الرئيسية / الأعمال العلمية / كتب علمية / كتاب دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى

كتاب دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى

دليل الطالب الذكى فى:

 علمِ النفس

انطلاقا من: قصر العينى

 

أ.د. يحيى الرخاوى

 

الطبعة الأولى (1980)

الطبعة الثانية (2018)

 

إهداء

إلى قصر العينى

يحيى الرخاوى

أولاً: مقدمة الطبعة الأولى (1980)

أولاً: مقدمة الطبعة الأولى (1980)

تُعرض‏ ‏مادة‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏حوار‏ ‏بين‏ ‏طالب‏ ‏ذكى ‏بالضرورة‏، ‏ومعلم‏ (‏بكسر‏ ‏الميم‏ ‏وضمها‏) ‏صاحب‏ ‏غرض‏ ‏لا محالة‏، ‏و‏”ذكاء‏” ‏الطالب‏ ‏يجعله‏ ‏كثير‏ ‏الأسئلة‏ ‏حاضر النقد ‏و‏”‏غرض‏” ‏المعلم‏ ‏يجعله‏ ‏كثير‏ ‏‏التواضع‏، ‏بالغ الصبر‏.‏

ومن‏ ‏خلال‏ هذا ‏ ‏الحوار‏ ‏نأمل‏ ‏أن‏ ‏نفتح‏ ‏آفاق‏ ‏المعرفة‏ ‏حول‏ ‏علم‏ ‏من‏ ‏أخفى ‏العلوم‏ ‏ظاهرا‏، ‏وأهمها‏ ‏وأخطرها‏ ‏واقعا‏، ‏كما‏ ‏آمل‏ ‏أن‏ ‏تزيد‏ ‏الأسئلة‏ ‏بعد‏ ‏الانتهاء‏ ‏من‏ ‏قراءة‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏بنفس‏ ‏القدر‏ ‏الذى ‏تتضح‏ ‏منه‏ ‏بعض‏ ‏معالم‏ ‏الطريق‏، ‏أما‏ ‏أن‏ ‏يتصور‏ ‏القارئ‏ ‏أن‏ ‏علوما‏ ‏مازالت‏ ‏فى ‏بدايتها‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تقدم‏ ‏إجابات‏ ‏حاسمة‏ ‏عن‏ ‏تساؤلات‏ ‏مصيرية‏ ‏تتعلق‏ ‏بماهية‏ ‏الإنسان‏ ‏ومآله‏، ‏فهذا‏ ‏خطأ‏ ‏شائع‏، ‏وإن‏ ‏ادعاه‏ ‏مدع‏ ‏فهو‏ ‏إعاقة‏ ‏للفكر‏ ‏لاجدال‏.‏

لكن يبدو‏ ‏أن‏ ‏المقدمات‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏تكتب‏ ‏بعد‏ ‏نهاية‏ ‏العمل‏ ‏وليس‏ ‏فى ‏بدايته‏، ‏فقد‏ ‏كنت‏ ‏فى ‏بداية‏ ‏العمل‏ ‏أنوى ‏ألا‏ ‏يزيد‏ ‏عن‏ ‏كتاب‏ ‏واحد‏ ‏يشمل‏ ‏المعلومات‏ ‏الأساسية‏ ‏الأولية‏، ‏مع‏ ‏الرشاوى ‏اللازمة‏، ‏لطالب‏ ‏الطب‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الحوار‏ ‏تطور‏ ‏وتفرع‏ ‏حتى ‏وجدتنى ‏ملتزما‏ ‏بأن‏ ‏أكتب‏ ‏للطالب‏ ‏وغير‏ ‏الطالب‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يتعرف‏ ‏عليه‏ (‏حتى ‏دون‏ ‏أ‏ن ‏يعرفه‏) ‏حول‏ ‏هذه‏ ‏العلوم‏ ‏الجديدة‏ الرائعة ‏الخطيرة‏ الملتبسة فى آن.

‏ولعلى ‏أسهم‏ ‏بذلك‏ ‏فى ‏محاولة‏ ‏أن‏ ‏يتوقف‏ ‏ترادف‏ ‏علم‏ ‏النفس مع‏ التحليل‏ ‏النفسى‏، ‏وترادف‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى مع ‏المبدأ‏ ‏القائل‏ ‏بأن‏ “‏ندع‏ ‏القلق‏ ‏ونبدأ‏ ‏الحياة”‏، وأن‏ ‏نتقن‏ ‏النفاق الدمث‏، ‏كما‏ ‏آمل‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏بصورته‏ ‏المبسطة‏ ‏فى ‏متناول ‏”‏كل‏ ‏من‏ ‏يهمه‏ ‏الآمر‏” .. ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الغث‏ ‏التخديرى، ‏والعلم‏ ‏التبريرى‏، ‏حتى ‏يحل‏ ‏فهم‏ ‏الإنسان‏ ‏ككائن‏ ‏بيولوجى ‏متطور‏ ‏محل‏ ‏الإشاعات‏ ‏حول‏ ‏عـُـقـَـده‏ ‏وعواطفه‏ ‏الهلامية‏، ‏وأن‏ ‏يساعدنا‏ ‏هذا‏ ‏الفهم‏ ‏الجديد‏ ‏ألا‏ ‏ندع‏ ‏القلق‏ ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏نبدأ‏ ‏الحياة‏ ‏ونستمر‏ ‏فيها‏، ‏وألا‏ ‏نؤثر‏ ‏فى ‏الناس‏ ‏ولكن‏ ‏نعيش‏ ‏معهم‏، ‏وألا‏ ‏نتجنب‏ ‏الخوف،‏ ‏بل‏ ‏نجعله‏ ‏وقودنا‏ ‏لننمو‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏الطمأنينة‏ ‏الواهية‏.‏

يحيى ‏الرخاوى

3 سبتمبر 1980

ثانياً: مقدمة الطبعة الحالية (الثانية 2018)

ثانياً: مقدمة الطبعة الحالية (الثانية 2018)

مضى أكثر من ثلث قرن على صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وقد لقيت هذه الطبعة ترحيبا من غير من كنت متوجها لهم بالخطاب من حيث المبدأ، وهم طلبة كلية الطب جامعة القاهرة، وبالذات طلبة السنة الثانية، ويبدو أن عنوان “فى علم النفس” قد كان سببا رئيسيا فى الإقبال عليه حتى نفدت هذه الطبعة عن آخرها منذ سنين عديدة، مرة أخرى: دون أن أعرف أصحاب الفضل أو أصحاب الشوق الذين أقبلوا عليها هكذا.

حين عدت مؤخراً ألملم أمورى استعدادا لتسليم الأمانة لأصحابها بمسئولية أكثر تحديدا، وأعنى بذلك هذا الإلتزام  الجديد بالنشر الورقى لما تيسر من محاولاتى وفروضى التى وصل بعضها إلى درجة النظرية، ألح علىّ الكثيرون من المشتغلين معى، وغيرهم، أن أضع هذا الكتاب بين أوائل ما أنوى إعادة طبعه وتحديثه، وتعجبت لأنه ليس فى بؤرة تخصصى فى الطب النفسى، كما أننى توقفت – بل أُوقـِفـْتُ- عن تدريس مادة علم النفس للسنة الثانية بكلية الطب بسبب هذا الكتاب بوجه خاص، وإليكم ما كان بالنسبة لهذه الجزئية:

بعد تولى عمادة كليتنا العريقة أستاذ فاضل بالغ النشاط والحماس، وغير ذلك، هو المرحوم أ.د. هاشم فؤاد لمدة أربع سنوات وقد قام خلالها بكل دأب وحركة بما رأى   – من وجهة نظره-  أنه ضرورى وتصحيحى ومفيد، وكنت خلال هذه السنوات الأربع أواصل الكتابة له مباشرة، ولمجلس القسم أو الكلية أحيانا برأيى أو نقدى فيما يجرى، وكان حساسا جداً للنقد، لكنه كان على الأقل يسمح ويستمع، بعد هذه التجربة الصعبة رشح سيادته نفسه لفترة ثانية للعمادة، فوجدت أنه ينبغى علىّ أن أجمع ما كتبت – كأستاذ عادى بالكلية –  معقبا على أدائه فى فترة العمادة الأولى، مقترحا ما أراه مناسبا لفترة العمادة الثانية، ونشرت كل ذلك فى كتيب بعنوان: “أسمار وأفكار” نسجا على منوال أستاذى الفاضل محقق التراث الرائع المرحوم محمود محمد شاكر وذلك من عنوان كتابه “أباطيل وأسمار” وهو كتاب يحاور فيه د. لويس عوض ويقسو فيه عليه قسوة لاذعة، وكان هو قد استعار العنوان من بيت أبى العلاء المعرى:    هل صحّ قولٌ من الحاكى، فنقبَلَهُ،    أمْ كلُّ ذاكَ أباطيلٌ وأسمار

وكنت أرجو أن يصل المعنى الذى أريده من خلال ذلك للسيد العميد المرشح أو على الأقل إلى زميل من الزملاء قد يأخذ ما جاء فى كتيب النقد هذا مأخذ الجد، ويبدو أن هدفى من هذا الكتيب كان يتجاوز هذه المناسبة بشكل أو بآخر، حيث جاء فى مقدمته ما يلى”

“..وهل‏ ‏يستأهل‏ ‏قصر‏ ‏العينى ‏وعميده‏ ‏وأساتذته‏ ‏أن‏ ‏يُكتب‏ ‏فيه‏ ‏بهذا‏ ‏الشكل‏ ‏المسهب‏ ‏وكأنه‏ ‏هو‏ ‏المشكلة؟‏ ‏أليس‏ ‏الأولى ‏أن‏ ‏نوفر‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الجهد‏ ‏والحوار‏ ‏لمشاكل‏ ‏أعم‏ ‏فائدة‏ ‏وأجدى ‏عائدا؟‏ ‏ما‏ ‏القصر‏ ‏العينى ‏إلا‏ ‏مستشفى ‏وكلية‏ ‏له‏ ‏ما‏ ‏لأى ‏مستشفى ‏وكليه‏ ‏من‏ ‏عيوب‏ ‏ومزايا‏، ‏سينصلح‏ ‏مثل‏ ‏أى ‏مستشفى ‏وكلية‏، ‏حين‏ ‏ينصلح‏ ‏الحال‏ ‏الأكبر‏ ‏فى ‏المجتمع‏ ‏الأكبر‏!‏؟”

لكننى مضيت فى سبيلى دون أن يعوقنى ما وصلنى ‏من‏ ‏نصائح‏ ‏بعض‏ ‏الزملاء‏ ‏من‏ ‏أهل‏ ‏الحكمة‏ ‏من‏ ‏بينها‏: “‏يا‏ ‏عم‏ ‏كبر‏ ‏عقلك‏” “‏يا‏ ‏سيدى ‏لا‏ ‏فائدة‏” “كان‏ ‏غيرك‏ ‏أشطر‏” “‏انت‏ ‏فاضى ‏أم‏ ‏ماذا؟‏” “‏ماذا‏ ‏تريد‏ ‏بالضبط؟‏” “‏هاتها‏ ‏مباشرة‏ ‏وكفى ‏لفا‏ ‏ودورانا‏” ‏إلى ‏آخر‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الحكم‏ ‏والشكوك‏ ‏التوصيات.

وكانت خلاصة ردى على كل ذلك كما يلى: حيث قلت:

“تأكد‏ ‏لى أكثر فأكثر ‏أن‏ ‏قصر‏ ‏العينى ‏له‏ – ‏عندنا‏ – ‏دلاله‏ ‏أكبر‏ ‏من‏ ‏كونه‏ ‏مستشفى ‏وكلية‏، ‏ويـُـلقى ‏فى ‏وجهى ‏من‏ ‏واقع‏ ‏هذه‏ ‏الرؤية‏ ‏تحديات‏ ‏تتعلق‏ ‏بمشاكل‏ ‏وطنى ‏عامة‏، ‏ومشاكل‏ ‏مبدئية‏ ‏خطيرة‏ ‏وهامة‏ ‏مثل‏ ‏معنى ‏الانتخاب‏ ‏ومعنى ‏الديمقراطية‏ ‏وإمكانية‏ ‏التغيير‏… ‏وغير‏ ‏ذلك‏، واستشهدت فى هذا الصدد كيف أن للقصر‏ ‏العينى ‏تاريخ‏ ‏خاص‏ ‏كرمز‏ ‏ومعنى ‏فى ‏هذا‏ ‏البلد‏، وهذا ما سوف يرد ذكره بداية هذا العمل”.

وبعد

تذكرت كل ذلك وأنا أضيف لعنوان هذا الكتاب فى هذه الطبعة إضافة تقول: (انطلاقا من “قصر العينى”) ذلك أننى وأنا أراجع أصول هذه الطبعة للنشر لاحظت أن أسلوب الحوار فى عرض العلم والمعلومات ربما يكون الأقدر على مناقشة المسلمات وإنارة زوايا الغموض فى بعض ما يهمنا: ربما نصلح به بعض أحوالنا، فهو لم يعد فى نظرى مجرد كتاب للطبة حاولت أن أبرر به تدريس هذا العلم لإعداد الطبيب وإنما أصبح دعوة لإعادة النظر فى طريقة تناولنا أغلب أمورنا بالتسليم أو بالترفيصْ بعيدا عن معنى الحوار، وفضيلة النقد.

 وقد تصورت أننى لو نجحت فى تقديم علم النفس، وهو علم غامض الأبعاد ما زال فى مرحلة التكوين، لكنه قد أصبح له دور جوهرى عند الإعلام (والناس) فى اللجوء إلى التفسيرات والتبريرات النفسية طول الوقت فى كل المجالات بلا استثناء، لو قدمت هذا العلم بهذا الأسلوب فقد أنجح أن أدعم حركية لازمة لقبول التحديات الملقاة علينا بصفة عامة.

ثم إنى رجحت تفسير انتشار هذا الكتاب فى طبعته الأولى إلى أسلوبه وهو يقدم المعلومات فى شكل حوار يـُـسمح فيه للطالب أن يحاور أستاذه حتى يستبين بعض ما يريد وقد تنكشف له بعض الشبهات، لكن يبدو أن هذا الأسلوب نفسه الذى رحب به من أقبل على قراءته كان سببا فى منعى من مواصلة محاضراتى فى كلية الطب تحت دعوى أننى أهز بهذا الاسلوب صورة الأستاذ الجامعى، أمام الطلبة، وقد ربطت ذلك بما جرى حول كتابى الأول عن العميد “أسمار وأفكار” حين لم يتمكن سيادة العميد من منعه أو من مؤاخذتى عليه، فجاء المنع لتدريس هذا الكتاب الحالى بديلا عن ذلك كما يلى:

بعد أن نجح سيادة العميد للفترة الثانية فى تولى العمادة حاول أن يتخذ منى ما يستطيع من مواقف العقاب أو المؤاخذة حتى بلغنى أنه أخذ كتيبى السالف الذكر “أسمار وأفكار” وعرضه على محاميه أو مستشاره القانونى ليرفع علىّ ما يثبت أن ما جاء فيه هو قذف فى حقه، وقد بلغنى من بعض المقربين إليه أن المحامى الفاضل بعد أن أطلع على الكتاب عقـَّب عليه أنه كتاب مديح وثناء أكثر منه غير ذلك، وفرحت لهذه الرواية باعتبارها شهادة لقدرة هذا القلم الذى كتبه على المشى على شعرة بلا وقوع، المهم أنه يبدو أن سيادة العميد قد وجد فى هذا الكتاب الحالى (دليل الطالب) فرصة لشد أذنى باعتبار أننى اشجع الطلبة على أساتذتهم بتقديم هذا العلم الرصين بهذه الطريقة الحوارية، وقد أبلغ بذلك السيد مدير الجامعة المرحوم أ.د. حسن حمدى (وهو أستاذ سابق  بكلية الطب) الذى استدعانى إلى مكتبه بالجامعة وقدم إلىّ الكتاب برقة حقيقية وعتاب طيب، حتى بدا لى وكأنه يعتذر لاضطراره الاستجابة لرغبة العميد فى الحيلولة دون تدريسى هذه المادة (ولم يضف “هكذا”)، وقد احترمت دماثته وحرجه وشكرته وأبلغته أننى لن أواصل التدريس احتراما لعجزى عن توصيل ما أريد بالطرق التقليدية.

حضرتنى كل هذه الملابسات وأنا أعد هذه الطبعة الحالية، ووجدت أن هذا المعهد الكبير: كلية طب قصر العينى، ثم قسم الطب النفسى فى قصر العينى كان ومازال دائما هو المكان الذى أشعر أن له الفضل علىّ منذ التحقت به سنة 1950 وحتى الآن (2018) وتأكد هذا الفضل بعد انتسابى إلى قسم الطب النفسى فيه (1957)، وهو القسم الذى أتاح لى الفرصة تلو الفرصة، واحترم الاختلاف، وتعهد التدريب، واحتوى الجديد شكلا وموضوعا من أول هذه المحاولة وحتى ممارستى العلاج النفسى الجمعى على مشهد من متدربين من خارجه طوال ما يقرب من نصف قرن (47 عاما منذ سنة 1971 حتى الآن 2018) فاتحا أبوابه لكل من يريد التدريب والإشراف عليه بكل احترام وسماح للنقد ومناقشة الفروض والتجديد.

 مرة أخرى: ربما كل ذلك هو ما جعلنى أضيف لعنوان الطبعة الحالية هذه الإضافة “انطلاقا من: قصر العينى” حيث أمِلـْتُ أن يكون فى ذلك اعترافا بالفضل، كما لعل هذه الإضافة تحدد أيضا أن ما أثبته هو رؤية محدودة نابعة من مزاولة واقعية فى ثقافتنا الخاصة ليس من حقى أن أفترض تعميمها أو أنافس بها غيرها من المختصين أكثر فى هذا العلم، هذا علما بأن هذه الرؤية وغيرها وما هو مثلها ، هى البداية التى هيأت لى فيما بعد تسجيل فروضى المتتالية التى تواصلت حتى بلغت مستوى النظرية([1]).

ثم أننى تعمدت أن يحتفظ الكتاب الحالى بأصوله كما ظهر فى الطبعة الأولى اللهم إلا إذا اضطررت لإعادة صياغة فقرة أو تعديل حتمى بمثابة تصحيح جذرى لبعض الفروض الأقدم، أو إضافة هامش صغير مع بيان لكل ذلك أولا بأول، وقد تعمدت ذلك حرصا على أن يكون فى نشر هذا الكتاب ما يحدد فترة تاريخية مهمة من فكرى.

أثناء مراجعتى الأخيرة تمهيدا للدخول إلى المطبعة قررت أن أحذف الفصل الأخير الذى كان عن “القياس النفسى” نظراً لأنه كان أقرب إلى اختصاص الزملاء النفسيين بتفصيل واضح، شعرت أنه كاد يبعد هذا العمل قليلا أو كثيرا عن توجهه إلى طالب الطب والطبيب والقارئ العادى بشكل أو بآخر،

 فى مقابل ذلك أضفت الفصل الأول عن قصر العينى تأكيدا لعلاقة هذا العمل بالمعهد الذى نشأت فيه وتعلمت من أساتذته ومرضاه أساس كل ما حملت من أمانة، وكان لابد أن تصل إلى أهلها فانتهزتها فرصة وجعلت هذا الفصل الأول توضيحا لهذه الإضافة فى العنوان “انطلاقا من قصر العينى” وجعلت عنوان هذا الفصل الأول: “تاريخ وشهادات” لأسجل فيه ما أرى أنه لزاما أن يصل إلى الأجيال التالية من العاملين فى هذا المعهد، والمنتسبين إليه دراسة أو تدريبا، وضمّنت فى هذا الفصل بعض ما ينبغى أن تعرفه الأجيال التالية عن هذا الصرح الشامخ مع ما تيسر من تاريخ أ.د. عبد العزيز عسكر، ثم قادته الأوائل: أ.د. محمود سامى عبد الجواد،& أ.د. عمر شاهين، ثم العبد لله.

 يحيى الرخاوى

[1] – وقد صدرتْ معالمها فى كتابى الأم “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” ثم تواصل النشر فيها وعنها إلكترونيا فى موقعى الخاص ،  www.rakhawy.net لأكثر من عشر سنوات، وحتى تاريخه 1/10/2018 والنظرية بعنوان: النظرية التطورية الإيقاعية Evolutionary Rhythmic Thearpy.

الفصل الأول: تاريخ ... وشهادات

الفصل الأول: تاريخ ... وشهادات

الفصل الأول:

تاريخ … وشهادات

فى سنة 1999 تم الاحتفال بمرور نصف قرن على إنشاء قسم الطب النفسى فى كلية الطب جامعة القاهرة قصر العينى، وكلـِّـفتُ مع بعض الزملاء الأصغر بإعداد كتيب تسجيلى بهذه المناسبة وقد كان، وظهر بعنوان “قسم الطب النفسى “قصر العينى” نصف قرن من الممارسة” وقد وجدت أن بعض ما جاء فى المقدمة الثانية لهذا العمل الحالى متعلق أشد التعلق بتبرير علاقة هذا العمل الحالى بالوسط الذى سمح له بالظهور، وبما يعنيه قصر العينى كرمز أكثر منه كمكان أو مبنى أو معهد وهذا بعض ما جاء فى هذا الكتيب:

قصر العينى: مصر

قل: “قصر العينى، أو “القصر” لأى مصرى فى أى موقع، وسوف يقفز إليه مباشرة، معنى الطب، ومعنى مصر، ومعنى التاريخ، ربما لهذا يطلق على أى مستشفى كبير، حتى وقتنا هذا فى كثير من مدن القطر، اسم “القصر” وأحياناً قصر العينى.

إن هذا الوعى الشعبى بما هو “قصر العينى” هو تاريخ فى ذاته له دلالته.

إن نشأة قصر العينى تكاد تواكب نشأة مصر الحديثة، التى أرساها محمد على باشا، ولعل تطور قصر العينى إيجاباً وسلباً قد واكب تطور مصر الحديثة إيجاباُ وسلبا.

ففى التاريخ القريب يعرف الجيل الأكبر قليلاً الخطبة التى استشهد فيها الرئيس جمال عبد الناصر بالقصر العينى كنموذج سلبى للإدارة، وقصة الرد على ذلك وما أحاط هذه القصة من روايات:

ذلك أنهم زعمو أن الرئيس جمال عبد الناصر –رحمه الله- (أو بالتعبير الساداتى المنوفى ذى الدلالة: “الله يرحمه”) أمّـم القنال، ثم قال فيما قال بعد ذلك “أنهم” نجحوا فى تأميم القنال وفشلوا فى إصلاح حال “قصر العينى” فصارت مثلا.

قيل: ثم زعموا أن نقيب الأطباء أ.د.رشوان فهمى – رحمه الله– حضر حفلاً فى قصر العينى وقال ما معناه أن هذا القول يحتاج للمناقشة لأن المسألة مسألة إمكانيات، ولو ذهب رجال قصر العينى لإدارة القناة بإمكانياتها الحالية لازدهرت أكثر بكثير، ولو أتى رجال القناة ليديروا قصر العينى بإمكاناته المتواضعة لحدث تدهور بما لا يقاس. قيل: وزعموا أن أ.د.عثمان وهبه، أستاذ أمراض النسا بالقصر، قد صفق جداً لما قاله أ.د. رشوان فى لحظة اقتناع وانبساط معاً (وكان المفروض أن يصفق فقط.. لا أن يصفق جداً)، قيل.. فقامت القيامة (أى والله) وأبعد أ.د.رشوان فهمى عن النقابة كما نال أ.د.عثمان وهبة ما قسم له فى معهده. وأصبحت حكاية قصر العينى مثالا يضرب حين تناقش معانى الديمقراطية، والذاتية، والسلطوية، والشمولية.

على أن تاريخ هذا الرمز “قصر العينى” يمتد إلى قبل ذلك بكثير حيث ارتبط بما أشيع عن كيف كان الحال عليه فى مصر قبيل نهاية الحكم العثمانى وما أشيع عن فساد هذا الحكم واستعلائه، المهم أن الأمر فى مصر حينذاك كان سيئا بما لا يقاس، بما فى ذلك أن المدارس أغلقت أبوابها، وتدهور علم الطب، وأصبح وقفا على الدجالين، فكانت الجراحة، مثلا، تجرى بواسطة “الحجامين والحلاقين!!” تحت رئاسة زعيم لهم يدعى “جراح باشا” وليس لهم من مؤهل إلا ما يتأهل به أى صاحب حرفة كصبى من معلمه، دون مرجعية علمية أو دراسة.

ولم يكن حكم المماليك أحسن حالا.

ثم جاء محمد على باشا إلى مصر وبدأ بإنشاء الجيش فرأى ضرورة إنشاء هيئة مؤسسة لرعاية صحة جنود الجيش المصرى فبدأت إنشاء المدرسة الطبية المصرية.

ومنذ البداية، ودون أى تردد، كان الاختيار أن يكون تعليم الطب باللغة العربية استجابة لنظرية كلوت بك التى تقول “إن التعلم بلغة أجنبية لا تحصل منه الفائدة المنشودة، كما لا ينتج عنه توطين العلم أو تعميم نفعه”، وتم إلحاق المترجمين بمدرسة الطب، واعتبروا تلاميذا بها كما ألحق معهم مائة طالب من الأزهر الشريف.

وهكذا يبدو كم أنها قديمة قضية لغة التعليم والإبداع، بما حولها من لغط وصعوبات وتحديات، يبدو هذا –مثلا- فيما كتبه عن هذه التجربة المندوب الذى بعثته الحكومة الفرنسية، كتب يقول:

 “إن مدارس الطب والصيدلة وفن البيطرة والكيمياء مكونة تماما من عرب، والمسيو كلوت يحاول أن يعطى تلاميذه روحا وطنية عربية، ولا أعرف هل يستحق التأنيب أو التشجيع”.

وفى سنة 1827 افتتحت مدرسة الطب بأبى زعبل.. كما أنشئت مدرسة أخرى للعلوم الأولية لإعداد الطلبة للالتحاق بالكلية، وملحق لتعليم اللغة الفرنسية، لتسهيل سبل الاطلاع على مصادر العلم الأجنبية.

وفى سنة 1837 نقلت المستشفى والمدرسة إلى قصر ابن العينى، الذى بناه أحمد بن العينى فى الفترة من عام 1466- 1467 على النيل بمنشية المهرانى. وكان أحمد ابن العينى صاحب الحل والعقد بالديار المصرية، وهو ابن أخت السلطان سيف الدين خشقدم (المملوك).

وكان عدد الطلبة عام 1837 ثلاثمائة طالب يتعلمون ويلبسون مجاناً ويقيمون بقصر العينى، وتدفع لهم مرتبات شهرية.

وفى ابريل 1925 أدمجت مدرسة الطب فى الجامعة المصرية وأطلق عليها اسم كلية الطب، وعدلت مناهج الدراسة.

فى عام 1926، أصبحت الكلية على استعداد لمنح درجة الدكتوراة فى الطب.

وفى عام 1927 تمت الموافقة على إنشاء مستشفى جديد هو مستشفى المنيل الجامعى بسعة 1200 سرير.

ووضع الملك فؤاد حجر الأساس للمستشفى وملحقاتها فى 16 ديسمبر 1928 بعد أن وضع حجر الأساس للجامعة المصرية فى 7 فبراير من نفس العام.

وفى أول مايو 1929 اجتمع مجلس كلية طب قصر العينى وانتخب على باشا ابراهيم عميداً للكلية ومديراً لقصر العينى بما يعتبر بداية للنهضة الحديثة والتمصير.

وقد كانت البداية حين أشار على بوزارى طبيب محمد على الخاص باتباع القانون الفرنسى، وإنشاء مجلس للصحة مكون من ثلاثة أعضاء يرأسهم بوزارى، ولم يكن كلوت بك واحدا منهم.

ثم عهد إلى كلوت بك بتولى المسئولية.

ولما تولى عباس باشا حكم مصر أقفل المدارس، ومنها المدرسة الطبية، فعاد كلوت بك إلى فرنسا وبقى فيها إلى أن تولى سعيد باشا الحكم، فأعاده إلى مصر ليعيد فتح المدرسة الطبية وإرجاعها الى ما كانت عليه، فنجح فى ذلك وبقى فى مصر إلى عام 1860، ثم رجع إلى مرسيليا، وأقام فيها إلى أن توفى فى عام 1868.

وبعد

إن اهتمام قسم الطب النفسى بالقصر العينى بما هو محلى وما هو عربى وما هو مصرى لا ينبع من شعور بالنقص أو محاولات تعويض، وإنما هو يتعلق بمبدأ أساسى له علاقة مباشرة بما هو الطب النفسى، وبإشكالة الحد الفاصل بين السواء والمرض.

على أن ما يميز قسم الأمراض النفسية به، وما انبرى ليحافظ عليه، هو أن يتعهد تحديد معالم وهوية ما هو نحن، مرضى وأصحاء.

ولا ينبغى أن ننسى تزايد الصعوبة فى الوقت الحاضر، ففى الوقت الذى تغير علينا فيه ثقافة العولمة، تزداد فرص ثقافة التشرذم من خلال تعدد مصادر الوعى العام، فقد: حلّ الكاسيت والدش والإنترنت (إلى درجة أقل) محل الإعلام المركزى، ومن ثم كان من أهم اهتمامات الطب النفسى ذى الطابع المحلى – الذى نعتقد أن قسم القصر العينى يمثله بشكل ما- هو أن يكشف عن تفاصيل الفروق فى هذه الثقافات جميعا، إسهاما من جانبه بإضافة متواضعة لما يمكن أن يحدد هويتنا.

وقد رأيت أن أخصص هذا الفصل الأول لإعادة نشر أهم ما جاء فى كتيب الاحتفال بالعيد الخمسينى لقسم الطب النفسى قصر العينى فى قسمين متكاملين الأول: هو ما اخترته من وثائق قديمة وحديثة آملا أن تصل منها رسالة تاريخية أساسية توصل معنى العراقة والأصالة معا، أما القسم الثانى فيشمل الشهادات التى تفضل الرعيل الأول بالقسم بإدلائها، بعضها ردَّا على استبار محدود وأسئلة استكشافية، وبعضها تداعيات أمينة صادقة نابضة عميقة أرجو أن يصل من خلالها كيف صار “قصر العينى” كيانا حيا ووعيا ماثلا امتزج مع وعى هذا الرعيل الأول من الأساتذة  الرواد.

أولاً: الوثائق

الوثيقة رقم (1):

معالم تاريخية، وإرتباطات دالة

 من كتاب: (أسلوب الطبيب فى فن المجاذيب)

تأليف حضرة الدكتور سليمان أفندى نجاتىمدرس الأمراض العقليةومدرس ثان الأمراض الباطنيةبمدرسة الطب الخديوية وحكيم ثانقسم الأمراض الباطنة بمستشفى القصر العينى(حقوق الطبع محفوظة للمؤلف)(طبع بالمطبعة الطبية الدرية)1891 م – 1309 هـ    لاحظ العلاقة: كيف أنه مدرس الأمراض العقلية ومدرس ثان الأمراض الباطنية.

وفيما يلى بعض المقتطفات المحدودة من هذا الكتاب مع هوامش مناسبة:

مقتطف (1):

بسم الله الرحمن الرحيم….. نعم وإن كان ليس فى الإمكان تتبع حالات من عدلوا عن المألوف من الطبع (ص 4) والاعتياد إلى ما تقتضيه من الشذوذ دواعى فساد العقل والهذيان إلا أن فى معنى لفظ جنون ما يعم فساد العقل ماديا كان أو أدبيا مكتسبا أو خلقيا….. لاحظ دقة الإشارة إلى العضوى (المادّى) مثل الوظيفى (الأدبى) وكذلك الاهتمام بكل من الوراثة والاكتساب.

مقتطف (2):

…. إذ ليس من الاقتصار على هذا التعميم كما عليه معظم حكماء الشرق من الاعتقاد والتصميم وشرح نزر منه ضمن الأمراض العصبية بدون اعتناء ولا تبصر فى ما له من الأهمية وإن كان فى الحقيقة منتهى نسبه إلى المجموع العصبى الذى هو الأس الحيوى فى فـِـعـْـلى الحياة المادّى والأدبى. لاحظ كيف ابتدأ الاعتراض منذ أكثر من مائة سنة على الاكتفاء بجعل الأمراض النفسية جزءا يسيرا من الأمراض العصبية.

مقتطف (3):

…. وأهم‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏ومن‏ ‏ذاك‏ ‏انى ‏لما‏ ‏رأيت‏ ‏هذا‏ ‏الفن‏ ‏غريبا‏ ‏عن‏ ‏الديار‏ ‏المصرية، ولم‏ ‏يخطر‏ ‏بذهن‏ ‏طلبة‏ ‏الطب‏ ‏قبل‏ ‏الايام‏ ‏الحالية‏ ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏كون‏ ‏مستشفى ‏المجاذيب‏، ‏على ‏بعد‏ ‏من‏ ‏القصر‏ ‏العينى ‏لايتأتى ‏احتماله‏ ‏إلا‏ ‏بشق‏ ‏الأ‏نفس‏ ‏والصبر‏ ‏الغريب، قد‏ ‏بذلت‏ ‏الجهد‏ ‏فى ‏تسهيل‏ ‏المواصلة‏ ‏مع‏ ‏السعى ‏فى ‏التحصل‏ ‏على ‏تصريح‏ ‏من‏ ‏مصلحة‏ ‏الصحة‏ ‏العمومية‏، ‏بالذهاب‏ ‏مع‏ ‏الطلبة‏ ‏إلى ‏ذلك‏ ‏المستشفى ‏فى ‏بعض‏ ‏أيام‏ ‏خصوصية، لإعطائهم‏ الدروس ‏إكلينيكيا‏ ‏على ‏مرضاه‏ ‏كيما‏ ‏يثبت‏ ‏فى ‏ذهن‏ ‏الطالب‏ ‏ما‏ ‏تعلمه‏ ‏عملا‏ ‏حين‏ ‏يراه‏، ‏فحظيت‏ ‏بتلبية‏ ‏هذه‏ ‏الامنية‏، ‏فعاد‏ ‏ذلك‏ ‏بالنجاح‏ ‏التام‏ ‏على ‏الطلبة‏ ‏لما‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏جزيل‏ ‏الفائدة‏ ‏وتعميم‏ ‏المزية. لاحظ الاهتمام بالتدريب الإكلينيكى والمشاهدة المباشرة.  لاحظ الاهتمام بالزيارات الضرورية لطلبة الطب لمستشفى الأمراض العقلية والتى توقفت عندنا من سنين.

 مقتطف (4):

“‏تعريف‏  ‏الجنون”يعبر‏ ‏عن‏ ‏الجنون‏ ‏من‏ ‏عهد‏ ‏ابقراط‏ ‏إلى ‏وقتنا‏ ‏هذا‏ ‏بأنه‏ ‏تغير‏ ‏مخى ‏ناشيء‏ ‏عن‏ ‏تكدر‏ ‏وظائف‏ ‏العضو‏ ‏المذكور‏ ‏تكدر‏اً ‏ماديا‏ ‏أو‏ ‏أدبيا‏……..فإنه‏ ‏متى ‏كان (المخ)‏ ‏سليما‏ ‏تنبعث‏ ‏عنه‏ ‏أشعة‏ ‏التصور‏ ‏والإدراك‏ ‏بحسب‏ ‏استعداده‏ ‏الطبيعى ‏والاكتسابى ‏بخلاف‏ ‏ما‏ ‏لو‏ ‏طرأ‏ ‏عليه‏ ‏تغير‏ ‏مادى ‏أو‏ ‏أدبى ‏وأحدث‏ ‏فيه‏ ‏ضعفا‏ ‏فان‏ ‏أشعته‏ ‏تضعف‏ ‏وتضمحل‏ ‏نور‏‏انيتها‏ ‏أعنى ‏تنناقص‏ ‏قواه‏ ‏العقلية‏ ‏تناقصا‏ ‏متناسبا‏ ‏مع‏ ‏شده‏ ‏غور‏ ‏وسعة‏ ‏الإصابة‏.‏  لاحظ ربط الجنون بخلل (تكدر) المخ!!!  هكذا مباشرةيمكن أن نتصور حدسا باكرا يربط بين هذه العبارة وبين الدراسات الأحدث للدراسات المقطعية الوظيفية.

مقتطف(5):

التعويض المخى‏قد‏ ‏أجريت‏ ‏على ‏المخ‏ ‏تجارب‏ ‏عديدة‏ ‏بقصد‏ ‏التوصل‏ ‏إلى ‏معرفة‏ ‏ما‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏متجانس‏ ‏التركيب‏ ‏أو‏ ‏غير‏ ‏متجانس‏ ‏فاهتدت‏ ‏الأبحاث‏ ‏بعد‏ ‏عناء‏ ‏الجهد‏ ‏واقتحام‏ ‏ظلمات‏ ‏هذا‏ ‏المقصد‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏متجانس‏ ‏ومن‏ ‏وقتئذ اهتدى‏ ‏الفسيولوجيون‏ ‏إلى ‏مفاتيح‏ ‏أبواب‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏محتجبا‏ ‏عن‏ ‏بصائرهم‏ ‏وراء‏ ‏عالم‏ ‏الخفاء‏ ‏والاستتار‏ ‏فتيقنوا‏ ‏بعد‏ ‏التشكيك‏ ‏والارتياب‏ ‏حملا‏ ‏على ‏تجانسه‏ …..  لاحظ عظمة التأكيد على ما ثبت مؤخرا بنظام الذاكرة وهذا ضد أى موضعة Localization مختزلة.

وبعد

ألا يستحق قصر العينى بعد ذلك أن ننسب إليه هذا الكتاب على الأقل فى هذه الطبعة؟

يحيى ‏الرخاوى 2018

من مقدمة الطبعة الثالثة من كتاب “مبادئ الأمراض النفسية” (1977)، ص 7

تأليف أ.د. عمر شاهين، أ.د. يحيى الرخاوى

…………

أعلام على الطريق:

وخليق‏ ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نذكر‏ ‏الفضل‏ ‏لذويه‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الشأن‏، ‏فإن‏ ‏الرواد‏ ‏الأوائل‏ ‏لهذا‏ ‏الطريق‏ ‏كان‏ ‏لهم‏ ‏فضل‏ ‏السبق‏ ‏وشرف‏ ‏البذل‏ ‏وجهاد‏ ‏القادة‏، ‏فكان‏ ‏علينا‏ ‏نحوهم‏ ‏واجب‏ ‏الشكر‏ ‏ولهم‏ ‏علينا‏ ‏حق‏ ‏العرفان‏ ‏بالجميل‏: ‏وقد‏ ‏كان‏ ‏الدكتور‏ ‏محمد‏ ‏فؤاد‏ ‏هو‏ ‏أول‏ ‏مصرى ‏تولى  ‏منصب‏ ‏رئيس‏ ‏قسم‏ ‏الصحة‏ ‏العقلية‏ ‏بوزارة‏  ‏الصحة‏، ‏ثم‏ ‏الدكتور‏ ‏محمد‏ ‏كامل‏ ‏الخولى ‏مديرا‏ ‏للصحة‏ ‏العقلية‏ ‏وكان‏ ‏أول‏ ‏طبيب‏ ‏نفسى ‏وصل‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏وكيل‏ ‏وزارة‏ ‏هو‏ ‏الدكتور‏ ‏محمد‏ ‏نصر‏ ‏ثم‏ ‏الدكتور‏ ‏أحمد‏ ‏وجدى ‏الذى ‏استطاع‏ ‏فى ‏مركزه‏ ‏هذا‏ ‏أن‏ ‏يقدم‏ ‏الكثير‏ ‏لفرعه‏. ‏وكان‏ ‏أول‏ ‏رائد‏ ‏للطب‏ ‏النفسى ‏على ‏مستوى ‏التعليم‏ ‏الجامعى ‏وأول‏ ‏أستاذ‏ ‏لعلم‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏فى ‏الجامعات‏ ‏المصرية‏ ‏هو‏ ‏الأستاذ‏ ‏الدكتور‏ ‏عبد‏ ‏العزيز‏ ‏عسكر‏ ‏الذى ‏أعاد‏ ‏حديثا‏ ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏سجلته‏ ‏مدرسة‏ ‏الطب‏ ‏المصرية‏ ‏من‏ ‏تعيين‏ ‏الدكتور‏ ‏نجاتى ‏مدرسا‏ ‏للأمراض‏ ‏العقلية‏ ‏وهو‏ ‏صاحب‏ ‏كتاب‏ ‏أسلوب‏ ‏الطبيب‏ ‏فى ‏فن‏ ‏المجاذيب‏ ‏الصادر‏ ‏سنة‏ 1891 (1309 ‏هـ‏) ، ‏وقد‏ ‏ورد‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏ما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏أسبقية‏ ‏رائعة‏ فى ‏التصنيف‏ ‏والتعليل‏ ‏حتى ‏وصف‏ ‏حالات‏ ‏الازدواج‏ ‏الشخصى ‏والفرق‏ ‏بين‏ ‏عمل‏ ‏نصفى ‏المخ‏…. ‏مما‏ ‏أكدته‏ ‏التصنيفات‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏اللاحقة‏ ‏والأبحاث‏ ‏الفسيولوجية‏ ‏المعاصرة‏.‏

ولكن‏ ‏الطريق‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏سهلا‏ ‏ميسرا‏ ‏أبدا‏.‏

فإذا‏ ‏نظرنا‏ ‏مثلا‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏لاقاه‏ ‏الدكتور‏ ‏محمد‏ ‏كامل‏ ‏الخولى ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏عاد‏ ‏من‏ ‏دراسته‏ – ‏على ‏حسابه‏ ‏الخاص‏ – ‏من‏ ‏لندن‏ ‏حاصلا‏ ‏على ‏دبلوم‏ ‏التخصص‏ ‏فى ‏الطب‏ ‏العقلى ‏سنة‏ 1923 (‏وكانت‏ ‏قد‏ ‏أنشئت‏ ‏هذه‏ ‏الدبلوم‏ ‏سنة‏ 1921 ‏فقط‏) ‏نراه‏ ‏وقد‏ ‏استبعده‏ ‏رئيسه‏ ‏الإنجليزى ‏عن‏ ‏فرع‏ ‏تخصصه‏ ‏إلى ‏مصلحة‏ ‏الطب‏ ‏الشرعى ‏حتى ‏عاد‏ ‏الدكتور‏ ‏على (‏باشا‏) ‏إبراهيم‏ ‏سنة‏ 1941 ‏فآصر‏ ‏على ‏أن‏ ‏يعود‏ ‏إلى ‏مكانه‏ ‏الطبيعى ‏حتى ‏وصل‏ ‏فى ‏سنة‏ 1946 ‏مديرا‏ ‏للصحة‏ ‏رئيسا‏ ‏لها‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏تنحى ‏بسبب‏ ‏تقدمه‏ ‏فى ‏السن‏ ‏عام‏ 1972 ‏وقد‏ ‏شارك‏ ‏فى ‏تكوين‏ ‏الاتحاد‏ ‏العالمى ‏للصحة‏ ‏العقلية‏ ‏سنة‏ 1948 ‏وكان‏ ‏أول‏ ‏مصرى ‏ينتخب‏ ‏رئيسا‏ ‏للاتحاد‏ ‏العالمى ‏للصحة‏ ‏العقلية‏ ‏سنة‏ 1952 ‏وقام‏ ‏خلال‏ ‏ذلك‏ ‏كله‏ ‏بمجهود‏ ‏علمى ‏كبير‏ ‏فنشر‏ ‏له‏ ‏واحد‏ ‏وعشرون‏ ‏بحثا‏ ‏ومقالة‏ ‏فى ‏مختلف‏ ‏نواحى ‏الطب‏ ‏العقلى ‏والطب‏ ‏الجسمى ‏النفسى ‏والطب‏ ‏العقلى ‏الجنائى ‏والتربية‏ ‏وعلم‏ ‏النفس‏ ‏كما‏ ‏نشر‏ ‏كتابا‏ ‏فى ‏الطب‏ ‏العقلى ‏الشرعى‏.‏

أما‏ ‏على ‏المستوى ‏الجامعى ‏فلم‏ ‏يكن‏ ‏الطريق‏ ‏أكثر‏ ‏تمهيدا‏، ‏ولم‏ ‏تكن‏ ‏الصعوبات‏ ‏أقل‏ ‏شأنا‏ ‏فنرى ‏أن‏ ‏الأستاذ‏ ‏الدكتور‏ ‏عبد‏ ‏العزيز‏ ‏عسكر‏ ‏قد‏ ‏لاقى ‏من‏ ‏المشقة‏ ‏ما‏ ‏لاقى ‏فى ‏سبيل‏ ‏إرساء‏ ‏قواعد‏ ‏هذا‏ ‏العلم‏، ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏تخصصه‏ فى هيئة التدريس بالجامعة ‏فى ‏الأطفال‏ ‏أولا‏ – ‏ولما‏ ‏أراد‏ ‏تخصصا‏ ‏أدق‏ ‏وصمم‏ ‏على ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏أمراض‏ ‏نفسية‏ ‏الأطفال‏ ‏استدعى ‏من‏ ‏مهمته‏ ‏العلمية‏ ‏سنة‏ 1937 ‏وفى ‏سنة‏ 1939 ‏أتيحت‏ ‏له‏ ‏الفرصة‏ ‏مرة‏ ‏ثانية‏ ‏لمدة‏ ‏أطول‏ ‏حين‏ ‏قامت‏ ‏الحرب‏ ‏العالمية‏ ‏الثانية وهو بالخارج‏ ‏فدرس‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏العام‏ ‏والتحليل‏ ‏النفسى‏، ‏وحين‏ ‏عاد‏ بعد أن وضعت الحرب أوزارها ‏سنة‏ 1944 ‏رفض‏ ‏كل‏ ‏محاولة‏ ‏للرجوع‏ ‏إلى ‏تدريس‏ ‏طب‏ ‏الأطفال‏ ‏رغم‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏كان‏ ‏أكثر‏ ‏إغراء‏ ‏من‏ ‏الناحيتين‏ ‏الوظيفية‏ ‏والمادية‏، ‏وبعد‏ ‏ذلك‏ ‏ثار‏ ‏خلاف‏ ‏فى ‏الرأى ‏بينه‏ ‏وبين ‏قسم‏ ‏الأمراض‏ ‏العصبية‏ ‏الذى ‏ألحق‏ ‏به‏ – ‏حول‏ ‏مدى استقلال الأمراض النفسية‏ ‏عن‏ ‏العصبية‏ ‏لم‏ ‏ينهه‏ ‏إلا‏ ‏استقلاله‏ ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏الصعوبات‏ ‏المحيطة‏ ، ‏الأمر‏ ‏الذى ‏دعا‏ ‏الدكتور‏ ‏عبد‏ ‏الوهاب‏ (‏باشا‏) ‏مورو‏ (عميد‏ ‏الكلية‏ ‏حينذاك‏) ‏إلى ‏فصل‏ ‏القسمين‏ ‏سنة‏ 1950، ‏وقد‏ نجح فى إنشاء ‏‏درجة‏ ‏الدكتوراه‏ ‏فى ‏الأمراض‏ ‏الباطنية‏ ‏فرع‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏وشغل‏ ‏سيادته رئاسته‏‏ حتى ‏سنة‏ 1960، كما‏ ‏كان‏ ‏سيادته‏ ‏صاحب الفضل‏ ‏مع‏ ‏الأستاذ‏ ‏الدكتور‏ ‏محمود‏ ‏سامى ‏عبد‏ ‏الجواد‏ ‏فى فكرة‏ ‏تأسيس‏ ‏الجمعية‏ ‏المصرية‏ ‏للطب‏ ‏النفسى ‏سنة‏ 1971، وقد تم إشهارها فعلاً.

****

الوثيقة رقم (3):

القاهرة فى: 12/12/1993

مذكرة حول تسمية القصر الجديد/قصر العينى: قصر كلوت بك – محمد على الكبير، وليس القصر الفرنساوى.

السيد الأستاذ الدكتور عميد كلية الطب

بعد السلام عليكم، برجاء عرض هذا الاقتراح على مجلس الكلية

تقديم: تكرر ذكر صفة “الفرنساوى” ملحقاً باسم “القصر العينى” إشارة إلى الصرح الجديد الذى أقيم فى عهدكم وعهد سلفكم والذى أحاطته المشاكل التى حلت بفضل حكمتكم إن شاء الله، وقد نبهتُ سيادتكم والزملاء الأفاضل بضرورة الحرص على عدم التمادى فى استعمال هذه الصفة، (الفرنساوى) وإلا لصقت به دون مبرر قومى أو تاريخى أو حتى مادى أو أخلاقى، فهذا الصرح ليس منحة من أحد، مع الاعتراف بفضل كل من أسهم فى بنائه من الأجانب، هذا القصر العينى هو “مصر” 100% وسيظل كذلك، ويظل هذا القصر هو تاريخ ماثل برغم إزالته وإعادة بنائه، ومازالت لافتة “دار صحة النساء ، ودار صحة الرجال: من أتر فيض محمد على (كانت مكتوبة هكذا “أتر وليست “أثر”) تـَـمـْـثـُـل أمام عينى وكانت مكتوبة على مدخل قسمنا وقسم التناسلية قبل الإزالة على لوحة رخامية صغيرة – وللأسف أظن أن هذه الرخامة قد ضاعت مع الأنقاض.

الاقتراح الذى أقدمه هو ذو شقين أدعو الزملاء أن يختاروا بينهما، وأن يتعهدوا، باستعمال الإسم الجديد وأن ينهروا كل من ينسى ذلك كبيرا أم صغيرا أولا بأول قبل أن يأخذ اسم “الفرنساوى” شرعية بالتقادم .

الاسم الأول المقترح : “قصر العينى . كلوت بك”

وهذا الاسم هو حل وسط، إذ يعترف بفضل رائد فرنسى كان له الفضل فعلا فى إنشائه، وبالتالى هو يعترف ضمنا بالعلاقة العلمية والحضارية مع فرنسا (وليس بالعلاقة المقاولاتية والصفقاتية التى سمعنا عنها كثيرا وأرهقتكم مع المقاولين الفرنسيين حاليا …الخ)

الاسم الثانى المقترح هو : “قصر العينى . محمد على الكبير”.

وهذا فى حالة التحرج من إطلاق اسم رجل فرنسى على هذا الصرح ، لعل فى ذلك تخليدا لاسم رائد النهضة المصرية الحديثة بعد أن أنكرناه وتنكرنا له طويلا، ذلك الرجل الذى كان له الفضل فى تكليف “كلوت بك” بهذه المهمة واستدعائه لها، فكانت مدرسة الطب العليا، فقصر العينى.

وأهم من مجرد الموافقة على أى من الاقتراحين (وأنا شخصيا أرجح الاقتراح الأول) أن نـُـصـِـرّ على استعمالهما طول الوقت، ومن الآن وأن نخجل فعلا من ذكر كلمة الفرنساوى هكذا بهذا الاستسهال.

وتفضلوا سيادتكم بقبول فائق الاحترام، وعليكم السلام .

التوقيع

أ.د. يحيى الرخاوى

أستاذ ورئيس قسم الطب النفسى

1993

ثانياً: شهادات

مقدمة:

 حاولنا ونحن نعد لهذا المؤتمر بمناسبة مرور نصف قرن على إنشاء القسم أن نضع ثلاثة استبارات للاستعانة بما يأتينا من ردود بشأنها فى تغطية موضوعه، وسوف أكتفى بالإشارة إلى الاستبار الثالث وهو الخاص بشهادات الجيل الأول أ.د.محمود سامى عبد الجواد، أ.د. عمر شاهين، أ.د. يحيى الرخاوى، وذلك نظراً لقصور نسبى فى الاستجابات من الزملاء من خارج القسم.

 وقد أوردنا الاستجابات كما وردت إلينا حرفيا([1])  سواء إجابة على أسئلة محددة، أو إضافة طليقة تفضلوا بكتابتها دون تدخّل أو تعليق.

شهادة: أ.د. محمود سامى عبد الجواد

I– ماذا تحب أن تقول (كما تشاء) عن:

(أ) قصر العينى عامة (قصر العينى: الكلية – المدرسة الفكرية – القيمة القومية – التاريخ …الخ)

أول كلية (مدرسة) طب فى مصر، والأب الروحى لباقى كليات الطب وهذا يعطى قصر العينى قيمة قومية، وتاريخية حتى أن بعض المستشفيات الإقليمية تشرف بتسميتها قصر العينى.

(ب) عن قسم الطب النفسى – قصر العينى (المعنى – الرمز – الوظيفة – الدور – الريادة – المدرسة الوطنية الطبنفسية – …..الخ)

أول قسم للطب النفسى بمفهومه العلمى والإكلينيكى كتخصص مستقل عن الأمراض العصبية، وقد حذا حذوه معظم كليات الطب الأخرى، ويحرص القسم على ارتباطه بالطب الباطنى.

(ج) عن أ.د. عبد العزيز عسكر (الشخص – الأستاذ – العلاقة – الرمز – الوالد …الخ)

علاقتى بالأستاذ الدكتور عبد العزيز عسكر بدأت حين كنت أول طبيب مقيم (نائب) يعمل بقسم الأمراض النفسية كوحدة مستقلة ضمن قسم الأمراض الباطنة الخاصة.

(ء) آراء أخرى؟ (أى إضافات حرة تتعلق بما سبق أو غيره)

الدكتور عسكر شخصية مناضلة تغلب على الكثير من العقبات الإدراية والتعليمية حتى أسس قسم الأمراض النفسية وهو مثل أعلى للأستاذ والوالد الروحى لأبنائه.

II– ما هو الدور الذى تحب أن تبرزه عن موقع “سيادتكم” أو دوركم الخاص فى قسم الطب النفسى قصر العينى، وما يمثله ذلك فى تاريخكم العلمى (أو الشخصى) مثلا:

(أ) مشاعركم الشخصية (عاطفة – إضافة – تطوير – تقدير – اعتراف بالجميل – ديْن …الخ)

ساهمتُ مع الأستاذ الدكتور عسكر فى تطوير قسم الملاحظة إلى أن أصبح قسم الأمراض النفسية له أسـِـرّة داخلية بالقصر العينى القديم بجوار قسم أمراض باطنة وله عيادة خارجية يومية تعمل من الساعة الثامنة صباحا حتى الرابعة بعد الظهر.

 (ب) التلمذة (التعلُّم) المشاركة مع زملاء أساتذة – داخل القسم – خارج القسم إن شئتم.

تمكنت من الحصول على دبلوم الأمراض الباطنة أثناء فترة النيابة وهذا تأييد لأهم الارتباط بين الطب النفسى والطب الباطنى، ثم قمت بإعداد رسالة الدكتوراه وكانت فى الطب الباطنى.

 (ج) الدور تجاه الطلبة (بكالوريوس – دراسات عليا) (وصفا، أو نقداً، أو أملاً..الخ)

بدأت التدريس لطلبة البكالوريوس وأنا طبيب مقيم حيث كان الأستاذ أ.د.عسكر مشغولا بالتدريس لطلبة دبلوم العصبية والنفسية.

III– أشرفتم على رسائل كثيرة فى القسم فى قصر العينى، وأيضاً فى أقسام أخرى، من خلال القسم:

ما الذى تتميز به الرسائل التى أشرفتم عليها بصفة عامة؟

كنت أحرص على أن تكون ذات صلة بالطب الباطنى وبالتمريض النفسى لأهمية إعداد الممرضة المتخصصة وكذلك الأخصائية الاجتماعية النفسية.

– ما هى أهم رسالة (أو أكثر) ترون أنها تميز روح قصر العينى؟

يشتهر قسم الطب النفسى بقصر العينى بالاهتمام بالأبحاث الإكلينيكية والاجتماعية فى مجال الطب النفسى.

– هل أنتم راضون عن منهج البحث العلمى فيما أشرفتم عليه من رسائل أو ما قمتم به من أبحاث، وماذا تقترحون لتحسينه؟

منهج البحث العلمى فى معظم الرسائل التى أشرفت عليها مـُرْضٍ بصفة عامة والتطوير مطلوب باستمرار فى البحث العلمى.

