهل القرية كلها).
منذ ظهور البك وهو قابع تحت جلد الجميع، فإذا تمطى غطاهم، وإذا قرفص برزوا من جوانبه، فهو يحتوى الجميع، فهو الفرعون، وهو العسران الكبير، وهو الإله الرحمن الرحيم (بالهالة حول الصورة)، وخاصة فى الفترة الأولى – ثم هو حربى وصفية بالذات، وقد استمد سلطته فى المرحلة الأولى بالكرم والرحمة والسماح الذى أدى إلى الاندماج حتى الفخر به ص (33): “كان البك القنصل هو فخر قريتنا وأحب شخص فى البلد إلى قلبى فى طفولتى، كان أكبر مالك للأرض، صاحب أكبر بيت فى البلد”. وظل هكذا النائب المتفرد الذى ينوب عن الجميع وليس قبله أحد، وهو فى نفس الوقت هو القريب البعيد، يحضر كثيرا، وهو فى المتناول لكنه، هو الصعيدى الخواجة (بشكل ما، أليس قنصلا) – وكان من أدق ما عمق هذا الجانب أن الكاتب ترك علاقته هذه بالخوجات، تلك العلاقه التى أوصلت إليه اللقب والنيشان، تركها غامضة طول الوقت.
1/2
ثم جاء موقفه من الإصلاح الزراعى يغرى بالاحترام، ولعله يجدر بى أن أعلن أننى توجست منه خيفة منذ البداية، لكننى شككت فى ظنونى حتى ظهر الجانب الآخر فيما بعد، فقد استقبلت هذا الموقف “المتسامى” باعتبار أنه استقبل هذا الأمر بحرارة عميقة حتى بلغ الرفض حـد الشعور بالعكس (لا شعوريا) وقد تصورت أنه تعامل مع هذا الموقف بعكسه هكذا:
كان مالكا للأرض (بحق الشهر العقارى والحيازة إلخ) فأصبح – بعد الإصلاح الزراعى- مالكا للأرض ومن عليها “.. كلنا أهل وأقارب إن احتجتم إلى شىء فتعالوا إلى وإن احتجت أنا إلى شىء فسآتى إليكم” (ص35) ولم أتبين موقف الفلاحين الذين قيل لهم هذا الكلام، وأظن أن بعضا منهم إن لم يكن أغلبهم، قد اتخذ موقفا مشابها لموقفى هذا، وهو الحذر من هذا التسامح المفرط، وحين صاح بهم هذا البك نفسه فى موقف السلخ:
“.. إمشوا يا كلاب.. كلكم لو استطعتم لقتلتم إبنى لكى ترثونى حيا” (ص55). لم يكن قد تغير ولا كانوا هم تغيروا، وإنما كان قد ظهر المخبوء (حتى على نفسه) أظهره مجرد أنه لم يعد إلها بأن وُلِدَ له ولد، فخاف وتراجع وانكشف.
1/3
إذن – فالذى عـرى هذا الإله الفرعون الرحيم أنه أنجب، فرأى طفله ضعيفا وحيدا، مُهَدَّداً، فرأى نفسه، فهاج حتى تحرك القاتل فيه أو كاد، فقـُتِل.
وهو حين كان الكل فى واحد، التهم حربى أساسا وتماما، فهو ابن الأخت والساعد الأمين.. إلخ، وهو الشباب وهو الطرب والغناء، وهو الوصلة الأعمق بينه وبين أهل القرية، فلم لا يحتويه؟ “هكذا”، كاملا، جاهزا، مادام أنه إله لا يلد؟! ولم ينتبه أحد -ولا حربي- إلى ذلك أصلا.
وحين أنجب القنصل حسّان، لفظ حربى، فوجد نفسه يهبط إلى الأرض بلا مظلة، فقد كان حربى يقوم مقام الإبن، القطب الانسانى الفردى لذات القنصل الكبرى، كان بمثابة الوصلة إلى الأرض، فجاء حسان ليجسد الإبن الذات الجسم المحدود، جاء ليقوم بدور الفصلة الرمز عن الكل – وقد أدى هذا التغيير إلى هبوط اضطرارى بدون مظلة كما ذكرنا، فتهشم القنصل الإله، وأصبحنا أمام الشيء الشظايا المنطلقة فى عمى مرعوب فى كل اتجاه
1/4
كما أن القنصل لم يمت حين قتل، بل قفز منطبعا فى كيانين بديلين:
انطبع القنصل المنتقم الجبار فى صفية حتى أكمل على دفن ما تبقى منها مما كان يطل فى خفاء للحظات، وكان الراوى يحس به، أو يلوح له بين الحين والحين،
وانطبع القنصل الجثة الهامدة فى كيان حربى، فلم يعد ثمة حربى. وإذا كان القاريء سوف يقبل الافتراض الأول (انطباعه فى صفية)، فكم هو صعب عليه أن يتقبل الافتراض الثانى، وقد قبلته – شخصيا – بصعوبة شديدة (أنظر بعد: حربى).
2/ صفية:
2/1
إذن صفية، خالتى صفية، لم توجد حقيقة كاملة إلا وعْداً، طفلة جميلة، عيناها نصف وجهها، تتلونان مع الشمس، وتنتظر حربى منذ وعت أن ثمة صفية وثم حربيا، أعدت نفسها (طفلة، ففتاة) له، وليس لغيره، أعطت نفسها جملة وتفصيلا لحربى الوعد أيضا، لحربى الحقيقى الذى لم يظهر كما ينبغى إلا فى خلفية كامنة رغم أنه حقيقة لا مراء فيها. وهى لم تفصح عن مشاعرها أبدا، وحتى حين ضبطهم الراوى يتبصصن على حربى، لم تكن وحدها، إلا أنه يبدو أنها كانت تحدس ما سيحدث، فحتى وهى تكرر أغنية أمونة البيضاء “حاربى قلبى ..”، كانت ترددها فى حزن كأنه العديد الحزين (ص32)
ثم اصطدمت بحائط التخلى، حائط يبدو أنه كان قائما طول الوقت لكن أحدا لم يره، وهى بالذات لم تتصور أنه ممكن أن يكون، وهذا النوع من الصدمات هو نوع شديد الوقع، ممتد الأثر، وهو ليس إحباطا فى حب، أو خيبة أمل، كما يشاع فى مثل هذه المواقف، وإنما هى ضربة كيانية قاضية، لأنها لا تتعلق “برغبة في”، أو “حاجة إلى ..”، وإنما تتعلق” بكيان لايكون إلا بـ ..”، حربى هو الذى بادر بالمواقفة على زواجها من القنصل قبل أبيها”!! (أهكذا؟!!؟!).
وضخامة الصدمة هنا تأتى من أنها غير متوقعة أصلا، بأى صورة، ومن كل الناس، وفى حالتنا هذه بالذات: تعلن الصدمة كشفا لبناء قد ارسيت دعائمه بشكل بديهى فى وعى وخيال كل من يمكن أن يسلم للمنطق الطبيعى والتسلسل المتوقع، لكن يبدو أن انهيار كل هذا فجأة، بدا كأنه لابد أن يكون كذلك فجأة أيضا.
إهانة المرأة – والطفلة صفية هى امرأة فى هذه اللحظة – التى وهبت نفسها بلا قيد ولا شرط لـِـمـَـا توقعت وانتظرت ورسموا لها: هى أكبر إهانة يمكن أن تلحق بوجود حى، إنها بصقة غدر، وهى ركلة إلى هاوية لا قرار لها، فلو أن لها قرار لتحطمت الساقطة فيها وانتهى الأمر، وهذا أهون، لكن أن تظل تهوى هكذا طول الوقت، فلا بد أن ينبت لها جلد آخر، لتصبح كيانا أخر فى ضغط جوى آخر، لا يحفظها شبه حية إلا هذا الانسلاخ المتصل.
هذا ما حدث لخالتى صفية.
بمجرد أن تأكدت صفية أن “حربى هو الذى قال ذلك” هو الذى وافق على إعطائها للقنصل بلا تردد، اختفت تماما، وحل محلها نسيج آخر يشبهها، ويناسب استمرار الهبوط فى الهاوية بلا قرار، نسيج هو كفن مكتوب عليه صفية بلا صفية، وهى لم تظهر بعد ذلك أبدا إلا من خلال وعى الراوى، تطل فى خجل أو طفولة ثم تختفى، لكنها ظهرت تماما فى اللحظة التى أعلنت فيها فى النهاية وهى تلفظ أنفاسها الأخيرة – أنها توافق على الزواج من حربى – لتؤكد أن كل هذا الذى حدث منذ أن “قال” حربى “ذلك”، حتى قالت هى وهى تودع الحياة أنها موافقة على زواجها منه: لم يحدث أصلا.
2/2
منذ تلك اللحظة الأولى – لحظة تسليمها للقنصل على يد حربى – أصبحت صفية عكسها مما يمكن أن يسمى “لا صفية” أو “ضد صفية”، أو وعاء صفية الخاوى منها، وعاء يصلح مفرخا لتفريخ طفل لصاحبه لا أكثر، وإعلان صفية قبول الزواج من القنصل كان محدد الهدف، “… وسأعطيه ولدا”، فالمسألة انتقلت من علاقة حياتية تكتمل بها مع حربى، إلى علاقة وعائية شيئية، تمليك، وعاء يعطى مقابل تشغيله: ولدا.
ويأتى تعبير الراوى (ربما على لسان حال الأم) (ص39) أنه: “… بعد الفرح بأيام بـدأت صفية تظهر على حقيقتها” تعبيرا يحتـاج إلى وقفة مراجعة، فالواقع أنه – بحسب استقبالى للأحداث – قد حدث العكس تماما “بدأت صفية تختفى حقيقتها” لاتظهر على حقيقتها، ولا أجد تفسيرا لهذا التعارض اللهم إلا إن كان تعبيرا يعلن وجهة نظر الأم حين تريد أن تطمئن على ابنتها بعد الزواج من أنها أصبحت “كما ينبغي”، “وكما ترجو” (باعتبار أن هذه هى حقيقتها التى ترجوها) يدل على هذا ما لحق هذا التعبير من قول الأم: “أنا ربيتها وهى شرفتنى”.
2/3
ثم ننتقل حتما إلى الرد على تساؤل الراوى عن طبيعة علاقة صفية بالقنصل، وخاصة أنه كان تساؤلا مفصلة فيه الاحتمالات الممكنة، يتساءل الراوى (ص41): ”لماذا أحبت صفية، بعد حبها الأول الجميل، ذلك الرجل الذى يبلغ أكثر من ثلاثة أضعاف عمرها؟” ثم يضيف: “ولكن هل سأعثر فى يوم على جواب حقيقى، وهل سأعرف إن كانت قد أحبت القنصل لسبب ما، أو لعلة ما، أو أنها أحبته فحسب مثلما تحب أية امرأة أى رجل؟”
والإجابة على هذا التساؤل تحديدا جاءت ضمن المدخل إلى قراءتى الرواية، ولعلى أبدأ بطرح أسئلة مقابلة، تقول:
ولكن هل أحبت صفية القنصل أصلا؟
وهل هذا التفانى – حد العبادة – هو حب أم انتقام؟
وهل هى حين أخفت نفسها – دفنا فيه- قد بقى منها شيء يمكن أن يوصف بأنه يحب أولا يحب؟
الجواب عندى يبدأ من إعلان أنه بمجرد أن تخلى عنها حربى، لم يعد ثمة “صفية”، وأن هذا الكيان الذى استسلم بعد ذلك لكل ذلك لم يكن سوى “ضد” بل “نفى” وجودها كما ذكرت حالا، أصبحت عدوانا صرفا بلا صفية، وقد وجهت هذا العدوان: فى شكل عدوان سلبى على البك باحتوائه حتى إلغائه بل إلغائها فيه بدلا عنه، ولاحقا فى شكل عدوان إيجابى على حربى تآمرا، فطردا، فوشاية، فثاراً.
والجريمة التى دفنت كيانها كانت صفقة من البك القنصل، وخيانة من حربى المتخلِّى.
ولادة صفية لحسان لم تكن ولادة أم لابن يؤكد علاقتها بأبيه ويعلن امتدادهما فيه، وإنما كان حسان – منذ لحظة قبولها زواج أبيه – أداة محسوبة أوصافها وأبعادها ووظائفها طول الوقت: كان حسان إزاحة لوالده، وكأنه جاء من تلقيح صناعى لا أكثر ولا أقل، لأن الزواج ارتبط بشرط قدومه بشكل أو بآخر. ثم كان حسان أداة لأنسنة الإله الذى لم يلد، إذ يلد، ليهبط إلى الأرض خائفا، هائجا، قاتلا. ثم كان حسان بديلا عن حربى (للقنصل)، فهو الابن الحقيقى للقنصل، فما حاجته لحربى. ثم كان حسان بديلا عن حربى (لصفية) إذ يحقق لها الجزءين: البنوى والامتلاكى، فى الاحتياج الضائع.
ولكى يتأكد هذا الإحلال الكامل، كان لابد أن يزول حربى أصلا وتماما من الوجود العيانى. لذلك، ومن البداية راحت صفية تلعب لعبتها متعددة المراحل، ومن خلال داخل البك شخصيا الذى أصبح هو هى:
راحت تشككه فى حربى، ولا أحد غيرها أوعز إليه بهواجسه من حربى تجاه حسان، وهى تدفعه للإسراع بالتخلص من القاتل المتربص (حربى)، بابنه (حسان)، وما منع جريمة قتل حربى الأولى إلا العربان المأجورون حين أعلنوا أنهم لم يتفقوا على “جنايات”، رغم عدم سبق الإصرار. ورغم أننى لم أتأكد من حضور قرار القتل الفعلى لا فى وعى البك ولا فى وعى صفية الظاهر، إلا أننى اعتبرت الإزاحة المتلاحقة بكل هذا النبذ والقهر والتعذيب أقسى من القتل، ثم هى الطريق إليه حتما فى نفس الوقت، إلى أن تجسد فى موقف السلخ المتمادى.
3/3
أما المفاجأة التى أخلت بالحسابات الظاهرة فهى أن حربى هو الذى قتل البك، ذلك القتل الذى بدا أنه تم بمحض الصدفة، كانت مفاجأة جسيمة لصفية حيث أن اختفاء البك “هكذا”، مع بقاء حربى “هكذا” قد أفشل مخطط الإلغاء والإحلال، إن بقاء حربى على قيد الحياة مع اختفاء البك مـَـثـّـل لصفية خطرا أعظم من كل خطر، ليس خطرا على ابنها بداهة فقد ورث وانتهى الأمر، ولكنه خطر إحياء الأمل، فهذا هو حربى (حبيبها) مازال حيا، وهذا هو البك مختطفها ومغتصبها، مات واختفى، فهل تصحو صفية المدفونة وتلغى هذه الفترة من حياتها، وتستعيد كيانها، ويتحقق الحلم؟ هذا هو الخطر الذى لم تسمح له صفية حتى بمجرد أن يقترب منها (إلا فى النزع الأخير وهى تسلم الروح، وهى تقول لوالد الراوى: “انت وكيلى يا والدى.. ولكن إن كان حربى يطلب يدى فقل للبك أنا موافقة، أنت وكيلى يا والدى وأنا موافقة أى مهر يدفعه حربى”، ثم أسلمت الروح، فبدا أن كل ملاحقتها لحربى كانت هى فى الظاهر ثأر مثل كل ثأر، وفى الواقع هى كانت محاولة للتخلص من هذا الأمل المرعب، ولكن لماذا يرعب مثل هذا الأمل؟ لأنه يحمل معه خطر هجر ساحق جديد، خطر تسليم آخر. من يدري؟ من يضمن؟ لا أحد يمكن أن يضمن أى شيء بعد ما كان مما كان يعتبر مستحيلا فى حينه! ألم يتخل عنها حربى من قبل؟ ألا يمكن أن يتخلى عنها إذن فى أى وقت وبلا أدنى مبرر؟
فلا، ولن يعيش حربى حتى لا يكون أمل، ولا يكون تسليم ولا يكون سحق جديد، فلابد أن يختفى حربى حتما وسريعا وتماما.
ولكن، إذا كانت صفية لم تعد موجودة أصلا، لم تعد سوى نفيا خالصا، فمن ذا الذى يحمل كل هذا الحـَفز للقتل، ومن ذا الذى يخطط للثأر، ومن ذا الذى يواصل تصفية الحسابات؟
هكذا تصبح المسألة أكثر تعقيدا، فصفية التى اختفت لم تَمُتْ وإنما دفنت حية، فطاقتها الحبيسة هى الدافع لكل هذا، أما الأداة، فقد كانت “بصمة” البك المنتقم الجبار، فقد تحولت صفية إلى مخلب البك و أسنانه بمجرد مقتله، انطبع كيانه بيولوجيا على ما تبقى من صفية ظاهرا.
وقد كان هذا من أدق إرهاصات حدس الكاتب حين يعلن ذلك مباشرة “.. خيل إلى أنها بدأت بالتدريج تشبه البك، وأن كلامها بدأ يشبه لهجته”، لابد أن أبيـّـن أن هذه حقيقة بيولوجية سبق أن أوردتها فى تنظيرى لظاهرة البصم تقمصا بالمعتدى، وخاصة عند الموت /بعد الموت/ بالموت، وهى ظاهرة بيولوجية وليست تعبيرا مجازيا أو تصويرا نفسيا فحسب، مما لا مجال لتفصيله هنا طبعا.
إذن فالبك القنصل الذى مات لم يمت، بل انطبع على لحم وتركيب وخلايا صفية البيولوجية، وهكذا أصبح كيان صفية المتحرك يحوى طبقات تركيبية معقدة تبدأ ببؤرة مدفونة حية هى صفية الأولى الطفلة المهيأة للحب والحياة، وهى مدفونة فى صفية الحقد النمرة، التى هى مغطاة بدورها بصفية البك المنتقم الجبار، والجميع توجهوا – كل من منطلقه – إلى هدف واحد هو التخلص من “حربى” الذى يثير فى كل من هذه الكيانات ما يبرر موقفه منه.
صفية المدفونة حية تريد أن تتزوج من حربى، وحربى لابد أن يدفن معها، وهذا وحده هو الذى يمكن أن يلغى كل ما لحقها من رفض، وفى نفس الوقت يسمح له أن يلحق بها، فى ومنذ لحظة التخلى/ التسليم، أما هذا الكيان المتبقى منه فلا وجود له، ولابد أن يزول (تحصيل حاصل لتأكيد حاصل).
وصفية الحقد النمرة تريد أن تتخلص من حربى الذى يذكرها بالجرح، الرفض، الإهانة.
وصفية البك المرعوب الجبار تريد أن تتخلص من حربى التهديد للصغير حسان، وقد تحول التهديد من الاستيلاء على الميراث إلى التهديد بتعرية فساد كل ما كان بأنه: “ولماذا كان هذا؟” (وده كان ليه) وكأن حسان لن يكون له مبرر، ولا معنى، إلا إذا حل حقيقة وفعلا – وليس مجازا – محل حربى، بأن يزول حربى الجسد الباقى هناك.
والإصرار عل أن حسان هو الذى يقتل حربى، هو أمر طبيعى بحسابات تقاليد الثأر، لكنه بدا لى من منطلق هذا الفرض تأكيدا للإحلال، وما اضطر صفية أن تتنازل عن هذا التحديد لشخص القاتل إلا ظروف قاهرة تتمثل فى التهديد بموت حربى موتة طبيعية.
نرجع بعد ذلك لمحاولة تكملة الجواب على تساؤلات الراوى:
هل أحبت صفية البك؟ كيف؟ ولماذا؟
وأحسب أننى قدمت الجواب ضمنا، فأنا أنفى أن صفية أحبت البك أصلا، لأن ما تبقى منها كان عدما، والعدم مضروبا فى أى شىء وأى أحد وأى عدد لا ينتج إلا العدم.
هذا العدم – من جانب آخر – ليس صفرا، لكنه وجود عدمى، إعدامى، فما تبقى من صفية ظاهرا تحت اسم صفية قد سُخِّر لقوة الاحتواء والقتل:
فهى تتخلص من نفسها بدفنها حية عقب تسليمها من حربى للبك، وتتخلص من البك بإنجاب من يهبط به من ألوهيته الخادعة إلى كيانه الإنسانى المرعوب، وتتخلص من حربى أولا بإلغائه كحبيب، ثم بإحلال حسان محله عند البك وعندها على حد سواء، ثم بإقصائه ثم بقتله بترتيبات الثأر، وحتى الحمار الذى أسمته حربى، شككـتُ (وأعترف بأنى مبالغ هنا ومخطيء فى الأغلب)، أنها هى التى دسَّت له السم.
وقد بدا هذا واضحا ومجسدا فى موقفها بعد موت حربى، إذ لما لم تعد للأداة (حسان) وظيفة كان أول تفاعل لها هو أن تلقى به بعيدا “… قيل إن النبأ نقل إليها وكانت تقف فى فناء الدار وإلى جوارها حسان، فالتقطته من الأرض وهى تصرخ صرخة هائلة ثم رمته بعزم قوتها نحو الحائط” (ص137).
وهى تتخلص – فى النهاية – من نفسها بهذا الانتحار البطىء “…قامت بعد ذلك، ودخلت إلى غرفتها ولم تنطق بشيء ولم تذق بعدها طعاما أو شرابا إلى أن انتهت”(ص137).
فهذا الكيان المعكوس والمُـفزغ لم يكن ليحب أصلا، لا البك ولا حسان ولا غيرهما، وحين مات هذا الكيان أو أوشك على الموت، ظهرت صفية المدفونة حية، وكأنها كانت فى أجازة كاملة طوال هذه الفترة وأعلنت كأنها لم تخطب أصلا للقنصل، أنها تتساهل فى المهر بالنسبة لحربى مادام قد تقدم لها، ثم أسلمت الروح.
4/3
أما ختام تساؤل الراوى “… أو أنها أحبته مثلما تحب أية امرأة أى رجل؟”
فقد كدت أهمل هذا الجزء من التساؤل، لأننى لا أكاد أعرف كيف تحب أية امرأة أى رجل، وخاصة فى بلدنا، وخاصة فى بلدها، فإذا كان يقصد الراوى تلك الصورة التى تمثل المرأة الصعيدية غير المختارة مع الزوج السيد الكل شىء، فإننى أتحفظ، وأذكره بكل ما سبق من تفسير وتداخل وتعدد ذوات، وبصـْـم، وعكس، طول الوقت.
5/3
بقيت نقطتان قبل أن نطوى صفحة صفية
5/3/1
الأولى: استشهاد يدعم الفرض الذى ذهبت إليه، يقول الاستشهاد فى وصف ما سمى “عشق” صفية (ص42) بأنه “.. لم يكن عشقها يعرف الزمن، بل ظل ثابتا إلى الأبد” وقد قرأت هذا الوصف من منطلق علاقتى بالأبد الموت، الأمر الذى سبق أن تناولته فى ملحمة الحرافيش فى فرضية: أن الموت هوالحياة، وأن الخلود هو الفناء، فالموت نهاية لها ما بعدها وبهذا يصبح الموت حركة تغير، والخلود بلا نهاية ولا آخر فهو جمود جاثم، أى زمن متوقف، والإشارة هنا إلى توقف الزمن بدأت من تخلى حربى، “وإلى الأبد”، جاءت مناسبة لهذا الفرض، وقد أكد لى هذا الفرض الجديد ما ذهبت إليه عن دفن الذات، وبقايا العدم، كما وصفت صفية حالا.
5/3/2
الثانية: عن وجه الشبه بين “ضحى” و “خالتى صفية”، ويبدو أن ضحى تمثل عند الكاتب حضورا خاصا، لمست ذلك من سيرته الذاتية المحدودة فى الملحق، كما لمسته من تسمية الرواية باسمها وغير ذلك. يقول فى سيرته كاتبا عن ضحى “…أحبها القراء والنقاد جميعا” ثم يبدى سعادته بترحيب الشعراء بها حين يضيف: وكنت أحسب لأول وهلة أن هذه مسئولية القراء والنقاد فحسب، “ثم” إن ما أسعدنى بصفة شخصية هو أن الشعراء أيضا قد أحبوها..”.
ولابد أن أعلن هنا أننى لست من جميع القراء أو النقاد الذين أحبوا ضحى، صحيح أننى شممت رائحة ضحى الزهرة إيسيت، وانتشيت حتى استعدت حياة من حيواتى كانت تحتاج أن يرويها هذا الشذى، لكننى لم أستطع أن أفصل ذلك – فيما بعد – عن رائحة ضحى الصفقة السامة الملساء، ولم أعتبرهما اثنتين، فإن هذا يولد-عادة – من ذاك.
وقد قابلت هذا الموقف بنفس رؤيتى للقنصل الطيب الكريم المسامح حين استقبلت أنه هو هو القوة الباترة، المنتقم الجبار.
وقد كانت هذه الرؤية تلاحقنى حتى وأنا أتابع مسار صفية، مع الفارق: فصفية لم تظهر حاضرة كاملة فى تلك الصورة النقية التى ظهرت بها ضحى فى البداية، اللهم إلا وهى طفلة واعدة، ثم فتاة نضرة، نجمها خفيف، وحضورها – رغم نقصانه – حى جاذب، لكن هذا الوجود سرعان ما اختفى حين طـعـنـت بتسليمها للبك الذى لم يتسلم (من حربي) سوى بديلتها، بديلتها الوعاء السام القادر على تفريخ طفل بديل، والقادر على تسميم سائر المحيطين فى آن.
نقلة ونقلة، طهارة فبشاعة، فطرة فبقايا: فى الحالتين.
وإذا كانت ضحى قد اسـتعـمـلت من أبيها كدمية يحسن تزيينها والتباهى بها – وليست كما هى “سرق منى طفولتي”، فإن صفية التى فقدت والديها فعلا قد استقبلت ممن حولها استقبالا طيبا رفيقا لم يلغها ابتداء، إلا أنها بمجرد أن “سُـلِّمت” مع مخصوص لصاحب النصيب (وهى ليست صاحبته) بدأ استعمالها من والد لم يلد سمى تجاوزا زوجا، وقد وقـع على دفتر التسليم حربى شخصيا فاستعملت نفسها لهم انتقاما عدما وإعداما.
وقد أدى استعمال ضحى، ثم هربها إلى زوج باهر من الظاهر، يستعملها ديكورا مـرة، ومفرخة مرة ووسيطا مرة، وسمسارا مرات، أدى كل ذلك إلى نكسة بشعة جذبتها من حلم التاريخ والالتحام بالطبيعة، إلى تقمص بالمعتدى لتصبح أقسى وأبشع منه.
أما صفية الأصل فقد انسلخت عن الطبيعة حين دفنت نفسها، ثم تقمصت بالمعتدى أيضا، وكان ما كان.
3- حربى:
3/1
من هو حربى؟ أين هو؟
هل وجد أصلا بقدر يسمح بالتعرف عليه، أم أنه – (مثل صفية وضحى) كان وعدا لم يتحقق أبدا.
من هو حربى؟ أجمل الرجال؟ سيد الرجال؟ أحلى الأصوات؟
كل هذه أبجدية لم تتجمع فى شطر شعر، أو هى ضبط أوتار لم تصدح ثم تتناغم لتصدر لحنا.
لماذا؟
لأن اللحن لم يكن من وضعه أبدا، ولم يكن مناسبا له، بل إنه لم يوضع أصلا، رغم كفاءة أدوات العزف، ويقين إرهاصات الميلاد.
لم يوجد حربى، اللهم إلا فى ظهوره لماما فى علاقته بأمونة البيضاء الحلبية، وربما فى غنائه لأقرانه وأهل القرية وما شابه، وأخيرا أثناء لجوئه للدير فى صبر متألم.
أما موقفه من صفية فقد كان – رغم حتمية حبه لها، وحبها له حتمية مفترضة كالبديهية، لم تعلن من أى من الطرفين أصلا. كان موقفه موقف المتفرج: فهو لم يسمح لنفسه أن يعترف بهذا الحب، فى حدود ما ورد فى الرواية، حتى أن الكاتب (والراوى) قد حرمنا حتى من إطلالة على أحلامه – بل إنه حين مرض وضعف حتى الهذيان، لم تخرج من فمه (مثلما حدث لصفية قرب نهايتها) كلمة واحدة تشير إلى حبه لها، أو حرمانه منها … أو … أو… ورغم وضوح همس القرية، وإشارات العائلة، وتلميحات النسوة، وحسد الشباب والرجال، فى مواجهة البديهية: “أن صفية لحربى وحربى لصفية”، فإن ذلك لم يكشف لنا عن موقفه “الواعى” من هذه البديهية.
فماذا فعل بها (بهذه البديهية)؟
كيف أخفاها على نفسه؟
كيف تفاعل مع الحلم (الذى أصبح ضميرا عاما)، وهو يلح ليتحقق؟
كيف تنكر للبديهية المفترضة وهى تقترب لتكتمل؟
3/2
لابد أنه – دون غيره – قد شم رائحة توجهات البيك القنصل الإله الذى لم يلد، والذى تبناه عطفا فاحتواء (كما تبنى أهل القرية والناس جميعا كرما فإلغاء) وبمجرد أن بلغت حربى – دون إعلان- رغبة البك، أسرع فأجهض – بقهر لا تعرفه حتى العلاقة بالمحرمات – أجهض الحلم وسحق البديهية وسلم مفاتيح وجوده لقاهره، سلم نفسه ومتعلقاته بما فى ذلك صفية – بكل طبقات وجوده – إلى الأب، الإله، الكل الحاوى.
وحتى الغيرة التى شعر بها الراوى من حب صفية للبك، لم نسمع عنها عند حربى، فقد ألغى حربى حتى الموقف الأوديبى التنافسى العادى مع الأب، لم يعد القنصل أباه .. بل هو هو .. وهذا هو السحق الكامل.
ومن هنا، ومن قبل موقف الخطبة، وحتى نهاية الرواية لم يسمح حربى لنفسه، ولا لحلمه، ولا لهذيانه، أن يهمس (له قبل الآخرين) بحقه فى صفية.
ربما لكل ذلك لم أتعاطف معه بالقدر الذى يغرى به ظاهره: من حُسْن فتىّ، وشباب فائر، ثم من ضعف وشهامة، لم أتعاطف معه لا وهو فارس بربابة، ولا وهو ضحية بلا جريرة، ولا وهو سجين هزيل مريض.
بل – ربما – رأيت فيه القاتل الأول أو الثانى بعد البك القنصل، وقبل صفية.
فهو قد أجهز على نفسه حين سلمها بلا شروط وبلا مقابل للبك.
وهو قد أجهز على صفية حين تنازل عنها أيضا للبك بلا شروط ولا مقابل.
وهو قد أجهز على البك،: مصادفة وليس رد حق!! (للأسف). وإن كان قد خطر ببالى أن قتل البك – هكذا فى هذا الموقف – لم يكن إلا انتحارا، فحربى لم يقتل البك إلا وهو نفسه قابع داخل البك، وقد أكد لى ذلك تفاصيل منظر القتل حيث كان حربى: “يدفعه بماسورة البندقية فى صدره” (ص55) وهو ملتصق به، وكان الموصل بينهما هو ماسورة البندقية، وكان يصيح “يكفى” (وليس: كفي) – وقد وصلتنى صيغة المضارع أقوى، وصلتنى وهو يوجهها لنفسه أكثر مما يوجهها لمعذبيه أو للبك، يقول لنفسه يكفى استسلاما، يكفى امحاء، يكفى إلغاء، بل يكفى ماعاش من أيام..، فتم القتل انتحاراً، ربما لذلك لم أعتبره قاتلا حين قتل فعلا، بقدر ما اعتبرته كذلك فى مواقف الإلغاء!!، فقتل القنصل هو القتل الوحيد الشريف من بين كل من قتل – حتى لو كان انتحارا – ومع ذلك فهو ليس فروسية لأنه انعكاس دفاعى عن النفس قبل كل شيء.
وبعد حادث القتل/ الانتحار هذا لم يظهر حربى ثانية، وإنما ظل يترنح بين أروقة الإرهاق والذبول والنسيان والمرض.
وهو يعبر عن ذلك مباشرة “.. أنا يا ولدى مثل النخلة العويل التى لا تطرح البلح ولا ترمى الظل” (ص122).
طبعا لم يكن حربى هو المسئول عن كل هذا الضياع من البداية للنهاية، فالجميع دون استثناء – قد شاركوا فى هذا الإعدام البطيء والمنظم.
3/3
وأذكر من جديد أن حربى لم يكن إلا عسرانيا، وهو إذ ضاع إنما ضاع فى عسرانى مثله، والاثنان – بشكل أوبآخر – منفصلان عن القرية رغم القرابة والنسب، وأذكـّـر هنا بقول الفلاح العجوز فى موقف السحق “أتركوهم الآن ينهش كل واحد منهم الآخر”، ثم أضيف تذكرة أخرى ونحن نرى والد الراوى (العسرانى أيضا) ينهر حربى عن إمساك الفأس أصلا، فيعتذر حربى ويتوب!! لا فرق بين هذا الموقف وموقف البك؟
أين هما من الناس: الناس؟
حربى لم يكن يمثل الناس، بل كان – بالنسبة لى على الأقل – أقرب إلى الوجه الآخر للطبقة المتميزة التى تمثلها عائلة عسران، والتى منها الراوى وأمه وأبوه. (ص95) “كان حربى من الأعيان مثل أبى أقصى مايجوز له أن يفعله … إلخ”
خلت هذه الرواية من “عامة الناس” اللهم إلا فى أرضية وعى الكاتب، مع بعض الظهور الثانوى: متفرجين، أو شامتين، أو مهنئين أو معزين، ولم يظهر من يمثلهم ولو رمزا مثل سيد فى “قالت ضحى” ولا أظن أنه حتى المطاريد كانوا من عامة الناس، ولكن ربما كان المأمور هو أكثر من يمثل الناس.
ثم ماذا عن ”الدير”
4/1
منذ أن قرأت العنوان “خالتى صفية والدير” قبل أن أحصل على الرواية وأنا أتطلع لموقع الدير فى الحكاية.
وقد تحفظت – من البداية – ضد احتمال سرعة اختزال هذا العمل إلى هذا الشكل المباشر باعتباره دعوة للتسامح لمجرد تناسب ظهورها مع أزمة بذاتها أو مرحلة بذاتها ظهرت فيها نكسة أو أزمة متعلقة بما يسمى الفتنة الطائفة.
وحين قرأت الرواية، رفضت أن أقبل التسطيح (بعد رفضى للاختزال)، وقد تعجبت مؤخرا لمن قال إنها دعوة لعكس ذلك، وحين رفضت هذا وذاك، رفضت بالمرة العنوان، مع أنى راجعت دقة بهاء طاهر فى اختيار عناوينه، بل إننى فى القراءة الثانية كدت أتذكر العنوان على أنه “خالتى صفية والبك” وليس “خالتى صفية والدير” ثم إنى كنت خارجا لتوى من دير آخر، هو دير الأب زوسيما فى الإخوة كارامازوف، بكل ما كنت غارقا فيه من إطناب الخطب والنصائح والحكى حتى الضجر من الأب زوسيما، وحتى من أليوشا.
كما أننى لم أكن قد تخلصت بعد من رفضى لـ تكية “الحرافيش”.
وقد شعرت بفرق شاسع بين هذا الدير المصرى، وبالذات بما أضفى عليه المقدس بشاى، وبين ذلك الدير الروسى (رغم وجه الشبه الأرثوذكسى)، لهذا اعتبرت أن المقدس بشاى هو الممثل الحقيقى لما أراد الكاتب إظهاره من “دور الدير”.
أما تكية الحرافيش بسورها الصامت وأناشيدها الغامضة، فقد فرحت فيها شماتة، فرحت وأنا أدخل هذا الدير المصرى وأخرج منه مرارا بهذه البساطة، نعم رحت أدخل الدير دون استئذان (حتى دون استئذان المقدس بشاى نفسه) وأخرج منه إلى عودة، وقد حاولت أن أتذكر دير أبينا متى المسكين فى وادى النطرون أو دير سانت كاترين، فلم أنجح فى استحضار النموذج المناسب، فاعتبرت أن ثمَّ اختلافا تتميز به هذه الأديرة الصغيرة بالصعيد وهو المقدس بشاى خفيف العقل.
ليكن…
لكن الذى لا يكون هو الاستسلام لهذا الاستسهال الذى يعتبر مجرد السماح للوعى بحقيقة العلاقة الإنسانية بين مسلمين ومسيحين حدثا خاصا أو إبداعا يحتاج إلى اعتبار خاص.
وما هـمنى فى هذا الدير أنه مصرى الرائحة، مصرى التركيب، ولتذكر ما ورد على لسان المقدس بشاى نقدا لمسيحية الخواجات الذين يفضلون زيارة مساخيط الكفرة على رموز المسيح.
لم يظهر فى مقابل الدير – إن كانت المقابلة مقصودة – دور المسجد، اللهم إلا فى الإشارة إلى دور والد الراوى كخطيب وإمام صلاة الجمعة أو العيد أحيانا.
ولم تتعمق الرواية إن كانت هذه قضيتها أو من ضمن قضاياها، إلى مستويات الصراع الأخرى، فلم يظهر احتجاج رافض يواجه التنوعات المحتملة ضد هذا التسامح، اللهم إلا تحفظ محدود من رئيس الدير الجديد، واحتجاج بعض المصلين المسلمين على احتماء حربى بالدير (ذلك الاحتجاج الذى ذاب فور الرد بالتذكرة بما فعله رسول الله مع النجاشى).