IV– وماذا عن المحلية فى مقابل العالمية فى كل من:

        (أ) الممارسة     (ب) الرسائل     (جـ)  الأبحاث

ما زالت الممارسة والرسائل والأبحاث فى قسم الطب النفسى محلية ونأمل أن تصل إلى العالمية.

– هل تقترح أى شىء بهذا الصدد؟

تدعيم المكتبة بالكلية وبالقسم بالدوريات والمراجع الحديثة، وتشجيع الاشتراك فى المؤتمرات الدولية العالمية، والقيام بالأبحاث المشتركة مع الجامعات الأجنبية.

(أ) موضوع (مواضيع) يهمك البحث فيه؟

يهمنى البحث فى مجالات الطب النفسى الاجتماعى

(ب) منهج تقترحونه أو تفضلونه؟

المنهج التعلمى السليم من حيث تحديد الهدف فى البحث المزمع إجراؤه، واتباع الأسلوب العلمى والإحصائى الدقيق فى تقويم النتائج.

– هل لكم اقتراحات بهذا الشأن؟

يستحسن الاستعانة فى إجراء البحوث بمتخصص فى الإحصاء الطبى يشارك فى التخطيط للبحث قبل القيام به وليس مجرد تحليل النتائج.

V– أسئلة عن المرضى النفسيين والعقليين ومرضى الطب النفسى الوصلى Iiaison الذين يخدمهم قسم القصر العينى (القسم).

(أ) ما رأيكم فى استمرارية العيادة الخارجية يوميا، طول هذه العقود، طول اليوم، كل الأيام؟ هل هذا له دلالة خاصة عندكم؟

منذ إنشاء قسم الطب النفسى وهو يعمل يوميا حتى قبل بدء العمل بالعيادة الخارجية الحالية مقارنة بالأقسام الأخرى العامة والخاصة التى يعمل معظمها يومين فقط فى الأسبوع.

– هل يمكن أن تصف “مجتمع المترددين ككل” (من حيث المستوى العام – التجانس – ثقتهم بالقصر – العلاقة المتولدة والمتجددة بينمم بيةن هيئة خدمتهم من الأطباء والتمريض والعمال …إلخ)

فيما يتعلق بقسم الأمراض النفسية يؤكد أرشيف القسم والعيادة مدى ثقة المترددين عليه طول هذه السنين ورضاهم بصفة عامة عن الخدمات المتاحة.

 (ب) ما رأيك فى دور القسم الداخلى فى القسم (قصر العينى) وهل يتناسب مع دور العيادة؟

مر القسم الداخلى بمراحل عدة بدأ بقسم الملاحظة وتطويره ليصبح قسما داخليا أجريت فيه أبحاث الدكتوراه ثم القسم الداخلى بالقصر العينى القديم قبل إزالته ثم جزء من قسم باطنية 5 ثم حاليا فى قسم 4 عصبية ونفسية.

– هل تذكرون “قسم الملاحظة” وماذا كان دوره؟

عملت به كأول طبيب امتياز سنة 1952 ثم أو لطبيب مقيم سنة 53 إلى سنة 55 ثم أول معيد إكلينيكى سنة 55 وكان قسم الملاحظة نواة نشأة قسم الأمراض النفسية.

– هل تغير دور قسم الطب النفسى حين نقل القسم للقصر القديم؟

كان القسم الطب النفسى بالقصر العينى بالقديم أسرة خاصة بالرجال وأخرى بالحريم أسوة بباقى الأقسام الأخرى وكان عدد أسرة القسم أربعين سريرا.

– ماذا كان شعوركم عند هدم القصر القديم؟

أصبحنا مشردين بين الأقسام الباطنية بمستشفى المنيل، تارة قسم 5 أمراض باطنة وحاليا قسم 4 بالمشاركة مع قسم الأمراض العصبية وانخفض عدد الأسرة إلى 25 رجال فقط.

– ماذا عن الوضع الحالى؟

لا توجد أسرة مخصصة للحريم وهذا يؤثر سلبيا فى إجراء الأبحاث العلمية، بالإضافة لعدم تناسب عدد الأسرة مع أعضاء هيئة التدريس.

– ماذا عن آمالكم فى المبنى الجديد؟

نأمل أن يعوض المبنى الجديد ما عاناه قسم الأمراض النفسية طيلة هذه السنين.

V– إضافات عن علاقة الأمراض النفسية (من وجهة نظركم) لكل مما يلى:

(أ) بمدارس التمريض؟

منذ البداية أهتم القسم بالتدريس لتلميذات التمريض ولطالبات الدراسات العليا بالتمريض.

(ب) بالأقسام الأخرى؟

يشارك القسم بفعالية فى الخدمات الإكلينيكية والعلاجية والبحثية مع الأقسام الأخرى.

(i) بالأقسام الأكاديمية

يستعان بالأقسام الأكاديمية فى إجراء الأبحاث الإكلينيكية وفى امتحانات الدراسات العليا.

(ii) بالأقسام الإكلينيكية الأخرى

العلاقة وثيقة فى مجالات العلاج والأبحاث

(جـ) بكليات الطب الأخرى؟ دوره فى أى من (واحد أو أكثر)

(i) إنشاء أقسام طب نفسى جديدة؟

معظمهم إن لم يكن كل أقسام الطب النفسى بالجامعات الأخرى خرجت من رحم هذا القسم الأم.

 (ii) استقلال قسم الطب النفسى عن قسم الأمراض العصبية

تم ذلك بعد معاناة وكفاح ومثابرة من الأستاذ عسكر وبفضل الأستاذ عبد الله الكاتب عميد الكلية (وهو جراح) 1951 حيث أنشا ثلاثة أقسام جديدة متخصصة (نفسية – جراحة أعصاب – جراحة قلب).

(د) بالكليات والمعاهد غير الطبية (كليات الآداب – معاهد الخدمة العليا والمتوسطة)

يشارك أساتذة فى قسم علم النفس الإكلينيكى فى التدريس وإجراء الأبحاث كما يقوم القسم بالتدريس والإشراف على الأبحاث بمعاهد الخدمة الاجتماعية.

 (هـ) بمدارس ومعاهد وكليات التمريض

يشارك القسم بفعالية منذ إشنائه فى التدريس والإشراف على الأبحاث فى مدارس ومعاهد وكليات التمريض فى الجامعات المختلفة، وفى لجان الترقية.

VI– ما هى آمالكم وتطلعاتكم وتوقعاتكم للقسم مستقبلا؟

الاهتمام بالتخصصات المختلفة داخل إطار الطب النفسى العام مثل طب نفسى الأطفال والمراهقين – الشيخوخة – الإدمان.

– الطب النفسى الاجتماعى باثولوجيا النفسى مع استمرار التعاون والارتباط بالطب الباطنى العام والأمراض العصبية.

– القيام بدور فعال فى نشر الوعى الطبى النفسى أولا بين طلبة الطب ثم بالمجتمع على مستوى درجاته واحتياجاته فى مجال الطب النفسى وإزالة وصمة المرض النفسى والعقلى والله ولى التوفيق.

شهادة: أ.د. عمر شاهين

I– ماذا تحب أن تقول (كما تشاء) عن:

(أ) قصر العينى عامة (قصر العينى: الكلية المدرسية الفكرة – القيمة القومية – التاريخ …الخ)

قصر العينى الكلية الأولى منها خرجت بقية كليات الطب فى مصر ولازال مطلوب منها الكثير لتحديث التعليم الطبى وتطوير الخدمات الطبية.

(ب) عن قسم الطب النفسى – قصر العينى (المعنى – الرمز – الوظيفة – الدور – الريادة – المدرسة الوطنية الطبنفسية …الخ)

القسم هو عمرى الذى عشته، وهو القسم الذى أرسى المفهوم الشامل للإنسان، وإستخدم هذا المفهوم فى العلاج ونشر الأقسام المماثلة فى كليات الطب المختلفة وتعامل مع أقسام الكلية الأخرى وقدّم خدمات مشتركة فى بحوث مشتركة – وهو الذى حمل مسئولية تطوير الطب النفسى تدريسا وخدمة فى مصر.

(ج) عن أ.د. عبد العزيز عسكر (الشخص – الأستاذ – العلاقة – الرمز – الوالد …الخ)

الدكتور عسكر إنسان وأستاذ ووالد عمل الكثير من أجل بدء هذا الفرع فى مصر ولاقى الكثير من العنت والنكران والصعوبات بكثير من الصبر .

II– ما هو الدور الذى تحب أن تبرزه عن موقع “سيادتكم” أو دوركم الخاص فى قسم الطب النفسى قصر العينى، وما يمثله ذلك فى تاريخكم العلمى (أو الشخصى) مثلا:

(أ) مشاعركم الشخصية (عاطفة – إضافة – تطوير – تقدير – اعتراف بالجميل – دين …الخ) .

ذكرت أن هذا القسم هو عمرى وقد استطعت فى وقت صعب أن أحافظ على وجود القسم واستمراره ومددت خدماته التعليمية والبحثية إلى غيره من أقسام الكلية وغيرنا من كليات الطب وكليات الجامعة وأكدت على البحث الجماعى والعمل الجماعى فى القسم، وطورتـُه فى الخدمة وفى المبانى كما استطعت – ولازلت آمل أن يزداد نجاحا فى مستقبل الأيام باتجاهه إلى التخصصات النفسية المختلفة.

 (ب) التلمذة (التعلم) المشاركة مع زملاء، أساتذة – داخل القسم – خارج القسم إن شئتم .

كانت فكرة العمل الجماعى هى السائدة ومن آسف فقد تأخرت كثيرا. ومعلمى كما علمنى الدكتور عسكر كان المريض والكتاب.

(ج) الدور تجاه (بكالوريوس – دراسات عليا) (وصفا، أو نقدا ، أو آملا …إلخ).

فى فترة كان القسم له دور اجتماعى فى الكلية بين الطلاب وكانت هناك الجمعية النفسية وكانت هناك الأسر الجامعية وأعتقد أن هذا الاتجاه قد توقف لانشغال الأساتذة وربما لانشغال الطلاب.

III– أشرفتم على رسائل كثيرة فى القسم فى قصر العينى، وأيضا فى أقسام أخرى، من خلال القسم.

– ما الذى تتميز به الرسائل التى أشرفتم عليها بصفة عامة؟

تتميز الرسائل التى أشرفت عليها بوضوح الفكرة والاستقصاء للموضوع والإتجاه الاحصائى.

– ما هو أهم رسالة (أو أكثر) ترون أنها تميز روح قصر العينى؟

الإنسان لا يستطيع أن يميز بين أبنائه.

– هل أنتم راضون عن منهج البحث العلمى فيما أشرفتم عليه من رسائل أو ما قمتم به من أبحاث، وماذا تقترحون لتحسينه؟

أعتقد أن المنهج العلمى كان هو الأساس فى كل البحوث التى قمت بها خاصة أنى ابتعدت كثيراً عن المنهج الفردى.

IV– وماذا عن المحلية فى مقابل العالمية فى كل من:

(أ) الممارسة          (ب) الرسائل           (ج) الأبحاث

المحلية واحة وهى الطريق إلى العالمية ، إن إجادة العمل هى الموصل لجودته سواء كان العمل ممارسة خدمية أو بحثية أو تعليمية.

– هل تقترح أى شىء بهذا الصدد؟

أولى بهذا الأساتذة العاملون، فأنا الآن أستاذ متفرغ.

(أ) موضوع (مواضيع) يهمك البحث فيه؟

الأبحاث المسحية: فكل ما على الساحة مجرد انطباعات أو أبحاث محدودة والغرض من ذلك أن نحدد سمات المجتمع المرضية وتخطط لمستقبله العلاجى.

 (ب) منهج تقترحونه أو تفضلونه ؟

– هل لكم اقتراحات بهذا الشأن؟

V– أسئلة عن المرضى النفسيين والعقليين ومرضى الطب النفسى الوصلى liaison  الذين يخدمهم قسم القصر العينى (القسم):

(أ) ما رأيكم فى استمرارية العيادة الخارجية يوميا، طول هذه العقود، طول اليوم، كل الأيام؟ هل هذا دلالة خاصة عندكم؟

استمرار العيادة يوميا كان احتياجا للمواطنين وبدأت العيادة بفترتين ينتهيان فى الساعة الخامسة مساء ولكنها تقلصت فى الوقت مع مرور الزمن.

– هل يمكن أن تصف “مجتمع المترددين ككل” (من حيث المستوى العام – التجانس – ثقتهم بالقصر – العلاقة المتولدة والمتجددة بينهم وبين هيئة خدمتهم من الأطباء والتمريض والعمال…الخ) ؟

المترددون بشر وهم من الطبقات الدنيا من المجتمع، وأعتقد أن علاقتهم بالموقع يحددها ما يلقونه من رعاية وخدمة، وأشكو معهم من تدهور هذه الرعاية والخدمة ومن الميكنة فى التعامل مع المرضى.

(ب) ما رأيك فى دور القسم الداخلى فى القسم (قصر العينى) وهل يتناسب مع دور العيادة؟

القسم الداخلى ضعيف ونحن نساهم فى مزيد من ضعفه فنتجاهل احتياجات المرضى وتقليل استخدامه.

– هل تذكرون قسم الملاحظة ، وماذا كان دوره؟

قسم الملاحظة دوره كان يحدده القانون – غير أن هذا القانون نسى فى التطبيق اعتمادا على اعتبار المرضى فى القسم كلهم مختارين ومن المؤكد أنه كان يحل كثيرا من المشاكل للمواطنين ويقلل من توجههم إلى المستشفيات العقلية.

– هل تغير دور قسم الطب النفسى حين نقل القسم للقصر القديم؟

بالطبع تغير وفى فترة كان القسم وقسم الملاحظة موجودان فى الخدمة معا .

– ماذا كان شعوركم عند هدم القصر القديم؟

شعور الأسف والأمل فى أن يكون البناء الجديد أكثر مواءمة لاحتياجات قسم الأمراض النفسية.

– ماذا عن الوضع الحالى؟

الله أعلم.

– ماذا عن آمالكم فى المبنى الجديد؟

أتمنى أن يراعى فيه الاتجاه الإنسانى التكاملى.

V– إضافات عن علاقة قسم الأمراض النفسية (من وجهة نظركم) لكل مما يلى:

(أ) بمدارس التمريض؟

قسم الأمراض النفسية تبنى مدرسة التمريض وكنت لفترة طويلة مشرفا عليها أدخلت فيها التخصصات التمريضية المختلفة كدبلومات عالية ومن بعدها تمريض الأمراض النفسية وسمحت بفرع للبنين واستخدمت القياس النفسى فى امتحانات القبول – وأشرفت فترة على المعهد للتمريض غير أنى لم أستطع أن أوثر فيه نظرا لقصر المدة ولشدة المقاومة.

(ب) بالأقسام الأخرى؟

(I) بالأقسام الأكاديمية

القسم عمل الكثير من الأبحاث الأكاديمية وكانت علاقة طيبة دائما فيها الود وفيها التقدير.

(II) بالأقسام الإكلينيكية الأخرى

امتد نشاط القسم للأقسام الإكلينيكية فى الخدمة فعمل .

1- وحدات مشتركة كوحدة الضعف الجنسى.

2- تعليم طلبة الدراسات العليا.

3- بحوث مشتركة.

4- فروع للقسم فى الأقسام كوحدة معهد السرطان ووحدة طب نفس الأطفال

(جـ) بكليات الطب الأخرى؟ دوره فى أى من (واحد أو أكثر)

(I) إنشاء أقسام طب نفسى جديدة؟

1- كلية طب المنصورة

2- كلية طب طنطا

3- كلية طب الزقازيق

4- كلية طب بنها

5- كلية طب أسيوط

6- كلية طب الأزهر

 (III) استقلال قسم الطب النفسى عن قسم الأمراض العصبية

كان مطلوبا مواكبة العالم فى الاتجاه إلى التخصص لمزيد من التجويد للعمل خاصة وأن العلم يتسع والمعلومات تتزايد بشكل كبير.

 (د) بالكليات والمعاهد غير الطبية (كليات الآداب – معاهد الخدمة العليا والمتوسطة)

1- المشاركة فى دبلوم علم النفس الإكلينيكى – تدريس

2- المشاركة فى التدريس لطلبة الدراسات العليا فى كليات الخدمة الإكلينيكية.

3- المشاركة فى الإشراف على رسائل الدكتوراه فى كلية الخدمة الاجتماعية.

(هـ ) بمدارس ومعاهد وكليات التمريض

  • الإشراف على مدرسة التمريض
  • إنشاء دبلوم التمريض النفسى
  • إنشاء دبلوم تدريس التمريض
  • إنشاء فرع التمريض للبنين
  • الإشراف على معهد تمريض قصر العينى
  • الاشتراك فى رسائل وامتحان هذا المعهد
  • المشاركة فى رسائل التمريض بالاسكندرية
  • المشاركة فى لجان تطوير تعليم التمريض.

VI– ما هى آمالكم وتوقعاتكم للقسم مستقبلا.

  • الأمل فى عمل وحدات متخصصة
  • الاهتمام بالبحوث المسجلة
  • الاهتمام بوضع خطة للبحوث يفردها القسم وينفذها أساتذة القسم
  • الاهتمام بتعليم “الصحة النفسية” والطب النفسى الشرعى فى الأقسام المقررة سواء على مستوى البكالوريوس أو الدراسات العليا
  • تطوير الخدمات فى العيادات الخارجية
  • تطوير الخدمات فى وحدات المستشفى النفسى
  • الانفتاح على العالم فى البعثات والدراسات المشتركة والرسائل المشتركة
  • الالتزام بالجدية فى كل شىء وخاصة ما يتعلق بالخدمات والبحوث.

أ.د. عمر شاهين شهادة طليقة

حكايات وذكريات فى البدايات والنهايات

طلب إلى أن أكتب شيئا عن تاريخ القسم الذى لا أزال أعمل به أستاذا متفرغا “واحترت” ماذا أكتب عن قسم كان الأول من نوعه فى جمهورية مصر … وتحمل بهذا مسئولية الريادة وشرفها ومتاعبها … ومازالت قضية التاريخ تزعجنى فقد تداخلت فى ذهنى التواريخ والحوادث .. وللتاريخ لابد من الرجوع إلى المصادر والمستندات.

وكان الوقت قصيرا لأفعل كل ذلك كما كان الجهد المطلوب أكبر مما أستطيع أن أقدم عليه فى هذا السن الذى أعيشه، ومن هنا كان هذا التداعى الذى سأذكر فيه بعض الذكريات عن بدايات القسم وعن بعض الأصول التى أرساها الأستاذ الدكتور / عبد العزيز عسكر منشىء هذا القسم والتى كان يأمل كما آمل أن يستمر العمل بها فى النطاق الجامعى، كما يشمل بعض الذكريات عن تطوير القسم والتى أرجو أن أسجلها فى تاريخ القسم فقد يكون لها فائدة.

 (1) المعلم الأول:

كنت قد أصبحت طبيبا مقيما بقسم الأمراض النفسية وكانت خبرتى لاتزال محدودة فلم تكن أكثر من ثلاثة شهور من العمل كطبيب امتياز ورأيت أنه من اللازم على أن استكمل ما أحسسته من نقص وعدم فهم، وقررت بينى وبين نفسى أن أجلس إلى الأستاذ الدكتور عبد العزيز عسكر كلما أمكن ذلك لأتعلم منه ولأسأله فيما أجهل.

ولاحظ سيادته هذه الظاهرة وعند جلوسى أمامه سألنى هل تعرف من هو المعلم الأول الذى يعلمك الطب النفسى؟ قلت له، سيادتكم طبعا، فأجابنى لا … المعلم الأول الذى سيعلمك هو المريض النفسى، فعليك أن تجلس إلى المريض وتستمع إليه وتنتبه إلى كل ما يقول، فهذا مربط الفرس، ومن هذا ستتعلم أعراض المرض وكيف تتكون وإذا وجدت صعوبة فعليك أن تستشير الكتاب فهو أوفى صديق، فلن يرفضك الكتاب ولن يضن عليك بمعرفة، بعدها بدأت فى تلقى العمل من المعلم الأول.

(2) كيف تنشئ قسما:

كان قسم الأمراض النفسية عند بدئه بضعة حجرات فوق سطح مستشفى المنيل الجامعى كان القسم الصغير هو العيادة الخارجية والقسم الداخلى معا، ولاحظ الدكتور/عبد العزيز عسكر أن العيادة الخارجية للمستشفى بها مظلة كبيرة بطول العيادة الخارجية وطلب أن يحصل على مساحة ثلاثة بواكى من هذه المظلة ليجعلها عيادة خارجية، وكان مبرره أن المرضى لا يستطيعون الصعود إلى العيادة الخارجية لأنها فى الدور الرابع فى مبنى المستشفى ولأن العيادة الخارجية تغلق بابها المتجه إلى المستشفى مبكراً، الأمر الذى يجعل وصول المرضى إلى العيادة الخارجية مستحيلا.

كان هذا المنطق المجرد والمسجل على الأوراق الموجهة إلى مدير عام المستشفيات معبرا عن الحقيقية، مع تواضع المطلب والمكان، حيث أنه لا مطمع فيه من أى من الاقسام القديمة الراسخة، كان هذا هو السبب فى قبول الطلب وبدأت العيادة الخارجية بثلاث حجرات، حجرة لفحص، حجرة للعلاج، وحجرة لإفاقة المرضى بعد علاج الصدمات الكهربائية.

وهكذا أصبح المنطلق والحق والصبر والتواضع سمة هذا القسم حتى أمكن أن تصل العيادة الخاجية إلى أكثر من عشرين حجرة وأصبحت بها مدرجات للتدريس ومنطقة للفحص بها ثلاث عيادات وأرست قواعد العمل الفريقى فأصبح فى وحده العيادة الأخصائى الاجتماعى الذى يستقبل المريض وأهله ليسمع منهم ويسجل تاريخه الاجتماعى ثم حجرة الفحص الجسمى وأخيرا حجرة الفحص النفسى، باختصار أصبحت عيادة خارجية نموذجية، وأصبحت مزارا يزوره كل من يحضر إلى المستشفيات من الأجانب باعتبارها أحد مفاخر مستشفيات جامعة القاهرة. هذه العيادة هدمت حالياً لينشأ فى مكانها القسم الجديد للأمراض النفسية.

 (3) الأرشيف ذاكرة العمل:

كنت لازلت فى بدء حياتى فى قسم الأمراض النفسية عندما استدعى الأمرأن أكتب مذكرة بطلبات للقسم عند الإدارة … وعرضت المذكرة على الدكتور عسكر فعّدل فيها وبّدل ثم طلب منى أن أكتبها، وقبل أن أبدأ الكتابة رأيته أخرج قلما من نوع الكوبيا وفرخا من أوراق النسخ السوداء (الكربون) وقال لى أكتب الأصل والصورة ورقم المذكرة قبل أن ترسلها وسجل عليها تاريخ الإرسال فى السركى واحتفظ بالصورة فى الدوسية الخاص بالموضوعات المشابهة

ثم قال إن التسجيل والاحتفاظ بالصورة أهم من إرسال الأصل للجهة المعنية لأنك فى أى وقت تستطيع أن تكرر الإرسال كما تستطيع أن تتابع ما فعلت. ونشأ أرشيف القسم وأعتقد أن قسم الأمراض النفسية من الأقسام القليلة التى تحتفظ بأرشيف جيد، وأمتد الأرشيف ليحتوى تذاكر المرضى وأوراقهم والسجلات الاحصائية .

 (4) كيف تقوم ببحث:

فى فترة من الفترات كان علاج المرضى النفسيين يتم نتيجة للخبرة المكتسبة من الممارسة، فالصدمات الكهربائية تالية لصدمات الكارديازول تعدل من سلوك المريض، وفاكسين التيفود يعطى لكى يرفع درجة حرارة المريض وماذا تفعل هذه الحرارة فى تحسين سلوك المريض؟ لا أحد يعرف، لكنها الخبرة المكتسبة.

وفى بداية عملى بقسم الأمراض النفسية بدأ الدكتور عبد العزيزعسكر يحاول أن يعرف كيف تعمل هذه الوسائل العلاجية فخطر له أن الصدمات الكهربائية قد يكون السبب فى أثرها العلاجى إثارة المحور المكون من المهيد والغدة النخامية وقرر أن يحاول أن يثبت هذا الفرض بتجربة علمية.

ورأى أن أبسط وسيلة يمكن الاستدلال على حدوث تغير فى هذا المحور هى معرفة قدرة الجسم على إخراج البول بعد إعطاء المريض كمية كبيرة من الماء، وكان المطلوب معرفة ما إذا كان سيدر هذه الكمية من الماء من خلال البول أو سيمتنع عن إدرارها على افتراض أن هناك إثارة للغدة النخامية الخلفية، وبدأنا نبحث عن المراجع المساندة لهذا الاختبار وأغلبها كانت مراجعا فى علم الفسيولوجيا، ومراجع أخرى عن الصدمات الكهربائية وآثارها الإيجابية والسلبية، وبدأت التجارب باستخدام البتترين لمعرفة تأثيره على الإنسان.

وتبين أنه يقلل إخراج البول وأعطيت الصدمة الكهربائية ووجدنا أنها تعطى استجابة مثل استجابة الجسم لعقار البتترين على إفراز البول وهكذا ثبت أن لها علاقة ما مع محور المهيد والغدة النخامية. تعلمت وقتها أن البحث العلمى يبدأ بفرض مع مراجعة المراجع فى الموضوع، ثم وضع خطة للعمل، ثم للعمل، ثم تسجيل النتائج، ثم المناقشة للنتائج وأخيرا الاستنباطات.

(5) الأستاذ والد:

فى أحد أيامنا أخبرت الدكتور عسكر أنى سأكتب كتابى فى يوم الخميس التالى وِأنى أدعوه للحضور وكان رده” ومستعجل على إيه”.. فقد كنت وقتها فى نهاية السنة الأولى من فترة النيابة وكانت أيامها الأمور غير واضحة بالنسبة للمستقبل، هل استمر فى هذا الفرع وكيف سأدرس وهل سأدرس فى القاهرة أو فى الخارج وماذا سيكون مستقبلى الوظيفى كله. كانت أسئلة بلا إجابات …ومن هنا فهمت تساؤل الأستاذ” ومستعجل ليه”.. ثم استطرد الأستاذ يسأل عن العروسة وأهلها..إلخ ووعد بالحضور، وعندما حضر، شكرته وطلبت منه أن يشهد على عقد الزواج كشاهد للعريس فأجاب” أيوه علشان ما ترجعش فى كلامك”.

وعلم وقتها أنى قمت بإدخال تليفون فى شقة الزواج فأصرعلى أن يدفع لى نفقات إدخال التليفون كهدية زواج. كانت أيامها جنيهات قليلة ولكنها كانت رمزا كبيرا من الأستاذ الأب.

(6) القانون ملزم:

بعد تسجيلى لعنوان رسالة الدكتوراه أمضيت وقتا طويلا فى محاولة تنفيذ خطة البحث ولكن دون جدوى فقد كان المطلوب أجهزة معملية غير موجودة بالكلية وكان من العسير علىّ فى هذه الظروف أن أحصل عليها.

ونقلت إليه الصعوبه القائمة فطلب منى أن أغير عنوان الرسالة بعنوان فضفاض لأستطيع الحركة من خلاله للقيام بالتجارب العملية وعندما تقدمت بالطلب إلى إدارة الكلية رُفـِضَ طلبى، وأخذنى الأستاذ معه لمقابلة الدكتور العميد  وكان الدكتور الأستاذ/ محمد ابراهيم وعنده أخبرنا أن سبب الرفض هو أن اللأئحة تلزم فى حالة التغيير أن تمضى فترة سنتين جديدتين قبل مناقشة الرسالة ونظرت إلى  الاستاذ /عسكر منتظرا” دفاعا أوكلاما” فقال”” اللائحة تمشى”.. وفضلت أن أبحث عن الجهاز المطلوب.

 (7) الأستاذ محترم:

بعد انتهاء إمتحان الدكتوراه للمرة الأولى علمت من الدكتور/ محمد طلعت وكيل

الكلية ومسئول مراقبة الإمتحانات وكان أحد المشرفين على رسالتى أنى نجحت فى المواد المتعلقة بالتخصص بدرجات جديدة وأنى حصلت على 57 درجة من مائة فى مادة الباطنة وللنجاح كما هو معلوم لابد من الحصول على 60 درجة وأن النتيجة ستعلن بعد يومين ووعدنى أنه إذا قرر الممتحنون رفع الدرجة من 57 إلى 58 فإن مراقبة الإمتحانات ستضيف 2% المقررة فى لائحة الإمتحان فيتم نجاحى. واتجهت إلى الدكتور عسكر وأخبرته بكل هذا وأضفت إن رسوبى فى مادة الأمراض الباطنة لم يكن بسبب تقصير فى العلم وإنما لاسباب أخرى ..ورد علىّ: وحتى العوامل الشخصية توضع فى الاعتبار، روح ذاكر. . . . وقد كان.

 (8) رب ضارة نافعة: 

كان قسم الأمراض النفسية موجودا بالدور الأول فى القصر العينى القديم قبل هدمه وكان عدد الأسرة فيه 35 سريراَ. وكان ممر القسم يتصل بممرات المستشفى. وفى أحد الأيام تسرب أحد المرضى إلى قسم أخر فى المستشفى وهاج التمريض فى القسم المذكورعلى ذلك ، وأثار ذلك الأطباء فى القسم  المجاور وقدموا شكوى ضد قسم الأمراض النفسية للإدارة وعندها قررت الإدارة أن تقيم حاجز بين قسم الأمراض النفسية وغيره من الأقسام تم ذلك، وقد أدى هذا إلى إتصال القسم بورش المستشفى وكانت فى الدور الأرضى تحت القسم لكى يتولى المرضى شغل فراغهم فى أعمال بسيطة بهذه الورش وكانت بداية للعلاج بالعمل، ورب ضلرة نافعة.

 (9) الضعيف دائما عى خطأ:

كانت أول مرة يعقد فيها امتحان الدكتوراه فى قسم الأمراض النفسية بعد خروج الدكتور/ عسكر على المعاش، وكنت قد قررت بينى وبين نفسى ألايتم أى احتكاك بينى وبين غيرى من الأقسام أو الأساتذة فى الأقسام الأخرى لأنى كنت أحس أنى ضعيف وسط أساتذه الكلية، فموقفى الوظيفى”مدرس” وذهبت لاستاذ الأمرض لباطنة لأساله عما إذا كان سيحدد موعد لإمتحان طالب الدكتوراه الوحيد فى الأمراض النفسية فذكر أنه سيمتحنه بمعرفته ولا داعى لتدخلى .. وقبلت على مضض وسلمت أوراق امتحان الطالب إلى مراقبة الإمتحانات وقامت مراقبة الامتحان بعرض النتيجة  وكان الطالب ناجحا لدينا. ولم اهتم بمتابعة النتيجة وفوجئت باستدعاء العميد لى على وجه السرعة، وذهبت إلى مكتب العميد ففوجئت به يقول إزاى لم تطلع نتيجة الدكتوراه فقلت له “أنا لم أفعل” فقال…إزاى وأخرج النتيجة من درج مكتبه فقلت له وأنا أناوله النتيجة وله ليوقع عليها فاستمر فى غضبه قائلاً: “إزاى لم تدرج مادة الأمراض الباطنة فى النتيجة “فأجبت إذا كنت مش أنا اللى عملت النتيجة، فكيف أسأل على تفصيلة فيها ونظرت إلى النتيجة فوجدت أن موظف مراقبة الإمتحانات لم يكلف خاطره بأن يراجع مواد الإمتحان كما قررتها اللائحة على تصور أن كل النتائج قد وصلت إليه، وكان هذا صحيحا بالنسبة للنتائج التى كنت مسئولا عنها وكانت كل نتائج الدكتوراهات الأخرى قد أعلنت، ولم يكلف أستاذ الأمراض الباطنة خاطره بتسليم نتيجة أو أوراق الأمراض الباطنة لدكتوراه الأمراض النفسية إلى مراقبة الامتحانات.

وثار السيد العميد وطلب أستاذ الباطنة تليفونيا وكان إنسانا هادئا يحمل فى يده دائما حقيبة صغيرة يضع فيها أوراقه ، وحضر لمكتب العميد الذى كان يتوقع مواجهة بينى وبينه، وسأل العميد الأستاذ “فين نتيجة أمراض باطنة الخاصة بدكتوراه الأمراض النفسية” وفتح الأستاذ حقيبته بهدوء وقلب فيها ثم أخرج ورقة كان عليها النتيجة المطلوبة وكانت النتيجة “راسب” موقعا عليها من أعضاء لجنة الباطنة ..  وهدأ العميد وأضاف نتيجة الباطنة إلى النتيجة العامة وهكذا رسب الطالب بعد أن كان ناجحا فى الرصد الجزئى وخرجت بعد أن قلت “الحمد لله لم يحدث خطأ منى”، ومن يومها كان على أن أتابع كل الإمتحانات مهما كنت صغيرا أو ضعيفا لأن التمسك بالحق ينجى من المهالك.

 (10) كيف “ننشئ وحدة جديدة”:

العلاقات الطيبة كثيرا ما تؤدى إلى التعامل الطيب وإلى تحقيق المصالح المشتركة

– علاقة طيبة مع كلية الخدمة الاجتماعية بجامعة حلوان أدت إلى مزيد من التعامل العلمى وإلى رسائل يشرف عليها القسم ويناقشها… ثم أدت إلى وحدة صغيرة للعلاج الأسرى قام عليها أحد أعضاء هيئة التدريس بكلية الخدمة.

تعاون طيب مع كلية قسم علم النفس فى جامعة القاهرة أدت إلى اشتراك القسم فى أعمال التدريس بقسم علم النفس فى مرحلة الدراسات العليا. ثم إلى انتداب أحد أعضاء هيئة التدريس بقسم علم النفس ليشرف على وحدة القياس النفسى فى قسم الأمراض النفسية.

العلاقات الحميدة أدت إلى انتشارية القسم بفاعلية فى مستشفى الأطفال وإلى إنشاء العيادة النفسية للأطفال والعلاقات الحميدة مع معهد السرطان أدت إلى وجود الخدمات النفسية هناك والعلاقات الحميدة مع قسم الأمراض التناسلية أدت إلى إنشاء وحدة مشتركة لعلاج الضعف الجنسى وهكذا فى الأقسام التخصصية الأخرى والجلد والقلب وغيرها والاتصال بالأقسام أدى إلى نشأ وحدة الطب النفسى الترابطى.

بعض هذه الخدمات استمر وتوقف البعض الآخر، والفيصل فى ذلك كان مدى رغبة القسم فى الاتساع أو الانطواء.

(11) التعليم لمجرد التعليم ولا ضرورة للامتحان!!

كان القسم يقوم بتدريس علم النفس والأمراض النفسية وكان علم النفس يعطى سؤالا فى مادة الفسيولوجيا أما الأمراض النفسية فكانت مادة بلا امتحان.

وحاول القسم مرارا وتكرارا أن يقنع المسئولين بلزوم الامتحان للطلاب فى هذه المادة الجديدة فلائحه الجامعة تلزم بالامتحان فى مواد الدراسة ولكن الآذان كان صماء والقرار دائما كان الرفض.

ونجحت فى النهاية فى أن أحصل على قرار تفسيرى من المجلس الأعلى للجامعات (لجنة القطاع الطبى) بأنه حيث أن الكلية تدرس مادة الأمراض النفسية لطلبة البكالوريوس فلابد من عقد امتحان فيها.

وأرسل المجلس القرار إلى جامعة القاهرة وأرسلت الجامعة القرار إلى كلية الطب وفى اجتماع مجلس الكلية ثار رئيس قسم الأمراض الباطنة الذى كان المفروض أن ينفذ القرار وضرب المنضدة بقبضته وقال “أنا… أو هذا القرار” وخضع المجلس لهذا الرأى وحفظ القرار… وعندما ذهبت لأناقش السيد عميد الكلية قال لى “ما كفاية انكم بتدرسوا … مش لازم الامتحان”.

ومرت الأيام وأصبح علم النفس مادة كاملة لها امتحان منفصل وشاركت الأمراض النفسية فى الامتحان بأشكال مختلفة…

وهكذا فإن الصبر والاستمرار فى الجهد يصل بالإنسان دائما إلى الهدف.

(12) أحيانا نفشل:

فى الثمانينات فكرت فى عمل وحدة لعلاج الإدمان فى القسم، ولما كان القسم محدودا فقد لجأت إلى الجامعة فوافقت على المبدأ وكلفت الإدارة الهندسية بعمل الرسوم اللازمة وحددت منطقة العمل ورصدت المبالغ اللازمة للإنشاء وأصبح كل شئ جاهزا على التنفيذ.

قدمت طلبا إلى السيد العميد يرحمه الله لكى يكلف الإدارة الهندسية بالكلية بتكليف أحد مقاوليها بالعمل، فرفض وذكر أننا سنعطيكم مكانا فى مدينة 6 أكتوبر ولا داعى لعمل وحدة الإدمان فى القصر العينى وفهمت أن هذا الرفض كان عقوبة لى لمنافستى السيد العميد على المنصب ولازالت أرض 6 أكتوبر لم يتقدم إليها أحد فى الكلية لاستخدامها.

 (13) واجب قومى:

فى أحد الأيام جاءتنى مكالمة من صديق عزيز هو الدكتور/ عبد الواحد بصيلة وكان وقتها يشغل منصب عميد كلية الطب جامعة الأزهر يخبرنى أنه بصدد إنشاء قسم للأمراض النفسية فى الأزهر وأنه فى حاجة إلى من يقوم برئاسة هذا القسم واقترح أن أرشح له أحد العاملين بالقسم ورشحت له الدكتور محمد شعلان وتمت إجراءات نقله بعد موافقته إلى كلية طب الأزهر وكانت بداية لكى يمد القسم معوناته البشرية إلى كل كليات الطب الجديدة فى مصر على أساس أن هذا العمل واجب قومى على الكلية الأم كلية طب قصر العينى لأخواتها الصغار فى الأسكندرية والمنصورة وطنطا وبنها والزقازيق وأسيوط وغيرها من الكليات وقبلها بدأت عمليات التدريس لطلاب الدبلومات فى الكلية التى تقوم بها الأقسام المختلفة. حتى أحصيت 12 دبلوما يشارك فيها القسم بالإضافة إلى الكليات والمعاهد الأخرى وأمتد أثر هذا القسم ليقيم بالاشتراك مع منظمة الصحة العالمية دبلوما للطب النفسى بالمملكة السعودية شارك فيه العديد من الأساتذة المصريين والأجانب.

(14) عندما تضيع لغة الكلام:

ومرت الأيام وكان لابد لى أن أترك العمل فى القسم بعد خمسة وثلاثين عاما… وأراد الزملاء أن يقيموا لى حفل وداع وكان على أن أقول كلمة… وكانت كلمة وحيدة “أشكركم” فقد ضاع الكلام فى انفعال الموقف. هل كنت أشكر العاملين معى على أنهم ساعدونى طوال عملى المضنى للاستمرار بالقسم ولتطويره أو كنت أشكر نفسى على عمل جاد فى سبيل الإنسان… لم أستطع أن أحدد.

شهادة: د. يحيى الرخاوى

حين طلبت منى ابنتى د. نها صبرى أن أملأ الاستمارة الخاصة بعلاقتى بقصر العينى، وبالقسم أسوة بأستاذىّ أ.د. محمود سامى عبد الجواد، وأ.د.عمر شاهين، لم أعرف بماذا أرد عليها، وتصورت أننى مادمت، قد تصديت لمسئولية إعداد وتحرير هذا الكتيب فلابد أن كل سطر فيه هو الردّ على هذا الاستبار، ثم إنى أنا الذى أعددت الاستبار بنفسى سؤال سؤالا، وتبينتُ أن أى سؤال كنت أصوغه لابد أنه كانت لدى الإجابة المحتملة علبيه، فخجلت أن أكرر ما ورد فى الكتاب بشكل أو بآخر.

إلا أننى حين قرأت ردود كل من أ.د. محمود سامى عبد الجواد ثم أ.د. عمر شاهين، وبالذات حين قرأت ما أضافه أ.د. عمر شاهين بعنوان “حكايات وذكريات” تأثرت بشكل بالغ، وهاجت علىّ الذكريات من كل جانب فقررت أن أعتذر عن الإجابة عن الأسئلة وأن اكتفى بالإقتداء أ.د. عمر ببعض الذكريات والتداعيات الطليقة على الوجه التالى:

أولاً : ذكرى باكره:

أولاً: كنت طبيب امتياز (1957) وكان الدكتور حسن عبد العظيم طبيبا مقيماً، ولم تكن لى فرصة “نيابة” ومع ذلك كنت أقول لنفسى “لعل وعسى”، وفى يوم ما ، نادانى أ.د. عسكر، وسألنى ماذا سأفعل بعد الامتياز، وأجبت أنى لا أدرى، فقد كانت لى فرصة أن أعمل فى تخصص التخدير طبيبا مقيما بعد الامتياز مباشرة، ثم فرصة أبعد طبيبا مقيما فى الأمراض الباطنة، لكن أسئلة الدكتور عسكر زادت وتنوعت، ولم أفهمها، سألنى عن بلدنا، وعن وظيفة أبى، ولماذا لا أكسب من بدرى وافتح عيادة شعبية فى ميت غمر (وأنا لست من ميت غمر لكنها قريبة من بلدنا) وغير ذلك كثير، فألمحتُ له أنى أفضل أن أعمل فى هذا الفرع: الأمراض النفسية، مع أنى أعلم أنه لن تخلو نيابة هذا العام، فأضمر فى نفسه شيئاً، أو هكذا خيل إلىّ.

ثم علمت أنه راح يدبر للدكتور حسن عبد العظيم الطبيب المقيم بالقسم، وظيفة أخصائى بالعيادة لتخلو وظيفة نائب لى، فذهبت إلى منزل أ.د. محمود سامى عبد الجواد بشارع أمين سامى بالمنيرة، أستفسر عن هذا الاحتمال، وعن فرصتى فلم يجزم أ.د. محمود بشىء، لكن الذى حدث أننى وثقت فى حدْسى وفى ما خيّل إلىّ أن الدكتور عسكر يدبره لى، وفعلا فعلها الدكتور عسكر بعد أن مكثتُ فى بيتنا “خالى شغل” أربعة أشهر لم أستلم فيها نيابة التخدير، ولا ألامراض الباطنة، ثقة منى فى وعد لم يعده لى أستاذى لكنى قرأته فى عينيه حين شعرت بأبوته فصدقت كلمته التى لم يقلها.

ثانياً: وأنا طبيب مقيم كان د. عسكر يسألنى كثيرا “عامل إيه”؟ فإذا قلت له “فى إيه”؟ كان يبتسم، وقد يضيف: “كيف تصرَف أمورك”؟ وكنت أخجل طبعا أن أرد، وكان مرتبى تسعة عشر جنيها وعشرة قروش صاغ وأربعة مليمات، فقلت له مرة ردا على سؤاله هذا: كيف أفتح بيتا بهذا المبلغ، فقال لى وهل من الضرورى أن تفتح بيتا: الزواج يا يحيى رفق اجتماعى ودينى، ويبقى كل منكم فى منزل أهله، حتى تُفرج.

وكنت آخذ كلامه بجد مهما قال، ومهما بدا مزاحا، وذات مرة ألحّ علىّ بنفس السؤال وحين خرجت من حجرته قابلتُ طالبة جميلة من معهد الخدمة الاجتماعية، كانت تتدرب بالقسم، عيونها خضراء وشرقاوية، وبلديات أمى، ولها مشية خاصة جدا، وكان الدكتور عسكر – كما ذكرت – قد سألنى نفس السؤال لتوه، فقلت: سوف أفعلها حتى لا يسألنى ثانية، فكانَ ما كان مما لست أذكره فـَظـُنّ خيراً ولا تسأل عن الخبر، حتى أصبح لنا الآن أربعة أولاد وستة أحفاد([2]).

ثالثاً: حضرت لقاء بين الدكتور محمود سامى والدكتور عسكر، وكان الدكتور محمود يستأذنه أن يرسل له طفلا إلى العيادة، ويبدو أن الدكتور سامى كان قد بدأ يعالج الطفل (وقد أشرت إلى هذا فى فصل سابق)، ويبدو أنه كان يجد صعوبة فى ذلك، لأنه كان يعتقد أنه ليس له خبرة فى علاج الأطفال مثل د. عسكر، وصمت الدكتور عسكر طويلا ثم قال له وماذا سأعمل له أكثر منك؟ وحتى لو كنتُ أكثر حذقا منك، فأنت سوف تعمل له ما سأعمله أنا فى مدة أطول قليلاً، لا ترسله، ولأول مرة أعرف معنى الإشراف، ومنح الثقة والتشجيع كما ينبغى.

رابعاً: لم يكن سهلاً أن نعرف إلى أين نذهب بعد النيابة، لم نكن نُعين فى درجة معيد تلقائيا، حتى أنى عملتُ ممارسا عاما لمدة تقرب من عامين قبل أن أعين معيدا، وكنت أعرف هذا الاحتمال قبلاً، فقررت أن أحاول وأنا بعدُ طبيبا مقيما أن أعد عددا من الاختيارات التى تصلح لرسالة الدكتوراه، وأن أقوم بجمع مادة إكلينيكية تصلح لاحتمالات متعددة، الواحد تلو الآخر، وذلك أثناء النيابة، حتى إذا وجدت نفسى فى الشارع يمكننى أن أواصل الإعداد لدرجة الدكتوراه، وحين ذهبت للدكتور عسكر فى منزله، وعرضت عليه الاختيار الأول، قبله للتو، وحين قلت له أن عندى نتائج أخرى، وأخرى، لاحتمالات أخرى، رفض أن أعرض أيا منها، وقبل الاختيار الأول وكان عن “القياس الكمى لأثر عقار المثدرين فى إثارة الأعراض و الاضطرابات الكامنة فى مختلف الأمراض النفسية” ثم عاد يسألنى محتجاً لماذا، جمعت كل هذه المشاهدات والوثائق، فذكرت له السبب، وأنه لن توجد أمامى فرصة وأنا “فى الشارع” لأحصل على هذه المادة مرة ثانية، فقرأت فى عينيه ما أثابنى عن جهدى، وحمدت الله.

ثانياً:  حكاية القسم الجديد:

كلنا كنا نحلم طول الوقت – وربما طول العمر- بقسم يستأهل قيمة ما هو الطب النفسى، فى قصر العينى، ويستوعب روعة ونجاح ما أنجزته العيادة الخارجية، وكنا قد تعلمنا من أ.د. عسكر كيف يحصل على الحجرة تلو الحجرة من مهندس المستشفيات إيليا، وكيف يسقف المظلة فتصير حجرة، وكيف يقسم الحجرة فتصير حجرتين، وكان هذا غاية آملنا فى ظروف محدودة، ولو للحصول على حجرة واحد زيادة، ولا أحدثكم عن المقاومة الهائلة التى كانت تقابلنا كلما طلبنا مبنى أو قسما أو إضافة.

وحاول د. عمر شاهين بعد د. عسكر فى كل اتجاه، وصـُدَّ وأحبط من كل سلطة.

وحين توليتُ رئاسة القسم (أول أغسطس 1990 – آخر يوليو 1994) حاولت بدورى أن أواصل نفس الطريق، وأنا على يقين من فشلى، ولم يكن أمامى إلا أن أحاول طول الوقت، وخاصة أن علاقتى بالعميد آنذاك أ.د. خيرى سمرة كانت طيبة وقديمة، ولكن بلا عائد حقيقى على قسمنا، ولا استجابة نسبية لمطالبنا، كان يطيّب خاطرى، ويذكر أهمية الفرع، ويوقع الشهادات التى يطلبها من يسافر أو يهاجر من الخريجين، ولا يعدنى فعلاً وواقعا حتى بتخصيص قسم متواضع للحريم.

وذات يوم جاءنى صديق زميل، أستاذ أنف وأذن وحنجرة كان العميد قد قرّبه جدا منه، كما أوكل إليه كثيرا من الأعمال الإدراية والمالية يساعده فيها، وفاتحنى هذا الأستاذ فى الموضوع دون طلب منى، وسألنى إن كنت أريد أن نقيم قسما مكان العيادة الخارجية وكذا وكيت، ولم أصدق نفسى وتصورت أنه يمزح أو يسخر، لكنه أكد لى أن الموافقات تأتى من الجامعة وليست من الكلية لأن الميزانية تـُـقرر  هناك وأنه يعرف الطريق وما علىّ إلا أن أقرر، وانصرف وأنا مازلت غير مصدق، ماذا يعنى كل هذا؟

فذهبت إلى العميد وحاولت أن أجس نبضه فإذا به عند موقفه هو هو: يطيب خاطرى ويذكرنى بالصعوبات نفسها

فرحت أسأل زميلى أ.د.مصطفى كامل فى طب عين شمس عن كيف حصلوا على تمويل إنشاء مركز الطب النفسى هناك، والذى كان حافزا يؤكد لى أن كل شىء ممكن، فأبلغنى أ.د. مصطفى أن رأى الصديق الناصح المشير (أستاذ الأذن) هو الصحيح، وأن المسألة فى الجامعة أساسا، وليست فى الكلية.

وقررت أن أعيد ترتيب أوراقى، وأن أركز جهدى على معرفة السبيل إلى إقناع هذا المستوى الأعلى ابتداء.

لكن كيف؟ لم أعرف، فانتظرت بغير ملامح لأى خطوة ممكنة، لكن الحلم كان يراودنى بلا أى دعم من واقع قريب.

وانتهت مدة عمادة أ.د.خيرى سمرة، ورشح الزملاء أنفسهم لكرسى العمادة، وكان من بينهم أ.د. معتز الشربينى، وحين زارنى ليطلب تأييده منى ومن زملائى فى القسم، تذكرت فجأة ذلك الحديث القديم، التلويح الغريب بالعرض المحتمل!! ذلك العرض الذى لم يوافق عليه العميد السابق – صديقى الدافىء – إلا نظريا، مع وقف التنفيذ أو بتعبير أدق: ما استبعاد التنفيذ، فقلت له – للأستاذ الدكتور معتز– إننا سنعطيه أصواتنا لو أنه وعد بتحقيق ما لوّحت به الإدارة السابقة، لكننى كذبت – والله يسامحنى– وقلت أن هذا العرض وهذا الوعد كان من العميد السابق وليس من الزميل الذى نُحّى عن موقعه الإدارى لخلاف لاحق مع أ.د. خيرى سمرة، فوعدنى الدكتور معتز بتحقيق كل ما قلت، فابتسمتُ فى سرِّى، لا شكِّا فى صدق وعده، ولكن لأنى أعلم طبيعة الوعود الانتخابية.

ثم نجح الأستاذ الدكتور معتز وأصبح عميدا، وبصراحة خجلت أن أذهب فأذكّره بوعده توقعا منى أنه وعد كل الأقسام بكل ما طلبوه، وبالتالى فيستحيل عليه أن يفى بكل هذه الوعود.

بعد ذهابى لتهنئته بأسابيع، قابلته صدفة وكان وحده، وإذا به هو الذى يفتح الموضوع ويسألنى ما هى أخبار مشروعكم الذى حدثتنى عنه قبل الانتخابات، ودهشت، وفرحت، وشكرتُ وسألته ماذا افعل؟ وهل هو جاد؟ قال قدّم طلب وأنا سأوافق، وعليك الباقى مع الجامعة ما دمت قد عرفت أن المسألة هى فى الجامعة فانقبضتُ، وقلت لنفسى “يا جدع أنت إيش أوصلك للجامعة؟”.

المهم أخذت موافقة مجلس القسم وموافقة العميد (أنظر الوثيقة فى نهاية الشهادة) وذهبت إلى وكيل الجامعة المختص أ.د. على السلمى، وفرحت وعجبت، لطيب مقابلته وكريم توجيهه، وبعد أوضح لى الصعوبات قال إن الأمور تكون أسهل لو قدمنا المشروع إلى “لجنة المنشأت تحت بند معالجة النقص والقصور فى العيادة الخارجية”، وليس تحت بند الإنشاءات الجديدة، فرعبت، هل سنعالج النقص والقصور بملايين الجنيهات، وعبّرت للدكتور السلمى عن مخاوفى، فطمأننى أن ميزانية هذا البند بالملايين، وأنه يرشدنى إلى الأسرع والأضمن. وطبعا صدقته لكننى لم أتصور أن هذا ممكن حتى صدرت الموافقة فعلا تحت هذا البند (أنظر الموافقة آخر الشهادة) ثم أضاف الدكتور السلمى بأننا لو تقدمنا باستعداد للمشاركة فى التمويل بما يسمى التمويل الذاتى، ولو بجزء من تكاليف المشروع، فإن ذلك يسهل الأمور أكثر فأكثر، وهنا أسقط فى يدى كما يقولون، من أين لى هذا؟ والمسألة سوف تتعدى الملايين، وسألته عن تفصيل ذلك فذكر أن الجامعة ستدفع نفس القدر الذى سوف أجمعه أنا، أجمع ماذا؟ كيف؟ مـِـنْ مـَـنْ؟ ومع ذلك وعدته بأنى سافعل، وشكرته وانصرفت.

ثم إنى عدت أقابله لأستفسر أكثر، وكان يصحبنى أ.د. حلمى نمر رئيس الجامعة الأسبق بصفته صديقا له، وقلت لعله يسهل لى الأمور أكثر، أو يفسرّ لى الأمور أكثر وفعلا فهمت بوضوح مزيدا عن حكاية التمويل الذاتى، وأن المطلوب ليس المبالغ فعلا، وإنما إشارة إلى استعداد لدفع مبالغ كذا فى الوقت الفلانى، ووعدنى بأنهم سوف يقبلون وعوداً موثقة وحين استفسرت عن مدى التوثيق طمأننى مرة أخرى بأنه يكفى أن تكون الجهة الواعدة موثوقاً بها لا أكثر، وأن يُثبت الوعد فى أوراق موقعة بالاستعداد بالوفاء به.

وبدأتْ رحلة جمع التبرعات، أو بتعبير أدق “الوعود بالتبرعات”:

ولما كنت عديم الخبرة تقريبا بالعمل العام (ويبدو أن الشحاذة على هذا المستوى هى من الأعمال العامة المشروعة) بدأت بزملائى فى القسم، ولم يتأخر أى منهم عما يمكنه أن يعد به، وأخذت من كل الزملاء، وخاصة أصحاب المستشفيات، كتابة بإسهاماتهم المحتملة، ثم أوصيتهم بأن يجتهدوا كل مع من يعرف من رجال الأعمال كذا أو كذا، وإذا كانت رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، فشحاذة المليون جنيه لابد أن تبدأ بخمسة آلاف على الأقل، ولا أطيل فى وصف تفاصيل هذه الخبرة المؤلمة الرائعة حتى لا أذكر ما اكتشفتُه فى الناس من خير وغير ذلك، وكان معى فى كثير من الأحيان أ.د. ممتاز عبد الوهاب زميلنا بالقسم، وأحيانا كنت أصطحب زوجتى إذا أشارت لى بأحد معارفها ممن تأمل فيهم خيرا، فما زالت تذكر أن هذا القسم، وهذا الأستاذ هما السبب فى تكوين أسرتنا واستمرارها، فضلا عن انتمائها شخصيا لهذا القسم منذ أن عملت رسالة التخرج أثناء تدريبها فيه عن: “أسباب انقطاع المرضى عن التردد على العيادة الخارجية” وهو ما سمّى حاليا: عدم الامتثال، المهم رحنا نشحذ ونشرح ونشحذ، مرة تصيب ومرة تخيب، وكان من أكرم من استجاب لنا، وفورا، وبشيك موقع عليه ومستحق الدفع هو المرحوم مصطفى أمين، حتى نجحنا أخيرا أن نجمع وعودا (لا قيمة لها فيما عدا مبلغ ليلة القدر) بما يربو على 700.000 جنيه.

عدت إلى أ.د. السلمى وطلبت منه أن نبدأ فى اتخاذ إجراءات تقديم الطلب بعد حصولى على هذا المبلغ “الموعود” فابتسم وجاملنى، ووافق على عرض الطلب على اللجنة، بل ودعانى لحضور اجتماع اللجنة فحضرت مع أ.د. ممتاز عبد الوهاب وأنا خائف أن يسألنى أحدهم عن هل المبلغ معى أم لا، أو أن يطلب منى أحدهم ضمانات شخصية مثلما تفعل البنوك، إيش عرفنى، واستعملت فى الاجتماع كل ما أعرف ما لا أعرف من استثارة وطنية، إلى التهويل لما ينتظر شبابنا بفعل الإدمان، إلى إثارة الغيرة من الجامعات الأخرى التى سبقتنا، ويبدو أن حالى صعبت عليهم بشكل أو بآخر، فطلبوا منى كتابة مذكرة بكل ذلك وأن أدعمها بكل هذه المبررات وبالتوصيات من الجهات المحلية والقومية والتوصيات العالمية، التى تبرر ذلك، وفعلت (أنظر المذكرة الملحقة).

وصدرت الموافقة والحمد لله:

إلا أن الأمر لم ينته عند هذا الحد، فقد أُحـِـلتً إلى المعاش وأنا متوجس تماما لأنه لا المشروع بدأ، ولا أحد طلب منى الوفاء بالتمويل الذاتى، وتصورتُ أن المسألة كلها كانت تلويحا، ومجاملة، ثم اعتذار بعد العجز من جانبنا على الوفاء بما وعدنا، وكنت كل يوم أخشى أن يطالبونى بالمبالغ التى تقدمت بالوعد بها، وأنا على يقين من أن أغلب من وعدواً، سوف يعتذورن عند المطالبة بالدفع الحقيقى، بعضهم بحق، وبعضهم بشطارة، وبعضهم لست أدرى بماذا.

وهكذا كنت أنتظر كل يوم أن يبدا المشروع، وفى نفس الوقت أكاد أجزم أنه لن يبدأ ما دمنا لم نستطع أن نتوصل إلى ما وعدنا به عيانا بيانا، وأحيانا كنت أحلم بمُحضر أو جندى يطالبنى بشىء ما لا أستطيعه.

وفى يوم طلبت منى أ.د. سامية عبد الرحمن التى تولت رئاسة القسم بعدى أن نذهب لمقابلة أ.د. فاروق أسماعيل وكيل الجامعة الذى تولى منصب أ.د. على السلمى، ففزعت حين علمت بتقاعد أ.د. على السلمى الذى كنت اطمئن لفهمه موقفنا وحاجتنا، المهم ذهبت وحدى لظروف طارئة عند أ.د. سامية، وأنا أستاذ متفرغ ليس لى صفة إدارية رسمية، وطلبت مقابلة أ.د. فاروق إسماعيل، فوافق بدون موعد سابق ولكنه جعلنى أنتظر – مضطرا فعلا- ساعتين على الرغم من أنى فهمت أنه عرفنى بشكل أو بآخر، وعاندت وقلت سوف أنتظر حتى المساء، وأثناء خروجى إلى الممر من حجرة السكرتير الذى كان يطمئننى بين الحين والحين بشكل طيب فوجئت بالأستاذ الدكتور فاروق إسماعيل وهو يخرج من مكتبه لينتقل إلى حجرة الاجتماعات وإذا به بكل ذوق يعتذر اعتذاراً طويلا لم أتوقعه، ويكاد يستأذن ليدخل اجتماع الإنشاءات،  فذكرت له لتوى أنى حضرت لهذا الشأن تحديدا، فدعانى وهو يتأبط ذراعى إلى دخول اللجنة (وكأنه يجاملنى لطول انتظارى) وحين ترددت وأنى ليس لى صفة رسمية، فطمأننى وطلب منى أن أشرح للجنة الإنشاءات وجهة نظر القسم، وأنها فرصة مناسبة.

دخلت اللجنة وأنا خائف من جديد أن يطلبوا منى الملبغ، وإلا فلماذا أتيتُ، وابتسمت فى سرى وأنا متوجه إلى الله، لعله خيراً، ودارت مناقشات حول إنشاءات كل الكليات حتى جاء دور كلية الطب التى يبدو أن لها نصيب الأسد فى المبالغ المخصصة، ولم يحضر من الكلية سواى، وأثيرت مشكلة تمويل مشروع قسم من الأقسام، أذكر أنه قسم أمراض النساء، وأن أعضاء القسم مازلوا مختلفين، وأن المبلغ سيضيع عليهم لقرب انتهاء السنة المالية، وهنا خطر ببالى أن أسال عن المبلغ المخصص لمشروعنا دون إشارة إلى حكاية التمويل الذاتى، وزعمت، أى ذكرتُ، أن أ.د. السلمى كان قد وعدنا بتسهيلات ما، وأخذ المختصون يتناقشون، وأنا أدلى برايى متحمسا عن أهمية المشروع وأكرر خطبتى عن الخطر المحيق (الإدمان) وكيف أننا بمشروعنا نواجهه أساسا كمشروع قومى، ولا أذكر الأمراض النفسية إلا  قليلا، حتى اقترحت أ.د.م. زكية الشافعى أن ينتقل جزء لست أدرى كيف، مما سيضيع على الكلية لتأخر قسم أمراض النساء عن صرفه، أن ينتقل إلى مشروعنا، أو شىء من هذا القبيل حيث لم افهم التفاصيل المالية والإدارية، ويشاء السميع العليم أن يوافقوا، وأن يهنئونى وأن يتمنوا لى ، وللبلد الخير، هكذا فجأة، فى نفس واحد: خرجت حامدا الله تعالى وأنا أتصور أنى ما فعلت شيئا إلا ما تعلمته من أ.د. عسكر وأ.د. محمود سامى، و أ.د. عمر شاهين، وهو أن أصر، وأواصل حتى وأنا على يقين من الإحباط، وأحسست ساعتها أنهم جميعا قد رضوا عنى، وعنا وأن هذه الملايين التى حصلت عليها لقسمنا ليست أهم ولا أكثر دلالة من حجرة أنشأها أ.د. عسكر تحت مظلة لتكون عيادة خارجية.

خرجتُ وأنا غير مصدق أن همّ الخوف من مطالبة واقعية الوفاء بالوعود بالتمويل قد انزاح قليلاً لا أعرف كيف، فإن أحدا من المجتمعين لم يشر إلى مطالبتى بشىء مع أنى مازلت، حتى الآن، أحلم بشىء من المطالبة بالوفاء به، أى والله!

خرجت وأنا أشعر أنها ليست مصادفة، وأننى لم أفعل إلا أننى أواصل المسيرة التى بدأت بأستاذنا د. عسكر فى حجرات الملاحظة على سطح مستشفى المنيل، هو وعم منشاوى (رئيس عمال التمريض)، ها هى تنتهى فى حجرة اجتماعات أ.د. فاروق إسماعيل.

هو هو نفس الإصرار، ونفس اليقين ونفس المثابرة.

هذا ما كان يا نُهـَى يا ابنتى، فهل مازلت تصرّين أن أجيب على استبارك، ألا يكفى هذا ردّا على كل أسئلتك؟

ثم إنى سوف أختم هذا الكتاب بعرض آخر وثيقة، وهى المذكرة التى تقدمت بها للمشروع إكمالا لمسيرة أساتذتى، وانتماء لهذا القسم، وما يمثله رمزا لقصر العينى الذى يملأنى كأنه هو هو رمز لمصر.

فهل آمل يا نُهـَى أن تتعلمى أنت وزملاؤك معنى كل هذا؟

وأن المسألة ليست نجاحا وفشلا الآن أو أبدا؟

وإنما هى – كما علمنا أستاذنا -، وكما نصحنا أن نتعلم من مرضانا (أنظرى حكايات د. عمر) هى موقف ومثابرة، وإصرار، ويقين، ومهما طال الزمن.

هذا هو قسم الطب النفسى قصر العينى يا نُهـَى:

عهده بين يديك

وايديهم

(وانظرى ملحق هذه الشهادة من فضلك عن المشروع الذى كاد يتم فعلا.)

الحمد لله.

آخر وثيقة:

مشروع إنشاء قسم الطب النفسى ومكافحة الإدمان

المذكرة الخاصة بالتقدم للموافقة على المشروع:

أولاً: عن القصر العينى – وقسم الأمراض النفسية

– قصر العينى هو أقدم كلية جامعية فى تاريخ مصر الحديث (باستثناء جامعة الأزهر) – وقد بدأت بما يعرف باسم مدرسة الطب العليا.

– بدأ تدريس الأمراض النفسية فيها منذ أكثر من قرن – وكان أول كتاب لتدريس الطب النفسى بالعربية تأليف الطبيب سليمان أفندى نجاتى عن أسلوب الطبيبب فى فن المجاذيب سنة 1892 (توجد نسخة بدار الكتب).

– أنشأ قسم الطب النفسى بصورته الحالية المرحوم الأستاذ الدكتور عبد العزيز عسكر سنة 1949.

– تطور القسم حتى أصبح له قسم حريم ورجال فى قصر العينى القديم.

– تم هدم المبنى القديم ولم يستعد القسم أسّرته، ولم يجد له مكانا فى المبنى الأحدث.

– لا يوجد قسم للأمراض النفسية للحريم منذ عشر سنوات بالقصر العينى.

– يتكون القسم حالياً من خمس وحدات للتخصص الدقيق هى وحدات: (1) طب نفس الأطفال (2) والطب النفسى الاجتماعى، وسلوكيات الإدمان (3) ووحدة العلاج النفسى والسيكوباثولوجيا (4) ووحدة الطب النفسى العام (5) ووحدة طب نفس المسنين.

– لا تزيد عدد أسرة قسم الرجال عن 28 سريرا.

ومع ذلك، فهذا القسم بقوته البشرية ومنظوره العلمى يمثل:

أولاً: مدرسة الطب النفسى من منظور قومى (حيث يصر على التمسك بالبعد المصرى والعربى فى تقسيم الأمراض النفسية وعلاجها ومناهج البحث).

ثانياً: يضم القسم أكبر عدد من هيئة تدريس و”المعيدين” و”الأطباء” المقيمين (فى هذا التخصص) على مستوى الجامعات المصرية والعربية ما يجعل ضيق المكان وضعف الإمكانيات بمثابة إهدار لمجهودهم وقدراتهم العلمية والعلاجية.

ثالثاً: إنه القسم الذى بادر بالتكامل مع خدمات الصحة العقلية فى وزارة الصحة وخاصة مستشفى العباسية، وهذا هو الجارى حالياً.

رابعاً: إنه القسم الذى اعتُرف به كمركز تدريب للحصول على الشهادة العربية للتخصص فى الطب النفسى، وهى أعلى شهادة على مستوى العالم العربى.

 (ثانياً) عن المشروع الحالى

 لإنشاء قسم وعيادة الطب النفسى ومكافحة الإدمان

– بسبب هدم قصر العينى القديم (جدا) وتأجيل الاستجابة لطلبات القسم تخلف قسم الطب النفسى فى قصر العينى عن سائر الجامعات بما فى ذلك بعض الجامعات الإقليمية رغم تاريخه ومركزه المحورى.

– تقدم القسم للأستاذ الدكتور عميد الكلية الحالى بطلب الموافقة على إنشاء قسم وعيادة الطب النفسى ومكافحة الإدمان (تحت بند: معالجة القصور فى العيادة الخارجية) ووافق سيادة العميد مشكورا على المشروع وحوله إلى الجامعة.

– بناء على مشورة الأستاذ الدكتور على السلمى نائب رئيس الجامعة بالإسهام بالتمويل الذاتى تم جمع “وعود” بالإسهام بما يزيد على 700.000 جنيه سبعمائة ألف جنيه على اعتبار أن المشروع سيتكلف حوالى مليون جنيه.

– وافقت لجنة المنشأت الجامعية المنعقدة بتاريخ 30/8/1994 بقرار رقم “66” على إقامة المشروع بمبلغ وقدره 1.750 مليون وسبعمائة وخمسون ألف جنيه كمرحلة أولى.

– يعتبر هذا المشروع محوريا فى إتاحة الفرصة لقيام أعرق كلية للطب النفسى بدورها فى التقدم بهذا الفرع، والتصدى لمشكلة الإدمان التى تهدد الشباب والإنتاج القومى وكما تهدد المشروع الحضارى لنمو الشعب المصرى. (أنظر الملاحق)

– يرتبط هذا المشروع بتخطيط مستقبلى للإعداد لمركز تأهيل مستقل لعلاج ومكافحة الإدمان فى مدينة 6 أكتوبر.

أغراض المشروع

1- القيام بواجب هذا الصرح العلمى والتاريخى (قصر العينى) بدوره فى هذا التخصص الهام والمحورى والمستقبلى.

2- الإسهام الوقائى والعلاجى والعلمى فى مكافحة ظاهرة الإدمان التى تعتبر من أخطر الظاهرات على المجتمع من حيث الصحة والسلوك العام ومستقبل الشباب.

3- الإسهام فى محاربة انحراف الشباب وخاصة ما يتعلق بما يسمى ظاهرة التطرف (التى تعتبر نوعا من الإدمان المذهبى نتيجة للافتقار للوقاية النفسية).

4- استعادة مركز الريادة لكلية طب قصر العينى واستغلال طاقتها العلمية فى خدمة المجتمع والبحث العلمى والتعليم.

5- مواكبة التحديث العلمى فى مجال الوقاية النفسية والعلاج الحديث، ليس فقط فيما يختص بالطبيب النفسى، وإنما فى قيامه بخدمة الفروع الأخرى من التخصصات المختلفة فى الطب والجراحة والأطفال وغير ذلك.

ثم ألحق بهذه المذكرة تفاصيل عن أهمية هذا التخصص واستقلاليته مدعمة بتقارير رسمية من كل من:

(1) البرنامج القومى: هيئة الصحة العالمية (1991 – 1996)

(2) توصيات المجلس القومى لمكافحة الإدمان

ثم انتهت المذكرة بما يلى:

فكل هذه المبررات تؤكد أن هذا المشروع القومى هو مشروع إنسانى بقدر ما هو حضارى يستأهله تاريخ ومسئولية قسم الطب النفسى بكلية طب قصر العينى.

أ.د. يحيى الرخاوى – رئيس قسم الأمراض النفسية

****

موافقة لجنة المنشأت الجامعية رقم (66)

 المنعقدة بتاريخ 30/8/1994

الموضوع: إنشاء قسم وعيادة للطب النفسى ومكافحة الإدمان (معالجة النقص والقصور فى العيادة الخارجية للطب النفسى ومكافحة الإدمان).

وانتهت اللجنة إلى القرار التالى:

1- الموافقة على مبدأ إنشاء مركز العلاج النفسى ومكافحة الإدمان. (معالجة النقص والقصور فى العيادة الخارجية للطب النفسى ومكافحة الإدمان).

2- هدم المبنى الحالى لقسم وعيادة الطب النفسى بالعيادة الخارجية على مسطح 20.25 x83.50م.

3- ترشيخ أحد السادة أعضاء هيئة التدريس بكلية الهندسة لعمل التصميمات اللازمة وكراسة الشروط والمواصفات على أساس بدروم وأرض وثلاث أدوار متكررة.

4- تدبير الاعتمادات اللازمة للبدء بالمشروع (بدروم + أرض) كمرحلة أولى والذى تقدر بمبلغ 1.750.000 (مليون وسبعمائة وخمسون ألف جنيه) تقديرى شاملة أتعاب التصميم والإشراف للإستشارى.

برجاء التفضل بالعلم والتنبيه باتخاذ اللازم نحو الاعتماد المطلوب حتى يتسنى لنا البدء فى التنفيذ.

التوقيع أ.د. على السلمى

وتواصلتُ بعد ذلك مع أ.د. زكية الشافعى أستاذ كلية الهندسة للمبادرة بتنفيذ ما جاء فى هذه الموافقة، حتى تم بحمد الله ما أملنا فيه، ولم يطالبنى أحد بمليم أحمر من كل الوعود التى قدمتها، لست أدرى كيف، ولأول مرة أفرح بالاهمال فى حق الدولة، ماذا وإلا؟

 

Untitled

اللوحة المثبته فى مدخل القسم بعد إتمامه مهداه من زملائى وأبنائى وبناتى.

اعترافاً  بهذا التاريخ وعهداً مضمراً بمواصلة المسيرة.

[1] –  هذا علماً بأننا استغنينا عن إعادة نشر مقال المرحوم: أ.د. محمود سامى عبد الجواد عن تاريخ القسم، وهو المقال الذى نشر بالإنجليزية فى المجلة المصرية للطب النفسى نظراً لإلتزامنا الاقتصار على النشر بالعربية، وهذا هو موقع المقال وتاريخه – لمن شاء- عدد يوليو 1995مجلد 18 عدد – 2 Eeypt. J. Psychiat. 18:2, 1995

The Golden Anniversary of Kasr Al-Aini Psychiatric Department. (1945-1995)

[2] – أصبحوا الآن 2018 تسعة وقد رحلت جدتهم رحمها الله.

الفصل الثانى: تقديم وتعريف، واعتبارات أساسية

الفصل الثانى: تقديم وتعريف، واعتبارات أساسية

 

الفصل‏ ‏الثانى

تقديم وتعريف، واعتبارات أساسية

الطالب‏: ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏نبدأ‏، ‏قل‏ ‏لى ‏ماهى ‏طبيعة‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب؟

المعلم‏: ‏هو‏ ‏كتاب‏ ‏جديد‏ ‏فى ‏هدفه‏ ‏وشكله‏، ‏أحاول‏ ‏من‏ ‏خلاله‏ ‏أن‏ ‏أوصل‏ ‏بعض‏ ‏ماهو‏ ‏أمانة‏ ‏فى ‏عنقى ‏إلى ‏أصحابه‏، ‏وهو‏ ‏ذو‏ ‏أغراض‏ ‏متعددة‏، ‏الظاهر‏ ‏منها‏ ‏والبسيط‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏تجد‏ ‏بين‏ ‏يديك‏ ‏دليلا‏ ‏يرشدك‏ ‏إلى ‏بعض‏ ‏ماعليك‏ ‏أن‏ ‏تعرفه‏ ‏من‏ ‏معلومات‏ ‏مبدئية‏ ‏عن‏ ‏علوم‏ ‏تعتبرها‏ ‏هامشية‏ (‏ولو‏ ‏من‏ ‏الناحية‏ ‏الامتحانية‏)، ‏ودعنى‏ ‏أرشوك‏ ‏ابتداء‏ ‏إذ‏ ‏أقول:

أولا: أنه يحوى معلومات أساسية فى علم‏ ‏النفس تكفى للاجابة على ما هو مطلوب فى السنة الثانية فى الامتحان، (لو أتاحو الإجابة باللغة العربية، وهذا حق دستوى، أو أنت وشطارتك!!).

ثانيا‏: (‏ومن‏ ‏خلال‏ ‏أولا‏) ‏فإنى ‏أقدم‏ ‏لك‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تعرفه‏ ‏حول‏ ‏هذه‏ ‏العلوم‏ ‏المستحدثة‏ ‏ظاهريا‏، ‏الضاربة‏ ‏فى ‏القدم‏ ‏حقيقة‏، ‏وأناقش‏ ‏معك‏ ‏المشاكل‏ ‏المعاصرة‏ ‏التى ‏تحيط‏ ‏بها‏ ‏حتى ‏لتهددها‏ ‏بالأفول‏ ‏حتى ‏الموت‏، ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏تبلغ‏ ‏درجة‏ ‏اليفوع‏، ‏فأحمـّـلك‏ ‏معى ‏مسئولية‏ ‏إحيائها‏ ‏بغية‏ ‏الإسهام‏ ‏فى ‏تأنيس‏ ‏الإنسان‏ (‏جعله‏ ‏إنسانا‏ ‏بحق‏ ‏من‏ ‏أول‏ ‏وجديد‏)،

ثالثا‏: ‏فإنى ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أجيبك‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏عن‏ ‏تساؤلاتك‏ ‏الشابة‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏بعض‏ ‏مفاهيم‏ ‏هذا العلم‏، ‏ولكن‏ ‏من‏ ‏موقف‏ ‏شخصى ‏نسبياً،‏ ‏هو‏ ‏نابع من‏ ‏خبرتى ‏الكلينيكية‏ ‏والعلمية‏ ‏والحياتية‏ ‏معاً‏.‏

الطالب‏: ‏ولكن‏ ‏كيف‏ ‏نشأت‏ ‏فكرة‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب وأنت تعلم أن هذا العلم ليس عليه إلا بضع درجات فى نهاية العام؟

المعلم‏: ‏فى ‏الواقع‏ ‏أنى ‏كنت‏ ‏أدرس‏ ‏لطلبة‏ ‏السنة‏ ‏الثانية‏ ‏بانتظام‏ ‏دروس‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏منذ‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏خمس‏ ‏عشرة‏ ‏سنة‏، ‏ولمدة‏ ‏أعوام‏ ‏متتالية‏، ‏وذلك فى كلية طب قصر العينى وكلية طب المنصورة  وكنت أتبع إذ ذاك‏ ‏طريقة‏ ‏بسيطة‏ ‏وهى ‏أن‏ ‏أجعل‏ ‏نصف‏ ‏وقت‏ ‏المحاضرة‏ ‏أو‏ ‏أكثر‏ ‏للأسئلة‏ ‏الحرة‏ – ‏تماما‏ ‏وخصوصا‏ ‏من‏ ‏خارج‏ ‏المنهج‏ – ‏والباقى ‏للمحاضرة‏ ‏الأصلية‏ ‏فى ‏إيجاز‏ ‏وتركيز‏، ‏وقد‏ ‏كنت‏ ‏أتبع‏ ‏ذلك‏ ‏لسببين‏، ‏أولا‏: ‏لأن‏ ‏هذا‏ ‏العلم‏ ‏جاف‏ ‏بطبيعته‏ ‏ويحتاج‏ ‏إلى ‏إثارة‏ ‏وتخفيف‏ ‏وتشويق‏ ‏وخاصة‏ ‏مع‏ ‏ضآلة‏ ‏الدرجات‏ ‏المخصصة‏ ‏له‏ كما ذكرت، ‏وثانيا‏: ‏لأن‏ ‏المقرر‏ ‏المفروض‏ ‏كان‏ – ‏ومازال‏ – ‏لا‏ ‏يقنعنى ‏أبدا‏، ‏وكانت‏ ‏أسئلة‏ ‏الطلبة‏ ‏أعمق‏ ‏وأصدق‏ ‏وأكثر‏ ‏مباشرة‏ ‏وفائدة‏ ‏من‏ ‏المنهج‏ ‏الثقيل‏، ‏وكانت‏ ‏النتيجة‏ ‏رائعة‏، ‏إذ‏ ‏كان‏ ‏الحضور‏ ‏يتزايد‏ ‏باستمرار‏ ‏حتى ‏تضيق‏ ‏المدرجات‏، ثم ‏أنى ‏كنت‏ ‏أقابل‏ ‏بعض‏ ‏طلبتى ‏فيما‏ ‏بعد‏ ‏سنين‏ ‏عديدة‏ (‏وقد‏ ‏أصبحوا‏ ‏أطباء‏) ‏فكانوا‏ ‏يذكرون‏ ‏هذه‏ ‏المحاضرات‏ ‏بوعى ‏وعرفان‏، ‏بحيث‏ ‏كنت‏ ‏أحمد‏ ‏الله‏ ‏أنى ‏استطعت‏ ‏أن‏ ‏أوصل‏ ‏لهم‏ ‏شيئا‏ ‏ما‏، ‏بقى ‏معهم‏ ‏بعد‏ ‏انتهاء‏ ‏زحام‏ ‏المعلومات‏ ‏التى ‏فرضت‏ ‏عليهم‏: ‏الغث‏ ‏منها‏ ‏والمتزيد‏ ‏والسمين‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏، ‏وكنت‏ ‏أعجب‏ ‏من‏ ‏الزملاء‏ ‏الذين‏ ‏يشكون‏ ‏من‏ ‏قلة‏ ‏عدد‏ ‏الحاضرين‏ ‏ويتهمون‏ ‏ضآلة‏ ‏الدرجات‏ ‏بأنها‏ ‏مسئولة‏ ‏عن‏ ‏ذلك‏، ‏وقد‏ ‏علمتنى ‏هذه‏ ‏التجربة‏ ‏ومايليها‏ ‏أن‏ ‏الطالب‏ ‏أذكى ‏منى ‏ومنا‏، ‏وأنه‏ ‏يبحث‏ ‏عن‏ ‏المصلحة‏ ‏ويشتاق‏ ‏إلى ‏المعرفة‏ ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏الدرجات‏، ‏ولما‏ ‏شاءت‏ ‏الظروف‏ ‏أن‏ ‏أبتعد‏ ‏عن‏ ‏الاتصال‏ ‏المباشر‏ ‏بالطلبة‏ ‏فترة‏ ‏طالت‏ ‏لأسباب‏ ‏مختلفة‏ .. ‏كنت‏ ‏دائم‏ ‏الشوق‏ ‏إليهم‏، ‏حتى ‏قررت‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏أن‏ ‏أقابلهم‏ ‏هنا‏ ‏على ‏الورق‏ ‏دون‏ ‏استئذان‏ ‏أو‏ ‏تأجيل‏، ‏فخرج‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏.‏

وأضيف‏ ‏أيضا‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏خبرتى ‏فى ‏التدريس‏ ‏لطلبة‏ ‏قسم‏ ‏علم ‏النفس‏ ‏بكلية‏ ‏الآداب‏ ‏جامعة‏ ‏عين‏ ‏شمس‏ ‏لمدة‏ ‏ست‏ ‏سنوات‏ ‏أدرس‏ ‏فيها‏ ‏علمين‏ ‏طويلين‏ ‏مستقلين‏ ‏هما‏: ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏الفسيولوجي‏، ‏وعلم‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏، ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الخبرة‏ ‏قد‏ ‏أثـْرَتـْنى ‏ثراء‏ بالغا‏ ‏علمت‏ ‏من‏ ‏خلاله‏ ‏ماذا‏ ‏يريد‏ ‏الطالب‏ ‏الذكى ‏ولماذا‏ ‏يريد‏ ‏مايريد‏، ‏وأخيرا‏ ‏فإن‏ ‏دروسى ‏التى ‏لم‏ ‏تنقطع‏ ‏طوال‏ ‏سنوات‏ ‏حتى ‏اليوم‏ ‏إلى ‏نفر‏ ‏من‏ ‏أطباء‏ ‏الامتياز‏ ‏الذين‏ ‏يتدربون‏ ‏فى قسمنا‏ ‏كل‏ ‏شهرين‏، ‏علمتنى ‏ماذا ‏ ‏كان‏ ينبغى ‏أن‏ ‏يعرفوه ‏وهم‏ ‏طلبه‏ .‏

الطالب‏: ‏فأنت‏ ‏كتبتَ‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ لكل هؤلاء معا‏؟‏ ‏

المعلم‏: ‏أنا كتبته‏ ‏لك‏ ‏باعتبارك‏ ‏ممثلا لأغلب‏ ‏هؤلاء‏.‏

‏1- ‏فأنت‏ ‏طالب‏ ‏الطب‏ ‏الذكى ‏أساسا‏ ‏الذى ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يعرف‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يعرفه‏ ‏دون‏ ‏ارتباط‏ ‏بدرجات‏ ‏أو‏ ‏امتحان‏، ‏تقرؤه‏ ‏فى ‏السرير‏ ‏أو‏ ‏فى “‏الركن‏ ‏الصغير”([1])‏، ‏وعند‏ ‏الضجر‏ ‏من‏ ‏العلوم‏ ‏الثقيلة‏ ‏الأخرى، ‏وكلما‏ ‏شككت‏ ‏فى ‏نفسك‏ ‏أو‏ ‏ضاقت‏ ‏عليك‏ ‏نفسك‏، و‏كلما‏ ‏خفت‏ ‏على ‏صحتك‏ ‏أو‏ ‏صحة‏ ‏من‏ ‏حولك‏، ‏وكلما‏ ‏جرؤت‏ ‏أن‏ ‏تفكر‏ ‏أو‏ ‏تتساءل‏ .‏

‏2- ‏ولكنى ‏أمـِـلـْـتُ‏ ‏وأنا‏ ‏أكتبه‏ ‏أن‏ ‏يقرؤه‏ ‏أى ‏طالب‏ ‏وأى ‏شاب‏ ‏وفتاة‏، ‏فأغلب المعلومات‏ ‏التى ‏وردت‏ ‏به‏ ‏هى ‏معلومات‏ ‏أولية أساسية‏، مهما تدعمت أحيانا باسماء أجنبية أو مراجع، ‏وهى ‏لا‏ ‏غنى ‏عنها‏ ‏لأى ‏شخص‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يعيش‏ ‏عصره‏، ‏ولا‏ ‏ننسى ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏المواضيع‏ ‏الخاصة‏ ‏بهذين‏ ‏العلمين‏ ‏أصبحت‏ ‏حديث‏ ‏الصالونات‏، ‏وواجهة‏ ‏المثقفين،‏ و‏مادة‏ ‏الإذاعة‏ ‏والتليفزيون‏، ‏ولعبة‏ ‏الرواة‏ ‏والقصاصين‏، ‏فكيف‏ ‏لا‏ ‏تكون‏ ‏بين‏ ‏يدى ‏الطالب‏ (الذكى) ‏من‏ ‏مصدر‏ ‏بسيط‏ ‏ومباشر‏، ‏وكيف‏ ‏لا‏ ‏يعنيه‏ ‏أن‏ ‏يعيش‏ ‏ما‏ ‏يقرأ‏ ‏ويرى ‏ويسمع‏ ‏بمقياس‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ما‏ ‏نعتقد‏ ‏إنه‏ ‏علم‏ ‏مسئول‏ ‏يخرج‏ ‏من‏ ‏مصدر‏ ‏مسئول‏.‏

‏3- بل‏ ‏إنى ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أدعى – ‏رغم‏ ‏العنوان‏ – ‏أنى ‏آمل‏ ‏أن‏ ‏يفيد‏ ‏منه‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏يجرؤ‏ ‏أن‏ ‏يفك‏ ‏الخط‏ ‏الذى‏ ‏يكتب‏ ‏به‏، ‏ويفهم‏ ‏الرسم‏ ‏الذى ‏خط‏ ‏معالمه‏ ‏بالمعنى ‏الشائع‏ ‏الأعمق‏ .‏

الطالب‏: ‏ولكن‏ ‏كيف‏ ‏كتبت‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏‏؟‏ ‏فإنى ‏أتصور‏ ‏أنى ‏حين‏ ‏أعرف‏ ‏كيف‏ ‏كتب‏ ‏سأعرف‏ ‏كيف‏ ‏أقرؤه‏ ‏أفضل‏ .‏

المعلم‏: اسمع يا إبنى: ‏

‏1- ‏بدأت‏ ‏بتحديد‏ ‏حجم‏ ‏الرشوة‏ ‏أولا‏ ‏وقبل‏ ‏كل‏ ‏شئ‏ ‏حتى ‏نكون‏ ‏عمليين‏، ‏فجمعت‏ ‏كل‏ ‏الأسئلة‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏موضوع‏ ‏امتحان‏ ‏السنة‏ ‏الثانية‏ ‏فى ‏علم‏ ‏النفس، ‏وهكذا‏ ‏اعتبرت‏ ‏نفسى ‏وأنا‏ ‏أكتبه‏ ‏كأنى ‏فى ‏المحاضرة‏ ‏تماما‏ ‏أشرح‏ ‏ المقرر، لكن بالعربية الأصيلة،‏

‏2- ‏ثم‏ ‏رجعت‏ ‏إلى ‏الكراس‏ ‏التى ‏كنت‏ ‏أدون‏ ‏فيها‏ ‏دروس‏ ‏أطباء‏ ‏الامتياز‏، ‏وعرفت‏ ‏حجم‏ ‏المادة‏ ‏التى ‏احتاجوا‏ ‏أن‏ ‏يعرفوها‏ ‏عن أساسيات ما يسمى “علم النفس”.

‏3- ‏ثم‏ ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أجيب‏ ‏عن‏ ‏الأسئلة‏ ‏العامة‏ ‏الخاصة‏ ‏التى ‏تدور‏ ‏حول‏ ‏هذين‏ ‏الموضوعين‏، ‏أحيانا‏ ‏فى ‏استطراد ‏ ‏مع‏ ‏كل‏ ‏معلومة‏ ‏أساسية‏، ‏وأحيانا‏ ‏فى ‏حديث‏ ‏مستقل‏، ‏تركت‏ ‏لقلمى ‏العنان يسأل‏ ‏وكأنه‏ ‏أنت‏، ‏فأجيب‏ ‏وكأنى ‏أنا‏!! ‏وهكذا‏ ‏خرج‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏هكذا.‏

الطالب‏: ‏ولكن بماذا تنصحنى حتى أستفيد‏ ‏منه‏ ‏إن‏ ‏أنا‏ ‏قرأته‏‏؟

المعلم‏: ‏بصفة‏ ‏عامة‏، ‏أتمنى ‏أن‏ ‏تقرأ‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏بأكبر‏ ‏درجة‏ ‏من‏ ‏الحرية‏، أعنى بأكبر درجة ‏من‏ ‏النقد‏ ‏حتى احتمال ‏الرفض‏، ‏ثم‏ ‏أتمنى ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏تضع‏ ‏نصب‏ ‏عينيك‏ ‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏رفضتـَـه‏ ‏وأثارك‏ ‏وهزك‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏هو‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏إعادة‏ ‏قراءته‏ ‏والتعرف‏ ‏عليه‏، ‏وفى ‏كل‏ ‏حال‏ ‏فإنى ‏أتمنى ‏ألا‏ ‏تستسلم‏ ‏لأى ‏معلومة‏ ‏وردت‏ ‏فيه‏، ‏أو‏ ‏فكرة‏ ‏دبجت‏ ‏على ‏أوراقه‏، ‏لأنه‏ ‏لا‏ ‏يقين‏ ‏فيه‏ ‏إلا‏ ‏خبرة‏ ‏كاتبه‏ ‏ومحاولة‏ ‏صدقه‏ ‏فى ‏القول‏ ‏والنقل‏ ‏والعرض‏ (‏وليس‏ ‏صدقة‏ ‏المطلق‏ ‏المستحيل‏) .‏

الطالب‏: ‏ولكن‏ ‏هل‏ ‏هناك‏ ‏علاقة‏ ‏بين‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏وبينك‏ ‏شخصا؟

المعلم‏: ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏الإجابة بالايجاب‏ ‏بداهة‏، ‏ولكن‏ ‏الحق‏ ‏أقول‏ ‏أن‏ ‏العلاقة‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏جد‏ ‏وثيقة‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أنها‏ خبرتى ومسئوليتى حين أمسكت القلم ورسمت الحروف، ولكن من ناحية أخرى  ‏فلا‏‏بد‏ ‏أن‏ ‏أعترف‏ ‏أن‏ ‏العلاقة‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تعتبر‏ ‏ضعيفة‏ ‏من‏ ‏جهتين‏: ‏فمن‏ ‏الجهة‏ ‏الفكرية‏ ‏أعلن‏ ‏أنه‏ ‏يخرج‏ ‏عن‏ ‏بؤرة‏ ‏اهتمامى ‏فى ‏الوقت‏ ‏الحالى ‏على ‏الأقل‏ ‏حيث‏ ‏تشغلنى ‏مسألتين([2])‏ ‏جوهريتين‏ ‏أكبر‏ ‏منه‏ ‏بلا‏ ‏مجال‏ ‏للمقارنة‏، ‏لدرجة‏ ‏تجعل‏ ‏العلاقة‏ ‏بينى‏ ‏وبينه‏ ‏واهية‏ ‏فعلا‏، ‏أما‏ ‏من‏ ‏الجهة‏ ‏الشخصية‏ ‏فأنا‏ ‏لا‏ ‏أظن‏ ‏أن‏ ‏التعرف‏ ‏على ‏شخصى ‏من‏ ‏خلال‏ ‏كتابتى ‏أو‏ ‏ظاهر‏ ‏فعلى‏ ‏يمكن‏ أن يتم ‏بدرجة‏ ‏أمينة‏ ‏أو‏ ‏مأمونة‏، ‏وأحب‏ ‏أن‏ ‏أحذرك‏ ‏معتمدا‏ ‏على ‏ذكائك‏ ‏من‏ ‏قضية‏ ‏ ‏خطيرة‏ ‏لم‏ ‏يعد لها‏ ‏مكان‏ ‏فى ‏عالمنا‏ ‏المعاصر‏، ‏وهى ‏الإفراط‏  ‏فى ‏الاعتماد‏ ‏على ‏الأب‏‏‏ ‏أو‏ ‏الزعيم‏ ‏وتنزيهه‏، ‏فعصرنا‏ ‏هو‏ ‏عصر‏ ‏الرجل‏ ‏العادى، ‏هو‏ ‏عصر‏ ‏تحمل‏ ‏التناقض‏، ‏وهو‏ ‏عصر‏ ‏الاستعانة‏ ‏بالأرشد‏ ‏وليس‏ ‏تقمصه‏ ‏أ‏و‏ ‏تقديسه‏، ‏لذلك‏ ‏فهو‏ ‏عصر‏ ‏مسئوليتك‏ أولا ومعك الآخرون، ولن يعفيك من مسئولية ‏فهمك‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏حق،‏ ‏وحمل‏ ‏أمانة‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏علم‏، ‏أن‏ ‏تنصرف‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏هو‏ ‏أنا‏ ‏أو ما‏ ‏هو‏ ‏غيرى، ‏ولن‏ ‏يقوم‏ ‏عنك‏ ‏بواجبك‏ ‏نحو‏ ‏إنسانيتك‏ ‏وبنى ‏وطنك‏ ‏وبنى ‏نوعك‏ ‏أن‏ ‏تتبع‏ ‏هذا‏ ‏أو‏ ‏تصفق‏ ‏لذاك‏، ‏فالمعلومة‏ ‏المطبوعة‏ ‏أمامك‏ ‏لها‏ ‏شخصيتها‏ ‏المستقلة‏، ‏وهى ‏عبء‏ ‏عليك‏ ‏إن‏ ‏فهمتها‏، ‏وعار‏ ‏عليك‏ ‏إن‏ ‏أهملتها‏.‏

أما‏ ‏والعلاقة‏ ‏بينى وبين‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏بهذا‏ ‏الوهن‏ ‏من‏ ‏الناحية‏ ‏الفكرية‏ ‏والناحية‏ ‏الشخصية‏ ‏معا‏ً، ‏فلا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏أفسر‏ ‏لك‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏المبرر‏ ‏المـُـلـِـحّ‏ ‏الذى ‏جعلنى ‏أنتزع‏ ‏نفسى ‏انتزاعا‏ ‏مما‏ ‏”هو‏ ‏أنا‏” ‏لأكتب‏ ‏ ‏”ما ‏هو‏ ‏ينبغى” ‏وأستطيع‏ ‏أن‏ ‏أعدد‏ ‏ذلك‏ ‏فيما‏ ‏يلى: ‏

‏1- ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏هو‏ ‏من‏ ‏صلب‏ ‏وظيفتى ‏الأساسية‏ .. والأمانة ‏والواقع‏  ‏ ‏يمنعانى ‏أن‏ ‏أتهرب‏ ‏من‏ ‏مسئولياتها‏ ‏طالما‏ ‏رضيت‏ ‏أن‏ ‏أستمر‏ ‏فى ‏شغلها‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏حيل‏ ‏بينى ‏وبين‏ ‏واجبى ‏نحوك‏ ‏من‏ ‏الأقربين‏ ‏أو‏ ‏الأبعدين‏ ‏فهذا‏ ‏لا‏ ‏يبرر‏ ‏انسحابى ‏وتـَـخـَـلـِّـىَ ‏عما‏ ‏هو‏ ‏واجبى ‏الأول‏ .‏

‏2- ‏إنه‏ ‏رسالة‏ ‏مكتوبة‏ ‏لك‏ ‏ولزملائك‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏رسالة‏ ‏شفوية‏ ‏لم‏ ‏أتمكن‏ ‏من‏ ‏توصيلها‏ ‏بالقنوات‏ ‏الطبيعية‏ .‏

‏3- ‏إنه‏ ‏اعتذار‏ ‏عن‏ ‏تقصير‏ ‏وتشويه‏ ‏اشتركتُ‏ ‏فيهما‏ ‏فيما‏ ‏سبق‏ .‏

‏4- ‏إنه‏ ‏اقتراب‏ ‏من‏ ‏الواقع‏، ‏ومخاطبة‏ ‏للقاعدة‏ ‏الأوسع‏ ‏فى ‏محاولة‏ ‏تطويع‏ ‏لرعونة‏ ‏الفكر‏ ‏الأعمق‏ .‏

‏5- ‏إنه‏ ‏تجربة باللغة العربية‏ ‏يسعدنى ‏نجاحها‏، ‏ويعلـِّـمنى ‏فشلها‏ ‏ما أعدّل به محاولاتى دون تراجع.

‏6- ‏إنه‏ ‏التماس‏ ‏للزملاء فى التخصصات الأخرى‏ ‏الذين‏ ‏يرفضون‏ ‏تدريس‏ ‏هذه‏ ‏العلوم‏ باللغة العربية ‏أن‏ ‏يعيدوا‏ ‏النظر‏ ‏من‏ ‏منظور‏ ‏جديد‏ ‏بسيط‏.‏

‏7- ‏إنه‏ ‏بعض‏ ‏من‏ ‏ديونى ‏التى ‏بدأت‏ ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أفى ‏بها‏ ‏تباعا‏ .‏

الطالب‏: ‏ولكن‏ ‏ما‏ ‏معنى ‏هذا‏ ‏العنوان‏‏([3]) ‏؟‏ ‏ولماذا‏ ‏؟

المعلم‏: ‏العنوان الأصلى “دليل الطالب الذكى” ‏ ‏استعرته‏ ‏من‏ ‏برناردشو‏ ‏فى ‏كتابه‏ ‏الرائع‏ “‏دليل‏ ‏المرأة‏ ‏الذكية”‏ ‏وهو‏ ‏يقدم‏ ‏الاشتراكية‏ ‏والرأسمالية‏ ‏من‏ ‏هذا‏ “‏الباب‏ ‏الخصوصى” ‏وكان‏ ‏بودى ‏ألا‏ ‏أزيد‏ ‏عن‏ ‏قولى “‏دليل‏ ‏الطالب‏ ‏الذكى” ([4]) ‏دون‏ ‏ذكر‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏تحديداً، ‏ولكنى ‏وجدته‏ ‏طموحا‏ ‏فى ‏غير‏ ‏محله‏، ‏فرجعت‏ ‏إلى لعبة‏ ‏الرشوة‏ ‏وكأنه‏ ‏كتاب‏ ‏وضع‏ ‏للمقرر‏، ‏ومن‏ ‏هذا‏ ‏المدخل‏ ‏أحاول‏ ‏الدخول‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏أعمّ‏.‏

ولقد اتخذت‏ ‏موقفا‏ ‏خاصا‏ ‏به لعله‏ ‏يثريه‏ ‏ويثرينا‏، ‏ووصفتك – قارئه – بأنك “ذكى” ‏إذا‏ ‏أنت‏ ‏قبلته‏ ‏وتحمست‏ ‏له‏ ‏فكان‏ ‏عاملا‏ ‏هاما‏ ‏وضاغطا‏ ‏على ‏الإدارة‏ ‏والمخططين‏ ‏لتعديل‏ ‏المنهج‏ ‏وإحقاق‏ ‏الحق‏.‏

أما العنوان المضاف “قصر العينى” فقد أضفت الفصل الأول بأكمله لأبرر إضافته، فجاء أغلبه اعترافا بفضل هذا “القسم” فى هذا “القصر”، وكانت أغلب مادته من كتيب كلفتُ بتحريره فى مناسبة مرور خمسين عاما على إنشاء قسم الأمراض النفسية، وقد ضمنت فى هذا العمل الحالى ما اخترته من هذا الكتيب من شهادات ووثائق، لأننى خشيت أن مثل هذا التاريخ وهذه الشهادات قد تـُـنسى أو تـُـهمل وهى قابعة فى كتيـّـب احتفالى محدود التوزيع، وغير متاح للأجيال الأصغر مثلك.

الطالب: ها طيب، وأنا فى أشد الحاجة إليه.

المعلم:‏ ‏دعنا نعود ونؤكد نقطة الانطلاق‏، ‏فأنت‏ ‏طالب‏ ‏الآن‏، ‏ثم‏ ‏طبيب‏ ‏بإذن‏ ‏الله‏ ‏بعد‏ ‏بضع‏ ‏سنوات‏، ‏وممارسة‏ ‏الطب‏ ‏كفن‏ ‏سوف‏ ‏تضطرك‏ ‏لأن‏ ‏تنظر‏ ‏فى ‏نفسك‏ ‏والناس‏ ‏المحتاجين‏ ‏إليك‏ ‏نظرة‏ ‏أعمق‏ و‏أكثر‏ ‏تكاملا‏، ‏وهنا‏ ‏ستتذكر‏ – ‏كحـِـرَفى ماهر – ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏يعينك‏ ‏فى ‏عملك‏، ‏أو‏ ‏ستلجأ‏ ‏كفنان([5])‏ ‏عالم‏ ‏إلى ‏الاستزادة‏ ‏فى ‏المعرفة‏ ‏مما‏ ‏فاتك‏ ‏طالبا‏ .‏

الطالب‏: ‏أراك‏ ‏تتحدث‏ ‏عن‏ ‏الطب‏ ‏كفن‏ ‏وعلم‏ ‏وحرفة‏ ‏فماذا‏؟ ‏وأين‏ ‏مكان‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏من‏ ‏ذلك‏‏؟

المعلم‏: ‏كان‏ ‏الطب‏ دائما ‏حرفة‏ ‏أساساً‏، ‏تغلب‏ ‏عليها‏ ‏الأسس‏ ‏الفنية‏ ‏وحذق‏ ‏الممارس‏، ‏وكان‏ ‏التطبيب‏ ‏اسمه‏ ‏فن‏ ‏التطبيب ‏أما الطب النفسى فكان اسمه “فن المجاذيب”([6])، ‏وإعطاء‏ ‏الدواء‏ ‏اسمه‏ “‏فن‏ ‏المداواة”‏، ‏وربط‏ ‏الكسور‏ ‏والجروح‏ ‏اسمه‏ ‏فن‏ ‏التعصيب‏، ‏ثم‏ ‏تدرج‏ ‏الأمر‏ ‏فأصبحت‏ ‏الممارسة‏ ‏الطبية‏ ‏لها‏ ‏أصولها‏ ‏العلمية‏ ‏بعد‏ ‏ان‏ ‏عرفت‏ ‏الأسباب‏ ‏أكثر‏ ‏فأكثر‏، ‏ولما زادت‏ ‏آلات‏ ‏الفحص‏، ‏قل‏ ‏دور‏ ‏الطبيب‏ ‏كحرفى ‏ماهر‏ ‏فيما‏ ‏عدا‏ ‏دوره‏ ‏الفنى ‏فى ‏الجراحة‏ ‏بالذات‏، ‏أما‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏فإن‏ ‏أسباب‏ ‏الاضطرابات‏ ‏فيه‏ ‏مازالت‏ ‏مجهولة‏، ‏وبالتالى ‏فهو‏ ‏مازال‏ ‏فنا‏ ‏وحرفة‏ ‏أكثر‏ ‏منه‏ ‏علما‏ ‏محددا‏، ‏والطب‏ ‏النفسى‏ ‏هو‏ ‏أبو‏ ‏فروع‏ ‏الطب‏ ‏جميعا‏ ‏من‏ ‏الناحية‏ ‏التاريخية‏، ‏فقد‏ ‏كانت‏ ‏أغلب‏ ‏الأمراض‏ ‏قديما‏ ‏تعزى إلى‏ ‏اضطرابات‏ ‏المزاج‏ ‏أو‏ ‏لبس‏ ‏الأرواح‏، ‏وكانت‏ ‏تعالج‏ ‏بتأثير‏ ‏‏إنسان‏ ‏على ‏إنسان‏ ‏سواء‏ ‏كان‏ ‏المؤثر‏ ‏شيخا‏ ‏طيبا‏ ‏أو‏ ‏شخصا‏ ‏واصلا‏ ‏أو‏ ‏محتالا‏ ‏ذكيا، ‏أو‏ ‏بمحاولة‏ ‏طرد‏ ‏الأرواح‏ ‏الشريرة‏ ‏بالضرب‏ ‏أو‏ ‏النفى، ‏ثم‏ ‏تفرعت‏ ‏من‏ ‏هذه‏ “‏الكومة المرضية‏ ‏الأم”‏ ‏سائر‏ ‏التخصصات‏ ‏الطبية‏ ‏الأخرى ‏حين‏ ‏عـُرِفت‏ ‏أسبابها أولا بأول‏، ‏أما‏ ‏ما‏ ‏بقى ‏منها‏ ‏تغلب‏ ‏على ‏أبعاده‏ ‏الجهل‏ … ‏فهو‏ ‏مازال‏ ‏يعد‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏: ‏ضـِمنَ‏ ‏الطب‏ ‏النفسى.‏

الطالب‏: ‏هل‏ ‏معنى ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏بقاء‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏كفرع‏ ‏مستقل‏ ‏دليل‏ ‏جهلنا‏ ‏بالأسباب‏‏؟

المعلم‏: ‏فى ‏الواقع‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏صحيح‏ ‏إلى ‏حد ما‏، ‏فمازالت‏ ‏كمية‏ ‏الجهل‏ ‏حول‏ ‏طبيعة‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏وأسبابه‏ ‏وطريقة‏ ‏حدوثه‏ ‏تبرر‏ ‏القول‏ ‏أن‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏يتضمن‏ ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏المجاهيل‏ ‏التى ‏تلزم‏ ‏المشتغل‏ ‏به‏ ‏الاعتماد‏ ‏على ‏الفروض‏ ‏العاملة‏ ‏والحذق‏ ‏الشخصى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏اعتماده‏ ‏على ‏المعلومات‏ ‏المحددة‏ ‏اليقينية‏.‏

الطالب‏: ‏ألا‏ ‏يبرر‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الجهل‏ ‏الذى ‏يحيط‏ ‏بالعلوم‏ ‏النفسية‏ ‏معارضة‏ ‏الأطباء‏ ‏الاخرين‏ ‏فى ‏تدريس‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏والطب‏ ‏النفسى؟

المعلم‏: ‏نعم يبرره‏، ‏ولكنه‏ ‏تبرير‏ ‏غير‏ ‏مسئول‏ ‏وضد‏ ‏حركة‏ ‏التاريخ‏، ‏إن‏ ‏المناطق‏ ‏المجهولة‏ ‏هى ‏الأكثر‏ ‏أحقية‏ ‏بالاستكشاف‏، ‏وبالتالى ‏أحقية‏ ‏بالدراسة‏ ‏وبذل‏ ‏الجهد‏…،  ‏ونحن‏ ‏الأطباء‏ ‏النفسيون‏ ‏نساهم‏ ‏فى ‏إثارة‏ ‏الناس‏ ‏علينا‏ ‏حين‏ ‏ندعى ‏لأنفسنا‏ ‏حجما‏ ‏أكبر‏ ‏من‏ ‏حقيقتنا‏، ‏فالآخرون‏ ‏بصدقهمم‏ ‏وحدسهم‏ ‏يشعرون‏ ‏باهتزاز‏ ‏موقفنا‏ ‏وعدم‏ ‏تناسب‏ ‏علو‏ ‏صوتنا‏ ‏مع‏ ‏ضآلة‏ ‏معارفنا‏، ‏ولهم‏ ‏الحق‏ ‏مبدئيا‏، ‏ولكنهم‏ ‏يصبحون‏ ‏أحق‏ ‏لو أنهم‏ ‏يأخذون‏ ‏بيدنا‏، ‏ولن‏ ‏يفعلوا‏ ‏ذلك‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏ظهرنا‏ ‏أمامهم‏ ‏بحجمنا‏ ‏المتواضع‏ ‏ونحن نواصل‏ ‏بما‏ ‏نملك‏ ‏من‏ ‏جهد‏ ‏وإصرار‏ ‏وسعى ‏إلى ‏مزيد‏ ‏من‏ ‏المعرفة‏ ‏والإسهام‏ ‏معا‏ ‏فى ‏مسيرة‏ ‏الإنسان‏، ‏إن‏ ‏طالب‏ ‏الطب‏ ‏ليس‏ ‏غنيمة‏ ‏نتصارع‏ ‏لاقتسامها‏، ‏ولكنه‏ ‏أمانة‏ ‏يساعد‏ ‏بعضنا‏ ‏بعضا‏ ‏فى ‏أداء‏ ‏حقها‏.‏

الطالب‏: ‏ولكن ‏أنا‏ ‏مالى ‏وهذه‏ ‏المعركة‏ بينكم‏؟‏ ‏إننى ‏أريد‏ ‏معلومات‏ ‏أكيدة‏ ‏أحفظها‏ ‏وأسمـّـعها وأنجح‏ ‏بها‏ ‏وأرتاح‏‏.

المعلم‏: ‏وهذه‏ ‏هى ‏الخطيئة‏ ‏الكبرى ‏فى ‏التعليم‏ ‏الجامعى ‏عامة‏، ‏وتعليم‏ ‏الطب‏ ‏خاصة‏ ‏وتعليم‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏بشكل‏ ‏أشد‏ ‏تخصيصا‏، ‏وهى ‏ألا‏ ‏نقدم‏ ‏لك‏ ‏إلا‏ ‏المعلومات‏ ‏الأكيدة‏، ‏فتتصور‏ ‏بدورك‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏بين‏ ‏يديك‏ ‏وتحت‏ ‏ناظريك‏ ‏هو‏ ‏حقائق أكيدة، فنخدعك، ونحرمك نعمة التفكير ونـُـقـَـوْلبك، ونزيد “الكاسيتات”‏ ‏البشرية‏ ‏نسخة‏ ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏تصدأ‏، ‏إن‏ ‏وظيفة‏ ‏التعليم‏ ‏هى ‏فى ‏الإلمام‏ ‏بالمعلومات‏ ‏التى  تم اكتشافها، وفتح الأبواب لما بعدها، وفخر العالـِـمِ وشرفه هو أن يدرك ‏حجم‏ ‏ما‏ ‏يجهل‏، ‏وألا‏ ‏يتعصب‏ ‏أو‏ ‏يتشنج‏ ‏لما‏ ‏يعلم‏، ‏لأنه‏ ‏على ‏يقين‏ ‏من‏ ‏طبيعته‏ ‏المؤقتة‏ .‏

الطالب‏: ‏إذن‏ ‏فهل‏ ‏يعنى ‏هذا‏ ‏أن‏ ‏نزيد‏ ‏ساعات‏ ‏ومقررات‏ ‏دراسة‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏والطب‏ ‏النفسى ‏لطالب‏ ‏الطب‏، ‏حتى ‏ولو‏ ‏كان‏ ‏موقف‏ ‏هذين‏ ‏العلمين‏ ‏بهذه‏ ‏الدرجة‏ ‏من‏ ‏عدم‏ ‏التحديد‏ ‏وعدم‏ ‏الثبات، بل دعنى أقول:‏ ‏والجهل‏‏؟

المعلم‏: ‏إذا‏ ‏استمر‏ ‏الأمر‏ ‏على ‏تدريس‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏بالطريقة‏ ‏السائدة‏، ‏بمعنى ‏أن‏ ‏نحشر‏ ‏فى ‏عقل‏ ‏الطالب‏ ‏تعريفات‏ ‏صعبة‏ ‏لبديهيات ‏سهلة‏ ‏فلا‏ ‏جدوى ‏من‏ ‏الزيادة‏ ‏بل‏ ‏لعل‏ ‏العكس‏ ‏هو‏ ‏الأولى.