وفى مقابل حنين الخائن، لم نر خيانة على الجانب الآخر، وهذا ليس مطلوبا طبعا، لكنه إثبات لصالح الكاتب ينفى عنه أى قصد لتسطيح سخيف.
وحيث لم تظهر مستويات للصراع، لم تظهر مستويات للحوار، وتوارى الجدل الضرورى فى الموقف الدينى الذى يمكن أن يتصاعد بين بعض الأفراد وبعضهم فى حركية الناس و جدل مواقفهم الأعمق.
وكل هذا لا يضير الكاتب بل لعله هو ما يتميز به العمل ولا ينقص من روعة العمل، ولكنه ينبه النقاد إلى أن المسألة أعمق من ذلك، أو حتى إلى أنها غير ذلك.
لكننى أعود فأذكـّر بملاحظتى على ما أورده الكاتب فى ملحق الرواية فيما يتعلق بحديثه عن والده المسلم الصالح والذى يشهد الله “أنه لم يسمع منه يوما فى حياته كلمة تفرق بين الناس بمقولة هذا مسلم وهذا مسيحى” إلخ، ولعلنى ألومه لأننى أشك أنه بذلك قد وجه النقاد إلى هذا البعد السطحى دون سواه كما ذكرت فى المقدمة، مما جعلنى أعود فألتمس العذر لبعض النقاد.
وبصفة عامة فقد شعرت أن المقدس بشاى، خفيف العقل، هو الذى يمثل المسيحى القبطى، المصرى طيب القلب، هو الدير الذى يهمنى فى كل الحكاية، إلا أن نهاية بشاى أفزعتنى قليلا، فرغم أنه كان خفيفا من البداية، إلا أن الهرب – حتى فى نهاية العمر – فى هذا الحل المرضى قد يشكك فى صلابة موقفه الوجودى الصعب الذى عاشه بأمانة طول الوقت، وعموما فقد انتهى وحربى ما زال منطبعا فى كيانه لم يمت بعد.
ملحوظة حول الخاتمة:
رغم كل شىء، فقد كان الفصل المسمى بالخاتمة رائعا محكما حزينا، مترامى الأطراف.
وقد أوحى إلى هذا التفرق فى المعمورة بأسرها من القاهرة للسعودية إلى كندا وألمانيا، أوحى إلى أن الدنيا فى سبيلها إلى أن تصبح قرية كبيرة، فماذا ستكون الحال حينذاك؟، ومن أين لنا بهذه العلاقات الحميمة والإيقاع الدافىء اللصيق؟ وأين الوقت، والحوار، والوعى، والجدل الذين سوف يسمحون بهذا الثراء المولد؟ وهل تزيد الفرص أم تنقص فى أنسنة الإنسان؟؟
“أسأل نفسى، أسألها كثيرا”… مثلى مثل الكاتب: “أسأل نفسى”، ولكنى لا أنتظر
أول ديسمبر 1991
لاحقة: شاهدت مؤخرا (الأحد 15 نوفمبر 1998) على مسرح الهناجر كيف استطاع ناصر عبد المنعم مع نخبة من شباب المسرح أن يلتقطوا ويجسدوا كل حب وحقد صفية، وكل سذاجة وشجاعة حربى، وكل طيبة وسماح المقدس بشاى (دون خِفـّته)، وقد كنت قد دخلت المسرح وأنا خائف على النص من أن يختزل إلى التركيز على السماح الدينى، وإذا بهم يتجنبون هذا المأزق ، دون إهماله، فعلوها بنجاح شاب جيد، فشكرا.
بين يحيى حقى وخيرى شلبى الجزء الأول: نيازك الخرافة والإيقاع الحيوى
بين يحيى حقى وخيرى شلبى الجزء الأول: نيازك الخرافة والإيقاع الحيوى
استهلال:
لا أعرف ما الذى جعل قنديل أم هاشم يقفز إلى وعيى وأنا أقرأ رواية “لحس العتب” لخيرى شلبى([1]). أهو التعمق فى حضور “المكان” برغم الاختلاف الشديد بينهما؟ أهو التباين بين الوصف المتناهى الدقة لخارج الداخل، وبين الحدس المتناهى الكشف لداخل الخارج؟ أهو المسافة الزمنية الواقعة بين كتابة العملين (1939-1991)([2]) برغم قرب زمن الأحداث نسبيا؟ أهو تميز الكاتبين تميزا إبداعيا ومصريا، كلّ بطريقته؟ أهو المقابلة بين ريفنا القديم، وقاهرتنا القديمة، بما تحمل من دلالات؟ أهو تناول كلا العملين لما يسمى التطبيب الشعبى على مستويين متناقضين تماما؟
لعله كل ذلك.
مقدمة
حين يواجه ناقد ما، له منظومته الأيديولوجية، ومرجعيته العلمية، وأرضيته المعرفية، ما يقدمه مبدع جيد جاد من رؤية تخالف ما ثبت لدى هذا الناقد “بالضرورة” (علما، أو تاريخا، أو أيديولوجية، أو حتى دينا)، أين يضعها؟ هل يحكم عليها بالصحة والخطأ؟ هل يقيسها بمقاييس ما وصل إليه من علم حتى لو كان متخصصا فيه بجوار اهتماماته النقدية؟ هل يضمها إلى نوع من الخيال البعيد، ومن ثم غير القابل للقياس بمحكات الواقع ومعطياته الحالية؟ هل يستلهمها بدهشة مسئولة باعتبارها مصدرا مختلفا للمعرفة، فيضع لقراءتها ما يلوح له من فروض جديدة محتملة، تتحقق أو لا تتحق بإضافة من مبدعين آخرين، أو من مصادر أخرى للمعرفة: آنية، أو آتية؟
متى كان المبدع مبدعا، فعلينا أن ننحنى لما أبدع، لا أقول نستسلم له، ولكن نحترمه، ونشتغل فيه بما هو، نتعلم منه لا نحكم عليه من خارجه. لعل هذا هو ما دعانى إلى رفض، أو على الأقل التحذير من أغلب مناهج النقد النفسية، وخاصة منهج التحليل النفسى التقليدى. (فصول 1983) ([3]) مسموح بأن تواكب المعرفة معرفة أخرى من منظومة أخرى تدعم بعضها بعضا، أو تعارض بعضها بعضا، لعلها تجادل بعضها بعضا، لكن أن تقف منظومة معرفية، مهما كان إحكامها أو رواجها، وصية على منظومة أخرى تقيسها بأدوات من خارجها، فهذا اختزال غير مقبول.
حين قرأت لحس العتب لخيرى شلبى، وعشت جزئية التداوى الفاشل القاتل بلحس قاذورات ما تبقى من أحذية الداخلين إلى مقامات الأولياء فى مركز دسوق، جزعت، وحين مات خالد (الأخ الأصغر) نتيجة لذلك حزنت، لكننى اطمأننت للرسالة التى وصلتنى، ثم فوجئت أن شقيقه (فخرى:الرواى) المصاب بنفس المرض تقريبا قد شفى تماما، وبسرعة غير متوقعة، من وصفة أخرى لضاربة ودع أشارت على أمه ببعض الطقوس والرُّقى، شفى إذْ تجرع من الحياة الخميرة النابتة فى الخلّ التى تلقت قطر الندى، على نغمات الإيقاع الحيوى الكونى المنتظم. فوضعتُ ما حدث بين قوسين. لم أرفضه برغم مخالفته لأبسط قواعد الطب، ولم أضعه فى نفس موضع لحس العتب باعتبارهما تطبيبا شعبيا معاً، بل رحت أحاول أن أفهم حدْس هذا المبدع الذى جعلهما عكس بعضهما تماماً، فطفقت أقرأ المرة تلو الأخرى دون حل قريب.
يبدو أن هذه الجزئية من الرواية، هى التى ذكّرتنى برواية يحيى حقى الشهيرة : قنديل أم هاشم ، لم تسعفنى الذاكرة بالتفاصيل، فرجعت للرواية، فحضرنى بوضوح غامض أن قطر العين المريضة بزيت القنديل قد فشل حتى قاربت فاطمة العمى، وأن استعمال جزئيات العلم حتى الوارد منها من “بلاد بره” قد فشل أيضا وأوصل الحالة إلى نفس المصير. لكنَّ تصالحا ما قد تم أخيرا بين إيقاع وعى المعالج والمريضة والكون فى لحن متكامل، جعل تلقى المريضة لما سبق فشله، ينجح، وبلا دهشة (أنظر بعد)
لم أجد تفسيرا علميا لما حدث هنا وهناك، رفضت التفسير بالإيحاء السطحى، كما لم أقبل تلفيقا مختزلا يصفق لشعار يجمع لفظىْ “العلم والإيمان” معا، بشكل أشعر معه بالاستسهال حتى خشيت أن يصل هذا الكلام إلى المتلقى بتلفيق مصطنع لم تقصده الرواية. على الناقد وهو ينفى هذا التلفيق الذى لم يرد فى النص أن يثبت عكس ذلك أو غير ذلك، الرفض هنا للتسطيح والتلفيق أو حتى للتسويه، لكنه لا يشمل رفض أى جدل حيوى محتمل. فهى دعوة غامضة مثيرة: أن نعيد النظر فى مفهوم أعمق لما هو علم وما هو إيمان وما هو طب وما هو خرافة. وهذا ما تحاوله هذه المداخلة.
أثناء مراجعتى لقنديل أم هاشم ([4])، وكنت متحفظا على ما شاع عنها، وبالذات على ما وصلنى من الفيلم بنفس الاسم، (قبل أن اشاهده) فوجئت بمنظر تم حذفه فى الفيلم وربما أغفل فى كثير من النقد، ولقد تبينت أننى لم أنتبه إليه من قبل بالقدر الكافى: منظر إسماعيل،(الدكتور إسماعيل فى نهاية الرواية) وهو كائن ضخم الجثة، أكرش، مدمن للتدخين وربما للنساء الجميلات، مصدور، يستعمل امرأته، بأقل احترام، فيُنسلها ما شاء من نسل دون حساب (وربما دون مسئولية)، وفى نفس الوقت يعالج الفقراء بقروش، فى مكان قذر، ويشفون. تساءلت: ما علاقة هذه النهاية (أقل من صفحتين قطع صغير) بكل ما جاء فى الرواية من صراع بين العلم والمعتقدات الشعبية؟ بين الغرب والشرق؟ بين الشمال والجنوب؟ بين الانتماء والتقليد؟ تأكدت أن وقفة أمام هذه النهاية التى حذفتها السينما، وربما تجاوزها أغلب النقاد، هى ضرورية لإعادة النظر فى النقد المتاح، ثم تأكدت أن قراءة حالة إسماعيل كنص بشرى نقدا، قد تكون لازمة لتفسير بعض أبعاد الصورة الكاملة دون الغاء صفحتىْ النهاية فأجلت ذلك لأتناوله فى دراسة لاحقة ([5]) مكتفيا أن أركز فى هذه الأطروحة على مستويين نقيضين للتطبيب الشعبى.
لحس العتب مقابل حدس الإيقاع الحيوى
بالعودة إلى رواية لحس العتب لخيرى شلبى ([6]) نتذكر كيف تسربت الحياة من أسرة طفلنا الراوى على أكثر من مستوى، المال تسرب بخيبة الوالد التجارية، ولم تنفعه أحلامه حالة كونه جالسا ينتظر عكس ما يجرى أمامه واقعا، هذه الأحلام كانت محل نقد أو رفض أو سخرية هامسة أو معلنة من معظم رواد المندرة، سواء وهم جلوس يتغامزون، أو بعد الانصراف، ويبدو أن بـُـعد الوالد عن الواقع اضطره أن يفرض خياله الآمـِل بقسوة جازمة، وربما هذا هو ما وصل للأولاد كنوع من القسوة حتى رفضوه: “…لقد كان يساورنا الشك فى أن يكون أبى- هذا الجلف الخشن الغليظ الصوت والرقبة – كان ذات يوم من الأيام ابن عز” (ص 7)، المسألة لم تعد تدور حول ما إذا كان رب الأسرة إبن عز أم إبن فقر، بقدر ما أنها تعلن أن هذه الأسرة لم يعد يربطها تاريخ أو أمل، وحين أعلن المرض حلوله فى فخرى وأخيه بهذه الصورة التى تنبعج فيها البطن ويذوى الجسم، كان ذلك بمثابة الإعلان الأقسى لتسرب الأشياء والحياة، كل شىء يتسرب إلا الترابيزة التى أعلن الراوى إحياؤها لتقاوم حتى النهاية، لم يستطع أى من الولدين أن يقاوم المرض مقاومة الترابيزة للإزاحة، تراجعا أمام ضربات المرض المتلاحقة، الترابيزة فعلت العكس، إذ ظلت تمتنع أن تضحى بوجودها فى سبيل توفير نفقات علاجهم، المرض الخطير المتسحب بهذه الصورة كان بمثابة إعلان هزيمة الحياة تدريجيا وباضطراد.
لم ينفع التطبيب الاجتهادى العشوائى، ولم تتيسر مصاريف علاج الطب التقليدى، فما العمل؟
هنا، كما فى القنديل، مستويان من التطبيب الشعبى، الأول فيه من التفسخ والاغتراب ما تجسد فى قذارة منفصلة متجمدة لفضلات بشرية ساقطة كنيازك بشعة متنافرة عفنة، فالعتب الذى لحسه الطفلان لم يكن له علاقة لا بالأولياء الذى هو على بابهم، ولا بالطبيعة المحيطة النابضة ذات الإيقاع الحيوى، وحين أُفرغ العتب (بالمسح قبل اللحس) مما عليه من قاذورات أصبح خاويا حتى من قذائفة الشاردة المتنافرة، تبين الشيخ على بقوس (الشيخ كعبلها)، وهو الذى أشار على الأم بالوصفة ابتداء، تبين هذا الخطأ الذى حدث نتيجة مسح العتب وتنظيفه قبل اللحس، وأفتى بأن ذلك هو الذى جرح شعور ولىّ الله، فصحح الوضع ونصح الأم أن يكون اللحس دون غسيل، ففعلتْ، ولحس الطفلان بقايا وشظايا ونتن القذارة والعفن: انغرست بقايا التفسخ البشرى كأنها النيازك الساقطة نافرة من لحن الحياة، انغرست فى قلب الأخ الأصغر (خالد) فقضت عليه فى ليلته، فشلت محاولة الاستعانة بالأولياء لأنهم لم يكونوا هناك أصلا فى وعى طالب عونهم، حلت محلهم بقايا قاذورات أحذية ونعال وأقدام الداخلين إلى المقام، كان التبرك ببقايا نشاز قذرة منفصلة متفسخة وثنية، فهى الخرافة القاتلة.
البديل التقليدى بعد هزيمة الحياة فى الأخ الأصغر “خالد”، كان زيارة الطبيب فى البندر لعله ينقذ ما تبقى أو من تبقى، لكن الإمكانيات لم تسمح إلا بزيارة واحدة للدكتور ألبير فهمى فى بندر دسوق حين أمكن توفير أجرة السفر والكشف من بيع نحاس الأم المرّة تلو الأخرى، فأمكن توفير قيمة الكشف ومصاريف السفر، لكن المبلغ لم يغطِّ ثمن الدواء، كذلك لم تنفع استضافة الجدة الصبية وزوجها الفحل للطفل المريض إلا بقدر ما أتاحت استشارة عابرة لمستشفى حكومى ثبت أنها كانت مثل قلّتها، ثم سرعان ما تخلصت الجدة وزوجها من الطفل الدخيل الذى كاد يفسد عليهما شغل الليل الصاخب.
فى قنديل أم هاشم: لم ينفع الزيت كجسم متعين غريب عن الوعى والإيقاع، كما لم تنفع المعلومة العلمية الجزئية المنفصلة هى أيضا كجسم غريب، لكن الذى يبدو أنه نفع هو التصالح مع أنغام الوعى البشرى ضمن لحن النغم الأكبر للإيقاع الحيوى مستعملين كل آلات عزف التوازن معا: علماً، وإخلاصاً، ومشاركةَ وعى لوعى، تحت مظلة وعى ممتد أكبر.
فى لحس العتب: ضاربة الودع قدمت بحدْسها الفطرى حلا آخر له معالم أخرى، هو الذى نجح إذْ تميز بشكلٍ ما بمواكبة الإيقاع الحيوى وصْلا بين الوعى البشرى والوعى الكونى (الإيمانى) الممتد، وذلك كما ذكرنا: سواء من خلال الخميرة – فى الخل- المخلٍّقة للحياة، أو من مواكبة الإيقاع اليومامى، فى مجال ثلاث أذانات: المغرب والعشاء حتى الفجر، ثم مواكبة ظهور القمر أول كل شهر لثلاثة أيام، كل ذلك ليس شافيا بذاته، لكنه قد يحمل حدسا شعبيا يقول بأن الحياة التى تسربت بالانفصال والاغتراب والتفسخ والقذارة يمكن أن تعود بالاتساق والهارمونى والصحوة التوازنية مع إيقاع نبض الطبيعة.
الفرق بين لحس العتب، وبين التناغم مع الطبيعة فى مواكبة الإيقاع الحيوى (الإيمانى: العارف هو الله- شِفاه على الله وعلىّ – ص64)، هو الفرق بين نشاز الخرافة والتناغم مع لحن الطبيعة الممتد. ضاربة الودع ليست عمياء البصيرة، ولا هى صاحبة حسم اغترابى، هى قد تكون مجرد وسيط فطرى يستوعب إيقاع الكون، وإيقاع البشر فى آن، فينصح كيف يصحح النشاز بالعودة إلى التكامل مع اللحن الكونى الأساسى الممتد.
وعى هذا الحدْس الفطرى قد يكون قادرا على أن يلتقط النغمة النشاز مثل أى أذن من التى نسميها “الأذن الموسيقية” التى تلتقط أى نغمة نشاز تتداخل فى لحن تعرفه جيدا: ربما هكذا وَصَل لفطرة ضاربة الودع كيف تتسرب الحياة من الآلة المنفردة (فخرى) حين انفصلت – لأى سبب كان – عن اللحن الأساسى، (فكان المرض) فأشارت ضاربة الودع بما أشارت به مما يمكن أن يسهل طريق التصالح بين إيقاع وإيقاع، فى لحنٍ ممتد أكبر. ربما يكون مثل هذا التصالح المحتمل قادرا على أن يساهم فى إعادة التوازن حتى التغلب على أمراض عضوية فعلا وليس فقط أمراض نفسية وظيفية، إن ذلك لا يعنى أن يكون هذا الحل بديلا عن الطب المعاصر، وإنما هو يشير إلى بعد آخر لما يسمى “الصحة”.
قلنا فى المقدمة، نحن لا نستطيع أن ننكر حدس المبدع لمجرد أنه يخالف معلومات جزئية فيما وصل إلينا من طب وتطبيب، إن الطب الرسمى إذ ينكر أهمية استعادة الهارمونى بين مستويات التوازن الداخلى المتصل بالتوازن الخارجى، إنما يفّوت على نفسه فرصا ليست هينة مهما بدت غامضة له فى الوقت الحالى. المفروض أن الطبيب الحقيقى هو وسيط حقيقى لاستعادة التناغم الإيقاعى الحيوى المنطلق = الصحة. المطلوب هو أن يستعمل الطبيب كل وسائله العلمية التى تساعد على استعادة هذا التوازن (بعد التخلص من أسبابه إن وجدت)، لكن ليس هذا هو الحادث فى عالم الطب الحديث، فالاعتماد كله أو أغلبه هو على الأدوات والفحوص والمضادات والتسكين، إن إنكار الطبيب المعاصر لدور الطبيعة فى استعادة الهارمونى هو الذى يخلـّق ما يسمى “الطب البديل” بخيره وشره، ثم إن التمادى فى هذا الإنكار هو الذى جعل الخرافة تصبح هى الغالبة والأكثر ضررا.
عودة الحياة إلى الطفل فخرى، من خلال احتمال استعادة التوازن مع بقية دوائرها، صاحبها حادث الاضطرار للتخلص من الترابيزة بعد أن انهزمت تحت سقوط السقف فوقها حتى تهشمت. كأن انهيار السقف على الترابيزة هكذا هو إعلان إمكان كسر الجمود حولها، بعد أن أصبحت لا تمثل الحياة، لقد بدا بمثابة “إعدام العدم” الذى أصبحت تمثله الترابيزة بعد أن كانت تمثل الحياة. إن تسليم الوالد بنزوحها كما انزاح الملك فاروق هو اعتراف بأن نبض الحياة لا يعود لمجرد تمسكنا برموزه القديمة، وإنما هو يتخلق من جديد إذا تصالحنا مع أنغام الحياة المتجددة الممتدة القادرة على استعادة التوازن بين دوائر الوعى و دوائر الكون.
هذا عن الخطوط العريضة:
للمرض/التسرب/ النشاز/ التوقف،
فى مقابل:
التناغم/ التوازن/التجدد/البعث،
مجرد فرض، وفى هذا إعلان أيضا عن التناقض بين التسليم النشازى المتطاير، فى مقابل استعادة مواكبة الطبيعة بيقين جديد (وليس بإيحاء مسطح)، ثم لعله تنبيه إلى موقع الطب الميكنى الحديث الذى ينبغى أن يعود ليحترم إمكانيات المريض إذ يطلب النصح، وأن ينصت إلى البدائل من واقع الحال، ويميز منها ما يعاونه، فلا يعمم الرفض ويعتبر أن كل ما ليس فى نطاق معلوماته، هو خرافة محض وفى نفس الوقت عليه ألا يقزّم دوره حتى لا تصبح عطاياه الجزئية منفصلة عن “تناغم الوعى الفردى فى الطبيعة”: أصل ما يمكن أن يسمى “صحة”.
الإيقاع الحيوى: نور على نور
حين حضرت لى رواية قنديل أم هاشم فارضة نفسها فرضا وأنا أقرأ لحس العتب لم أستطع أن أتبين معنى ذلك بدرجة جاهزة من البداية؟ تقارُب تعرفى على الروايتين ليس كافيا، كما أن ممارسة التطبيب الشعبى (بشقيه السلبى والإيجابى) ليس متوازيا بما يسمح بالمقارنة، إلا أن نظرة لاحقة جعلتنى أربط بين هذه الممارسات النقيضية فى كلا العملين، بما قد يضيف إلى الفروض المطروحة بعض الإنارة.
ليس الزيت، لكنه النور
من البداية والشيخ درديرى ينبهنا أنه “يشفى بالزيت المبارك من كانت بصيرته وضاءة بالإيمان” (ص 72)، فلا بصر مع فقد البصيرة، ومن لم يُشف فليس لهوان الزيت بل لأن أم هاشم لم يسعها بعدُ أن تشمله برضاها لفقر بصيرته، أم هاشم كما وردت فى الرواية، وفى وعى غالب فى الشعب المصرى، لها حضور حيوى نابض جزءًا من الوعى المحيط، هى ليست مجرد فكرة إيحائية، حين استنقذتْ نعيمة بأم هاشم طالبة التوبة، شك إسماعيل أنها (السيدة زينب) بادلتها القبلة تعبيرا عن قبول شفاعتها “.. ومن ذا الذى يجزم بأن أم هاشم لم تسع إلى السور وقد هيأت شفتيها من ورائه لتبادلها قبلة بقبلة” (ص80).
القنديل لم يكن أبدا “فانوسا” يضىء، مساحة محدودة بجدران فحسب، هكذا أوضح الأمر الشيخ درديرى منذ البداية (ص66) قال: “هيهات للجدران أن تحجب نوره”، ثم يمضى الوصف بحيث لا يدع مجالا للشك أنه ليس قنديلا: …وانتبه (إسماعيل) لوصف الشيخ “.. هذا القنديل الصغير .. يكاد لا يشع له ضوء، ينبعث منه عندئذ لألاء يخطف الأبصار، إننى ساعتها لا أطيق أرفع عينى إليه” ثم يردف الشيخ درديرى وهو يشير بإصبعه إلى القنديل: وسنان كالعين المطمئنة رأتْ، وأدركتْ، واستقرتْ، يضفو ضوؤه الخافت على المقام كإشعاع وجه وسيم من أم تلقم رضيعها ثديها فينام فى أحضانها، ومضات خفقات قلبها حنانا او وقفات تسبيحها همسا. يطفو (القنديل) فوق المقام كالحارس مبتعدا تبجيلا، أما السلسلة فوهم وتعلة. كل نور يفيد اصطداما بين ظلام يجثم، وضوء يدافع، إلا هذا القنديل، فإنه يضيئ بغير صراع! لا شرق هنا ولاغرب، ما النهار هنا ولا الليل، لا أمس ولا غد”، “وانتفض إسماعيل، لا يدرى ما هذا الذى مس قلبه”! ( ص 74)
نور القنديل يحضر كائنا يـَرى، يُدرك، ويُرضع ويحنـُو من البداية (ص 17) حتى قرب النهاية (ص66) “.. ورفع إسماعيل بصره، فإذا القنديل فى مكانه يضئ كالعين المطمئنة رأتْ، وأدركتْ، واستقرتْ، خيـّل إليه أن القنديل وهو يضئ إليه ويبتسم” (ص74) (لاحظ تكرار نفس الألفاظ رأتْ، وأدركتْ، واستقرتْ!!).
هذه القصيدة تفرق بين النور الحانى، وبين الضوء المقتحم، وتجعل الواقع السلسلة التى تحمل القنديل (ص 74) هو الوهم (أما السلسلة فوهمُ وتعلّه). وحين يصل الأمر إلى الإشارة، ولو دون قصد، إلى القنديل وكأنه يستمد نوره من زيت شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية، حيث لا نهار ولا ليل، حيث السرمدية الحانية، فنحن أمام قبس يرمز إلى، إن لم يعرض، النور الذى هو على نور، وبالتالى لا يكون الزيت زيتا عاديا يقطر فى العين لمرضى البصر، وإنما هو الزيت الذى هو النور الذى يكاد يضىء ولم تمسسه نار، هو النور الذى ينير البصائر إيقاعا حيويا متسقا. الفرق بين الزيت حين يوضع كزيت، مادة لزجة لها قوام، فى عين رمضاء، وبين النور الذى يعيد النغـمة الشاردة النشاز (المرض) إلى موقعها فى اللحن الممتد من الإيقاع الحيوى الذاتى إلى الإيقاع الحيوى الكونى، هو الفرق بين زحف العمى إلى عيون فاطمة النبوية نتيجة التداوى بالزيت المادّى المتعين، وبين إبصارها نتيجة للتناغم مع إيقاع النور الممتزج بالعلم الصحيح. أما جزئيات العلم المنفصلة عن هارمونية النور الإيمانى المسئول، فهى لا تقل اغترابا عن الزيت الجسم الغريب قبحا ونشازا. هذا الفرق فى رواية حقى يكاد يكون موازيا للفرق بين لحس العتب وبين حدس ضاربة الودع وسيطا إلى استعادة التوازن مع النبض الحيوى فى رواية شلبى.
قد يكون من السهل نسبيا أن نفهم الفرق الأول بين الزيت كزيت، وبين الزيت كنور السماوات والأرض، من خلال فرض عن علاقة الصحة بالتوازن الحيوى الممتد، الأصعب هو أن نتصور أن المؤسسة المعلوماتية الطبية المغتربة عن هارمونية الوجود الأشمل، يمكن أن تكون أحيانا لها هذا الإضرار حتى العمى، ربما يفسر بعض ذلك – فرضا – هو تلك الكلمة التى أطلقها إسماعيل وهو يهوى بعصاه على القنديل (ص 194): “وأهوى بعصاه على القنديل فحطمه حتى تناثر زجاجه، وهو يصرخ: ” أنا.. .أنا …أنا . كتب المؤلف هامشا مضافا إلى الطبعة التى بين يدى” (ص104) مؤرخا سنة 1974 يعلق فيه على هذا الموقف: من النادر أن يرصد كاتب نفسه كل هذه المدة (أكثر من أسبوع) وهو يحاول أن ينتقى لفظة بذاتها لموقف بذاته، ومن النادر أن يأتى بهذا اللفظ الغاضب المنقطع “أنا..أنا” مبتدأً بلا خبر، ليفيد به (بنص هامش اعتراف الكاتب بعد ثلث قرن) أن: “…هذه هى الكلمة التى كنت أبحث عنها ، لأنها تجسد كل المعانى التى طلبتها”. ما هى تلك المعانى التى طلبها المؤلف حتى تحتويها هذه الكلمة فيفرح بها ثم يفرضها وكأنه يطالبنا أن نلتقط كل المعانى التى طلبها، فجسَّدها فى كلمة نستعملها نحن فى معنى واحد. يضيف المؤلف إلى الهامش تفسيرا (مرفوضا منى على الأقل) لذلك: مرة بحجة أنها الكلمة التى قالها نيتشه هابطا من بيته حين أصيب بالجنون، ومرة وهو ينتبه إلى أن حرف النون به نغمة الأنين. بصراحة لقد تعجبت من هذا الهامش ورفضته بقدر ما فرحت به، رفضت محتواه التفسيرى أو التبريرى، فالمبدع يكتب ما يعن له، وهو لا يحدد “كل المعانى التى طلبها”، ثم تأتى الكلمات لتحتوى ما تشاء من معان حتى لو لم تكن تحتويها قبلا، صحيح أنه بين كتابة النص وكتابة الهامش أكثر من ثلاثين سنة، لكن هذا فى ذاته يجعلنا نحترم الكلمة بقدر ما نتحفظ تجاه تبريرها. ثم إن حكاية النون والأنين هى أبعد ما تكون عن موقف الصراخ المجنون، وحتى حكاية نيتشة ليست كافية لتعلن أن مَسَّا من الجنون قد أصاب إسماعيل. إلا أننى فرحت به للتأكيد على أهمية هذا الانتقاء ولكن من وجهة نظر أخرى هى كالتالى:
لقد استقبلتُ صيحة “أنا.. أنا.. أنا..” باعتبارها إعلان انفصال الكيان الفردى عن النبض البشرى الجماعى، وعن النبض الكونى الكلى، هذا الانفصال الذى يلغى فاعلية الإيقاع الحيوى فى استعادة التوازن، فينقلب العلم الجيد والمعلومات المفيدة من آلات تشارك فى عزف لحن الإيقاع الكلى، إلى جسم غريب قد لا ينفع وقد يضر، فتكون بمثابة الزيت المنفصل عن النور، المعنى الذى جاء بعد ذلك فى إعلان إسماعيل أنه “لا علم بلا إيمان” (ص 117) ، أو أنه: ” وعاد من جديد إلى علمه وطبه يسنده الإيمان” (ص 119) هو معنى له موقعه الدال فى عمق مضمونه، لكنه إذا أخذ بظاهره يصبح تلفيقا مسطحا من كلمات متجاورة تكاد تضيف إلى الاغتراب مزيدا من الاختزال والتجزئ على الجانيين. هذا التلفيق شائع بين مسطـِّحى الدين والعلم ، وأيضا فى السياسة والإيمان (أنظر بعد). التلفيق يُفقد شقيه فاعليتهما معا، بل وفاعلية كل على حدة، أما الجدل الذى أرجح هنا إمكانية أن يجرى بين الأداة الجزئية، وبين الوجود الشمولى، فهو يخلّق مستوى جديدا من التوازن المتناغم فى تصعيد ضام. الرسالة التى تصل من الفيلم، دون الرواية، لها معنى آخر من حيث أنها تنبهنا أن القائمين عليه قد وصلتهم من العمل ما قد يصل العامة أو المتدينين المهزوزين من مثل هذه الأعمال الرائعة إذ يختزلونها إلى ما ليست هى، وكأن كل المراد من مثل هذا الإبداع هو إعلان انتصار ما يسمى علما على ما يسمى خرافة. ليكن، ولكن هذا ليس هو كل ما يقوله النص، ولا هو يستأهل أن يكون نصا إبداعيا ليوصل لنا هذه النصيحة الإرشادية البديهية . إن مثل هذا الاختزال والتسطيح جدير بأن يفرغ النص من مضمونه، بل وأن يشوه جماله.
إن ما بلغنى من تفسير الفيلم للرواية هو أن الشفاء الأخير تم بطريقة العلاج بالإيحاء، وقد رفضت أن نفسر المسألة بهذا الاختزال شبه العلمى، لكننى لما أتيحت لى فرصة مشاهدة الفيلم بعد ذلك – الفضل لابنتى “نهى يحيى حقى” تبينت إن ما جاء فى الفيلم ليس مجرد خطإ أو تسطيح ، لكنه تشويه للنص وتوظيف له فى عكس ما يمكن أن يصل منه. لكل من الفن والطب والإيمان . ثم إنى شعرت أن ثمة أمانة فى عنقى أن أحرر النص نقدا مما يمكن أن يكون قد لحقه بما اقترفه الفيلم فى حقه، هذه الأمانة ربما هى التى حملها لى المؤلف عفوا دون أن أتيقن ساعتها كيف أحملها، أو متى.
عرفت يحيى حقى وأنا فى الخامسة عشر (1948) طالبا فى الثانوى فى منزل أستاذنا وصديقه الحميم الأستاذ محمود شاكر، ثم التقيته فى اوائل الثمانينات عند أستاذنا أيضا، وإذا به يعلق على بعض ما أكتب نقدا أو رأيا، ويسألنى: ألا تستحق أعماله أن أدلى فيها بدلوى، خجلت بحق (بقدر ما فرحت طبعا) ولم أف بوعدى حتى الآن، بعد ستة عقود من لقاءاتنا الأولى وربع قرن من لقائنا الثانى أجد نفسى أشرف بأن استجيب لما حملنى من أمانة وأحاول أن أصحح ما أفسده الفن والجهل والمؤسسات المغلقة الفهم، فلتغفر لى يا سيدى تأخرى، ولأحمد الله على أنى فعلتها بما يستاهل، فلعلك سيدى تقبلنى.
يقول الفيلم شيئا ينفصل تماما عن عمق المتن، بل يشوهه، الفيلم يفسد ما دعى إليه النص من إيمان بمعنى التناغم الصحى مع الإيقاع الحيوى المتصاعد، وهو يضع محله تلفيقات وتسويات ليس بها إضافة، وحتى يتم له ذلك يضيف ويحذف ويبدل ويلفق مايشاء. مثلا : لم تجر فى النص أية عمليات لفاطمة، فى الفيلم عمليتان، وتبدو الثانية وكأنها عملية وهمية للإيحاء، وهذه جريمة فى ذاتها، يقوم بها الهواة (والمدعين) من الأطباء كأنها مشروعة،ويفرحون بنتائجها التافهة التى يمكن أن نحصل عليها بأى إيحاء أخيب. كذلك لا يوجد فى الرواية تشخيص لما ألمّ بالعين لكن الفيلم تبرع أن يحدد التشخيص على أنه “عمى هستيرى”، كما لا يوجد فى المتن إيهام وخداع باستبدال الزيت بدواء حقيقى، هذا أسلوب سطحى قد ينفع فى حالات عابرة لا تمت من قريب أو بعيد لحالة فاطمة النبوية. أضف إلى ذلك أن ما عرضه الفيلم هو تقابل بين دروشة عشوائية زائطة، وبين مجموعة أطباء رسميين تقليديين مما أدى إلى تشوية رسالة النور من القنديل، وتشويه معنى التصوف النابض بإيقاع الحياة، القادر على تغير حتى النشاز البيولوجى – لكل هذا وغيره ، لن أعرج على الفيلم فى هذا النقد، مع التنبيه ألا يحكم على النص من الفيلم وإنما من أصوله.
إذن ماذا؟ هل ثـَمّ تفسير بديل؟
إن إسماعيل لم يصبح فى النهاية متدينا أفضل، كما أنه لم ينته مشايعا للعشوائية المتفسخة (الخرافة)، وبالتالى طبيبا أبلها يتبرّك بما شاع كيفما اتفق بالرغم مما لحقه شخصيا كإنسان طيب لم يحتمل جرعة الحدْس، (أنظر بعد). إن ما بلغنى هو أن إسماعيل قد استعاد توازنه الإيمانى الإبداعى الموضوعى القادر على تدعيم وعى الطبيب، إن تفسير أسلوب هذا العلاج لا يمكن أن يطرح إلا فروضا تشير إلى احترام مستويات وعى المريض مع مستويات وعى الطبيب فى علاقتها بمستويات وعى الكون، لقد اكتشف وعى فاطمة من خلال هذا الحدس الفطرى أن معالجها – برغم أنها تحبه – فردا – حتى التقديس فالاستسلام – منفصل عن الإيقاع الجماعى. إنه جسم غريب عن الوعى الجمعى والوعى الكونى (أنا .. أنا .. أنا ..) وحين عاد مؤمنا بمعنى التناسق مع من حوله وما حوله، ناسا وطبيعة، ونورا على نور، استجاب وعى فاطمة لعودته، وشفيت بنفس الوسائل التى سبق أن فشلت.
النص الإبداعى الذى بين أيدينا يعلن أن فاعلية العلاج تتأتى بوضع كل الوسائل المفيدة: علما وإيقاعا حيويا، وإيمانا وتواصلا إنسانيا، لاستعادة التوازن الذاتى فى علاقته بالتوزان الأكمل المفتوح النهاية إلى الذى “ليس كمثله شئ”.
النص الذى يقول: ” وعاد من جديد إلى علمه وطبه يشده الإيمان..” (ص 119) لا يشير إلى أية تسوية مائعة تجمع بين لفظين لهما سمعة طيبة، لكنهما إذا ضُمّا إلى بعضهما تعسفا ضاعا فيما ليس هما. تماما مثل نفس الشعار”العلم والإيمان” حين يستعمل فى السياسة لغرض مناوراتى تسوياتى مخادع، أو حين يسَّوق فى سوق التفسير العلمى للنصوص المقدسة، كل هذا هو نوع من الاستسهال والاختزال لكل من العلم والايمان على حد سواء.