‏وكذلك‏ ‏إذا‏ ‏استمر‏ ‏تدريس‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏والأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏يركز‏ ‏على ‏تقديم‏ ‏معلومات‏ ‏تعرفها‏ ‏أيه‏ ‏ربة‏ ‏منزل‏ ‏أمية‏ ‏أو‏ ‏أى ‏شاويش‏ ‏فى ‏نقطة‏ ‏بوليس‏، ‏فلا‏ ‏داعى ‏للخلاف‏ ‏على ‏ساعات‏ ‏التدريس‏ ‏وضرورة‏ ‏الامتحان‏، ‏لأنه‏ ‏ماذا‏ ‏يفيدك‏ ‏أن‏ ‏تعرف أن من يرى خيالات وأشباح لا يراها غيره فهو مخرف أو مجنون؟؟ وماذا يفيدك لو كان اسمها‏ هلاوس‏ ‏أو‏ ‏تهلسات‏، ‏وأى ‏جديد‏ ‏فى ‏أن‏ ‏من‏ ‏يعتقد‏ ‏أنه‏ ‏هتلر‏ ‏أو‏ ‏جمال‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ أو المهدى المنتظر ‏فهو‏ ‏يهذى ‏أو‏ ‏ذو‏ ‏عقل‏ ‏مضطرب‏‏؟‏ ‏ألا‏ ‏يعلم‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏أى ‏مخبر‏ ‏فى ‏الشارع‏ ‏يمسك‏ ‏متشردا‏ ‏مهلهل‏ ‏الثياب‏ ‏يكلم‏ ‏نفسه‏ ‏؟؟

إن‏ ‏السبيل‏ ‏الحقيقى ‏لإعادة‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏تدريس‏ ‏هذين‏ ‏العلمين‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏نعطى ‏لك‏ ‏ما‏ ‏يفيدك‏ ‏أنت‏ ‏فى ‏فهم‏ ‏نفسك‏ ‏والآخرين‏، ‏فتنطلق‏ ‏فيك‏ ‏قوى ‏النمو‏ ‏الإبداع‏، ‏وأن‏ ‏نجعلك‏ ‏تلم‏ ‏بما‏ ‏يفيدك‏ ‏كطبيب‏ ‏سواء‏ ‏فى ‏معرفة‏ ‏نفوس‏ ‏مرضاك‏ ‏أم‏ ‏فى ‏شحذ‏ ‏ملكاتك‏ ‏الفنية‏ ‏الإنسانية‏ ‏التى ‏بوساطتها‏ ‏تصبح‏ ‏أكثر‏ ‏نجاحا‏ ‏وأعم‏ ‏نفعا‏، ‏نعلمك‏ ‏كيف‏ ‏تتعامل‏ ‏مع‏ ‏مرضاك‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏معرفتك‏ ‏نفسك‏ ‏واحتياجك‏، ‏ونفوسهم‏ ‏وظروفهم‏ ‏واحتياجهم‏ ‏إلى ‏المعلومات‏ ‏الأولية‏ ‏عن طبيعة النفس ثم عن‏ ‏العلاجات‏، ‏وهذا‏ ‏مما‏ ‏أحاول‏ ‏تقديم‏ ‏إطار‏ ‏عام‏ ‏له‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل، ثم إننى أعتقد ‏أن‏ ‏الزملاء‏ ‏الرافضين‏ ‏هم‏ ‏أول‏ ‏من‏ ‏سيدعونا‏ ‏لزيادة‏ ‏ساعات‏ ‏التدريس‏ ‏لو‏ ‏قدمنا‏ ‏ما‏ ‏يفيد‏، ‏كما‏ أن ‏زملاءك‏ ‏الطلبة‏ ‏المنتفعين‏ ‏هم‏ ‏أول‏ ‏من‏ ‏سيثورون‏ ‏على ‏أى ‏إعاقة‏ ‏تحول دون‏ ‏منفعتهم.

الطالب‏: ما هذه الخطبة العصماء، هل تتصور أن فرصة الحوار بيننا هكذا هى السبيل لتحقيق هذه الثورة التى وصلتنى من هذه الخطبة.

المعلم‏: أنا متفائل مزمن، وتفاؤلى يلزمنى أن أملأ كل ثانية بعمل يسهم فى تحقيق ما أراه الأفضل والأصدق وأن أخاطب كل واحد، وخاصة الأصغر فالأصغر باعتبار أنى اسلمه الأمانة.

الطالب‏: إعمل معروفا أنا لست حمل هذا الكلام ومع ذلك فأنا فرِح به بدرجة مـِا، لا أعرف لماذا؟ ‏ولكن‏ ‏إذا‏ ‏استمر‏ ‏الأمر‏ ‏كما‏ ‏هو‏ ‏الآن‏، ‏فأهون‏ ‏الأمور‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏يستمر تدريس علم النفس‏ ‏ب‏نفس‏ ‏حجمه‏ ‏المتواضع‏ ‏كما‏ ‏هو‏، ‏مع‏ ‏نفس‏ ‏الرفض‏ ‏والتهوين‏، ‏وإن‏ ‏تـَـغـَـيـَّـرنا‏ ‏نحن‏: ‏فلابد‏ ‏أن‏ ‏ما حولنا‏ ‏سيتغير‏ ‏بالضرورة‏ ‏وطبيعة‏ ‏الأشياء.

المعلم‏: هذا صحيح: لأنك شاب، ولأنك طالب علم ومعرفة، ولأنك ذكى

الطالب‏: لا أكاد أصدق أن كل هذا يمكن أن يخطر على بالك عن واحد مثلى ونحن بصدد الحديث فى علم ثانوى يسمى علم النفس

المعلم‏: أهكذا تقول ثانوى ولا تخشى أن يقل حماسى أو يفتر تفاؤلى

الطالب‏: أنا آسف، لكن دعنى ‏أسأل‏ ‏سؤالا‏ ‏مبدئيا‏ ‏عن‏ “‏ماهية‏ ‏النفس”‏، ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏نخوض‏ ‏فى ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏”علم”‏ ‏يتعلق‏ ‏بها‏؟

المعلم‏: ‏تختلف‏ ‏الآراء‏ ‏فى ‏تعريف‏ ‏النفس‏ ‏بدرجة‏ ‏لاننصح‏ ‏معها‏ ‏بأن‏ ‏نتعرض‏ ‏لتعريفها‏ ‏أصلا‏، ‏ذلك‏ ‏لأنها‏: ‏

‏1- ‏لو‏ ‏اعتـُـبـِـرت‏ ‏مرادفة‏ ‏للفظ‏ ‏”الروح”‏ ‏كما‏ ‏كانت‏ ‏قديما‏ ‏لكانت‏ ‏من‏ ‏ألغز‏ ‏الأمور‏، ‏بل‏ ‏قد‏ ‏يجب‏ ‏تركها‏ ‏جانبا‏ ‏لخالقها‏، ‏بل‏ ‏قد‏ ‏تصبح‏ ‏دراستها‏ ‏حراما‏ ‏وعصيانا‏ ‏والعياذ‏ ‏بالله‏!! (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)‏

‏2- ‏ولو‏ ‏اعتبرت‏ ‏مرادفة‏ ‏لظاهر‏ ‏أفعالها‏ ‏وسلوكها‏، ‏لتضاءلت‏ ‏قيمة‏ ‏الإنسان‏ ‏وماهيته ‏حتى أصبح‏ ‏كيانا‏ ‏مسطحا‏ ‏لا‏ ‏نعرف‏ ‏منه‏ ‏إلا‏ ‏ظاهر‏ ‏حركاته‏ ‏ومنطوق‏ ‏كلامه‏، ‏والإنسان‏ ‏أعقد‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏وأعمق‏ ‏وأصعب‏ ‏معاً‏.‏

والأفضل‏ ‏لك‏ – ‏وأنت الذكى‏ – ‏أن‏ ‏تكتفى ‏بأن‏ ‏تسأل‏: ‏ما‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏المقصود‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الكلمة‏ “النفس” ‏يمكن‏ ‏إرجاعه‏ ‏إلى ‏نشاط‏ ‏عضو‏ ‏بذاته‏، ‏فأستطيع‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏أعرفها‏ ‏لك‏ ‏بقولى: ‏

‏ “‏إن‏ ‏النفس‏ ‏هى ‏النشاط‏ ‏الكلى ‏للمخ‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ( ‏ويسرى ‏هذا‏ ‏أكثر‏ ‏على ‏الانسان‏) ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏يتضمن‏ ‏ويشترك‏ ‏مع‏ ‏نشاط ‏ ‏سائر‏ ‏الأعضاء‏ ‏جميعا“‏.

‏‏من‏ ‏هذا‏ ‏المدخل‏ ‏أساسا‏ – ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏لدراسة‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏بـُـعـْـدٌ‏ ‏واقعى ‏متواضع‏ ‏يجذب‏ ‏الطالب‏ ‏ويسهم‏ ‏فى ‏إعادة‏ ‏تخطيط‏ ‏المناهج‏، ‏وبهذا‏ ‏تصبح‏ ‏دراسة النفس بمثابة دراسة‏ ‏وظيفة‏ ‏عضو‏ من ‏الأعضاء‏ ‏كأنها‏ ‏تندرج‏ ‏تحت‏ ‏”علم‏ ‏وظائف‏ ‏الأعضاء”،‏ ‏ولكن‏ ‏ينبغى ‏ألا‏ ‏يوحى ‏هذا‏ ‏بأى ‏مفهوم‏ ‏تجزيئىّ‏، ‏حتى لا‏ ‏تصبح‏ ‏دراسة‏ وظائف ‏النفس‏ ‏وكأنها‏ ‏دراسة‏ ‏إفراز‏ ‏الكلى، ‏أو‏ ‏تجرى ‏دراسة‏ ‏الاختيار‏ ‏الواعى (الإرادة‏) ‏والتفكير‏ ‏الرمزى ‏مجرى ‏دراسة‏ ‏إخراج‏ ‏الفضلات‏ ‏أو‏ ‏حركة‏ ‏الأمعاء‏، ‏إن‏ ‏التركيز‏ ‏على ‏أن‏ ‏النفس‏ ‏هى ‏النشاط‏ ‏الإجمالى ‏المعقد‏ ‏للمخ‏‏([7])‏ ‏يضيف‏ ‏بعدا‏ ‏هاما‏ ‏لا‏ ‏غنى ‏عنه‏ ‏فى ‏الدراسة‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏، ‏ولكنه‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يختزل‏ ‏ظاهرة‏ ‏النفس‏ ‏إلى ‏مفهوم‏ ‏ميكانيكى ‏مسطح (أو تشريحى محدد).‏

الطالب‏: ‏إذن‏ ‏ما‏ ‏هى ‏علاقة‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏بعلم‏ ‏وظائف‏ ‏الأعضاء‏ (‏الفسيولوجيا‏)؟

المعلم‏: ‏يمكن‏ ‏اعتبارهما‏ – ‏من‏ ‏واقع‏ ‏الشرح‏ ‏السالف‏ – ‏شديدى ‏الاقتراب‏ ‏بعضهما‏ ‏من‏ ‏بعض‏، ‏والفرق‏ ‏الجوهرى ‏هو‏ ‏أن‏ ‏محتوى ‏دراسة‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ (‏وهو‏ ‏نشاط‏ ‏المخ‏ ‏الكلى) ‏شديد‏ ‏التعقيد‏ ‏شديد‏ ‏التداخل‏، ‏أما‏ ‏علم‏ ‏وظائف‏ ‏الأعضاء‏ ‏فهو‏ ‏يتناول‏ ‏الأعضاء عضوا عضوا‏ ‏بالتفصيل‏ ‏وبالتجزئ‏ ‏الممكن‏ ‏المناسب‏.‏

الطالب‏: ‏هل‏ ‏معنى ‏النشاط‏ ‏الكلى ‏للمخ‏ ‏أنه‏ ‏نشاط‏ ‏واحد‏، ‏أم‏ ‏أنه‏ ‏يعنى ‏عدة‏ ‏نشاطات‏ ‏متآلفة‏، ‏أم‏ ‏ماذا‏‏؟

المعلم‏: ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏نميز‏ ‏بين‏ ‏طبيعة‏ ‏الظاهرة‏، ‏وبيين‏ ‏ضرورات‏ ‏الدراسة‏، “‏فالنفس‏ ‏هى ‏النشاط‏ ‏الكلى ‏للمخ”‏ ‏وهذه هى‏ ‏طبيعة‏ ‏الظاهرة‏، ‏أم‏ ‏دراستها‏ ‏فهى ‏تضطرنا‏ ‏إلى النظر‏ ‏إليها‏ ‏من‏ ‏زوايا‏ ‏متعددة‏، ‏ويصبح‏ ‏التقسيم‏ ‏ليس‏ ‏تقسيما‏ ‏للظاهرة‏ ‏وإنما‏ ‏تعددا‏ ‏لزوايا‏ ‏الرؤية‏، ‏فإذا‏ ‏درسنا‏ ‏التفكير‏ ‏فنحن‏ ‏ندرس‏ ‏المخ‏ ‏فى ‏كليته‏ ‏إذ‏ ‏يفكر،‏ ‏ثم‏ ‏نعود‏ ‏ندرس‏ ‏وظيفة‏ ‏التعلم‏ ‏وهى ‏وظيفة‏ ‏كلية‏ ‏أيضا‏ ‏تشمل‏ ‏التذكر‏ ‏وتسهم‏ ‏فى ‏النضج‏ ‏وكلا من التفكير والتعلم يرتبطان أشد الارتباط بما يدفعهما من دواقع وما يصاحبهما من وجدان وهكذا.‏ ‏

الطالب‏: ‏ولكن‏ ‏ألا‏ ‏يختص‏ ‏كل‏ ‏جزء‏ ‏من‏ ‏المخ‏ ‏بوظيفة‏ ‏نفسية‏ ‏بذاتها‏، ‏مثلما‏ ‏هو‏ ‏الحال‏ ‏ ‏فى ‏الأعضاء‏ ‏الأخرى؟‏ ‏أو‏ ‏حتى ‏مثلما‏ ‏هو‏ ‏الحال‏ ‏فى ‏الوظائف‏ ‏الحركية‏ ‏والحسية‏ ‏للمخ‏ ‏نفسه‏؟

المعلم‏: ‏لقد‏ ‏حاول‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏العلماء‏ ‏هذه‏ ‏المحاولة‏ ‏بغية‏ ‏تحديد‏ ‏مكان‏ (‏أو‏ ‏مركز(‏Center  للذاكرة‏، ‏وآخر‏ ‏للتفكير‏، ‏وثالث‏ ‏للعواطف‏، ‏وكانت‏ ‏محاولات‏ ‏مجتهدة‏ ‏ومدعمة‏ ‏بالأدلة‏ ‏المبدئية‏ ‏النابعة‏ ‏من‏ ‏تجارب‏ ‏استئصال‏ ‏فى ‏الحيوانات‏، ‏أو‏ ‏من‏ ‏مشاهدة‏ ‏نتائج‏ ‏عمليات‏ ‏جراحية‏ ‏اضطرارية‏ ‏لإزالة‏ ‏أجزاء،‏ ‏أوشق‏ ‏فصوص‏، ‏فى ‏المخ‏، ‏ولكن‏ ‏لم‏ ‏يثبت‏ ‏بأى ‏دليل‏ ‏دامغ‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التحديد‏ ‏ممكن‏ ‏مثلما‏ ‏هو‏ ‏ممكن‏ ‏فى ‏وظائف‏ ‏الحركة‏ ‏والاحساس‏ (‏والإدراك‏ Perception ‏ أحيانا‏)، ‏ومثال‏ ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏ثبت‏ ‏مؤخرا‏ ‏أن‏ ‏الذاكرة‏ – ‏مثلا‏ – هى ممثله‏ ‏فى ‏كل‏ ‏أجزء‏ ‏المخ‏ ‏وخلاياه‏، ‏وليست‏ ‏فى ‏منطقة‏ ‏بذاتها‏، ‏وأن‏ ‏إزالة‏ ‏جزء‏ ‏كبير‏ ‏من‏ ‏المخ‏ (‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏لحاء‏ ‏المخ‏) ‏فى ‏أى ‏مكان‏ ‏لا‏ ‏يلغى ‏جزءا‏ ‏معينا‏ ‏من‏ ‏الذاكرة‏ ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏يحور‏ ‏قليلا‏ ‏من‏ ‏تفاصيلها‏.، بل لقد امتد الفكر الأحدث إلا أن الذاكرة تتجاوز المخ نفسه إلى الجسد بل وإلى المحيط من حولنا، وكذلك‏ ‏عجز‏ ‏العلماء‏ ‏عن‏ ‏تحديد‏ ‏مركز‏ ‏التفكير‏ ‏فى ‏الفص‏ ‏الأمامى Frontall Lobe ‏وهكذا‏.

‏وأخيرا‏ ‏فإن‏ ‏القول‏ ‏بأن‏ ‏الانفعال‏ ‏يقع‏ ‏فى ‏الجهاز‏ ‏الحرفى Limbic System ‏وما‏ ‏يتعلق‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏أجزاء‏ ‏المخ‏ ‏القديم‏ ‏إنما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏مراكز‏ ‏لسلوك‏ ‏بدائى ‏عدوانى ‏أو‏ ‏هروبى، ‏وكذلك‏ ‏ما‏ ‏يرتبط‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏تفاعلات‏ ‏أتونومية Autonomic ‏ولكنه‏ ‏لا‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏العواطف‏ ‏الأرقى ‏المعقدة‏ ‏مثل‏ ‏العرفان‏ Gratitude ‏والمشاركة‏ ‏التعاطفية‏ ‏الانسانية‏ Humanistic empathetic associationism ‏إذ‏ ‏أن‏ ‏هاتين‏ ‏العاطفتين‏ ‏تستلزمان‏ ‏عمل‏ ‏المخ‏ ‏بأكمله.

‏ ‏خلاصة‏ ‏القول‏ ‏أن‏‏ ‏الوظائف‏ ‏النفسية‏ ‏الأرقى‏ ‏خاصة‏ (‏وليست‏ ‏البدائية‏ ‏المشتركة‏ ‏مع‏ ‏الحيوانات‏) ‏تستلزم‏ ‏عمل‏ ‏المخ‏ ‏بأكمله‏‏([8])‏.‏

الطالب‏: ‏فما‏ ‏هو‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏الوظائف‏ ‏النفسية‏ ‏البدائية‏ ‏والوظائف‏ ‏النفسية‏ ‏الإنسانية‏ ‏الأرقى ‏؟

المعلم‏: ‏إن‏ ‏ترتيب‏ ‏المخ‏ ‏من‏ ‏الأدنى ‏إلى ‏الأرقى ‏هو‏ ‏ترتيب‏ ‏معروف‏ ‏فى ‏علم‏ ‏التشريح‏، ‏وعلم‏ ‏الفسيولوجيا‏ ‏العصبية‏، ‏وهو‏ ‏نابع‏ ‏من‏ ‏فروض علوم‏ ‏التطور‏ ‏وعلم‏ ‏الأجنة المقارنة‏ ‏والتشريح،‏ و‏علم‏ ‏الفسيولوجيا‏ ‏النفسية‏ ([9])، ‏وعلى ‏ذلك‏ ‏يمكن‏ ‏تقسيم‏ ‏الوظائف‏ ‏النفسية‏ ‏ارتقائيا‏ ‏على ‏الأسس‏ ‏التالية‏: ‏

‏(‏ا‏) ‏كلما‏ ‏كانت‏ ‏الوظيفة‏ ‏انعكاسية‏ ‏ميكانيكية‏ ‏كانت‏ ‏أدنى ‏وأكثر‏ ‏بدائية‏، ‏مثال‏ ‏ذلك‏ ‏دافع‏ ‏الجوع‏ ‏وإرضاؤه‏ ‏بالأكل‏، ‏وأبسط‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏إدراك‏ ‏الألم‏ ‏من‏ ‏مثير‏ حسىّ ‏مؤلم‏ ‏للجلد‏ ‏وسحب‏ ‏اليد‏ ‏انعكاسيا‏ ‏ميكانيكيا‏ استجابة للغزّ ‏وهكذا‏.‏

‏(‏ب‏) ‏كلما‏ ‏كانت‏ ‏الوظيفة‏ ‏نابعه‏ ‏من‏ ‏عدد‏ ‏قليل‏ ‏محدود‏ ‏من‏ ‏النيورونات‏ Neurones ‏ كانت‏ ‏بدائية‏ أكثر، ‏والعكس‏ ‏صحيح‏، ‏ومثال‏ ‏ذلك:‏ ‏أن‏ ‏خفقان‏ ‏القلب‏ ‏عند‏ ‏الخوف‏ ‏يشمل‏ ‏مسارات‏ ‏نيورونية‏ ‏محدودة‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏التفكير‏ ‏للبحث‏ ‏عن‏ ‏تعريف‏ ‏شامل‏ ‏لماهية‏ ‏الحرية‏ – ‏مثلا‏ – ‏يشمل‏ ‏أغلب‏، ‏إن‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏كل‏، ‏خلايا‏ ‏المخ‏.‏

‏(‏حـ‏) ‏كلما‏ ‏كانت‏ ‏الوظيفة‏ ‏معبراً‏ ‏عنها‏ ‏بالتعبير‏ ‏الجسدى ‏أو‏ ‏الحشوى ‏أساسا‏ ‏كانت‏ ‏أكثر‏ ‏بدائية‏ ‏والعكس‏ ‏صحيح‏، ‏ومثال‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏السلوك‏ ‏الانفعالى ‏الذى ‏يظهر‏ ‏فى ‏سورة‏ ‏الغضب‏، ‏وكذا‏ ‏احمرار‏ ‏الوجه‏ ‏أو‏ ‏القئ‏، ‏هو‏ ‏أكثر‏ ‏بدائية‏ ‏من‏ ‏سلوك‏ ‏الأسى ‏المؤلم‏ ‏والتوجع‏ ‏لقلة‏ ‏الوفاء‏، ‏والالتزام‏ ‏بين‏ ‏بنى ‏البشر‏.. ‏وهكذا‏ ‏ ‏نجد‏ ‏أن‏ ‏الوظائف‏ ‏تترتب‏ ‏تصاعديا‏ ‏حسب‏ “مدى” ‏ما‏ ‏تشمل‏ ‏من‏ ‏نيورونات مساحةً وتشابكاتٍ‏.‏

الطالب‏: ‏ولكن‏ ‏هل‏ ‏المدى ‏وحده‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يحدد‏ ‏ارتقاء‏ ‏الوظيفة‏ ‏أو‏ ‏بدائيتها؟

المعلم‏: ‏لا‏.. ‏بل‏ ‏يوجد‏ ‏أيضا‏ ‏النسق‏، ‏ولكن‏ ‏هذا‏ ‏أمر‏ ‏أشد‏ ‏تعقيدا‏، ‏ولم‏ ‏يستقر‏ ‏عليه‏ ‏العلماء‏ ‏بالنسبة‏ ‏لكل‏ ‏وظيفة‏، ‏ولا‏ ‏مجال‏ ‏فى ‏هذا‏ “‏الدليل‏” ‏للإفاضة‏ ‏فيه‏، ‏كل‏ ‏ما‏ ‏أرجو‏ ‏إيضاحه‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏الوظائف‏ ‏النفسية‏ ‏الإنسانية‏ ‏الأرقى ‏بالذات‏ ‏يصعب‏ ‏تحديد‏ ‏موضعها‏ Locality ‏ فى ‏المخ‏، ‏لأنها‏ ‏منتشرة‏ ‏تماما‏ ‏وهى وظائف كلية‏ ‏لايربطها‏ “‏موضع‏” محدد ‏بل‏ “تنظيم”، ‏وعلى ‏نفس‏ ‏المبدأ‏ ‏فإن‏ ‏تحديد‏ ‏مواضع‏ ‏بذاتها‏ ‏للاضطرابات‏ ‏النفسية‏ ‏المختلفة‏ ‏يصبح‏ ‏أمرا‏ ‏منافيا‏ ‏لطبيعة‏ ‏ماهية‏ ‏النفس‏.‏

الطالب‏: ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏شأن‏ ‏ترتيب‏ ‏وظائف‏ ‏المخ‏، ‏أو‏ ‏الوظائف‏ ‏النفسية‏، ‏فما‏ ‏هو‏ ‏موقع‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏باللاشعور‏ ‏أو‏ ‏العقل‏ ‏الباطن؟‏ ‏هل‏ ‏هو‏ ‏أيضا‏ ‏فى ‏المخ؟

المعلم‏: ‏لاشك‏ ‏أن‏ ‏العقل‏ ‏الباطن‏ ‏ليس‏ ‏فى “‏البطن”‏، ‏وأن‏ ‏اللاشعور‏ ‏ليس‏ ‏مفهوما‏ ‏مجردا‏ ‏فى ‏الهواء‏ ‏الطلق‏، ‏وأن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يتعلق‏ ‏بالنفس‏ ‏هو‏ ‏فى ‏المخ‏ .. ‏والعقل‏ ‏الباطن‏ ‏أو‏ ‏اللاشعور‏ ‏هو أساسا‏ ‏نشاط‏ ‏تنظيم غائر فى المخ أيضا‏ ‏ ‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏وعى ‏الإنسان‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏بذاتها‏، ‏ولكن‏ ‏هذا‏ ‏النشاط‏ ‏قد‏ ‏يظهر‏ ‏فى ‏أحوال‏ ‏أخرى ‏مثل‏ ‏الحلم‏، ‏أو‏ ‏بالتنويم‏، ‏أو‏ ‏بتأثير‏ ‏بعض‏ ‏العقاقير‏، ‏وأحيانا‏ ‏بالإثارة‏ ‏الكهربية‏ ‏بقطب‏ ‏دقيق‏ Micro Elcctrode ‏لبعض‏ ‏أجزاء‏ ‏المخ‏ ‏لشخص‏ ‏واع‏ ‏متطوع‏ ‏ومخدر‏ ‏تخديرا‏ ‏موضعيا‏ ‏فقط‏، ‏والحقيقة‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏التجارب‏ ‏الأخيرة‏ ‏قد‏ ‏قام‏ ‏بها‏ ‏عالم‏ ‏جراح‏ ‏رائد ‏هو‏ “‏بنفيلد”‏ Penfield ‏واستعاد‏ ‏الشخص‏ ‏المتطوع‏ ‏بهذه‏ ‏الإثارة‏ ‏الكهربية‏ ‏الدقيقة‏ ‏ذكريات‏ ‏قديمة‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يتصور‏ ‏أنه‏ ‏ممكن‏ ‏أن‏ ‏يتذكرها‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏نفس‏ ‏الفكرة ألهمت‏ ‏عالما‏ ‏آخر‏ (‏إريك‏ ‏بيرن‏) ‏أن‏ ‏يثبت‏ ‏فرض‏ ‏وجود‏ ‏عدة‏ ‏تنظيمات‏ ‏فى ‏المخ‏ ‏تقابل حالات‏ ‏أشخاص‏ ‏متعددة‏ ‏فى ‏ذات‏ ‏الشخص‏ ‏الواحد‏‏([10])‏.‏

الطالب‏: ‏كيف‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏المخ‏ ‏الواحد‏ ‏به‏ ‏أشخاص‏ ‏متعددين‏ ‏فى ‏ذات‏ ‏الشخص‏ ‏الواحد؟‏ ‏هل‏ ‏هذا‏ ‏كلام؟

المعلم‏: ‏لا‏ ‏هذا‏ ‏ليس‏ ‏كلاما‏، ‏ولكنه‏ ‏علم‏، ‏وليس‏ ‏هنا‏ ‏مجال‏ ‏تفصيل‏ ‏هذا‏ ‏الفرض‏، ‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏الفكرة‏ ‏الأساسية‏ ‏فى ‏غاية‏ ‏البساطة‏، ‏وتفيد‏ ‏الطبيب‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏فى ‏تعامله‏ ‏مع‏ ‏مرضاه‏، ‏ولا‏ ‏أعنى ‏الطبيب‏ ‏النفسى ‏بل‏ ‏أى ‏طبيب‏، ‏ومايهم‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏النقطة‏ ‏هو‏ ‏عدة‏ ‏حقائق‏ ‏يستحسن‏ ‏إيضاحها‏ ‏فى‏:‏

‏ ‏إن‏ ‏وجود‏ ‏تنظيمات‏ ‏هرمية‏ (‏هيراركية‏) Hierarchieal ‏فى ‏المخ‏، ‏هو‏ ‏مفهوم‏ ‏عادى ‏يساير‏ ‏مفهوم‏ ‏التطور‏ ‏ويساير‏ ‏وجود‏ ‏نفس‏ ‏التنظيمات‏ ‏الهيراركية‏ ‏فى ‏الوظائف‏ ‏الأخرى ‏مثل‏ ‏الإحساس‏ ‏والحركة‏، ‏فإذا‏ ‏كانت‏ ‏الثالاموس ‏ Thalamus‏هى ‏مركز‏ ‏الإحساس‏ ‏البدائى، ‏وإذا‏ ‏كانت‏ ‏العقد‏ ‏القاعدية ‏ Basal Ganglia‏هى ‏المركز‏ ‏البدائى ‏للحركة‏، ‏فـَـلـِـمَ‏ ‏لايوجد‏ ‏مستوى (‏أو‏ ‏مستويات‏) ‏بدائية‏ ‏فى ‏التركيب‏ ‏النفسى؟

وكل‏ ‏مستوى ‏تنظيمى ‏فى ‏المخ‏ ‏يمثل‏ ‏كيانا‏ ‏متكاملا‏ (‏يمكن‏ ‏اعتباره‏ ‏شخصا‏)، ‏ولكنه‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏اليقظة‏ ‏يعمل‏ ‏ضمن‏ ‏الوحدة‏ ‏الكلية‏ ‏الممثـِّلة‏ ‏للشخصية‏ ‏أو‏ ‏للنفس‏.‏

وفى ‏الاحلام‏ ‏تتفكك‏ ‏هذه‏ ‏الوحدة‏ ‏وتظهر‏ ‏هذه‏ ‏التنظيمات‏ ‏فى ‏حركة‏ ‏مستقله‏ ‏ورمزية‏ ‏ومحورة‏.

وفى ‏الجنون‏ ‏تتفكك‏ ‏هذه‏ ‏الوحدة‏ ‏ويتعدد‏ ‏الوجود‏، ‏أى ‏تعمل‏ ‏التنظيمات‏ ‏المختلفة‏ ‏مزدحمة‏ ‏فى ‏تنافس‏ ‏وتصادم‏، ‏وذلك‏ ‏فى ‏حالات‏ ‏اليقظة‏ ‏وليست‏ ‏أثناء‏ ‏النوم‏ ‏فى ‏الحلم‏ فقط، ‏وأظن‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الإشارات‏ ‏العامة‏ ‏تكفى ‏بما‏ ‏يسمح‏ ‏به‏ ‏حجم‏ ‏هذا‏ ‏الدليل‏ ‏وهدفه‏، ‏وهو أن‏ يدرك‏ ‏الطالب‏ ‏الذكى ‏أن‏ ‏المخ‏ ‏هو‏ ‏الحاوى ‏لكل‏ ‏هذه‏ ‏التعبيرات‏ ‏والمفاهيم‏ ‏من‏ ‘‏لاشعور‏’ ‏إلى “‏عقد‏” ‏إلى “‏عقل‏ ‏باطن‏” ‏التى ‏أسئ‏ ‏فهمها‏ ‏وأسئ‏ ‏استعمالها‏ ‏معا‏.‏

 ومرة أخرى: لتعلم يا بنىّ أننى ‏فى ‏قرارة‏ ‏نفسى ‏أرفض‏ ‏تعبير‏ “‏اللاشعور‏“‘unconscious هذا‏، ‏لأنه‏ ‏تعبير‏ ‏بالنفي‏، ‏وكنت‏ ‏أفضل‏ ‏أن‏ ‏نقول‏ ‏الشعور‏ “‏الأعمق”‏ ‏أو‏ “‏الأبعد”‏ ‏أو “الأخفى” ‏أو‏ “‏الآخر”‏ ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الكلمة‏ ‏التى قد تحمل معان غامضة بل ملتبسة‏.‏

الطالب‏: ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏هذه‏ ‏هى ‏علاقة‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏بعلم‏ ‏وظائف‏ ‏الأعضاء‏ ‏فما‏ ‏علاقته‏ ‏بعلم‏ ‏الكيمياء؟

المعلم‏: ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏الوظائف‏ ‏النفسية‏ ‏تتغير‏ ‏وتتحول‏ ‏تحت‏ ‏تأثير‏ ‏الكيمياء‏، ‏حتى ‏فى ‏الأحوال‏ ‏العادية‏: ‏مثل‏ ‏تأثير‏ ‏المشروبات‏ ‏الكحولية‏، ‏فإنه‏ ‏من‏ ‏الطبيعى ‏أن‏ ‏ندرك‏ ‏للتو مدى ‏تداخل‏ ‏الكيمياء‏ ‏بنسب‏ ‏معينة‏ ‏فى ‏التوازن‏ ‏الوظيفى ‏الكلى ‏للمخ‏.‏ ‏والحقائق‏ ‏البسيطة‏ ‏التى ‏توضح‏ ‏هذه‏ ‏العلاقة‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نوردها‏ ‏كما يلى: ‏

‏(‏أ‏) ‏هناك‏ ‏عقاقير‏ ‏إذا‏ ‏أعطيت‏ ‏تفككت‏ ‏مستويات‏ ‏المخ‏، ‏فاختلت‏ ‏وظائف‏ ‏النفس‏ ‏لدرجة‏ ‏الهلوسة‏([11])Hallucination ‏ والخلط‏، ‏وتسمى ‏هذه‏ ‏العقاقير‏ ‏المـُـهـَـلـْـوِسات‏، ‏مثل‏ ‏الحشيش‏ ‏وعقار‏ ‏ل‏ ‏س‏ ‏د‏ 25 LSD 25.‏

‏(‏ب‏) ‏هناك‏ ‏عقاقير‏ ‏إذا‏ ‏أعطيت‏ ‏لمرضى ‏يعانون‏ ‏من‏ ‏مظاهر‏ ‏اضطراب‏ ‏النفس‏، ‏زالت‏ ‏هذه‏ ‏المظاهر‏، ‏فإذا‏ ‏كانوا‏ ‏يهلوسون‏ ‏مثلا‏، ‏كفوا‏ ‏عن‏ ‏الهلوسة‏ .. ‏وهكذا‏، ‏ومن‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏ظهرت‏ ‏نظريات‏ ‏تقول‏ ‏إن‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏هو‏ ‏نتيجة‏ ‏لزيادة‏ ‏هذه‏ ‏المادة‏ ‏الكيميائية‏ ‏أو‏ ‏نقص‏ ‏تلك‏ ‏المادة‏، ‏والحقيقة‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏استنتاجات‏ ‏متعجلة‏ ومختـَزِلة، ‏فوجود‏ ‏مادة‏ ‏بالزيادة‏ ‏أو‏ ‏النقص‏، ‏لا‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏هو‏ ‏السبب المباشر‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الاضطراب‏ ‏أو‏ ‏ذاك‏، ‏بل‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏نتيجة‏ ‏للاضطراب‏ ‏ذاته‏، وغالبا يكون السبب هو خلل فى التنظيم الكلى نتيجة هذه الزيادة أو ذلك النقص.‏

وكل‏ ‏الفروض‏ ‏المتعلقة‏ ‏بالأسباب‏ ‏الكيميائية‏ ‏البحتة‏ ‏للأمراض‏ ‏النفسية‏، ‏وهى ‏فروض‏ ‏متواضعة‏، ‏لاينبغى ‏التسرع‏ ‏فى ‏الاستناد‏ ‏اليها‏ ‏وحدها‏ ‏كحل‏ ‏استسهالى ‏مباشر‏ ‏يفسر‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏وعلاجه‏ .‏

الطالب: واحدة واحدة، لقد بدأت المعلومات تزدحم فى مخى، فقل لى بهدوء ما علاقة النفس بالمخ.

المعلم‏: ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏النفس‏ ‏هى ‏النشاط‏ ‏الكلى ‏للمخ‏، ‏فإن‏ ‏تركيب‏ ‏المخ‏ ‏له‏ ‏علاقة‏ ‏مباشرة‏ ‏بوظيفة‏ ‏النفس‏، ‏ومخ‏ ‏ضعاف‏ ‏العقول‏ ‏مثلا‏ (‏الدرجة‏ ‏الشديدة‏ ‏منهم‏) ‏أقل‏ ‏وزنا‏ ‏وأقل‏ ‏فى ‏عدد‏ ‏خلايا‏ ‏اللحاء‏ ‏من‏ ‏مخ‏ ‏الشخص‏ ‏العادى ..‏

الطالب: وما علاقة كل ذلك بحكاية البدائى والأنضج التى تلوح فى معظم كلامك أعنى بالتطور.

المعلم: إن‏ ‏علم‏ ‏التشريح‏ ‏المقارن‏ ‏وعلم‏ ‏الأجنة‏ Embryology ‏المقارن‏ ‏هما‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏العلوم‏ ‏التطورية‏، ‏وهما‏ ‏يؤكدان‏ ‏نظرية‏ ‏التطور‏ ‏التى ‏هى ‏أساسية‏ ‏فى ‏فهم‏ ‏الترتيب‏ ‏الهرمى ‏للمخ‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏للوظائف‏ ‏والمستويات‏ ‏النفسية‏، لكن تؤجل تفصيل ذلك الآن، ثم ‏دعنا‏ ‏نؤكد‏ ‏ثانية‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏توجد‏ ‏منطقة‏ ‏بذاتها‏ ‏أمكن‏ ‏تحديدها‏ ‏تماما‏ ‏لوظيفة‏ ‏بذاتها‏ ‏من‏ ‏الوظائف‏ ‏النفسية‏.‏

الطالب‏: ‏وهل‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏مفهوم‏ المخ والوظائف النفسية ‏عبر‏ ‏التاريخ‏ ‏؟

المعلم‏: ‏لقد‏ ‏مَرَّ‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏بمراحل‏ ‏متعددة‏ ‏يستحسن‏ – ‏وأنت‏ ‏الذكى – ‏أن‏ ‏تلم‏ ‏بها‏ ‏بسرعة‏ ‏وإيجاز‏: ‏

‏(1) ‏إن‏ ‏مناقشة‏ ‏وظائف‏ ‏النفس‏ ‏وماهية‏ ‏النفس‏ ‏كانت‏ ‏موجودة‏ ‏منذ‏ ‏أفلاطون‏ ‏وأرسطو‏ ‏وقبلهما‏ .‏

‏(‏ب‏) ‏كان‏ ‏أول‏ ‏من‏ ‏استعمل‏ ‏كلمة‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏بالمعنى ‏السائد‏ ‏اليوم‏ ‏هو‏ ‏العالم‏ ‏وولف‏ ‏فى ‏كتابة‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏العقلى Rational psychology ‏سنة‏ 1734. ‏

‏(‏جـ‏) ‏كانت‏ ‏الفلسفة‏ ‏هى ‏الممر‏ ‏الطبيعى ‏لعلم‏ ‏النفس‏، ‏لكن علم النفس مؤخراً قد‏ ‏بالغ‏ ‏فى ‏الانفصال‏ ‏عنها‏ ‏محاولا‏ ‏التشبه‏ ‏بالعلوم‏ ‏الجزئية‏ ‏المحددة‏، ‏وحتى‏ ‏الآن‏ ‏لم‏ ‏ينجح‏ ‏تماما‏ (ولعل هذا أفضل!). ‏

‏(‏د‏) ‏مر‏ ‏تطور‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏بمصائب‏ ‏معوِّقة‏، ‏منها‏ – ‏كمثال‏ – ‏معرفة‏ ‏سمات الشخص بقياسات خارجية للجمجمة وسمى هذا‏ ‏العلم‏ ‏الفرينولوجيا‏Phrenology   (‏وقد‏ ‏ظهر‏ ‏قبيل‏ ‏أول‏ ‏القرن‏ ‏الثامن‏ ‏عشر‏)، ‏وثبت‏ ‏فشله‏ ‏فكانت‏ ‏فضيحة مع أن الحديث عن هذا العلم‏ ‏استمر‏ ‏عشرات‏ ‏السنين‏ ‏مما‏ ‏ينبهنا‏ ‏إلى ‏ضرورة‏ ‏التخلى ‏عن‏ ‏الحماس‏ ‏الأعمى ‏للحلول‏ ‏السهلة‏ ‏المتعلقة‏ ‏بتطور‏ ‏هذا‏ ‏العلم‏ .‏

‏(‏هـ‏) ‏فى ‏القرن‏ ‏العشرين‏ ‏ومنذ‏ ‏قبيل‏ ‏بدايته‏ ‏وحتى ‏الآن‏ ‏مرت‏ ‏على ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏موجات‏ ‏متتالية‏ ‏جعلت‏ ‏بندوله‏ ‏يتراقص‏ ‏بعنف‏ ‏من‏ ‏أقصى ‏اتجاه‏ ‏إلى ‏أقصى ‏عكسه‏ ‏حتى ‏سميت‏ ‏هذه‏ ‏النقلات‏ ‏بالحركات‏ ‏الأربع‏ ‏لمسيرته‏.

الطالب: وما هى هذه الحركات الأربع

المعلم: خذ عندك يا سيدى: ‏

(i)‏الحركة‏ ‏الأولى: ‏وهى ‏التى ‏غلبت‏ ‏فيها‏ ‏مفاهيم‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏العقد‏ ‏النفسية‏ ‏واللاشعور‏ ‏والجنس‏ ‏المكبوت‏ (‏الأمر‏ ‏الذى ‏مازال‏ ‏شائعا‏ ‏فى ‏مصر‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏كمرادف‏ ‏لعلم‏ ‏النفس‏ ‏عند‏ ‏الرجل‏ ‏العادى).‏

(ii)الحركة‏ ‏الثانية‏: ‏وهى ‏التى ‏غلبت‏ ‏فيها‏ ‏مفاهيم‏ ‏عكسية‏، ‏وهى ‏الحركة‏ ‏السلوكية‏ ‏التى ‏تهتم‏ ‏أساسا‏ ‏بظاهر‏ ‏السلوك‏ ‏وكيفية‏ ‏تعديله‏ ‏بالتعليم‏ ‏المنظم‏، ‏وتكاد‏ ‏تنكر‏ ‏ما‏ ‏وراءه‏ ‏وما‏ ‏يدفعه‏.

(iii) الحركة الثالثة: وهى الحركة المسماة بعلم النفس الإنسانى وهى التى اتجهت إلى أن:

* تؤكد أن الإنسان كيان كلى له أعماق وآفاق وليس مجرد سلوك ظاهرى كما يقول السلوكيون.

* كما تؤكد أن الإنسان كيان شعورى له اختيار وإرادة، وليس مجرد كائن مُسَيّر باللاشعور لا نملك إزاءه إلا البحث عن أسباب تسييره، كما يشاع عن التحليل النفسى.

* واخيرا فهى تؤكد على طبيعة الإنسان المتجهة إلى الفضيلة والتكامل تلقائيا، وليس كمجرد تعويض أو إخفاء لطبيعته الحيوانية الأدنى.

(iv) الحركة الرابعة: وهى التى تؤكد أن الإنسان كائن ممتد فيما بعد ذاته لذلك سميت علم النفس البعذاتى Transpersonal (أو عبر الشخصية)، أى أن الإنسان لا يهدف إلى تحقيق ذاته فحسب، ولا يكتفى بتكامل شخصه فقط، ولكنه يحصل على التوازن بتخطيه نفسه إلى الآخرين وباهتماماته بما هو أبقى، وهى حركة موازية للبعد الإيمانى الخلودى فى الأديان كما هو ظاهر.

الطالب: إذن فعلم النفس ليس هو التحليل النفسى كما يشاع عند الأغلبية، فما هو التحليل النفسى تحديدا؟

المعلم: هو اتجاه خطير بخيره وقصوره، وقد نشأ حول بداية هذا القرن، وذهب يفسر سلوك الإنسان بدوافع عميقة بعيدا عن متناول شعوره، تنبع أساساً من غرائزه الجنسية (ليست تناسلية بالضرورة)، وقد حاول تفسير كل شئ بناء على هذا الفرض، وبالغ بعض الأحيان فى هذا الاتجاه (مثل حديثه عن الجنسية الطفلية، وبالذات ميول الطفل “الذكر” الجنسية لأمه.. وبالعكس)، بل وفسر كل فضائل الإنسان باعتبارها نتيجة لمحاولة إخفاء (كبت) هذه النزعات الجنسية البدائية، (أو) إعلاءها، وقد كان له وجاهته العلمية وقت ظهوره، إلا أن استقبال الناس له بالترحيب كان مبالغاً فيه، وتفسير ذلك أنه اعتبر نوعا من الثورة على قيم القمع والقهر، التى كانت سائدة فى العصر الفكتورى فى أوربا آنذاك، لكن الثورة امتدت أبعد من هذا الطغيان حتى غمر التحليل النفسى أغلب الشائع عن علم النفس دون وجه حق، ولقى قبولا متسعا عند العامة خاصة.

خلاصة القول أن على الطالب الذكى أن يفصل بين علم النفس والتحليل النفسى، كما أن عليه أن يفصل بين انتشار فكرة ما وبين صحتها، كما أن عليه أخيرا ألا يرفض نفس الفكرة، مهما قيل حولها، رفضا كاملا، بل ينتفع من إيجابياتها ويبعد مبالغاتها، لأن عبقرية سيجموند فرويد مبتدعها لا جدال فيها.

الطالب: وما علاقة علم النفس بالطب بعد كل هذا؟

المعلم: إن هذه العلاقة – ومن خلال ما تقدم وما سيأتى – هى علاقة شديدة الوضوح، وتكاد تبدو حتمية.

1- لأنه – أساسا- علم وظائف المخ فى مجموعها الكلى الأرقى.. ولا يمكن تأهيل طبيب تأهيلا متكاملا دون إلمامه بوظائف المخ (الأمخاخ)، أهم وأرقى عضو فى الإنسان.

2- وهو علم عملى (فنـّى معاً) سوف يكون عاملا مساعدا فى أن يحذق الطبيب حرفته ويحسن التعامل مع مرضاه.

3- ثم إن معرفة وظائف النفس فى الأحوال العادية هى أساس تحديد اضطراباتها فى حالات المرض النفسى.

الطالب: هل تشرح لى كيف أن علم النفس هو أساس فهم علم الأمراض النفسية.

المعلم: بنفس القدر الذى يلزم فيه لأخصائى القلب معرفة فسيولوجية عمل القلب، وأخصائى الصدر بمعرفة تشريح الرئتين وفسيولوجية التنفس، كذلك فإن فهم علم النفس كمظهر معقد من نشاط المخ ككل هى أساس لمعرفة اضطراب المخ ككل، وهكذا ترى أنه نفس القياس ونفس الأساس فى سائر التخصصات.

الطالب: وما هى الفائدة العملية التى يمكن أن أجنيها أنا الآن – وفيما بعد حين أصير طبيبا – من دراسة هذا العلم؟

المعلم: فى اعتقادى أنك لو أخذت هذا العلم بحجمه المتواضع لسهل عليك أمورا كثيرة فى حياتك الشخصية ابتداء من موقفك من الحياة حتى طريقة استذكارك، ولأعدك إعدادا طيبا لمزيد من فهم نفسك، ومن فهم مرضاك، ومن عونهم فيما بعد، ودور علم النفس الإيجابى لكل التخصصات هو دور محورى.

الطالب: لكل التخصصات؟ كلها؟ كلها؟

المعلم: كلها، كلها.

الطالب: لا أكاد أصدق

المعلم: اصبر علىّ وسوف أعدد لك بعض ذلك:

1- فلو أنك صرت طبيبا عاما General Practitioner : فأنت تمارس كل التخصصات بصفة مبدئية وتعتبر الأحوج إلى هذا العلم، ولابد أن أذكـّـرك ابتداء أن الممارس العام يمثل أعلى نسبة من خريجى الطب وخاصة فى سنوات التخرج الأولى – وهو الطبيب النفسى الحقيقى، فهو يقوم بدور طبيب العائلة، ومستشار القرية، والعارف بأمور الصحة والحياة والمستقبل، صاحب المكانة الاجتماعية ذى الرأى الأرجح، أقول: لو أنك أحسنت دور هذا الطبيب وفهمت نفسك ومكانك فى هذا المجتمع المرهق المحتاج: لأمكنك أن تقوم بدور رائع فى نموه وتطويره من خلال خطوات بسيطة ومتكاملة، وعلم النفس إذا أحسن تدريسه وتوظيفه سوف يساعدك فى فهم احتياجات الناس، ونفسك، وفى دفعهم إلى الإيجابيات دفعاً هادئاً متواضعاً بلا خطابة ولا سياسة مشكوك فى أمرها ولا ترهيب ولا ترغيب، ولسوف تحصل على متع من خدمتهم تتناسب مع حقيقة دورك وعمق احترامك لمسار إنسانيتك كتركيب طبيعى لماهية الإنسان… وهكذا تعود “حكيما” بحق كما كنت تسمى قديما.

ولتتذكر أنك لو اصبحت طبيبا باطنيا عاما Internist  لكان عليك القيام بنفس الدور على نطاق آخر، فى المدينة الصغيرة مثلا، بادئا بدور طبيب العائلة ومنتهيا بدور المستشار العارف المعتمد عليه (الحكيم).

2- ولو أنك صرت طبيبا للأطفال: لأمكن لعلم النفس أن يسهم بوجه خاص فى ذلك، لأن هذا الطبيب يمثل بحق دور “طبيب العائلة” فى الممارسة العصرية للطب عندنا خاصة، بعد ان اختفى هذا الدور الأساسى إلا فى بعض القرى والمدن الصغيرة، ودراسة العلاقات الأسرية، وفهم التناحر الزوجى، ووظيفة الطفل النفسية لدى أمه، ومعنى أعراض الطفل، وتفاعل الأم لذلك، ومعنى غيابها، كل هذا سوف يساعدك، ليس فى مهمة الإسهام فى شفاء الطفل فحسب، ولكن فى إرساء قواعد حياة الأسرة على أسس سليمة، ومن خلال فهم بسيط للحاجات والدوافع لكل فرد فى الأسرة مما يقدمه لك علم نفس الأسرة Family Psychology الذى هو نموذج مصغر من علم النفس الاجتماعى  Social Psychology.

3- أما لو أصبحت مثلا إخصائى فى “العيون” فإن الأمر يصبح أعمق وأهم، فرغم ضيق المساحة من الجسم التى تمثل اختصاص طبيب العيون إلا أن العين هى نافذة الحياة الداخلية للإنسان([12])، وهذا الطبيب يقوم – ربما دون أن يدرى – بدور كبير فى مساعدة مريضه على جلاء كل ما يرمز إليه البصر والبصيرة، وفهم هذا الطبيب الأعمق للنفس الإنسانية واحتياجاتها، ولنفسه ودوره وطبيعة إسهامه، لاشك سوف يسهل مهمته ويؤكد إيجابية دوره.

4- ولو أصبحت جراحا مثلا فلابد أن تذكر أن موقف الجراح كحرفى فنان أساساً هو من ألزم المواقف التى ينفعها تعميق دوره كعالم إنسانى يواجه البشر أثناء أزمات وضغوط شديدة الإرهاق ومتعددة النتائج، ذلك أن العملية الجراحية بما يسبقها من تخدير وما يلحقها من رعاية مكثفة تعتبر أزمة ضاغطة تكاد تماثل ما يسمى تجربة إعادة الولادة Rebirth، فإذا فهم الجراح مريضه من هذا البعد، وأدرك مدى حاجته الطفلية الاعتمادية عليه فى هذه الخبرة الحرجة، فإنه قد يقوم بدور هائل بجوار المريض، ليس كجراح حاذق فحسب، ولكن كإنسان فاهم مسهم فى النقلات التى يمكن أن ينتقلها الإنسان على سلم نموه أثناء هذه الأزمات الحياتيه الحرجة.

ودور جراح التجميل – الذى يتولى فى كثير من الأحيان مسئولية تغيير معالم الوجه مثلا، أو إرجاعها إلى أصلها، يستحيل أن ينجح فى عمله نجاحا حقيقيا دون اعتبار لما يعنيه ذلك لدى مريضه من تغيير فى شخصيته وذاته، فقد ينهار أو يتميع أو يفقد كيانه واعتزازه حتى ولو كان التغير يسيرا غير ظاهر، وذلك ما لم يتهيأ بالدرجة الكافية لهذه الخطوة.

وهكذا، لو عددنا الأمثلة لما استطعنا حصرها.

الطالب: لكن هناك من هؤلاء الأطباء الناجحين من يقوم بكل ما ذكرت من أدوار بكفاءة وذكاء دون أن يدرسوا علم النفس، معتمدين على تلقائيتهم وخبرتهم، فما الداعى لغير ذلك؟

المعلم: إن هذا السؤال يبدو لى مكررا لكنه سؤال ذكى نابع من واقع أن أى طبيب ناجح، بل أى تاجر ناجح، أو صاحب فندق ناجح لابد قد استمد نجاحه من معرفته بحاجة عميله “زبونه”، ثم إرضائها بطريق تلقائى يؤكده ويحافظ على ما يحصل عليه من نتائج، ولكنا لو اكتفينا بثقتنا فى هذا الاسلوب لكنا نسير فى اتجاه  يهوّن من معطيات العلم ويؤخرنا كمجموع، رغم نجاح بعض الأفراد.

الطالب: إذن فحاجة دارس الطب لدراسة هذا العلم تختلف حسب شخصيته

المعلم: من حيث: المبدأ “نعم”، ولكن دعنى أضيف:

أولا: إن الطبيب الناجح الذى فهم نفسه وفهم مريضه قد لا يحتاج إلا إلى أقل القليل من المعلومات النظرية فى فهم الإنسان، ولكنه قد يحتاج إلى أن يطمئن إلى أن ما يفعله بحدْس تلقائى هو هو ما يقول به العلم، فيستمر فى نجاحه وخدمته لمريضه واثقا فخورا.

ثانيا: إن من حرم هذه المزية من طلبة وممارسين قد تتفتح لهم أفاق جديدة للنجاح والعطاء من خلال فهمهم لأنفسهم ولمرضاهم من خلال معلومات متواضعة عن طبيعة هذه النفس من خلال دراسة علومها.

ثالثا: إن تدريسنا لهذه العلوم لا ينبغى أن يكون جافا أو بديلا عن الممارسات التلقائية الناجحة، ولكنه ينبغى أن يكون مقننا ومدعمِّا لطبيعة النجاح السائد، وفى نفس الوقت متعمقا فيه حتى لا يكون نوع النجاح هو نجاح التحايل والشهرة فحسب، بل نجاح التكامل ودفع المسيرة الإنسانية فى نفس الوقت.

ولابد أن من يرفض التوسع فى تدريس هذا العلم من أساتذتك يا بنى قد رأى ما رأيت، وقارن بين جفاف ما ندرسه وبين ما اهتدى إليه هو بحدسه وخبرته، وأراد أن يثق فى تلقائيته بدلا من هذا “التزيـّـد” – كما يتصور – ، ولابد أن نحترم رأيه هذا، فنعدّل أنفسنا من خلاله، ولكن ينبغى ألا نتمادى فى الأخذ بوجهة نظره وإلا لألغينا معطيات العلم فى كثير من المجالات ثقة فى نجاحه ونجاح أقران له ناسين حاجة الفاشلين من ناحية، وناسين ضرورة تقويم نوع نجاحه من جهة أخرى، إذ لابد أن يتميز نجاح الطبيب عن نجاح “الجرسون” والتاجر وصاحب الفندق، بلا تمييز فئة عن فئة، إلا أن لكلٍّ دوره، بل حتى فى الدول المتحضره فإن “الجرسون” وصاحب الفندق يعرفان فى هذه العلوم النفسية – سواء من الشائع المتداول فى الصحف السيارة، أو من الدراسة الاختيارية – أكثر مما يعرفه طالب الطب هنا بمراحل كثيرة فخذ ما شئت مما أقول، تجدد به موقفك، وتؤكد نجاحك بلا تردد.

الطالب: فإذا كان ما يفعله الشخص الناجح تلقائيا، هو ما ينصح به علم النفس، فهل يعنى ذلك أن علم النفس هو علم النجاح مثلا؟

المعلم: لقد حاول “المعلنون” و”رجال الأعمال” وأحيانا رجال الحرب فى بعض البلاد أن يستولوا على علم النفس تحت هذا الزعم فيسخرونه لخدمة أغراضهم، ولا شك أنهم نجحوا جزئيا، ومرحليا، ولكن النجاح الحقيقى ينبغى أن يقاس بالاستمرار، والأصالة والعمق، وليس فقط بالشيوع والإقبال والخطو السريع، وفى كلمات أخرى: إن دراسة علم النفس إذ تساعد الطالب فى نجاحه كطبيب إنما تهدف – أو ينبغى أن تهدف – إلى تعميق معنى هذا النجاح وضمان استمراره لما هو فى صالحه كحرفى، ولما هو فى صالح مريضه كمتألم، ولما هو فى صالحهما وصالحنا معا كبشر، وهنا تصبح هذه الدراسة لا غنى عنها، ثم قل لى يا أخى لماذا تــُـعـَـامـَـل العلوم النفسية بوجه خاص بمقياس “الأنفع والأبقى” ثم لا تعامل سائر العلوم التى تدرسها فى هذه الكلية بنفس المقياس؟ أليس جدير بك أن تسأل – بالقياس- ماذا يفيد أخصائى الرمد من دراسة طبقات العضلات الصغيرة فى قفا الإنسان فى علم التشريح؟ أليس جدير بك أن تسأل ماذا يفيد طبيب الأنف والأذن فى دراسة التركيب المعقد – تفصيلا – لكيفية إعادة امتصاص الأملاح نوعيا فى أنابيب الكلى فى الفسيولوجيا([13])؟ …… إلخ إلخ إلخ.

لنكن صرحاء، ولنتذكر أن المعرفة الشاملة هى أرضية شاملة ينتقل الإنسان منها إلى بؤرة الاهتمام رويدا رويدا، ثم ينتفع بما يتبقى منها بعيدا عن دائرة تركيزه بدرجات مختلفة، ولتكن عادلا وتعامل علمنا – رغم تقصيرنا فى كيفية توصيله إليك– بنفس المقياس دون تحيز.

وأنا معك فى تحفظاتك وخاصة وأن البعض قبلك ذهب إلى ما ذهبت إليه من أننا ندرس البديهيات بأسلوب يعقد الأمور ويجعلها أبعد ما تكون عن أصلها التلقائى حتى عرفوا علم النفس بأنه “العلم الذى يدرس لنا أشياء نعرفها بأسلوب ومصطلحات لا نعرفها”.

الطالب: فما هو تعريف علم النفس الصحيح إذا؟

المعلم: كل التعريفات صعبة يا بنى كما تعلم، ولكن مما سبق نستطيع أن نقول سويا “إن علم النفس هو العلم الذى يدرس نشاط الإنسان كوحدة متكاملة، فى أدائها للوظائف الترابطية الأرقى، والأعقد للكائن الحى كوحدة فى ذاتها وفى تفاعلها مع البيئة.”

وهذا التعريف يقرب علم النفس من علم وظائف الأعضاء، ثم هو يشمل علم نفس الحيوان كما يشمل علم نفس الإنسان، وهو لا ينسى أن الإنسان كيان اجتماعى بالضرورة.

أما التعريف الشائع فيقول “إن علم النفس هو العلم الذى يبحث نشاطات الفرد فى ظواهره العقلية وتعامله المتبادل مع البيئة من حوله وخاصة المجتمع البشرى”

الطالب: إذا كانت النفس هى النشاط الكلى للمخ (الأمخاخ)، وكان علم النفس هو دراسة هذا النشاط، فكيف نتعرف على هذا الكل المعقد وندرسه حتى نحترم معطيات هذا العلم؟

المعلم: ألم أقل منذ البداية أننى لم أغامر بحوارك إلا ثقة فى ذكائك، إن هذا السؤال هو مربط الفرس كما يقولون، وليس عندى  له إجابة شجاعة وأمينة، وتاريخ علم النفس منذ أكثر من قرن ونصف يبحث عن إجابة لهذا السؤال، ولا يمكن فى هذا “الدليل” أن نجد – أنت وأنا – إجابة عنه بعد أن حير العلماء من قبل، وكاد يشوه هذا العلم نفسه لما حاول أن يرتدى وسائل بحث لا تصلح له، فمشى يتعثر فيها كالطفل يلبس حـُلـّة والده ليقنع الناس بكبر سنه، ولكن، هذا لا يعنى بالضرورة أن علم النفس هو طفل يحبو بحق، ولكنه يعنى أننا نحتاج: أن نعيد النظر فى تعريف ما هو “العلم” من ناحية مبدئية، وأن نعيد النظر فى وسائل الدراسة المطروحة من ناحية ثانية، ثم أن نتواضع أخيرا فى الأخذ بمعطيات هذا العلم والمبالغة فى قيمتها.

الطالب: أليس أولى بك أن تدعنى للتشريح والكيمياء والفسيولوجيا حتى تعيدوا النظر؟ ثم حين تستقرون على رأى، تأتى وتدرس لى ما انتهيتم إليه؟

المعلم: أنت حر، وفى ستين داهية العشر درجات المخصصة لهذا العلم، ولكنك لو فكرت قليلا فأنت الخاسر، فنحن فى مأزق أنت تستطيع أن تساهم فى أن تنقذنا منه، الآن، أو بعد حين، ألم أقل لك أن المناطق المجهولة هى أولى المناطق بالعناية؟ أليس فى عرض الأمر بحجمه المتواضع هذا تكريم لعقلك ودعوة لفكرك؟ أليس هربك من التساؤل امتهانا لإنسانيتك؟ فلتسمع منى أين نحن بالنسبة لوسائل الدراسة بما فى ذلك دراسة هذا العلم، ثم ننطلق معاً.

الطالب: فما هى وسائل الدراسة لعل فيها ما يسمح باستمرار الحوار على الأقل؟

المعلم: لا توجد دراسة علمية إلا من خلال الملاحظة وهذه أول وسيلة: أن تلاحظ الظاهرة مباشرة وتسجلها بدقة، أو أن تستعمل فى الملاحظة وسائل دقيقة توضح أبعاد الظاهرة وتحددها، وهذه الوسائل تسمى أحيانا الاختبارات النفسية، فالملاحظة تشمل القياس أحيانا، وإذا تمت الملاحظة بعد ترتيب ظروف محددة للنظر فى تأثير مؤثر ما على جانب من جوانب الظاهرة المعنية سميت هذه الطريقة الملاحظة التجريبية أو الوسيلة التجريبية إذن فهى ليست سوى ملاحظة، ولكن فى ظروف بعينها لدراسة ظاهرة محددة بذاتها، وللتعرف على أى من العوامل هو المسئول عن تغيير بذاته، فى ظاهرة ما، والملاحظة فى هاتين الطريقتين لا تتعمق عادة وراء ظاهر السلوك مما يعلن قصورهما – نوعا ما – عن سبر أغوار الإنسان، ولكن هناك نوع من الملاحظة ما هو خاص بعلمنا هذا، وهو أن يلاحظ الإنسان نفسه داخليا، وهذا النوع يميز الإنسان بوجه خاص، وهو يسمى الاستبصار أو التأمل الذاتى، لكن المآخذ عليه كثيرة، لأنه يقال أنه يحتاج لأشخاص متدربين عليه بوجه خاص، كما أنه يشق الفرد إلى جزئين: جزء يـُـلاحـِـظ وجزء ملاحـَـظ، وتكون النتيجة أن المعلومات تصف جزءا من الإنسان وليس الإنسان كوحدة، ثم إنه يعتمد على الذاكرة فى كثير من الأحيان، فهذه الوسيلة إذن وسيلة مقولة بالتشكيك، وقد يمتد الاعتماد على الذاكرة إلى السؤال عن الماضى وتاريخ الحالة، كما قد تتأتى الملاحظة فى تتبع ظاهرة ما لمدة شهور أو سنوات وذلك فى حالات دراسة نمو طفل أو تطور وظيفة بذاتها، وبديهى أن الطريقة الأولى (تاريخ الحالة) صعب الاعتماد عليها لأنها تعتمد على تصورات وذكريات الحاكين، وليس على حقائق قائمة بذاتها، والطريقة الثانية (الملاحظة التتبعية) تكاد تكون مستحيلة إذا أريد تنفيذها بدقة وأمانة مطلقتين.

الطالب: ما دامت وسائل الدراسة كلها معيبة إلى هذه الدرجة فما هو الحل..؟

المعلم: إن هناك رأى صعب تفصيله على قارئ هذا الدليل، وهو يضيف وسيلة هامة جدا وصعبة تماما، ولكنها الوسيلة الجارية فعلا فى دراسة الظواهر الإنسانية المعقدة، وهى شديدة الارتباط بالممارسة الطبية الصحيحة بوجه خاص، هذه الوسيلة لا يمكن شرحها بأمان كاف دون أن تشوهها الألفاظ، إلا أنها بصفة عامة تعتمد على المشاركة، وهى تعتبر الفاحص جزءاً من الظاهرة المفحوصة، وتعتمد عليه هو ذاته (بمشاركة آخرين فى البداية) كأداة قياس مباشرة، وهى تتضمن درجة من المعايشة أكثر مما فيها معنى الملاحظة، وفيها احترام لاجتهاد الإنسان “العالـِـم” فى مواجهة الإنسان “الموضوع”، بحثا عن الحقيقة، أكثر مما فيها من ترجيح قياس الآلة على حدس العالم، وأخيرا فإن فيها نوع من التأنى وتعليق الحكم أكثر مما فيها من المباشرة والاكتفاء بملاحظة ظاهر الحركة، وهذه الطريقة كما ذكرت صعبة وتحتاج إلى تنشئة طويلة للباحث العالم، كما تحتاج إلى نمو شخصى فى اتجاه الموضوعية يعيد للعلماء قيمتهم الذاتية، ويخفف بعضا مما ثار حول تحيزاتهم من شكوك.

وهذه الطريقة هى قريبة جدا مما يسمى فى الطب “الحاسة الكلينيكية” Clinical Sense. وإذا كان عالم النفس الأمين يخاف على علمه وظواهره من هذه الطريقة فله كل الحق، خاصة وأنها تنتمى إلى منظومة معرفية أخرى تسمى “الفينومينولوجى”.

الطالب: الفينو… ماذا؟

المعلم: لا عليك دعك من الاسم، ولكن على دارس الطب، وممارسه أن يستعد لدرجة من مجاهدة التقشف النفسى سعيا إلى الموضوعية، وما يحمل من عبء الأمانة فى محراب العلم، وقد بالغ البعض فقال إنه يمكن مشاركة حتى الحيوان فى دراسة ظواهره، ونصح باتباع هذه الطريقة حتى فى دراسة نفسية الحيوان.

وبدون الدخول فى التفاصيل أقول لك معتمدا على ذكائك أن إعلان ضعف وسائل الدراسة لا يعفيك من الدراسة، وإذا لم تقتنع بالخمس طرق الأولى، ولم تفهم الأخيرة لأنه لا يفهمها إلا ممارس فعلا، فلا تلفظنا وتحكم علينا، بل ساعدنا بالسماع لنا ومشاركتنا اجتهادنا لنتخطى عجزنا.

الطالب: لقد حيرتنى معك، ومع ذلك لقد أثرتنى بحيرتك، فهل عندك معلومات تطمئن إلى إبلاغها لى، رغم هذا الضعف الشديد فى وسائل بحثك.

المعلم: بلا أدنى شك، بل هى معلومات أساسية لا غنى عن معرفتها لك ولى، ونحن نُكسبها احتراما علميا بإيضاحها وترتيبها، ولنأخذ معلومة بسيطة وهى أن الإنسان للإنسان، أو ما يقوله العامة “الناس للناس” أو “الناس لبعضها”، إن علم النفس حين يضع هذه البديهية يحوِّرها ويطورها قائلا “إن الناس.. بالناس.. وللناس”.

وتفسير ذلك أن الإنسان لا يكون إنسانا إلا بتفاعله المستمر أخذا وعطاء مع إنسان آخر، ثم إن هذا التفاعل يهدف فى غائيته إلى محيط أوسع من الشخصين المتفاعلين وهو بقية الناس، وأى خلل فى هذه الحلقة يصيب الإنسان بالاضطراب حتى العجز أو حتى الهلاك، وقد بدت هذه الحقيقة الأساسية مهمة لبعض العلماء حتى أصبحت أساس مدرستهم فى علم النفس المسماة “العلاقة بالموضوع Object Relation School”، وإن كنت أعترض على كلمة “الموضوع” هذه حرصا على تكريم الإنسان لأنه كيان وليس موضوعا، ولكن دعنا نبدأ بالقواعد العامة لعلاقة الإنسان بالبيئة من حوله.

الطالب: البيئة تعنى الناس، أم البيئة هى كل ما حوله من أحياء وغير أحياء؟

المعلم: هى كل ما حوله دون تمييز: وابتداءً دعنا نؤكد أن الكائن الحى وثيق العلاقة بيئته بالضرورة الحيوية، وأى تصور غير ذلك هو جهل خطير، فما بالك بالإنسان وهو يجلس على قمة الهرم الحيوى؟ ودراسة الإنسان منعزلا عن بيئته الإنسانية مستحيلة بكل معنى الكلمة، حتى أن الدراسة المختصة بذلك والمسماة علم النفس الاجتماعى ينبغى أن يعاد النظر فى تسميتها لأنى أكاد أقول أن علم النفس لا يمكن إلا أن يكون علم النفس الاجتماعى بالبعد الأشمل والأعمق.

الطالب: فحدثنى عن علاقة الإنسان بالبيئة.

المعلم: الإنسان دائم التعامل مع البيئة، حتى فى نومه، وهو يحمل انطباعات بيئته فى كيانه، حتى لو احتواها كيفما اتفق فإنها تعود لتتجمع أثناء النوم فهو يمارس النشاط الحـُـلمْـى 20 دقيقة كل تسعين دقيقة، والحلم هو إعادة معايشة انطباعات البيئة التى لم يتمثلها أثناء صحوه حتى الاستيعاب الكامل([14]) بالإضافة إلى ما يتحرك من بيئته الداخلية بفضل حركية نشاط الحلم الدورية، والإنسان يستعمل البيئة الخارجية  فى أكله وتنفسه ومجال نشاطه ووسائل حمايته، وهو يشاركها  إذ يستيقظ مع ظهور الشمس وينام حين تظلم الدنيا، ويتمايل مع الأرجوحة، ويهتز مع الموسيقى، وينتشى مع الوردة التى تتفتح، ويبكى مع الطفل الذى فقد أمه فى حادث وهكذا، وهو أيضا يقاومها فيلبس الصوف فى الشتاء ويتعاطى المضادات الحيويه ضد الميكروبات.

الطالب: ولكن هل توجد قواعد لتعامل الإنسان مع بيئته؟

المعلم: وهل يمكن إلا هذا؟ الإنسان تحكمه قاعدتان أساسيتان وهو يتعامل مع البيئة هما الانتقائية والتهيؤ، أما الانتقائية Selectivity فهى تعنى أنه ينتقى من بين المثيرات من حوله بضعة مثيرات قليلة يستقبلها، كما أنه ينتقى أى استجابة يستجيب لها، وهذه الانتقائية تحدث بوعى منه أو تلقائيا بعيدا عن دائرة وعيه المباشرة، أما التهيؤ فهو يتعلق بأداء مهمة ما، إذ يستعد لها بالاستعداد المناسب، ويسمى هذا تهيؤ الاستعداد مثل التحضير للامتحان أو التدريب على الجرى “والتسخين” قبل المباريات، كذلك فهو يستعد استعدادا آخر لبداية هذه المهمة مثل لحظة توزيع الاوراق فى لجنة الامتحان أو انتظار صفارة البداية من الحـَـكـَـم فى الملعب، ويسمى هذا تهيؤ البداية، وأخيرا فهو يتهيأ لاستكمال المهمة والاستمرار بها حتى الوصول لنهايتها (مثل المثابرة طوال وقت الامتحان والعمل على إتمام إجابة جميع الأسئلة، أو مثل مواصلة اللعب حتى صفارة النهاية فى الملعب) ويسمى هذا تهيؤ الاستمرار، والتهيؤ قد يكون عضويا حركيا كما هو الحال فى التدريب على لعبة رياضية، أو عضويا حسيا كما هو الحال فى انتظار رنين مسرة (تليفون معين)، أو يكون عقليا (Mental set) كما هو الحال فى لجنة الامتحان أو حين تلعب الشطرنج.

ويؤثر الموقف والمكان على حالة الاستعداد، فالمحاضر الذى يقف فى المدرج أمام ألف طالب.. يكون فى حالة تهيؤ مختلفه عنه وهو يشرح نفس الموضوع لأربعة من حوارييه فى حجرته الخاصة، ويسمى هذا النوع الأخير من الاستعداد تهيؤ الموقف  Situational Set.

الطالب: ولكن هل يتماثل الأفراد فى تعاملهم مع البيئة؟

المعلم: طبعا لا، فالاختلافات الفردية هى أساس جوهرى فى فهم الإنسان وفى تعاملنا مع بعضنا البعض، خذ مثلا سرعة الاستجابة وما يسمى بزمن الرجع أو زمن رد الفعل Reaction Time: وهويعنى “الوقت الذى يمضى بين استقبال المؤثر والاستجابة له”  وهو فى واقع الأمر الزمن بين إحداث المؤثر وظهور الاستجابة، وهو يختلف من فرد لفرد، بل يختلف فى الفرد نفسه من حال لحال، فإذا كان الفرد قلقا حاد الانتباه قصرت المدة، وإذا كان مكتئبا مشغولا من الداخل مترددا زادت مدته.

الطالب: وهل استجابة الفرد هذه لمثير واحد مثل استجابته لمثيرات متعددة تتطلب اختيارا وانتقاء؟

المعلم: بالطبع لا مرة ثانية، فإذا كان المثير واحدا ومحددا وكانت الاستجابة بسيطة ومعروفة قبلا سمى هذا زمن الرجع البسيط Simple reaction time مثل رفع سماعة التليفون متى دق بجوار الجالس.

أما إذا كان على المستجيب أن يتلقى أكثر من مثير ويستجيب لكل واحد باستجابات مختلفة، فيسمى ذلك زمن الرجع الاختيارى Choice Reaction Time مثل عامل السويتش الذى يستجيب لكل علامة على اللوحة استجابة مختلفة فور ظهورها، وهو أطول بلا شك من زمن الرجع البسيط، وأخيرا فقد يكون زمن الرجع مرتبط بطبيعة المثير وتغيراته المتعددة، فيعرف المستجيب نوع الاستجابة التى يحددها طبيعة المثير دون أن يتقيد باستجابة بذاتها، وذلك مثل الجالس أمام شاشة الرادار قديما، وأمام الأدوات الإلكترونية فى قواعد الدفاع الجوى حديثا، إذ يربط بين المثير واختيار الإجراء المـُـسـْـقـِـط للطيارة مباشرة بقدرته وقدرة آلاته على الرصد والترابط، ويسمى هذا أحيانا زمن الرجع الترابطى Associative Reaction.

الطالب: ولكن ما فائدة كل هذا بالله عليك؟ أليس كل هذا معروف بداهة.

المعلم: ألم نقل من البداية أن العلم – وهذا العلم بالذات – يصيغ البديهيات فى أبجدية علمية محددة، فيسهلّ بالتالى التطبيقات الآمنة.

الطالب: وهل لهذه المعلومات تطبيقات محددة فى الحياة العامة؟

المعلم: تلفت حواليك ترد على نفسك، وارجع إلى الأمثلة التى ضربناها من الحياة العامة تتأكد بنفسك، أليس المعسكر الذى يعقده الأهلى أو الزمالك قبل مباراة محلية هو “تهيؤ الاستعداد”، أليس إصرارك على النوم بضعة ساعات ليلة الامتحان رغم ما عليك من تراكم دروس هو تهيؤ الاستعداد أيضا؟ ألا تتصور كم استفاد سلاح الدفاع الجوى المصرى فى اكتوبرنا الشريف حتى النصر من دراسة وفهم وتطبيق زمن الرجع..، ماذا لو كانوا تركوا الأمر للبديهيات المعروفة.

الطالب: ولكنى أنا طالب الطب، أو طبيب المستقبل إن شئت، ماذا أفيد من كل هذا؟

المعلم: إن عليك أنت أن تبحث عن التطبيقات بنفسك حتى تمارس تدريبات عقلية مفيدة فتفكر مثلا فى حالة التهيؤ أثناء تحضير مريض لعملية جراحية بذاتها، أو مثل ملاحظة انتباه المريض لتعليمات بذاتها… إلى آخر هذه الاحتمالات التطبيقية التلقائية التى ستستدعى معلوماتك هذه إذا ما احتجت إليها فى مواقف الممارسة العملية المختلفة.

الطالب: ولكنا ابتعدنا عن ما بدأنا به وهو أن “الناس بالناس وللناس”.

المعلم: هذا حقيقى، ولكن حين نبدأ بمعرفة أهمية الفروق الفردية، وكذلك مدى وثوق العلاقة بين الانسان وبيئته عامة، ومدى أهمية القواعد للتعامل معها سوف نحترم أكثر وأكثر الانسان “الآخر” كأهم جزء من البيئه للانسان الفرد، ثم نحاول أن نفهم هذه الضرورة الحتمية لتوازن الحياة العقلية.

الطالب: هل تعنى بذلك إحياء القول القديم أن الانسان حيوان اجتماعى؟

المعلم: نعم من حيث المبدأ، ولكنا هنا نحاول أن نعمق هذا القول بحيث يمتد معنى إجتماعى إلى الرسائل البيولوجية فى مشاركة المعايشة بين كيان بشرى وكيان بشرى، وكما ذكرت فقد أشرت لذلك باسم التغذية البيولوجية Biological Nourishment، حيث اعتبرت أن الرسائل Messages وليست المثيرات فقط Stimuli التى تجرى بين الانسان وأخيه الانسان هى أساس كل من الوجود البشرى، والنمو البشرى، وهذه الرسائل ليست بالضرورة كلمات تتبادل، أو مصالح يشترك فيها، ولكنها وجود يـُـعـَـايـَـشُ معاً، هذا هو أصل الوجود البشرى، وهو أساس استمراره وهو طريق نمائه، والتواصل بين إنسان وإنسان يمر بأشكال متعددة كلها مغذية للنمو، وموازنة للتكامل.

الطالب: تصوّر أننى لم أمل وأريد أن أعرف هذه الأشكال وتلك المراحل.

المعلم: حاضر يا سيدى:

1- فالطفل فى بطن أمه يمثل أول علامة احتوائية مغذية متكاملة.

2- ثم الرضيع على صدر أمه يرضع اللبن ويلتمس الأمان بالالتصاق بالدفء الانسانى الذى يذكره بطمأنينة الرحم ويطمئنه إلى وجود الآخر، لذلك كانت الرضاعة من الثدى مباشرة أفضل، ليس فقط لأن لبن الأم هو الأفضل تركيبا وتغذية فيزيائية، ولكن لأن الرسائل الجسدية التى تصل إلى الطفل من الالتصاق الحانى هى أساسية فى تنظيم تركيب مخه وإطلاق نموه.

3- ثم الطفل فى الأسرة الصغيرة يتعلم المشى والكلام… الخ، وهذا التعلم فى ذاته – رغم أهميته – ليس هو غاية الفائدة من وجوده فى مجتمع الأسرة الصغير، ولكنه يتيح له الفرصة للإنتماء، والتقمص، بما يحمل ذلك من مهيئات لتكوين ذاته الإنسانية المعتمدة فى وجودها على تبادل التكافل، وعلى القرب والبـُـعد من الآخر ومن الموضوع حسب الحاجة والموقف.

4- ثم الفرد فى المجتمع (المدرسة والنادى والوطن والعالم) الإنسانى كافة لا يكف عن تبادل الاحتياجات فى نشاط لا ينقطع، بما يشمل ذلك إنشاء أسرة جديدة بالزواج.. الخ.

الطالب: إن التعاون بين الإنسان والإنسان لاستمرار الحياة فى صورتها الاجتماعية أمر بديهى، فماذا هناك من جديد؟

المعلم: مرة أخرى أظنها ليست أخيرة: ألم نتفق أن الجديد تحت عنوان “علم النفس” ليس سوى التحديد والتأكيد والايضاح على هذه الظاهرة أو تلك بطريقة منظمة مراجعة مـُخـْتبرة، ولنبدأ بإيضاح معنى تغذية بيولوجية باستعارة نموذج العقل الالكترونى وعملية فعلنة المعلومات Information processing وبمحاولة رؤية المخ البشرى من هذا المنظور، نلاحظ أنه فى لحظة معينة نجد أن الجهاز الحى –  حتى يظل فى تماسكه الداخلى وتناسقه الوحدوى Internal cohesion and unitary organization- يحتاج إلى جرعة مناسبة من المعلومات الداخلة، وهذه المعلومات تصل أساساً من العالم الخارجى فى حالة اليقظة، كما تصل أيضا من العالم الداخلى، وذلك بما يُستْثار من معلومات فى عملية إعادة التخطيط فى الأحوال العادية، وفى نشاط ما يسمى بالأحلام فى حالة النوم، وليس المهم هو “كم” المعلومات، ولكن المهم هو تناسب “معانى” المعلومات “ووظيفتها” مع احتياجات الجهاز المخى فى مرحلة معينة من تطوره، فإذا لم تـَفِ المعلومة – من الخارج – بهذا الاحتياج، تخلخل جهاز الاستقبال …الخ”([15]) وهذا أمر صعب لكنه مهم للوفاء بدرجة مناسبة من التماسك من حيث المبدأ، فالجديد فى الأمر هو الحديث باللغة البيولوجية بالمقابلة بجهاز “فعلنة المعلومات” Information processing بديلا عن اللغة الانفعالية التى قد يساء فهمها وتفسيرها وسط المشاعر الطيبة والأمانى المثالية، والمعلومة Information لا تعنى الرمز او الكلمة أو المعرفة وإنما تعنى أى رسالة أو مثير له معنى محدد يحتاجه هذا التنظيم الرائع المسمى: “المخ” ويستعمله لصالح توازنه، وهذه اللغة ينبغى أن تتأكد عند طالب الطب دارس البيولوجى حتى لا يجد نفسه بين نقيضين كلاهما لا يـُـغنى، فطالب الطب إما أن يدرس الإنسان وما يصله من مؤثرات باعتبارها مجرد “مثير” Stimulus، وفى هذا ما فيه من تبسيط شديد لا يصلح لشرح عمل المخ وإنما لفهم انعكاس الاستجابة، وإما أن يدرس ما يصله باعتباره من رسالة توعية عواطف وحب ومودة ومعرفة وعلاقات، وفى هذا ما فيه من تعميم وتمييع وتجريد، أما اللغة المناسبة لمدى ما وصل إليه العلم فهو الحديث عن ما يصل المخ البشرى باعتباره “معلومة”،  تحمل “معنى” “ووظيفة” وهذه المعلومة كما ذكرنا ليست قاصرة على الكلمات، بل إن كل الوجود البشرى – وغير البشرى – المتبادل هو من أهم مصادر المعلومات اللازمة لتناسق الجهاز المخى.

الطالب: ما هذا كله؟ ما هذا كله، لقد كنت أحسب أننا سنتكلم عن الناس بالناس وللناس بمعنى الحب والمودة والتعاطف ومثل ذلك،  فإذا بك تقلبها لى “فعلنة” و”معلومات” و”معنى” “ووظيفة”؟ لماذا كل هذا؟

المعلم: إسمع، إذا كان تصورك للعلم، ولعلم النفس بالذات أن تسمع ما تعرف لا أكثر ولا أقل، فما فائدة التعليم؟ وأنا أعذرك بعد ما شاع حول هذا العلم من تعميمات وإشاعات جعلت الحديث فيه أشبه بمواضيع الإنشاء أو خطابات الغرام، ولكن حاجة الإنسان “للمعلومة المغذية” و”للمعنى” هى حاجة أصيلة وجوهرية وهى ليست أقل من حاجته للأكل والشرب والجنس.

الطالب: ياه!! لم يبق إلا أن نتكلم عن سوء التغذية وفقر التغذية بالمعلومات والمعانى، مثلما نتكلم عن البلاجرا والانيميا؟!

المعلم: بالضبط.

الطالب: بالضبط؟ أتقول بالضبط!!؟

المعلم: نعم بالضبط، بل إنى استعملت هذين التعبيرين بوجه خاص استعمالا علميا محددا رغم أنك ذكرتهما وكأنك تسخر، وذلك حين أردت تأكيد أهمية الظروف المهيئة لأخطر مرض عندنا وهو الفصام إذ قلت وأنا أصف إمراضية الفصام بالحرف الواحد.

“خلاصة القول: إن ما قبل الفصام يشير عادة – بغض النظر عن نوع البيئة أو نوع الوراثة – إلى جوع شديد لاستقبال “رسائل” لها معنى([16])، كما أنه يفتقر إلى إرسال “رسائل” تجد من يستقبلها بقدرها وبمعناها الذى تحمله، وعلى ذلك فإن العائد يصبح ضعيفا للغاية “منه وإليه” والنتيجة أن تتقطع المواصلات البيولوجية القادرة على حفظ التوازن البشرى بالدرجة التى تسمح له بالاستمرار والنمو” فيتخلخل التوازن ويحدث المرض (الفصام)”.

الطالب: ما بقى إلا أن تقول لى إن العلاج هو إعطاء المريض جرعات من “المعنى”، مثلما نعطيه جرعات من الفيتامينات.

المعلم: عليك نور، هل تتصور أنه يوجد علاج اسمه العلاج اللوجوسى (نسبة إلى “اللوجوس” وهى الكلمة المتناغمة ذات المعنى) وقد ترجمته إلى “علاج إحياء المعنى”([17]).

الطالب: الحقيقة أنى لا أفهم كل ما تقول، ولم أتصور أن “الناس بالناس” ستجرنا إلى كل هذا.

المعلم: وأنا بالتالى لن أطيل عليك، يكفى أن تعرف يقينا أن علمنا يحتاج إلى يقظتك وجهدك، وإلى جديتنا ومثابرتنا معاً، وقبل أن نترك هذه النقطة أذكرك بالإشاعات حول التحليل النفسى فإنى أتصور أن الوجود الطويل للمحلل المعالج بجوار المريض بإخلاص وصبر هو أهم العوامل التى تساعد فى العلاج وليس بالضرورة التفسير الذى يقدمه المحلل أو النظريات التى يعتنقها، وهذه صورة اخرى أن الناس بالناس.

الطالب: إذا كان هذا هو معنى الناس بالناس فكيف أن “الناس للناس”.

المعلم: هذا أمر أقل تحديدا من سابقه ولن أطيل فيه، ولكنى أبدأ من قولى أن الرسالة الواصلة من الناس لابد وأن تثير ردا “إلى الناس”، وأن حاجة الإنسان للأخذ ليست أكبر من حاجته للعطاء، بل إنك تستطيع أن تفسر تناحر الناس على المناصب فى الخدمة العامة على ما بها من إرهاق وعنت، ليس فقط بسبب الرغبة فى الوصول إلى مراكز الانتهازية والانتفاع الجشع، ولكن لحاجة بعضهم أن يكون وجودهم للناس…، فإن مصب الوجود الفردى هو سائر البشر رضى الواحد منا أم لم يرض، فإن فعلناها بذكاء فسيولوجى فى حياتنا فنحن نحترم وظيفة مخنا وتركيبه، وإن أجـَّـلناها فسيتولى عنا الموت تسليك المسار الذى عطله وجودنا النشاز المضاد للطبيعة البشرية.

الطالب: شعرٌ هذا أم ماذا؟ حلوة “ذكاء فسيولوجى” وحلوة أيضا “وجودنا النشاز”، ما علينا، لقد خيل إلىّ أن فهم الطبيعة البشرية بهذه الصورة، وجعل العطاء فعلا فسيولوجيا، سيسرق من الفضيلة روعتها.

المعلم: أظن أنه آن الآوان لنكف عن الكلام العام والاستدراكات الأدبية، ولكن أن تكون الفضيلة هى كفاءة الفسيولوجيا البشرية خير من أن تكون إخفاءً لاعتداءات جنسية وشهوات مكبوتة كما يزعم من أساؤوا فهم التحليل النفسى،.. وأنا لا أنكر الاحتمال الأخير ولكنه صورة مرحلية لا ينبغى التوقف عندها، بل الانطلاق منها.

الطالب: جعلتنى الآن حين أسمع أن الناس للناس أو أن الناس لبعضها أتصور المخ وهو يفعلن المعلومات، ويضطر لدفع العائد، فحرمتنى يا سيدى من سحر الجهل.

المعلم: للجهل سحر يا بطل، ولكن للعلم رونق أعظم، وأنت عرضت نفسك أن تنظر إلى جسم المرأة المتناسق فتبحث عن اسم الترقوة فى عظام حول الرقبة فى التشريح السطحى Surface Anatomy، أو قياسات بروز عظمتى الحوض، فلماذا لا تدفع نفس الثمن وأنت ترى فسيولوجية علم المخ… على المستوى الكلى الأعلى، إنى أشعر أننا نقترب من التصالح إذ نقارب بين طبيعة العلوم التى ندرسها رويدا رويدا.

الطالب: لقد تحدثنا عن كيف ان الانسان بالإنسان وللإنسان، ولكنك لم تحدثنا عن الصراع بين الإنسان والإنسان.

المعلم: هذا حق، فالصراع بين الإنسان والإنسان من طبيعة الحياة، سواء كان فى شكل تنافس أم تقاتل أم استغلال…الخ، ولكنى آمل أن تكون مرحلة مؤقتة مهما طالت وأن تكون قرب نهايتها بعد أن اتسعت مدارك الإنسان من خلال ثورة التوصيل (بالمحمول والنت وغيرهما) والمواصلات (بالطيران الأسرع من الصوت)، وبالتالى أخذ الصراع – أو ينبغى أن يأخذ – شكلا أرقى وأكثر فائدة وأطيب ثمرا وبصفة عامة فالإنسان له قدرة هائلة على التكيف مع اخيه الإنسان، بل ومع البيئة بصفة عامة.

الطالب: ماذا تعنى بالتكيف على وجه التحديد؟

المعلم: التكيف هو العملية التى يزداد بها الإنسان تلاؤما مع البيئة.

الطالب: يزداد تلاؤما؟ هل يعنى ذلك أن يخضع لها أم يعنى أن يرِّوضها لحسابه.

المعلم: الاثنان معا أيها الذكى، فالذى يمهد طريقا مليئا بالمطبات يروّضه لحساب راحته وأمان سيارته، والذى يتجنبه ويسلك طريقا آخر، يتركه وكأنه يستسلم لعجزه عن اجتياز هذا الطريق الصعب لوعُورته ولكنه يحل مشكلته الشخصية إذ يغير طريقه.

الطالب: وهل يسرى هذا على العلاقات الإنسانية؟

المعلم: إنه يسرى بوجه خاص على العلاقات الإنسانية، فالزوج الذى ينزل عند رأى زوجته فى اختيار لون الحجرة، قد خضع لها، والذى يفرض رأيه فى اختيار مدرسة ابنه، قد اخضعها.. وهكذا.

الطالب: وفى الحالين هو “يتكيف”؟

المعلم: نعم بكل تأكيد، والتكيف الذى يتم بأن يغير الإنسان نفسه لصالح ثبات ما حوله يسمى تكيفا بالإذعان“، وأحيانا يسمى “التشكل” conforming، أما التكيف الذى يتم بأن يغير الإنسان ما حوله لصالح بقائه هو، وفرض قيمه: يسمى “تكيف بالسيطرة”، وأحيانا يسمى “تكيفا بالإبداع إذا صنع جديدا من خلال هذه السيطرة.

الطالب: وأيهما أفضل أن نذعن أو أن نسيطر؟

المعلم: الاثنان يا اخى، قلنا الاثنين، حسب مقتضى الحال ومقدار القدرة، ومناورات الاستمرار.

الطالب: العلم صعب، كنت أتمنى ألا يكون التكيف إلا بالسيطرة والإبداع.

المعلم: العلم علم.. ولن يخضع لأمانيك أو لرعونة شبابك يا بطل.

[1] – هذا تعبير من فرنسى Petit Coin أصلاً أفضل ألا أفصح عن ترجمته تحديداً فسيفهمه الطالب الذكى.

[2] – الوقت الحالى هو تاريخ الطبعة الثانية2018، أما المسألتان فهما تتعلقان بالمنهج فى علمى هذا، وبمصير الانسان البيولوجى وكلتاهما ليستا فى متناول قارئنا الآن، حتى لو كان هو ذلك الشاب الذكى.

[3] – كأن ذلك قبل إضافة “انطلاقا من قصر العينى: انظر المقدمة”

[4] – وأنك إذا تقتنى هذا الكتاب تثبت افتراضى ذكاءك فى كل حال، فأنت ذكى إذا قرأته واستفدت منه أكثر من العشر درجات إياها، وذكى إذا لم تقرؤه الآن مكتفيا بما أشرت إليه نم هاكش فى فصل علم النفس فوفرت وقتك وأغفلتنى واستهنت بحماسى منصرفا إلى ما تتصوره أهم، وذكى إذا قرأته فرفضته.

[5] – (هيبوقراط)

[6] – أقدم كتاب درس فى القصر العينى عن الأمراض العقلية كان بالعربية واسمه “اسلوب الطبيب فى فن المجاذيب” سنة 1309 هـ (1896 ميلادية)، تأليف سليمان أفندى نجاتى، ويقع فى 162 صفحة، والكتاب يوجد بقاعة المطالعة بدار الكتب ميدان باب الخلق تحت رقم 644 طب، وقد اقتطفت بعضه فى وثائق الفصل الأول (ص 17 – 19).

[7] – ثبت مؤخراً من علوم التطور والنيوروبيولوجيا ما يسمح بالحديث عن عدد من الأمخاخ مرتبة ترتيبيا هيراركيا تطوريا، تتبادل وتتجادل وتتكافل معا ليظهر من هارمونيتها السلوك الذى تتصف به ما يسمى النفس عادة دانيال دينيت (مثلا):

Kinds of Minds Towards Understanding of Consciousness  Daniel C. Dennet 1996

الكتاب المترجم صادر عن “المكتبة الأكاديمية” ترجمة: د. مصطفى فهمى إبراهيم، نشر بعنوان: “تطور العقول!!” “نحو محاولة  لفهم الوعى”  – القاهرة  2003

[8] – بل الأمخاخ جميعاً

[9] – هذا التعبير الفسيولوجيا النفسية Psychic physiology غير التعبير الشائع عن علم النفس الفسيولوجى Physiological psychology آخذين فى الاعتبار المفهوم الخاص الذى قدمناه هنا باعتبار علم النفس هو جزء لا يتجزأ من علم الفسيولوجيا أو هو أرقى فروع الفسيولوجيا بالمعنى التطورى.

[10] – ولاحقاً أصبح الحديث باعتبار أنها عدة “أمخاخ” أو “عقول” وليس فقط “حالة ذات” أو “حالات ذوات”، أنظر هامش رقم (10)

[11] – سيأتى تعريف الهلوسة فيما بعد.

[12] – فى ديوان لى بالعامية “أغوار النفس” كتبت نقدا للعلاج النفسى من خلال قراءة العيون رمزا فنيا وحقيقة كلينيكية معاً، ثم شرحت من خلال ذلك ما أسميته “فقه العلاقات البشرية” كتاب: فقه العلاقات البشرية (3) “قراءة فى عيون الناس“، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، 2018

[13] – يمكن الرجوع أيضا بهذا الصدد إلى كتابى حيرة طبيب نفسى حيث يوجد فصل بأكملة عن “فى التعليم الطبى” من ص 91 إلى 112، دار الغد للثقافة والنشر 1972، القاهرة.

[14] – وهذا ما سيأتى تفصيله فى الفصل العاشر (ص 223 – 251)

[15] –  هذه الفقرة مقتطفة من مؤلفى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” ص 272، 273 دار الغد للثقافة والنشر القاهرة 1979، ولمن شاء أن يراجع تفصيل هذه الفكرة فى هذه الدراسة فيمكنه تتبعها صفحات 23، 24، 242، 250، 350، 352، 337، 428، 436، 739.

[16] – (تذييل فى المرجع الأصلى) “المعنى” كما سبق أن أشرت إنما يقصد به هنا تناسب وكفاءة “المعلومات” الواصلة لجهاز فعلنة المعلومات، فى مرحلة بذاتها.

[17]-إشارة إلى‏”علاج‏ ‏إحياء‏ ‏المعنى” ‏أو‏ ‏”علاج‏ ‏اللوجوس”‏ Logotherapy ‏ الذى ابتدعه   فيكتور فرانكل . وهو يعتبر “مدرسة فيينا الثالثة للعلاج النفسى” جنبا إلى جنب مع التحليل النفسى فرويد وعلم النفس الفردى أدلر.

الفصل الثالث: الإدراك

الفصل الثالث: الإدراك

 

الفصل‏ ‏الثالث

الإدراك

 

الطالب: تحدثنا عن الإنسان فى البيئة، وعن المعلومات الواصلة، وما إلى ذلك، ألا يتم ذلك كله من أبواب الحواس الخمسة؟

المعلم: تعبيرك من “أبواب” تعبير تلقائى ذكىّ جميل يطمئنى على دقة متابعتك، والإجابة أن “نعم”، ولكن بتحفظ، ولنبدأ فى “نعم” دون تحفظ ثم أشير لك فى النهاية لما خشيت منه وتحفظت إزاءه.

فالمعلومات الواصلة للكيان البشرى، وهى المثيرات Stimuli ، تثير فى أعضاء الإحساس تغيرات تنتقل إلى مراكز المخ، وأنت طالب طب، فلا يفيدك أن أعدد لك هنا أنواع الإحساس وعليك بمراجعتها فى الهستولوجى والفسيولوجى ثم تأتى لنكمل الحوار.

الطالب: لقد قرأت ما تقول، وحفظته، ورأيت أشكال المستقبلات Receptors تحت الميكروسكوب، ولكنى لم أعلم كيف تنقلب هذه المؤثرات إلى ” معان” وخاصة بعد استعمالك للفظ ” معنى” هذا الاستعمال الجديد الغريب علىّ.

المعلم: وقعت يا بطل، فهنا مربط الفرس كما يقولون، هل أدركت كيف أن هذا العلم الذى تدرسه هو مجرد مرتبة فسيولوجية متقدمة لدراستك الفسيولوجية العادية، فدراسة أعضاء الإحساس ومساراتها Tracts حتى وصولها إلى مراكز الحس فى المخ هى ما تتقنه علومك الأخرى قبل علم النفس، فإذا انتقلنا من مراكز الإحساس إلى المراكز التى تسمى فى علم التشريح أو الفسيولوجيا المراكز الحسية النفسية Psychosensory Areas فنحن فى منطقة علم النفس، وبالذات فى منطقة ما نسميه الإدراك([1]) Perception.

الطالب: لقد أخذنا فى الفسيولوجيا العصبية – مثلا – أن مقابلة صورة المثير الواصل للمنطقة “18،19” فى لحاء Cortex الفص القفوى Occipital Lobe  بالصورة  القديمة  المختزنة هو الذى يجعلنا نرى أن القلم .. قـَـلـَـمـَـا، أو أن هذا الشخص هو “أخى إسماعيل” .. أهذا ما تعنيه؟

المعلم: نعم، بصفة مبدئية، رغم أن للأمر أبعادا أعمق، وهذا الذى ذكرتَ هو ما يسمى فى كل من الفسيولوجيا وعلم النفس “الإدراك”، حتى أن أحد تعاريف الإدراك هو أنه: “العلمية التى نتمكن بها أن نعطى للإحساس معنى“، وإن كنت غير راض تماما عن هذا التعريف.

الطالب: كلما اقتربنا من أى تعريف وجدتك إما مترددا أو غير راض!

المعلم: بالضبط، إذ كيف يدرك الطفل ما حوله قبل أن يعرف شيئا عما حوله، أو اسما له، وكيف يدرك الحيوان ما حوله، وماذا نعنى بكلمة “معنى” … أهو اسم الشئ أما ماهيته أم غير ذلك، إن كل هذا يجعل الاستسلام لمثل هذا التعريف، والاقتصار عليه، اختزالا وتسطحيا يستحسن التمهل فى الموافقة عليه.

الطالب: فماذا تقترح تعريفا للادراك.

المعلم: لستَ أدرى على وجه التحديد؟

الطالب: لستَ تدرى؟!! وأنت وظيفتك أن تعلمنى؟ إذا كنت أنت لا تدرى فهل أنا الذى أدرى؟

المعلم: وماذا فى هذا؟ هل معنى أنى أعلمك أن أعرف كل شئ وأعطيك إياه جاهزا ملفوفا فى خدعة الحسم النهائى؟ فكـِّـر معى بالله عليك.

الطالب: أفكر فى ماذا؟

المعلم: فى تعريف للادراك..، ودعنى أبدأ لك الطريق: هناك من يقول أن “الإدراك هو العملية التى نتعرف بها على البيئة”.

الطالب: وهل يرضيك هذا التعريف، أليس “واسعا” تماما، ألا توجد عمليات أخرى نتعرف بها على البيئة.

المعلم: وهذه هى المصيبة، ألا تذكر حين قلنا إن النفس هى نشاط المخ الكلى، وأن فصل هذا النشاط إلى وظائف محددة صعب وصناعى، وأن كل وظيفة تتداخل مع الأخرى فى نفس الوقت، وإنما نحن نَفـْصِلهَا عن الباقى لسهولة الدراسة ليس إلا، فلنمض قـُـدُما حتى لا تضجر من علمنا، وأنت الذى اعتدت الوضوح والتحديد والحسم والمباشرة فى سائر العلوم.

الطالب: نمضى قـُـدُما إلى أين؟ ما هو الإدراك أولا؟

المعلم: اسمع يا إبنى، خذها هكذا: “الإدراك هو أن تطابق ما يصلك من إحساسات على ما عندك من معلومات سابقة، مع احتمال إضافة جديدة نتيجة لمعرفة جديدة ناشئة من تفاعل الداخل بالخارج” وقد عبروا عن  ذلك بقولهم بألفاظ أخرى: “الإدراك هو العلمية التى تنتظم بها وتفسر المؤثرات الحسية بربطها بنتائج الخبرات السابقة”.

الطالب: أليس هذا التعريف قريب مما سبق؟

المعلم: ولهذا اخترته لتتكامل التعريفات، ثم إنه يستحسن أن نتكلم عن الإدراك باعتباره عمليتين لا عملية واحدة: الأولى هى العملية السلبية أو الساكنة ولنسمه الإدراك الإستاتيكىStatic or Passive Perception ، وهى الترجمة الحرفية البسيطة للإحساسات من واقع المعلومات السابقة، والثانية وهى العملية النشطة ولنسمها الإدراك النشط او المعرفى Active Perception، فهى لا تكتفى بأن تستقبل بل تتعرف وتضيف معلومات دون التسرع إلى الترجمة المباشرة لما هو جاهز، وهى أقرب إلى التعلم الإبداعى كما سترى، وهاتيتن العمليتين تتناوبان باستمرار مع مراحل النمو، فالطفل تغلب عليه فى بداية مراحل نموه ذلك الإدراك النشط المعرفى، والناضج المستتب (أو العجوز) تغلب عليه عملية الإدراك السلبى الإستاتيكى.

الطالب: ألا يستحسن أن نرجئ الكلام عن هذا الإدراك النشط إلى دراسة التعلم.

المعلم: هذا رأى وجيه، ولكن تذكر أن فصل العمليتين تماما شبه مستحيل، ولأضرب لك مثلا لشخص نزل بلدا غريبا تماما فى نظامه ومبانيه وناسه ولغته، فإنه لن يستطيع أن يعطى لكل هذه المثيرات من حوله معنى رمزيا منطوقا، ولكنه لا شك سيستجيب لها بكفاءة نسبية وكأنه استقبل منها ما يفيده فى زيارته لها، ثم يتصاعد بذلك إلى معرفة أوضح وأوضح ثم أكثر تحديدا، وذلك بعد أسئلة كثيرة وتسميات منوعة، وخرائط محتملة، وهكذا يصبح معنى الإدراك هنا فى البداية: “استجابة دون تأويل” .. ثم فيما بعد  “تعرّف وتحديد المعنى وما إليه”.

الطالب: يخيل إلىّ أنك زدت الأمر غموضا.

المعلم: يا أخى احتملنى بعض الوقت، برغم أنى لا أعدك بحل شئ لا أعرفه، ولأذكرك أن مشكلة الإدراك هذه مشكلة ضاربة فى القدم، وقد تناولها الفلاسفة بعمق ليس له مثيل.

الطالب: الفلاسفة؟!

المعلم: كنت أتوقع منك هذا التساؤل المنزعج، لقد أصبحت كلمة الفلسفة شبهة وكأنها ليست علما، فى حين أنها أم العلوم وأصل العلوم ومنهج المعرفة بلا جدال، واختباؤنا فى المعلومات الجزئية الفرعية بعيدا عن غموض الكليات لن يغنينا عن العودة إلى أصل المعارف لتنشيط التفكير السليم فى الاتجاه السليم، المهم أن نظرية المعرفة Epistemology قد تناولت مشكلة الإدراك من مدخل آخر، ولكنها وصلت إلى نفس الحيرة حول التساؤل الذى يقول: هل نحن “ندرك الأشياء كما هى” أم أننا ندركها كما سبق أن عرفناها”، ولن أدخل فى تفاصيل ذلك حتى لا أربكك، ولكنى ألمحت إلى طبيعة هذه المشكلة حتى اذكرك أن “إعطاء المحسوسات معنى” قد لا يكون تعرفا عليها، بل قد يكون إسقاطا عليها لما نعرف عنها مسبقا، وهذا ما أسميناه الإدراك السلبى أو الساكن، أما إذا تجرأنا واستقبلناها (أو استقبلنا بعضها) “كما هى”([2]) لتقابل، وتتفاعل مع، الصورة المختزنة لها فى عقولنا فإن هذا هو الإدراك النشط، وهو أكثر عند الأطفال كما قلنا، وعند المبدعين.

الطالب: اسمح لى أن أرجع عن هذا الحديث الصعب لأسالك سؤالا بسيطا على قدرى وهو: ألا يلزم أن ننتبه إلى الشئ حتى ندركه، فهل الانتتباه نوع  من الإدراك؟ أم أنه سابق للإدراك أم ماذا؟

المعلم: عليك نور، الانتباه هو توجيه للنشاط فى اتجاه معين، فإذا كان توجيه النشاط هو لاستقبال المثيرات والاستجابة المناسبة لها وتأويلها أحيانا.. كان جزءا لازما من الإدراك.

الطالب: وهكذا تتداخل الوظائف كما ذكرتَ.

المعلم: نعم، فكما رأيت: إن الإدراك النشط نوع من التعلم، كما أن الانتباه المستقبـِـل نوع من الإدراك، وتعبير الوظائف المعرفية Cognitive Functions  يشمل كلا من الانتباه والإدراك والتعلم والتذكر والتفكير والتخيل والإبداع،و كلها وظائف ترابطية لأنها تتضمن أن نربط جانبا (أو معلومة أو مثيراً) بجانب آخر لأداء وظيفة بذاتها.

الطالب: وهل توجد وظائف نفسية للمخ- ككل كما تقول – غير الوظائف الترابطية أو المعرفية كما تقول؟

المعلم: الحقيقة أن كل وظائف المخ ترابطية إلا أننا عادة نتحدث عن الجانب الأغلب، فعندنا وظائف دوافعية Motivating Functions وهى الدوافع (وتشمل الحاجات والغرائز) والانفعال (ويشمل العواطف والوجدان)، وهذه الوظائف هى الطاقة وراء أنواع الوظائف المعرفية الأخرى، ولكن دراستها أصعب لأن طبيعتها أخفى، وهى ترابطية أيضا من بعد آخر، كما توجد وظائف أصعب واصعب لأنها تمثل الأرضية أو الوساد الذى يتم فيه الدفع والترابط معاً حتى لتسمى الوظائف الوسادية Matrix Functions  وتشمل الوعى بما يشمل اليقظة والنوم وغيرهما مما سنشير إليه فيما بعد، وإن كان قد أصبح من الصعب الفصل بين الوساد وما عليه.

الطالب: لقد فتحت على نفسى أبوابا لا طاقة لى بها، نرجع إلى الإدراك لو سحمت، إذا كان الأمر بهذا التداخل فلابد أن هناك عوامل تؤثر على الإدراك فى الشخص نفسه أو فى المؤثر نفسه.

المعلم: وهو كذلك، ولكن لا تنس أن الفصل بينها مستحيل تقريبا، لأن العوامل ترجع دائما فى النهاية إلى الشخص ذاته فهو الذى يدرك، ولنأخذ مثالا لذلك: إن الشخص ينتبه إلى شئ دون آخر ويسمى ذلك بؤرة الانتباه Focus of attention  أو “الشكل” بلغة الإدراك Figure، ولكنه سرعان ما يترك هذه البؤرة أو الشكل الذى كان ظاهرا وكل ما عداه أرضية Background، ليصبح هذا الشكل هو أرضية والبؤرة الجديدة هى الشكل، ولتوضيح ذلك وأنت تقرأ هذا الكلام قد تكون منتبها إليه والموسيقى بجوارك تصدح ولكنها فى أرضية انتباهك وإدراكك، فإذا ما شبعت منه أو ضجرت منه أو جاءت مقطوعة موسيقية تحبها، فقد تمر على هذه الكلمات مر الكرام دون فهم عميق، وتنصت أكثر فأكثر للمقطوعة التى تحبها، وبذلك تصبح المقطوعة الموسيقية هى الشكل، وهذا الكتاب وهذا الكلام هو الأرضية وهكذا، ولعلك تلاحظ معى أن انتقالك من الشكل إلى الأرضية وهكذا، يتم بالتبادل بين الشكل والأرضية باستمرار تقريبا تبعا لعوامل مختلفة كالضجر والرغبة والاهتمام والخبرة السابقة وغيرها.

الطالب: ولكن كيف أميز من بين المثيرات المتداخلة أى منها الأولى بالتركيز؟

المعلم: حين تصعب التفرقة بين الشكل والأرضية لدرجة كبيرة يعتبر معها المثير مثيرا غامضا Ambiguous Sign ، كما يعتبر المثير غامضا كذلك إذا كان له أكثر من استعمال وأكثر من معنى لا يتضح إلا إذا تضمن فى كلٍّ أكبر، وكثير من الكلمات لها معان عدة، بل أحيانا ما تعنى الكلمة المعنى ونقيضه مثل كلمة ” جـَـلـَـل”([3]). ولا يتحدد  المعنى المراد إلا فى سياق الجملة والكلام.

الطالب: ولكن قل لى، هل يجب أن نرى الشئ بكل أبعاده حتى ندركه؟

المعلم: أبدا، نحن ندرك الأشياء أحيانا بأقل جزء منها، فندرك قدوم القطار بسماع صفارته، وقد يدرك الهاوى نوع العربة وربما سنة صنعها برؤية مصباحها الخلفى فقط، وتسمى هذه الأجزاء من المثير “العلامات المختصرة” Reduced Cuses ، ولكن لا تنس أنه أحيانا مهما اختلفت هذه العلامات المختصرة التى ندرك بها الشئ فإننا ندركه هو هو على الدوام ويسمى ذلك “استدامة الإدراك” Perceptual Constancy وفى المثال السابق قد يدرك الهاوى نفس نوع العربة من مصباحها الخلفى أو من الصادم (الاكصدام) الأمامى أو من  أبوابها الجانبية الخ.

الطالب: لقد بدات أتحير واضجر من كثرة هذه التعبيرات الجديدة التى تشرح لى ما أعرفه من قبل بألفاظ جديدة لم آلفها كالعادة؟

المعلم: إلى متى سوف نكرر أن علم النفس، هو العلم الذى يعلمنا ما نعرفه بأسلوب لا نعرفه، وأن هذا هو عيبه وهو هو مزيته.