فروض متصاعدة
ليس من حق الطب والأطباء أن ينكروا – لأى سبب علمى أو شخصى أو شبه علمى أو تجارى – ما جاء فى عملٍ إبداعى ظهر نتيجة لحدس مبدع له خبرته ووعيه ورؤيته وأدواته، قد يكون من حق المؤسسة الطبية أن ترفض الممارسات الطبية الفعلية خارج نطاق قوانينها ولوائحها، وأن تسن لذلك القوانين بالحق أو بالباطل، لكن أن تـُرفض أحداثا جاءت فى عمل إبداعى جاد جيد، فهذا ليس من اختصاص المؤسسة الطبية، ولا من سلطتها.
أيضا لا يمكن أن نسائل المبدع لماذا كتب هذا الحدث هكذا، أو لماذا رجح أن هذا العلاج نجح وذاك العلاج فشل، يحدث مثل هذا أحيانا فى مقابلات صحفية أو ثقافية عابرة، بعد ظهور العمل، وهو خطأ منهجى حتى لو أجاب المبدع على أسئلة السائل إجابات مساعدة، كما قد يأتى التفسير أيضا من عالم أو طبيب حين يُسأل نفس الأسئلة فيفتى من واقع منظومة تخصصه دون الالتزام بالسياق الإبداعى واختلافات اللغة والأدوات.
إن مهمة النقد الإبداعى هى قراءة النص لتفكيك أبجديته لإعادة تشكيله عبر كل منظومات الناقد المعرفية وحدسه الإبداعى وأدواته، يضع الناقد لذلك الفروض، ويعيد تشكيل النص، انتظارا لنقد النقد وهكذا، إلى غير نهاية.
وأخيرا فإنه ليس من حق فن لاحق (السينما أو المسرح أو المسلسل) أن يسطح إبداعا غائرا بمثل ذلك التشويه الذى طرحه الفيلم بنفس الأسم.
الخلاصة: (الفرض)
إنه ينبغى علينا أن نقوم بمهمة النقد ونحن نحترم كل حرف ورد فى النص، نحترمه ونجادله ونتعلم منه، ونعيد تشكيله فى إبداع ناقد مستكشف، إن كلا من “لحس العتب” و”قنديل أم هاشم” يمكن أن يحمل دعوة لتعميق فهم الوعى والوجدان ليصبح إسهامهما فى استعادة التوازن نحو الصحة فعلا بيولوجيا إيجابيا إيمانيا يكمل عمق العلم و يسهل وظيفته. إن هذا، وليس الإيحاء السطحى، هو الذى يعيد الصحة بمعنى التوازن الإيقاعى من خلال استعمال آليات العلم بالضرورة.
الإيقاع الحيوى الكونى هو اللحن الأساسى الذى يحتاج إلى آلات تعزفه، وما الآلات البشرية إلا أدوات لعزف هذا اللحن الأعظم، تفاصيل أوتار الآلات البشرية تشمل كل شىء: من مفردات العلم إلى حدس الفطرة، إلى انتظام فحوى العبادات، كل ذلك يتكامل مع وعْـى من يستعملها من خلال إيقاعه الحيوى الخاص، وبالتالى يصبح قادراً على أن يتلاحم مع إيقاع وعى المريض الناشز، فى حضن وعى الكون المحيط الممتد بغير نهاية، فينتظم فى لحن الوجود الأكبر إلى غيبٍ يقينىّ ليس كمثله شئ.
بهذا تصبح أية آلة منفردة، سواء كانت معلومة علمية شاردة، مهما كانت صحيحة، أو زيت قنديل منفصل عن نوره، أو قاذورات من بقايا النعال على عتبة ولىّ، أو فتوى سلطوية تافهة أو منافـقة، يصبح أى من ذلك نشازا لو عزفت أية آلة منفردة وحدها لذاتها، ثم قد ينقلب النشاز المنفصل إلى نيزك ساقط، فهى الخرافة المضللة حتى القتل والكفر والشقاء أو الخدر الميت.
الأمر الذى يحتاج إلى إعادة نظر لإكمال الصورة هو ما آل إليه حال الدكتور إسماعيل (الدكتور اسماعيل) بعد شفاء فاطمة، فى نهاية الرواية، الجزء الذى تجاوزه أغلب النقاد (غالبا)، وما كان بمقدور الفيلم الذى قدم الرواية بكل تلك السطحية أن يقترب منه أصلاً. هذه النهاية تحتاج إلى قراءة نقدية خاصة، وهو ما يمثل الجزء الثالث من هذه الدراسة، الذى أسميته “نصُ إسماعيل رجب عبد الله”.
****
[1]– يحيى الرخاوى “نيازك الخرافة والإيقاع الحيوى: بين يحيى حقى وخيرى شلبى”، مجلة وجهات نظر- عدد فبراير 2005
[2] – كتبت رواية “قنديل أم هاشم” فيما بين (1939 – 1940) ونشرت لأول مرة فى سلسلة أقرأ العدد 18 سنة 1944،.. ونشرت فى مكتبة الأسرة عام 2005 وهى النسخة المشار إلى صفحاتها فى هذا العمل.
– وصدرت رواية “لحس العتب” فى طبعتها الأولى سنة 1991 ونشرت فى مكتبة الأسرة عام 2005
[3] – يحيى الرخاوى (إشكالية العلوم النفسية والنقد الأدبى)، مجلة فصول المجلد الرابع، العدد الأول، 1983
[4] – أنظر هامش رقم (2)
[5] – هى الدراسة الواردة فى هذه المجموعة: قراءة فى نص الدكتور إسماعيل رجب عبد الله (ص 63)
[6] – صدرت رواية “لحس العتب” فى طبعتها الأولى سنة 1991 ونشرت فى مكتبة الأسرة عام 2005 وهى النسخة المشار إلى صفحاتها فى هذا العمل.
لحس العتب وقنديل أم هاشم بين خيرى شلبى ويحيى حقى الجزء الثانى: نبض المكان فى الوعى البشرى
لحس العتب وقنديل أم هاشم بين خيرى شلبى ويحيى حقى الجزء الثانى: نبض المكان فى الوعى البشرى
مقدمة
صدرت الطبعة الأولى لرواية “لحس العتب”([1]) سنة 1991. يقول عنها مؤلفها: “إنها لم تقرأ جيدا”، وهو يقر، على وفرة إبداعه وتميزه، أنها “هى الرواية الأحب إليه”، وها نحن نحاول يا عم خيرى، أن نقرأها معا لنرى لم هى “الأحب” إليك، فربما هى ليست كذلك عندنا، فنحن نحب أغلب رواياتك دون تفضيل غالبا.
خيرى شلبى من أبدع من كتب عن الريف المصرى. استطاع أن يُحضر القارئ معه فى هذا العمل داخل المندرة والخزنة، وحتى تحت الترابيزة، سواء فى حركة مواكبة، أو من خلال دعوة مباشرة مثل وصفه لداخل المكان وكأنها دعوة للقارئ أن “اتفضل” مثلما يدعو الفلاح الجالس على باب داره المارة للدخول: “…ويجد كرسيا عباسيا بصينية نحاسية تضع فوقها صينية الشاى الذى سيجىء له بعد دخوله بدقائق”.
امتداد الداخل للخارج وبالعكس:
فى لقطة عابرة لم تَغُصْ بدرجة كافية فى حضن الطبيعة وأنغامها (الذى اعتبرناه أنه قسم العناية المركزة الكونية لشفاء الطفل الراوى “فخرى” فيما بعد). استطاع الكاتب أن ينقلنا من الداخل للخارج وبالعكس: نستمع له (ص9)
“..فإذا انفتح النصف العلوى من الشباك، …. حينئذ يندهن شكل الضحى بلون السماء الصافية، (ثم الحركة) وما أسرع ما تفوت الشمس غارقة فى خجل الحياء تاركة فوق الحائط المواجه بقعة من دمائها كالكرة الحمراء، تظل تضيق وتضيق إلى أن تمحوها ظلال المغيب، هذه الظلال التى ظلت تسكن المندرة منذ سنوات طويلة، منذ أن كفت مندرتنا عن استقبال الضيوف المهمين ..إلخ”.
خيل إلىّ أنه حين أطلّت الطبيعة بكل هذا الصفاء، إنما حضرت للتعزية فى إفلاس الحياة بإعلان المرض والعجز والجمود. (ص 9)، “بات منظرنا مألوفا كأنه جزء من الكنبة” (ص15) “…. ثمّ جلستنا القرفصاء، معا لا نفعل شيئا ولا نتكلم ولا نبتسم ولا نبكى كأننا فى انتظار حكم سيصدر علينا”، “وصار ضيوف أبى يسمونا المتهمين”(ص 14)،
بدت الرواية كأنها مسرحية ذات فصل واحد، برغم سفرة فخرى للعلاج، حيث بدا هذا السفر كحدث مكمل فى خلفية نفس الفصل من المسرحية التى دارت أحداثها بين المندرة والخزنة، فوق وتحت وحول الترابيزة طول الوقت، كانت المناظرالخارجية أقرب إلى الحكى منها إلى التصوير الخارجى مثل وصف منظر الشيخ كعبلها الكفيف وهو “يمشى بجنبه جنب الحائط، .. يعرف جيدا وبحكنة – متى يحود فيحود..”(ص 28).
يكتمل حضور المكان بما يجرى فيه ، وحوله. لو تصورنا جلسة ضيوف عبد الودود أفندى والد فخرى فى أى مكان آخر غير المندرة بعيدا عن الترابيزة، لوصلتنا رسائل أخرى. صوّر شلبى مجالس السياسة فى الريف المصرى القديم بحيوية يفتقدها الجميع الآن، وحين عيّن الجلوس والد الراوى “عبد الودود أفندى” رئيسا للوزراء ولم يفعل سوى أن هتف لوزارته باسم عائلته “تحيا الوزارة الزعلوكية” لم يرد أحد هتافه، فأقسم بالطلاق أنهم يكرهونه (بما فى ذلك من دلالات) وانتهى الموقف تقريبا بقول محمود جميل “قدر يا أخى أننا لقيناك ما تصلحشى للوزارة هنسيبك ولا نرفدك”؟ كان للكفيفين الشيخ محمد بقوش (كعبلها) والشيخ زيدان زيدان (حامل عالمية الأزهر) دورهما المألوف فى مثل تلك الأيام، بما فى ذلك أن يسحب الأول الاخير يرشده للطريق، كذلك قدم خيرى خفة ظل الفلاحين الساخرة غالبا، جنبا إلى جنب مع قوت يومهم من الحقد الطبيعى، والشماتة الصعب (الطرابيزة مطمع الجميع). كذلك رسم شلبى الاهتمام السياسى الريفى البسيط، الذى يتجاوز الشأن المحلى إلى السياسية الخارجية (الحديث عن الحاج هتلر) كل ذلك كان من ملامح الريف المصرى فى ذلك الزمان .
من فرط دقة الوصف، حضرنى المكان بروائحه ودرجات إضاءته، وملمسه وريحه جميعا: وصلنى شعور حسى بالظلام أحيانا، وبرائحة الرطوبة أحيانا، كما سمعت فحيح الوحدة، وغثيان العشوائية المتناثرة عفنا، خاصة وأنا أبحث معهم تحت الترابيزة عما تدحرج منّى وأنا أقرأ.
هذا الجزء من الدراسة يتناول المكان كما جاء فى لحس العتب، مقابلة بالمكان فى قنديل أم هاشم، حضورا فى، وجدلا مع : الوعى البشرى الفردى والجمعى.
الترابيزة:
أتيحت لى فرصة عابرة لمشاهدة فيلم قصير من إستونيا باسم “المنضدة” عرض فى مهرجان الاسماعيلية التاسع (2005) من إخراج “جلينا جرلين” و”مارى ليس” و”أورماس جويميس”، حاولت أن أجد أية إشارة مباشرة لما هو منضدة، أو مائدة (أو ترابيزة) ففشلت، وتصورت أن القائمين عليه تعمدوا ذلك ليتيحوا للمشاهد والناقد فرص أن يرى ما يرى، ربما مثلما فعلت ناقدة حاذقة (أمل زكى) حين اعتبرت أن المائدة فى الفيلم “…. هى المكان و الزمان والرمز والأسطورة، هى أستونيا، هى مخاض الولادة ومقبرة الموت وباعثة الحياة،……..، هي تلك الأرض القوية الصلبة التي يقف عليها المدافعون عنها يطالبون بالغناء سوياُ و الصمت سوياً والتنفس سوياً والفناء سويا….إلخ”، شعرت أن روايتنا هذه لخيرى شلبى هى أوْلى بهذا الاسم “الترابيزة” (وليس المائدة أو المنضدة)، ليس فقط لأنها تبدأ بها وتنتهى بها، ولكن لأن وجودها المحورى بدا لى أنه هو ما يميز هذه الرواية أكثر من ظاهرة التطبيب الشعبى سلبا وإيجابا، حيث يمثل “لحس” العتب الجانب السلبى من ذلك.
تبدأ رواية “لحس العتب” حول ترابيزة فى وسط المندرة، وتنتهى وقد نزعت الترابيزة من الدار نزعا بعد أن انهار عليها جدار الممر الذى سحبت إليه قسرا فى فترة من تاريخ حياتها، تدور جميع الأحداث تقريبا حول هذه الترابيزة، أو فوقها، أو بجوارها أو تحتها أو بالقرب منها، أو حتى بعيدا عنها. حتى حين سافر “فخرى” إلى البندر للعلاج، تصورت أن هذه الترابيزة ظلت تمثل خلفية متنقلة وراءه خشية أن يتغير (ولو إلى الشفاء) بعيدا عنها، وسرعان ما استعادته (الترابيزة).
بدأت الرواية هكذا: “ليست هذه الترابيزة العجيبة هى كل ما تبقى…” (ص 5). كما كانت أخر كلمات الرواية عن الترابيزة حين قال الوالد: “….. وحين كانت الذكريات تجرهم إلى الحديث عن الترابيزة الشهيرة كان أبى يبتسم قائلا: “الملك فارق نفسه انزاح عن عرشه! سبحان من له الدوام”(ص 66). انتهت الرواية إذن بنزول هذه الملكة، الترابيزة، عن عرشها: الناس والذاكرة.
التمحور حول مركزٍ ما
لكل منا محور أساسى يدوّر حوله حياته. يجرى ذلك فى مستوى ما من الوعى، حتى لو لم ندركه. يتجلى أثر ذلك فى الشعور، أو يظل كامنا فى مستوى ما من الوعى طول العمر، أحيانا يكون لهذا المحور اسم نظرية أو أيديولوجى: بلغة سيلفانوا أريتى يمكن أن يكون “الفكرة المركزية”. وبلغة الأساطير: الأيقونة ذات السحر الغامض، أو الأسطورة الذاتية، وبلغة الإسلام الحقيقى: أنه “لا إله إلا الله”، وهكذا. إلا أنه لا يتحتم دائما أن يعرف أى منا تحديدا حول أى محور يدور. ولا هذا ممكن معظم الوقت. ثم إن أى محور هو ليس ثابتا بالضرورة. هو قابل للتغير والتعديل مع كل ولادة جديدة على مسار النمو. كذلك فإن أى واحد منا عادة ما يُسْقط (و/أو يزيح) موضوع تمحوره خارجه على رمز أو حدث، بوعى أو بغير وعى.
وصلنى أن فخرى، فى مسح العتب، قد تمحور حول تلك الترابيزة مثلما فعل أبوه وأسرته، كل بطريقته، وأيضا: بما تعنيه مختلفا عند كل منهم. فخرى زحف على سطحها طفلا، ودار حول أثرها صبيا، وبحث تحتها تلميذا مستكشفا، وحادث أشلاءها وأشياءها أخيرا، لكنه فى النهاية قفز بعيدا عنها و كأنه وُلد من رحمها بالرغم منها حين انطلق إلى الخارج (الشارع/الطبيعة) بعد أن شفى بتناغم وعيه مع وعى حقيقى آخر فى رحاب الوعى الإيقاع الحيوى الطليق.
حضور المكان فى الوعى
لست متأكدا إن كنا نعرف حقيقة معنى: “استحالة وجودنا إلا فى مكان ما”؟، إن أى شىء حى، أو غير حى، لا يوجد منفصلا عن المكان الذى يعيشه أولاً بأول، لكن الإنسان يتميز، بالإضافة، بقدرته على الوعى بالمكان، بدرجات مختلفة. من ضمن خداعنا لأنفسنا رحنا نتصور أننا نعرف ما هو المكان، وأننا نعايش علاقتنا به بوضوح أكثر من الزمن، وبالتالى حاولنا أن نفهم إشكالة الزمن من منطلق المكان، تصورنا أننا كما يمكننا أن نتجول فى المكان ذهابا وجيئة، شرقا وغربا، يمكننا أن نتجول فى الزمن بنفس الطريقة، وبهذا نكسر سجن الزمن التتبعى، الذى لكى ندركه، علينا أن ننفصل عنه لنتبعه أو نقيس خطواتنا به. المكان ليس بهذه البساطة التى تصورناها لنفهم الزمن من خلاله. المكان ليس مساحة للتجوال ولا هو تعيين للزمن. المكان والوعى به وبما فيه هو الذى يُمَوْضغ العلاقات بيننا وبعضنا، وبين الأشياء وبعضها، وبيننا وبين الأشياء. العلاقة بالموضوع، هى “علاقة بالآخر فى مكانه”، العلاقة بالموضوع تشمل: العلاقة بالأشياء فى حضورها وغيابها وتغيّرها فى أمكنتها، فى جدلها المتجدد بوعى يتشكل، فى حركية كل ذلك، فى إيقاع حيوى نامٍ ينطلق من كل ذلك إلى الممكن المجهول: إذ يتشكل باستمرار مع حركية الجدل المتصاعد عبر دورات الإيقاع الحيوى.
إن تغير المسافة باستمرار فيما بيننا وبين الموضوع هو أمر جوهرى بالنسبة للوعى بالمكان. يختلف الوعى بالمكان بحسب درجة إدراك العلاقات، أو إدراك الحركية، وكيفية تغير المسافات.
حين حضرنى المكان هكذا، بالإضافة إلى حضور تشكيلات التطبيب الشعبى، الإيجابية والسلبية، تصورت أن قراءة ثنائية مع قنديل أم هاشم قد تكشف الاثنين أجمل وأبدع. فى رواية “لحس العتب” كان وصف المكان من خلال العلاقات السلوكية والرمزية والموضوعاتية هو الحاضر غالبا، فى حين أنه فى قنديل أم هاشم كان التناول يتم من خلال امتدادات المكان والناس فى الوعى، وبالعكس، طول الوقت، فضلا عن الامتداد فى غيب “المابعد”
المكان عند كل من شلبى وحقى فى هذين العملين كان حاضرا طول الوقت بكل التفاصيل، سواء ضاق عند شلبى حتى كاد ينزوى تحت الترابيزة، أو حولها، أو اتسع عند حقى حتى تخطى مقام السيدة وميدانها إلى المطلق المتناهى.
فى مرحلة سابقة كنت أشبّه الوعى بالوساد اللازم لكى تنزرع فيه سائر الوظائف النفسية الأخرى، وكأنه الأرضية الضرورية لأشكال حادثة، ثم تبينت أن هذا التمثيل به من التعسف والاختزال ما يخل بتقديم الوعى الإنسانى بحضوره الجوهرى فى كل الحياة العقلية والنفسية، فى كل الوجود. الوعى عندى الآن هو عمق أى سلوك يتبدى لنا، هو البعد المشتمل لما يصلنا ظاهرا، وهو متعدد بعدد الظواهر، أو حتى بعدد جزيئات الظواهر، بقدر ما هو مشتمل لها جميعا على مستويات مختلفة، من هنا لم يعد يصلح أن نختزل الوعى إلى ما يشبه “السطح الجاهز”، كما يوحى لفظ “الوساد” أو “الأرضية”، الوعى البشرى هو الأقدر على أن يكون المقابل الحيوى داخلنا للمكان الخارجى. العلاقة بين حركية الوعى كمكان حيوى داخلى، وحركية المكان كحضور موضوعى خارجى، هى علاقة جدلية مستمرة.
نتابع حضور الترابيزة فى الوعى بما حولها من مندرة وما جاورها من خزنة، وما ملأها من حركة ناس وأزمنة، يحتلون هذا الحيز من الأرض، يدخلون ويخرجون على فترات، لكن يبقى المكان هو الأصل، هو الحى الباقى. والترابيزة فى مركزه.
يقع هذا المكان فى دار متآكلة فى قرية من قرى بندر دسوق، لكنه يقع أكثر فى “الذاكرة الوعى”، وليست الذاكرة شريط التسجيل “..هناك هناك فى أبعد ركن من ذاكرتى أرانى طفلا فى حوالى الثالثة من العمر أرتع زحفا على سطح هذه الترابيزة رائحا غاديا” (ص 9) الذاكرة هنا مكان يُزار، لا معلومة تُستعاد، والترابيزة هى مجال محيط، وليست أداة تُستعمل. حجم الترابيزة (أكثر من مترين فى متر ونصف)، وموقعها (ترابيزة الوسط) يدلان على أنها مجال محورى أكثر منها شيئا للاستعمال. المتابع لزحف الأحياء والأشياء (وقد صيّرها الراوى أحياء) فوق وتحت الترابيزة وحولها، لا بد أن يشعر أنها أصبحت وكأنها الأرض الكروية، وأحيانا المجموعة الشمسية. أرجل الترابيزة النحاسية تقول أيضا إنها كائن حى “… شغل يدوى، بأرجل مخروطية عليها نقوش وانبعاجات وتكورات تنتهى فوق الأرض بأقدام على شكل حوافر من النحاس إن تأملتها قليلا تبينت أنها على شكل سباع كثيفة الشعر غليظة الظافر…” (ص 8). ها هى الترابيزة تعلن عن رسوخها من جهة، وأصل قوتها وتوحشها وسيطرتها من جهة أخرى، فإذا أضفنا إلى ذلك كيف كان الناس والأطفال خاصة يحسبون أن هذه الأرجل النحاسية هى من الذهب، شعرنا كم كانت هذه الترابيزة “قيمة ” فى ذاتها من أكثر من ناحية.
قيمة الترابيزة المعلنة كانت فى اتجاه آخر: إنها دليل على العز والأصل، وبالتالى لا يمكن الاستغناء عنها مهما كان الثمن، بدا التنازل عنها لأى سبب وبأى مقابل بمثابة تسليم لواقع مرفوض، يتمنى المصاب به، رب الدار (وأهل الدار)، أن يكون واقعا مؤقتا، وإن كان الأب يعرف من داخل داخله، ومن همس وتصريح مَنْ حوله، أن ذلك محال، وأن ما آل إليه الحال من حاجة وحرمان هو واقع دائم راسخ لا حل له، لكن ظلت الترابيزة تمثل قيمة أهم فى موقعها المحورى الذى تدور حوله الحياة وتتشكل، دون أن تنفصل عنه.
المكان “يمتد” فى قنديل أم هاشم
فى المقابل: تتمحور أحداث رواية قنديل أم هاشم حول مكان محورى أيضا له حضوره ودلالاته، هو مقام السيدة زينب، بما حوله وما يدور بهم ويدوّرونه، الميدان والناس كتلة واحدة. المكان، هنا، بما فيه من ناس وأحوال، هو جاهز للمقابلة بالغرب بكل ما يعنيه ذلك “..هل فى أوربا كلها ميدان كالسيدة زينب؟ “. ثم يلحق الراوى أو الكاتب فورا نقدا لمبانيهم (أماكنهم) وكأنها إعلان طرائقهم فى الوجود والعلاقات “…قتالهم، ولطعنهم بعضهم البعض من الخلف”، ثم هو يحدد “أين” يقع تعاطفهم وتحابهم من ذلك “….. مكان الشفقة والمحبة عندهم بعد العمل وإنهاء النهار يروّحون بها عن أنفسهم كما يروحون عنها بالسنيما والتياترو” (ص 113). الراوى أو إسماعيل أوالكاتب سرعان ما يستدرك (مثلما فعل كثيرا طول الرواية قائلاً): “.. ولكن . لا. لا…. من يستطيع أن ينكر حضارة أوربا وتقدمها وذل الشرق وجهله ومرضه”.
حين حضر ميدان السيدة فالمسجد فالمقام فالقنديل فى الرواية حضروا معا فى كتلة واحدة ، لا تستطيع أن تميز مفرداتها من ناس وأشياء بعيدا عن بعضهم البعض، لكن لم يظهر ما يقابل هذا التلاحم فى خبرة إسماعيل حين سافر (بما فى ذلك علاقته بمارى، حتى حين منحته نفسها برغم انفصالهما، كتحية للوداع) ولا حين ترك بيت الأسرة ليسكن فى بنسيون مدام إفتاليا. لن أتمادى فى هذا الجزء من الأطروحة بعرض مزيد من المقارنة بينهم وبيننا، لأن ذلك البعد قد استهلك نقدا فى هذه الرواية مثلها مثل أعمال أخرى للطيب صالح وطه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهم، الذى يعنينى هنا الآن هو تجليات حضور المكان فى الواقع والوعى وبالعكس.
حضر “المكان” عند يحيى حقى فى القنديل بشكل دال مع وصول اسماعيل إلى مصر، حضر بكل امتداداته من صياد كهل يركب البحر إلى أرض مصر الممتدة، مرورا بالمكان المتحرك الحى (الباخرة) متجها إلى الحضور الدوائرى فى الميدان إلى المقام، حتى القنديل يتدلى فوقه.
تعامل حقى فى الرواية مع المكان ككائن حى معظم الوقت، نقرأ هذا التعبير المباشر (ص85): “… ورن جرسٌ إيذانا “بموت” الباخرة، فأصبحت جثتها فريسة لجيش من النمل البشرى يهاجمها..إلخ”، هذا التعبير يصور كيف أن الباخرة (كمكان متحرك أو قابل للحركة المجسدة) تظل حية طالما هى تموج بمن عليها يتوجهون حيث تتوجه، لكنها تموت بمجرد أن ينتشر الجميع فوقها كأنها جماد ساكن لا قدرة له على الحركة من جديد، يمكن أن نقيس موت السفينة هكذا باحتمال موت ميدان السيدة أيضا حين يصبح فريسة لجيوش النمل الدائرة حوله فى المحل وكأنها تتحرك فى تداخل متكتف حتى السكون (ص 79): “فى الميدان حركة النمل تتعارض تتحاذى وتضرب فى كل اتجاه .. قادته قدماه إلى المقام فوجده ساكنا على غير عادته”. هذا السكون الغالب الذى يجمّد المكان بالناس، ويجمّد الناس فى المكان، كان من دواعى محاولات إسماعيل المتذبذبة المتراجعة طول الوقت للتخلص من حبه لمصر الذى كان يتناسب عكسيا مع ضجره من المصريين “وكلما قوى حبه لمصر، زاد ضجره من المصريين .. “.. ترى هل ينكص الآن عن لمس هذه الكتلة البشرية”. حين يلتحم الناس ببعض هكذا حتى الشلل، يموت المكان فيهم وبهم.
فى موقف موت السفينة السالف الذكر يقول الراوى منطلقا الناحية الأخرى: “أول من لقيه من وطنه مخلوقٌ الكون كله وطنه، طائر أبيض منفرد يحوم حول السفينة، طليق متعال نظيف وحيد. (ص84) لكنه يضيف بعدا آخر (فى نفس الموقف) حين يرصد صيادا كهلا فى قاربه المتحرك فى البحر ، فتتجسد فيه – أيضا- هكذا “مصر (ص85) “…وقعت نظرة إسماعيل على سيدة مصرية وقفت بجواره، فرآها مطلة على الصياد مغرورقة عيناها بالدموع وسمعها تتمتم: مصر! مصر”.
حين تكون السفينة مكاناً قابلا للموت والإحياء، ويكون وطن الطائر هو الكون كله، وتتجسد مصر فى صياد كهل فى قاربه الصغير فى البحر، نصبح أمام رؤية للمكان تتجاوز الوطن والأرض والميدان والمقام والقنديل، وفى نفس الوقت نجد أن للمكان فى القنديل حضوراً شديد التحديد واضح المعالم ثابت الأركان مهما امتد إلى غايته وما بعده، خذ مثلا مصر المكان الأرض وهو يخاطبها قبل فقرة الكهل الصياد، وبعد فقرة الطائر المنفرد بالكون وطنا، يقول: “….أنت يا مصر واحة ممدودة إلى البحر لا تفخر إلا بانبساطها، ليس أمامك حواجز من شعاب خائنة، ولا جبال تصد، أنت دار كل ما فيها يوحى بالأمان” (ص 84/85). مصر أيضا هى المكان الذى يضم حبات البشر ليتماسكوا فى سلسلة ممتدة إلى التواصل المفتوح النهاية “……كان إسماعيل لا يشعر بمصر إلا شعورا مبهما، هو كذرة الرمل اندمجت فى الرمال واندست بينها، فلا تمييز لها، ولو أنها منفصلة عن كل ذرة أخرى، أما الآن فهو قد بدأ يشعر بنفسه كحلقة فى سلسلة طويلة تشده وتربطه ربطا إلى وطنه “كان هذا بعد أن أفاق من حبه لمارى فى الخارج” ص (91)، لكن كل ذلك الحب لم يمنعه حين يتذبذب إلى الناحية الأخرى من إعلان موقفه الرافض لكل ما هو مصرى يمثل السلبية والذل والخنوع والتجمد والجبن والضياع.
ليس فى المسألة تناقض يزعج، هى رؤى متعددة الأحوال من زوايا مختلفة بحق، حضر “المكان” فى قنديل أم هاشم محدد المعالم بكل حيويته وحركيته وكأنه البطل فعلا، وفى نفس الوقت اتسع إلى ما لا حدود له. مصر– بهذا الاتساع المكانى الممتد– كانت الرؤية هى رؤية المكان الواعد، لكنها كما سنرى لم تكن نهاية المكان، بل رحابة الأمان الممتد إلى ما بعده.
أمام هذه الخلفية نتبين كيف يأتى حى السيدة الذى يتوسطه ميدان السيدة الذى يتوسطه بدوره مسجد السيدة، الذى يتوسطه بالتالى مقام السيدة، الذى يعلوه القنديل. هذا الترتيب بهذه الدوائرية المتمركزة الممتدة فى إيقاع النبض الحيوى البشرى هى “المكان” الذى دارت فيه وحوله أحداث قنديل ام هاشم، حتى حين كان بطلها فى أوربا.
تعالوا نقارن هذا “المكان” المتحرك المفتوح فى القنديل، بالمسرح المغلق الدائر فى محلّه فى لحس العتب: فى حين اختنق المكان عند شلبى واقتصر على الدار والمندرة والمخزن حول الترابيزة وتحتها وقليل فوقها حتى كاد يصيب هذا الاختناق قرص الشمس حين أطلت من النافذة، نجد أن المكان قد امتد بإسماعيل حول مقام السيدة ليشمل الميدان كله بجمّاع ناسه و تاريخه (الخاص بالراوى على الأقل)، ثم هو لم يتوقف عند حدود المقام، فامتد إلى الميدان بكل زخمه وحيويته ونداءات البيع والشراء والحركة والحب والشجار، ثم امتد أكثر عبر إشعاعات القنديل إلى النور غير المحدود. لم يتحرك المكان فى لحس العتب إلا بعد حدْس التطبيب الشعبى الداعى لتواكب الإيقاع الحيوى البشرى مع دورات الليل والنهار والأذان، وتنبيت الحياة تخمّرا تحت قطر الندى، الأمر الذى صحح النغمة الناشز (مرض فخرى) حتى عاد إلى رحابة الدنيا وحركيتها الطليقة : إلى الشارع يلعب وكأنه قد تم الافراج عنه من سجنٍ مؤبد، سجن قضبانه من المرض، والإعاقة، والخزنة الزنزانة، والفاقة الحرمان، يحدث ذلك الانطلاق بعد رحيل الترابيزة بانتهاء عمرها الافتراضى، ليحل محلها محور إيقاعى حركى جديد لم نتبين ملامحه تحديدا.
المكان فى القنديل له حضوره الحركى القادر على التلقائية والاختيار: “إذا أقبل المساء وزالت حدة الشمس وانقلبت الخطوط والانعكاسات إلى انحناءات وأوهام، أفاق الميدان إلى نفسه وتخلص من الزوار والغرباء” (ص66). المكان الميدان كائن حى مستقل (تذكر موت الباخرة) وهو يتخلص من الزوار والغرباء لا لينغلق على نفسه ولكن ليسبح فى النور، لأنك “….إذا أصخت السمع وكنت نقى الضمير فطنت إلى تنفس خفى عميق يجوب الميدان” (ص 66).
قنديل أم هاشم كان معلقا فى مكان ما، لكن ذلك لم يكن إلا تمويها لأنه حضر فى الرواية ومنذ البداية باعتباره مكانا متجاوزا باستمرار إلى نور المطلق. ترابيزة لحس العتب فى قرية بندر دكرنس ظلت ثابته فى مكان عيانى محدد، حتى وقع عليها السقف فتهشمت.
النهاية فى لحس العتب كادت تربط رحيل الترابيزة بانفتاح الطفل المريض على الطبيعة مستعيدا نبض إيقاعه الحيوى فى انطلاقه إلى الشارع لاستئناف حركية النمو صحة وجريا ولعبا ومشاركة، بعيدا عن المندرة متخلصا من دوائر الآثار المنغلقة فى الترابيزة وحولها على ذواتها، حيث لم تعد تصلح إلا للوقوف على أطلالها.
النهاية فى القنديل كانت مختلفة، هى لم تنفصل عن الميدان وما يحوى وما يمتد إليه من حيث المبدأ، ولا هى ابتعدت عن الناس، لكن ما وصلنى أنها تحددت فى تلك العيادة الشعبية التى توحدت مع المآل غير المتوقع ولا المتناسب مع تاريخ الدكتور إسماعيل رجب عبد الله، مما سنعود إليه فى القراءة التالية.
[1]– يحيى الرخاوى “نبض المكان فى الوعى البشرى: بين “لحس العتب” و”قنديل أم هاشم”، مجلة وجهات نظر- عدد مارس 2006
قنديل أم هاشم وتحديات الإبداع قراءة فى نص الدكتور إسماعيل رجب عبد الله
قنديل أم هاشم وتحديات الإبداع قراءة فى نص الدكتور إسماعيل رجب عبد الله
منذ شخصتُ عمر الحمزاوى فى نقدى لشحاذ نجيب محفوظ على أنه حالة اكتئاب صريح فى الأهرام اليومى ( أوائل سنة 1970)([1]) ثم اعتذرت عن ذلك ونقدت نقدى فيما بعد (قراءات فى نجيب محفوظ)([2]) وأنا أتجنب مثل هذه الورطة التى تكاد تفسد كلا من الطب النفسى والنقد الأدبى بضربة واحدة، كتبت بعد ذلك فى فصول (1983)([3]) عن النقد الأدبى والعلوم النفسية أنبه إلى خطأ وخطورة هذا المنحى الشائع الذى يسطح النص الأدبى، ولا يضيف إلى التحليل النفسى والطب النفسى إلا غرور الوصاية وأوهام التصنيف، لكننى وبرغم ذلك وقفت طويلا أمام أحوال الدكتور إسماعيل هذا أسائل نفسى أين أضعه، لا بصفته يستحق تشخيصا له اسم طبى، خاصة وهو لم يظهر كـ”مريض” أصلا فى أى موقف ولكن باعتباره تركيبا بشريا له حضور، وحدس، ووعى، وتقلبات، ومرض، وصحة، وإيمان، وشطح.
كنت قد اكتشفت مؤخرا فى ممارستى المهنية (ليس مؤخرا جدا) أننى أقرأ مرضاى ناقدا تجنبا لسجنهم فى قوالب ثابتة تسمى تشخيصا، اعتبرت مريضى (ونفسى) من خلال ذلك “نصا بشريا” يحتاج لنقد بناء بديلا عن لافتات الوشم التى نلصقها به تبعا للتصنيف المعتمد!!. إسماعيل رجب عبد الله هو نص بشرى نحاول قراءته معا من هذا المنطلق.
(1) نشأ إسماعيل فى ظل إحاطة الأسرة له بعواطفها وآمالها وطموحاتها حتى كادت تؤلهه. كان بالنسبة لها مشروعا استثماريا، وحراكا طبقيا معا، جعلوه مبرر وجودهم ودليل قدراتهم “….إذا أوى إلى فراشه فعندئذ، وعندئذ وحسب، تشعر الأسرة أن يومها قد انقضى، ..كل حياتها وحركاتها وقف على توفير راحته، جيل يفنى نفسه لينشأ فرد واحد من ذريته” (ص62) إلى أن قال الراوى (ابن أخيه) “تعلق هذه الأسرة بولدها تعلق مسلوب الحرية والإرادة!” (ص 63)
(2) كانت النتيجة أنه منذ الطفولة حـُرِم هذا الطفل من حركية النمو الطبيعية، فتحوصل على ذاته من حيث المبدأ، برغم ظاهر الكبران والتركيز التحصيلى والتفوق الدراسى(!) وبرغم زخم النبض الشعبى من حوله، و برغم فرص الإبداع الحضارى بعد سفره
(3) وصلته حركة الناس فى الميدان، ونور النور فوق المقام دون أن يفك تجمده حول ذاته، وقف من هذا وذاك إما متفرجا، وإما مذهولا، وإما ملتحما بالكتلة البشرية حتى التلاشى فيها دون حراك فردى.
الوصف الذى توقفت عنده طويلا، وشككنى فى سلامة نشأته، هو ما جاء قرب البداية فى صف علاقته بالناس والميدان (ص 69) هكذا:
- “… لا يفاجئه نداء بائع، ولا ينبهه عليه مكانه، تلفه الجموع فيلتف معها كقطرة المطر يلقمها المحيط، صور متكررة متشابهة اعتادها فلا تجد فى روحه أقل مجاوبة، لا يتطلع ولا يمل، لا يعرف الرضا ولا الغضب، إنه ليس منفصلا عن الجمع حتى تتبينه عينه”.
- “من يقول له إن كل ما سمعه ولا يفطن له من الأصوات، وكل ما تقع عليه عينه ولا يراه من أشباح لها كلها مقدرة عجيبة على التسلل إلى القلب والنفوذ إليه خفية والاستقرار فيه والرسوب فى أعماقه، فتصبح فى كل يوم قوامه”
- “أما الآن، فلا تمتاز نظرته بأية حياة، نظرة سليمة، كل عملها أن تبصر”
من الصعب أن نعتبر هذه المشاعر طبيعية، أو إيجابية ، لقد شككت فيها حتى حسبت أن ثم خطأ مطبعيا، فرجعت إلى طبعة أخرى([4])
إن وصف مشاعر شاب فى مقتبل حياته، أحاطته الأسرة بكل هذا التركيز حتى التأليه، بأنه لا يتجاوب مع ناسه “…لا يتطلع ولا يمل، لا يعرف الرضا ولا الغضب” هو وصف منذر باستعدادٍ ما، لاضطراب ما، ولا يكفى تبرير ذلك بأنه “…. إنه ليس منفصلا عن الجمع حتى تتبينه عينه”. إن هذا قد يعتبر، بعد تتبع الحالة- نوعا من التبلد و”إلغاء الذات فى المجموع”. أن يصبح الواحد جزءا ذائبا فى المجموع قد يبدو أحيانا صفة حميدة من قبيل التماهى مع الناس، لكن الأمر ليس كذلك، إنه حين تختفى المسافة بين الفرد والآخرين (الموضوع) تختفى فرصة حركية الجدل اللازمة للنمو، وبالتالى تقل أو تتوه أو تنعدم فرص “العلاقة بالموضوع”. هذا ما قد يفسر الجملة الأخيرة التى تفيد أن: عينيه أصبحت تبصر ولا ترى، وهى جملة لها نفس الدلالة أيضا من حيث أنها تعلن نوعا من التبلد الوجدانى رغم وصفها بالسلامة . إن الراوى (الكاتب) بذلك يتهم السلامة بالفتور، حيث أنها “لا تمتاز نظرته بأى حياة”، وهذا وارد فى حدود خطأ ترادف “السلامة” مع “العادية” أو “فرط العادية”، فلو جاز أن نقرأ هذه الجملة بعكسها، لتصورنا أن الكاتب يوحى لنا بأن النظرة المريضة هى التى تبصر فترى، وهنا يصبح لبعض الأمراض جانبا إيجابيا وهو ما يندرج تحت فرط حدة الوعى وشحذ البصيرة، حتى لو كان ذلك بسبب المرض (فى البداية عادة). المراد هنا هو إيضاح أن احتمال مرض إسماعيل ليس قدحا على طول الخط، وإنما هو تمهيد لتفسير الذى حدث بعد ذلك، بما فيه الجانب الإيجابى منه.
(4) جاءت فرصة المراهقة كأزمة نمو جيدة، لكن يبدو أنها لم تتم فى الاتجاه الصحيح فأعلنت صعوبة النقلة لإعادة الولادة: “.. فهو فريسة ممزقة بين قوى دافعة وأخرى جاذبة، يهرب من الناس، ويكاد يجن لوحدته …” (ص 71)”
(5) أعلن مرض إسماعيل الصريح بعد سفره للخارج، (ص 88): “..فمرض، وانقطع عن الدراسة، وافترسه نوع من القلق والحيرة، وبدت فى نظرته أحيانا لمحات من الخوف والذعر” حدس المؤلف الذى رجح حالا أن النظرة السليمة “..كل عملها أن تبصر” (ص 89) يقر هنا أن للمريض قلقه الخاص السليم الفاتر المعتاد، تركته “مارى” لما شفى ففقد سحره ، إذن: إن للمرض لسحرا!…. “رآها تبتعد عنه وتنصرف إلى زميل من جنسها ولونها، إنها ككل فنان يمل عمله حين يتم ، شفى إسماعيل ففقد كل سحره وأصبح كغيره ممن تعرفهًم” (ص 89)
(6) سافر إسماعيل كهلا، وعاد شابا، مما يشير إلى عكس مسار النمو بما لايدل على أى مرض قد مرّ به بالضرورة، وإنما هو ينبه إلى استعداد ما: ص 80 (السفر) “..تخيلت صاعداً سلم الباخرة شابا عليه وقار الشيوخ، بطئ الحركة، غرير النظرة، أكرش،…”
(عند العودة) (ص 83) “.. من هذا الشاب الأنيق السمهرى القامة، المرفوع الرأس، الذى يهبط سلم الباخرة قفزا..”.
(7) ظهرت إرهاصات مرض إسماعيل قبل سفره ، حين رأى نعيمة وهى تطلب التوبة وتقبّل سور المقام، حتى كاد يرى السيدة زينب وهى تبادلها القبلات، لم يتمالك نفسه واستنقذ بالشيخ درديرى الذى هدأ روعه بما استطاع، ثم نسى كل شىء، (ص81) “..فكل ما حدث له بعد خروجه من المقام شمله من أخمص قدميه إلى رأسه، كالتيار المندفع العنيف، يتأرجح فيه ملقى القياد مقلوب الوضع، فقدَ خِلاله الزمن ترتيبه، والمرئيات اعتدالها، والأصوات صدقها وفروقها… إن هذه النوبة العابرة قد لا تعتبر مرضا جاثما يحتاج علاجا حاسما إذا مرت عابرة مهما كانت شدتها، لكنه المرض من حيث المبدأ على الأقل، المرض بإيجابياته وسلبياته، ولعله هو ما أشار إليه الكاتب أو الراوى فيما بعد :
(8) ص (100) “… المرض العصبى القديم قد عاوده فجأة: وانفجر بشدة من جديد، فقد وعيه وشعر بحلقه يجف، وبصدره يشتعل، وبرأسه يموج فى عالم غير هذا العالم، شب على قدميه واقفا، لا شك أن فى نظرته ما يخيف، قد تضاءلت الأم أمامه وابتعد الأب عن طريقه، …حتى طوح بها (زجاجة الزيت) من النافذة.
لم يرد ذكر لهذا المرض العصبى القديم قبل ذلك اللهم إلا ذهوله العابر الذى وصفناه حالا والذى أعقبه نسيان تفاصيل الأحداث ، بل لعله شمل بعض فقد الإرادة الحاد الذى يصف بعض بدايات الذهانات.
(9) ثم يعلن المؤلف (أو الراوى) شكلا آخر للمرض أكثر ثورية صراحة بعد عودته، حيث يأخذ شكل الرفض لكل ما حوله من سجن العادية التى وجد نفسه منغلقا فيها، ووجد ساجنيه رهط المصريين المتخلفين من المتخاذلين المذعنين الكذابين “…هذه الجموع أشلاء ميتة تطبق على صدره وتكتم أنفاسه، وتبهظ أعصابه”(ص103)، هذا ما أعلنه صراحة فى نوبة مرضه التى وصفها فيما يلى: “…ثم أخذته غفوة واختلط عليه الأمر، إنه كالطير قد وقع فى فخ وأدخلوه القفص، فهل له من مخرج؟ يشعر بجسمه وقد شد إلى هذه الدار التى لا يطيقها، وربط إلى هذا الميدان الذى يكرهه، فمهما حاول فلن يستطيع فكاكا” (ص 108)، ليس فى كل ذلك – بعد– مرض صريح جسيم معوق، لكن لعله التمهيد لانفصال جعله يتمادى الناحية الأخرى، ناحية العلم الجزئى المغترب، بعد نوبة صحيان ، بنشاط عجيب، من النقيض إلى النقيض، هكذا.
(10) وهناك عاوده ما يبدو كأنه نقلات الأعراض فى زمن قصير، وهو علامة دالة على اضطراب محدد معروف بذلك،: (ص 108) “..ثم أخذته غفوة، واختلط عليه الأمر، إنه كالطير فى فخ، وادخلوه القفص، … يشعر بجسمه وقد شده إلى هذه الدار التى لا يطيقها، وربط إلى هذا الميدان الذى يكرهه”.
بعدها مباشر نفس الصفحة (ص 108) “… واستيقظ إسماعيل ذات صباح وهو يشعر بنشاط عجيب. فى مثل هذه الأحوال يقفز الشخص من النقيض إلى النقيض فجأة وبلا سبب ظاهر، وخرج من الدار مبكرا، وعاد يحمل حقيبة ملأى بالزجاجات والأربطة والمزاود، وبدأ علاجه لفاطمة كما يقتضيه طبه وعلمه…” وسلمت الفتاة إليه نفسها مطمئنة، لا يهمها مرضها بقدر ما يهمها أن تكون بين يديه،موضع عنايته ورفقه. وتجنبه أبوه وأمه ولم يعودا يعارضانه فى شىء إشفاقا على صحته.
فصله المرض هنا عن أصله، عن هارمونية وجوده فى رحاب إيقاع الكون، حتى لو تسلح بما يقتضيه طبه وعلمه فهو أسير تلك الفصلة إلى جسم غريب منغلق على ذاته بعيدا عن اللحن الأساسى، وهذا ما تمثل فى صيحته “أنا … أنا …أنا ” (ص94) وهو يكسر القنديل. هذه الفصلة تعلن انغلاقا على الذات دون الناس والكون، وقد جاءت مواكِبة لتدهور حالة فاطمة برغم الطب والعلم “…. ومر يوم وثان وثالث ورابع، وأسبوع وآخر، وعيون فاطمة على حالها ثم إذا بها تسوء فجأة وتلتهب”: (ص109) “لقد انطفأ آخر بصيص تتعزى به..”.
(11) تعقيب إسماعيل على ما حدث (ص111) بأن “..عماها دليل على عماه”، يشير إلى أنه تبين مؤخرا كيف أنه فقد البصيرة بشكل ما، فهو لم يقل، “وعماها دليل على جهله”، أو حتى”دليل على فشله” وإنما “دليل على عماه”. فقد للبصيرة، وفيم ؟ لا يمكن أن يكون قد فقد ما حصله من علم فى الخارج عالج به مئات الحالات مثل حالة فاطمة، وغيرها، يبدو أنه يشير إلى عمى آخر، لعله ما قال به الشيخ درديرى منذ البداية “يشفى بالزيت المبارك من كانت بصيرته وضاءة بالإيمان” (ص 72).
(12) تذبذبت آراء إسماعيل أيضا من أقصى الكره والحكم الفوقى على ناسه وشعبه، إلى أقصى الحب والسماح لهم، ومن أكبر الاحترام والانبهار بالغرب وقيمه، إلى أصعب الرفض والشجب لميكانيكية ومادية التعامل معهم حتى فى الحب (“مارى” هناك فى الخارج) أو فى افتقادهم للكرم والسماح والسلاسة (مدام “إتاليا” صاحبة البنسيون الذى لجأ إليه هربا من ناسه بعد عودته واستحالة بقائه فى بيته)، كل ذلك التذبذب ليس دليلا على مرض بذاته، لكنه يشير إلى تركيب نفسى به جموح إلى أقصى كل جانب يتذبذب باندفاع من ناحية إلى أخرى حتى لو كانت فى عكس الاتجاه، هذا التركيب ليس سلبيا تماما، لأنه الخطوة التى لو أمكن تحمل غموضها وقتا كافيا فقد تؤدى إلى توليفٍ ما، فهل أدّت؟
(13) نعم أدّت، ولو لمرحلة كافية للتوليف التناغمى الإيجابى الذى تنـَشـَّط حتى أيقظ الإيقاع الحيوى الممتد (بديلا عن التحوصل على الذات والانفجار الداخلى الذى يأبى أن يتجاوز “أنا..أنا..أنا)، فراح يستعمل الإنجاز العلمى المعروف والناجح تحت مظلة تناغم الوعيين البشريين – هو والمريضة – فى رحاب النور الإيمان النغم الأكبر “نور على نور” حتى شفيت فاطمة (ولابد غيرها فيما بعد).
(14) إلى هنا وسكت الجميع عند هذا الموقف، بتر الفيلم النهاية، وأحل محلها “فيلم عربى” (كما يقال سخريةً، وجِدَّا معا) كما يبدو أن النقد قد توقف أيضا عند ذلك، فهل توقفت الفروض كذلك؟ وهل اكتفى الناس بالشعار المعلن، بديلا عن الإبداع الناقد؟ تماما مثلما سطح العامّة صيحة أحد الأخوة كارامازوف: إذا لم يكن الله موجودا فكل شئ مباح “باعتبار أن هذا دليل على وجود الله سبحانه، الأمر الذى بدا استسهالا أقل بكثير مما قالته رواية ديستويفسكى تأكيدا لاستحالة الإلحاد”([5]).
ليس من حق الناقد أو الباحث أن ينحى جانبا – دون اعتراف صريح بذلك- سطرا واحدا، أو حتى كلمة واحدة من العمل الإبداعى، بل عليه أن يضع ما لم يستطع استيعابه فى سياق العمل كله مهما بلغت غرابته، وأن يعلن عجزه إذا لم يستطع شيئا إزاءه، وأن يواصل فروضه دون أن يهمله، وأن يعود إليه كلما لاحت فرصة.
إن أسطح النقد هو ما يقرب المسائل إلى أقرب واحد صحيح مما يتفق مع منظومة الناقد الخاصة الواعى بها أو غير ذلك.
(15) يختلف الأمر تماما إذا توقف الناقد – مثل الفيلم – عند شفاء فاطمة وزواجها من اسماعيل عنه إذا ما قرأنا صفحة النهاية بتعجب مؤلم يقول :
يبدو أن الثمن الذى دفعه إسماعيل ليحقق تواصله مع لحن الناس فالكون: “النور على نور” – ولو مؤقتا- لم يكن هينا. إن الذى يحدث على مسار النمو، بما فى ذلك أزماته (أزمات النمو) التى تصل حدتها أحيانا إلى درجة المرض، هو أن تتحقق إيجابيات بادئة تدل على طفرة نمائية واعدة، لكنها قد تُجهض إلى عكسها، أو ينحرف مسارها هنا أو هناك دون أن تنكر إيجابيات البداية، هذا ما يسميه الطب النفسى أحيانا : تنوع المآل،أو عدم تجانس بقايا الأزمات والاضطرابات، حيث قد تكون خليطا من إيجابيات وسلبيات. (وليس مجرد التسوية الساكنة أو السلبية).
(16) حين صالح إسماعيل المكان والناس وامتد فيه وفيهم وفيما بعدهم ، وحين رأى حقيقة النور يتجاوز ضوء القنديل، استوعب ناسه وسامحهم سماحا غير متوقع (ص 115) “..ودار بعينه فى الميدان، وتريثت نظرته على الجموع فاحتملتها، ليس أمامه جموع من أشخاص فرادى، بل شعب يربطه رباط واحد، هو نوع من الإيمان ثمرة مصاحبة الزمان والنضج الطويل على ناره، هنا وصول فيه طمأنينة وسكينة والسلاح مغمد، وهناك نشاط فى قلق وحيرة وجلاد لا يزال على أشده والسلاح مسنون، …” ثم يتمادى التوليف والسماح حتى يحدث ما يشبه الوصل الصوفى (ص116) “..وغاب عن أفكاره، فإذا به ينتبه على صوت شهييق وزفير عميقين يجوبان الميدان. هذا هو سيدى العتريس ولا ريب. رفع بصره: القبّة فى غمرة من ضوء يتأرجح يطوف بها، انتفض إسماعيل من رأسه إلى أخمص قدميه، أين أنت أيها النور الذى غبت عنى دهرا، مرحبا بك ، لقد زالت الغشاوة التى كانت ترين على قلبى وعينى، وفهمت الآن ما كان خافيا على…”.
إذن فهو النور، لا ضوء القنديل : نور على نور!!
(17) اعترف إسماعيل بأن حب فاطمة له حتى التلاشى والطاعة والتضحية بعينيها كان بلا إيمان به، فردا إنسانيا منفصلا عن الكون، و أن إيمانها الأعمق كان بهذه الوسيلة الوصلة بين الإيقاع الشخصى والإيقاع الكونى (عبر السيدة زينب) “…إنها لم تكن تؤمن بى ، إنما إيمانها ببركتك أنت وكرمك ومنك، ببركتك أنت يا أم هاشم”(ص 117)، حضور هذه الوصلة (كرامات الولى) ليس إيحاءا سطحيا، ولا هو اقتناعاً عقليا، لكنه يبدو واقعا بيولوجيا أو شبه بيولوجى، يتجاوز الإيحاء والعقلنة جميعا، فى نفس الوقت الذى هو ضد الخرافة النشاز تماما، وهو الذى يعتبره الفرض المقدم فى هذه الدراسة: العنصر المساعد نحو الشفاء، وهو الذى يلزمه نوعا من الصفاء المتناغم الذى يستعمل معلومات العلم من خلال وعى وفن من يستعملها باعتباره مبدعا يستعمل أداة يشارك بها فى عزف لحن الإيقاع الحيوى (الصحة)
(18) توقفت مليا أمام “عدم” دهشة إسماعيل لما حدث “…. ولما رأها ذات يوم أمامه سليمة فى عافية لم تقفز إليه الدهشة التى كان يخشاها، فلم يجدها”. كان يتوقع أن يخشى المفاجأة فيندهش من أن نفس الوسيلة التى فشلت قبل ذلك عادت فنجحت، لكن يبدو أن داخله كان قد وصل إلى يقين من البصيرة الأعمق جعلته يدرك ماذا كان ينقص علاجه السابق. الدهشة التى كان يخشاها كانت بحساب المعلومات العلمية منفصلة عن من يستعملها وقد تراجعت (الدهشة) أمام اليقين الداخلى بفاعلية تواصل الوعى البشرى لاستعادة التوازن (الصحى) تواكبا مع لحن الجموع والطبيعة فى نور النور.
المآل غير المتجانس لحالة: إسماعيل رجب عبد الله
يبدو أن كل هذه الإيجابيات قد تمت فى منطقة محدودة من تركيبة إسماعيل المختنقة منذ نشأته، والتى جَرَتْ على طريق النمو والتعثر بقفزات غير منتظمة، دفع ثمنها فيما بدا من سلبيات أخيرا، لقد غلبت السلبيات على مناطق أخرى فى شخصيته، طولا وعرضا، إنه تنوع وعدم انتظام “المآل” الذى أشرنا إليه منذ قليل. لا يمكن تجاهل سلبيات هذا المآل لمجرد انبهارنا بإيجابيات استعادة تشغيل لحن التوازن البشرى الذى اسهم فى شفاء بعض من يحتاجون إلى استعادة الانضمام للحن الأساسى أولهم فاطمة.
بدأنا هذه الثلاثية النقدية ونحن نصر على احترام إبداع المبدع مهما تناقض مع معطيات أية منظومة أخرى (علما أو دينا أو أيديولجية ..إلخ)، ومن هنا جاء التحدى وأنا أقرأ نهاية الرواية فلا أرفضها، ولا أحكم عليها، وفى نفس الوقت لا أجد لها تفسيرا سهلا كما أشرت فى البداية. سألت نفسى منبهرا، عن تلك الفقرة رقم 13 فى هذا العمل، لماذا؟ وكيف؟ هذه فقرة من صفحتين صغيرتين إلا قليلا، مفاجأة بكل معنى الكلمة. ما الذى اضطر الكاتب أن يضيفها؟ لماذا لم يتوقف – مثل الفيلم- عند مرحلة الشفاء المعجزة، تاركا القارئ يصفق لشعار مسطح؟ الكاتب الذى ظل أكثر من أسبوع يبحث عن كلمة مناسبة يقولها بطل روايته وهو يكسر القنديل، فيحمّل صيحة “أنا..أنا .. أنا..” كل ما يريد أن يوصله من معان، (هامش سنة 1974) لا يمكن أن يكون قد اضاف صفحتى النهاية هاتين هكذا بلا معنى، ولا هدف. ولو حتى بدرجة أقل وعيا من أهدافه الأخرى.
نتأمل أكثر وبالحركة البطيئة بعض ملامح هذه النهاية:
(1) المنظر صادم فعلا، وهو لا يتفق لا مع العلم الذى أتى به إسماعيل من “بلاد بره”، ولا مع نشأته مدللا فى بيت عز، ولا عن التصالح الصوفى الذى غمره حتى التسامح والإسهام فى شفاء فاطمة ومن تلاها من فقراء المرضى المحتاجين علمه وكرمه، المنظر : “… منزل يصلح لكل شىء إلا لاستقبال مرضى العيون”، ومع ذلك يصر الكاتب – وله كل الحق دون إلزام بتفسير – أن يفرض علينا أنه “….كم من عملية شاقة نجحت على يديه، بوسائل لو رآها طبيب أوربا لشهق عجبا، وترك المبالغة فى الآلات والوسائل واعتمد على الله، ثم على علمه ويديه فبارك الله فى علمه ويديه”. هذا كله قد يصح من حيث المبدأ، لكن الرسالة التى تصلنا من التفاصيل تقول شيئا أخر، تقول إن الكاتب ، أو الراوى ، قد انبهرا بأهمية استرجاع الإيقاع الحيوى حتى ضرب بألف باء النظافة والوقاية عبر الحائط تماما. فى بلد متحضر يمكن محاكمة هذا الطبيب وإدانته حتى السجن والتعويض بالملايين، لكننا فى موقف إبداعى وليس فى ساحة محكمة، ما الذى يريد أن يوصله إلينا المبدع باعتبار أن سرده حقيقة ممكنة”؟
هذا المنظر ليس مطلوبا ولا مقبولا حتى فى عمق الموقف الصوفى، ولا يمكن تصور أى مبرر له، أو سماح به، فى الممارسة الطبية الجراحية المعتادة مهما بلغ التجاوز، ولا هو حلال فى حدود الدين الرسمى، أى دين.
التفسير الأقرب أن ما انتهت إليه حال إسماعيل مما لا نملك إلا أن نرفضه هو من مظاهر مآل مرضه التى تجمع بين الإيجابيات والسلبيات معا. وبالتالى علينا أن نقبل الصورة المطروحة فى حدودها كواقع إبداعى دون أن ننكر على إسماعيل علمه، أو تصوفه، أو تقشفه، أو بساطته، أو نجاحه، أو نتائج علاجه أو كرمه، أو حد به على الفقراء.
(2) من هذا المنطلق يمكن أن نتحمل (نحاول أن نفهم صابرين!) جوانب سلبية أخرى للمآل غير المتجانس مثل زواجه من فاطمة الذى بدا كنوع من الشفقة أو تحصيل الحاصل. الأسلوب الذى أعلن به الزواج فالإنجاب (أنسلها) لخمس بنين وست بنات يشير إلى نوع من الاستسهال والاستعمال معا. إن من يسترجع إيقاعه الحيوى ليغنىّ لحنه مع لحن بشر آخر مع لحن الكون حتى يستعمل كل ذلك فى شفاء المرضى حتى لو كانت أمراضهم ليست فقط وظيفية نفسية من الصعب أن نراه هو هو الذى يلغى كيانا بشريا طيبا مستسلما محبًّا له (مثل فاطمة) متفانيا فيه بهذه الصورة المهينة تماما، لقد اعتبرت هذا أيضا بعض جوانب سلبيات المآل؟
(3) إن ما آل إليه شكل جسمه ولبسه لا يتفق مع احتمال استعادة توازن إيقاع نبضه الحيوى مع نبض الكون، ولا مع احتمال مشاركة وعيه المتناغم فى إعادة التوازن لمرضاه. “…..ضخم الجثة، ملابسه مهملة…إلخ”
(4) إفراطه فى التدخين بعشوائية قهرية ” تتبعثر على أكمامه وبنطلونه أثار رماد سجائره التى لا ينفك يشعل جديدة من منتهية”..هى إعلان لقلق لا يتناسب مع ما وصل إليه من سلام مع نفسه ومرضاه وناسه
(5) إن علاقته بالطعام يمكن أن تحمل معنى “عدم الأمان بشكل ما”، “….وكان فى آخر أيامه أكولا نهما..”
(6) ثم إن إصابته بالربو هو إعلان آخر لعدم التوازن الإيقاعى البيولوجى، فالتنفس بالذات له موقع هام جدا فى أنواع من التطبيب البديل المفروض أن الدكتور إسماعيل قد توصل إلى بعض مبادئه من خلال فشله فنجاحه، يصح هذا حتى لو افترض الكاتب اقتناع إسماعيل بأن أن مرضى الصدر أكثر حيوية وأحضر وجدانا من العاديين الأصحاء
ثم إن الخطبة التى تقولها عيون المصدورين بعد تصميم مديحهم بلا مبرر، والتى نصها للأسف هو كالتالى “..ليس كل ما فى الوجود أنا وأنت، هناك جمال وأسرار ومتعة وبهاء، السعيد من أحسها فعليك بها عليك..” كادت تفسد كل ما كان ينبغى على القارئ أن يصل إليه بنفسه. ثم إنها خطبة ليست قاصرة على المصدورين، ولا مرضى العيون، قد تفيد فى التنبيه على إعلان أهمية دلالة العودة إلى سلسلة الناس التى وردت فى تشبيه ذرة الرمل المنفصلة التى عادت فانتظمت فى سلسلة ذرات البشر فى وطنه (ص 91)، وأيضا لإعلان فشل ما هو “أنا…أنا … أنا”….منفصلا، باعتباره إعلان سقوط إسماعيل نيزكا بعيدا عن هارمونية لحن الناس/ النور/ الكون الأشمل، لكن الطريقة التى قيلت بها هذه “الخطبة” بدت لى أبعد ما تكون عن الإبداع (أشرت إلى بعض مثل ذلك فى تحفظى على نهاية ملحمة حرافيش نجيب محفوظ بفصل “التوت والنبوت” مع الفارق (1992)([6])
(7) الناظر فى باقى موقف إسماعيل من خطيبته فزوجته فاطمة النبوية – رغم كل شىء- لا بد أن يكتشف فيه احتقارا واستهانة شديدين ، فهو يدعى أنها لم تؤمن به ولكن ما بدا ظاهرا هو أنها لم تؤمن إلا به وبما وصلها مما يمثله مؤخرا، وربما بدا بالنسبة لها أكثر من السيدة زينب شخصيا، ولعل هذا يشير إلى مشاركتها فى إفشال العلاج الأول، هذا عن الظاهر، أما فى أعماقها، فلعل إيمانها ببركة السيدة زينب وسرها الباتع كان السبيل إلى إيمانها الظاهر حبا وتفانيا فى إسماعيل وما يمثله ولو رغما عنه، وبالتالى فاعلية هارمونية الوعى ودعم نبض الطبيعة إلى المطلق.
(8) ….. ثم قوله “… وفوق ذلك سأعلمك كيف تأكلين وتشربين وتلبسين (ص119) ، (ثم أيضا) بـ “سأجعلك من بنى آدم”، ألا يكشف بذلك عن أقبح حضور للذكورة المغرورة القاسية المغتربة، ثم إنه عكس ظاهر دروشته يستلهم نموذج من هو “بنى آدم” من آداب وطبائع غربية، تجعل طريقة الأكل والشرب واللبس هى التى تحدد من هو البنى آدم من عدمه؟ ثم إذا كانت فاطمة ليست من البنى أدميين، لماذا تزوجها و”أنسلها” كل هؤلاء؟ أم أنه ظل يعلمها كيف تأكل وتشرب وتلبس حتى صارت بنى أدم ثم تزوجها ؟ وهل هو تزوجها لينسلها هذا العدد من البنات والبنين ، ويتحصل هو على مزاجه ومتعه واحتياجه من أى جميلة أخرى “.. ظل عمره يحب النساء، كأن حبه لهن مظهر من تفانيه وحبه للناس جميعا” (ص 122) لا يا شيخ!!!!
تساؤل:
إذا كان هذا هو مآل إسماعيل غير المتجانس بعد مرضه وتصوفه، وغربته، واستسلامه، وطيبته ، وشطحه، وأنانيته، وحضوره، فكيف شفيت فاطمة وسائر المرضى على يديه ؟ هل تجلت فيه فطرة ما، بدرجة بعيدة نسبيا عن الوعى، فكان هذا الناتج الإيجابى الخفى هو الذى يتم عبره استعادة التوازن (الصحة)؟
تحذير
لابد من التنبيه على استبعاد احتمال الترويج للاعتراف ببركة يفرح بها الدجالون، ولا نحن نستطيع فى نفس الوقت أن نستسلم للرفض السهل والإنكار المطلق لأى إجراء مفيد بعيدا عن احتكار السلطة الطبية الدوائية، هذا ما يفعله معظم الأطباء أو كلهم.
الفرض
ما زال الإيقاع الحيوى، واللحن الكونى، ومستويات الوعى، وتعدد الذوات، وجدلية التناقض (بما فى ذلك التناقض البيولوجى) من المسائل التى يرصدها المبدع دون وصاية، وعلى العلم أن يحتمل غموضها حتى يسبر غورها، بأقل قدر من الوصاية والرفض ما أمكن ذلك، الفرض المطروح فرض يدعو إلى تحمل الغموض، بدرجة قد لا يحتملها الطبيب السلطوى الجاهز، أو حتى المنطق السليم لكن: هكذا الفروض.
- إسماعيل هذا إنسان حمل جذور المرض بالمعنى الإيجابى والسلبى معا، وهو قد مرِض ولم يمرض صراحة ولمدد طويلة !! نشأ فى ثقافة لها تاريخ عريق فى مسرح الإيمان والهارمونى، تجسد هذا التاريخ وتجدد حول الديانات اللاحقة أولا بأول حتى صار راسخا فى عمق الدين الشعبى الذى تمحور حول الأولياء وزيارتهم واستشفاعهم واستعمالهم وسيطا إلى الهارمونى الأعظم المفتوح النهاية والذى ليس كمثله شئ. تركزت آمال الأسرة وطموحها وطمعها حوله منذ صغره فجمدت نموه الظاهر على الأقل، تماهى إسماعيل بناسه (دون جدل) حتى أصبح جزءا خالصا منهم دون نفسه، فتجمد فى المكان كما تجمدت مشاعره بلا ذات مستقلة. تم ذلك فى مرحلة باكرة من عمره ، ولمدة ليست قصيرة، فلم يعد يرى الناس ناسا برغم أنه يبصرهم بعيون سليمة. إن ما بدا ميزة الاندماج فى الناس حمل معه مخاطر الامحاء فردا مستقلا، ومن ثم التبلد.
- سافر إسماعيل إلى “بلاد بره” وهو بهذا الجمود المفروض عليه، فتحرك رغما عنه، فانبهر ومارس نوعا حرَّا من الجنس والرقى الإنسانى بعد أن فضت بكارته مارى الحاضرة المختلفة الحرة، إلا أن ما وجده على المدى الطويل تكشف له أنه أسطح من هارمونية أهل بلده التى لم يكن قد غاص فيها بالقدر الكافى (ربما نتيجة لتوحده بهم حتى التجمد كما أشرنا)، لكن يبدو أنه قبل أن يسافر إلى الخارج كان قد وصلته بعض أنغام اللحن الأكبر ممن عزفوه أو استمعوا له سواء كان الوعى الجماعى، أو الحكى الفردى (مثل كلام الشيخ الدرديرى ورؤاه).
- تقمص إسماعيل هذا الجانب الناجح المعقلن من رحلته فرفض كل ما لا يمكن تفسيره من خلال منطق وعلم الأكثر تقدما وحضارة، لكنه بدلا من أن يستوعب منظومتهم بأسرها، اكتفى بقشرتها اللامعة فأصبح مثل آلة صماء تطبق ما وصلها بآلية مفرغة، دون إدراك أن المرض ليس مجرد خلل عضو أو جزء من عضو، وإنما هو، مثله مثل أى اغتراب، ليس إلا نشاز خارج اللحن الإيقاعى الحيوى المنظم للذات فى الكون، وبالعكس.
- حين مارس إسماعيل مهنته منفصلا عن ناس ما زالوا على علاقة بهذا الهارمونى الأعظم، مهما كانت بدائيتهم، فشل حتى كاد يجهز على ما تبقى من بصر فاطمة، وحين استعاد موقعه من هذا الهارمونى واستعمل نفس أسلوبه العلمى، ولكن عبر هارمونية الوعى المشارك، نجح، (وهذا ضد التسطيح بالإيحاء، كما جاء بالفيلم دون الرواية)، وحين نجح فى شفاء فاطمة لم يندهش كما كان ينتظره مما يشير إلى عمق تجربته ويقينه الداخلى بدور استعادة هارمونية الوعى المشارك فى شفاء أى مرض كان.
- ثم يبدو أنه لم يتحمل جرعة الولاف التى لم تؤهله لها نشأته السالفة الشرح، حينئذ تجلت بعض آثار دائه القديم فى مناطق أخرى من شخصيته، بصور أخرى بعيدا عما حقق من استعادة فاعلية الإيقاع الحيوى الشافى، فبدا برغم نجاحه المهنى (غير المضمون استمراره ولا المحدودة مضاعفاته) شخصا، أنانيا ، طيبا، حسيا، مهمشا لشريكته ومستعملا إياها كوعاء للإنجاب أوطاهية للتسمين ..إلى آخر الصورة التى أزعجتنى هكذا، لكننى احترمت صدق المبدع وحدسه بلا حدود، فكانت هذه الفروض، وهذه القراءة.
خاتمة
لولا صفحتْى النهاية الرائعتين هاتين، لكانت الرواية إرشادية أو استقطابية، أو خطابية، قد تنصح البعض بسماع كلام العلم الجزئى، وقد تبرر لآخرين التسليم للتطبيب العشوائى، كما قد تهدى المؤلفة قلوبهم إلى شكل الالتزام بالدين الشكلى، دون تأمل أو نقد أو مراجعة، أو لكانت ضمن الروايات التى تتناول تلك الفروق الثقافية بيننا وبين الغرب أو الشمال، وخلاص، فى هذه الأحوال كان لابد أن تنتهى بالتبات والنبات لينجب البطل والبطلة خمسة أولاد وستة بنات.
أما وقد انتهت كذلك بهاتين الصفحتين (الصفعتين) للإفاقة، فعلينا أن نقف أمامها مرارا وتكرارا لنعرف أكثر عن إيجابيات السلب، وسلبيات الإيجاب، ونضع الفروض، ونغيرها بعد أن نختبرها بلا توقف.
نقرأ الأدب لنستلهم منه ما تيسر مما يفتح الآفاق للعلم، لا ليحل محله (محل العلم)، ونأخذ من العلم ما يكمل المعرفة وليس كل المعرفة، حتى لا يقزم البشر باحتكار الحقيقة، أو يفسد الإبداع بترجمته إلى معلوماته المتباعدة. ثم علينا أن نلتقط –برغم كل الظاهر – كيف أنها دعوة لرفض الخرافة المتفسخة المختزلة المغتربه سواء سميت علما أو بركة، وأن نضع الفروض الممكنة طول الوقت ونحن نحتمل الغموض – أيضا – طول الوقت، ونقبل فشل الفرض تلو الآخر، فنضع غيرها ، وهكذا.
يا ليت.
[1]– يحيى الرخاوى “قنديل أم هاشم وتحديات الإبداع: قراءة فى نص الدكتور”إسماعيل رجب عبد الله”، مجلة وجهات نظر- عدد مايو 2006
[2] – يحيى الرخاوى “قراءة نقدية فى رواية “الشحاذ” جريدة الأهرام أوائل سنة 1970
[3] – يحيى الرخاوى “قراءات فى نجيب محفوظ” الطبعة الأولى 1992 الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية، 2005 مكتبة الأسرة، الطبعة الثالثة، 2017، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى
[4] – يحيى الرخاوى (إشكالية العلوم النفسية والنقد الأدبى)، مجلة فصول المجلد الرابع، العدد الأول، 1983.
[5] – طبعة “الأعمال الكاملة” (المجلس الأعلى للثقافة سنة 2005)، فوجدت الطبعة التى بين يدى، وهى مرجعى هنا، طبعة مكتبة الاسرة (2005)، أكمل وأدق، حيث سقط سطر كامل فى طبعة المجلس وهو “منفصلا عن الجمع حتى تتبينه عينه، من يقول له إن….” فمن أدرانى ماذا حدث غير ذلك، ولهذا فسأعامل النص الأصح على علاته ، فما زادتنى طبعة المجلس الأعلى إلا حيرة وتشككا.
[6] – قراءة يحيى الرخاوى فى نقد (الإخوة كارامازوف ديستويفسكى): “تبادل الأقنعة سيكولوجية النقد”، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2006
[7] – يحيى الرخاوى “قراءات فى نجيب محفوظ” (الطبعة الأولى 1992 الهيئة العامة للكتاب) (والطبعة الثانية 2005 مكتبة الأسرة) و(الطبعة الثالثة: 2017 منشورات جمعية الطبنفسى التطورى).