الطالب: فما العوامل التى تؤثر على الإدراك كما قلت؟

المعلم: إسمع يا سيدى، سأحاول أن أعددها لك بطريقة مبسطة ما أمكن:

1- إن الواحد منا يدرك ما اعتاد أن يدركه، فإذا سمعتنى أقول ناد على “محنود” لابد أنك ستدرك أنى أقول ناد على “محمود” لأنك اعتدت ذلك، وسنعود لهذا فى الخداع الحسى.

2- ثم إن الإنسان يدرك المتشابهات مع بعضها البعض مثل أن ترى رقما معينا فى لوحة اختبار إبصار الألوان، لأن النقط المعمول منها كلها خضراء متشابهة.

3- ثم إن الفرد يدرك ما هو بجوار بعضه أسرع مما هو بعيدا عن بعضه البعض، مثل أن يدرك السامع علامات التلغراف قديما لمجرد تقارب النقط والشَّرَط بجوار بعضها بشكل معين، أو يدرك القارئ الكلمات المكتوبة بالانجليزية بحروف غير متصلة لأنه يقرأ الحروف المتقاربة مع بعضها البعض وهكذا.

4- ثم إن الفرد يميل إلى إدراك الأشياء وكأنها أشكال متكاملة حسنة التلاؤم وذلك من خلال حاسته الجمالية aesthetic وذلك بأن يكمل ما هو ناقص منها وكأنه شكل كامل، أو أن يرى الجانبين متماثلين رغم اختلافهما، وذلك على وجه التقريب طبعا.

5- ثم إن الفرد يدرك ما يريد أن يدركه، أو ما هو مهيأ لأن يدركه، فالذى ينتظر صاحبته على محطة الأتوبيس قد يراها فى خمس فتيات قادمات (الواحدة تلو الأخرى!) من بعيد – ثم يتبين خطأه – قبل أن تحضر هى شخصيا، فإذا كان غضبانا منها فقد لا يراها هى شخصيا حتى تناديه باسمه!!! والأم ترى ابنها غير الجميل أنه أجمل أهل الأرض: “القرد فى عين أمه غزال”، وعمر بن أبى ربيعه الشاعر العربى يقول “حسنٌ فى كل عين ما تود”، والمثل البلدى عندنا يقول: “خنفسة شافت بنتها عالحيط : قالت دا لولية فى خيط”.

الطالب: ولكن لقد خيل إلى أن هذه العوامل فى المُدْرَك نفسه أكثر مما هى فى الشخص؟

المعلم: لقد قلنا إنها لابد أن تكون فى الشخص فهو الذى يدرك الشئ نفسه، إذْ كيف تتصور أن للشئ شخصية تفرض نفسها على إدراك الشخص، إن الحديث عن العوامل فى المثير هو للتبسيط والتعليم فقط.

الطالب: ولكن لقد خيل إلى أن هذه العوامل تشككنا فى الإدراك كوسيلة يعتمد عليها فى التعرف على البيئة ما دام مزاج الشخص يتلاعب بالعملية إلى هذه الدرجة.

المعلم: المسألة ليست مزاجا يا إبنى أو تلاعبا، ولكنى أشعر أن معك حق لدرجة ما، فمثلا إذا قلنا إن العامل الجمالى يجعل الفرد يرى الأشياء منتظمة، لسمعنا فنانا حديثا يقول: “بل إن جمال الشئ يكون أحيانا فى عدم انتظامه”، وعلى قدر تطور حاستى الجمالية وعمق إدراكى يتوقف إحساسى بالجمال منتظما أو غير منتظم، إذن فلنتذكر معاً الفروق الفردية ولا نسارع فى التعميم.

الطالب: كذا؟ كذا؟ قواعد تعتمد على المزاج والآراء!! هل هذا علم؟.

المعلم: يا أخى لا تتعجل، إن هذا فى ذاته ميزة تعلن أعظم حقيقة يؤكدها علمنا وهى الفروق الفردية، ولو كنت تريد أمثلة فى قوانين الإدراك محددة ودافعة أعطيتك أياها، ولكنى أحاول الاكتفاء بالخطوط العامة.

الطالب: بل هاتها.

المعلم: هناك قانون مثلا يحدد ثبات النسبة بين الكمية التى ينبغى أن تزيد على إدراكٍ ما حتى ندركها كزيادة مميزة، وبين شدة الكم المدرك أصلا، بمعنى أنه كلما كان الكم كبيرا احتاج لثقل أكبر حتى تدرك أنه أصبح أثقل، وهكذا.

الطالب: ما هذا، لست فاهما؟

المعلم: ما عليك، ولكن تذكر أن هذا القانون المسمى باسم من وضعه وهو “قانون ويبر” Weber وُصـِـف منذ أكثر من قرن ونصف ومازال صحيحا.

الطالب: بصراحة لقد كدت اضجر من كل هذا، فلتقل لى معلومة تفيدنا.

المعلم: إن تعرفنا هكذا على حركية الإدراك وتقلباته وكثرة العوامل التى تؤثر فيه ربما تدفعنا أن نعيد النظر فى حماسنا لمعرفتنا وتعصباتنا ما دام إدراكنا خاضع لهذه العوامل الذاتية إلى هذه الدرجة؟

الطالب: وكيف ذلك؟

المعلم: ألا يـُـلزمك ما درسناه حتى الآن بالتواضع ومراجعة موقفك عن مفاهيم ثابتة فى ذهنك لا تحاول أن تعيد إدراكها من جديد اختباء “فيما هو ثابت عندك اعتدت عليه فاستسهلت الاكتفاء به وخلاص”؟

الطالب: يا سيدى طلبت منك ما يفيد، لا ما يربكنى أكثر!

المعلم: ولكن لعل ما يربك – على خفيف – هو مايفيد على المدى الطويل، يأتينا المريض أحيانا يشكو من أن الناس ليسوهم ناس الأمس  أو أنه يشعر أن ذاته تغيرت، أو أن الدنيا من حوله لها طعم جديد، ونسارع كأطباء بأن ندمغه باسم عرض يقول: إنه يعتقد خطأ باعتقاد خاطىء هو “تغير الذات” أو”تغير الكون”.

 وقد صغت هذا شعراً ذات مرة قائلاً:

وتغير شكل الناس

ليسوا ناس الأمس

وتغير إحساس بكيانى

أنا مـَـنْ؟ كيف؟ وكـَـمْ؟

من ذاك الكائن يلبس جلدى؟ ([4])

ولو أحسنـَّـا النظر لأمكن أن نتصور أن هذا الفتى أو الفتاة يمر بمرحلة نشطة من الإدراك الجديد، يعيد فيها النظر فى كفاءة وسلامة إدراكاته القديمة.

الطالب: الله !! الله!! تريد أن تقول إن علم النفس يتعارض مع الطب النفسى وقد سبق لك أن قلت العكس.

المعلم:بل أن حسن فهم عمق علم النفس يخفف من غلواء الوشم المتعجل فى وصف الأعراض وتعليق لافتات التشخيص على أى واحد لا يدرك الأشياء مثلما ندركها نحن أو مثلما تدركها الغالبية، أو مثلما كان هو يدركها من قبل.

الطالب: هل تعنى أنه لو اهتز عندى إدراكى للأشياء ولم أر الأشياء مثلما كنت أراها فلا خوف علىّ أن أكون جننت؟!!

المعلم: بالضبط.

الطالب: بـَـشـَّـرك الله بالخير !!! إلى أين تسحبنى يا ترى؟ وماذا ايضا؟

المعلم: بعد ما تعلمناه من تواضع أمام حقائق العلم، يمكن أن أذكر أن اخطاء الإدراك الثابتة Constant Error يمكن أن تلاحظ هذا الميل الثابت وتعدله، ولكن أخطاء الإدراك المتغيرة قد لا يمكن تغييرها، أى أن الشخص الذى يبالغ بالزيادة فى إدراك معظم الناس على أنهم أكثر طيبة من حقيقتهم يمكن تصحيحه بشحذ بصيرته ومراجعة موقفه، أما الشخص الذى يختلف تقييمه لهذه الصفة: مرة بالزيادة ومرات بالنقص، أو العكس فإنه لا يمكن تصحيحه بسهولة.

الطالب: هذا ينبهنا إلى خداع الأحاسيس أليس كذلك؟

المعلم: تقريبا.

الطالب: تقريبا ماذا؟ وهل هذا الخداع مرض؟

المعلم: ليس دائما، بل إنه ربما هو أكثر تواترا فى الحياة العادية.

ذلك أن كثيرا من خداعات الإحساس الشائعة يمكن أن تفسرها قوانين تحيز الإدراك، ومثال ذلك أن الخداع الحسى ويسمى “الوَهلْ” أحيانا Illusion  يمكن:

(1) أن ينشأ عن تهيؤ خاص حيث يرى الخائف الملدوغ أى حبل وكأنه ثعبان، (“اللى اتقرص من الثعبان يخاف ما الحبْـل”، وأيضا: “اللى اتلسع من الشربة، ينفخ فى الزبادى”!!).

(2) أن ينشأ عن سوء تأويل نتيجة لعوامل فيزيائية كأن يرى أى منا صورته فى المرآة وكأنها شخص يقف وراءها.

(3) قد ينشأ نتيجة للعادة، الأمر الذى نلاحظه فى أخطاء قراءة “البروفات”فى الطباعة، فالمؤلف الذى حفظ ما كتبه هو أقل من يصلح لتصحيح ما كتبه للمطبعة لأنه يحفظ النص الذى ألفه فتفوت عليه الأخطاء لأنه يقرؤها كما هى فى ذهنه لا كما هى على الورق.

(4) قد ينتج عن الاستقبال الكلى التقريبى دون التمعن فى التفاصيل، كأن ترى امرأة شديدة القصر بجوار زوجها لأنه شديد الطول، فى حين أنها متوسطة القامة.

الطالب: إذا كان كل هذا الخداع يمكن أن يتم على مستوى الخداع الحسى، فكيف يكون الحال على مستوى الخداع فى الأفكار وفى العواطف، لقد أزعجتنى حتى كادت موازينى تختلّ بحق.

المعلم: لا تنزعج واصبر معى قليلا، لقد عرف العلماء كل هذا، ومن هنا جاء تحفظهم على تحيزات أى إنسان فرد عالم، وحلت كثير من الآلات محل الحكم الشخصى بغية تجنب مثل هذا الخداع، ولكن وقع المحظور وتشوهت كثير من المعلومات تحت عنوان “الموضوعية”، والحل كما ذكرت لك أن نتيح الفرصة للعالم للنمو الشخصى حتى تقل تحيزاته وخداعه وانخداعه أكثر وأكثر باستمرار، ويصبح هو سيد الآلة التى يستعملها، فلا تقوم عنه الآلة بكل العمل!.

الطالب:  هذه معادلة صعبة لكن يبدو أنها ضرورية

المعلم: نعم نعم، لكن هذا أمر آخر يطول شرح حلوله، والآن إسمح لى أنا أن أسألك هذه المرة، هل يمكن أن يوجد إحساس دون إدراك؟

الطالب: نعم.

المعلم: كيف؟

الطالب: حين أنظر فى صفحات كتاب باللغة الألمانية مثلا فأرى الحروف ولا أدرك معانى الكلمات.

المعلم: لم يخب ظنى فى ذكائك، فهل يوجد إدراك دون إحساس.

الطالب: إلا هذا، كيف وأن الإدراك هو العملية التى تعطى للإحساس معنى كما قلت، فأين الاحساس الذى ستعطيه المعنى؟

المعلم: معك حق يا إبنى، معك حق، ولكن إذا وجد الإدراك دون إحساس فنحن أمام أحد أمور ثلاث:

1- فإما أن الإنسان يحلم، فهو يرى أشياء فى الحلم دون أن تقع صورتها على ناظريه (إحساس البصر).

2- وإما أن الإنسان يهلوس، والهلوسة هى أن ندرك أشياء دون أن تقع صورها  أو تأثيرها على حواسنا أصلا..

3- وإما أننا أمام الظاهرة التى تسمى “الإدراك خارج نطاق الحواس” Extra Sensory Perception ، وهى الظاهرة التى يحلو للعامة الحديث فيها والانبهار أمامها، بشكل يحتاج منى إلى تفسير أقدمه لك حتى تعرفها كطالب علم، وتحذر منها كطبيب مسئول، ولا تنكرها فى نفس الوقت.

الطالب: هل تقصد الظواهر التى يتحدثون عنها مثل “التواصل عن بعد” أو “التليبائى” وقراءة الأفكار وما إلى ذلك.

المعلم: هذه هى تقريبا، ولعلمك لقد دخلتْ دراسة هذه الظواهر المعمل، وصنعت بذور علم اسمه “الباراسيكولوجى”، ودرِستْ فى الدول الشرقية، مادية التفكير، أكثر مما درست فى الدول الغربية أو المتخلفة.

الطالب: تقول علم؟ علم البارا…. ماذا؟

المعلم: الباراسيكولوجى يا إبنى، وهو علم إذا اسئ فهمه أو أسىء استعماله، قد يترتب على ذلك مصائب بلا حصر

الطالب: أية مصائب، كيف يكون علما ومصيبة؟

المعلم: إليك أولاً بعض المعلومات حوله.

أولا: إن وجود هذه الظواهر ثابت عند العامة وعند العلماء على حد سواء.

ثانيا: إن إنكارها رغم ذلك هو ضد العلم بكل معنى الكلمة.

ثالثا:  إن العثور على تفسير علمى لها هو أمر طيب ومحتمل.

رابعا: إن الافتقار إلى هذا التفسير لا يلغى الظاهرة.

خامسا: إنها تظهر فى ناس دون سواهم، وتغلب فى الناس البدائين والمجانين ( والحيوانات) على حد سواء.

سادسا: إنها قد توجد بشكل مختلف عند بعض المبدعين والمتصوفة

الطالب: ما هذا؟

كيف تجمع بين المجنون، والبدائى، والمبدع، والحيوان؟

ما هذا؟

المعلم: معك حق، ولدهشتى مثلك رحت أجمع هذه الحقائق والمحاذير إلى بعضها البعض حتى أمكننى محاولة تفسير هذه الظاهره بالفرض التالى:

– إنه قبل نشأة الحواس فى تاريخ التطور كان هناك نوع من الإدراك دون حاجة إلى الحواس.

– إنه بعد نشأة الحواس حل محل هذا النوع من الإدراك إدراك تأويلى أرقى، وراح يتحكم فى ذلك الإدراك البدائى يخفيه.

– إن النكوص إلى النوع البدائى ليس مزية خاصة، وإنما هو إعلان لوجوده الكامن.

– إن الاستفادة الحقيقية من هذه الظاهرة هى التوليف بينها وبين الإدراك الحسى الدقيق، وهذا قد يحدث فى عملية الإبداع الأصيل.

المعلم: انتظر فأنا لا أكاد أتابعك.

المعلم: إيش لو عرفت الباقى! أسمع يا سيدى:

– يمكن إذن أن نقسم هذه الظاهرة (الإدراك خارج نطاق الحواس) إلى نوعين يكاد يناقض أحدهما الآخر.

(أ) الإدراك القبحسى Presensory Perception : وهو الإدراك البدائى الذى ينشط فى بعض أنواع الجنون وبعض أنواع الانشقاق، ويأتى خطره من أنه ظاهرة نكوصية غيبية غير مسئولية، قد تؤدى إلى الإفراط فى الاستسلام بلا مبرر.

(ب) الإدراك البعحسى Metasensory Perception: وهو الإدراك الذى يؤلف بين تأويل المثيرات بالحواس، وبما هو عبر الحواس دون تخطيها  وفى نفس الوقت فيؤلف نوعا أرقى من الإدرك يتصف به المبدع وبعض المستمتعين بالإبداع على حد سواء.

الطالب: لقد صعـّبت على الأمر ولكن طريقة كلامك مقنعة ومشوِّقة، ويبدو أن هذا العلم يستأهل الاهتمام.

المعلم: الحمد الله أنك رضيت عنا.

الطالب: ولكن اختلافكم ما زال يربكنى.

المعلم: إذا كان اختلاف الأئمة رحمة للخلق، فاختلاف العلماء ثروة للحقيقة.

الطالب: هل تعلم أنى من جيل “شرشر”، جيل “عادل وسعاد”، وأظن أن هذا على ما سمعت فيما بعد يرجع إلى اختلافكم الذى تتحدث عنه.

المعلم: لقد جئتَ بها مباشرة أيها الذكى، نعم يا بنّى، هذه المدرسة هى مدرسة الجشتالت التى تقول أن الإنسان يستقبل الكل قبل الجزء، وأن الانطباع العام يسبق التحليل الجزئى، وحين تكلمنا عن الشكل والأرضية كنا نتكلم بلغة هذه المدرسة، وحين تكلمنا عن العوامل التى تؤثر فى تكوين الشكل فى عملية الإدراك كنا نتكلم عما أسمته هذه المدرسة عوامل التنظيم Factors of Organization، بل أن هذه المدرسة ذاتها كانت الموحية بطريقة فى العلاج النفسى اسمها علاج الجشتالت Gestalt Therapy.

الطالب: العلاج النفسى؟ أى التحليل النفسى؟

المعلم: ألم اقل لك إن التحليل النفسى أصبح المرادف السهل لكل ما هو نفسى، فهل تصدق أن هذا العلاج الجشتالى يكاد يكون عكس التحليل النفسى التقليدى تقريباً، ومع ذلك فالاثنان علاج نفسى.

الطالب: العلاج النفسى عكس بعضه!! ماهذا؟ فكيف أن كلا منهما يعالج نفس المرض، ونفسى المرضى؟ كيف؟

المعلم: لا عندك، هناك أنواع كثيرة من العلاج النفسى وبعضها قد يكمل بعضها رغم ظاهرها العكسى، كما أن اختلاف أنواع المرضى فضلا عن الاختلافات الفردية تجعل الانتقاء لكل نوع من أنواع العلاج شديد الدقة والأهمية لكل حالة على حدة.

الطالب: شوقتنى يا عمنا إلى الحديث عن العلاج والأمراض، كم أتمنى أن تنتهى هاتيتن السنتين بسرعة لأفض سيرة التشريح والكيمياء وهذا الذى تقول، ولا أتحدث إلا عن الزائدة الدودية والتهاب اللوزتين …؟

المعلم: كل آت قريب، وكلى أمل أن نتحدث عن الجنون واضطرابات النفس مثل الأمراض الأخرى، وخاصة وأنها ربما تمثل ثلث، أو نصف، ما سترى من  أمراض ومرضى.

الطالب: غير معقول!!

المعلم: هكذا تقول الإحصائيات.

الطالب: فحدثنى احتياطيا عن اضطرابات الإدراك.

المعلم: لقد تحدثنا عن الخداع الحسى Illusion (ص 104)، وأسميناه “الوهل” وهو من اضطرابات الإدراك رغم حدوثه أحيانا فى حالة السواء.

الطالب: أهذه هى كل اضطرابات الإدراك.

المعلم: أرجوك لا تستدرجنى إلى الطب النفسى فكل شىء له أوانه، وعموما فهناك ظاهرة قد تهمك، وهى ظاهرة الرؤية السابقة Déjà vu وهى حين يرى الإنسان منظرا أو شخصا لم يره من قبل ولكنه يخيل إليه – أو يعتقد – أنه سبق له رؤيته، وهذه الظاهرة قد تهمك بوجه خاص لآن لها تفسيرا فسيولوجيا طريفا: وهو أن أحد نصفى المخ يصله المؤثر قبل النصف الآخر بجزء من جزء من الثانية بحيث إذا وصل المؤثر متأخرا “وجد خبرا” بوجوده وكأنه قد سبق رؤيته!!!

الطالب: ولكنا فى حديثنا عن الإدراك عرجنا على الانتباه كنوع خاص منه.

المعلم: بالضبط.

الطالب: أليس للانتباه علاقة بالتركيز، وأنا وكثير من زملائى يشكون من ضعف القدرة على التركيز، فهل عندك تفسير لهذا، أو حل بالمرة.

المعلم: كثيرا ما كنت أسمع هذه الشكوى وأنا أعطى هذه المحاضرات، شكوى الطلاب من “عدم القدرة على التركيز” وهى شكوى تتعلق بالانتباه فعلا، والواقع أن الانتباه نوع من تركيز الإدراك على أمر بذاته، والعجز عن هذا يرجع لا إلى عدم القدرة عادة ولكنه يرجع إلى تشتت التركيز فى نفس الوقت إلى مواضيع أخرى.

الطالب: وكيف أتغلب على ذلك؟ هلاَّ حدثتنى عن العوامل التى تؤثر على الانتباه لعلى أجد مخرجا.

المعلم:لا أريد أن أطيل عليك فى دراسة الانتباه بالذات ولكنى سأذكرك بعدة أمور.

أولا: إن المعلنين – والعياذ بالله – قد استفادوا من دراسة العوامل التى تجذب الانتباه بشكل واضح تسمعه وتراه كل يوم فى إذاعة الشرق الأوسط ومونت كارلو والتليفزيون([5])…الخ، وهم يعتمدون على المفاجأة والمبالغة والتهويل والإعادة والتكرار والغرابة  والإثارة  والإغراء… الخ.

الطالب: مالى أنا وللمعلنين أنا أريد أن أواصل التركيز فى الاستذكار.

المعلم: طيب طيب تبدأ بأن تتعلم كيف تحاول أن تتجنب تحول الانتباه إلى مواضيع أخرى.

الطالب: كيف يا سيدى؟

المعلم: قد يحدث التحول تلقائيا، أو نتيجة للرتابة والضجر من الموضوع الأصلى، أو الرغبة فى استكشاف غيره، أو كنوع من الاستجابة للإرهاق والتعب، أو حتى استكفاءْ وشبعا من المادة التى أنت بصدد الانتباه لها أو التركيز فيها، فإذا ما عرفت ذلك استطعت أن تحول دون تدخل هذه العوامل فى تركيزك أولا بأول.

الطالب: هكذا؟؟ وكأن بيدى زرا أضغط عليه فأحوّل التركيز والانتباه لما أريد!

المعلم: ماذا افعل لك يا أخى؟ إذا كنت تسأل بسطحية فأجيبك كما تريد خوفا من انصرافك عنى.

الطالب: بل أنا الذى أخشى عجزى عن مواصلة الانتباه إليك بهذه الصورة.

المعلم: على ذكر مواصلة أو استمرار الانتباه فإن تشتت الانتباه Distraction of Attention  هو الظاهرة العكسية للتركيز، وزيادة الواحد منهما يعنى نقص الآخر، فاعلم أن استمرار الانتباه يتم نتيجة لإثارة الاهتمام الأصيل بالموضوع، ومحاولة الاستقرار على توجه واحد، وفعل واحد نحو هدف واحد فى وقت بذاته، فإياك وكثرة الجداول والجدولة، وفتح عدة كتب فى عدة علوم أمامك فى نفس الوقت، أو أن تذهب لتذاكر التشريح فتقفز فى ذهنك أسئلة حول الفسيولوجيا …، كما عليك بإهمال العامل المـُـشـَـتـِّـتْ إما بالتعود عليه وهذا ما يسمى التكيف السلبى Negative Adaptation (مثل الساكن بجوار محطة المترو فيتعود ألا يشتت انتباهه صوت المترو كل دقائق معدودة) وإما بإزالته والابتعاد عنه، مع بذل جهد واضح حول الموضوع الأصلى.

الطالب: هل تتصور أنى لا أعرف كل ما قلت، ماذا هناك من جديد؟

المعلم: لعل الجديد هو انه أصبح يسمى علما يا أخى، فعليك أن تحترمه أكثر، وربما استفدت منه أكثر.

الطالب: ولكن ألا يوجد انتباه دون قصد؟

المعلم: نحن ماصدقنا انتهينا بإيجاز من المعلومات الأساسية، وها أنت تفتح لنا أبوابا جديدة بلا تمهل، يوجد يا سيدى، ففى الانتباه دوائر متداخلة، أشدها ارتباطا بالقصد والإرادة هى بؤرة الانتباه Focus of Attention، وأبعدها عن الانتباه المباشر هى دائرة اللاشعور Unconsciousness، وبينهما درجات قد تسمى الانتباه السلبى Passive Attention وهو الأكثر قربا ناحية ما يسمى اللاشعور، وكل هذا له علاقة بوظائف الوعى والنوم، وسوف نتناولها فيما بعد.

الطالب: لقد علمت كثيرا عن الإدراك والانتباه، ولكن ثارت عندى أسئلة أكثر وأنت تبدو عليك العجلة والرغبة فى الإيجاز.

المعلم: حجم العمل وهدفه يفرض علينا ذلك، ولكنى احتراما لذكائك سأسمح بسؤال أخير واحد.

الطالب: تذكرت لتوى الطفل حديث الولادة، وتعجبت كيف ينتبه وكيف يدرك، وهو يولد ومخه فارغ من كل شئ، فهو ينزل إلى هذه الدنيا وليس عنده أدنى فكرة عنها -أليس كذلك-؟

المعلم:الله الله!!! سمحت بسؤال أخير واحد، فإذا بك تسأل سؤالا يحتاج لإجابته إلى كتاب بأكمله، لأنه يتعلق بمشكلة الوراثة وماذا نرث على وجه التحديد، هل نرث استعدادات فحسب، أم نرث ذخيزة معلومات أجيال سابقة؟ وهل الخبرات المكتسبة والمعلومات المخزونة تورث، وبأى صورة؟ وإلى أى مدى؟ وقد اختلف العلماء فى ذلك، ومازالوا يختلفون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وسوف نعود إلى احتمال وراثة الخبرات والعادات المكتسبة عندما نأتى لموضوع التعلم، المهم دعنا نقفل هذا الباب الخطير، وأعدك بالحديث عن ما سألت متى سنحت الفرصة.

الطالب: طيب،؟ أنا أريد أن أعرف الآن هل يولد الطفل ومخزون عقله فيه معلومات جاهزة تعينه على التعرف على العالم، أم لا؟

المعلم: الأرجح عندى من خبرتى الشخصية والكلينيكية وقراءاتى ان الطفل يولد وعنده كم هائل من مخزون معلومات ولكنها ليست مميزة ولا مفصلة ولا محددة ولا مسماه، وقد حاولت فى أعمال أكبر أن أسميها باسم القـَـبـْـمـُـدْرك  Preconcept (أى قبل المدرك .. أى قبل الإدراك)، وكنت أعتقد أنها قريبة جدا من شئ مماثل وصفه عالم أحبه وأحترمه اسمه أريتى([6])، وكل ما أريدك أن تعرفه فى هذه المرحلة مما يمكن أن نختم به حديثنا عن الإدراك هو هذه الاحتمالات المرجحة:

1- يولد الطفل وعنده ذخيزة هائلة من معلومات متداخلة وغير مميزة.

2- مصدر كتلة (أو كتل) هذه المعلومات الغامضة هو الوراثة التى تشمل احتمال انتقال خبرات جيل بل أجيال سابقة.

3- تعتبر الوراثة ذاكرة جينية Genetic Memory وهى ذاكرة الأجيال Generation Memory (ولك أن تنزعج من تضاعف مسئوليتنا نحو الأجيال القادمة إذا صح هذا الاحتمال).

4- من خلال تفاعل الطفل مع البيئة تتشكل كتل “القـَـبـْـمـُـدْرك” فى معالم استجابية مميزة Specific Responsive Qualities ولكنها غير ملفظنة بعد Not Yet Verbal ولا تمثل مفهوما Concept بذاته.

الطالب: قبــ.. ماذا؟

المعلم: قبمدرك أى قبل المدرك، أى الكيان الغـُـفـْـل الذى لم يتشكل بعد إلى مدرك محدد (هامش 26 أيضا)

الطالب: ثم كيف يتشكل القبمدرك إلى مدرك؟

المعلم:

5- تتزايد عملية التمييز من خلال تفاعل المخزون مع البيئة وتخليق معلومات جديدة تستقبل المثيرات وتتخلق الأسماء (أو ما يقابلها!!) حسب لغة الطفل التى تصادف نشأته فيها.

6- تتطور بذلك عملية الترميز Symbolization فى الإدرك ثم فيما بعد فى التفكير.

7- يمكن بعد ذلك أن نرى الإدراك بصورته التأويلية المعرفية والتى تشمل إعطاء الأشياء اسماءها ومعانيها التى يمكن للغة أن تعبر عنها أو تظل معرفة غامضة فاعلة مفيدة.

8- تظل عملية الإدراك بعد ذلك تتراوح بين مزيد من ثتبيت العملية المعرفية الرمزية التأويلية من ناحية وبين مزيد من تمييز الكتلة “القـَـبـْـمـُـدْركية” الجاهزة باستمرار لمزيد من التميز، وتتفاعل العمليتان معا لتعديل الرموز المعرفية للمرحلة السابقة باستمرار، بل وتخليق رموز جديدة لمعان جديدة (وهذا هو الإبداع).

الطالب: عندك عندك، كنت أتصور أننى أتابعك حتى الفقرة الأخيرة، ولكن اسمح لى أن أسأل: عن أى إبداع تتكلم؟

المعلم: إنى آسف والله العظيم، ولكنى استسمحك أن تصبر علىّ، وأوافق ألا تستسلم إلى أية معلومة بذاتها وكأنها نهاية المطاف، بل تجعلها محطة يمكن أن ترجع إليها باستمرار، كما أتمنى أن تكون الاحتمالات المرجحة ولو على مستوى الفروض أكرم لعقولنا من الاستسلام لتفاصيل سطحية فى دعة الواثقين – حتى ولو بدت حقائق ظاهرة.

الطالب: ماذا لو أننى تركت ما تسميه التفاصيل السطحية، ثم جاء الامتحان منه؟!

المعلم: التفاصيل السطحية هى مدخل أو بداية، وهى المطلوبة منك فعلا، ولو كان الأمر بيدى لامتحنتك فى “الاحتمالات المرجحة” أكثر من التفاصيل السطحية، لأعرف كيف تفكر.

الطالب: لا ياعم يكفينا الله مخاطر أمنياتك.

المعلم: وهو كذلك، ولو مرحليا حتى أستدرجك أو استدرجهم.

[1]– فى كتابى “الأساس فى الطب النفسى” الذى نشر مسلسلاً فى النشرة اليومية فى موقعى الإلكترونى الخاص وقد احتل موضوع “الإدراك” مئات الصفحات، (الحجم الكبيرA 4 )، ولم أكن أعلم أنه بلغ هذا الحجم إلا الآن، وبصراحة لم أحاول أن أرجع إليه أصلا، وأنا أراجع هذا الباب وكل ما عدّلت أو أضفت، وهو فى حدود ما جاء فى المقدمة قررت أن أنشره ورقياً، وعلى من يريد أن يرجع إليه فى الموقع فهو متاح لمن شاء www.rakahwy.net

[2] – الرؤية الموضوعية، أى رؤية الأمور كما هى، هى بعض هدف التطور البشرى والوجود البشرى، حتى أنها كانت دعوة بعض المتصوفة مثل العارف السيد “أحمد البدوى” الذى كانت دعوته: اللهم أرنى الأمور ” كما هى” دليل قصوره عن ذلك.

[3] – الجلل: الشئ الكبير العظيم والشئ الصغير الحقير ( المعجم الوسيط).

[4] – ديوان “سر اللعبة” للمؤلف: علم السيكوباثولوجى نظماً بالعربية: دار الغد للثقافة والنشر – القاهرة 1978.

[5] – كان ذلك أيام الطبعة الأولى قبل أن تتعدد قنوات التليفزيون وتتوحش موجات و أساليب الإعلان.

[6] – Silvano Mrieti عالم جهبذ! وصديق علم على الورق، وطبيب نفس فيلسوف، لم ياخذ حقه فى ما أحدث من ثورة علمية، وإن كان قد نال حقه فى المكانة الاجتماعية العلمية دون انتشار فكره الخاص وفاعليته.

Arieti, S. (1976) The Intrapsychic Self: Feeling and Cognition In Health and Mental Illness. Abridged Edition. New York: Basic Books.

وقد وصف هذا العالم ما يقابل ما أسميته أنا القـَـبـْـمـُـدْرك وصفه بكلمة Endocept وقد بين أنه يعنى به “المدرك الكلى الداخلى” تميزاً عن المدرك الحسى Percept وعن المفهوم Concept

الفصل الرابع: التعلم

الفصل الرابع: التعلم

الفصل‏ ‏الرابع 

التعلم

الطالب: لم أعد أستطيع أن أميز ماذا علىّ أن أعرفه للامتحان مما أعرفه لنفسى

المعلم: أنت تعلم أنه بودى لو تعرف كل ما أعرفه ومالا أعرفه.

الطالب: أنت تفتح شهيتى للمعرفة، فأبتعد عن المقرر والامتحان أنت مسئول؟

المعلم: وهو كذلك، مسئول أمام الله وليس أمام العميد، أنا آسف، صبرّك الله علىّ، ماذا تريد؟

الطالب: هل التعليم هو هذا الذى يجرى فى المدارس والجامعات؟ إننا هنا فى الجامعة تابعيين لوزارة “التعليم العالى”، أو لعلهم ضمونا إلى “التربية والتعليم” لست أدرى ولكن هو كله تعليم والسلام، فهل هذا هو ما يقصده علم النفس بما هو تعليم؟

المعلم: عندك عندك، نحن نتكلم عن التعلـّـم([1]) بمعناه الأوسع، وهو يشمل كل جوانب الحياة منذ الولادة حتى الموت، أما التعليم فى المدارس أو الوزارة فهو تعلم مقصود ومخطط له..، وهو نوع خاص من تنظيم التعلم، كما أن التذكر (والذاكرة وما إليها) هو نوع خاص أيضا من الاستفادة من التعلم بهدف الاحتفاظ بالمادة المتعلمة فى الذاكرة، لاستعمالها عند اللزوم وإن كان التداخل بين كل هذا وبعضه شديدا جدا.

الطالب: تداخل؟ تداخل؟ كلما حاولت أن أمسك بوظيفة أو بظاهرة وأحددها قلت لى تداخل، أريد شيئا متميزا مثلما يتميز العصب بلمعانه الأبيض وسط العضلات فى التشريح يا عمنا.

المعلم: صبرك، ألم نتفق منذ البداية أن علم النفس هو فسيولوجية المخ على المستوى الأعلى “كوحدة كلية”، فكيف تريد أن تفصلها إلى أجزاء محددة مثل العضل والأعصاب؟ أنت بذلك تفتعل هذ الفصل تعسفاً.

الطالب: لابد من الفصل حتى استطيع أن أحفظها يا سيدى، أذاكرها، أصمـّـها، وأستعيدها دون أن تضرب معى لخمة.

المعلم: صحيح، ولكن هل ترضى أنه من أجل أن تحفظ وتسـمـِّع، تختزل الحقائق حتى تشوِّهها، ولكن العيب ليس عيبك، العيب عيب طريقة التعليم التى علمتنا حفظ الأجزاء منفصلة تماما عن بعضها البعض دون إطار كلى يجمعها، حتى كادت عقولنا ذاتها أن تتفصد إلى أجزاء منفصلة بعضها عن بعض، ما علينا ماذا تريد؟

الطالب: لم تـَـدَعْ لى أن أريد، ماذا تريد أنت أن تقول؟

المعلم: أريد أن أقول:

– إن حياتنا كلها تعلـّم فى تعلم.

– وأن الذى يكف عن التعلم هو الميت، الميت فعلا، أو الميت الحى.

– وأننا نتعلم الحسن والخير والمفيد مثلما نتعلم القبيح والشر والمـُـضـِـر.

– وأن التعلـّـم الحقيقى هو الذى يغير الإنسان، ليس فقط فى سلوكه، ولكن فى تركيبه أيضا.

– وأن التعلم بهذه الصورة قد بدأ مع بداية الحياة، فهو ليس قاصرا على الإنسان.

– وأن التعلم – للبقاء – قد يكون هو صانع الحياة، فالقول بأن “العمل هو صانع الإنسان” عبر التاريخ يشمل أن العمل علـَّـم الأحياء منذ البداية كيف تحافظ على بقائها، بل كيف تطور نوعها لتتكيف مع المتغيرات حولها، فتغيرت فنمت وتحورت، وظهرت لها أعضاء جديدة لتسد حاجات جديدة وتحقق غايات قادمة، ونمو الأعضاء هو تغير فى التركيب الحيوى بما فى ذلك نمو المخ وهو أرقى مرحلة ويمثلها الإنسان وهو تعلم فى تعلم.

الطالب: أستغفر الله العظيم، استغفر الله العظيم.

المعلم: ماذا ألم بك، لماذا تستغفر الله ونحن فى مجال عبادته فى محراب طلب العلم؟

الطالب: ألم تقل أن العمل هو صانع الإنسان، أليس الله هو الصانع الأعظم للإنسان وغير الإنسان.

المعلم: استغفر الله العظيم أنا هذه المرة! وهل أنا قلت غير ذلك.

الطالب: نعم، أنت تقول إن العمل صانع الإنسان

المعلم: ومن الذى ألهم الأحياء قوانين البقاء وبرامج العمل والتكيف والتطور أليس هو الله يابنى

الطالب: هه..؟ هه؟ نعم ..! صحيح .. ربما!!

المعلم: من أخافك هكذا يابنى؟ أهناك ما يمنع أن يكون العمل هو صانع الإنسان، وأن يكون التعلم هو محور بيولوجية الأحياء؟ هل يمنع هذا وذاك من أن يكون ذلك كله بإرادة الله وفضله؟ ألم أحذرك منذ البداية حين سألتنى عن ما إذ كانت النفس هى “الروح” من أن نتكلم فيما هو من أمر ربنا إلا فى حدود معارفنا، وأن الروح من أمر ربنا، فإذا اقتربنا منها فقد ترتفع الأصوات بأن دراستها حرام، إسمع يا أيها الشاب الذكى: ثق تماما أنه لا يوجد عالم يحترم عقله البشرى، ويحترم علمه، ويحترم جهله، ويحترم قصوره، يرضى بأن يتجرأ على مجال متناسق بطبيعته يغذى الطبيعة البشرية ويساهم فى تنظيم تدافعها وتكاملها وهو الإيمان، ولا يوجد عالم يحترم علمه ويعبد ربه يقبل أن يؤكد الدين أو يفسر الدين بعلمه الناقص العاجز، كذلك لا يوجد رجل دين (وهذا تعبير تقريبى لأنه ليس للدين رجال مختصون لهم الحق فى هذا الاسم، وخاصة الدين الاسلامى) يقبل أن يعترض على حقيقة علمية أو اجتهاد علمى أو فرض علمى، لأنه خالف نصا اجتهد هو فى تفسير ألفاظه، إنهما خطان متوازيان فلا تـَـعـُد إلى مثل هذا يابنّـى، أبدا..، لو سمحت، هل أنت فاهم؟

الطالب: ليس تماما لأنك نبهتنى منذ قليل أن أضع معلوماتى كلها فى إطار واحد حتى لا يتجزأ مخى إذا أنا جزَّأت معلوماتى، فكيف أفصل معلوماتى من الدين عن معلوماتى من العلم، ألم تعلمنى أن هذا هو الانشقاق بعينه.

المعلم: سوف تخرجنا عن الموضوع، ولكنى سعيد بنقاشك هذا حتى لو أبعدنا عن الموضوع، يا إبنى: طالما أن المعلومات ناقصة فى العلم، وأن للتفسير أوجه فى الدين، فالإطار الذى يجمعهما هو تكامل الإنسان وسعيه إلى التآزر مع الكون الأعظم كما يقول العلماء الحقيقيون، وبالذات دعاة علم النفس الإنسانى الذى يبدو أنه تطور إلى علم النفس عبر الشخصية Transpersonal Psychchology وهو أقرب إلى ما يصفه المؤمن الكادح بأنه السعى إلى وجه الله، وهو ما يقابل أكثر فأكثر ما يمارسه العارفون المتصوفون الإيجابيون، حين يصفون طريقهم فى السعى إلى التكامل (لا الكمال) والإسهام فى الارتقاء نحو ما هو أحسن باستمرار، العلم والدين يابنى يثرى بعضه بعضا ولا يفسر بعضه البعض الآخر، وكل اختلاف بينهما هو اختلاف مظهرى نتيجة لقصور وسائل العلم وعجز تفسير ألفاظ الدين، هل فهمت أو تعلمت شيئا؟

الطالب: يعنى! فما هو التعلم حتى أعرف إن كنت تعلمت شيئا أم لا؟

المعلم: يعرفون التعلم بأنه:

1- ” العملية التى تحصل بها على المعارف والاستجابات الجديدة”

2- وأنه “تغير فى السلوك نتيجة للخبرة والتجربة”

وكلا التعريفين صحيح، ولكن يبدو أنى طماع بعض الشئ فأريد أن أضيف شيئا.

الطالب: هيا اضف، فرصة!! فلن تجد مستمعاً مثلى لماذا تأتى حتى هنا وتتردد؟ أضف أضف يا عمنا وتوكل.

المعلم: إن ما أضيفه ليس حذقا شخصيا، ولكنه نابع من خبرتى فى العلاج النفسى عامة وفى العلاج النفسى الجمعى خاصة.

الطالب: وما علاقة التعلم بالعلاج النفسى والمرض النفسى الآن؟

المعلم: ألم نقل أن التعلم شامل لكل نواحى الحياة، إن هناك من يفسر المرض النفسى على أنه تعلم ضار على مستوى الجينيات (الوراثة) وعلى مستوى الفرد (البيئة)، وأنا أميل إلى هذا الرأى صراحة، وقد رأيته بعينى مباشرة فى الممارسة الاكلينيكية وخاصة من خلال العلاج النفسى، الجمعى بالتحديد كما ذكرت حالاً.

الطالب: دع الطب والعلاج وخلـّـنا فى علم النفس الآن إعمل معروفاً.

المعلم: أقول إن التعلم على المستوى الإنسانى هو العملية التى تتميز (تصبح مميزة) بها كتلة استعداداتنا، ويتغير بها سلوكنا، وقد يتغير بها تركيبنا على المستوى الأعمق، لنمضى فى حياتنا أكثر كفاءة، وفى بيئتنا أكثر تلاؤما، وننقل للأجيال من بعدنا خبرات أنفع ارتقاء.

الطالب: الله اللله.. ألم تقل أن المرض تعلم، وأننا نتعلم الشر والخيبة مثلما نتعلم الخير والنجاح؟

المعلم: أى نعم.. عندك حق هذه واحدة علىّ، دعنا نضيف:

الطالب: نضيف؟ ثانى؟!

المعلم: ولم لا، نضيف ما يلى: “.. هذا فى الأحوال السوية، ولكنه فى ظروف سيئة قد يحدث التعلم (التغيّر) إلى الأسوأ والأعجز”.

الطالب: أربكتنى، فماذا هو التعلم بعد الحذف والإضافة؟

المعلم: دعنا نقول بإيجاز: التعلم هو التغير فى السلوك أو التركيب من خلال الخبرة والممارسة والتفاعل والفعل.

الطالب: هذا تعريف قصير، أنا أفضله لأنى أستطيع أن أصمـّـه.

المعلم: يا ذى المفاجأة أيها الذكى، هل بعد كل هذا تفضّل ما يسهل صمّـه للتسميع؟

الطالب: طبعا، فأنا تعلمت من ذكائى الذى أدخلنى الطب أنكم ستحاسبونى على الألفاظ، بالله عليك: إذا أنا لم أستطيع التعبير، هل تعطينى درجات على الفهم، وكيف ستقيس درجة فهمى إذا لم أصمّ وأكرر؟

المعلم: ولكنى واثق أنك فهمت، وهذا سيسهل الصم لو أردت.

الطالب: يخيل إلىّ أن الصمّ يحول أحيانا دون الفهم

المعلم: أحيانا، ولكنه يمكن أن يكون إيجازاً وتحديدا يحول دون التشتت دعنا من هذا النقاش الذى لا ينتهى وهيا نتعلم من مجرد تجارب لطيفة، ومعلومات مختصرة ثم بضعة تطبيقات فلا تبتئس، وخذ عندك بعض ملامح عن “ماذا نتعلـّـم”:

(أ) تعلم المكان: فقد وصفوا فأرا جائعا فى متاهة The rat in the maze ذهب يبحث عن قطعة جبن المرة تلو المرة وفى كل مرة تالية ينجح أفضل ويوفر وقتا أطول إذ يصل أسرع، ثم غمروا المتاهة بالماء، فعرف الفأر طريقه أيضا برغم ما عمـِـلوا، فاكتشفوا أنه تعلـَّـم المكان…. واستعمل الفأر فى ذلك ما أسموه “طريقة المحاولة والخطأ”.

(ب) تعلم الشئ: وبنفس الصبر والمحاولة وضعوا قطا فى قفص من أعمدة متباعدة The Cat in the Puzzle Box ووضعوا شملة “سلمون” خارج القفص واستطاع القط بالمحاولة والخطأ أيضا أن يعرف شكل الأنشوطة (الحبل المدلى) الذى يجذبه فيفتح الباب واستنتج العلماء أن القط تعلم الشئ هذه المرة.

الطالب: بالذمة هل هذا كلام؟ هل يحتاج الأمر إلى هذه التجارب كلها لأعرف أن التعلم يشمل تعلم المكان ونعلـّم الشئ، أليس هذا مضيعة للوقت؟

المعلم: بصراحة معك حق، ولكنهم يقولون أن العلم علم، ولكى تثبت ما ترى عليك أن تجرى التجارب.

الطالب: وهل إذا أجرينا التجارب على الحيوانات هكذا يمكن أن ننقل نتائجها للإنسان؟

المعلم: قد نستطيع أن نهتدى إلى المعالم الرئيسية بلا شك

الطالب: مثل ماذا؟

المعلم: خذ عندك مثلا فى تعلـّم الآلة الكاتبة أو عزف البيانو ألا نتعلم أولا أماكن الحروف وأصابع النغمات؟

الطالب: يحدث

المعلم: هذا هو تعلـّم المكان.

الطالب: وقس على ذلك!!

المعلم: يا لذكائك الجميل فى تعبيرك: نعم، و”قس على ذلك”، نعم نعم وفى كل المهارات.

الطالب: وهل يجرى التعلم بنفس السرعة من البداية للنهاية.

المعلم: طبعاً لا .

الطالب: إذن كيف يسير الأمر .

المعلم: اسمع يا سيدى:

(أ) يبدأ التعلـّم متعثرا غير منتظم يتراوح بين التقدم والتأخر وتصاحبه يقظة وعى مركز.

(ب) ثم يتقدم حثيثا ويقل التركيز الواعى إذ يصبح عادة، أو أقرب إلى العادة، ويظهر هذا  بوضوح فى تعلم قيادة السيارة أيضا إذ بعد مدة تصبح عادة وتجرى القيادة والنقل بطريقة انعكاسية تلقائية.

(جـ) ثم يزداد التقدم ولكنه عادة ما يتوقف عند مرحلة حسنة ويبدو كأن المتعلم وصل إلى غاية ما يمكن، ويسمى هذا التوقف الهضبة Plateau، وبعدها تزداد المهارة ثانية، وهذا هو المنحنى الأول للتعلم.

(د) وقد يبدأ التعلم بطيئا لمدة طويلة ثم تتزايد سرعته بخطوات أسرع فأسرع، وهذا نوع آخر من منحيات التعلم.

(هـ) وقد يبدأ التعلم سريعا فى البداية ثم تتناقص سرعته بانتظام وهذا نوع ثالث.

الطالب: هذه معلومات محددة وطيبة ولكن كيف أفيد منها؟

المعلم: يا سلام عليك، لماذا تخص علمى بالذات بأن تفيد من كل معلومة أعطيها لك أولا بأولاً وتكاد تحرجنى؟ إنك لو سألت هذا السؤال فى كل معلومة تعطى لك فى سائر العلوم لما ذاكرت شيئا ولعرفت أن أكثر من 50 % مما تدرس ربما يثبت أنه تزيـّد لا لزوم له، وربما كانت فائدته – لهم – هو أن يشغلك عن التفكير فيما هو أهم.

الطالب: نعم؟ نعم؟

المعلم: ماذا يا أخى؟ فوّت لو سمحت وتصور أنى أداعبك من غيظى، دعها تمر، إسمع يا سيدى بعض الفوائد لعلك تسكت عنى:

– أنت شخصيا حين تجد بدايتك لتعلم شئ ضعيفة وبطيئة، فلا تيأس وعليك أن تواصل، فلعلك تكون من النوع الذى سرعان ما سينطلق فيما بعد.

– ثم عليك أن تذكر ذلك وأنت تحسد زميلا لك يبدأ فى التعلم بسرعة هائلة بالقياس لك حتى يكاد “يعقـّـدك” كما تقولون، فربما كانت بداياته شديدة التقدم، ثم تتباطأ سرعته بعد ذلك، فتلحق به أنت أو غيرك.

– وإذا توقف تقدمك فجأة وحسبت أنه لا طائل من استمرار التعلم بعد ذلك، تذكر أنك قد تواصل السعى رغم ما يبدو من أنك “تركن” فوق “الهضبة” التى أشرتُ إليها لتوى، وهكذا فإن معرفتك تطمئنك وتجعلك تستمر وتصبر ثم تجد نفسك وقد عاودتَ (الصعود) التقدم حثيثا بعد ذلك.

هذا ويمكن تطبيق كل ذلك على مرضاك وهم يتعلمون عادات الشفاء أثناء العلاج.

الطالب: عادات الشفاء؟ وهل الشفاء عادة؟ والمرض؟ هل هو عادة أيضا؟

المعلم: نعم نعم، إن كثيراً مما يسمى العلاج السلوكى إنما يهدف إلى تغيير السلوك والتركيب إلى أساليب أكثر نفعا، يمكن تصور العملية العلاجية كنوع خاص من التعليم بلا أدنى شك، وقد شاع مؤخراً بشكل شبه تجارى تحت ما يسمى “التنمية البشرية” حتى للأسوياء أما تعلم المرض، فإن كثيرا من الأمراض المزمنة تستقر على مستوى من الإعاقة نتيجة لتعلم مواجهة الحياة بما يقدمه المرض من حلول سلبية، فنحن نواجه المرض وقد أصبح عادة فى حالات الإزمان، وكأن التعود على السلوك المرضى هو نوع من التعلم حتى لو كان سلبياً..

الطالب: أنت تخاطب طبيباً نفسياً وليس طالباً، أنا أريد ما يفيدنى شخصياً فى الامتحان.

المعلم: ألم يصلك حتى الآن ما له علاقة بالامتحان؟ ألا يشجعك ما ذكرنا على استمرار الاستذكار وألا تيأس من تباطؤ التقدم، ولا تفرح بالمندفعين فى البداية ولا تصاب بخيبة الأمل إذا توقفت بعد فترة، إذ يمكنك أن تطمئن دائما أنها فترة مؤقتة، أليست كل هذه هى أنواع التعلم التى ذكرناها حالا.

الطالب: وهل يسرى ذلك على كل أنواع التعلم؟

المعلم: إنه يسرى على تعلم المهارات والعادات بوجه خاص، وهذه مرتبطة إلى حد كبير بالتعلم الشرطى .. ولو تداخلت معها عوامل أخرى وأنواع أخرى.

الطالب: فما هى الأنواع الأخرى، بل ما هو هذا النوع الشرطى أولا؟

المعلم: فى الحقيقة أن التعلم الشرطى هو أشهر أنواع التعلم، وفكرته شديدة البساطة، قيل أنها نشأت فى معمل العالم “بافلوف” فى روسيا حوالى سنة 1900، ولكنها أقدم من ذلك بكثير جدا، لأنها هى أساس هام للتعلم منذ بدء الخليقة، فقد لاحظ بافلوف أن لعاب كلاب معمله تسيل حين يصلها صوت وقع خطواته إذ يحضر لها الأكل فى كل مرة، ثم لاحظ أنها تسيل متى سمعت وقع خطواته حتى لو لم يحضر لها الأكل وسمى هذا الارتباط، بالارتباط الشرطى.

الطالب: ولكن أليس هذا هو الذى يسيل لعابنا ونحن نسمع أصوات الملاعق إذ نعد المائدة، أليس وقع أقدام صديقتنا القادمة من بعد هو الذى يسعدنا قبل أن نراها، أليس هذا هو الذى يرسم البسمة على وجه طفل حين يسمع صوت أمه ويميزها عن غيرها … فما الجديد فى كل ذلك؟

المعلم: فتح الله عليك يا شيخ، كنت أنوى أن أعدد لك كل هذه الأمثلة فى الحياة العادية، ولكنك وفرت علىّ ذلك، أما الجديد فى ذلك فهو “أن الظاهرة العادية” أصبحت علما قابلا للدراسة.

الطالب: وماذا أضافت لنا هذه الدراسة؟

المعلم: أضافت الكثير أو قل أوضحت الكثير، أضافت مثلا أنك إذا توقفت عن إعطاء المثير الثانى (وقع الأقدام ويسمى المثير الشرطى Conditioned Stimulus) فإن الاستجابة الشرطية (سيلان اللعاب)  Conditioned Response تتوقف بعد فترة ويسمى هذا بالانقراض Extinction ، وقد أثبت بافلوف هذا، وقد استبدل وقع أقدامه بصوت جرس وحصل على نفس النتيجة.

الطالب: ولكن هذا بديهى.

المعلم: ما هى الحكاية؟ كلما أقول لك شيئا تقول لى بديهى، إن هذا مما يؤكد أن علمنا علماً.

الطالب: هل يكون العلم علما حين يُثبت البديهيات.

المعلم: يثبتها، ويقننها، ويعطيها أسماء، ويؤكدها، ويطمئن إليها فتصير علماً.

الطالب: يعنى يعقد الأمور على الفاضى.

المعلم: لماذا على القاضى، يا أخى إن هذه خطوات ضرورية لتبادل المعرفة.

الطالب: ولكن الإنسان يتبادل المعرفة من قديم، ويتعلم بنفس الطريقة التى جئت لتسميها الآن الارتباط الشرطى والانقراض، ولم يفته شىء لما كانت بلا اسم، بل لعل العكس هو الصحيح.

المعلم: العكس؟ هل تعنى أننا نتعلم أسرع إذا لم نعرف ما هو التعلم؟

الطالب: ولم لا؟

المعلم: لن أدخل معك فى مناقشة هذه التفاصيل قبل أن أنهى هذا الحديث، فهناك ظاهرة هامة أسمها “التعميم” Generalization تكمل خطوات التعلم الشرطى، وربما تعتبرها بديهية أيضا، ولكن لنعرفها حتى تكمل.

الطالب: وما هى؟

المعلم: يا سيدى إن أى مثير يشبه من قريب أو من بعيد المثير الشرطى قد يحدث نفس الاستجابة الشرطية.

الطالب: قبل أن نستطرد، لقد تحدثت عن المثير الشرطى، فما هو المثير غير الشرطى (Unconditined Reaponse).

المعلم: هو المثير الأصلى وهو فى حالتنا التجريبية هذه مع إطعام الكلاب: هو الطعام.

الطالب: فماذا عن “التعميم” الذى تريدنى أن اعرفه.

المعلم: قلت لتوّى إن أى مثير يشبه المثير الشرطى قد يحدث نفس الاستجابة، والمثل العامّى الشائع لذلك هو: “إن الذى لدغه الثعبان يخاف من الحبل”، وأيضا هناك مثل أرق يقول: “اللى اتلسع من الشوربة ينفخ فى الزبادى”، وأغلب حالات المخاوف المرضية المسماة بالرُّهاب Phobias قد ترجع إلى هذه الفكرة.

الطالب: إن هذا يفسر قولك أننا نتعلم المرض كما نتعلم الصحة.

المعلم: ياسلام!! هكذا تفتح نفسى وأفرح بذكائك.

الطالب: أقتنع بالتدريج أنك حين تتكلم عن المرض والعلاج وهذه الأشياء العملية أجدنى منتبها أكثر، ومشتاقا للسماع أكثر.