الحلم... القبر...الرحم فى رواية الأفيال فتحى غانم
الحلم... القبر...الرحم فى رواية الأفيال فتحى غانم
… الحلم … القبر .. الرحم([1])
فى “رواية الأفيال”
1- هو عمل شديد التكثيف: كثير التداخل مفرط فى الاستطراد، يكاد يتحدى قارئه لدرجة الإغاظة، ويهدده لدرجة الرفض، ويعريه وهو يسحبه بأسلوب ظاهر الدماثة إلى أغوار لم تخطر على باله، ثم يتركه فى نفس الصحراء الترابية مع أمل غامض فى “بديل ما”، يكاد من فرط الإنهاك يبدو بديلا غائما مثاليا بشكل أو بآخر.
هذا هو انطباع أول قراءة سريعة، لأول وهلة.
2- وللوهلة الثانية: هذه هى سكة الذى “يذهب بلا عودة” (اللى يروح ما يرجعش)، ومن قديم وأنا أحتار باحثا عن الفرق الحقيقى بين سكة الندامة، وسكة الذى يذهب بلا عودة، وحين كنت أسمع – طفلا – حدوتة الشاطر حسن، وأمامه السكك الثلاث: (السلامة، والندامة، واللى يروح ما يرجعش). كنت أشعر أن السكة الثالثة هى أغمضها وأخطرها جميعا، حيث كان يبلغنى أن الندامة الحقيقية تلحق من تورط فى السير فى هذا الدرب ذى الأتجاه الواحد، وحين درست بعد ذلك مواقف النمو ومحطاته من منطلق نظريات العلاقة بالموضوع ([2]) (بالآخر)، وعرفت أن ثم جذب إلى الرحم هو الذى يفسر الموقف الشيزيدى ([3]) (المنسحب)، وأن ثم ندما على القتل الخيالى لمصدر الحب والحياة (الأم) هو الذى يمثل هذا بشكل أو بآخر، ثم تأتى أفيال فتحى غانم ([4]) لتذكرنى بحيرتى الطفلية، لأعود أخلط بين “سكة الندامة” وسكة اللاعودة، ولا أتبين – فى الرواية – سكة السلامة إلا قليلا، فطوال الرواية الاسطورة يندم يوسف منصورعلى ماكان قبل الرحلة، ثم يعود فيكاد يندم على الرحلة ذاتها، وهو يحاول العودة لإصلاح مافسد، ما أفسده هو وما أفسده الدهر جميعا، ندامة واضحة، لكنه يتمادى فى سكة اللا عودة، أليس معى الحق أن أخلط بينهما صغيرا .. ثم .. كبيرا.
3- “الأفيال”..؟! يثير الأسم (الذى لا يذكر ولا مرة واحدة فى المتن) عدة احتمالات: (أ) فلعلها “مقبرة الأفيال” الفاغرة فاهها لاستقبال جماعة الموتى هروبا من فزع الأنقراض، تزفهم إرهاصات النهايات (ب) أو هى اشارة إلى صراع البقاء، صراع الأفيال مع الإنسان على الأرض والطعام ([5]) (جـ) أو هى اشارة ضمنية إلى بعض عادات الأفيال مثل أن مجتمعاتها تعرف تجمعات الذكور دون الأناث (إلا وقت التكاثر)، فقد يلاحظ القارئ أن الرواية (الشكل دون الأرضية) ذكورية بشكل ما، (د) وأخيرا فلعلها “جزيرة الأفيال” المعروفة فى حضارة بين الرافدين ألهمت المؤلف نسيجا متكاملا من نص عابر ([6]).
4- والرواية فى مستواها الأول (دون الأرضية الذكرياتية: “الفلاش باك”): تدور فى هذه الصحراء الترابية، التى مثلت لى فى آن واحد “القبر.. والرحم”، فهى رحلة بلا عودة (قبر)، وهى مشروع ولادة (رحم)، وهى تحوى هياكل بشرية بلا غاية (اللهم إلا مساعى الاغتراب الدائرية) (قبر)، كما تحوى مشاريع كامنة لرجعة محتملة (رحم: تناسخ)، وفيها تجرى تصفية حسابات قديمة أو مراجعتها على الأقل (قبر)، وفيها تتولد رؤى جديدة وتتكاثر احتمالات لم ترد قبلا (رحم) .. وهكذا.
5- يقع هذا القبر/الرحم فى الطبقة الأعمق من الوعى الفردى والوعى الجمعى على حد سواء، حيث يسقط الزمان (بمعنى التتابع المسلسل) ويسقط المكان (بمعنى الحدود .. والمواصلات معا)، ولاتبقى إلا كيانات متقابلة دائرية مغلقة تبحث – فى سرية – عن نقطة تفجر جديدة يتخلق منها معنى آخر لزمان آخر بكيان آخر، دون أن تجد إلى ذلك سبيلا على مدى الرواية، فتبدو يائسة لاهية حول نفسها سائرة فى محلها.
وقد ردد الكاتب، فى أكثر من موضع، موقع الرواية بين الصحوة والنوم مثل “أنه يجلس بين الصحوة والنوم ” (ص 364)، فالكاتب يكاد يعلن – فى مباشرة غير ضرورية – نوع هذه الرواية فيما يسمى أدب الحلم بشكل أو بآخر – وهو نوع من الرؤيا التى تفتح أبواب الخبرة الفردية المختزنة، وتعيد التأليف بينها فى بنية جديدة، بقدر ماهو منطلق إلى الوعى الجمعى حيث يبدو أن هذا الأخير يذكرنا بالكهف وأهله – حيث ينسحب الناس من أمام الظلم، أو خوفا من تمام الضياع إلى كهف ينامون فيه عدة قرون، “لا تقل أنى بقيت مخدرا عدة قرون” (ص90)، فهم يموتون إلى أجل مسمى (أو غير مسمى) – ولكنهم يعيشون فى هذا المستوى “الحلم” الأخر. ونحن هنا نواجه ما جرى داخل الكهف وأثناء السبات (وليس ماقبل النوم أو بعده مما هو خارج الكهف أصلا كما تبلغنا أسطورة الكهف عادة)، وحين نستقبل يوسف منصور باعتباره يوسفا (زيدا من الناس)، وفى نفس الوقت نراه – ولو جزئيا – يمثل الوعاء الذى احتوى تاريخ العالم وحاضره، نجد أنفسنا ننتقل من المستوى الشخصى إلى المستوى العام وبالعكس: بما يضئ ظلماتنا بشكل أو بآخر.
6– لم أجد فى نفسى ميلا لترجمة رموز الرواية ترجمة فورية حيث خشيت أن تتسطح منى أغوار وتضاريس الكهف، ومع ذلك فقد اضطررت اضطرارا لرؤية دلالات الشخصيات، حيث كان يفرضها السياق أحيانا ويعلنها المؤلف أحيانا أقل فى مباشرة لا ترحم، فخذ عندك: كريم شاكر وهو يرمز للاغتراب الحسابى المعاصر (ألعاب الكمبيوتر، والدومينو الأمريكانى)، وكوستا: الأغتراب العملى العضلى (الحركى) بما يصاحبه من تنافس فى لعبة لا تخلو من دلالة جنسية (الكروكية)، وفى نفس الوقت فوجهه اغريقى وعلاقة ذلك بالحضارة الرومانية وسقوطها ليس غير محتمل، أما سعد الحوت: فهو السلطة، وميرزا الفلكى: التاريخ، وآدم ريشفسكى يقع ما بين كوستا وميرزا، ثم يغرينى تعدد الأجناس واللغات ([7]) فى الرواية بأن أفهم أننا فى مقبرة عالمية تمثل هذه الأرض بمن عليها.
ومع أن المؤلف قد احتاط ضد الظن باقحام رمزى يفسر هذه العالمية، فجعل البطل ممن أتيحت لهم فرصة زيارة “الخارج” مرات، إلا أن هذا لم يخفف من ثقل هذا التزيد بحيث بدا أكثر مما يحتاجه الهدف المحورى.
وقد وصلت الرمزية المباشرة – على ما يبدو – إلى دلالة الكتب التى صحبها يوسف فى رحلته إلى الرحم المقبرة الحلم، فميكيافيلى: النفعة الأنتهازية، وتوماس مان: العزلة، وشكسبير: الصراع مع القدر، ورجوع الشيخ: النكوص (جنسيا بالذات).
ثم جاءت الألعاب كذلك لتعلن دلالات محددة كما ذكرنا، لكن اللعبة أيضا هى لاعبوها “أنت والكرة والمضرب تصبحون شيئا واحدا” (ص44)، وقد تكررت الإشارة بشكل ملاحق إلى أن اللعب (الاغتراب) هو الوسيلة الوحيدة للاستمرار “أن نقضى وقتنا ونحن نلعب الدمينو” (ص88)، وعن الكروكية : “يلعبون ليل ونهار” (ص44) “فكل تقدم فى أساليب اللعب هو فى نفس الوقت ابتعاد عن مشاكلهم وذكرياتهم وهمومهم” (ص92)، “لا راحة لك .. افهمنى .. حتى تنسى نفسك فى اللعبة” (ص47)([8]).
7- كان التنافس يجرى على أشده بين أشكال الاغتراب الثلاثة: النشاط العقلى المنشق (الدومينو / الثقافة المعقلنة – الأرقام)، والنشاط العضلى الرمزى المنشق (الكروكيه / التنافس الحركى الدائرى)، والبديل الجنسى : ليلى الشقراء (وان كان أقلهم انشقاقا كما عرضه الكاتب، حيث حمله دلالات التناسق، وأولج فيه “العلاقة بالآخر” بشكل ما)، ورغم أن هذا التناسق يجرى – لعبا – فى المقبرة الرحم الحلم، الا أنه كان يعكس بشكل مباشر الواقع الذى هرب منه يوسف، وكأنه يعلن ضمنا أن هذا الهرب من الأغتراب ليس الا هربا إلى اغتراب آخر.
8- ويذهب المؤلف فى كشفه لما هو تراكيب الذات إلى تعرية تعدد الذوات التى يمثلها الفرد الواحد، وبما أننا فى تشكيلات حلم تسمح بالتفكك النسبى لدرجة تطلق المحتوى والتراكيب فى علاقات جديدة، فقد دعمت هذه الرواية الفرض القائل بأن شخوص عمل الروائى ليست – فى النهاية – الا ذاته بما حوت من ذوات: بمعنى طبقات الوعى وتنظيماته، ويعبر الكاتب عن هذا الاحتمال بشكل مباشر أحيانا، نرى ذلك وهو يتذكر الأحداث: كان يتذكر صورة أبيه ” بل يشعر به فى أعماقه، كأن جسده هو ثوب جديد للأب الذى ذهب” (ص290).
ولا يجوز أن نقول أن مثل هذا التعبير هو نقل عن نظرية فى الذاكرة تعلن طبيعة الذكريات باعتبارها كيانات قائمة، وترى التذكر تحريكا منظما لهذه الكيانات، فأن مثل هذه النظرية غير موجودة بهذه الدقة، فإن وجدت فالتعبير الفنى أصدق وأكثر اختراقا. ويتكرر اعلان تعدد الذوات فى تركيب يوسف، والمطابقة بين الخارج وما يتحرك فى الداخل ويظهر ذلك بشكل مفصل فى موقف خروج الإبن حسن ثائرا هاربا من منزل والده يوسف مندفعا إلى التطرف الدينى: “… يغور فى ستين داهية، قالها يوسف وهو يشعر لدهشته أنه تخلص بطرد أبنه من البيت من شئ فى نفسه … لقد خرج مطرودا مع حسن ذلك المراهق الذى اسمه ” يوسف “… أن باب المسكن ينغلق بشدة محدثا دويا هائلا، فيقيم سدا سميكا بينه وبين حسن، وبينه وبين يوسف الذى كان فى مثل سن حسن” (ص 152)، ولا يمكن أن تعرض فكرة تعدد الذوات وصورها بأدق من هذا، كما لا يمكن أن نفهم الانشقاق الداخلى بينها (بين الذوات) من مصدر علمى بنفس الدقة والمباشرة التى أبلغنا إياها هذا المقتطف، وهذا الوضوح هو الذى يشجع على التمادى فى تبنى الفرض الذى يسمح برؤية بعض شخوص الرواية وتفسير بعض مشاهدها التى تساير هذا الفرض وتدعمه، فمخاطبته لوجهه فى المرآة وتلاحق وجوه المرآة مع تلاحق السنين وتبدلها، كل ذلك لا ينبغى أن يؤخذ باعتباره مجرد خيال، بل معايشة لتركيبات قائمة: “… ووجهه الساخر الذى يطل عليه من المرآة … لو كان فتح الغطاء الزجاجى ومد يده وأخذ قطعة الشيكولاتة لرأى نفسه فى المرآة وهو يقضمها ويأكلها، ترى إلى متى سوف يلازمه هذا الوجه، سنة أخرى، سنتان ثم يفترقان كما افترقت عنه وجوه كثيرة كانت له من قبل” (ص49) فهذه الوجوه، بهذه الصورة، ليست انعكاسات مرحلية، لكنها كيانات تظهر فتختفى فى كمون مستعد للتحريك والتعتعة، ولعل تعبيره الآخر “أتبكى وجهك الذى ضاع منك” (ص55) يذكرنا بالرجل الذى فقد ظله، ولعل هذا يدل على تطور الكاتب من “الظل” إلى “الوجه” الدال على الكيان الكامن، ولو أنه لم ينس أن يصور هذا التعدد فى شكل الظل أيضا، وذلك فى تصويره ليوسف والحوت وظلاهما يهرولان بجوارهما “… وأنه قال لنفسه وهما يلهثان: ماذا يفعل هذان الأبلهان… إلخ” (ص186)، وكذلك ” ورأى الظلين الأبلهين يتبعانهما تحت أقدامهما” (ص202).
ويمكن أن نتمادى فى رؤية هذا التعدد فى شخوص الرواية أنفسهم حتى نرى “زينب” زوجته وتوأمها “مريم” شخصا واحدا: مريم هى الزوجة الأمل الحلم، وزينب هى الزوجة الواقع الإحباط، وبالتالى يستحسن أن نستقبل ” مراد حسنين” صديقه الخفى باعتباره صورة يوسف المأمولة، أو ذاته الخيالية التى تمثل أحلامه الهروبية فى الهجرة والعزوبية والثراء واللا أنتماء، فمراد حسنين (ذات يوسف الحالمة) هو الذى هيأ له هذه الرحلة، وهو الذى دفع مصاريفها، وهو الذى حلم بعلاقة “أخرى” مع زينب وكأنه يستعيد بها مافقد بموت أحلام الخطوبة (موت مريم التوأم)، وقد كان التقابل الرباعى صريحا فى أكثر من موقع: مثلا (ص334) “أنا، وأنت، وزينب، ومريم”، “ومراد” الحلم يفتح باب الهرب بسهولة “من حقى أن أحاول إنقاذك من متاعبك” (ص32). (لاحظ: من حقى، وليس من واجبى).
ولكن لابد من الحذر من التمادى فى هذا الفرض حتى لا نتعسف التأويل، مثل أن نفترض أن المتعة الشاذة المحتملة مع مراد حسنين والتى شعر بها يوسف وهو ثمل (ص330) هى نوع من النرجسية أو الشبق الذاتى autoerotism، أو أنه لا ينتمى إلا لذاته “أن مراد حسنين هو أهلى” (ص330) – ومثل هذه المغالاة فى التأويل غير مطلوبة رغم احتمال صدقها.
كل هذا يسير فى اتجاه تأكيد الفرض القائل: إن كثيرا من ذوات الرواية ليست فقط “منطبعات الخارج” فى الوعى الأعمق قد أطلق سراحها “الحلم الرحلة”، ولكنها أيضا – وربما قبلا- تنويعات الذات وتركيباتها فى ذوات متآلفة متنافرة مكثفة أو متباعدة. أننا أمام شخص تفرّق إلى شخوصه الداخلية والخارجية جميعا!!
10- تجرى الرواية على عدة مستويات: متصاعدة أحيانا، متداخلة أحيانا، متبادلة أحيانا، فبالإضافة إلى المستوى الأول: “الحلم يصبح واقعا.. ( بمعنى خاص)” – نرى التبادل مع الأرضية يجرى حسب حدة فيضان الذكريات (الفلاش باك)، حيث تظهر (أ) الأسرة الكبيرة والعلاقة الدينية الاقتصادية الجنسية المتفاعلة لتكوين الناس والأحداث، الذين يتجسدون فيما هو يوسف منصور، ولكن هذا البعد يتقاطع حتما مع (ب) البعد التاريخى الممتد إلى أصل العائلة الأكبر بايحاءاته الفروسية الحربية المشكوك فيها … إلخ، كما يتقاطع أيضا مع (جـ) حاضر نشأة اسرائيل وكيف يمكن أن تمثل الدلالة الإيجابية لفعل “القضية” فى حياة الأفراد، نرى ذلك واضحا فى مسار “عواطف” (وحياة) جابى اشكنازى وارتباطه بنشأة اسرائيل بالمقارنة بضياع يوسف منصور “ولا ارتباطه” بشئ “أصلا”، كما يمكن أن نتبين خطأ متواضعا يشير إلى ( د) مسار ومعنى وبعض مضاعفات ثورة يوليو (البيروقراطية) ([9])، وأخيرا (هـ) فان ما هو “دين” بتشكيلاته المختلفة (التصوف والتطرف والانتهازية والانسحاب) بدا وكأنه مستوى فى الأرضية فاعل وقائم بذاته فى نفس الوقت.
وقد يكون هذا التعدد من مآخذ الرواية بحيث يخل ببنائها- ذلك أن محاولة الإحاطة “بكل” هذه المستويات بمثل هذا التكثيف – رغم أنه واقع فى الحياة- قد يخفى القضية الجوهر، لأنه ينشئ زحاما لاهثا قد يغيم وعى المتلقى بشكل أو بآخر.
ولكننا قد نقبل هذا الوضع باعتبار أن “أدب الحلم” لا يميز بعدا بذاته، ولا يفاضل بين قضية محورية وظل هامشى وأنه يكاد فى انطلاقِهِ السياب يلقى بمهمة التفضيل هذه على عاتق المتلقى، بل لعل ما يميز هذا الأدب أكثر من غيره هو أن كل قضية (أو شخصية) تظهر فى بؤرة الوعى يمكن أن تبدو محورية فى حدود اللحظة، ثم يتم التبادل حسب إيقاع فيض الوعى، لا حسب جذب فكرة مركزية واحدة.
11- على الرغم من أن الإيحاء الأول يوحى أن الرواية هى تصوير لرحلة ذات اتجاه واحد، تمثل حلما هروبيا فى البداية، ثم واقعا مرا بديلا فى الحقيقة، فإن الاستقبال الأعمق للحركة فى هذا العمل سوف يرينا أنها رحلة شديدة المرونة دائمة النشاط، لا تستقر على مهرب إلا لتهرب منه ([10])، وقد بلغ من حذق الحركة وخفائها أن محاولة “العودة” بدأت منذ بداية الرحلة، بل أنها ظلت هى المحاولة المستمرة التى لم تهمد الا قرب النهاية، وكأن التمادى فى “الرحلة الحلم” كان أشبه بالتوريط أكثر منه بالفعل الإرادى، وكأن الرواية من هذا البعد الحركى الأغنى: هى متابعة مواصلة الهرب العاجز فى مواجهة الهرب الحالم. تبدأ الحركة باتجاه الذراع الجاذب إلى المجهول “… كان يكفيه أن يقر أ العقد ليحلم ويأمل بأن يتخلص من كل مشاكله بهذه الرحلة العجيبة إلى ذلك المكان الذى يجهله” (ص10)، لكن سرعان مايبدأ الذراع الآخر الجاذب بعيدا عن المجهول فى عمله النشط “ولكننى لا أريد أن أذهب إلى مكان مجهول” (ص13)، الذراع الأول لا يجذب قهرا ولكنه يبدو نتيجة لدفع خفى “ستبدأ المغامرة، سيواجه المجهول الذى سعى إليه، أو هرب إليه أو انساق إليه” (ص8)، والذراع الآخر يلح فى العودة ويتذرع لها بشتى الأسباب (المحتملة الصحة رغم ذلك) “لابد أن أعود لأنقذ إبنى، لأنقذ نفسى” (ص254).
12- وقد أكد الكاتب فى أكثر من موقع أن مكان الرواية هو “اللا مكان” (برغم إغراءات تحديد الملامح ودقة الوصف)، يظهر ذلك فى الإلحاح المستمر على أنها “… رحلة إلى مكان مجهول” (ص9) “أين نحن؟ ” لا يعلم موقعها فى هذه الدنيا نفس الذين جاؤوا إليها” (ص24)، وتجهيل المكان ليس بالضرورة إلغاء له، إلا أن الإيحاء هنا باللامكانية شديد الوضوح.
كذلك فان تجاوز الزمان لم يوظف لقفل دائرة الأحداث أساسا وإن كان قد أدى إلى ذلك حتما – وإنما وظف أيضا لتحريك العدسة بهذه السرعة الفائقة بين الداخل والخارج وطبقات ومحتويات الداخل معا- وكذلك لكسر التتابع لانعدام هدف محورى واضح.
على أن كسر المكان والزمان بهذه الصورة لا يعنى الاستغناء عنهما ولكنه يشير إلى الأمل فى فتح صفحة جديدة، وعى جديد، ولادة جديدة لإعادة تخليقها، فيوسف لا يهرب “من” فقط، ولكنه يهرب “إلى” أساسا، وكلما كان مابعد الـ ” إلى” غامضا زاد الأمل المعقود عليه: “..إنه اليوم قادرعلى أن يفكر فى عمل جديد، فى علاقات جديدة، بيت جديد، وامرأة جديدة وعمل جديد والمستقبل يفتح له ذراعيه ويدعوه إلى أحضانه” (ص11).
13- فهو إذن إذْ يتخلص من “حصار الماضى” بهذا المهرب، يستعد لاقتحام المستقبل (أو حتى: للاستجابة إلى جذبه المحتمل).
ونذكّر هنا ببداية هذه الدراسة حين أشرنا إلى أن هذه الرحلة ليست مجرد “إعلان” النهاية، ولكنها “حمل” ينتطر المخاض.
وتبدأ هذه الدلالة حتى قبل بداية الرحلة “لم يعد يذكر حياته الماضية … كأنه ولد من جديد، لقد ذهب الماضى فذهبتْ معه، وإلى غير رجعة سنوات عمره التى صنعت كهولته” (ص11)، ورغم دلالة الموت الظاهر، وفكرة “الحساب” المكررة إلا أن الأمر بدا لى أنه ليس حساب “العقاب والثواب” وإنما هو “إعادة حسابات” أملا فى تنظيم آخر بعد البداية الجديدة.
14- ومع هذا التحطيم للزمان والمكان، ومع اختفاء السنين صانعة الكهولة فى طيات المجهول .. يقفز الرعب من تحقيق نفس الرغبة التى سعى إليها، نعم لابد أن نفاجأ برعبه الشديد من هذا المأمول المجهول إذا تحقق دون أن تتحدد معالمه، لأنه “الجنون” ذاته، ولكن من أين التراجع وكيف؟ ” لو تجول فى الصين وهو لا يعرف أسما لها لأصابه الجنون .. أننا نعيش بظرف الزمان وظرف المكان” (ص21) – ولا يكفى أن يكون الكلام هو التحديد الجغرافى والزمان هو التتابع المسلسل .. وإنما لابد من رمز كلامى لكل حقيقة مجردة “كلاهما لابد من فهمه “بكلمة”، باسم نسميه به” (ص21، 22) – فهو هنا يعلن أنه لم يتجاوز الزمان فقط، بل تجاوز الأسماء، تجاوز الرمز، تجاوز التجريد، فأصبحت المباشرة هى وعيه المرعب، وفى نفس الوقت هى أمله الفج.
15- ورغم ظاهر الحركة فى محاولة استكشاف المجهول فى مقابل التخطيط للعودة، فإن المحصلة النهائية كانت دائما “محلك سر” فثمة حركة بلا تغيير، وثم دفع بلا فاعلية فى أى اتجاه، بل إن ما عرفه من خلال هذه المخاطرة يكفى أن يكون مبررا لاستحالة العودة إلى سابق عهده، ثم الرجوع إلى استكمال المغامرة، “استحالة عودة من يخرج من هذا المكان .. لما سيترتب على السماح بالتردد عليه أكثر من مرة من إزعاج شديد للجميع” (ص216)، فالإغراء بالحركة هو مجرد اغراء، أما التوريط فى اللاعودة فهو الحقيقة المتحدية، ذلك لأنها “رحلة يكتشف فيها المرء عن نفسه ما لايعود يصلح إلا به، شريطة أن ينجح فى استيعاب الكل”، وهذا أمر لم يُطرح أبدا طوال الرواية، فكان لزاما أن تتوقف الصورة الفنية فى هذه المحطة:
المعرفة المشلولة.
16– اذن .. فهى معرفة .. وهى معرفة خطرة، مثل “رؤية” الصوفى التى تزيد من وحدته، أو رؤية المجنون التى تفسـّـخه (بتشديد السين وكسرها)، أو هى المعرفة: الفاكهة المحرمة، فيصبح هذا الندم وذلك الإلحاح للعودة يمثلان ” دورة الحياة البشرية” (مسيحيا بالذات)، ولكن يوسف لم يخرج من الجنة نتيجة معرفته لأكثر من المسموح به، ولكنه خرج من النار إلى النار، فهذا القياس لا يصلح، لكنها تظل رحلة المعرفة الأعمق بكل مخاطرها وتحدياتها، ويبدو أن كل من تورط فى مثل هذا الهرب لم يتحمل “جرعة المعرفة” الأولى، فكف عن مواصلة المحاولة وأخذ يبحث عن بديل يطمس به وعيه فى الظروف الجديدة (الكروكيه – الدومينو – الجنس)، أما أن يتجرأ – مثلما يحاول يوسف – أن يتناول الجرعات التالية فالتيه يتربص به” … كما يتوه أى مغفل يحاول أن يقنع نفسه بأنه قادر على معرفة هذا المكان والإحاطة بموقعه بالنسبة للمكان الذى رحل عنه” (ص88)، فالرحلة المسموح بها هنا هى رحلة الهرب من الذى نعرفه، إلى الذى لا نعرفه، حتى نرضى بما كنا فيه أو نبحث عن بديل من نفس نوعه، ولكنها أبدا ليست رحلة الغوص إلى مانعرفه أكثر، وقد نجح الكاتب فى تجاوز تصوير أن هذه المعرفة المحرمة قد تخرج صاحبها من الجنة، ولكنها قد تخرج من يحاولها من ماضيه أيا كان، لكنها لا تضمن له مستقبلا محددا، ويبدو أن هذا المستقبل الحتمى غير واضح فى وعى الكاتب لأنه طوال الرواية ينتقل من الضياعين المتبادلين (اغتراب ماقبل الرحلة “الحلم”، واغتراب فى الرحلة “الحلم” إلى الحلم المثالى التطهيرى: انظر بعد)، إذ أنه لم يطرق بأى درجة مناسبة أبواب الحل الإبداعى الولافى حيث اكتفى بالتلويح ببديل مثالى غامض، والكاتب لم يكتف بعرض المأزق (وكان يكفيه ذلك) بل هو قد أخذ على عاتقه بشكل ما التلويح بالحل، ولكنه حين يفعل، لايتعدى أن يوصى “بالاعتراف” و”التطهير”، وربما يرجع ذلك إلى الثقافة التحليلية النفسية (الفرويدية بالذات) التى تطل علينا “مباشرة” ما بين الحين والحين فى ثنايا الرواية، الا أننا يمكن أن نلمح موقفا “مسيحيا” أيضا قد يفسره علاقة “الاعتراف المسيحى” “بالتفريغ النفسى والتطهير”، كما قد يفسره موقف الكاتب السلبى من العدوان (انظر بعد)، وبألفاظ أخرى، يبدو أن حدس الكاتب الفائق قد أعيق بعاملين: ثقافته التحليلية النفسية ( وثقافته الموسوعية عامة ) وخوفه (المسيحى) من العدوان (منه وعليه).
17- لكن حدس الكاتب كان يتخطى معلوماته فى كثير من الأحيان، فهو اذ يعرى الوعى الآخر (وليس اللاوعى بالضرورة) يجعله كيانا مريدا سيدا وان أخفى – بذكاء مناسب – سيادته “لأننا لا نريد أن نلقى فى روعك يوما ما أننا أسيادك” (ص63) رغم “أن الشئ الوحيد الذى فهمه من كلام هذا الـ … هذا الرجل .. هو أنه يقول له نحن أسيادك” (ص64) [لاحظ الـ “نقط” ثم: الرجل] – ورغم أن الخادم الذى قال هذا الكلام لا يمثل بالضرورة الوعى الأخر (اللاوعى) بشكل خاص، ولكنه يعلن طبيعة مستوى التنظيم “الآخر” باعتباره كيانا له ارادته وفاعليته ومعالمه وشخصيته، وليس مجرد قوى متفرقة أو ذكريات ضاغطة، وهذا ماجعل استقبالنا لهذا الوعى الآخر تتحدد معالمه بهذا الجلاء لا كما يظهر مفككا فى الحلم أو متناثرا فى الجنون.
18- وتناول الذاكرة والذكريات فى هذه الرواية يعلمنا الكثير عن النفس الإنسانية من خلال هذا الحدس الفنى الفائق:
تبدأ الرواية بمحاولة التخلص من “حصار الماضى” (ص11) بالتخلص من ذكرياته، لكنه سرعان مايعلن اكتشافه اللاحق المزعج، لاستحالة الحياة بلا ذكريات “… يطالب بأن يعود فورا إلى القاهرة أو زيورخ أو أى مكان يعرفه له فيه ذكريات” (ص95)، ذلك لأنه لكى “نعيش” ما نعرف لابد أن نرفض أن يكبلنا ما نتذكر، وبألفاظ أخرى: فلأن يكون لك فى مكان ما ذكريات تحدد أبعادك مبدئيا لتنطلق من “محدود” إلى ما بعده: هو أمر “مطلوب”، ولكن أن تسحبك ذكرياتك فى شبكة تلتف خيوطها حولك حتى تشلك، أو تفرض عليك توجهات نمطية حتمية فهذا أمر “مطلوب الهرب منه”. يوسف إذن يهرب من سجن الذكريات إلى نبض الذاكرة.. والفرق دقيق لكنه خطير، والتقابل حى تلقائى مقصود بالحدس المباشر، وربما بالوعى الهادف الغائر للكاتب فى كشف معرفى معين.
وعلى نفس القياس تظهر وظيفة التفكير حين يصبح بديلا عن الوجود، أو حين تصبح هى القائدة لخطو الكينوية: “الخطر الحقيقى أنى مازلت أفكر. لقد جئت إلى هذا المكان لأتحرر من هذه الأفكار التى تتربص بى” (ص 107) – والتحرر من الأفكار لا يعنى نفس مغزى التحرر من الذكريات المتربصة، وأنما يعنى محاولة أن يقود الوجود التفكير وليس العكس هكذا ([11]) وهذا هو المغزى الأعمق للرحلة برمتها – فشلت أم نجحت. وللتخلص من الذكريات والأفكار دون مواجهة الهلامية والضياع يلزم ظهور مهرب بديل، وإن كان يوسف قد “هم ولم يفعل”: طوال الرواية، فإن شخوص الرواية قد هربوا من الاغتراب إلى الاغتراب، من الاغتراب فى الذكريات بالذكريات إلى الاغتراب فى اللعب أو الجنس أو اللحظة، الحوت (ليوسف) “كل ماكنت أتمناه أن أريح ضميرى بالاعتراف لك، ثم أتفرغ لقاعة الدومينو. أتخلص من كل ذكرياتى …” (ص 223).
على أن فعل الذاكرة فى تحديد الوجود لا يتم من جانب واحد، بل “أن أكون أنا أيضا فى ذاكرة آخر” هو مبعث وجودى ومؤكد له، وخطر التواجد المغترب مثل الرحلة (فى الحياة الدنيا) أو بعدها (فى الحياة الأخرى – وليس الآخرة = الحياة الحلم) ليس فقط فى أن تسقط الذكريات ثم لا تجد ما يذكرك بها، ولكن أيضا فى ألا توجد “أنت” فى “ذاكرتهم” – الحوت (ليوسف) : “أنت أيضا تخلف النسيان” (ص131) (يقصد أن يسرع الناس ينسيانه بعد ما كان، أى بعد الموت أو الهرب الجنونى)، فيصيح يوسف “لم يمض ذلك الوقت الذى يهددنا فيه النسيان” (يعنى أن ينسونا) (ص131).
وهكذا يتحدد إطار العطاء الفنى لتناقضات وظائف الذاكرة والتذكر، ولجدل “الحاجة إلى الذاكرة / الحاجة إلى النسيان” معا حيث أنه فى الوقت الذى يعلن فيه يوسف الخوف من النسيان ومحاولة التخلص من أثقال الذكريات، يقوم بتحسس الأشياء بذاكرة متجددة يريدها ألا تنبع من فراغ، شريطة ألا تمتلئ بالصخور والسلاسل.
يا للمأزق .. وكيف تكاتف كل هذا فى حدس هذا الكاتب المغامر!؟ بل إنى تركت نفسى أتمادى لأتصور أن حقائب يوسف هى ذكرياته (ص37) أى أنه صحبها معه لتكون تحت “الطلب”، وبذلك لم يتخلص منها تماما، ولم يلبسها داخل عقله فى نفس الوقت “استقبلته حقائبه الثلاث ..” (ص 53) … الخ.
من هذا المدخل يمكن أن نتبين بعض أبعاد المغامرة الإبداعية التى أقدم عليها هذا الأديب الحافل مسلحا بكل ثقافته، مطلقا عنان حدسه، ليغوص بفنه فى الطبقة تلو الطبقة فى المنطقة المحرمة ما بين تنظيمين!! أو مرحلتين،!! أو عدة تراكيب.
19- ومع ذلك فيبدو أن ميزان النقلة مال إلى النكوص والاجترار أكثر; فقد كان جذب الرحم القبر أكبر بكثير من تخليق الولادة الجديدة- ولو تركنا لإدراكنا العنان لاستقبل صورا متلاحقة من أرحام متعددة لا تتركنا نفلت من إلحاحها:
(أ) فمنذ البداية ترى الرحم بصورته التشريحية “بسائله الوسادى ذى الثقب السرى” “فتح عينيه فرأى فوقه سقفا من البلاستيك الأبيض – أريكة من الجلد الطرى – كوة زجاجية” (ص6)
(ب) ثم هو يعلن فورا الولادة الحادثة “أرتطمت رأسه بالحوض أثناء سقوطه … فرأى شريطا من الدم” (ص8)، وقد يشير هذا الارتطام إلى معنى “صدمة الولادة” (من منطلق أتـُورانك”([12]) بمعناها الأوسع) – كما قد يشير إلى فكرة الانشقاق الأولى فى مواجهة الواقع (ميلانى كلاين، فيريبرن، جانترب)([13]) المهم أن الحوض يوحى بالرحمية مرة أخرى
(جـ) ثم هذه الحجرة المظلمة لعلاج الاكتئاب (ص 119) … أليست دالة على الرحم فى العلاج النكوصى أملا فى استعادة خُطَى النمو فى جو أفضل؟
(د) والقبر الفندق بما حوله من صحراء ترابية أليس هو هو قفل الدائرة المغلقة: “من طين جئنا وإليه نعود”
(هـ) بل إننا اذا تمادينا فى استقبال هذا الإلحاح النكوصى لرأينا المقعد الضخم الذى يحتوى جسد يوسف رحما يضمه بين أحضانه مدفئا إياه حتى لتغار منه زوجته(ص 154)
(و) بل إن القارئ قد يلتقط أن أعماقه (يوسف) الفسيحة التى خلت من كل ما يزحمها من الأهل والأصدقاء .. الخ (ص11) ماهى إلا رحم معنوى رحب بالمعنى الأوسع
(ز) بل قد يخيل إلينا أن ذوبانه فى الكائن الصوفى الجماهيرى الأخطبوطى (ص194) الذى ظن أنه ابتلع حسن قد لا يكون إلا ما يعنيه الرحم الجماعى القبلى الحاوى لذات الفرد.
إذن فهذا الإلحاح للعودة إلى الرحم قد قدم دليلا آخر على ميل الميزان إلى أن تكون الرواية نكوصية استرجاعية فى المقام الأول، وليست ولافية تركيبية، وقد صبغ هذا الجذب النكوصى المستمر أفكاره ورغباته الجنسية حتى قفزت صورة الأم مع معظم خيالاته الجنسية (كما سيرد بعد)، ولنا الحق أن نحترم حدس الفنان فى هذه المنطقة حيث واكب بين الهرب إلى أمان الرحم وبين أمل فى لذة الحس بالاقتراب الجسدى، فكانت وظيفة بعض ماقدم من جنس (أنظر بعد).
20- آن الأوان لنتابع “خط الجنس” فى الرواية كلها، لنكتشف مع كاتبها عدة مستويات بالغة الدلالة استطاع الأديب أن يصورها – فى أغلب المواقع – بسلاسة مناسبة رغم لجوئه الى المباشرة المعقلنة فى بعضها، فاذا تغاضينا عن هذا المأخذ العام.. لأمكن أن نرى كيف وظف أديبنا الجنس باعتباره لغة، أو مظهرا، أو وسيلة الى الوجود الأعمق.
(أ) فالجنس فى الرواية مرتبط بالأمومة فى كثير من الأحوال (كما ذكرنا) و هذا الارتباط يبدو مباشرا و تلقائيا حيث لم يحاول الكاتب – رغم ظاهر تأثره بالفكر الفرويدى – أن يقحم فيه رموزا أو أحداثا أوديبية كلاسيكية، بل ان هذا الارتباط، بدا دالا على الجذب المستمر إلى الرحم سعيا إلى أمان اللذة ولذة الأمان فى آن واحد، يبدو ذلك فى بعض ما تمثله ليلى الشقراء (المعالجة بالجنس، أو بتعبير أدق، المعالجة بالجسد) فأحد أدوارها البارزة أن تكون أما:
“ميرزا الفلكى: أنها قادرة على أن تذكرك بكوثر هانم
سأله يوسف فى غير فهم – كوثر هانم من؟
(ميرزا) – السيدة والدتك… هل نسيت أسمها” (ص 115، 116)
هكذا مباشرة!!
ولا نعنى بأن تكون الأمومة أحد أدوار ليلى هو أن تنفصل عن دورها الجنسى اللذى، فإن أدوارها تتداخل بلا تميز “إنها قادرة أحيانا على أن تقوم بدور الأم أو الممرضة أو الشقيقة أو البنت … فدور العشيقة هو أحد أدوارها” (ص 155).
(ب) ثم يقدم الكاتب “الجنس لذاته” كاغتراب مناسب يمكن أن يوظف للنسيان شأنه شأن منافسيه: التنافس الفكرى المعُقْلن (فى الدومينو) والتنافس العملى الحركى (فى الكروكيه)، والصراع بين ليلى (الجنس) وبين كريم شاكر (الدومنيو) للاستيلاء على يوسف كان صريحا ومباشرا طول الوقت: ليلى: أتعلم أنه (كريم شاكر) كان يقف خلف باب حجرته فى انتظار قدومك .. ليستولى عليك ويختطفك منى (ص67) وأيضا.. ” ليلى: إننى أشعر أنى فى هذه المرة سأنتصر عليه (كريم شاكر)، وسأفوز بك” (ص 73).
لكن لا يوجد فى الرواية ما يشير – أو يبشر بـ أن هذا النوع من الاغتراب فى الجنس (أو الجنس الأغترابى) قد نجح: لا مع زينب الزوجة، ولا مع مشروع ليلى العشيقة (رغم الإيحاءات المباشرة باحتمال نجاحه)، لا من يوسف، ولا من غيره، هذا فضلا عن عدم ورود احتمال النجاح فى جنس تكاملى أصلا، ونتيجة هذا وذاك أن تظهر البدائل ما بين العجز، والنكوص، والاستغراق الخيالى.
(جـ) أما العجز الجنسى فقد أطل برأسه طول الوقت، وكأنه كان مآل الحياة الجنسية ليوسف وللجميع على حد سواء : “كل من يأتى هنا مصاب فى البروستاتا، هذا أمر مفروغ منه” (ص 77)، قالها المنجى وهو يفحص حجارة الدومنيو (البديل المنافس) والدلالة على العجز الجنسى ظاهرة لشيوع هذه الفكرة عند العامة خاصة.
وحكاية عجز يوسف مع زوجته تكاد تحدد مسار علاقتهما الزوجية منذ البداية، وقد ظهر أكثر ما يكون بعد ان استقلت زينب (بالعمل فالتحرر) فما عاد يبرر هذه العلاقة عوامل أخرى مثل “الحاجة” و”الاعتمادية” والصراع حولهما (ص28)، وقد أخذ العجز ومضاعفاته شكلا صريحا فى وعى يوسف: “… ولا يعلم متى يفتح عينيه مرة أخرى ليرى زينب ويسمعها تصرخ فى الساعات الأولى من الصباح .. أنت لست رجلا .. ضاع عمرى معك..، ويسمعها تردد .. أنت كريه، أنت منفر، أنت فاشل “ (ص122)، وقد أدى إعلان العجز بعد تحرر زينب إلى تعرية السر الخفى وراء ارتباط يوسف بها “… ها هى زوجتك تضاجع لطيف صبرى فى سريرك أمام عيون كل الناس” (ص292)، ويؤكد ذلك ما تصوره فى الزواج من حاجة إلى أم حتى تمنى أن يصرح لحسن إبنه بهذا الإحباط الذى لحقه فى زواجه “أنه يريد حنانا ضاع منه، يريد عطفا افتقده من زمن بعيد، يريد معاشرة فيها طيبة وقبول له كما هو “…” (ص116).
لكن كل ذلك لم يتحقق، وتأجل إعلان العجز (بل ظهوره) نتيجة للاختباء وراء الحاجة والاعتمادية، حتى استقلت الدولتان (الزوج والزوجة) فأعلن الفراغ بأثر رجعى “أنه لم يقدم لها سوى الملل والسأم” (ص122) وتظهر بدائل أخرى.
(د) فإذا كان الاغتراب فى الجنس لم ينجح، والتكامل بالجنس لم يُطرح (بضم الياء) فكانت النتيجة هى العجز، فإن الخيال الجنسى لم يكف عن النشاط قبل وبعد إعلان العجز، ظهر ذلك من أول ما عرى به يوسف الفتاة التى تعثرت على سلم التليفزيون، حتى أحلام كوستا عن تصوير فيلم جنسى مع ليلى الشقراء، فيلم طوله ثلاث ساعات ونصف “سيكون أعظم فيلم فى العالم” (ص109) ويذكرنا هذا النوع من الخيال (الافراط والتطويل فى الجنس) بنفس “التعويض الكمى” الذى حاوله يوسف ليكفى زوجته (كما يتصور) فى بداية الحياة الزوجية، ولكن دون طائل.. “حاول أن يتهور فى علاقته الجنسية فتظاهر بالعنف، وبالرغبة المفرطة الجامحة، ولكنه زاد الموقف تعقيدا، فرغم هذه المحاولة، بل بسببها اكتشفت زينب بسرعة هذا الفراغ الذى يتعامل به” (ص338)، وفى الحالين فالعجز يتربص، ان لم يكن هذا الميل للإفراط هو نفسه أحد صور العجز المؤدى للخيال وغيره، وثمة دليل آخر على أن “الجنس الخيال” لا يترعرع الا اذا انفصل عن “موضوعه”، أو إذ يطمئن الى أن موضوعه هو موضوع مؤقت (راحل فورا) “.. كان (يوسف) يحب زينب بسرعة هذا الفراغ الذى يتعامل به” (ص 338)، وفى الحالين فالعجز يتربص، ان لم يكن هذا الميل للأفراط هو نفسه أحد صور العجز المؤدى للخيال وغيره، وثمة دليل آخر على أن “الجنس الخيال” لا يترعرع إلا إذا انفصل عن “موضوعه”، أو اذ يطمئن إلى أن موضوعه هو موضوع مؤقت (راحل فورا) “.. كان (يوسف) يحب زينب، ولكن عواطفه كانت لا تجرؤ على الظهور إلا وهو بعيد عنها، أو يوشك أن يسافر مبتعدا عنها” (ص333): وكل ما بعد هذا المقتطف فى نفس الصفحة يؤكد الحرارة والشبق مع الزوجة الغائبة)، ويبدو أن نفس الشئ – ولو بدرجة أقل – كان يحدث من ناحية زينب، فقد استطاعت رغم كل البرود السائد أن “تقدم له شيئا” ليلة سفره استعدادا لهذه الرحلة الحلم “ثم أنه لقى معها متعة حقيقية ليله سفره إلى زيورخ” (ص58)، ولكن فى النهاية فلا مهرب من المواجهة إلا بالرحيل أو الوهم والخداع “الوهم مريح، والخداع مريح وكفى عذاب المواجهة” (ص58) “لا بأس أن تخدعه ( فتاة صغيرة بالطلب ) وتكذب عليه وتقول أنها سعيدة برجولته”(ص58).
(هـ) ويأتى بديل آخر للعجز فى صورة الجنس النكوصى، وحكايات فرويد عن الجنسية الطفلية تحتاج إلى مراجعة، والذى يعنينى هنا هو مساحة الالتقاء بين ماهو طفلى ” حسى وقتى” “وما هو جنسى ” لذى حسى بحت”، وقد ظهرت هذه الصورة كبديل عن الخيال المركب المستغرق فى الصور الخيالية الملفقة (أنظر “د”)، وتبدو هذه العلاقة (بين الطفولة والجنس) فى شكل مباشر رغم خفائه لأول وهلة: “هأنذا أخلط بين الشيكولاتة والمرأة” (ص68)، ” كل الإغراء الذى ينبعث من قطعة الشيكولاتة هو الأغراء الذى عرضته المرأة الشقراء ” (ص68) – والشيكولاتة هنا ليست مجرد تعبير عن الجوع المعدى فى مقابل الجوع الجنسى، لكن يبدو أن لها دلالة حسية طفلية مباشرة “..أستوقفه صندوق زجاجى به شيكولاتة وبسكويت وحلوى مما يشتهيها الأطفال” (ص49).
ولكن يبدو أن النكوص “فى ذاته” ليس حلا ممكنا رغم ما يحمل من تلويحات بالمتعة واللا مسئولية، وفى الرواية كان النكوص خياليا أيضا، وكل الذى عرض على يوسف من جانب ليلى والذى كان يبدو نكوصا علاجيا لم يقبل، ولم يُجَرَّب أصلا، وظل النكوص فى الخيال فحسب على مستوى إعادة قراءة ” رجوع الشيخ إلى صباه” مع احتمالات تنويعات على اللحن الأساسى: “أنه مهما أشتط به الخيال لا يستطيع أن يحصر احتمالات ما قد يحدث فى مقابلة من هذا النوع لعله يعود إلى صباه” (ص207)، ويظل يوسف دائما عاجزا حتى عن النكوص فى الجنس، سواء كان نكوصا لذاته، أم نكوصا مرحليا فى اتجاه التكامل “أنت لم تشعر فى حياتك بشهوة حقيقية، أنت لا تعرف حقيقة تلك المشاعر” (ص254).
ويذكرنا الجنس النكوصى هذا بما يمكن أن يختلط معه مما يمكن أن نسميه “الجنس القح”، أو “الجنس للجنس”، وهو لم يظهر إلا فى خلفية الرواية فى شكل علاقة فاطمة هانم بوالد يوسف، وهو – أيضا – لم يستطع أن يؤدى وظيفة التكامل وإن كان قد أدى دورا لذيا بهيجا فى حياة أطرافه ولو على حساب يوسف وأمه، كذلك لم يظهر الشذوذ الجنسى فى الرواية إلا تلميحا من بعيد، فى اعترافات كوستا، وهياج مشاعر يوسف -ثملا- تجاه مراد حسنين (لو أنه لم يكن هو هو)، وإن كان الكاتب قد ألمح بذكاء شديد إلى أنه: حتى ما يظن أنه شذوذ جنسى إنما يعنى – فى المقام الأول – الحاجة للاعتماد: “.. كان يجلس على الدكة لأنه عم محمود رجل كبير، وهو يحتاج إلى الاحساس بأنه قريب من رجل كبير (بعد موت والده)… وأرتبك اذ خيل إليه أن فاطمة هانم تتهمه بأنه يسعى إلى هذ ا الأحساس بجسد عم محمود، وكأنه احساس شاذ” (ص274، 275).
21- فاذا كانت هذه “الرحلة/الرؤية” قد عرت الغريزة الجنسية بأشكالها المتبادلة المتداخلة بهذه الصورة، فهى قد تناولت العدوان بشكل آخر، لم يظهر منه فى السلوك إلا بشكل سلبى، رغم أن التعبير اللفظى عنه كان يتمادى إلى أقصى المدى، ربما مطمئنا إلى وقف التنفيذ.
إن ما وصلنى من مؤلف هذا العمل هو أنه لم يقدر أن يغوص فيما هو صراع حتى القتل ([14]) بحجمه الذى كنا نتوقعه فى “الرحلة التعرية”، حتى لو اعتبرنا أن الرحلة هى فيما بعد الموت حيث لا موت ولا قتل، فإن الجريمة الوحيدة التى ظهرت فى الخلفية (الفلاش باك) كانت جريمة مبررة سلبية، خضعت للتفسير الحتمى ودوافع السياسة والدين ولم يظهر حجم الغريزة ونشاطها وراءها بأى درجة أو من أى زواية. “الجريمة كانت ستحدث سواء كان المحرض زياد الأسمر أو غيره … إلخ”(ص206).
إذن، فهو الخوف من العدوان ! ليكن، ولكنه ليس إنكاره، ويوسف حين واجه عدوانه وسمح له بالفتك لم يعلن رغبته أن يفتك إلا لوجهه فى المرآة رغم أن ما أثار هذه الرغبة هى “صورة كوستا لا تفارق مخيلته”.
“زمجر فى وجهه الكئيب الذى يطل عليه من المرآة: أريد أن أفتك بكم، أفترسكم” “يفتك بمن، إنه لا يستطيع أن يحدد، أغلب ظنه أنه يريد أن يفتك بكل شئ” (ص55) لكنه لا يستطيع، بل إنه أستقبل جرعة العدوان بدرجة من الخطورة والعنف جعلها ترتد إلى ذاته (فى المرآة) ثم للعالم أجمع دون “آخر” معين، ثم سرعان ما أخفاها بانسحاب ملائكى نقيض “وجهه الذى يطل عليه من المرآة لم يشجعه على التمادى فيما هو فيه … وجه يتوسل فى مرارة ويأس أن يكون نقيا .. طاهرا .. ملاكا .. مثلا أعلى .. بطلا عظيما .. انسانا خالدا” (ص55).
وأحسب أن هذا الحل المثالى المسيحى هو الذى عرض نفسه تجاه العدوان بوجه خاص، وتجاه المصاعب والانحراف بوجه عام، فما بلغنى هو أن الرواية حاولت أن تحل الاغتراب والعزلة بالجنس الصحيح وبالجهاد نحو العلاقة بالآخر، فى حين أنها حاولت أن تحل العدوان والفتك بالأنسحاب المثالى بصورته المسيحية التطهيرية الأعترافية.
“لا أمل … فى الخلاص من أى شئ … اذ ا لم تواجه نفسك .. تعترف بجرائمك”(ص325) “أيكون الأعتراف بالعجز والذل والمهانة هو المسلك الوعر الدامى الذى يهتدى به الإنسان؟” (ص328).
إن هذا الحل التطهيرى (المسيحى/الفرويدى) هو حل سلبى دال، يؤكد ما ذهبنا إليه من موقف يوسف (وربما المؤلف) من الخوف من إطلاق طاقة عدوانه، وإنكاره لأى إيجابية فى العدوان، بل لعل مراد حسنين (أو بديل يوسف الخيالى) كان يدرك ما يواكب ذلك حين نصحه “لابد أن تتهور فى شىء ما” (ص338) – ورغم أن التهور هو “إقدام .. ما” إلا أنه أيضا ليس عدوانا حقيقيا، وكأنه بديله (مراد حسنين) – حتى بديله – لم يسمح بتعرية العدوان داخله أو توجيهه خارجه وإنما أشار بإطلاق سراح دَفـْعته فحسب، وحين كان يعبر يوسف عن عدوانه أو تمرده أو انتقامه كان يعبر بالسلب والارتداد على الذات والمقاومة فحسب:
(أ) فهو حين أراد أن يتمرد على أمه وزوجها وعائلته المتدينة كف عن الصلاة “أدرك أنه كان لا يصلى لأنه مصمم على أن يتمرد على كل ما تتميز به العائلة المتدينة التى سلبته أمه” (ص159)
(ب) وحين “تمرد على الجامعة .. قرر أن يرسب فى كل أمتحان لمجرد أن يتمتع برؤية أمه تبكى يائسة” (ص159)
(جـ) وانتقامه من أمه فى زوجته: كان بزواجه منها ثم عجزه”تزوجها لينتقم” (ص122) – بل إن تمرد أبنه حسن (الذى هو أحد صوره كما أسلفنا) أخذ – فى محيط الأسرة – شكل الانسحاب، وأخذ فى محيط الجماعة الدينية شكل الطاعة.
كل ذلك يبلغنا أين يقع العدوان من وجدان المؤلف أو يوسف، كما يذكرنا بالحل الطفولى المثالى لهذا العدوان (المرعب)، ولعل ذلك يظهر جليا فى دلالة منظر حسن ذى العاشرة وهو ينزع السكين من يد أمه أثناء شجارها مع أبيه، وأبوه يصيح:“تريدين قتلى يا مجنونة” “وهجم حسن على أمه وأنتزع من يدها السكين”(ص160).
وبمراجعة الموقف من الجنس والعدوان والحلول المطروحة نشعر أننا نتحرك فى مستوى فرويدى مسيحى مثالى بشكل أو بآخر، رغم ما تعد به الرؤية الحلم (الرحلة / المواجهة) من معرفة وتعرية أكثر اقتحاما وأقل تبريرا.
22- وأخيرا، فلابد من إيقاف وإعلان استحالة تغطية هذا العمل المترامى الأطراف بشكل مناسب إلا على حساب قيمته، وسأكتفى بخاتمة مطولة أشير فيها إلى رؤوس مواضيع ما زالت تحتاج إلى عودة ونظر، فأكتفى بعرض بعض “ملاحظات عامة” و”مآخذ عابرة”.
(1) رغم أننا فى هذا العمل نواجه الصورة الحلم مكافئا للجنون (اقتحام الوعى الآخر)، فقد أستعمل الكاتب كلمة الجنون بمضمونها الشائع العابر، لا بما يمكن أن تمثله كبديل متربص يعلن: “فشل الهرب” و “فشل العودة” فى آن. مثلا (ص 21، 56، 75).
(2) التقط الأديب بذكاء ما تفعله ظاهرة “المراقبة” فى بطله يوسف، وأبطاله عامة، فهى من جانب تؤكد “وجود” المراقـَـب (بفتح القاف) المحتاج إلى الشوفان، ومن ناحية أخرى تعلن الإعاقة الناتجة عن المضى تحت رحمة الهجمات من الخلف وتلافى المتربصين (مثلا صفحات 7، 61، 71، 76، 87).
(3) تناول الكاتب “الوحدة” من منطلقات جديدة، وصلت من العمق أن تعتبر “عدم فهم نظرة” هو قمة القسوة (ص174) أو أن يرى الإنفصال بين الأجيال ناتج إما من “مجهول غامض يصنع بينه وبين أبيه وأمه عزلة صارمة، سدودا من الوقاحة والكراهية” (ص175): (الحديث عن حسن الأبن ويوسف يتذكر معنى الإنجاب، وخاصة بعد تذكر ذهاب سعاد بالموت، ثم ذهابه هو بالتدين المتطرف وبفعل ذلك المجهول) فالوحدة هنا تعلن بفقد الأستمرار، هذا الفقد الذى تم بين يوسف ووالده بسبب أن والده عاش حياته تماما .. حتى انقطع الأتصال بين الأجيال، “أبوك هو الذى عاش حياته وحياتك وحياة الناس كلها” (ص348) – وقد رأيت أن هذا شكل آخر شديد الخفاء من أشكال الوحدة، اذ يتحقق بالكمال الذاتوى (رغم صوريته) فيغنى صاحبه عن الاحتياج للامتداد فى آخر، فتتعمق العزلة وتنفصم الحلقات، . وطوال الرواية كلها: لم يهمد الكاتب فى محاولة كسر هذه الوحدة: بالجنس، باللعب، بالصلاة، بالذكر، حتى بالتبول معا ” تبول يوسف وميرزا جنبا إلى جنب” (ص317) – ولكنه كان يعلن اليأس من كسرها فى النهاية، بل لعله أعلنه فعلا.
(4) ضرب الكاتب الحرية فى أكثر من موقع، ولكنه ظل يلوح بضرورة السعى إليها طول الوقت “فكرة المشروع (الرحلة) قائمة على احترام حرية الإنسان” (ص32)، ولكن السجن ذاته قد يكون هو الحرية الحقيقية اذا ذهب إليه الإنسان بكامل إرادته ووعيه، حرية أفضل من الخدع الجارية خارجه “تخرجه من السجن الذى أراده لنفسه، وتقول له أنفض الظلم أخرج إلى الحرية التى أتمتع بها!؟؟” (ص350)، ويطل اليأس من الحرية رغم طول السعى إليها حتى لتقول الرواية أن كل ما هو متاح للواحد منا هو حرية أن يختار نوع الضياع الذى يلهيه (اللعب أم الجنس أم النكوص).
(5) وقد عرج الكاتب إلى أبعاد الدين المختلفة فصور شكله الهروبى فى التصوف، وشكله السلطوى (فى الشيخ عبد السلام صبرى وشقيقه زوج أمه)، ثم شكله الرأسمالى (فى عمر بك السلماوى شيخ الطريقة السلماوية .. وصاحب شركة أراب اكسبورت – لاحظ دلالة الاسم)، وشكله السياسى العنيف (فى حسن والجماعات الدينية) – ولم يصلنى ما وصل لغيرى أى تناول للبعد التكاملى الذى قد يكمن وراء كل أو بعض هذه الصور، لم يصلنى ذلك رغم حديث يوسف عن دين جوهر يتخطى كل الشكليات (ص195) لأنه سرعان ماعاد يضربه أيضا.
(6) جاء الخط السياسى فى الأرضية رقيقا على القارئ دون تشنج، فتناول الأوضاع القبلية والبعدية (للثورة) بنفس الموضوعية الناقدة الأمينة، إلا أن المقابلة بين “قضية” جابى اشكنازى و “لا قضية” يوسف كانت من أذكى الخلفيات وأبلغها دلالة.
****
لا يصح أن نترك هذا العمل – احتراما – دون الإشارة إلى بعض ما وصلنى مما يمكن أن يكون سلبيا، اذ يستحيل أن يخلو عمل بهذا التكثيف من مثل هذا، فقد غاص مؤلفه إلى أعماق لم يكن لينقذه منها إلا جذب “ثقافى عقلاني”، و “مباشرة” “ملاحـِـقة” كلما اهتزت منه المعالم، وقد يظهر ذلك فى ذكر نظريات نفسية بشكل مباشر مثل الحديث عن غليون كريم شاكر (56، 57، 129) أو عن العلاج النفسى، أو الجنس، أو المصحات النفسية (مثل ص 90، 196، 256، 257 إلخ) أو فى شكل خطابى مباشر فقد كان يقطع سياق استقبال رسائل الحدس الأعمق للروائى الفنان، وقد سبق أن تحدثنا عن الإفراط فى الرمزية المباشرة وقد نضيف هنا الفيلم الجنسى الذى كان كوستا يريد أن يصوره مع ليلى.
كذلك جاء تفسير هروب حسن فى التطرف الدينى تفسيرا صحفيا شائعا كما ذكرتُ من قبل، وأخيرا فإن كثيرا من المنحنيات التفصيلية كان يمكن أن تـُـلغى دون أن ينتقص من العمل شيئا (وذلك مثل تعداد درجات ومراحل تطور الداخل إلى الجماعات الدينية، أو مثل حكاية سفر قريب مرزا الفلكى وهو من أدنى فروع العائلة، وعودته لشراء بيوت وثروات الوجهاء من العائلة) (ص 318، 319).
وبديهى أن أيا من ذلك لا يعيب العمل لدرجة الانتقاص من قيمته، وقد تصورت أنهما كانتا عمليتان متكاملتان: حدس غائر مخترق، وثقافة موسوعية وصية، فاذا زادت جرعة الأخيرة على الأولى ظهرت المباشرة، وتعسف الرمز، وإذا زادت جرعة الأولى على الأخيرة زاد الغموض وتضاعف التكثيف، فما أصعب المسيرة وما ألزم العذر.
[1] – كان العنوان الأصلى الذى نشر به هذا النقد منذ أربعين عاما هو “الموت.. الحلم..الرؤيا.. القبر.. الرحم” وهو عنوان أفضل لكننى فضلت اختصاره هكذا!
[2] – Object Relations Theories
[3] – هو الذى اسميته لاحقا “الطور الشيزيدى” لأؤكد فكرة النبض الحيوى واستعادة الأطوار بدلا من مواقع ومواقف النمو.
[4] – وقد يحتاج إلى أن نذكر أن يوسف منصور (53 سنة) حقوقى فاشل، ثم كاتب مسلسلات تلفزيونية تافهة، من عائلة “أصيلة” (حسب القيم القديمة) نشأ فى بيت ممزق من أب غير مسئول وأم غير آمنة، فشل فى الدراسة انتقاما من أمه، ثم فشل فى الحياة ربما انتقاما من نفسه، وفشل فى الزواج يأسا من التواصل، وفشل فى الأبوة انفصالا من امتداده، فقرر – بايعاز من صديق خيالى فى الأغلب، أن “يرتاح” هربا فى رحلة سياحية علاجية إلى مكان مجهول : فكانت هذه الرواية.
[5] -Hamilton Douglas ، (1975) Among the Elephants. The Viking Press New York.
[6] تشير الكتابات القديمة إلى هذا والنص الذى يكاد يطابق الخط العام للرواية “… فقد ترك رجل وظيفة له فى نزوة فجائية، فعبر عن حيرته فى أمر القوى الغامضة التى دفعته إلى فعل لا يستطيع له تعليلا بقوله: “لست أدرى ما الذى انتزعنى من مكانى، لكأنى به حلم، كأن يرى أحد أبناء الدلتا نفسه فى جزيرة الأفيال ” Sinuhe، B 244-.26 مقتطف من “ماقبل الفلسفة”: هـ فرانكفورت وآخرين. Pelican 1954، ترجمة جبرا ابراهيم جبرا (ص91) منشورات دار مكتبة الحياة فرع بغداد (لم يذكر تاريخ الترجمة).
[7] – منذ البداية وقببيل الرحلة: المسرحية باللغة الألمانية (ص 8)، ثم قائد طائرة الرحلة يتكلم باللغة الأنجليزية (ص19)، فى حين يتكلم كوستا الفرنسية أيضا (ص43)، والصحراء عربية لأن السائق يتكلم العربية (ص23)، والخادم آسيوى (ص113) ذو وجه صينى (ص303) واستطرادات تذكر العبرية (جابى اشكنازى) فضلا عن الأشارة المتكررة إلى لغات غير مفهومة (ص6) وغامضة (ص30).
[8] – وأحسب أن المؤلف قد استعمل أيضا “اللعب / المباريات” فى أرضية الأحداث بشكل يشير إلى دلالة خاصة، فهذه مباراة كرة السلة بين الأتحاد السوفييتى واسرائيل قبيل الرحلة (ص 8) تكاد تشير إلى الطبيعة المادية التنافسية لكلا الفريقين رغم اختلاف المواقع.
[9] – على حد تسمية المؤلف لمسار الثورات فى العالم الثالث التى يقودها العسكر منها ثورة يوليو – مقال لـ فتحى غانم عن ”حتمية الحل الديمقراطى” (روزاليوسف 13 يونيو 83، العدد 870)
[10] – In – and – out program (Guntrip). Harry Guntrip, Schizoid phenomena, object-relations, and the self , Published 1969 by International Universities Press in New York
[11] – قلت فى مثل هذا: “أنت تفكر .. فأنت غير موجود، لا تفكر ولكن استعمل التفكير”
– يحيى الرخاوى: “حكمة المجانين” (الطبعة الأولى 1980، والطبعة الثانية 2018) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.
[12]-صدمة الولادة عند أتـُورانك: إذ هى فى حقيقتها صدمة الانفصال): فهى المراهقة: الولادة الجديدة حيث
يتم النمو كما يقول أوتورانك وإريك إريكسون، فى دورات مكررة مع فروق تفصيلية ونهايات متصاعدة، وبذا فان الانشقاق والتعميم المرحليــيــن يتبادلان مع المواجهة ومحاولة الولاف المرحليين أيضا… وهكذا
[13]– كتاب جانترب : “الظاهرة الشيزيدية والعلاقة بالموضوع والذات” Harry Guntrip, Schizoid phenomena, object-relations, and the self , Published 1969 by International Universities Press in New York
[14] – يمكن للإيضاح مقارنة قدرة نجيب محفوظ على استعمال القتل فى أعماله: أنظر “الحرافيش” مثلا أو ”ليالى ألف ليلة” أو غيرها.
تجليات الغوص إلى الأعماق... وبالعكس! فى لـيـل آخــر د. نعيم عطية
تجليات الغوص إلى الأعماق... وبالعكس! فى لـيـل آخــر د. نعيم عطية
مقدمة:
هذه هى المرة الثانية التى أتلقى فيها رواية يقدمها لى كاتبها باهداء يكرمنى فيه بطلب قراءتها كما أستطيع، أو حسب نص الإهداء الحالى:.. راجيا أن يقرأ هذا النص بطريقته الخاصة… الخ، ويصر صاحب هذا العمل فى خطابه الموجز المرفق مع الرواية المهداة أن قراءتى… تتبنى مذاهب النقد السيكولوجى، وقد حاولت أكثر من مرة ان أنفى هذا الزعم، ولكن يبدو أنى فشلت فى ذلك، إما لأنى فعلا اخدع نفسى خوفا من أن أصنف حيث لا أحب، أو أن الرسالة التى أريد توصيلها برفضى لهذا المنهج – كما هو شائع الأن – لم تصل الى أصحابها بوضوح كاف، صحيح أنى أرجع إلى نظريات وأفكار واردة فى تراث العلوم النفسية، ومعيشة فى خبرة الممارسة الطبية النفسية، إلا أن هذا وذاك ليس سوى بعض مكونات قلمى وأعود للتأكيد على أن ما أقدم ليس نقدا نفسيا بالمعنى الشائع، ولكنه قراءة خاصة بما هو أنا… ولكن يبدو أن ما هو أنا سيثبت فى النهاية هو أنه ما هو نفسى (بتشديد الياء) فأمرى إلى الله، دون تسليم بما يفرض على ما أكتب من تسميات.
والأن، إلى قراءة النص:
هو عمل قوى، إن جاز أن يوصف عمل روائى بالقوة أو الضعف، جعل يتحدانى وأنا أمر به أثناء القراءة الأولى، ينتقى الكلمات، ويحدد النقط، ومساحات البياض بين الفقرات، وعلامات الترقيم بحيث لا يدع لمثلى مجالا لافتراض تداع حر بالمعنى غير المسئول، ومع كل هذة الدقة المتحدية، فقد كان علىّ أن اعكف عليه، وأن آقابل تحديه بعناد يسمح لى بالاستمرار جادا متمهلا، وبانتهاء القراءة الأولى… وصلتنى رسالة العمل بشكل ما، أو هكذا خيل إلى، وثارت عدة آسئلة (قبل أن أعاود القراءة مرة ثانية) تقول: لمن كتب هذا الكاتب عمله هذا؟ ومن ذا الذى يستطيع أن يقرأه كما تمنى الكاتب، وكما تمنيت؟ وما دلالة أن تقدم الهيئة المصرية العامة للكتاب على نشره؟ وكيف ظهر هذا العمل فى هذا الوقت بالذات رغم كل شيء؟ ثم أخيرا:
ألا تدل الإجابات المرجحة على هذه الاسئلة مجتمعة أننا نعيش فى عصر فكرى أفضل مما نتصور، وأرقى مما نشجب؟.
ولم لا؟
فليفتح باب التفاؤل على مصراعيه، ولتكن المسئولية متجددة متواصلة.
الجزء الأول: عرض وتقديم
الصعوبة والتعريف:
من الصعب إلى درجة الاستحالة أن يوجز هذا العمل أصلا، فإذا تذكرنا احتمال أنه- فى الاغلب – عمل غير شائع بين القراء أو حتى بين الصفوة المفكرة.. لوجدنا انفسنا فى مأزق لا خلاص منه إلا بالمحاولة غير المحسوبة.
1- بداية فهذه الرواية تكاد ألا تكون رواية أصلا، فليس فيها حدث بالمعنى التقليدى، إذْ ليس فيها بطل فرد رغم أن كاتبها اسماها مونولوج داخلى طويل([1])– لا لم يصلنى أنه مونولوج وإن وصلنى أنه داخلى، ولم يصلنى آنه طويل بقدر ما وصلنى أنه عريض فى تكثيف متشابك عنيد، حيث تفكك بطله الى عوالمه الداخلية حتى لم يعد فردا ثانية إلا قرب النهاية، ربما داخلى، وإن تأخر الإعلان الصريح المباشر عن هذه الحقيقة الى (ص 145) ([2]) “لا شىء من الخارج، كل شيء من الداخل، لا شيء من الخارج ” لكن السائر فى الرواية طولا وعرضا لابد آن يكتشف هذة الحقيقه منذ البداية (ص 6) ([3])..، آغلب الظن آننى على عمق كبير تحت سطح الارض” ثم صفحتى (36، 37 ) أرأيتم كم نحن غير قادرين إلا ان نحتمى بقشرتنا القرنيه، نتكور بداخلها، أما عن تفاصيل التفاصيل (والروايه كلها تفاصيل ) فحدث عن السراديب والدهاليز والثقوب والوحوش والحشرات والشخوص والمطاردات بل والموت داخل الداخل دون حاجه الى ذكر أمثلة وإلا سردنا الرواية كلها بلا نقصان. فهل يا ترى هل يصح بعد ذلك أن نطلق على هذه الروايه اسم تيار الوعى آو اللاوعى؟ وهل يصلح الاسم الذى اقترحناه بديلا لهذا وذاك وهو: تعدد مستويات الوعى([4])؟… ليكن.. رغم أن الاسماء فى مثل هذا العمل تَحُدّ.. ولا تفيد كثيرا.
والأن، لنصنع من الرواية حكاية ما:
2- الرواية تبدأ بتوقف الزمن (العادى) (تعطلت ساعتى ص5) مع بداية المحنه ليجد الراوى نفسه على عمق كبير تحت سطح الارض، وهذا التعبير بوجه خاص يعلن عندى الانتقال إلى الوعى الغائر، ([5]) أو بالتحديد عن رفع الغطاء فاذا بالتحت يصبح هو العالم: المحنة طوال الرواية، وهى يكاد يؤرخ بها لسائر الأحداث باعتبارها الحدث الحاسم الذى لقى نفسه فيه، وهى تسمية ذات دلالة لأنها تشمل الاختيار، والنظر معا، أو قل هى تشمل امتحان وجودى عنيف نتيجة لما فرض على صاحبه من إعادة النظر، ويذهب الراوى يحكى أكثر فأكثر عن منطقة حركته الدائرية، وعن البحث عن خلاص بلا جدوى، وعن ضرورة اجتياز الهوة.
كل شئ يبدأ، كما انتهى، بهوة يجب اجتيازها (ص17)..
3- ثم ينتقل بعد ذلك بما يشبه الاسترجاع ([6]) محاولا أن يستدل: لماذا اضطر إلى خوض هذه المحنة، فيحكى أنه لم يولد الا ليعرف ويكتشف، والا لماذا ولدت(ص43)، وأنه فى سبيل ذلك اعتنق “الحركة المعايشة” وليس مجرد ” الحركة الموحى بها ” (ص46 ) الا ان حتم الحركة وديمومتها لم يمضيا به هونا على طريق الاكتشاف المبدع بالحكمة الرزينه بل التقيتا به آبعد من كل شيء حتى حافة الجنون ذاته، وبدا أنه قد يطيب له أن يدفع الثمن الغالى اذا لم يكن ثم بديل الا خطيئة التوقف ” إن آلهة الجنون ذات العينين الواسعتين والشعر الاشعث ترى ما هو أبعد مما تراه الحكمة” (ص46) وهو يمضى فى إدراكه المبدع للاشياء كلها بانبهار متصل يعيد تخليقها.
4- ولكنه يُجر (بضم الياء) الى خطيئة السعار التنافسى اليومى وبشجاعة يعترف ان هذا الانحراف هو مسؤليته “وحدى ارتكبت خطيئتى، كنت دائما اتعطش الى الفوز فى السباق كنت اريد دائما أن أسبق الجميع، لأن أسبق كل شىء، بل وأن أسبق نفسى ” (ص51) وينبع هذا السعار منعدم الامان الغائر، الذى أدى إلى هذه الوحده المطلقه، ثم إلى التسطيح والاختباء حيث كانت الوسيلة الأولى والأرجح هى: ”السباحة الخارجية من أجل نشر الغطاء ” (ص54) فلتقم حيلة الكبت (وأخواتها) ومكاسب النجاح بواجب الإخفاء المناسب حتى يستمر السعار مدفوعا باللاأمن، ولكن من يضمن ضبط الجرعة ” فقد يؤدى الأمر إلى انتشار الظلام وانطماس الحقائق كلها “ (ص 55)، وقد كان:
5- فى محاولة اندفاعية للخروج: لاح الأمن فى رحاب الأخرين حول فناجين القهوه “وعلى الفور بدأ السعار فى الجوف ينخفض” (ص 55 )
6- لكن يبدو أنها كانت محاولة مجهضة أو خادعة، أو أنها حفزت إلى مستحيل أخر: مزيد من المعرفة والكشف وليكن ما يكون، حقا إنها محاولة انتحارية، والذى يبدأ لا يضمن أين تنتهى، وكشف الغطاء عما سبق تغطيته (بالحيل والإدراك المحدود) لم يعد يكفى، ولابد من الوصول إلى الحقيقة الأخرى أو المطلقة، لكنها – على ضخامتها – لا منفذ اليها إلا ثقب صغير ولابد أن يضيع هذا الثقب وسط المعاول التى تضرب فى الهواء وخلف الأبواب التى لا تؤدى إلى شىء فهى أبواب وهمية.. وتحت قباب هوائية (ص 56)، بين زحمة السدادات وآثار اعمال الحفر، وينتهى البحث دون أن ينتهى الامل فيتزود الباحثون بآلة البحث التى تـَـقطع ولا تـُـقطع (بضم التاء) ” بقعة لامعة من الضوء كالماسة الهائلة” (ص 58)، وقد تكون هذه الماسة هى ما اسميته من قبل غريزة المعرفة ([7])، التى تشير الى التوق الدائم إلى مواصلة الاكتشاف، والتى إذا نشطت وبدأت فى عملها فلا راد لها إلا الموت (بأنواعه).