المعلم: إطمئن فنحن لو فتحنا باب استعمال هذه المبادئ فى العلاج لوجدت فيضا من المعلومات تجذبك وتصحصحك ([2]).

الطالب: هاتها يا شيخ ودعنا من الكلاب واللعاب.

المعلم: ماذا؟

الطالب: ماذا؟ ماذا!! أتفكه أنا أيضا مثلما كنتَ تفعل أنت.

المعلم: حاضر يا سيدى: إسمع عندك وأجل أسئلتك حتى أنتهى من التعداد لو سمحت: أما بالنسبة لحدوث المرض وتطوره:

1- إنه مهما اختلفت بداية أى مرض نفسى أو تعددت أسبابه فإن إزمانه واستمراره واستتبابه تدخل فيه العادة، وتعوّد العادات المرضية هو تعلم سلبى

2- إن الذى يصاب بأذى من موقف بذاته (مثل ضربه أبوه له فى الصغر ظلما دون سبب او تفسير)، قد يواصل الخوف من المواقف الشبيهة طوال حياته (الخوف من السلطة مثلا) وقد يزيد مثل هذا الخوف إلى درجة المرض حين يعجـِّز الإنسان أو يعوقه أو يشوشه أو يتناثر بسببه.

3- إن الذى يرتبط خوفه بمثير بذاته فى وقت ما، قد يمتد خوفه إلى مثيرات مشابهة، وهذا ما نلاحظه بالذات فى الخوف من الأماكن الضيقة والمغلقة مثل المصاعد (الأسانسيرات) وما إليها.

هل أكمل أم أكتفيت؟

الطالب: فى الحقيقة أنا أمنع نفسى من مقاطعتك بالعافية، لقد فهمت أن التعلم الشرطى هو الذى يثبت العادة التى تفيد وتنفع، فلماذا يتثبت المرض بالعادة، وهو لا يفيد ولا ينفع؟

المعلم: عليك نور، أولا نحن لم نقل إن ما يفيد هو الذى يثبت فقط، ثانيا إن ما يضر فى الظاهر، وهو” عادة المرض” مثلا، قد ينفع – أعنى يبدو وكأنه ينفع – على مستوى آخر أكثر غورا فهو يحقق أهدافا بعينها مثل: التخلى عن المسئولية، أو تبرير الاعتمادية الطفلية وهكذا .. فهو نافع للاستمرار على تعود المرض ربما لمواصلة تحقيق الغاية السلبية التى هدف المرض لتحقيقها بظهوره أصلا، ثم تتواصل المكاسب المرضية السلبية، وهذا ما يسمى المكاسب الثانوية للمرض.

الطالب: ولكن كيف يفضل المرء أن ينمى طفولته واعتماديته، على حساب صحته وكفاءته؟

المعلم: لأنه مريض؟ وحساباته اختلت.

الطالب: آه .. لقد نسيت.

المعلم: ثم إن للانسان تركيبا شديد التعقيد، وحسابات النفع والضرر تتم على مستويات مختلفة، وهى حسابات صعبة وليس هذا مجال تفصيلها الآن، ولكن لتعلم أن بداية ظهور المرض النفسى بأعراضه النشطه هو محاولة حل، على مستوى مهزوز، إنه “صـُـفـّـارة” إنذار لما هو أسوأ، مثلما أن ارتفاع الحرارة فى الحمى ليست هى المرض ولكنها إعلان عن المرض وإنذار بوجوده وأحيانا إسهام فى التغلب عليه، فإذا أهملنا هذا أو ذاك ولم نحسن الاستماع إلى الإنذار المبكر أو المبدئى تمادت البدايات إلى مراحل أخطر ومضاعفات وإعاقات أشد.

الطالب: وهو كذلك، فحدثنى عن بضعة أمثلة أخرى من العلاج هل عندك أمثلة تطبيقيقة تسهل علىّ الأمر.

المعلم: دعنى أقول لك أنه لا يكاد يوجد أى علاج، إلا وفيه تعلم وتعليم.

الطالب: أى علاج ؟!!

المعلم: نعم أى علاج، صحيح أن هناك نوع خاص من العلاج اسمه العلاج السلوكى Behaviour Therapy  وقد أشرنا إليه منذ قليل، وهو علاج، يستغل فكرة التعليم فى العلاج إلى أبعد مدى، والتعليم الشرطى بوجه خاص، وهو نوع نافع تماما، ورغم أساسه البسيط فإنه أعمق بكثير من مظهره، ولكن أى علاج غير ذلك فيه تعليم وتعلم بلا أدنى شك.

الطالب: بما فى ذلك إعطاء الدواء والصدمات والتحليل النفسى؟

المعلم: بما فى ذلك الأدوية والصدمات والتحليل النفسى.

الطالب: لقد تحدثنا عن التعلم بالتجربة والخطأ (فى حكاية الفأر والقط) ثم تحدثنا عن التعلم الشرطى؟ فهل هناك فرق بينهما.

المعلم: لا شك أن هناك ترابط شديد بينهما فالطريق الذى لا يؤدى إلى الطعام يـُـستبعد، وهذا يشبه الاستبعاد Extinction فى التعلم الشرطى، والطريق الذى يؤدى إلى الطعام يُدَعْم وهذا هو التدعيم Reinforcement فى التعلم الشرطى أيضا.

الطالب: لم تذكر لى حكاية التدعيم هذه قبل ذلك.

المعلم: لا، لقد ذكرتها، وربما لم أشر إليها مباشرة فى حوارنا وعموما فالحكاية بسيطة، إن أى دعم للتشريط (الارتباط الشرطى) هو تكرار نفس الخطوات التى بدأ بها التشريط – ولكن بإيجاز – فتتأكد، وتظهر ظاهرة التدعيم أكثر بعد الاستبعاد Extinction، لأنه بعد اختفاء الاستجابة الشرطية بالزمن أو بالتنفير القامع، يكفى أن يعطى المثير الشرطى الأول مرات قليلة جدا – أقل كثيراً من التشريط السابق – ليعود الارتباط الشرطى فورا.

الطالب: وما حكاية التنفير القامع Suppressive Deconnditioning هذه.

المعلم: إنه يعنى إعطاء مثير منفـِّـر بدلا من المثير الأصلى ليلغى التشريط الأول، لذلك يسمى أحيانا إلغاء التشريط Deconditioning وفى المثال الأول يعطى الكلب صدمة كهربائية بدلا من العظم والغذاء فور سماعه وقع الأقدام (أو الجرس)، فسرعان ما يمتنع سريان اللعاب.

الطالب: رجعنا للكلب؟

المعلم: حاضر .. دعك من الكلب، إننا نستعمل نفس الطريقة فى العلاج، فمدمن الخمر قد يعطى مادة معينة بحيث متى ما شرب الخمر تفاعلت معها وشعر بغثيان مقرف وقئ مؤلم، ويتكرر هذا حتى يكره الخمر، بل إنى سأضرب لك مثلا آخر هو أقرب إلى الفكاهة، فإنهم يزعمون أنهم قد يعالجون الخيانة الزوجية أو الشذوذ الجنسى – إذا اشتكى صاحب هذا أو ذاك منهما وطلب العلاج!!- بأن يعرضوا صورة الرفيقة أو العشيق، أو من يشبههما، مصحوبة بمثير مقرف أو مؤلم حتى إذا رآها الخائن أو المريض فى الحقيقة، جاءه نفس الشعور المنفـِّر.

الطالب: ياساتر، أليس هذا سوء استعمال للعلم.

المعلم: ربما، لذلك نبهت ابتداء أن هذا لا يحدث إلا بناء عن طلب المريض وبموافقته، وله مضاعفات ولكن لا محل هنا لذكرها.

الطالب: ولكن ألا توجد طرق أخرى غير التعلم بالتجربة والخطأ، التى نعرفها أكثر من الحيوانات.

المعلم: أقول لك إحساسى بصراحة ولا تشمت فىّ، الظاهر: إننا نستسهل، فدراسة التعلم فى الحيوانات ونقل ما نجد إلى الإنسان أسهل من التعمق فى تعلم الإنسان، وقبل أن أقول خبرتى فى دراسة التعلم فى حقل ممارستى للطب والعلاج سأذكر لك نوعين يتميز بهما الإنسان خاصة ولكنه لا ينفرد بهما إذ يشاركه فيهما الحيوانات العليا أيضا.

الطالب: نعم يا سيدى دعنا نرى ما يميزنا حتى نبرر فخرنا بنوعنا.

المعلم: صبرك بالله، ينبغى ألا يكون فخرنا باختلافنا عن أجدادنا الحيوانات ولكن بتحويرنا لسلوكهم وتطويرنا له.

الطالب: فكيف حوَّرنا – مثلا – التجربة والخطأ؟

المعلم: أصبحنا نستطيع أن نجرب دون أن نجرب، وأن نخطئ دون أن نتورط ونضيع الوقت ثم نبدأ من جديد؟

الطالب: ما هذه الألغاز من فضلك؟ إنك تجعلنى أترحم على دراستنا المبسطة لطرق تعلم أجدادنا.

المعلم: ألم أقل لك أننا نستسهل، وهأنت ذا تعلن استسهالك، وهذا لن يقربك من دراسة الإنسان.

الطالب: معك .. معك .. هيا فالإنسان يستأهل ..، فكيف أصبحنا نجرب دون أن نجرب.

المعلم: بأن تتم هذه المحاولات على المستوى العقلى فقط (أى دون تنفيذ فعلى) ونحن نستعمل فى ذلك ذكاءنا الذى يشمل الربط بين العلاقات، ودقة الحسابات، وبعد النظر، وبذلك نستطيع من خلال المعلومات التى تعطى لنا أن نتعلم حل المشكلة والوصول إلى الهدف.

الطالب: ولكن هذا تفكير وليس تعلما.

المعلم: يا سلام عليك.. ها نحن قد عدنا إلى تداخل الوظائف، إن هذا النوع من التعلم يسمى التعلم البصيرى Insight Learning ويغلب عليه التفكير باعتباره نوعا  من حل المشاكل، ولكن تكراره ونجاحنا فيه يعلمنا طريقة جديدة لمواجهة الحياة.

الطالب: هاجمتنى الأسئلة، ولكن لنؤجلها إلى دراسة التفكير، أليس موضوع التفكير مقرر “علينا” أيضا؟

المعلم: “عليكم”!! و”ليس عليكم”!، أهذا هو كل ما يهمك؟ طبعا عليكم وعلينا، خلنا الآن فى التعلم

الطالب: بصراحة: يخيل إلى أن هذا “التعلم البصيرى” – غير قاصر على الإنسان؟ وأذكر أنك ألمحت إلى ذلك.

المعلم: نعم .. وقد قام عالم اسمه كوهلر Kohler بتجربة على الشمبانزى إذ وضع (علق) “سباطة” موز فى مستوى أعلى من متناوله وبعد محاولات قليلة من القرد منفردا ثم واقفا على صندوق، جلس الشمبانزى وبدا أنه يفكر وهو ينقل نظره بين الصناديق والموز، ثم وضع القـَـردُ الصناديقَ على بعضها وتسلقها، وكأنه حاول المحاولات الباقية على المستوى العقلى حتى وصل إلى النتيجة واستطاع أن يصل إلى الموز.

الطالب: لقد قلت جلس وفكر، فأين التعلم.

المعلم: إن المحاولات التى وفرها أثناء جلوسه وتأمله هى نوع من التعلم.

الطالب: ياليتنا نضع صناديق الصابون الفارغة فى الجمعيّة فوق بعضها لنصل إلى “السافو” المختفى.

المعلم: برغم برودة النكتة إلا أنك تشجعنى على الاستمرار.

الطالب: ولكن خبـِّـرنى: هل هذا هو كل ما يتميز به الإنسان؟

المعلم: لا بل هناك نوع أخطر لم ينل حظا كافيا من الدراسة، وفى خبرتى الكلينيكية بدا لى أنه آلية ينبغى ألا نرفضها، ولكن ينبغى ألا نـُـسـَـطـِّـحها، فالمنعكس المسمى “نطرة الركبة” Knee Jerk  هو أبسط الأشكال، يعلوه المنعكس الشرطى الذى سخرت منه بقولك “لعبة الكلاب واللعاب”، ولكن هناك المنعكس الدوائرى وهو الرسالة والعائد: Message-Feed Back وهو أعقد ويشمل المعنى والدلالة وأخيرا فهناك ما هو أعقد مما لا مجال لتفصيله ولكنه يدخل فى عمليات المنعكس المؤجل الشامل لخطوات الهضم والولاف والإبداع، مما هو أكبر من هدفنا المتواضع هنا، فدعنا بالله عليك نرجع إلى حديثنا عن نوع من التعلم الذى يتميز به – ولا ينفرد به – الإنسان.

الطالب: وما هو ذاك؟

المعلم: يسمونه التعلم بالمحاكاة.

الطالب: المحاكاة!! ألسنا نقول إن القرد هو الذى يحاكى والببغاء أحيانا تحاكى الصوت، فهل هذا ما تعنى؟

المعلم: فى الحقيقة أنى وقفت أمام اللفظ وهذا النوع من التعلم وقفة طويلة طويلة:

(أ) ذلك لأنه حقيقة نشاهدها فى نمو الأطفال خاصة.

(ب) ومع إنه يبدو ظاهرة شديدة السطحية، إلا أنه فى حقيقته قد يشمل أبعادا أكثر مما يبدو.

(جـ) ثم إنه بالوسائل الحالية الشائعة للدراسة يصعب شرحه وتطبيقه.

الطالب: فمن أين لنا بهذا الحديث عنه؟

المعلم: من خبرتى فى العلاج عامة والعلاج الجمعى خاصة، فهل يروق لك الحديث عن ذلك؟

الطالب: يروق؟ يروق ونصف، ثم إنى بدأت أنتبه أكثر فأكثر حين تتكلم عن ما يميز الإنسان بصفة خاصة، وما يثير استطلاعى ويشوقنى هو أن يرتبط ذلك بتطبيق عملى يتعلق بمهنة مستقبلى، ورسالة وجودى طبيبا حتى لو لم أتخصص فى تخصصك، هات ما عندك، ماذا رأيت فى العلاج فعلـّمك ما هو هذا التعلم؟

المعلم: رأيت أن ما يسمونه “المحاكاة” له ثلاث مستويات على الأقل.

المستوى الأول: هو محاكاة السلوك السطحية المؤقتة فى موقف بذاته، مثل أن يحاكى الطفل وقفة والده، أو صوته غاضبا وهو يخاطب أخاه الأصغر .. وهكذا، وهذه تفيد فى التعلم، ولكن أثرها مؤقت وظاهرى.

أما المستوى الثانى: فهو المحاكاة بالتقمص([3])Identification، وهى عملية تشمل الشخصية ككل وهنا يصطبغ نمط السلوك الكلى بالشخص المحاكِى (أى المـُـتقمص) وهذا يساعد فى أن يكتسب الطفل (أو الآخر) صفات جاهزة تعينه على مواجهة ضغوط أكبر من قدراته الحالية، ولكن هذا التقمص لا يغوص فى داخل الذات حتى يصبح جزءا منها، وهو أعمق من النوع الأول، وأطول مدى، وأشمل مجالا إذ يشمل أكثر من ناحية من نواحى السلوك لا موقفا محدداً بذاته أو خبرة جزئية، أما إذا أصبح الكيان المتقمص جزءاً لا يتجزأ من الشخصية فإنه يصبح نوعا جديدا وهو:

المستوى الثالث: ويسمى التعلم بالبصمImprinting ، وهو مثل التقمص (التطابق) إلا أنه أعمق، وأثبت، حتى ليصبح ليس فقط سلوكا جزئيا، ولا نمطا عاما، وإنما جزءا غائرا فى الشخصية، ويحدث هذا النوع من خلال التقمص أيضا ولكن فى أوقات خاصة يكون فيها النمو نشطا، والذات عارية والتقمص ذو دلالة تحفظ الذات، حيث يتعمق التقمص ويتثبت حتى يصبح بصماً Imprinting (أحيانا يسمى الطبع).

الطالب: لا .. لا .. لا .. لقد زودتها ولم أعد أفهم، ولكن قبل أن أستفسر عما غمض على، هل رأيت كل ذلك فى العلاج كما تقول؟

المعلم: نعم .. رأيته كما أراك الآن، فإذا كنت تذكر طريقة البحث الفينومينولوجى التى أشرت إليها فى أول حديثنا، فهى الطريقة التى أرتنى ذلك رأى العين.

الطالب: لقد فهمت أن الإنسان إذ يواجه البيئة يقلدها سلوكا، أو تلبسه تقمصا، أو تنطبع فيه بصمات غائرة دائمة تقريبا أليست هذه الدرجات التى ذكرت؟

المعلم: شكرا، أنت تحاول معى، هى كذلك، بارك الله فى انتباهك وذكائك.

الطالب: ولكن أين الإنسان الفرد فى كل هذا؟ أنا أتصوره هكذا وكأنه مرآة تعكس ما يجرى (المحاكاة السلوكية) أو تمثال يلبس ما يعطى له (التقمص) أو وعاء يحتوى ما يدخل فيه ويلتحم به (البصم).

المعلم: شكرا مرة ثانية لمحاولتك الفهم بهذه الدرجة من العمق، ولكن لابد أن تعرف أن كل ذلك مجرد خطوة على طريق التعلم والتغيـّـر، ولعلك تذكر أننا فى تعريفنا للتعلم ذكرنا أنه يشمل تغير فى السلوك وتغير فى التركيب على المستوى الأعمق.

الطالب: أى طريق؟

المعلم: طريق النمو، الذى هو التغير الحقيقى، الذى هو عمق التعلم.

الطالب: وكيف يتم ذلك.

المعلم: إنى سوف أوجز لك هذا الأمر هنا([4]) بما يسمح به حجم هذا الدليل:

إن التقمص والبصم يتمان حين يكون الموقف المواجه ومتطلباته أكبر من قدرة استيعاب اللحظة، وفى نفس الوقت تكون حاجة الإنسان إلى الاستعانة بالخارج مُلِحـَّة فى نفس اللحظة فيأخذ الخبرة كلها كما هى جاهزة يتصرف بها وكأنها صادرة منه فعلا، ولكن مع نبضات الكيان البشرى (وهى التى تظهر فى تبادل النوم واليقظة، وتبادل النوم الحالم مع النوم غير الحالم وغير ذلك) تنفصل هذه الكيانات المستوعـَـبـَة بالتدريج، ليعايشها الإنسان من جديد ويهضمها ويتمثلها حتى تصبح جزءا لا يتجزأ من وجوده وليست مجرد رداء ظاهريا (تقمصا) أو حتى طبعا لاصقا (بصما) وقد شبهت هذه العملية بالحيوانات المجترة التى تأخذ أكثر من قدرتها على الهضم والتمثل، فتختزنه لتعود إليه تجتره بعد حين، فالعقل الإنسانى يفعل ذلك فى اليقظة ثم يعود يتمثل مادته بعد ذلك وخاصة فى نشاط الحلم، وكذلك فى ظروف أكثر أمنا وفترات يكون فيها أقدر على الاستيعاب.

الطالب: بصراحة يبدو الكلام صعبا، إلا أنه يخيل لى أنى أفهم أبعاده العامة، ومادام ليس علينا فى الامتحلن فسآخذه هكذا جميعه، ثم قد أعود أجتره فى الصيف على مهلى لأهضمه وأتمثله كما تقول، أو حتى لأحلم به، ولكن ياويلى لو حلمت أنه جاء فى الامتحان! ولكن قل لى بربك كيف رأيت هذا رأى العين فى العلاج؟

المعلم:

إن العلاج الجمعى الذى أمارسه يشمل خبرة تفكيك هذه المكونات المنطبعة ويحدث ذلك فى العلم لا فى الحلم، فى الصحو لا فى النوم، وفى العلاج لا فى الجنون، وذلك عن طريق السيكودراما مثلاً، وأثناء “المأزق” الذى يضطر فيه المريض إلى إعادة النظر فى تكوينه جزءا جزءا، وكيانا كيانا، ثم يعاد التوليف الجديد من خلال هضم واستيعاب هذه الكيانات التى إذا ظلت كما هى ملتصقة متداخلة كانت كالأحذية الصينية التى تمنع نمو القدم كما يقولون.

الطالب: شوقتنى يا عمنا، ولكن أخشى لو سألتك المزيد أن تزيد الأمر تعقيدا، فسأكتفى بوعدك أن ترجع إلى هذا الموضوع لاحقا.

المعلم: بصراحة: لست متأكدا إن كان حوارنا هذا سوف يتواصل حتى نتناول عمليات هضم وتمثـُّل واستيعاب ما نتعلمه كأساس جوهرى فى نمو الشخصية، أو إعادة تشكيلها خاصة فى العلاج الجمعى.

الطالب: دع الآتى يأتى فى حينه.

المعلم: والآن هل عرفت أنواع التعلم.

الطالب: تداخلت الأمور لدىّ، ولكنى أستطيع أن أسمّع لك، فالتعلم إما بالتجربة والخطأ، وإما بالارتباط الشرطى (وهما متداخلان)، وإما بالتفكير والحسابات وبعد النظر وهو ما يسمى التعلم البصيرى كما تقول، وأخيرا يأتى التعلم بالمحاكاة بعد ذلك ثم بالتقمص ثم البصم، ثم استيعاب ذلك وهضمه فى حينه.

المعلم: يعجبنى فيك أنك نابه يقظ، ولكن إياك أن تجعل المحاكاة قاصرة على محاكاة السلوك وتفصلها عن كلٍّ من التقمص والبصم فهى أنواع متداخلة متكاملة بشكل أو بآخر، ثم أنى أحببت تعبيرك عن “التعلم بالتفكير والحسابات” أفضل من تعبيرى عن نفس النوع على أنه التعلم البصيرى، وهكذا أتعلم منك، ما أروع ذلك فعلا.

الطالب: تضحك علىّ، لأغتر بنفسى فتلقى إلىّ ما تريد.

المعلم: ليس فى الأمر ضحك أو ما أريد، وأنت تعلم أنه حتى لو جاريتـَـنِـى أو حاكيتنى أو تقمصتَ ما أقول ثم استمررت فى نموك فأنت لا محالة ستعيده وتستعيده لتهضمه فيصبح أنت، أو تلفظه لو لم يـَـرُقْ لك أو تنتفع به، فاطمئن.

الطالب: أطمئن؟!! كيف أطمئن إذا كنتُ لست على يقين من استمرار نموى.

المعلم: هذا شأنك وهو هو شرفك وهو مسئوليتك بل مصيرك.

الطالب: لا لا واحدة واحدة علىّ

المعلم: أنت ذكى وتحب المعرفة، فاصبر، فلكل شىء أوانه.

الطالب: ولكنك ذكرت فيما ذكرت أن النوع الفلانى يحدث فى أوقات النمو النشط، أظنه البصم أو الطبع على ما أذكر، وأن المحاكاة السلوكية تحدث موقفيا، أما التقمص فيقع بين البصم والمحاكاة، فما هى العوامل التى تحدد كل هذا من بعضه البعض؟

المعلم: على ذكر “البصم” أحب أن أقول لك إن هذا النوع من التعلم قد شغل الباحثين فى السنوات الأخيرة، فـَـشـُـغـِـلتُ معهم ولم أكن أريد أن أطيل عليك فى هذه العجالة، ولكنك شاب وهذه مسئوليتك أن تنشغل معنا، وإليك ما شغلهم وشغلنى، وسيشغلك بإذن الله وحب العلم.

الطالب: هاتها ودعها تكمل.

المعلم: لقد حاولوا أن يفرقوا بين التعلم الشرطى Conditioned Learning  وبين البصم Imprinting، وفى الواقع أنى حين قرأت ما اسموه التعلم بالبصم لم أجد فيه ما يميزه عن السلوك الوراثى، فقد أجروا تجارب لإثبات أن نوعا من الطير حديث الولادة يصدر أصواتا خاصة بنوعه دون أن يختلط بوالديه أو أى طير آخر من نوعه، وقالوا إن هذا السلوك مطبوع فقل لى بربك ما هو الفرق بين هذه الكلمة وبين كلمة موروث؟ وكذلك أجريت تجارب على البط الأزرق فور فقسه حين لاحظ عالم لعله “تينبرجن” أو “لورنز” أن البط (الكتاكيت) من نوع أزرق اللون تتبعه حين يلبس حذاءه الأزرق ويسير بينهم، فأعدّ جسما أزرق يشبه الأم وجعله يتحرك، فوجد أن الصغار يتحركون وراءه، ثم عاد وركـّـب بطارية فى هذا الجسم الأزرق ترسل صدمات كهربائية بضغطة على زرّ عن بعد، فوجد فى البداية: أن الكتاكيت تسير وراء هذا الجسم ثم أن الصدمة الكهربائية إذا انبعثت من نفس الجسم الازرق زاد اقتراب البط الصغير منه – بعكس تعلم الارتباط الشرطى حيث المفروض أن تدفعه الصدمة الكهربائية إلى أن يبتعد عن مصدر الأذى، فرجـَّـح أن هذا التصرف من جانب البط الصغير إنما يدل على انه عاجز تماما عن حماية نفسه، وأن انعكاس اقترابه من أمه (الذى أصبح الجسم الأزرق يمثلها) هو للحفاظ على حياته من هذا التهديد بالصدمة، فلابد أنه سلوك موروث فعلا، ثم بالاستمرار والمتابعة وجد الباحث أن هذا السلوك يستمر لفترة محدودة إذ تبلغ حدته فى هذه التجربة ما بين الساعات الأولى إلى 48 ساعة، ثم يعود بعدها التعلم الشرطى للغلبة، حيث يبتعد البط الصغير الأزرق عن مصدر الأذى متجنبا الصدمة، وكأن ذلك يعنى أنه بلغ من العمر مبلغا يمكنه أن يحمى نفسه مما يؤذى بالابتعاد عنه، كذلك ربما يعنى أيضا أنه بدأ تمييزا بسيطا بين هذا الجسم الأزرق المتحرك وبين أمه الحقيقة.

انطلاقا من هذه التجربة وقبلها، تراجع تحديد الفروق يبن التعلم الشرطى والبصم، منها مثلا أن البصم يختص بأول استجابة لا بأسهلها ولا بآخرها مثل التعلم الشرطى، وكذلك أن البصم يحتاج إلى جرعة مكثفة متلاحقة .. إلى آخر مثل هذه الفروق التى لا مجال هنا لتفصيلها

الطالب (مقاطعا):

الطالب: لكن هذا السلوك المكتسب بالتعلم بالبصم هل هو الذى يغير فى التركيب الحيوى حتى يُوَرَّث فعلا للأجيال التالية؟

المعلم: الحمد لله، أنت تشعرنى الآن أنك المعلم وأنا الطالب، ثم إنك أجبت على سؤالك وأنت تسأل بهذه الطريقة.

الطالب: أتذكر ما ذكرته فى بداية حديثنا عن التعلم من أنك قلت: إن العمل خـَـلـَـق الأحياء، وأن الأعضاء نمت لتسد حاجة وتحقق غاية، وأن نمو الأعضاء هو تغيـّر فى التركيب الحيوى، وقلنا بعدها إن التعلم هو التغير فى السلوك الجزئى، أو النمط الكلى أو التركيب الجوهرى، أليس كل ذلك متعلق بما تقوله الآن؟

المعلم: انتباهك وذاكرتك تجعلانى أفخر بك وأحذر منك، كى لا أخطئ أمامك، حصل..، ذكرنا كل هذا، ويبدو أن الاستنتاج البديهى وراء هذا وذاك، هو أن العادات المكتسبة من تعلم بذاته تـُـوَرَّثُ، حتى قيل أن عادات اليوم هى غرائز المستقبل، وقد ثارت معركة بين اللاماركيين (و “لا مارك” هو من قال بالتطور قبل داروين) وبين الداروينيين المحدثين وعلماء الورائة المندليين (التابعين لمندل Mendel) ورجحت الكفة لفترة من الزمان فى صالح الفريق الثانى الذى قال باستحالة وراثة العادات المكتسبة، ولم يقنعنى ذلك أبدا، إلا أن أعمالا لاحقة([5]) بدأت تأخذ سبيلها إلى إثبات هذه البديهية التى وصلتَ أنت إليها وحدك من واقع تفكيرك البسيط السليم ووصلت أنا إليها من واقع خبرتى العلاجية وقراءاتى معا، ووصل إليها فلاسفة قبلنا بوضوح ويقين ضد كل المعلومات الجزئية المعارضة حتى قال “روبرت سبنسر” الفيلسوف العالم: إنه إذا لم تكن العادات المكتسبة تورث فإنه لا يجد أى  سبب معقول يفسر به التطور.

الطالب: إذن لسنا وحدنا، عنده حق والله، ولكن يخيل إلىّ أن الذين رفضوا هذا الرأى معذورون أتم العذر، إذ كيف نتصور أن كل ما نكتسبه من عادات سأورثه إلى إبنى، ألا ما أسخف هذا إذا أطلق على علاته، فهو قد يعفى الجيل الأحدث من مسئولية ما يفعل.

المعلم: يا خبر!! عندك حق، من البديهى أنه ليست كل العادات التى تنطبع تورث ولو تتبعنا تقسيمنا لأنواع التعلم وخاصة تدرجها من المحاكاة للسلوك إلى التقمص بالبصم لأمكن حل المشكلة بين الفريقين دعنا نقول: إن الفرض المطروح الآن يشمل التالى:

1- ليس كل ما يتعمله الكائن الحى – الإنسان هنا – قابل للنقل بالوراثة.

2- إن أهم ما ينقل بالوراثة هو السلوك المطبوع غائر التثبيت فى الكيان الحى.

3- إنه إذا تمثل الإنسان أى سلوك متعلم حتى تفاعل معه وغيّر تركيبه نموا واستيعابا واندماجا، كان هذا التركيب المنطبع الجديد هو القابل للنقل بالوراثة.

4- السلوك القابل للطبع، ومن ثم للتوريث، هو السلوك ذو الدلالة التطورية، Evolutionary Significant (وهو قد يسهم فى دفع التطور، فإذا كان سلبياً قد يعـجـّل بالانقراض).

الطالب: هكذا معقول، هكذا نفرق بين عادة لعب الطاولة وبين عادة تجمع الإنسان فى جماعت على أرض تسمى الوطن لحفظ البقاء.

المعلم: نِعـْم  ما تقول والله، نعم ما تقول.

الطالب: ولكن هل تعنى بتعبير “ذو الدلالة التطورية” السلوك المفيد للنوع فحسب؟

المعلم: بل لقد أوضحت حالاً أنه قد يكون السلوك المفيد للنوع والمهلك للنوع كذلك.

الطالب: يا خبر!! هذا يضاعف من مسئوليتنا نحو الأجيال القادمة.

المعلم: ليس فى ذلك شك، لو لم نتقبل هذا المعنى إذن لما كان هناك تفسير كاف لانقراض بعض الأنواع.

الطالب: ما أجمل هذا الحديث وخاصة حين أتذكر إشارات علم الأجنة المقارن Comparative Embryology إلى وجه الشبه بين أجنة الأحياء على سلم التطور المترامى.

المعلم: إن علم الأجنة المقارن هو مفتاح علم النيوروبيولوجى الحقيقى، وهو هو مفتاح النفس الأحدث.

الطالب: لو تركت نفسى معك فى هذا الحوار لابتعدنا عن المقرر والذى علينا والذى ليس علينا، أرجوك أن تكف عن الاستطراد فإن ورائى استذكارا كثيرا، ولكن قل لى أليس الاستذكار تعلـّـما؟

المعلم: تفيق فجأة لتصدمنى باستذكارك، ولكن عندك حق، ولكن لابد أن تعرف شيئا آخر يتعلق بالسلوك الموروث المـُـتـَـعلم أصلا، قبل أن ننتقل إلى ما عليك وماليس عليك!!.

الطالب: الأمر لله ماذا عندك أيضا؟

المعلم: وصف كونراد لورنز Konrad Lorenz حديثا فكرة الطاقة الخاصة الفعالة Action-Specific Energy باعتبار أن لكلِّ سلوكٍ موروث كمية من الطاقة المتاحة له، وأنه حين تقل هذه الطاقة لا يمكن إصدار السلوك أو إثارته وأن هذه الطاقة تستعاد بالاستراحة أو الراحة.

الطالب: لست فاهما، أليست هذه الطاقة هى الغرائز؟

المعلم: يالك مـِنْ يـِقظ! لقد تراجعت نظرية الغرائز فترة طويلة تحت ضربات السلوكيين ورجال الاجتماع، ولكنها عادت أكثر قوة وأشد تحديا من خلال هذه التعبيرات الجديدة مثل الطاقة الخاصة الفعالة، ولو أخذنا بهذا الرأى لأصبح كل سلوك مطبوع وموروث بالتالى غريزة قائمة بذاتها والحديث الآن يجرى من مدخل علم الإثولوجيا([6]).

الطالب: الله..!؟ الله.. !! وماذا أيضا؟ سأعمل نفسى كأنى لم أسمع هذا الرطان؟

المعلم: رطان؟ بالله عليك هل هذا رطان؟ وهل تسمى كل ما صـَـعــُـبَ عليك رطانا

الطالب: وماذا أفعل، كيف أحول دونك والتمادى فى البعد عن المقرر والذى علينا

المعلم: والله لو كان الأمر بيدى لجعلت هذا هو كل ما عليك

الطالب: الحمد لله أنه ليس بيدك، ومع ذلك هات ما عندك فأنا مهتم كما ترى.

المعلم:  أقول لك ما ذكره نيكو تينبرجن Nico Tenbergen سنة 1951 وهو آخر ما عندى، حيث شَرَحَ فكرة إزاحة النشاطDisplacement Activity ، فقال إن النشاط يزاح إذا لم يـُـطلق فى اتجاهه الأصلى، فإذا حدث صراع مثلا بين سلوك وراثى وسلوك وراثى آخر لدرجة التناقض فإن النشاط يزاح إلى سلوك ثالث، ولو تكرر هذا التضارب فإن السلوك قد يتحور تدريجيا إلى هذا السلوك الثالث، على انه فى الظروف الطبيعية لابد أن تطلق الطاقة فى شكل نشاط صريح، إلا أنه فى حالة قمع التعبير عن سلوك بذاته فإن الطاقة الفعالة تبحث عن طريق آخر للتعبير، ويمكن القول أن هذه الطرق البديلة لا تحددها البيئة أو الجهاز العصبى فقط وإنما تحددها هذه العوامل مجتمعة.

الطالب: بالذمة ما فائدة هذا كله.

المعلم: فائدته؟! إن له فوائد لا حصر لها فى ربط التعلم بالوراثة، وفى تفسير مسارات بعض ما يسمى الغرائز وكبتها وإزاحتها.

الطالب: تبدو لى هذه اللغة من معجم التحليل النفسى.

المعلم: تقريبا، ولكنها هنا تطرح بلغة نيوربيولوجية أوضح ودون اقتصار على الجنس أو حتى العدوان، وإنما بما يشمل غرائز كثيرة مثل الهرب بل لعلها تشمل كل سلوك مطبوع كما ذكرنا.

الطالب: هكذا يتداخل العلم فى بعضه مثلما تداخلت الوظائف النفسية، فتزداد المسألة صعوبة.

المعلم: ولم لا، ألا يمكن تفسير بعض مظاهر الفصام (الشيزوفرينيا) بإثارة السلوك الهروبى المطبوع إما لقوة هذا الطبع فى ذاته أصلا، وإما لإزاحة النشاط الخاص بسلوك آخر لم تتح له فرصة الانطلاق، وعلى فكرة إن مثير السلوك المطبوع اسمه المطلِق Releaser وليس المثير Stimulus.

الطالب: حدثنى إذن عن الشيزوفرينيا ودعها تكمل.

المعلم: لا ياعم هذا ليس وقته، خلـّـنا فى محاولة شرح ما هو “عليك” أولاً

الطالب: إذن فحدثنى عن الذاكرة والاستذكار .. الله يخليك.

[1] – يشكل الذاكرة والتذكر.

[2] – (صحصح) الأمر: انتبه إلى دقائق الأمور فيحصيها ويعلمها.

[3] – بعض الزملاء يترجمون الـIdentification إلى “التعيين” ولكن بالرجوع إلى المعاجم العربية لا نجد أن مادة “عاين” تفيد ما يحدث هنا، فى حين أن مادة “تقمص”.. ليس قميصه” .. الخ تفيد ما يراد هنا تماما، لذلك لا ينبغى الاقتصار على المعنى اللغوى دون الرجوع إلى “مفهوم” الظاهرة أساسا.

[4] – يمكن الرجوع إلى مزيد من توضيح ظاهرة البصم فى كتابى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” صفحات 30 – 31 – 78 – 468 – دار الغد للثقافة والنشر 1979 – القاهرة.

[5] – من أهمها أعمال منشورين وتلاميذه فى الاتحاد السوفييتى اعتبارا من 1950

[6] – علم الأخلاق والأجناس وتكوينها: Ethology.

الفصل الخامس: الذاكرة والاستذكار

الفصل الخامس: الذاكرة والاستذكار

الفصل‏ ‏الخامس

الذاكرة والاستذكار

المعلم: لك ذاك: فهل تذكر أولا أننا قلنا إن التذكر هو نوع خاص من التعلـّم بهدف الاحتفاظ بالمادة المـُـتعلمة فى الذاكرة؟

الطالب: وهل من هنا جاءت كلمات الاستذكار والمذاكرة وغير ذلك؟

المعلم: طبعا، فهل تتصور أن أصل كلمة استذكر فلان تعنى فى اللغة: ربط فى إصبعه خيطا ليذكر حاجته، واستذكر الكتاب: درسه للحفظ.

الطالب: إذن لو درست الكتاب لغير الحفظ فهذا ليس استذكارا.

المعلم: نعم، وربما يكون أحسن.

الطالب: لا يا عم، أفضل أن أدرسه للحفظ، فكيف يساعدنى علمك هذا على الاستذكار عامة بعيدا عن حديث التطور وصراع البقاء؟

المعلم: يستحيل أن نبتعد عن هذا الحديث، فدراسة الذاكرة الآن تقربنا من حديث التطور والبقاء كأشد ما يكون القرب.

الطالب: ثانى؟!؟ فليكن، حتى إذا لم ننجح فى الامتحان نكون قد حافظنا على النوع البشرى بفضل أفكارك النيرة!!!

المعلم: أفكارى أنا أم إثارتك لى؟ إياك أن تتمادى فى السخرية حتى لا تكتشف أنك تسخر من نفسك، اسمع يا إبنى، إننا تعودنا أن ندرس فى علم النفس الذاكرة بمعنى: التعلم الهادف للتذكر أى بمعنى الاستذكار، إلا أن لها بعدا أعمق، وأن المسألة لا تقتصر على المخ فحسب، ذلك أن العلم الأحدث فالأحدث يفترض، ويثبت أحيانا، أنه ليس المخ فقط هو الذى يقوم  بوظيفة الذاكرة والتذكر، وإنما يشاركه الجسد كله.

الطالب: الجسد؟ ما هذا، هل أهرش ساقى لأتذكر ما تقوله لى الآن واكتبه فى الامتحان

المعلم: هذا ليس وقت المزاح يابنى، أنا لا أمزح، بل لقد تطورت الفروض حتى زعم بعضها أن الذاكرة توجد أيضا، أو أصلا خارج الجسد، وهذا أمر لن أتطرق إليه معك حتى لا أربكك

الطالب: تربكنى، وهل أنا ناقص!؟ وهل انت لم تربكنى حتى الآن؟!

المعلم: إننى لو قلت لك ما وصلنى مؤخراً من عالم شجاع يسمى “شيلدراك”([1]) وكتبته فى الامتحان، فقد لا يتوقف الأمر عند رسوبك، بل ربما يتمادى فى تمزيق كراسة إجابتك أو إحالتى للمحاكمة

الطالب: أنت الذى تقلبها سخرية ما هذا بالله عليك؟

المعلم: أنا لا أسخر، لكنك لو سمعت زملائى وهم يهاجمون فروض هذا العالم الشجاع الذى طور فروض الذاكرة ورفض أن يكون تسجيلها مثل شريط التسجيل وأن المخ يعمل مثل التليفزيون وليس مثل المسجـِّـل (الريكوردر) لو سمعت هجومهم واستهانتهم بهذه الفروض وهذا العالم لعرفت مدى المقاومة لما هو جديد.

الطالب: إعمل معروفا خلنا فيما نحن فيه([2]) حين أحفظ القديم سوف أفتح بابى للجديد، فلنرجع إلى الذاكرة والاستذكار الله يخليك لأن ورائى هما متلتلا([3]) للاستذكار وانت تعلم ثقل التشريح والفسيولوجيا والكيمياء وما أدراك ما الكيمياء.

المعلم: ولكن علينا أن نربط بين ما اختتمنا به حديثنا عن التعلم وبين بداية حديثنا عن التذكر وأعدك برشوة بالحديث عن طرق الاستذكار بعد قليل.

الطالب: وهو كذلك، هات ما تريد.

المعلم: هناك أمور أساسية لابد أن تعرفها عن الذاكرة كما هى مقررة عليك فقد تكون مفتاحا لعديد من الأبواب المغلقة ومن ذلك:

إن العلماء من قديم قد فشلوا أن يحددوا الذاكرة فى جزء معين من أجزاء المخ،  وقد أشرنا إلى هذا الفشل فى بداية تعريف النفس، فالذاكرة موجودة فى المخ ككل وهذا يؤكده ما جاء فيما يسمى “قانون الفاعلية الكمّية” Law of Mass Action وليس ما شاع عن تموضع الذاكرة فى مواضيع بذاتها

الطالب: وما هو هذا القانون بالله عليك؟

المعلم: هو قانون يشير إلى أن عجز الذاكرة يتعلق بكمية ما يصاب من المخ أكثر مما يتعلق بمكان الإصابة.

الطالب: ما هذا؟ هل نحن نتذكر بالجملة وليس بالقطاعى

المعلم: تقريبا، وهذا يرتبط أيضا بقانون آخر لنفس العالم لاشلى Lashley وهو قانون “تساوى الاستعداد” Equipotentiality وهو الذى يقول: “رغم أن منطقة ما من المخ – تكون مسئولة عن وظيفة بذاتها – فإن منطقة أخرى يمكن أن تقوم بنفس دورها”، فى ذلك ما يدعم وجود الذاكرة (والتعلم) فى المخ ككل.

الطالب: يا ذا اليوم الذى لن يمرّ

المعلم:  انتظر وهل انت رأيت شيئا؟ إن الاكتشافات الأحدث الهائلة فى علم بيولوجيا الجزيئات الجسيمة Macro Molecular Biology، المختص بدراسة دور وتركيب الحامضين النوويين الريبوزى والديسوكسى ريبوزى DNA& RNA وخاصة فى العشرين سنة الأخيرة، قد فتحت أبوابا هائلة لرؤية الذاكرة تركيبا معقدا وتسجيلا امينا داخل الخلايا، أساساً فى المخ لتخصصه، ولكن دون إمكان استبعاد سائر خلايا الجسم كله لتشابه التركيب الكيميائى.

الطالب: أكاد أعجز عن متابعتك

المعلم: إن وجه الشبه بين جزئى هذين الحامضين، وبين المورِّث Gene من ناحية، وبينه وبين الفيروس Virus أصل الحياة من ناحية أخرى، هو وجه يدعو للتفكير والربط المسئول بين علوم مختلفة مثل علم التطور وعلم الوراثة وعلم النفس.

الطالب: وهكذا يصبح الإنسان بكل حضارته وفخره تركيبا خلويا معقدا من حمضين خلويين.

المعلم: ولم لا؟ والحمد لله أنك درست هذه التراكيب فى علم الكيمياء الحيوية Biochemistry ولا داعى أن أكرر لك ما درست.

الطالب: لا يا سيدى لقد درست هذين الحمضين فى تمثيل البروتينات Protien Metabolism مع تلميح خفيف إلى حكاية الذاكرة هذه، أما أنت فقد فتحت الباب على مصراعيه.

المعلم: أنا لم أفتح الباب على مصراعيه، ولكن يبدو أن المخ هو المفتوح على مصراعيه، وحين يأتى الحديث عن التفكير وفعلنة المعلومات Information Processing سوف تتبين ذلك، المهم الآن أن تعرف أننا بدراسة الذاكرة ندرس كلا من “التعلم” و”القدرة على الاستعادة” فى نفس الوقت، ذلك أن القدرة على الاحتفاظ بأى أثر من حدث سابق بغض النظر عن الكيف أو الكم والتعقد هو من وظائف الذاكرة، ومع ذلك فياليتها قاصرة على المخ أو حتى الجسد كما تقول فروض أحدث فأحدث.

الطالب: اختلط الحابل بالنابل.

المعلم: لا حابل ولا نابل، إن دراسة الفروض الكيميائية والبيولوجية الجزيئية الخاصة بالذاكرة خليقة أن تضئ لنا الطريق إلى:

(1) روعة عمل المخ وعلاقته بتنظيم الخلية.

(2) إنارة محدودة عن ما يسمى باللاشعور ومحتواه ومخزونه داخل الخلايا وداخل المخ وخارجه، (دون استعمال مصطلح “اللاشعور”).

(3) فهم طبيعة الحفاظ على الخبرة وتمثلها أو نقلها إلى أجيال تالية.

الطالب: تعرف يا سيدى، إن الحديث عن الذاكرة بهذه اللغة الأشمل دون الاقتصار على اللغة الكيميائية الجافة رائع، ولكنه خطر فى نفس الوقت.

المعلم: لا خطر ولا يحزنون، فما أروع الحديث عن الذاكرة الجينية Genetic Memory التى تحمل عوامل الوراثة، والذاكرة المناعية Immunity Memory التى هى أساس تكوين الأجسام المضادة Antibodies لأى هجوم ميكروبى أو جسم غريب حساس فى الوقت الحالى أو المستقبل، ثم الذاكرة الذاتية Individual Memory التى نتحدث عنها أنا وأنت أغلب الوقت.

الطالب: إن هذا الحديث يجعل الذاكرة هى كل شئ، وقد كان التعلم هو كل شئ.

المعلم: نعم فكأن الكائن الحى مبنى من كم هائل من المعلومات (ذاكرة النوع) وهذا الكيان جاهز للاحتفاظ بكم هائل من الخبرات (ذاكرة النوع متمثلا فى ذاكرة الفرد).

الطالب: هذه آخرتها..، قلبت لنا الإنسان إلى كم من المعلومات.. الإنسان بجلالة قدره كم من المعلومات فالخبرات.

المعلم: حاسب عندك، لابد من إيضاح كلمة “معلومات” هنا، إذ هى تعنى أى تأثير خارجى أو داخلى تحتفظ به الخلايا أو يؤثر فى تكوينها أو يغير استجاباتها أو يشكل محتواها، ولسنا نعنى بالمعلومات أخبار الصباح وأين تذهب هذا المساء أو المعلومات العامة مثل “الأشيا والصحة” أيام زمان.

الطالب: ولو، فالإنسان هو هذا الكيان الرائع النابض بالحب والإيمان، ولا يمكن اختزاله إلى كم من المعلومات.

المعلم: يا أخى لم لا تتصور معى أن هذا الكم فى تناسقه الإبداعى هو معمل الحب ودفع الإيمان وتناسق التوازن، لم هذا التباعد المصطنع بين كيمياء وفسيولوجيا الجزيئات وبين الألفاظ الشاعرية المنمقة، لم لا تستمع مع ترتيب الحياة فى الخلية لموسيقى الشعر فى الوجود.. هذا خطأ مرحلى ناتج عن استقطاب فهمنا للحياة.

الطالب: ماذا تعنى باستقطاب؟

المعلم: استقطاب يعنى Polarity، وهنا أعنى به أن نتصور الذاكرة وكم المعلومات فى ناحية.. والعواطف ورقة المشاعر ونبض الايمان فى ناحية أخرى.. إن المخ كيان كلى فى وظائفه الأرقى، وتناسقه “لكل ما هو له، وما هو إليه” هو قمة الإيمان وروعة التكامل معاً.

الطالب: يا صلاة النبى!!! إصنع بى معروفا ويكفينى الحديث عن علاقة الذاكرة بالحامض النووى الديزوكسى ريبوزى وما شابه، وحدثنى عن طبيعة الذاكرة وآليات عملها.

المعلم: حاضر يا سيدى، لقد فرضوا عدة فروض لتفسير الذاكرة أهمها:

1- إن هناك دوائر عصبية تتكون أثناء عملية استيعاب المعلومات (وذلك على اساس كهربى)، وهى تتكون نتيجة لارتباطات مشتبكية Synaptic جديدة، وسميت هذه الفروض: الفروض الدوائرية Circular Electrical Hypotheses وهى على أحسن الفروض لا تكفى لشرح حفظ محتوى الذاكرة بعد تماسكه وثباته، وهناك تجارب عديدة تدل على ان المنطبع (الإنجرام Engram) ليس كهربيا بحتا لأنه يبقى بعد أن يتوقف النشاط الكهربى الحيوى تماما.

2- إن هناك عمليات كيميائية تسهم فى تخزين وتماسك المعلومات العصبية، ويعتقد من يقول بهذا الفرض أن هنك تمثيلا لبروتينات جديدة تتدخل فى التسهيل الدائم للتوصيل عبر المشتبك العصبى، أو غير ذلك من العمليات، ولكن معتنقى هذا الفرض لا يزعمون أى تجميع تنظيمى للذاكرة.

الطالب: كلها فروض فى فروض، وأعتقد أنه حتى أصحابها غير مقتنعين بها

المعلم:  إيش عرّفك

الطالب: لو أن واحدا منها هو الصحيح لنسخ الباقى

المعلم: لا يا شيخ! هذا ضد حركية العلم فى كل زمان مكان، ولكن لتصبر قليلا حتى أحدثك عن الفرض الثالث الأقوى.

الطالب: وما هو؟

المعلم:هو الفرض الكيميائى الجزيئى للذاكرة Chemical Molecular Hypothesis وهو لا يعتبر أن الجزئ المجمع للذاكرة يشبه فى عمله وتنظيمه الشريط فى الحاسب الإلكترونى ولكنه يعتبر أن الجزيئات العملاقة Macro Molecule هى مثل لوحة لذبذبات خاصة للمثير العصبى، ويفترض أن التجميع الجزيئى إنما يضاف إلى مسار خاص فى المخ.

الطالب: أربكتنى ولم أعد استطيع المتابعة.

المعلم: لنبسط الأمر: يا سيدى إن المخ البشرى ليس مثل شريط التسجيل ولا هو مثل شريط الكمبيوتر، وإن الأرجح الآن أن الجزيئات العظيمة Macromolecule التى تعنى حـِـمـْـضـَـىِ النيوكليك، والتى لها قدرة هائلة على إعادة ترتيب محتواها هى التى تحتفظ بانطباعات الذاكرة وهى القادرة على استرجاعها مع عمل الدوائر العصبية جنبا إلى جنب.

الطالب: ولكن هل من إثبات لدور هذه الجزيئات؟

المعلم: توجد بعض العلامات الايجابية بلا أدنى شك (راجـَـعـَـهـَـا بإفاضة عالم اسمه جلاسمان حتى سنة 1969) ولكن لا يوجد دليل نهائى على ذلك.

الطالب: المهم، ما هى هذه العلامات الايجابية؟

المعلم: خذ مثلا تجارب تسمى تجارب ديدان “البلانوريا”، علـَّموها استجابة معينة لصدمة كهربائية معينة ثم قـَسَموها ونمى نصفيها من جديد وتبين أن النصف النامى الجديد هو متدرب على هذه الاستجابة دون تعليم، كما أن هناك ما يشير إلى أن دودة حية إذا أكلت قطعا مدربة من الدودة المقطعة قد يترك أثراً يثبت إمكان نقل التدريب، ربما من خلال هذا الحمض.

الطالب: يا حلاوة! يعنى حين أريد أن أحفظ علم النفس ألتهمك واستريح!!

المعلم: رجعت إلى فكاهتك وسخريتك قبل الأوان، دعنى فى حماسى حتى أقول لك ما أريد مما سيخيب أملك فى الاختزال والاختصار، لقد راجع العلماء هذه التجارب حتى ظهرت، مقالة فى أغسطس سنة 1966 فى مجلة “العلم” موقعة من ثلاثة وعشرين عالما يمثلون سبعة معامل تعلن فشل إعادة تجارب نقل الذاكرة، حتى بالنسبة لحقن جرذان ساذجة بواسطة الحامض النووى الريبوزى من جرذان مدربة… وكانت مثل هذه التجارب قد أعلن نجاحها من قبل عام 1965.

الطالب: ما هذا؟ من أصدّق ومن أكذّب وماذا أكتب فى الامتحان؟

المعلم:  عندك، انتظر، لقد نشر اثنان من العلماء الثلاث والعشرين بعد ذلك بشهرين اثنين أن نقل الذاكرة ممكن ومع ذلك اهتزت الأمور تماما.. بلا أمل فى رجوع البندول إلى الثبات قريبا.

الطالب: ولو… أنا مع رفض هذه النتائج إذ يستحيل أن أتصور أن “سندوتشات” مخ الضأن ستجعلنى “أنطح” القدر.

المعلم: بالرغم من سخريتك هذه التى لا تهمد، فقد أوصلتُ إليك ما أريده.

الطالب: لا تخدع نفسك، أنت لم توصل لى إلا الحيرة.

المعلم: ولعل هذا ما أردت توصيله، وعلى كل حال فإن هذه الحيرة قد جعلت علماء مثابرين يواصلون تجاربهم إلى حد فصل المادة الفعالة وهى من الببتيدات Peptides، وهذا ليس متناقضا بالضرورة مع فكرة الدوائر العصبية، والاتجاه الحالى هو الجمع بين النظريتين كما ذكرت لك (قام بذلك عالم اسمه أنجار سنة 1972 – 1973) فقد افترض أن التنظيم الجزيئى يشبه لوحة المرور للمثيرات العصبية عبر المشتبك العصبى، وحسب مفهوم “الممرات المتميزة كيميائيا” فإن النيورونات المقدر لها أن تكون فى الممر نفسه تتعرف بعضها على بعض بواسطة لافتة جزيئية ملتصقه بها، وقد ذهب إلى تفسير الوراثة بنفس الطريقة، فهذه العملية التعارفية الكيميائية المحددة وراثيا إنما تضبط النمو الجينى للمخ وغيره…، هل يكفيك هذا أم أزيدك تفصيلا.

الطالب: لا يا عم يكفى وزيادة، بصراحة لقد بدأت أخاف من هذه الأبحاث.

المعلم: وهل يخاف أحد من العلم؟

الطالب: طبعا.. تصور لو أن الحكاية أصبحت فى الإمكان، وعرف ما هو الببتيد الذى ينقل العادات والاتجاهات، وتطورت التكنولوجيا، وأصبحت توجد مصانع لبيتيد الأخلاق حسب الطلب، إذن لذهب رئيس دولة ما، (أو اتفق رؤساء الدول الأقوى) وطلب من المصنع خلاصة ببتيد “التفكير الانصياعى” أو ببتيد “إبادة المخاِلف” ووضعه فى مياه الشرب لعامة الناس… إذنً لضاعت البشرية أكثر من ضياعها الآن.

المعلم: ألم أقل لك إنك تفهم ما أريد بالرغم من مقاومتك، إن هذه المخاوف قد أثارها العلماء بالفعل.

الطالب: ولكن قل لى، هل هذا علينا فى الامتحان؟

المعلم: ياليت.

الطالب: وهل هذا علم نفس أم كيمياء؟

المعلم: أكلمك باللغة التى اعتدتَ احترامها.

الطالب: ولكنى بدأت سؤالى عن كيف يساعدنى علمك أن استذكر التشريح والفسيولوجى والكيمياء، فقلبتها لى كيمياء وأحماض وكل هذا الكلام.

المعلم: يا سيدى هناك بعض القواعد التى تسمى تدريب الذاكرة Memory Training أو هى توضع أحيانا تحت اسم “الاقتصاد فى عملية الاستذكار” Economy in Memorizing فإذا شئت أن تستعين بها أقولها لك يا سيدى، رشوة موقته.