7- ويتوقف التسلسل من جديد ليرتد الراوى الى أصل سابق مما قد يكون قد هيأ للمحنة، وهو من بعض مضاعفات الوحدة واللآ أمان حيث يعلن الراوى كيف شعر (أو كان يشعر باستمرار) – حتى من ابنه – بأنه غير مرغوب فيه وهو يتعجله – مثلا- ليوصله الى المطار ( ليتخلص منه، هكذا استقبل لهفة ابنه على توصيله) من أجل نزهة يبيعك؟ أحساس بأنك غير مرغوب، اخلاء البيت منك امر مبيت (ص61) ويمضى وحده باحثا عن بدائل، عن تلاهى، وعن صحبة فى السفر أو فى غيره، وعن نداء من الصيف المقابل، من أى أخر كان، ولكنه يمضى آبدآ فى “انتظار ما لا يجىء”(ص 67).
8- ويبدو انه قد تضافر نشاط بقعة الضوء الماسية (غريزة المعرفة) مع الحركة الدائبة (حفزالنمو المتصل) ليوصلاه الى المأزق ” المناسب” رغم غرابة الوضع “كانت الحركة الآن قد اوصلتك الى وضع وجدت فيه نفسك تتدلى ورأسك الى أسفل، وهذا من أفضل الأوضاع على أى حال ” (ص 69 )، ومن هذا الوضع المقلوب يمضى الاسترجاع ( الفلاش باك ) إلى تاريخ البشر، لا الفرد فحسب، فتعرض له صور مشابهة من الاساطير وغيرها لازمة “فرط الحركة ونهم المعرفة“
9- لكن الراوى يكتشف ثانية – وياللأسف – أنها مجرد حركة تملأ فراغنا (ص79)، ففيم المغامرة؟ وفيم التوق؟ أن الانتقال ليس من الحيز الذاتى المحدود الى المطلق الكونى المتناغم وانما هو من صندوق سجن الرحم إلى صندوق سجن الحواس، أو من وصاية الأم الى وصاية الناس…. الخ “انفتح الصندوق فجاة، ودُعينا للخروج إلى صندوق آخر” (ص 81 ) قد يكون ما أثار هذا الحدس هو نقلة فعلية من طائرة إلى أخرى أو من طائرة إلى مطار، لكن المعنى لا يخفى، بل إنه قد عبر مباشرة عن ذاته المحدودة بتعبير الصندوق ”أنت هذا الصندوق” (ص29)
10- ويظهر أمل فى خلاص منظم آخر فليلجأ صاحب المحنة وشريد المتاهة إلى القلم، يكتب فيبدع فيتواصل، فيكسر الوحدة ويسعى الى المعرفة فى ألا “تستسلم وهل لك غير أوراقك وقلمك” (ص85) ثم “من اجل الخلاص فليكن قلمك وليس من اجل الجمال فحسب” (ص86) هنا تظهر وظيفة الإبداع ممثله فى اللجوء الى الكتابة للخلاص، ولكن الأمر لاينتهى بهذا الحل الوديع، فالابداع (الحق ) “يفجر طاقات العدوان، وفى نفس الوقت يروّضها”، ولكنه ليس بديلا عن مواصله البحث عن الحقيقه مهما بدا ثوريا عصريا (86)
11- ويعود البحث من جديد، والركض والمطاردة، وتـُرفض (بضم التاء) قيم السعاده الظاهرة (الزائفة)، ويظهر البديل الحقيقى فى سعادة الجلْد والمثابرة مهما أحزنتنا الرؤى وصدمتنا الحقائق أتعرفون ما السعاده حقا؟ هى أن تكون لديك القدرة على الاحتفاظ بحزنك، رغم كل شىء على الاحتفاظ بحزنك شامخ الأنف، أبيا، (ص94) ويلطف حدة الوحدة واللا أمن لمسات ذكرياتية من حنان الوالدين، ويوصيه احدهما بما يدعم قراره إلى طريق الخلاص الجديد.”…تشبث بقلمك جيدا وبأوراقك، ضمها إلى صدرك ولا تترك الريح تخطفها منك وتذروها بددا” (ص69،97)
12- ومره أخرى، لا يمكن ضبط الجرعة، فالإبداع (الكتابة) يحتاج الى شحذ أداة الإدراك الخلاق، وحث حفز الحركهة التوليفية، ولكن لا هذا ولا ذاك يمكن ان يدار أثناء ممارسة فعل الإبداع، ثم يغلقا بعد ذلك كما كانا قبله، فالحس المتيقظ بإفراط يلتقط كل شىء، والنوم متعذر، ”والقلم لايمتص كل طاقه الحركة وتوق المعرفة” (ص102،101، 103 )، ويأتنس – مؤقتا -صوت أغنيه حنون ويكاد يطمئن لخياله.
13- وتستسلم له أحلامه أو أنثاه: “أما استسلامها فهو النعيم بعينه” (ص107 ) فتملؤه القدرة بلا حدود “وهل لها أن تقاوم سيدها وربها الريح فى شىء” (ص108) ولكن …دائما لكن: يتكشف الأمر عن حرباء قاتلة ملتهمة، وتختلط الصورة بين الوجة الآخر للأم الجافه العجفاء، وبين الزوجه أو الرفيقة الخادعة وكلاهما يعلن الجوع غير المروى من أى مصدر، ولا حتى من الله أو من داخل الذات: ”قال احد الجالسين بالمقهى أنه يكلم امرأته وقال جاره بل أمه وقال آخر بل ربه ورابع قال أنه يكلم نفسه” (ص110) ولا منقذ إلا اسفنجة مغموسة فى مداد يشرب منها وكأن المداد قد صار البديل عن اللبن المفتقد من الثدى الجاف (القاتل)، وماذا يفرز المداد إلا الكتابة؟ فلتكن أنينا يملأ القلب شجنا، وليسجل على شريط، ولينتقل إلى الناس، فيرتوى رضيع المداد إذ يغنى للآخرين لحن الحزن من فرط الوحدة والرؤية، وإذا لم يرتوِ وهو يروى فليألف الصيام، ولتلتحم الضرورة بالإرادة!! (ص111).
وهكذا يقاوم الفناء بأية مثابرة على الحركة: “ولو بين هلاك وهلاك نتأرجح” (ص 112)، ”بل انه يبرر الاقتتال فى سبيل رشفة بقاء” (ص 113)، ”وهو الذى أفتقر الى طاقة العدوان فى بدء محنته” (ص 36).
14 – ولكن يتضاءل جدوى هذا الحل أيضا ويبدو أن التسليم للضياع، أو الاختباء فيه، أمر لا مفر منه “كل منا أضحى ذرة فى سحابة دخان، هذا هو البديل الذى كى ننجو: تحولنا اليه” (ص 116)، إذن: فهو العدم أو شىء شبيه به، ولكن أين الحركة الدافعة والتوق المكتشف؟ “وتقل قدرتنا على الاندفاع، فنفيض على الجانبين، ونتبدد فى هجير البادية” (ص 117).
15 – لا.. لا !! ليست النهاية بعد، فمصدر الهلاك هو نفسه مصدر الخلاص، وإذا كان الإبداع بالكتابة لم يلق من يتلقاه مثلما ضاعت المياه فى هجير البادية فإن التراجع والنكوص الدائمين ما زالا مستحيلين، والدفع إلى الأمام قد أصبح حتما بلا بديل، إذ لم تعد ثمة أرحام تقبل أو تنتظر خرجت من رحم مات لحظة ولادتك، وحاضرك رحم يلفظك ويموت أيضا (ص120)، والعجيب (ظاهرا) أن هذا الدفع إلى المستقبل يتولد من حتم الموت المـُـلاحـِـق، وموت البنت هنا يشير – أيضا – إلى أن المستقبل نفسه يصبح ماضيا يتبدد.
16 – ويلوح طيف خيالى، أو حقيقى حقيقة هى الخيال، بديلا عن العجوز العجفاء، وعن الجسد التراب، ولكنها (الطيف أنثى) تظل على مسافة، تحافظ على فضوله، وبالتالى على حبه، وتدعوه إلى الآن بمحو ذاكرته، ولكن دون جدوى.
وتعود العزلة تفرض نفسها رغم كل محاولة “إنى اغرق، أقطع الروابط بالآخر، وأنفرد بالنفس فى صمت مطبق، أنا وأنت، منفى كل منا عن الآخر” (ص 130) وبعد قليل “ألبس القناع، لا للتجميل والأناقة بل لمنع الاتصال” (ص 130) ويذكرنا ذلك بالمشكلة الجوهرية التى أعلنت فى بدايات الرواية: “كنت دائما غير قادر على التلاقى” (ص 22) وكأن الحلقة ستغلق أو تكرر نفسها: “أسألك ما نهاية الليل؟ فكر. ليل آخر؟” (ص 131).
17 – ويبدو فى الأفق حل أبسط، وربما أنجح، يتمثل فى العودة إلى الوعى الهادىء المثابر بممارسة الأشياء الصغيرة وإعطائها حق قدرها، فليشحذ الوعى فى اتجاه كل الحياة بما تتمثل فى أبسط صورها، وليكف عن الشطح فى اتجاه المطلق، وعن الانسلاخ، ولنتقدم اليهم لنقتحم الآخرين وجها لوجه بلا أعذار، رغم احتمال الطعن “بل إننى أفتح صدرى وأقول: اضربوا هنا.. لا أريدها فى ظهرى” (ص132).
18 – وبعد هذه المواجهة الشجاعة، يتخلص صاحبنا من تكثره وتعدده على حساب أى أحد، على حساب الابن والابنة (فى الداخل أصلا) وعلى حساب المرأة (وهو الأهم) آن الأوان تخرجى أيتها المرأة الشريرة من داخلى (ص 133)، فيتوحد، يصبح واحدا فقط، فقط، حتى لو كان هذا الواحد ليس هو، (بل هى المنتصرة)، المهم أن يرجع واحدا (ص 133).
19 – واذ تتحقق هذه الواحدية المصنوعة من جديد تظل الحقيقة منفصلة عنه، لكنها مواكبة راسخة فى صورة كيان دائم أبقى من كل فرد، مهرها غال، لكنها تستاهل، فصل بأكمله (فصل 16) (ص 135 – 142) وهى (الحقيقة) تتحدث وتتحدى وتتجاوز وتخلد، فهى تظهر فى أفراد، ولا يظهرها الأفراد!! “وعندما تشارف النهاية لا تتعجلنى، فعلى هناك ان اخلع نعلى، وان أتطهر من أدرانى ومنك، وذلك قبل أن أستريح لأمضى فى الطريق ابحث عن غيرك، ربما بعزم أشد، فالعود أبدي…” (ص141).
20 – ويظهر الطفل المقدس أيضا بكل القوة والجبروت، وكأنه التكامل فيما هو الله، ويكاد المثال يغلب الواقع فالأحلام تخيف اليقظين (ص 144)، ويعلن أن المبدع ليس الا وسيلة لتجلى المطلق فيما يبدع. “اتخذنى قلما واكتب بى أقوالك” (ص145).
21 – ولكن…!.
(نعم نفس اللكن).
تأتى النهاية ليولى الجسد (الفرد) صوب النهاية المحتومة (طريق أمه)، وتبقى الروح المطلق صانعة التجديد، فيكاد يستسلم دون اعتراف.
بعد هذا العدو اللاهث بين السطور والرؤى، قبل أن ألتقط أنفاسى أقول عذرا، فقد كان على أن آقرأها – مع القارىء – بهذه العجالة التى لابد قد قفزت فوق تفاصيل غاية فى الأهمية، ولابد أنها تعسفت فى الاختزال، ولابد انها تطاولت فى التفسير، ولكنها قراءتى الأولى على أى حال، يقبلها القارىء أو لا يقبلها، بل يقبلها الكاتب أو لا يقبلها، ثم نبدأ فى اختيار بعض جوانب هذا العمل القوى الشديد التكثيف، كمجرد نماذج لوقفات نرجو معها أن تلقى بعض الأضواء عليه، أضواء تكمل – وربما تناقض – هذه الإحاطة الطولية السريعة، وهى مجرد عينات، ففى يقينى أن مثل هذا العمل يمكن أن تستغرق قراءته وتفسيره أضعاف حجمه، فسيظل بابه مفتوحا لكل مفكر سائح جاد متجدد.
الجزء الثانى: مسائل ومواقف
1 – تجربة أم حكاية:
توقفت فى العرض والتقديم عند صفة هذا العمل، وهل هو رواية أم غير ذلك، ويبدو أن صاحب العمل قد توقف مثلى فأعطى المحتويات اسما آخر كما أشرنا: هو مونولوج داخلى طويل، وهنا أكرر أن هذه الدراما الأحادية (الموندراما) هى تجربة معيشة أكثر منها رواية حكاية، وأن بطلها ليس واحدا، وانما هو كل الآحاد والأشياء التى احتواها وانطلقت منه فى هذه التجربة، وربما كان هذا المدخل مثل بعض مدخلنا الى أفيال فتحى غانم، وقد يظهر لأول وهلة احتمال التعسف فى تكرار هذه المقولة، ولكن يبدو أنى منشغل بها لدرجة تلح على أن أسعى لكى يشاركنى قبولها القاريء والكاتب على حد سواء، كما يحتمل أن تكون هذه المقولة – الآتية اصلا من ممارستى مهنتى ومن ذاتى معا – هى التى تجذبنى إلى قراءة نص مثل هذا النص دون غيره، ولكن: ما باليد حيلة، هذا ما رأيته وأراه: تفكك صاحبنا فى محنته، فتوقف الزمن، وأغلقت الدوائر، وانطلق المحتوى، وحكيت التجربة، فكان هذا العمل، سواء كان اسمه رواية أو مونولوجا أو أى شى آخر، المهم أن السؤال الذى يلح علىّ فى كل مرة هو: كيف عاش كاتب مثل هذا العمل هذه التجربة؟ ذلك أنه من المستحيل أن ينسجها خيال كاتب، أو يؤلفها قلم عالم جامع مهما جمع، هى برأيى تفجر داخلى لا يعرفه إلا صاحبه، ولا يسجله الا مبدع قادر عليه، وقد يتصور البعض أنى بهذا أصر دائما على أن يكون الراوى (البطل تجاوزا) هو الكاتب نفسه، وهذا صحيح من بُعْد بذاته، وهو أن الكاتب الذى أعنى هو والد العمل وحاضنته، وليس الكاتب الذى أعنى هو نفس ذلك الشخص العادى فى سلوكه اليومى المعلن، فهذا عمل من الأعمال التى تستحيل كتابتها الا لمن عاشها، أو عايش من عاشها باحتواء وتقمص كاملين، ثم أحسن نسيجها وتوليفها كما قدمها لنا فى هذه الصورة، إذ من أين له كل هذه الإحاطة بالداخل كما هو، نعم كما هو، ومن أين له استيعاب حقائق وطبيعة علاقات التركيب البشرى الغائر: بكل هذه الدقة التى لا يعرفها دارس النفس المنهجى؟ بل إن الدقة تتعدى المعروف إلى اكتشاف ما يمكن أن يضاف إلى علمنا عن النفس، ولو استسهلت الأمر – مثل زمان – لذهبت أضع تشخيصا مسطحا لبطل هذه الرواية وهو الاكتئاب، مستندا ابتداء إلى ذكر عقارين (صفحة 126)([8]) لا يعرفهما إلا طبيب أو مريض يتعاطاهما، فهما من مضادات الاكتئاب الخاصة جدا وليسا من المهدئات الشائعة، ولكنى ارفض هذا القفز المسطح، وأصر على تناول التجربة بما تحوى، لا بما تسمى، فالمهم فى هذه التجربة أن التفكك الذى حدث للشخصية هو تكثر ومواجهة بين الكيانات التى دب فيها النشاط، وليس تناثرا واغترابا بين أجزاء الذات إذْ تفرقت، والفرق هو الفرق بين تحريك وحدات التركيب البشرى نحو إعادة التنظيم فى الإبداع أو النمو مارا بمحنة مُفترقية ، قد تسمى مرضا إذا أجهضت أو تدهورت، وبين التمزق السلبى العاجز فى شكل المرض من البداية، وهى محنة لأن بداية المسارين واحد، ولا يعلم الذى يبتلى بهذه التجربة الرائعة إلى أى مصير سينتهى، وحين تتفكك الذات إلى وحداتها ومحتواها: يصبح لكل شيء كيان حيوى نشط: حتى الجماد، حتى المجرد أو الزمنى (الموت ص 7، والليل ص14)، وهذا ما يفسر هذه الوفرة الهائلة فى حركة العيون والناس وعناقيد النجوم والأبواب والأقبية والسراديب والدهاليز وكل شىء، كل شىء، كان يفسر العلاقة الحيوية بين هذه الوحدات المستعيدة نشاطها، فهى ليست فى حالة تجاور مرصوص بل هى مع بعضها علاقة مركبة تشمل الالتهام “عوالم تتغذى على عوالم كى نحيا”([9]) (ص 8)
ووسط هذا الزحام المطلق تتضاءل الذات الأولى (التى كانت واحدة قبل المحنة)، فلا تعود هى مركز الكون فهى تكتشف أنها ليست ”سوى حصاة صغيرة ملقاة على شاطىء مترام لا يعرف له نهاية” (ص 6) “بل هى مجرد ذبابة وقعت بين أوراق ندية”(ص 8) أو علبة صفيح فارغة فى جوف نعامة (ص8)، يحدث هذا كله نتيجة لإعادة النظر، لأن المعرفة القديمة (المحدودة) لم تعد تصلح لإضاءة الوعى، “أنا فى ظلام”(ص 9) “والمعرفة الجديدة أشد من أن توضح الرؤية ضوء باهر يغرقنى”(ص9)، إذن فهو ليس بضوء ظلام، ظلام باهر (!!) ”لا ليس ضوءا. أين أذهب ! ضوء باهر. أنا فى ظلام. ظلام باهر” (ص 9).
وتبلغ حدة الدقة فى وصف المحنة أن يختلط الداخل بالخارج بحيث يصعب التمييز والتفكك، وتضاؤل الذات (القديمة) تصاحبه تعرية تجعل صاحبها عرضة للاقتحام والكشف دون استئذان، ودون تحديد مصدر الإغارة (ص 10)، وهو لا يميز ما إذا كان هو بداخلهم ام أنهم هم الذين بداخله “ربما كنت بداخلهم. ابتلعونيى” (ص 11)، هذه حقيقة أخرى لا يعرفها إلا من يعيشها بلا نقصان.
هذا بالنسبة للتركيب وتداخل مكوناته، أما بالنسبة للحركة واتجاهها، فان الوقوف عند تعبير من بضع كلمات تتخللها شولتان وتنتهى بنقطة يجعلنا نحنى هامتنا احتراما لهذه التجربة، وشكرا لصاحبها، وتعاطفا مع ما عاشه بسببها، يقول: “كل شيء يبدأ، كما انتهى، بهوة يجب اجتيازها” (ص 17) ولو توقفت احكى عن هذه البداية المماثلة للنهاية، وعن طبيعة هذه الهوة فى مسيرة النمو، وعن وجوب اجتيازها ان كان للنمو أن يستمر فى دوراته، لاحتجت كتابا بأكمله يشرح ما فى هذه الجملة من دقة وعمق، وكما ذكرت فإن ما تحويه مثل هذه الجملة من طبيعة قفزات النمو النوعية الحتمية([10])، والمشى على خيط الصراط فوق هوة الجحيم، ووجوب اجتيازها وإلا.. ليس واردا هكذا فى الكتب النفسية، فمن أين لصاحبنا به؟ نعم من أين؟ أرجو أن يصدقنى احد.
المهم، فإنه بمجرد استتباب بداية هذه المحنة تبدأ – وفى نفس اللحظة – محاولات العودة (بلا طائل عادة)، “اليس ثمة وسيلة؟ حبل طويل مثلا؟… سلم نجاة؟…الخ”(ص 12).
ومحاولات العودة تصاب عادة بإحباط شديد متكرر، لأنها تمضى عادة فى عكس الاتجاه، ففى الوقت الذى يشعر فيه أنه “ها أنا أصعد، اخرج باحثا عن مخرج”(ص13) لا يمارس الا الحفر (الى أسفل)
وتبلغ دقة معايشة التجربة أن نرى فى ذوبان الذات الفردية فى بحر الظلام، ولادة ذات أشمل، قادرة على أن تضىء الكون رغم جوهرها الذاتى المظلم، وهذه التجربة الدالة على امحاء الفردية على حساب الكيان الواحدى لصالح الذوبان فى الكون (نجما أو شمسا تضيئان وهما ظلام) هى من أخص صفات ما أسماه الكاتب المحنة، إذ ماذا يعدل الذات الفردية المحدودة مهما أضاء البديل الذائب فى الكون؟ ولكن بعد التجربة، يشك صاحبها فى ما كانته هذه الذات الفردية المستقلة، حين كانت جسما غريبا (مصدرا للشقاء) “هل كان لشىء وجود يوما؟” (ص 133) والى هنا أتوقف عن المضى فى اثبات أنها تجربة معايشة وليست مجرد خيال منسوج، وهل الإبداع، أى إبداع، إلا تجربة معايشة بشكل أو بآخر؟.
وقبل ان انتقل إلى الفقرة التالية أود أن أشير الى نجاح الكاتب – رغم موسوعية ثقافته التى تطل فى السطور وما بينها – أن يمنع فى أغلب الأحيان وصاية معلوماته المسبقة على حدسه المكتشف.
2 – التكثيف والضمائر:
نقول إنه الداخل، وأنه: لا شىء فى الخارج، ونقول إنه التفكك فالتكثر، دون التناثر والتمزق، فمن المتكلم؟ ومن المخاطب (بفتح الطاء)؟ ولمن ضمائر: هم، انتم، وأنت، وأنت (بكسر التاء)، ونحن؟ أن هذا العمل الجاد يتطلب من قارئه يقظة تقارب يقظة كاتبه، وإلا انقطع الخيط بينهما، ويبدو أن الكاتب قد قصد إلى ما فعل، فما كان أسهل عليه أن يضع شرطا (بضم الشين) قبل نقلات الحوار، لكنه حوار داخلى، ليس استبطانا ولكنها معايشة الداخل اذ تكثـَّـر نشطا، فهل خشى الكاتب لو حاورت الذوات المتكثرة نفسها بتحديد صريح أن ينسى القارىء أنه مونولوج؟ ربما، أم هل يثق الكاتب فى قارئه الجاد أن يبذل جهدا مقابلا، فيتم التواصل بأشرف ما تكون المعاناة؟ ربما، المهم أننى سأقوم بعرض مجرد أمثلة لهذا التحدى المبدع نتأمل فيها الدقة والألم جميعا:
(أ) تبدأ الرواية بضمير المتكلم “لم أعرف… أدركت أنني… نقبت.. دققت… الخ” (ص 5).
(ب) قبل نهاية الفصل الأول يظهر ضمير المخاطب.. انتبه. ”ها هى الحقيقة… ستصبح انت ذاتك ضوءا… الخ” (ص 15، 16)
والنقلة بين المتكلم، والمخاطب تشمل نقلة نوعية فى الموقف، ففى حين أن المتكلم يشير الى الذات التى نسيت، أو أقصيت(!!) حيث القيت فى المحنة (مبنى للمجهول)، فان المخاطب (هنا) يشير الى الذات التى سوف تشرق فى المستقبل بعد أن تذوب فى الكون (الجميع)، ولنذكر دون تفصيل ان الحوار ليس بين هذه وتلك، فالذات الثانية لا تخاطبها الأولى، ولكن الذى يخاطبها هم “نحن” لا تسال من نحن، يكفى أنك لن تكون القلق المكتوم الذى يصرخ فى طواحين المنفى (ص 16)
وهنا تجدر الإشارة إلى انه منذ الفصل الأول: والحل – رغم تذبذبه وفشله – يعلن نفسه، انه لا خلاص لأزمة الـ “أنا” إلا فى الـ ”نحن”، ولكن يا ترى هل يتم ذلك على حساب الأنا.. أم من خلالها وبها؟ لقد اهملت الرواية توليد هذا المسار، فحل محله بديل منفصل عن “الذات”، وعن ”النحن” كما سنرى.
(ج) إلا أن الإشكال يتجسد حين يستعمل نفس الضمير فى مواقع أخرى، ليشير الى شخوص اخرى، فـ نحن التى استعملها مثلا فى الفصل الخامس (ص 50) ليست هى نفس الـ نحن التى أشرت إليها حالا… كان لنا تصوُّرنا للعالم…، نحن هذه ليست سوى أنا وهو يعمم خبرة النشأة حيث قد يجرى على غيره ممن هو مثله ما يجرى عليه “أقول كان لنا تصورنا للوجود، كان لى تصورى للوجود” (ص 50).
نفس الشىء يتكرر بالنسبة لضمائر المخاطب، والمخاطبة، فتتبدل الأدوار باستمرار، بحيث يحتاج القارىء ان يراجع الأمر مرة ومرات قبل ان يتبين مَـنْ يخاطبَ مـَـنْ.
وقد يسأل سائل، لماذا هذا العنت كله؟ ألم يكن الأولى تحديد الشخوص – حتى ولو كانت داخلية – مثلما فعل فتحى غانم فى الافيال أو محفوظ فى رأيت فيما يرى النائم وغيرهما؟ والاجابة ليست سهلة، ولكن لنحاول: أولا: أن عدم التحديد هو من صلب طبيعة مثل هذه التجربة، وأى اختزال للموقف قد ينتهى إلى تشويه لا يحبذه المبدع. وثانيا: إن المبدع نفسه حين يصدق فى وصفه لا يستطيع أن يتبين تماما التحديد الذى يتمناه القاريء، وثالثا: إن المعاناة التى يعانيها القارىء خليقة بأن تفتح على كل قاريء بتفسير قد يختلف عن غيره، وقد يصدق تفسير أى قارىء أكثر من تفسير قد يختلف عن غيره، وقد يصدق تفسير أى قارئ أكثر من تفسير الكاتب أو الناقد، فيصبح العمل مسقطا لكل قاريء يبدع من خلاله نفسه كما يشاء - أو كما يستطيع – الذى احذر منه حتى الرفض: هو هذا الاسم السخيف اللامعقول، فلا يسارع أحدهم فيطلق على هذه المعاناة لا معقولا لأنه لم يعقله (يفهمه) بقياسات منطقه الثابتة الجامدة، فلا أحسب ان كاتب هذا العمل قد أطلق كلمة واحدة أو وضع شولة واحدة أو نقطة واحدة إلا بالتزام محسوب، فأى لامعقول هذا؟
3 – إدراك… و.. إدراك:([11])
من الصعب ابتداء أن تتسلسل الاحداث (أعنى التغيرات – فلا أحداث) تسلسلا زمنيا على أى درجة من اليقين، فهذه المحاولة المحدودة بظروفها وظروفى تحتمل أى احتمال إلا الجزم واليقين، فليسمح لى القاريء، وليعذرنى، وليحاول:
هذا الداخل الذى تحدثنا عنه (والذى افترضنا أنه هو الرواية) من أين يأتى؟ إن له مصدرين أساسيين: موروث متكاثف متداخل جاهز للتفكيك وإعادة التنظيم، ومدركات منطبعة متمثلة جزئيا أو غير متمثلة أصلا، (جاهزة أيضا بالتفكيك، فإعادة التنظيم فالتفكيك… وهكذا) – وهذا المصدر الاخير هو ما اعتنى به هذا العمل عناية مطلقة،([12]) ولنبدا من البداية (كما حاولت تحديدها دون إلزام) لنرى كيف كان موقف صاحبنا من استقبال العالم من حوله، وكيف كان ذلك تمهيدا للمحنة، وكيف تحورت هذه الوظيفة بالمحنة، وما المخرج المحتمل:
(أ) الإدراك الخاص المبدع:
منذ الولادة – وربما لهذا ولد – وصاحبنا لا يكتفى بالمحسوس، ويصر أن يتساءل عن الماوراء وماذا وراء هذه السحب؟… وماذا وراء السماء يا ابى؟… وماذا وراء الفضاء يا أبى (ص44) وعادة ما تقابل مثل هذه الأسئلة بالرفض أو حتى القهر، فيساعد ذلك فى ضبط عملية الادراك فى حدودها الشائعة، ولكن الذى حدث هنا غير ذلك، فقد وافق الوالد على إذكاء نار التوق الدؤوب، هذا الصبى سأنذره لأسفار بعيدة، ولهذه الموافقة دلالة خاصة فى حدوث المحنة فيما بعد، المهم هنا أنه- بموافقة الوالد- أطلق لخياله العنان من ناحية (ص47) وأخذ يدرب إدراكه على تشكيل محسوساته كما يريد ويستطيع، لا كما يُفرض عليه فيستجيب “اكتشفت من معاينتى للأشكال المحيطة أوجه شبه وثيقة بين أشياء هى فى ظاهرها على غاية من الاختلاف والتناقض، السـُّـحب فى الصباح تتخذ شكل الحصى، والأمواج بين الصخور شكل الأصداف والقواقع، والشمس عند الغروب نار موقدة، وردة حمراء كبيرة، مروحة من ريش أبيض غمس فى دم الوجود” (ص48) هذا شعر الكبار أليس كذلك؟ قل معى، نعم، لكنه هنا إدراك الصغير، انه لا يتخيل ويعيد التشكيل، ولكنه يكشف من المعاينة، وإدراك بهذه الصورة لا يثبت الأشياء المدخلة الى وعينا فى مواضعها مثل سائر الناس، وإنما هو يعبيء الذات بمحتويات مستقلة نسبيا متحددة قلقة، لابد وأن تنتهز الفرصة فيما بعد لتستعيد نشاطها فى محاولة إعادة تنظيم وتركيب توليفات جديدة، ان هذا الاستقبال الخاص للوجود، هو الذى يحفز التصور الخاص: للوجود، فيهييء للمحنة (ولكنه ليس سببا لها وحده)، أليس هذا نص كلامه “كان لى تصورى للوجود، وهو الذى أتى بى الى هنا، لكنى لا أعتقد أنه السبب الحقيقى فى محنتى” (ص 50، 51).
(ب) سجن الادراك: ومحاولات القفز لتجاوزه
لكن المسألة لا تمضى هكذا، فالمحظورات متعاظمة عندما تقترب منها تنطلق صرخة، وربما أصابتك عضة، مثل شرك يطبق على ساق فريسة([13]) (ص27)، لكنه لا يستسلم أبدا لأنه يعلم أن المسألة لا تقف عند هذا الحد “كنت موقنا على الدوام أن الوجود غير محصور فى إدراكنا” (ص35)، ويحاول القفز فوق الحواجز، “لكننى كنت على الدوام لا أخرج، فما لم يكن مدركا، ما كان خارجا بالنسبة لى يصبح مع تقدمى إليه واكتسابى له جزءا من إدراكى، وهكذا يلاحقنى إدراكى، بل وكان ينمو ويكبر.. (ص35)…،… انى للأسف جثة تتضخم” (ص 36)– وهو يعلن بهذا الوضوح أن احتواء الذات للوجود مهما كانت مبدعة وخلاقة؛ ليس حلا بل عبئا “وهكذا رحت التقى بذاتى متضخمة بحجم الوجود كله” (ص36) وهذا المأزق الخطير هو الذى يؤدى الى المحنة، وهو يدرك ذلك تماما حين يعاين حركة البندول ما بين ذاتى الصغيرة التى وددت أن أهرب منها (ص36) لأنها تلغى لا نهائية الوجود، وبين ذاتى الرحيبة رحابة الوجود كله (36) ولكنها ليست رحابة التناغم والحوار، وإنما رحابة الاحتواء والالتهام والتضخم الفردى، فهى لا تعدو – رغم الرحابة- إلا أن تكون جثة تتضخم، اذن: فهذا النوع الرائع من الادراك المتعاظم بلا حدود، هو فى النهاية خطر على حدود الذات… فهى المحنة.
ومهما تضخمت بما أدركت تحديدا فثمة ما بعد ذلك، وتعبير الوجود كله هذا هو تعبير غامض لا معنى له، وهو يعرف ذلك ولكننى كنت أقول لنفسى، وبإصرار: غير معقول أن يكون هذا هو كل شيء (ص 150) وتظل هذه المقولة هى محور الوجود وحفز السعى حتى نهاية الرواية ان ما هو موجود ليس كل الوجود (ص 150)، وهكذا نجد أن تعاظم الادراك كمًّا أو حتى كيفاً لم يحط بالوجود بل زاد العبء وهيأ للمحنة، ويبدو أن حدة الادراك لم تقتصر لديه على فرط الاحتواء وانما امتدت إلى دقة الالتقاط لكل التفاصيل، من أول ملاحظة الشعيرات الدموية البنفسجية والزرقاء على الفخدين المترهلين (ص62) (حتى لو كان خيالا) إلى رصد كل مايجرى حوله مهما بعدت المسافة، سواء فتح له باب على سلم الخدم (ص99) أم خطوات تجرى بالدور العلوى. صنبور بحمام الجيران الملاصق…. باب الشرفة يئن.. حتى حفيف الخف يلتقطه خفاها يزحفان على الأرض …الخ (ص10).
وهكذا لم يستطع صاحبنا أن يقفز خلف قضبان سجن الادراك، حيث كانت القضبان تتزحزح دائما أكبر قليلا من مدى القفزة، ولم ينفعه أن يرهق إدراكه بحدة الاستغراق والإلمام بكل التفاصيل ربما أملا فى إنهاكه فتجاوزه، ولم يكن بد من تمنى اغلاق أبوابه المفتوحة على مصراعيها لو لم يكن آذان؟ لو لم تكن لى عيون؟ لو لم تكن لى حواس وأعصاب؟ (ص 29) ([14]).
(ج) تغير الادراك (بعد الانهاك)، بدايات المحنة وبعدها:
وقد تحققت الأمنية، ولكن بشكل معكوس، فبدلا من أن تغلق بوابات استقبال الخارج، فتحت على مصراعيها للداخل، بالإضافة الى فتح مخارج الإنقاذ، بلا إنقاذ مضمون!، بلا عدد، ولا يعود الإدراك يتبع نفس القوانين التى تمليها الذات الواحدة ذات المداخل الحسية المقننة، فيتغير نوع الادراك، يبدأ بالشك فى إدراك الذات “لا تثق بالمرآة… تظن أن ثمة خطأ،… وتقول أنه لست أنت ذلك الذى ينظر إليك متعجبا… كل ما هنالك أن الأوثان التى تقيمها المرايا امام ناظريك تخدعك”(ص131،130)، وأعتقد أن هذا التغير بدأ يدب قبل مفاجأة المحنة، وكان من إرهاصاتها ثم ظهرت المحنة بصورة خاطفة.،……… كان كل شيء حولى قد تغير… المكان مختلف تماما عن كل الأماكن التى عرفتها” (ص25)، ويختلط الداخل بالخارج، وتفتر حدة الإدراك أحيانا (ص 13)، وتتخلق تعيينات من مجردات([15]) “الليل كتلة هشة باردة…… رأيته بعينى اللتين سيأكلهما الدود، كم وددت أن ألمسه…” (ص14).
وأعتقد أن هذه الأمثلة تكفى فى موضوع الإدراك، وهى تدلل من جديد أن الرواية خبرة على أعلى مستوى من الصدق والدقة، وأنها تخطت المعلومات المتاحة من هذه الظاهرة كما يعرفها الكافة فى الأوساط العلمية، ومع ذلك فليست دلالتها هى ما أظهرت من جوانب فى تطور الظاهرة فى الطفولة والصحة والمحنة، وانما دلالتها فيما ترتب عليها من أزمة وجودية، ومفترق طرق على مسار النمو والتطور والتناثر والنكوص، ودلالتها الأهم فى إظهار أنه من المحتمل أن يكون هذا هو المسار الذى يحدث لكل من يقع فى هذه المحنة، ولكن دون وعى أو قدرة على تسجيله بكل هذه الدقة والحذق والأمانة.
4- الجسد فى مقابل الروح:
فى عمل مثل هذا العمل يغامر برسم أبعاد محنة التفكك والحفز والمراجعة، لابد وأن نواجه المشكلة الأزلية عن العلاقة بين الشىء المتعين كمجال لهذه الخبرة (الجسدية) وبين الطاقة المتفجرة المتجاوزة لهذا الشىء المتعين (الروح)، أو… أو التى تلبس هذا الشيء المتعين بعض أو كل الوقت، فحين تتفكك الذات الواحدة إلى مكوناتها، ولا يعود ما يمسك الواحدية فى كلٍّ ظاهر، تبرز ثنائية الوجود المحتمل، وحين تتجول الطاقة بلا ارتباط واحدىّ مسيطر، يستقبلها الوعى (أو بعض الوعي) استقبالا خاصا ومتعددا، وكذلك يوحى التعدد بانسلاخ وعى ما (أو طاقة ما) عن وعائها فينفصل الجسد أو يدمغ كأنه سجن أو كائن غريب أو وجود مادى ترابىّ ودونىّ، أو ما الى ذلك، لكنى افتقدت السعى إلى إعادة الواحدية على مستوى أرقى ينجذب بمحاولة تجميع جديدة للطاقة المتناثرة نحو تكامل ما فى كيان ما هذا ما حاولت أن أتصوره وأنا اتابع معركة صاحبنا داخل جسده وخارجه، فى رحاب الكون ومنفصلا عنه، وقد بدا لى أنه – ربما لتكوين دينى مسبق أو عقائدى طاغ – لم يسمح لخبرته أن تعيد النظر فى معتقداته، فكان الجسد معظم الوقت سجنا ودنسا بشكل ما، وظلت الروح معظم الوقت أملا وسموا بشكل ما، وان اضطر فى مواقع قليلة أن يصالح ما خاصم، إلا أن ذلك لم يدم كثيرا.
ويبدو أن صاحبنا قد أدرك المشكلة منذ البداية، رغم أنه لم يحلها وهذا طيب، أو هو حلها بالفصل التعسفى بينهما:
(أ) اعلان المشكلة: الوعاء، والمحتوى:
”الروح بلا جسد أمر لا يمكن التفكير فيه، ولكن عدم رؤية الوعاء لا تنكر وجوده، فالوجود بلا وعاء ليس موجودا” (ص41).
وهاكم البداية، فهو يستبعد وجود روح بلا جسد، ولكن يبدو أنه يميل فى أغلب اجتهاده الى أن يرى أن الروح هى وعاء الجسد ليس العكس كما يخطر على البال لأول وهلة ([16]) وهو يستنتج أن ثمة روحا ما دام ثم جسدا، ان كان ثم وجود !! فحتى نص تصويره للمشكلة: قد أعلن أسبقية الروح ودوامها، ولكنه أقدم مرة أخرى على إعلان نوع من تكامل محتمل أو مأمول “لا ترهق نفسك بما لا قبل لك به، فجسدك هو بيت الله، أجعله كذلك” (ص 90) وهنا يصبح الجسد هو الوعاء، أو هو الأداة التى يستعملها الله ليحقق بها الخير ويقدم الخدمات، ولكن الله الذى يحل فى الجسد أو يستعمله كأداة ليس هو الروح الخاص وانما هو الروح المطلق([17]).
(ب) حتم الفصل:
ورغم هذه المحاولة المحورة فالفصل يظل واضحا بين ما هو روح وما هو جسد، والخصام يتصاعد حتى النهاية، ففى الصفحة قبل الأخيرة (ص 150) يعلنها صريحة “أنها ليست دموع عقل أو عاطفة أو ضمير تلك التى تذرفها، إنها بكاء جسد، عليك أن تقتله حتى تظفر بهدوء البال، وتخلوا إلى ما هو إنسانى حقا…،… فترقى الدرجات صاعدا ثم يخاطب الروح منفصلة انهضى أيتها الروح العظيمة، انفخى فى الأحداث من أنفاسك، وعلى صورتك جَسّميها” (ص 152،151) – فالروح عنده هى التى تجسم الوجود فى الجسد حتى نهاية النهاية.
وهو يمضى يصم الجسد كلما سنحت الفرصة بذلك وهو الجسد الدنس، وددت لو تطايرت فى الفضاء ذراته (ص 118).
وكذلك: “شىء دنس. جسد مستباح يتقيأ أجسادا أخرى” (ص 130). وفى نفس الوقت لا يفتأ أن يحاول أن يطلق للروح العنان” ومن ذا الذى يستطيع أن يحد الروح؟” (ص 44).
وأعتقد أن هذا الفصل- بالنسبة لي- كان من أصدق المحاولات، أو لانه أضعف فهو أصدق، فما عاشه صاحبنا حكاه، ولم يحاول غير ذلك، فهل يا ترى يصح ما أتصوره من أن عقيدة شخصية ما قد حالت دون إكمال خبرته الى منتهاها؟ من يدري؟.
يبدو أن صاحبنا قد أُرْهِق من سجن الجسد بقدر ما أرهق من سجن الإدراك الحسى، وأكثر، وان كان فى معركته مع سجن الإدراك قد انتهى الى فتح المنافذ جميعا فاختلط كل شيء بكل شيء، فقد عايش معركته مع سجن الجسد بصعوبة بالغة وتحدٍّ محيط. “فى هذا العالم الرحيب، الضئيل فى الآن ذاته،… المصنوع من لحم وعظم والياف وبشرة ناعمة تارة، خشنة تارة… ومع كل المحظورات والممنوعات والنواهى والمستحيلات تصبح الرقعة المسموح لك بها متناهية فى الصغر، فتعمل فى نفسك الرغبة فى التمرد وفى كسر الاشارات، جحيم لا يطاق كرهت جسدى”(ص27) – ومن هذه الكراهية- مع العجز والجهل (بالجسد) والخوف منه، لم يكن بد من حل الانسلاخ عنه بالوصم فالقتل، لإطلاق روح ما إلى أعلى، اقتل الجسد حتى تتقد فى الأعماق جذوة الروح (ص51) ويبدو أن الجنس- ولن أعود إليه بوجه خاص- كان مرتبطا بالجسد بصورته الترابية هذه أكثر من أى احتمال آخر مثلا: (ص124)، حيث لم يشغل الجنس الحيز المتوقع فى مثل هذه التجربة وما قبلها، كما لم يظهر له جانب إيجابى أصلا، فلم يؤلف بين أجزاء، ولم يحفز تواصلا، ولم يشمل حتى دفعا إلى الشبق الحياتى اللذى، أما العدوان فيستحسن أن نفرد له فقرة مستقلة.
5- عن العدوان:
موقف صاحبنا من العدوان شديد التداخل والتذبذب، فهو قد اعترف قرب نهاية المحنة بضرورته للبقاء: ”تأجيل الموت يوما أو حتى ساعة أمر جدير أن تراق فى سبيله دماء” (ص 112) ولكن يبدو أنه لم يعترف بذلك إلا بعد أن طالت الرحلة وشبع مطاردة، وكاد يتلاشى ابتلاعا، وبعد أن كاد يهلك من الجوع والعطش الى الرى من العلاقة بالآخر (التلاقي).. لنقتل الآن من أجل لحظة ارتواء… الجفاف موت، وموت بموت فلنقتل (ص 113)، هذا فى الخارج، ولكنه منذ البداية كان قد اعترف اصلا بأنه كى يحيا فلابد أن تتغذى عوالم على عوالم (ص 8).
وكان حينذاك قد تفكك ونشطت عوالمه الداخلية، وبدأ يحس بالحاجة إلى إعادة الواحدية على حساب عوالم تقدم قربانا لعوالم أقوى من أجل العودة واستمرار البقاء، وفيما عدا هذين الاضطرارين فهو ينكر عدوانه أصلا، أو بتعبير أدق هو يفتقده حتى يعلن بصراحة عجزنا عن العدوان: كان يجب أن نعرف أننا لا نصلح أن نعادي… فليست لنا أشواك نتسلح بها، ولا أنياب مسنونة، ولا قرون تبقر، ولا فكوك تقبض، ولا كلابات تعض، ولسنا بقادرين على إحداث صدمات كهربائية تسحق مثل سمك الرعاد،… ولا الإتيان بلفات محكمة تعتصر حتى الموت… الخ (ص 36)، وهو يتحسر إذ يعدد كل هذه الأسلحة التى كان يتمتع بها أجدادنا وكان الأولى بنا،، ونحن الأرقى، أن كنا قد احتفظنا بها، لأنها هى هى وسيلتنا إلى أن نتواصل، وقد اقتطعت جملة فى بداية هذا المقتطف لأعود اليها الأن حتى أربط العداوة بالصداقة، وبالتالى أبين (كيف بَيّن) ان العجز عن الأولى هو عجز عن الثانية، أكرر: كان يجب أن نعرف أننا لا نصلح أن نعادى، ولا حتى أن نصادق، فالعداوة مثل الصداقة، عبء أكثر مما تحتمله امكاناتنا– وهو فى هذا يتقدم خطوة أشجع من تخليه عن الجسد لحساب الروح، فيقترب أكثر من تاريخه الحيوى، ويعترف بأجداده، على أنى لم أتبين بين تفكك عوالمه حيوانات مفترسة كثيرة، وإن كانت الحشرات والهوام والأشياء والشخوص قد ملأت أغلب الساحة، وقد كان يحاول أن يتجنب إثارة هذه المنطقة (المفترسة) بكل وسيلة: “لا شيء هناك لا توغل هذا أقصر التيه، والثور قد يفترسك، اللون الأحمر فى أعماقك قد يثير الوحش، قد يوقظه فيك” (ص 86)، وحين استيقظ كان ثورا عصريا، وحين همت بأن تلقى نفسها من على قمة الجبل، كان الثور يجرى ويلهث، والغبار بفعل حافرية يثار، راح فى الهاوية عنها يبحث (ص87)، إذن، فحتى الثور حين يسمح له بالحركة لم ينطح أو يقتل بل راح يثيرغبارا ويبحث عن رفيقته، كل ذلك فى الداخل بداهه، إذن، فمازال العدوان مطلوب أن يُستحضر، مع وقف التنفيذ، لكن ثمة عدوانا آخر قد سمح له بالظهور طوال الرواية، وهو ما يمكن أن أسميه العدوان بالالتهام، أو العدوان الأنثوى فم واسع؟ معدة تمددت حتى أصبحت شفافة، وأنا بالداخل أنا علبة صفيح فارغة فى جوف نعامة؟ (ص 8) وكذلك: ربما كنت بداخلهم، ابتلعونى ؟ ربما (ص 11) وفضلا عن أن نوع العدوان الذى يعترف به، بل ويقبله، هو العدوان الالتهامى الأنثوى، فإن ثمة علاقة بين أنثى ما، لعلها صورة الأم البشعة (أمنا الغولة) فى خياله منذ كان طفلا، فهو حين اعترف(ص 113) بحتم الاقتتال من أجل البقاء، بديلا عن جفاف الموت، عاد فورا يعترف بأنها (هي) قد أصبحت مستحيلة، جسدك غطاه الشوك، ونبتت لك أنياب ومخالب (ص 113) ومع ذلك ظل يحبها، ويريد أن يقترب منها حتى لو كان فى ذلك موتى (ص 113) كل ذلك يقبله ولكنه لا يطيق الكراهية المعلنة، وفى موقع آخر يكاد يعترف بأخرى تحل محل أمرأة أقدم، وفى نفس الوقت تمارس نفس العدوان مع فارق طفيف هو المصارحة، حيث تقول هذه بصراحة: “لكننى لا أخافك أتحداك وألتهمك أمتصك مثلما تمتصنى” (ص 127) الفارق هنا هو أنه يمتصها هو الآخر إلا أن هذا- أيضا – لا يكتمل، وعموما، فهو اذ تراوده نفسه أن يستسلم لهذا الاقتراب المقتحم، يشك، إذ يتذكر الجنة (أمه) القديمة التى طرد منها، ويخاف أن يكف عن المقاومة فاذا به قد ألقى إلى أنياب مفترسة، لكن يبدو أن مقاومته لم تكن افتراسا بل ربما هربا على الأرجح “لم تكن على الدوام مفترسا”(ص 126)، وإذْ يتحرك هذا الاحتمال يلجمه بالقهر المفرط الذى يضاعف الاكتئاب فيصرخ طالبا الحبوب المضادة له (ص 126) وهو فى النهاية لا يجد سبيلا للعودة إلى الواحدية إلا بإخراج هذا العدوان المحتوى (بفتح الواو) من داخله، مهما كانت النتيجة نقصا أو انشقاقا دون توليف أو تمثل، ”آن الأوان أن تخرجى أيتها المرأة الشريرة من داخلى” (ص133)
خلاصة القول: إن صاحبنا ليس عدوانيا رغم علمه بحاجته إلى العدوان وعجزه عنه، وهو هارب، وإذا كان ثم عدوان فى الداخل فهو نتيجة لأمه الغولة التى تقمصها واحتواها والتى لم يستطيع أن يتخلص منها الا فى النهاية بهذا الانسلاخ الذى قد يحقق الواحدية البديلة، لأنها على حساب إيقاف الحوار واجهاض المسيرة وكف التكامل.
6- الحقيقة: الله:
فجأة، وجدت نفسى فى الفصلين الأخيرين (16، 17) أمام درجة من المباشرة وفرط فى التجريد لم أتوقعهما، ولم أحبهما، وقد أكون مخطئا، ولكنى جربت أن أبحث عن وجه آخر للأمر عدة مرات، وبالذات بالنسبة للفصل (16) ولم أنجح، وقد تصورت أن الكاتب قد كتب حتى أنهك، فخفتت حدة اندفاعاته واستسلم لحل مثالى هادف، اعتبره الحقيقة، أو الله، لكنه قدمه كمفهوم مجرد غامض يقع وراء مدى الحركة الرائعة التى وعدت بها المحنة طوال الرواية، ورغم كل ما قالته هذه الحقيقة عن نفسها وخلودها وعنادها وبقائها وأصالتها، فهى لم تقنعنى لابماهيتها، ولا بكيفية استخلاصها من هذه المحنة، والأهم ولا بعلاقتها بالله الذى ليس كمثله شىء، ولعل هذه هى النتيجة الطبيعية للحل الذى ارتضاه المؤلف – أو بطل الرواية – فى نهاية الفصل(15)، والذى سبق أن أعلنت تحفظى تجاهه فى أكثر من موضع فى هذه الدراسة، وهو نفسه قد اعترف ضمنا أنه حل مبتسر، فهل هو قد أخرج المرأة الشريرة: من داخله وكأنه أخرج كل شىء آخر، طلبا للواحدية المنقوصة من جديد، وبالتالى حرم نفسه من فرصة التكامل والجدل إلى الولاف والتمثل والنمو، وهو يعترف بذلك فورا حين يعلن” وصل طريقنا إلى النهاية”، “آن للحوار أن ينتهى، آن الأوان أن يختزل” (ص 133)، أى طريق هذا وأى حوار؟ فإن لم يعد حوارا فماذا يبقى إلا كيان قزم ناقص، لابد أن يسعى الى دعم من خارجه، وهنا تظهر الحقيقة أولا فى الفصل (16) تطلب مهرها، وهو نفس صاحبنا كلها (ص 136)، ثم تدع له كل ما عدا ذلك، وماذا بقى بعد ذلك؟ ويختلط هذا المفهوم للحقيقة بمفهوم الله بشكل متداخل حتى يمكن أن يحل الواحد محل الآخر بسهولة، كما صورهما الكاتب ففى (ص 137) تقول المتحدثة: وستكون لى مطواعا، قل فحسب (لتكن مشيئتك) ولن أنجيك من الأشرار فحسب، بل لن أدخلك فى تجارب لا تقوى عليها أيضا (ص 137) ويكاد النص المقدس يطل من السطور مباشرة، ويمضى بقية الفصل على هذا النمط الذى ينزع من صاحبنا دوره وإيجابيته، بل ومزايا وتاريخ محنته… ”سأمنحك القوة فكل شيء أعد سلفا أنا الوحى وأنت الذى تمسك بالمعول (ص 140) حذار ألا تتبعنى” وينتهى الفصل بإعلان خلود الحقيقة / الله، بعد فناء الفرد ذى الأدران، ومن عجب أن الله هو الذى يعلن أن الحاجة الى تحقيق الذات لا تفنى وكأنه هو الذى يحقق ذاته فى الأفراد، وليس: أن الأفراد هى التى تتحقق ذواتهم بالتكامل إليه.
ورغم هذا الاحباط الذى أصابنى – صوابا أم خطأ – ومع احترامى المطلق بالقصور والأمانة، فانى أقلب فى البدايات فلا أعثر على مشكلة الحقيقة والسعى إليها بهذه الصورة المنشقة الا قليلا، بل لقد كان السعى دائما الى التلاقى مع الآخر، إلى الوجود الآصل، الى التكامل الداخلى، الى الـ نحن، إلى التوق المعرفى، إلا أنه يبدو أن الإنهاك قد غلب الرحالة، فاختصر الطريق هذا الاختصار الذى أفزعنى، ولنرجع قليلا إلى الوراء قبل أن نواصل الى الفصل (17) لنجد أن هذا الحل بسلبيته كان معروضا منذ البداية...” حتى إذا تراجعت، فأين ستذهب؟ خطوة إلى الخلف مثل خطوة إلى الأمام لن تغير من عزلتك شيئا… ستسمع صوت الحقيقة، وعليك أن تصمت… عليك أن تسكت كل ما حولك حتى يتدفق بداخلك كفيض ربانى، الصوت الحق، ويتخذك معبرا.. الخ” (ص 18).
إذن، فثمَّ سبق اصرار ومن البداية على هذه النهاية، ويبدو أن البحث كان جاريا طول الوقت فى هذا الاتجاه، أعنى اتجاه الايمان التسليمى المنشق، وليس فى اتجاه الولاف التكاملى، هل حقا تبحث عنى، كما أبحث عنك؟ ها أنا أصعد أصعد الى أجواز الفضاء، لألتقى بك، وأتلقى عونك ورحمتك (ص 33) خطاب صريح الى الله بصورته التى ظهر بها فى النهاية، ولكننا نجد وقفة مختلفة بعض الشيء فى موقع آخر، وقفة فيها شجاعة سمحت بالعتاب وبعض الحوار: إلى الله دائما أصلى، من شيء واحد أشكو، لماذا، لماذا يا ربى خلقتنى الى هذا الحد قاصرا؟ ثم لأنه يحبنى يدفعنى الى الجنون فأتمزق ؟ لماذا لا يضع يده على قلبى، ويدخل السكينة الى نفسى؟ (ص 96)، ولكن التسليم فى النهاية كان للمنتقم الجبار الرحمن الرحيم فى آن، الطفل المقدس مفترس الأشرار معاً، ولكن لماذا يتم ذلك على حساب الذات وتلقائيتها وإبداعاتها واستقلالها، بل على حساب العالم الخارجى ”اختفى من أمامى العالم الخارجى، وأغمضت عينى، أطبقت جفنى، ورحت أتأمل بانبهار، أتأمل الحقيقة” (ص 146) أى حقيقة تلك التى يتأملها صاحبنا مغمض العينين؟ وتمضى الابتهالات فى صدق وخشوع حتى النهاية أتعس لحظاتى عندما أشعر أنك تخليت عنى (ص147)، ومرة أخرى يأتى النداء الحافز للتسليم اترك كل شيء واتبعنى (ص149) ولكن يبدو أن ثمة ايجابية خلاقة تطل من جوف كل هذا التسليم، فإن من يترك كل شىء بوعى مختار، قد يجد كل شيء بإبداع متجدد، فيصبح خالقا كالخالق، أو مع الخالق، لأن العالم لم يتخلق بصفة نهائية، بل هو ينتظر منا أن نساهم فى خلقه ”أن ما هو موجود ليس كل الوجود، إن كل ما هو كائن ليس كل ما يمكن أن يكون”( ص 150) ومن ذا الذى يستطيع أن يولد من غير الكائن كيانات جديدة إلا أن يكون خالقا مشاركا؟؟ ”ضع يدك فى يدى وسنجعل المحتمل حقيقة، فأنا بى ميل أن أصبح حقيقة”(ص150).
فلو أن الأمر كذلك، ولو أن الحقيقة / الله هى ما يتخلق من جدل التعدد، إذن لأطل الحل الولافى التكاملى فى تناوب وحركية مختلفة، لكنى أشعر أن هذا لم يكن كذلك فجاءت النهاية مفاجأة أقرب إلى التسليم منها إلى التوليف والإبداع.
ثالثا: إشارات أخرى
قلت فيما سبق أن هذا العمل قوى متحد، وأعلنت عجزى عن أن ألم به فى هذه القراءة المبدئية، وكنت أنوى أن أكتفى بهذا القدر الذى يعلن عمقه وأصالته، ولكنى رجحت أنه من الأمانه والفائدة معا أن أشير الى الموضوعات التى كانت خليقة بأن تكمل الرؤية، وأرجو أن أوفق فى أن أوجز الاشارة ما أمكن حتى لا تخرج الدراسة عن حيزها المحتمل، واليكم بعض ذلك:
العزلة، واللاتلاقى:
بدت لى المشكلة المحورية بالنسبة للعلاقة بالآخر – كما توقعت – هى العجز عن التلاقى، وقد أشرت إليها سابقا، لكن صاحبنا قبل عزلته بشجاعة المبدعين، بل واعتبرها هى هى سبب حياته المتجددة الخلاقة بالعزلة مت، وبالعزلة أحيا، أرأيت؟ ما يميت يُحيى أيضا. هذه أغلى اجابة (ص 24)، ولن أدخل فى تفاصيل الفرق بين عزلة و عزلة، وموت وموت، ولكنى أكتفى بأن أذكر بأنه فى النهاية لم ينتصر على عزلته بالآخرين بإرساء علاقة مبدئية مع فرد حميم يمثلهم ويكون بابا إليهم، ولا مع ما هو نحن جميعا بما هو فينا مشترك، ولكنه لجأ الى الاستناد إلى مطلق أسماه الحقيقة والاعتماد على دعم اعتبره الوحى – دون الناس على ما يبدو.
المحنة والفرصة:
كانت محنة، وليست مرضا، وهذا ما حرصت على الإلتزام به طوال القراءة، هى تعلن حتى من بدايتها: نجاة ما، وليس فقط انهيارا: ”كيف نجوت دونهم جميعا ؟ كنت معهم بعد منتصف الليل ، وفجأة نجوت، لم أدر شيئا عندما جاءت الكارثة” (ص13) وفى المحنة، بعد سقوط القيود القديمة، يظهر فضلها فى إعطاء فرص جديدة من بينها التلقائية والاختيار أما الآن فى محنتى فانى أعتمد على إرادتى وحدها … بدأت أحب محنتى ( ص 20) وأحيل القاريء الى بقية النص من جهة، وإلى ما سبق الاشارة اليه فى هذه الدراسة من كيف أن المحنة – رغم كل شئ – هى مفترق طرق، ومع ذلك….
الموت والبعث:
فى مثل هذه المحنة، يختلط الموت بالبعث وكأنهما يحدثان فى ذات اللحظة، والمرعب أن البعث لا يتبين ابتداءً، فمن أين الأمان؟ والهوة التى تبدأ كل شيء، وينتهى بها كل شيء كما بدأ، هى التى تضع الشاطيء الآخر فيما بعد أفق الرؤيا، ومن ثم فالرعب حتمى، وهو يعلن ذلك صراحة: ”أنك الآن تموت لتولد من جديد” (ص16) ”وكذلك ما يميت يحيى أيضا… لم تكن الهوة قبرا” (ص 24) وما دام الأمر بهذا التداخل، وما دام الشاطيء الآخر، يقع بعد أفق الرؤية، فلا بديل عن ”المغامرة؟ هذا هو البعد اللامحدود لجهود الذين يريدون أن يفلتوا من الموت”(ص40).
الحزن .. والسعادة:
ظهر الحزن قويا شريفا طوال الرحلة، حتى ليصدق القول فى أنه ينبغى أن يتردد أى واحد يبادر بأن يسميه اسما مرضيا، حتى لو تعاطى صاحبنا حبوبا ضده، وفى مقابل ذلك شجب صاحبنا السعادة الزائفة، فى شكل الضحكات الفارغة والمجاملات الكاذبة والرفاهية الحسية العابرة ولا بأس أن نكرر هنا: “أيها السعداء أنى أحتقركم، أتعرفون ما السعادة حقا ؟ هى أن تكون لديك القدرة على الاحتفاظ بحزنك رغم كل شيء، على الاحتفاظ بحزنك، شامخ الأنف أبيا” (ص 94)، ”وكذلك تشبث باحزان قلبك” (ص 96) “ثم وتحت الأقدام يشاركنى إله الزلازل صارم القلب: حزنى” (ص98) وقد سبقت الاشارة إلى أن هذا النوع من التفكك يستتبعه فرط الوعى وعمق الرؤية: ومن ثم : الحزن الكريم، ثم يتوقف مسار طاقته بعد ذلك على طريقة تمثله وتوجيه دفعه، بل أنه على نفس القياس قد أعلى من قدر القلق أيضا وعرّف المتعة به كما عرف بالحزن السعادة … “اتعرف ما المتعة؟ أن تشعر كل لحظة أنك فى خطر، حتى يضحى القلق آفتك، وخلاصك وقدرك:” (ص 127).
الأب والأم والزوجة (والابنة):
على غير ما نتوقع لمن فرضت عليه هذه المحنة بكل ما صاحبها من تفكك، لم نسمع عن المعركة الأصلية فى احدى مرات الاسترجاع (الفلاش باك) التى تفسر لنا أن ما (= من) أدخل قسرا الى مستودع الذات من كيانات للأب بوجه خاص: كان مقحما لا يقبل الاتحاد التكاملى مع الكل، وبالتالى كان عاملا ضمنيا فى تسهيل التفكك فالمواجهة (مما تتصف به مثل هذه المحنة) – وبالعكس كان الأب حبيبا رحيما: ”شخص حبيب، ضحى من أجلى فى سالف الأيام” (ص 19) واستمر أثر هذا الموقف فاعلا يحد من اندفاعه الى مزيد من التطرف استجابة لـ “الدموع التى تسيل على خديه رجاء منه أن يخفف ابنه من إيغاله فى المجهول، هذا الوالد نفسه كان مصدر الدفء والدعم… أمسك بيده الكبيرة ، كانت دافئة لينة” (ص 43)، كما كان مصدر الحفز والأمل “سأنذره لأسفار بعيدة” (ص 44)، بل مصدر الفرحة والمشاركة وتنمية الخيال فى صنع عروسة ورق تطير فى سماء أبى قير أحب أن أرى “الفرحة فى عينيك، يا ولدى” (ص45) – إذن، فلا معركة، بل هو الدعم فى الطفولة، والسند فى المحنة.
فهل هى الأم؟ هل هى التى كانت تمثل الحرمان والقمع بأحد وجوهها الخفية؟ أحسبها كذلك، فقد كان موقفها مائعا تجاه طاقات ابنها المتفجرة التى وقع عليها الأب بالمواقفة – ربما بالرغم منها – وحين ظهرت ثانية كانت كالذاهلة فى مرضها لكنها نبهته – فى ذهولها – ثم ظهرت بشكل مباشر أو غير مباشر فى صورة المانعة للحياة ”أحضان الجدباء ليس فى الجوف رحيق بل حطب أعجف جفاف، جفاف”(ص109)، ومن هنا والخلط واضح – وربما مقصود – بين الأم التى لم ترضع ابنها ما يحييه، وبين الزوجة أو الرفيقة التى لم تمنح نفسها طوعا (ص110،119) انظر مثلا: “أقف أمامك عارية بكل ما فى من قسوة وفتنة ولن تنالنى”(ص128) حتى كانت الخائنة فى النهاية فى شكل الزوجة بؤرة المعركة بعد غياب الأم الأخرى فى غيابة الذهول، ولكن الصورتين متداخلتان أبدا، والأنثى العجفاء الواعدة المانعة هى المصب الوحيد لخيالات القتل والموت، فقد خيل الى انها الساحرة المتفحمة (115)، وأنها الغول الذى أهلك (ص 119) (رغم أنه قد ينقذ – ولا ينقذ )، وهى الصورة التى تهدد بتكرار نفسها (ص 120)، واخيرا فهى المرأة الشريرة (فى داخله) التى بخروجها يتوحد وهو لا يدرى أنه بذلك يتشقق،(ص133) – وفى كل هذه المواقف تظهر الأم وراء الزوجة أو بالعكس وحتى الابنة التى ذهبت بالموت، كانت تمثل صورة ثالثة معكوسة لنفس العلاقة، نفس الأمل، نفس الوعد، لكن الموت الجسدى الفعلى اختطفها، دون مناسبة، هذا ما وصلنى من تداخل كاد يقنعنى اعتسافا أن صاحبنا لم يكن فى حياته من أمرأة سوى أمه، حتى خيالاته حول إحياء ابنته كانت تختلط بخيالاته حول عودة زوجته ثم تنتهى به إلى إسناد رأسه إلى… إلى جوار رأسها (أمه / زوجته / ابنته ) ( ص 122) ومن هنا تضاءل دور الجنس فى التواصل والجذب الى الواقع الحى الثرى.
الكلمات، والقلم، واللغة، والأسلوب:
صاحبنا له علاقة خاصة بالكلام والكلمات، سواء حين يستعملها بطريقة خاصة ومحددة أو حين يحكى عنها، وقد سبق أن أشرت إلى تلك الدقة المتناهية التى يلتزم بها فى التعبير لدرجة الاهتمام الأمين بعلامات الترقيم ومساحات البياض، كما لاحظت أنه يكثر من استعمال تركيب تعبيرى خاص، لم يكن مألوفا لبصرى أو سمعى فى الأعمال الروائية أو الأدبية عامة، وهو أنه كثيرا جدا ما يؤخر الفعل بشكل يلفت النظر، كذلك كثيرا جدا ما يبدأ العبارة بنفى، أو جر ومجرور، بما يسبب التوقف للتأمل قبل الاستمرار، ولا أستطيع أن أحصى عدد المرات التى فعل فيها ذلك، ومجرد أمثلة تشرح ما أعنى قد تكفى، وللقاريء أن يتحقق من أحقيتى فى ظنى. مثلا: “… لا ظلام سوف يكون /… ومع موجه ها أنت تذوب (ص 16 ) / بعينين مفتوحتين تنظر إلى (ص 19) / من أشباح الخرائب أطلب المشورة (ص22)/بالعزلة مت وبالعزلة أحيا (ص 24) / لا أحد جاء، لا صوت سمعت، لا أحد يجيء (ص 64)، ويظل هكذا حتى النهاية ولأورد بضعة أمثلة أخرى قرب نهاية الرواية على سحابة سترانى حملتك (ص 138) / وباختيارك تذوى (ص 139) / وإلى اكليل الشوك تسير (ص 144) / ولا من الموت تهاب” (ص 144)، واعتقد – ربما خطأ – أن هذا الأسلوب قد يشير إلى غلبة صياغة فى لغة أخرى ربما قديمة، ربما مقدسة، حتى ليكاد يشعر قاريء العربية – قبل أن يعتاد أسلوب أديبنا هنا – أنه أمام كتاب مترجم أو مقدس بشكل ما، وأعترف أنى لم أبذل جهدا فى التحقق من ظنى هذا بالرجوع إلى مظان ذاكرتى فأنا بعيد عهد بما خيل إلى أنه مصدرها، وإن كنت أستشهد فبكلمة الكتاب لأن ظلال المساء امتدت (ص 5) … الخ
وقد جعلنى هذا أرجح مدى تأثر الكاتب بلغات أخرى من ناحية، ولغة مقدسة من ناحية أخرى، وبديهى أن هذا لا يعيبه، بل قد يميزه، شريطة ألا يحول دون انطلاقه، ولكنى اذ تتبعت هذه الدلالات الى فكره، رجحت – كما ذكرت قبلا – أن يكون قد غلب على إبداعه – خاصة قرب النهاية – ما حال دون اطلاق عمق خبرته الى منتهاها دون وصاية عقائدية، وبألفاظ أخرى، فإنه اذا كان الأسلوب قد تأثر الى هذه الدرجة، فهل يكون الفكر قد تأثر – بالقياس – الى درجة مقاربة؟.
وفى نفس الاتجاه لاحظت أن أسلوب الكاتب الطليق المتعمق، المتحدى التشكيلى، قد انتقل فى الفصلين الأخيرين الى أسلوب مباشر، تجريدى، فيه من الصيغ الواعظة والوعود المثالية ما كاد يفقد التجربة فضل أصالتها.
على أن كاتب العمل ينتقى كلماته بالتزام رائع يحتاج إلى دراسة تفصيلية فيما بعد، منى أو من غيرى، ولأضرب مثلا باستعماله لكلمة ماس ( ص 53، 58، 143) أو كلمة صندوق (ص 29، 79، 81، 97) وغير ذلك كثير كثير والدلالات مختلفة ومتداخلة معا. على أن وعى الكاتب بفراغ الكلمات الأخرى الكلمات التى لا تأتى الا بالكلمات، “وفى النهاية ترتفع حولنا تلال من الكلمات، مثل أكوام القمامة”(ص30) كان دائما وعيا يقظا احال هذا الصرح من اللاشيء الى منظور عيانى يطير، ويدور، ويفترش، ويـُداس.
[1] – ليس فى عنوان الغلاف ولكن فى العنوان الفرعى تحت “المحتوى” ص 153.
[2] – قبل النهاية بست صفحات فحسب
[3] – لكنها الصفحة الثانية فى النص.
[4] – رفضت قبل ذلك تسمية هذا النوع من الأدب: لا باسم تيار “الوعى ولا “اللاوعى” واقترحت اسم تيار “الوعى الآخر” أو تعدد مستويات الوعى” وأحسب أن هذه النقطة تحتاج إلى ايضاح، فالوعى “العادى” ليس له تيار طليق ينتج هذا الأدب حيث هو محكوم بالإدراك الحسى والوظائف النفسية النمطية، واللاوعى لا وجود له إلا ان أصبح وعيا بشكل ما، أما تعدد مستويات الوعى فهى التى تعنى اثارة اكثر من مستوى من النشاط الوجودى فى تداخل وتكثيف وتوليف وصراع وتبادل ومحاولات اعادة التسلسل ناجحة ومخفقة حسب مقتضى العلاقات التركيبية الجديدة.
[5] – حتى التعبير العامى الشائع عن القرين تحت الأرض، أو اخذنا (أحسن منا) التى نقع عليها تحت الأرض: لها نفس الدلالة.
[6] – ما يسمى “الفلاش باك” تقريبا.
[7] – العدد السابق من هذه المجلة ص 112 وما بعدها.
[8] – نوفوريل، تريبتزول.
[9] – لاحظ: كى نحيا، فالالتهام هنا ليس موتا ولكنه حياة.
[10] – هذه القفزات قد تسمى أحيانا فى التاريخ الحيوى، وأحيانا أقل فى التاريخ الفردى: “طفرة”.
[11]– انما أعنى هنا كلمة Perception والتى تترجم حرفيا الى إدراك حسي حسب الرأى الغالب، ولما كان ثمة ادراك متجاوز للحواس Extrasensory Perception ، فإن إضافة كلمة حسى لم تعد تتصف بالدقة، ولكن أصل لفظ إدراك بالعربية لا يعنى تماما ما يقصد باللفظ الاصلى بالانجليزية، فالمعنى اللغوى الأساسى: يشير الى معنى اللحاق: أدراك الشيء: لحق به، أو بلغ وقته وانتهى، وعند القانونيين يشير إلى التمييز بمعنى التعقل وحسن التفكير، وأشير أنا به هنا الى الوظيفة النفسية التى نتعرف بها على العالم عبر الحواس أساسا ومتجاوزين لها أحيانا وحتى نصل الى اتفاق مانع لهذا الخلط وجب التنويه.
[12] – وان كان قد أشار إلى بعض آثار التراكيب التاريخية الأخرى بدرجة أقل.
[13] – الكلام هنا يدور أساسا عن اكتشاف الجسد، ولكنه يصلح للتعميم.
[14]– تصورت لوهلة أن هذه الكلمات جاءت فى الفصل المعنون بـ بوابة الألم ولكنى تبينت أنها نهاية الفصل التالى وعنوانه “حيث الظلمة أكبر”، ورغم ذلك فما زال التعليق الذى خطر ببالى هو الأرجح.
[15] – التعيين النشط active concretization
[16] – بل لقد أشار الى صعوبة تحقيق ذلك العكس (ان الجسد وعاء الروح) عند صاحبنا فى موقع لاحق ص 151: “أم أنك أرضى، ترابى، يبكى فيك الطين فيلوثك، ولا تستطيع أن تشكل منه وعاء لمتطلبات ضميرك أو روحك….”
[17] – يمكن أن يرجع بعض ذلك إلى تأثير “هيجل” بشكل ما.
خاتمة
خاتمة
ثم أوقف قراءتى هنا، حتى عن بقية الاشارات عن: الرحمة، والذبيحة، والمرأة، والقبر، واستيعاب التناقض، والعجل، والبقرة والثور، والأشياء الصغيرة، والسراديب، والدهاليز، والحفر، والصعود، وتعدد الوعى فتخثره !!. لنعود اليها أو لا نعود فيفعل غيرنا ما ينبغى أو يتسلمها التاريخ أمانة غالية فى عنقه، ولكننا نخلص على كل حال الى خلاصة تقول:
مثلما فى الحياة كان فى الرواية: أمل متفتح، نهم معرفى، طاقة متفجرة، إبداع واعد، اندفاع خلاق، وحدة مسنونة، رفض ضمنى، آمال مجهضة، تحايلات مرحلية تنجح فى التأجيل، ثم عذر استسهالى ممن وثق فيهم وخاصة من العجفاوات، فهى: المحنة: فالرعب، والأمل، والموت، والأمل فى البعث، والبداية الجديدة، وهكذا…،….
ويتحرك كل شىء فى كل اتجاه، وتلقى حبال النجاة فى أى اتجاه، وينجح الإبداع – بالكتابة – فى التسكين مؤقتا، ولكن: تنسحب الأرض من تحت الأقدام، وتوقف المسيرة بحلول تنزل من فوق، وتفرض واحدية منقوصة، تمت بالقص واللصق لا بالتكامل والجدل، وتصدح ترانيم فى معبد خاو من الآخرين – اللحم الدم – رغم الأمل فى احتمال استمرار العطاء فى اتجاههم، بفضل تسليم مطلق ووحى واعد!!
ولا نستطيع أن نحاسب راوٍ عن صدق عجزه كما ذكرنا، ولكننا نرفض وصاية معتقده على إبداعه، ولو أن الرواية انتهت عند نهاية الفصل الرابع عشر، لترك لكل منا طريقه بحسب ما وصله، ولما نقصت شيئا، بل لعلها كانت قد تجاوزت ما تصوره الكاتب واجبا عليه، حين ترفق بنا خشية أن يتركنا حيث لم يستطع هو أن يصبر عليه.