الطالب: يا ليت، قلها بالله عليك فأنا طالب أذاكر بصعوبة شديدة

المعلم: 1- عليك أولا أن تبعد المشتـِّتـَات Distractions سواء كانت خارجية مثل صوت مذياع نشاز أو داخلية مثل التفكير فى حادث مؤلم أو فى مهمة أخرى او فى أمل لم يتحقق (مثلما فى احلام اليقظة).

2- ثم حدد هدفك من الاستذكار Identify Your Task فإذا كنت تريد معرفة أبعاد موضوع معين فحدد ذلك ابتداءً وإذا كنت تريد أن تراجع درساً بذاته فاعلن ذلك لنفسك بوضوح… وهكذا.

3- ثم حاول ان تفهم ما تريد أن تستوعب، دون ان تتوقف عند الفهم وتكتفى به، ولنواصل بقصد حفظ ما فهمت.

4- فإذا كان الموضوع متشعبا فابحث عن علاقات بين أجزائه، سواء كانت هذه العلاقات ظاهرية، أو علاقات تشابه، أو علاقات تعارض، فإن ذلك يربط الموضوع ببعضه لا محالة.

5- فإذا انتهيت من حفظ موضوع ما، فلا تتركه حتى تراجعه لنفسك وبذلك تدرك ما أهملتَ من نقاط، وما فاتك من إتقان، وما تحتاج إليه من مراجعة.

6- وحتى إذا عرفت أنك أحسنت التسميع فلا تكتفى بهذا، ولكن عليك أن “تثبت” الموضوع الذى قد حفظته حقيقة وفعلا ويسمى هذا أحيانا زيادة التعلم Overlearning.

7- وبالنسبة للوقت، فكل الأوقات تصلح للحفظ ولكن ربما كان أفضل الأوقات هو ما أحسست فيه بخليط من الحماس والهدوء الداخلى، وربما كانت المراجعة الصباحية لما استوعبت فى الأمس القريب عاملا مساعدا على تثبيت المادة.

8- وأخيرا فإن استيعابك الموضوع ككل فى بداية الأمر لتلم بكل أطرافه، ثم تجزئته إلى اجزاء تتقن كل منها على حدة، ثم الربط بين الأجزاء، كل ذلك قد يفيدك فى استيعاب المادة بشكل أكيد مطمئن.

9- وعليك بعد كل هذا بالمراجعة بين الحين والحين، ولا تسمّع لنفسك شيئا طال عليك العهد به، إلا إذا راجعته أولا حتى لا تفقد ثقتك بنفسك.

10- وقد يفيدك أن تستعمل أكثر من حاسة فتذاكر بصوت مرتفع أحيانا

الطالب: تذكرنى هذه النصائح المعادة بإذاعتك “تذكرة نجاح” فى الثانوية العامة.

المعلم: بصراحة إنى أخجل حين أعطى النصائح هكذا مسطحة، وأفضل أن تصل إليها بنفسك، ولكنى أعجب حين ألتقى بعد سنوات ممن أفاد من مثل هذه البرامج فائدة لم تكن فى حسبانى، وصدٍّقـْنى أن خبرتى مع هذا البرنامج هى من بين دوافعى لكتابة هذا العلم بهذه الطريقة.

الطالب: وأنا أيضا أحس أنها نصائح يصعب اتباعها وإن كانت قد تفيد، ولكن الواحد منا وما تعود.

المعلم: بالضبط: الواحد وما تعود، ولو أن “التعود” كما اتفقنا هو تعلم أيضا.

الطالب: ولكن ماذا يفيد لو اتبعت كل هذه النصائح ثم نسيت ما حفظت، إنه يخيل إلى أنى أنسى كل شئ أولا بأول.

المعلم: إن حديثنا لا يكتمل إلا إذا تناولنا موضوع “النسيان” هذا، وأنا مسرور أنك قلت “يخيل إلى”، لأنه فى خبرتى فإن أغلب من يأتينى يشكو من ضعف الذاكرة لم يثبت بأى فحص أو اختبار، أو امتحان أنه فعلا ضعيف الذاكرة، وإنما هى عدم ثقة بالنفس، والطمع.

الطالب: الطمع؟

المعلم: نعم الطمع، إذ يبدو لى أن الواحد منكم يريد أن يسترجع مائة صفحة فى نصف دقيقة، ولا يريد أن ينسى ولا كلمة طول الوقت، فإذا نسى أى جزء، وهذا طبيعى، هوّل الدنيا وجاء يشكو من النسيان.

الطالب: هل تعنى أن النسيان كله وهم فى وهم؟

المعلم: النسيان حقيقة هامة، ولكن شيئا مما نتعلمه لا يختفى من ذاكرتنا أبدا، كل ما هنالك أنه يبتعد عن متناول وعينا، ويستعصى أحيانا على استدعائنا إياه.

الطالب: أفهذا هو النسيان.

المعلم: بالضبط.

الطالب: وكيف نقلل من النسيان.

المعلم: بأن نحسن الحفظ Retention، وهذا يترتب على حسن عملية الاستذكار حسب ما ذكرنا، كما يتوقف على التثبيت، والمراجعة، والتنسيق للمادة المحفوظة، وأخيرا فإنه يتوقف على الزمن حيث يزيد معدل النسيان بعد الحفظ بدرجة سريعة ثم يتباطأ بعد ذلك مع مرور الزمن.

الطالب: وما أسباب النسيان؟

المعلم: خذ عندك يا سيدى:

(1) الزمن يا أخى هو أهم سبب، وليس الزمن فى ذاته ولكنها الاحداث التى تستجد أثناء مرور الزمن هى التى تتراكم فوق الذكريات الأقدم فتتباعد أكثر وأكثر فى مخزن الذاكرة بعيدا عن تناول التذكر والاسترجاع (قالوا أحبَّ غدَا تنسى هوى أمس).

(2) وقد يقال أن عدم استعمال المادة المحفوظة يصيبها بالضمور كما ضمرت ذيولنا إذْ كنا قرودا ونحن فى طريقنا إلى البشرية لأننا لم نعد نستعملها.

الطالب: ولكننا أحيانا ننسى ما يمر بنا من خبرات “فورا” دون زمن يمر.

المعلم:

(3) هذا نسيان نشط، حين ننسى ما نـَـكــْـره، فننسى ميعاد طبيب الأسنان إذا كانت خبرتنا السابقة معه مؤلمة، وننسى موعد اجتماع ثقيل الظل لا جدوى منه، وهذا ما يسمى أحيانا النسيان بالكبت.

الطالب: ولكنا إذا نسينا حادثا ما أو شيئا ما، فقد نذكره بعد مدة وحدنا دون استعادة حفظه أو مراجعته مع أن مزيدا من الزمن يكون قد مر عليه.

المعلم: ما أذكى أسئلتك، ولكنها تحتاج إلى مجلدات للرد عليها، على كل حال، دعنى أكمل:

(4) إن من أسباب النسيان أن يتغير موقف التهيؤ Change of Set، فإذا حفظت شيئا فى موقف ما ثم تغير الموقف، فإنك قد لا تذكره، فإذا رجعت إلى نفس الموقف الأول تذكرته، وقد تعود الذكريات نتيجة لترابطات مثيرة ويحدث ذلك أحيانا فى المرض الذى يسمى الهوس Mania مثلا.

الطالب: فى المرض!! كنت أحسب أننا فى المرض ننسى أكثر فأكثر، وأن العلاج وظيفته أن نتذكر عقدنا القديمة ونواجهها.

المعلم: ألم يصلك منى أن هذا هو جانب واحد من بعض ما شاع عن التحليل النفسى، وهو جانب ضئيل جدا، ولكنى رأيت العجب العجاب بالنسبة للتذكر المزعج فى خبرة المرض.

الطالب: حدثنى عن ذلك، فإن سيرة المرض والعلاج تجذبنى أكثر من هذه المادة الجافة والنصائح والإرشادات.

المعلم: دعنى أكتفى هنا الآن بأن اذكر لك بضعة أمثلة توضيحية، فقد شاهدت فى مرض الاكتئاب (الذهانى خاصة: أى الاكتئاب الأعمق المقترب من حافة الجنون) هجوم الذكريات الحزينة، وتذكر الأخطاء التافهة التى حدثت ربما بمحض الصدفة، والمغالاة فى استرجاع الأخطاء التى يعتقد المريض المكتئب أنها لا تغتفر، هكذا دون مبرر، ويستحيل أن نعيد للمريض منطقه السليم من أنه كان يعيش قبل ذلك بكل هذه الأفكار والذكريات سليما معا فى، فهو يصر على أنه ما كان له أن ينساها….إلخ

الطالب: وهل يتذكرها المريض هكذا فجاة دون مبرر.

المعلم: أحيانا تهجم عليه فعلا فجأة مع بداية المرض بطريقة غير مفهومة، وأحيانا تتسلسل بعد حادث بسيط يذكّره بإحدى هذه العينات من الذكريات.

الطالب: وهل يحدث هذا فى كل حالات الاكتئاب؟

المعلم: إياك وأن تستعمل كلمة “كل” هذه فى علمنا هذا، ولا فيما يستجد من علوم متعلقة به، إن اختلاف الأعراض وارد بكل التشكيلات حسب نوع المرض ومرحلته، ذلك أن هناك أمراضا مثل حالات البارانويا تثور فيها ذكريات الاضطهاد والظلم والاعتداء والتهوين بدلا من ذكريات الذنب والأخطاء والعجز، وهناك مرض ثالث اسمه الهوس تثور فيه ذكريات القوة والانتصار والاعتداد بالنفس.

الطالب: عجيب أمر أمراضكم هذه، كأن كل مرض منها يملك مفتاح حجرة معينة من حجرات المخازن العمومية للذكريات، فإذا نشط فتح الحجرة الخاصة به فانطلقت الذكريات التى تتفق مع طبيعته، أى التى كانت فى حجرة ذاكرة هذا المرض.

المعلم: عليك نور!! ما أذكاك!! والله العظيم أنت طالب عالم معلم.

الطالب: لا تنفخ فىّ حتى لا أنفجر

المعلم: أكلمك بصراحة، فقد راعتنى هذه الاستعادة الذكرياتية النوعية حتى وضعت فرضا خاصا بى يربط بين نوعية المرض والمستوى العصبى الدوائرى المقابل لحدوثه، والمستوى الخلوى الذكرياتى المثار معه، والمستوى الكيميائى المقابل والمستهدف إحباطه لعِلاج هذا المرض، كل ذلك كان بعد أن لفت انتباهى مثل هذه الملاحظة التى ذكرتها أنت الآن وأنا أحكى لك عن أنواع الذكريات المستعادة وهى تنشيط ذكريات بذاتها مع مرض بذاته.

الطالب: هكذا يبدو أن النسيان قد يكون أحيانا نعمة كما قد يكون نقصا.

المعلم: هذا صحيح.

الطالب: ولكن ما الذى يساعدنى أن أتذكر ما حفظت فى الامتحان.

المعلم: أنت وشطارتك، ولكن عليك أن تعرف أن التذكر، وهو العملية الثالثة فى الذاكرة بعد الاستذكار والحفظ، له صورتان: الاستدعاء Recall والتعرف Recognition، الأول تمارسه فى امتحان التحريرى العادى حيث تستدعى من الذاكرة ما حفظت دون أن يكون أمامك، أما التعرف فهو يشمل أن تتعرف على ما سبق أن عاينته، مثل امتحان التعرف Spotting فى علم التشريح ومثل بعض “امتحانات الأسئلة المتعددة” M.C.Q

الطالب: صحيح.. صحيح ما تقول.

المعلم: كما أحب أن أنبهك أيضا إلى أن التذكر درجات ومستويات، فقد تتذكر الذكرى ألفاظا بلا صور، وقد تأتى صورة الذاكرة بكلـيـّتها إليك، وقد تتجسد حتى لتصبح صورة وكأنها الرؤيا، وهكذا.

الطالب: أكاد اقول كما بدأنا إن الإنسان هو مجموعة ذكريات ومعلومات.

المعلم: إنه كم من المعلومات بلا حدود، ثروة متنقلة، وكلما عايشت مدى أوسع من هذه الثروة واستفدت منها واستعملتها وتمثلتها وربطت بين مكوناتها كانت حياتك أعمق وأثرى، فأنت أغنى الناس لو عرفت مفاتيح خزائنك.

الطالب: صدقنى أنى كدت أشعر بالثراء فعلا، ولكن يبدو أن كلمة السر لا يعرفها الكثير منا.

المعلم: أحيانا أتصور أن هذا أحسن، وأحيانا أتصوره قمة الغباء البشرى قاطبة.

الطالب: أحس بى أقرب إليك حين أشاهد حيرتك الحقيقية وتذبذبك.

المعلم: شكرا للصحبة يا ابنى.

الطالب: أعلم أنه لا مجال للحديث عن اضطرابات الذاكرة ونحن فى مجال علم النفس وليس المرض النفسى، ولكن هلاّ أشرت ولو إلى أنواعها أو اسمائها.

المعلم: حاضر حاضر: قد تحتد الذاكرة، وتسمى “حدة الذاكرة” Hypermnesis، وقد تقل أو تمحى تماما وتسمى “فقد الذاكرة” Amnesia وقد يكون فقد الذاكرة فى فجوات Amnesic Gaps وهذا متعلق بالكبت الذى أشرنا إليه بالنسبة لذكريات محدودة غير مرغوب فيها، وقد تـُوَلـَّفُ ذكريات لم تحدث أصلا، وهذا ما يسمى “تزييف الذاكرة” Falsification حيث تذكر تفاصيل لم تحدث ويبدو هذا فى الشهادات غير الدقيقة والمزورة فى ساحة القضاء False Testimony وحين تملأ فجوات الذاكرة بما لم يحدث إطلاقا تسمى أراجيف Confabulation بل وحتى نوع معين من الهلوسة Hallucinations يمكن أن يعتبر أحيانا نوعا من اضطراب الذاكرة، وهكذا وهكذا.

الطالب: إذا كان الإنسان هو كم من المعلومات الموروثة والمحفوظة بالخبرة فماذا هو صانع بهذه الزحمة من المعلومات المالئة مخه وخلاياه.

المعلم: إن هذه الثروة هى أدوات حياته جميعا وخاصة وهو على قمة الهرم الحيوى إذ هو بها يستطيع أن يكمل ويتطور، وحين نشأت اللغة وفرت عليه جهدا هائلا لأن الرمز اصبح يقوم مقام المعلومة الأصلية، ولما نشأت الكتابة فالطباعة اصبح له مخزن آخر خارج مخه وذاته هو الكتب والحاسوبات والنت، وأصبح امتداده عبر الأجيال ليس قاصرا على النقل بالجينات ولكنه امتد إلى النقل بالكتابة والتكنولوجيا الأحدث فالأحدث أيضا.

الطالب: عفريت هذا “الإنسان”.

المعلم: أى والله عفريت، ولكن أحيانا يتعفرت على نفسه.

الطالب: كلامك يجعلنى أقف لحظة أراجع ما هو أنا، حتى يكاد يملؤنى الفخر.

المعلم: الفخر.. و.. والمسئولية.

الطالب: والمسئولية، وإن كانت هذه حكاية تحتاج إلى تفكير.

المعلم: والتفكير من أعظم ميزات الإنسان ومسئوليته معاً.

الطالب: ولكن قل لى أين يقع التفكير من التعلم والذاكرة!

[1] – ألفريد روبرت شيلدريك  Alfred Rupert Sheldrake، ولد في 28 يونيه 1942 هو مؤلف، ومحاضر شعبي، و باحث في مجال علم النفس الغيبي وبخاصة المجال المعروف “بصدى التحول” morphic resonance.

[2] – هذه الفقرة مضافة فى هذه الطبعة

[3] – تلتل كلمة عربية: تلتل صار شديدا، وتلتل، ساق سوقا عنيفا، وتلتل الشئ، حرّكة بعنف، وتلتل فلاناً وغيره: اقلقه وأزعجه.

الفصل السادس: التفكير

الفصل السادس: التفكير

الفصل‏ ‏السادس

التفكير

 المعلم: يكاد يكون التفكير هو الضلع الثالث لكلِّ من التعلم والذاكرة معا، فإذا كان التعلم هو تغير فى الكائن نتيجة للخبرة وكانت الذاكرة مرتبطة بكم المعلومات الموروثة والمكتسبة فإن التفكير هو استعمال هذا وذاك على مستوى الفعل ومستوى الرمز معاً لهدف التكيف وحل المشاكل والإبداع معاً.

الطالب: لو أن التفكير هو حل المشاكل، فلابد أننا لا نفكر لأن المشاكل من حولنا يبدو أنها لا تـُـحـَـل، بل هى تزداد ونحن نحاول حلها، فياليتنا لا نحاول.

المعلم: عدت إلى فكاهتك الظريفة، ولو أنى لا أحب هذا النوع من الفكاهة من الشباب خاصة، فالمشاكل تحل حين نقرر حلها، وليس ونحن نقف نتفرج عليها أو ننتظر من غيرنا حلها، ما علينا، المهم أنا أوافقك، فإنى لم أرض أبدا عن أن يُعـَرّف التفكير بأنه حل للمشاكل Problem solving وإن كنت لم أجد له تعريفا مقنعا بعد.

الطالب: هل سترجعنى لدوامة التعاريف ثانية.

المعلم: ولم لا؟ وعلى كل فقد ذهبت إلى تعريف بسيط للتفكير لعله يرضيك مرحليا وهو: أن التفكير عند الإنسان ليس فقط “استعمال الرموز والذكريات لحل مشكلة أو الوصول إلى هدف (مسبق فى العادة) بل هو على المستوى الأشمل: “الترابط وإعادة الترابط على المستوى النيورونى والجزيئى العظيمى لتحقيق الوصول إلى غاية ليست بالضرورة فى المستوى الشعورى”

الطالب: لقد عقـَّدتها يا سيدنا بدرجة، تدفعنى أن استسهل تعريف التفكير أنه هو “حل المشاكل”، مهما كان اعتراضك انت.

المعلم: ياليته ينفع، إن المسألة متصاعدة التعقيد، والتفكير على كل حال يقع على مستويات، فإذا كان حل المشاكل شعوريا فهذا مستوى ظاهر يمكن تناوله بالمنطق العادى، أما حين يكون الترابط وإعادة الترابط على مستوى النيورونات والجزيئات العظيمة فهذا مستوى مواز أعمق وأساسىّ وهو مرتبط مباشرة بالمستوى الأول.

الطالب: أنا أخشى أن تعود وتنطلق إلى حكاية المستويات وسبحان من يوقفك.

المعلم: إن عملية التفكير – الرمزى خاصة – هى من أروع ما يميز الوجود البشرى والسلوك البشرى، ثم إنه فى عملية الترابط التى يقوم بها التفكير على المستويات جميعا من الأسطح إلى الأعمق: إنما يقوم بوظيفة الإسهام فى تماسك المخ البشرى وتنظيمه.

الطالب: بالذمة هل هذا كلام؟، كيف يمكن للوظيفة أن تسهم فى تماسك وتنظيم التركيب الذى هو أصل وجودها.

المعلم: يا سلام !!! إن هذه هى القاعدة حيث يكون التناسق ليس بين أجزاء التركيب فحسب بل يتم بتغذية مرتجعة Feed back بين ناتج الوظيفة وبين التركيب الذى اصدره، وهذا القانون ليس خاصا بالأجهزة البشرية فحسب، بل إن الأجهزة جميعا تصان ويطول عمرها إذا ما كانت وظيفتها تؤدَّى بالكفاءة المناسبة لتحقق الغاية التى وجدت أو تطورت من أجلها.

الطالب: الله .. والله.. ومن أين لك بكل هذا اليقين؟، هل أجريتم تجارب لنرى كيف أن التفكير الهادف المنتظم يحفظ خلاياه؟

المعلم: ألم أقل لك إن وسائل دراستنا متنوعة وليست فقط التجارب، وصدقنى يا إبنى لقد رأيت نتاج التفكير غير المترابط غير الهادف فى خبرتى الكلينيكية نتاجا خطيرا على الخلايا ذاتها، كما صادفت بضعة حالات لم أصفها بعد وقد فقدت النيورونات غشاءها الميلينى حين اصطدمت سلسلة التفكير المنظم للمخ بإحباط ٍ وجودىٍّ مهول حتى شابهت الحالة – حتى من خلال تخطيط الرنين المغناطيسى- مرضى التليف المتناثر Disseminated Sceierosis، بمعنى أن فرط فساد التفكير، وفرط التشتت حتى التفسخ يؤثر على الخلايا حتى تفقد غشاء الميليين، ولكن ما عليك الآن من التفاصيل، المهم أن نتذكر أن التفكير “الغائى بالذات” هو عملية أساسية فى تنظيم المخ والحفاظ على حيويته ووظائفه.

الطالب: ماذا تعنى بالتفكير “الغائى بالذات” هذا؟

المعلم: كان بودى لو تجنبت هذا السؤال، لأن كلمة الغاية ليست واضحة لدى أحد، وهى دائما مقرونة عندك وعند زملائك بأحداث جارية تهدف إلى غاية بذاتها مثل النجاح أو “الزواج” وعند غيرك ممن هم أكبر منك بأوضاع سطحية مثل “الوصول” والسلطة أو اللذة وما إلى ذلك، وإنما أعنى بقولى “الغاية” هنا عمقا بيولوجيا يبدأ من اعتبار الغاية هى الحياة ذاتها وأحيانا هى حفظ النوع بل وأحيانا هى الغيب إليه([1]).

الطالب: الغيب غاية؟ ما هذا؟

المعلم: أنت تفتح على نفسك أبوابا لم أكن أنوى أن أتطرق إليها، ولا أميل للحديث عنها لكثرة ما يساء فهمها، وعموما فسوف أوجز لك هذا الأمر بأسرع ما يكون كما خبرته فى مجالى الإكلينيكى.

1- لكل عملية تفكير بالمعنى الذى ذكرناه: هدف قريب أو بعيد.

2- إن هدف الفكرة حتى فى أبسط صورها (مثل إلقاء تحية) هو الذى يحدد انبعاثها وانتهائها – وفى هذا المثل (التحية) هو التواصل أو المجاملة، أو إطلاق عادة، أو كل ذلك معاً.

3- إن الأفكار تترتب ترتيبا محوريا حيث توجد فكرة مركزية Central idea أساسية لها هدف أساسى ثم ترتبط بها وتدور فى فلكها أفكار أخرى لها أهداف أقرب.

4- تعتبر هذه الافكار المنجذبة الأقرب أفكارا مركزية لما دونها مما حولها وهكذا.

5- فى لحظة ما، تظهر على السطح (فيما يسمى الشعور) فكرة مركزية ظاهرة، ومهما كانت قادرة على تنسيق بقية النشاط الفكرى والترابطى، فإنها بدورها مرتبطة بفكرة مركزية أعمق وأشمل.

6- تتبادل الأفكار المركزية الشعورية (ثم الطرفية بالنسبة لما هو أعمق) مع بعضها حسب الاهتمام واللحظة والمتطلبات والواقعية.

7- يتم هذا التسلسل والتصعيد بين الأفكار المركزية المتصاعدة فى نظام متلاحق تلقائى، وهو نظام لا يسمح عادة بالظهور فى دائرة الشعور إلا للفكرة اللحظية المرتبطة بهدف واضح قريب فى العادة.

الطالب: عندك عندك، لقد زودتها حتى كدت أفقد الخيط من يدى، أعنى من عقلى، فلا أتسلسل معك مثلما تتسلسل الأفكار حول الفكرة المركزية، ولكن ماذا عن الأفكار غير المركزية؟

المعلم: هأنت ذا تسأل السؤال، فإذا أجبتك ولو إيجازا قلت عندك عندك.. وصحت شاكيا، طبعا توجد يا سيدى أفكار غير مركزية، وإليك بعضها قبل أن ترجع فى كلامك، فعندنا بالاضافة إلى الفكرة المركزية الأساسية:

1- الفكرة التابعة Following Idea، وهى الفكرة اللاحقة والمنجذبة إلى الفكرة المركزية والمـُـسـْـهـِـمة فى تحقيق الهدف الأساسى للفكرة المركزية، فى تناسق تلقائى.

2- الفكرة المتنحية الكامنة Latent Recessive Idea وهى الفكرة البديلة القائمة فى “الأرضية” Background مرحليا والمستعدة للشحن (فالفاعلية) بمجرد وصول الفكرة المركزية الأولى إلى هدفها، أو عجزها عن ذلك تماما.

3- الفكرة المعارضة Opposing Idea: وهى  فكرة متنحية أيضا ولكنها مبعدة، وفى نفس الوقت فعالة بالسلب أو بالايجاب، (أى أنها قد تعوق الفكرة الأصلية المضادة أو تحل محلها كوقاية منها)، وفى الأحوال العادية تكون أقرب ما تكون إلى نقيض الفكرة المركزية الأولى المحتلة للشعور وتعمل إيجابيا كما ذكرنا بالتهديد باحتمال العكس فتثبت الفكرة الأولى المحتلة للشعور، وهى فى نفس الوقت فكرة بديلة جاهزة للعمل مثل الفكرة المتنحية، ولكن فى ظروف أكثر تعقيدا لا مجال لتفصيلها هنا الآن.

4- الفكرة الطفيلية Paracytic Idea: وهى التى تحتل الشعور أو ما قبله مباشرة أيضا فى نفس الوقت مع الفكرة المركزية، ولكنها لا ترتبط بها ولا تسير فى فلكها بل تشوهها وتعطلها (حتى ولو لم تكن نقيضها) وهى مسئولة جزئيا عن الربكة والغموض وعدم التركيز عادة.

5- الفكرة اللامركزية Acentral Ideae، وهى فكرة تتصف بأنها معارضة أيضا، وقد لا تكون طفيلة وهى بلا هدف ترابطى شامل، وإن كان محتواها الأصغر مترابط فى ذاته، وهى تظهر بشدة فى حالة العصاب الاجترارى Ruminative Neurosis وهى تحتل الشعور بنفس القوة التى تحملها الفكرة الأصلية المركزية تقريبا.

الطالب: ياليتنى ما سألت وياليتنى ما فهمت ما فهمته وهو الأقل، فهل هذا علينا فى الامتحان؟

المعلم: لا أظن أنه عليك فى امتحان آخر السنة، ولكنه عليك فى امتحان الحياة بلا شك.

الطالب: الحمد لله أن امتحان آخر السنة فكرة مركزية مؤقتة أسطح وليس لها أى علاقة بامتحان فكرة الحياة المركزية يا معلمى.

المعلم: ما أصدقك، وما اكبر مصيبتنا فى ذلك إذا لم نستطع أن نوصلهما ببعضهما، إذن فسيتفكك مجتمعنا كما يتفكك المخ إذا لم ترتبط أفكاره وتتسلسل.

الطالب: الواقع أنى رحت أتصور أنواع الأفكار التى تتحدث عنها مثل أفراد فى مجموعة لها قائد وأتباع ومعارضين وطفيليين الخ، وأحيانا كنت أتصور مجموعة الأفكار مثل المجموعة الشمسية.

المعلم: ما أذكاك والله العظيم، هل تعلم ان أفلاطون عمل نفس الفكرة الأولى فى بداية تقديمه لجمهوريته.

الطالب: الله يخليك، واحدة واحدة حتى لا نجد أنفسنا فى أثينا القديمة دون أن ندرى.

المعلم: ولم لا.. ياليت.. ولكن بأسلوب العصر.

الطالب: ..هل تعلمنى العلم أم الفلسفة؟

المعلم: قريبا لن تطرح هذا السؤال، وأنا لست مستعدا للتفضيل، ويمكنك أن تكمل هذا الموضوع فى مكان آخر([2]) حيث تتعلم تطور الأفكار المركزية منذ الولادة من الانعكاس البدائى إلى .. المنعكس الشرطى، إلى الارتباطات الشرطية الاكثر تعقيدا، إلى الولاف الغائى…الخ.

الطالب: الله الله … الآن أفهم نقدك أو حتى رفضك تعريف التفكير بأنه “حل المشاكل”، وخلاص.

المعلم: ولكننى لم أرفض ذلك على طول الخط لأنه حل للمشاكل على مستويات وغايات متنوعة ومتصاعدة ومتبادلة.

الطالب: ولكن حدثنى لو سمحت عن أدوات التفكير ووسائله.. قل لى هذه الأمور البسيطة سهلة الحفظ الصالحة للامتحان.

المعلم: نحن نستعمل الرموز Symbols (واللغة هى رمز كلامى) بكل أنواعها، وكذلك الأشكال Diagrams والأشياء Objects، كما أننا إذ نستعمل الرموز نتعامل فكراً بالمفاهيم Concepts

الطالب: ولكن كيف تتكون المفاهيم؟ كيف نعرّف كلمة معينة تعريفاً سليما لتحمل معنـَـىَ ما؟

المعلم: هذه قضية طويلة بعض الشئ، وأساسا يـُـستحسن أن ترجع إلى بعض ما ذكرنا فى موضوع الإدراك، وعموما فإنها عملية تتطلب:

(1) التعرف على الصفات المماثلة فى عدة أمور أو أشياء.

(2) ثـُم استخلاص الصفة المشتركة.

(3) ثـُم تعميم أن من يحمل هذه الصفة يقع تحت هذا المفهوم، وأخيرا.

(4) ثـُم استبعاد من لا يحمل الصفة المشتركة.

(5) ثـُم العودة إلى تصنيف فرعى داخل هذه المجموعة ذاتها.

الطالب: إضرب لى مثلا تعمل معروفا.

المعلم: يا سيدى حين تعرف وتلاحظ أن كل الأعصاب فى التشريح لونها أميل إلى البياض والامتداد والاستقامة، تكون هذه هى الصفات المشتركة، فتقرر أن كل ما يتصف بهذه الصفات هو “عصب”، ثم تعود تصنف الأعصاب إلى عصب أساسى وعصب فرعى أو عصب دماغى وعصب سمبثاوى …الخ الخ، هذا هو تكوين مفهوم لما هو عصب، وأنت تستبعد فى نفس الوقت كل ما هو وعائى أو لحمىّ…إلخ.

الطالب: ولكن ذلك لا يكفى لأن بعض الأوتار تشبه الأعصاب.

المعلم: إذن فمفهوم العصب تشريحيا يحتاج لإضافة مفهوم فسيولوجى بشأن وظيفته .. وهكذا.

الطالب: ولكن تحديد المفاهيم صعب بلا جدال.

المعلم: طبعا بلا جدال، هل تذكر حين كنا نحتار فى تعريف علم النفس، أو التعلم، لقد كنا نبحث عن تحديد كل مفهوم، عن المفهوم الجامع المانع.

الطالب: الجامع المانع؟! تعنى ماذا؟

المعلم: نعم، المفهوم هو الذى يجمع الصفات المشتركة معا فى كيان واحد بذاته (الجامع)، وهو الذى يمنع (أى لا يسمح) دخول ما لا يتصف بهذه الصفات تحت هذا المفهوم، كما ذكرنا.

الطالب: يخيل إلى أن دراسة تكوين المفهوم، وصفاته هى دراسة نشأة اللغة.

المعلم: يا سلام عليك، لقد حاولت أن أتجنب ذلك خشية الإطناب، ولكنك تجرجرنى إليه جرا.

الطالب: لابد مما ليس منه بد، فهل تتصور أنى أستطيع أن أفهمك أو أتتبعك فى موضوع التفكير هذا دون أن نتطرق إلى اللغة؟

المعلم: إن ما يهمنى فى ذلك هو خطوات تطور اللغة بشكل خاص حتى تصبح الكلمة هى المفهوم الذى تتضمنه وهذا يمر بمراحل، وقد وصف أريتى (وهو طبيب نفسى كما سبق أن ذكرت لك وليس عالم نفسى)، ويبدو أنه يتبع إلى حد ما طريقتنا هذه فى البحث والتفكير، وصف (سنة 1976)([3]) ما يتعلق بما نقول فى ثلاث مراحل.

(أ) مرحلة الدلالة أو الإشارة (التسمية) Denotation وهى المرحلة التى يرتبط فيها اسم الشئ بذات الشئ كإشارة دالة دون مفهوم متكامل، وفى هذه المرحلة يكون أغلب محتوى اللغة مجرد مجموعة من الأسماء.

(ب) ثم مرحلة التلفيظ Verbalization: وهى المرحلة التى تكتسب فيها الكلمة (أو اللفظ) أهمية لذاتها أكبر وأبعد من مجرد دلالتها على شئ محدد، أى أن الكلمة لا تصبح مجرد رمز مرتبط مباشرة بما يدل عليه، ولكنها تصبح ذات شخصية مستقلة وهذه المرحلة رغم وظيفتها الاقتصادية وأهميتها إلا أنها لا ترتبط مباشرة بتكوين المفهوم بكامل أبعاده.

(د) وأخيرا المرحلة التضمينية Connotation، وهنا يعتبر هذا التضمين هو “تعريف” الشئ أو “مفهومه”، وهنا تصبح الكلمة تمثل “مفهوما” فعلا وليست مجرد دلالة على شئ ولا قائمة بذاتها مجرد رمز لشئ، وكل كلمة تمر بتاريخ تضمينى Connotative History طويل حتى تحتوى المفهوم بدقة، فلا تصبح أكبر منه ولا يصبح أكبر منها، ولكن مزيدا من الزمن قد يغير المضمون([4]).

الطالب: يا سلام!! العلم نور والله العظيم حتى ولو لم يكن مقررا علينا

المعلم: فتحت نفسى الله يفتح عليك.

الطالب: كأن اللغة فى المرحلة الأولى هى أصوات تعين فى التفاهم ولا تحتوى كل أبعاد المعنى، أما فى المرحلة الثانية فهى مستقلة الشخصية مثلما ترتص الألفاظ مع بعضها فى الشعر أحيانا دون علاقة مباشرة جاهزة بالواقع الحى المباشر، وفى المرحلة الأخيرة تصبح اللغة هى المضمون ذاته أى المفهوم الذى نعنيه.

المعلم: ماذا أبقيت لى يا عفريت؟

الطالب: قل لى بربك إذا كانت كل كلمة هى مفهوم قائم لمعنى فكيف تتواصل المفاهيم وتتكون الأفكار كما ذكرت لى عن الأفكار المركزية واللامركزية.. وغيرها؟

المعلم: إن الأفكار وهى مجموعات منظومات مفهومية Conceptual systems تمثل كل منظومة منها مفهوما مركبا أعلى، وهكذا حتى نصل إلى الفكرة المركزية الأم المتعلقة بهدف وغائية الحياة ذاتها.

الطالب: إنك تستعمل كلمة الأفكار استعمالا عميقا لا يقتصر على الرمز ولا على المفاهيم.

المعلم: هذا أفضل وأسلم لأن بعض الإنسانيين من علماء النفس وعلى رأسهم أبراهام ماسلو Abraham Maslow اتهموا إنسان العصر بأنه يعيش عالم المفاهيم بشكل مفرط مما يبعده عن الواقع العيانى الحى، فعلى قدر ما تقدَّم ظهور ما هو “المفهوم” بالإنسان ووفر له الوقت وسهل له التواصل، فقد كاد يسجنه فى “دنيا المفاهيم” التى هى مغتربة بالضرورة بدرجة أو أخرى عن الواقع الحى النابض.

الطالب: ولكن حديثك عن الأفكار بما هو أعمق من المفاهيم يوحى لى بأنك تعنى ما هو لاشعورى أيضا.

المعلم: ألم أخبرك أنى لا أميل إلى استعمال هذا اللفظ المنفى وأفضل عليه لفظ “الشعور الأعمق”، أو “الشعور الأبعد” عن متناول الوعى الظاهر، المهم دعنا نستعمل أى تعبيراً ليس بالنفى، ولا بالتجهيل.

الطالب: حاضر يا سيدى: أصيغ سؤالى ثانية هكذا: حديثك عن الأفكار يوحى لى بأنك تعنى أنها ليست كلها فى “الشعور الأول” بل إنها تكمن حتى الشعور “السابع” .. هل يرضيك هذا؟

المعلم: هو أقرب إلى ما أريد توصيله إليك فعلا، والإجابة عندى هى أن: “نعم”، فالتفكير قد يكون ظاهرا، وكثيرا ما يكون باطنا، وهو يتم فى الحلم مثلما يتم فى اليقظة، وفى فترات الكمون والحضانة يكون ساريا ومسلسلا حتى لحظات الإشراق يخرج جاهزا ناضجا فى كثير من الأحيان، وبمجرد أن تمسك القلم لتخطط لمشروع أو حتى تكتب رسالة، تجد أن النتاج الفكرى يخرج وكأنه معد من قبل، هذا إذا كان عقلك منظما وطلاقتك جاهزة (وهو الشئ الطبيعى فى الإنسان السوى)، وقد تكون حيل التنويم (المغناطيسى)، والإيحاء أثناءه، ثم ما يتبع الإفاقة منه من تنفيذ لما أوحى به، قد يكون فى ذلك دليل آخر لحدوث التفكير على المستوى الأعمق بعيدا عن قبضة وعى اليقظة

الطالب: ولكنى حين حاولت أن أصدق حديثك هذا عن أن الإنسان هو كتلة معلومات وذكريات، وأنه نتاج التعلم، ثم هو ينتظم بتناسق التفكير وتسلسل الأفكار تراجع عندى دور العواطف حتى أننا نهمشها أو ربما ننكرها

المعلم: هذا صحيح، وقد عملها كثير من العلماء بلا تردد.

الطالب: عملوا ماذا؟ أنكروا العواطف؟

المعلم: نعم.

الطالب: هل نويتم أن تجففوها وتتوكلوا على الله.

المعلم: نجفف ماذا؟

الطالب: تجففون حياتنا من العواطف ولا يبقى إلا التفكير والعياذ بالله؟

المعلم: إن التفكير يستمد طاقته مما هو عاطفة، ولكنه هو فى ذاته فى صورته النقية الموضوعية لا يصطبغ بالعواطف اللهم إلا إذا كان ذاتيا أو خياليا

الطالب: تقول إن التفكير يستمد طاقته من العواطف، فماذا تفعل الدوافع إذاً؟

المعلم: لماذا تتعجل الأمور، إن موضوع العواطف هو والدوافع يمثلان الوظائف الدوافعية معاً، وأن هذا فصل تال، بل إن العواطف فى آخر تطورات العلم تفكر بطريقتها

الطالب: ماذا؟ ماذا؟ العواطف تفكرِّ؟

المعلم: انتظر حتى نأتى لموضوع الوجدان وهو الأسم الذى أفضله عن لفظى “العواطف أو الانفعال”

الطالب: حاضر حاضر خلنا فى التفكير وأبعاده

المعلم: إن كفاءة التفكير تتوقف على

(1) كيفية تناول موضوعه.

(2) ومدى الدوافع الحافزة له.

(3) كفاءة استعمال الخبرات السابقة.

(4) ومدى المعلومات المتاحة حول المشكلة.

(5) وأخيرا: وضوح المفاهيم والأدوات المستعملة فيه لاستبعاد الإعاقات الانفعالية والعاطفية.

الطالب: لقد فاتنى أن أسألك عن أنواع التفكير حين قلت منذ قليل “اللهم إلا إذا كان ذاتيا أو خياليا” وكأنى أعرف ما هو التفكير الذاتى وما هو التفكير الخيالى.

المعلم: لا أستطيع أن أهرب منك أو أقول “أى كلام”، وهذا عيب اختيارى لك طالبا “ذكيا”، وعلىّ أن أتحمل مسئوليتى، إسمع يا سيدى:

التفكير هو التفكير السليم الذى ذكرنا، وهو التفكير الموضوعى الخالى من “شوائب” العواطف وتداخلها، وهو الترابط وإعادة الترابط والإفادة من العلاقات وصنع الجديد الهادف منها، هذا هو الذى يستأهل أن يسمى تفكيراً، أما ما دون ذلك فإنه تداخل بين التفكير وبين وظائف أخرى، ومع ذلك ومن أجل خاطر عيون الامتحان فإن تقسيم التفكير يعتمد على الزاوية التى نراه منها، فإذا نظرنا إليه من زاوية الطريقة ذاتها التى نتبعها ونحن نمارسه: لأمكننا أن نميز:

(1) النوع البسيط وهو الذى يربط بين مخزون الذاكرة وما يصل من معلومات، وكأنه الادراك، فهو يكاد ينطبق على الادراك الأبسط بشكل أو بآخر.

(2) ثم النوع الذى تغلب فيه المحاولة والخطأ على المستوى العقلى، وهو شديد الشبه بما أسميناه التعلم البصيرى، فى حديثنا السابق عن التعلم والاختلاف الوحيد هو ان هذا التفكير البصيرى يستعمل ما سبق أن أسميناه التعلم البصيرى، وينتج عنه فى الظروف الحسنة تعلم أيضا من نفس النوع الذى نعتبره نوعا من التجربة والخطأ على المستوى العقلى، وعموما فإن هذا النوع من التفكير يربط بين الخبرة السابقة، والحاضر المعيش حالا، وبعد  النظر المستهدِف غاية بذاتها، وهو يتبع منهج الفرض والاستنتاج Hypothetico-deductive

الطالب: بصراحة لقد اختلط الأمر علىّ، حين اختلط الادراك بالتفكير بالتعلم، ولن أسألك مرة ثانية لأنك ستجيب أن هذه هى طبيعة علمنا وأن الأمر يتوقف على زاوية رؤيتنا وعلى لغة حديثنا، حفظتـُـكَ حتى اليأس، أكمِل أكمِلْ وأمرى إلى الله.

المعلم: إذا أردنا أن ننظر إلى التفكير من زاوية الذاتية والموضوعية لقلنا أن هناك

(1) التفكير المتمركز حول الذات Egocentric وهو عاطفى ومتميز، ونقيضه هو

(2) التفكير الموضوعى Objective، وهو خال من التأثر بالانفعال ومن التعصب، ويسمح بالمراجعة، ويعتمد على الحقائق، وعلى أقل قدر من الذاتوية.

الطالب: إنى لا أتصور – بصراحة –  تفكيرا لا يصطبغ بكل ما هو ذاتى.

المعلم: عندك حق، حتى أن كلمة “الموضوعية”  أصبحت أملا أكثر منها واقعا ممكنا، والحديث الآن يجرى عن الذاتية المنفردة تماما وهى المرفوضة غالبا، فى مقابل الذاتية المتبادلة Intersubjectivity، معتمدين على الاتفاق بين أكثر من ذات حول ظاهرة ما، حتى أُقـِـرَّتْ هذه الطريقة كبديل نسبى عن الموضوعية، واعـْـتـُـبـِـرَتْ صحيحة معلوماتها على قدر ما تتميز به الذوات المتفقة عليها من موضوعية فى نوع وجودها.

الطالب: لا لا … عندك، لا استطيع أن أتابع ولا حرف مما تقول.

المعلم: يا سيدى، فى علمنا هذا بالذات، تكاد تكون الموضوعية المطلقة من المستحيلات، ألست معى فى ذلك؟

الطالب: حسب فهمى: معك.

المعلم: فنحن نلجأ إلى أخف الأضرار، وهى أن يكون الباحث ذات نفسه من نوع جيد.

الطالب: نوع جيد؟ وهل هناك باحثون من نوع سىء أ ومضروب؟ ما هذا؟

المعلم: رجعنا إلى السخرية؟

الطالب: ماذا أفعل لك؟ تقول باحث من نوع جيد، ثم ما لهذا ولحديثنا عن التفكير الموضوعى.

المعلم: ألست أنت الذى قلت أنك لا تتصور تفكيرا لا يصطبغ بما هو ذات، وقد وافقتك على ذلك، إذن لابد أن نتفق على ماهية الموضوعية فى التفكير، وعلاقتهما بآلة القياس، وهى هنا الإنسان ذات نفسه، فإذا قلت من “نوع جيد”، فإنى أعنى إنساناً – عالما كان أو غير ذلك-  أكثر موضوعية، أى أنه يستطيع أن يكون أقل تعصبا، وأكثر سمعاً لما يقال ومراجعة لما يرى، وتقبلا للاختلاف، وممارسة للدهشة، واحتمالا للجديد وكل ذلك يجعل تفكيره، وخاصة إذا تبادله مع آخر، ياحبذا من نفس النوع البشرى سالف الذكر، أكثر موضوعية، ويـُسمى ما يتفقان (أو يتفقون عليه) صحيح بالاتفاقية أو التراضى Consensual Validity

الطالب: الله الله!! سنتوصل إلى العلم ونكتشف المعرفة بعقود “القسمة والتراضى” و”الأغلبية الديمقراطية”، أحسنتم والله، ومع ذلك فأنت تهز تعصبى لفكرى، وثقتى به، حتى اكاد أختل.

المعلم: الشر يبعد عنك، ويحفظ الله عليك شجاعتك وذكاؤك معاً، فهاتين الصفتين هما اللتان تسمحان باستمرار حوارنا.

الطالب: ترشونى بالمديح ثانية، إستمر ولا يهمك.

المعلم: آخر تقسيمة للتفكير قد تقابلها فيما يتصادف بين يديك من كتب هى ما ينظر إليه من جهة اتصاله بالواقع

(1) فالتفكير الواقعى Realislic هو شديد الشبه بالتفكير الموضوعى سالف الذكر

(2) والتفكير المثالى Idealistic Thinking هو شديد البعد عن الواقع والقرب من عالم المُثـُل صعبة – أو مستحيلة – التحقيق، وهو يرضى الذات ويحسّن منظرها أمام صاحبها، ولكن فاعليته أقل بكثير

(3) التفكير الخيالى Fantastic وهو التفكير المبتعد عن الواقع أيضا ولكن دون حتم كونه مثاليا من عدمه، وقد يكون مرتبطا بتحقيق الأمانى فى عالم الخيال Wishfulfilling Thinking، وقد يسمى التفكير الأمِل أو الذاتى Autistic حيث تتحكم فيه العوامل الداخلية والدفاعات الخفية (الميكانزمات) تحكما مطلقا.

الطالب: ألم تذكر لى منذ قليل نوعا أسميته “ذاتويا” وأظنك ترجمته Egocentric، ثم ها أنت ذا تتكلم عن النوع الذاتى وتسميه Autistic، أرسنى على برٍّ حتى لا أرتبك.

المعلم: حاضر حاضر يا سيدى، الصعوبة فى اللغة والترجمة، ولكن ينبغى أن تعذرنى وتعذر لغتنا فى مرحلتنا هذه وهى تقتحم مختلف مجالات العلم اقتحاماً، وهى غنيه ومرنة وقابلة للتعديل ولكن الأوصياء عليها أوقفوا تطويرها، وعموما فأنت قد ألتقطت التشابه، أو على الأقل التقارب، وهذا طيب، واعذرنى فى اجتهادى فى الترجمة إلى لغتنا الجميلة.

الطالب: ربنا يسهل ويأتى اليوم الذى تدرسون لنا بها، ونمتحن بها، ربما نقترب أكثر مما نريد، وينبغى، وينفع الناس.

المعلم: من فمك لباب السماء.

[1] –  “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” للمؤلف ص 54، 55، 56، 57– الناشر دار الغد للثقافة والنشر 1979 القاهرة.

[2] – “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” للمؤلف ص 373، 374، 375، 376.

[3] – أنظر الهامش رقم (26) صـ 112

[4] – إذا زادت هذه الظاهرة وتضخمت على حساب ما قبلها وما بعدها فهى تسمى اللفظنة Verbalism وهى ما يتصف به الذهنيون (المثقفون) المغتربون كما تظهر فى الفصام بوضوح، حين يستقل اللفظ عن السياق.

الفصل السابع: الطاقة والحياة

الفصل السابع: الطاقة والحياة

الفصل‏ ‏السابع

عن الطاقة والحياة

الطالب: والآن حدثنى ما هى القوة التى تدفع المخ لعمل كل هذه الوظائف.

المعلم: تذكر أننا قسمنا وظائف المخ إلى وظائف ترابطية وأخرى دوافعية وثالثة وسادية.

الطالب: أبدا، لا أذكر.

المعلم: ولو….، أذكّرك، ربما لم أؤكد لك على ذلك لأننى حاولت منذ البداية وحتى الآن أن أوصّل حتمية تداخل الوظائف عموما: إن كل ما شرحنا حتى الآن من أول الإدراك حتى الإبداع كان يقوم على فكرة الترابط، بشكل أو بآخر: فالإدراك ربط يبن أثر قديم وبين تعرف حديث حتى دون أن يمر على الحواس، والتفكير ربط بين معلومة ومعلومة لحل مشكلة، ثم سوف نشير كيف أن الإبداع هو ربط بين أجزاء قديمة لخلق جديد، وحتى الاحلام هى ربط من نوع خاص.

الطالب: ولكن ما أذكره أننا أسمينا كل هذا بما فى ذلك التعلم والذاكرة “وظائف معرفية”.

المعلم: ولم لا، الوظائف المعرفية ترابطية بالضرورة.

الطالب: وحتى الأحلام ؟.. وظيفة معرفية؟

المعلم: وحتى الأحلام، ألم نقل إنها تنظيم تكاملىّ لما حدث من معرفة أثناء اليقظة، جنبا إلى جنب مع ما ترك من معلومات لم يكتمل تمثـِّـلها تماما

الطالب: لو سمعك أحد أهل بلدتنا تتكلم عن الربط والتربيط بهذا الحماس والتقدير لا نزعج، فللربط معنى خاص عندنا فى الريف.

المعلم: أعرفه وأحذرك من هذه البداية الساخرة، لندع الربط والترابط وكفى عليه هذا، ولنتكلم فى وظائف أخرى للمخ أو للأمخاخ.

الطالب: تقول أمخاخ؟ وهل لنا أكثر من مخ.

المعلم: ألا تتذكر بداياتنا؟ ثم دعنا لا نفتح هذا الملف الآن فهو بالغ الاتساع وخلنا فى المخ الذى نعرفه أولا، ربما نلم ببعض ابعاده.

الطالب: بصراحة أنت تلوّح لى بما لا أعرف، فأود لو عرفته ثم تتوقف، فأعجز عن أن أتحرك بعيدا عن تصورى الأول.

المعلم: ومن أين لك تصورك هذا يا بطل؟

الطالب: من تشريح الجهاز العصبى وحتى الفسيولوجيا النفسية التى أخذناها، لم أعثر فيها إلا على مخ واحد.

المعلم: بصراحة معك حق ولكن أحذرك من فرط التعميم فلكل جهاز خاصيته،

الطالب: وما هى خصائص المخ البشرى المقررة علينا حتى أنجح إذا عددتها فى الامتحان.

المعلم: بصراحة أنا أشفق عليك أن أذكر لك ولو بعض الحقائق عن كل ذلك، فدعنا نقصر حديثنا عن المخ كما شاع استعماله منفردا، دعنا ننظر فى هذا المخ وطاقته، وحركيته ونشاطاته، فمن ناحية هى ليست طاقة مثل الكهرباء أو الغاز وما شابه، ومن ناحية أخرى هى لا يمكن مجرد تخيلها،

الطالب: ولكننى أريد أن أعرفها

المعلم: أنا نفسى عجزت عن استيعابها بكل ما أملك من خيال وما أطرح من فروض.

الطالب: وهل تريد منى أنا أن استوعبها، رجعت فى كلامى.

المعلم: يا أخى لاتتسرع، أنا لا أعنى تعجيزك، أنا اعترف أمامك بالصعوبة، لتحترم حدودى، فأنا لا أفعل إلا أن أنقل لك بعض المعلومات الجزئية التى تعلن أنك – وأنا معك – جاهلان (على أحسن الفروض) وبالتالى ننتبه إلى عدم الإسراع برفض ما لا نعرف.

الطالب: إنك تحيرنى، تقول لى معلومات فى منتهى الدقة، ثم تتصنع الجهل وتساوى نفسك بى، لتسحبنى إلى حيث تريد.

المعلم: لماذا لا تثدق أن الجهل هو بداية العلم، وأن اليقظة واحترام كل معلومة مهما ضؤلت هى بداية الطريق؟

الطالب:بدايته؟ نهايته؟ قل لى كيف تعمل العواطف الإنسانية الأعلى مثلا؟ هل هى أيضا ترابطات وتباديل وتوافيق فى المخ، ومن أين لها بالطاقة اللازمة لكل ذلك

المعلم: تصوريا ابنى أن هذه منطقه من أصعب ما يمكن مع أنها من أهم ما ينبغى أن نعرفه، مسألة الطاقة هذه تفتح لنا باب الحديث عن الدوافع والعواطف.

الطالب: وهل هذا هو ضمن ما يمكن أن نصل إليه من هذا الحوار؟

المعلم: إن طبيعة ومواصفات ما يسمى “الطافة” هى من أصعب المناطق، ولعل هذا يفسر أن هناك من أنكروا وجودها أصلا، كما ألمحنا.

الطالب: أنكروا ماذا؟ أنكروا وجود العواطف مثلا

المعلم: إنهم قريبون من اولئك الذين أنكروا الغرائز أولا وبحدة وصلت إلى التعصب ضدها، وذلك لحساب العوامل البيئية والاجتماعية، وهكذا انتقل الاهتمام الى الدوافع المكتسبة، وقد تمادى الأمر إلى إنكار الانفعال والعواطف بالنفى الصريح أو بالإهمال المقصود من كثير من العلماء.

الطالب: هل هذا عمى؟ أم قسوة؟ أم هرب؟.

المعلم: المسألة ليست مسألة قسوة أو رحمة، ولكنها مسألة الافتقار إلى لغة قادرة وأبجدية علمية كافيه للإحاطة بهذه الوظائف الكلية المشتمله، وقد رأيت معى كيف اجتهدنا ونحن نحاول أن نشرح التعليم ونفسر النسيان ونفهم التفكير، أما بالنسبة للعواطف والانفعال فيبدو أن الحديث عنهما يتطلب لهجة شاعرية بعض الشئ، والعلم لا يقر هذه اللهجة بصفة عامة.

الطالب: وهل لا يكون العلم علما إلا بأن يصاغ بكلام جاف

المعلم: أنا أحكى لك وجهة نظر لها مبرراتها، ولكن قبل ذلك هل تتصور أن فرويد بجلالة قدره لم يضع نظرية فى الانفعال، بل لقد ذكره فى مجال الانشفاق Dissociation مما يوحى أن الانفعال كان أقرب إلى اللاسواء عنده.

الطالب: الله!الله!!، ما هذا؟ فليصدر العلماء فرمانا بمنع الحزن وشجب الفرح وحظر الحب والكره إذا اشترطوا أن تكون الصحة العقلية خالية من كل ذلك.

المعلم: لماذا تبالغ فى الاعتراض قبل أن تسمع؟ إننا فى أخطر منطقة فى فهم النفس فانتظر حتى نرى، ثم أطلق لسخريتك العنان.

الطالب: صدقنى إنى شديد الشوق لمعرفة حكاية العواطف والانفعال والدوافع لأسباب خاصة.

المعلم: أنا لا أود أن أعرف أسبابك الخاصة وإن كنت احترمها، فدعنى أوصّل لك ما أعرف أو ما ينبغى أن تعرف: وهيا نترك طبيعتها الفسيولوجية جانبا لنعرف أبعادها ووظيفتها أولا.

الطالب: لا ياعم، لقد بدأنا بالمخ ثم قبل ذلك تعريف النفس، وليس عندى ما يبرر ألا أبدا فى كل وظيفة من نفس المنطلق.

المعلم: ماذا أقول لك؟ هل تقبل اجتهادى؟

الطالب: وهل هى جاءت على اجتهادك فى هذه النقطة فقط حتى تستأذننى؟ ألست تجتهد منذ البداية؟ بل تريدنى أنا أيضا أن أجتهد؟ هاتها ولا يهمك.

المعلم: تعالَ نمسكها واحدة واحدة:

1- القوة الدافعية هى تراكيب تنظيمية أيضا فى المخ، (ممتدة إلى كل الجسد كما اتفقنا)([1]) ولكن يبدو أنها ليست ارتباطات خطية بسيطة، بل هى ترابطات دوائرية غائرة متداخلة مشتملة.

الطالب: يعنى مثل التى تحدثنا عنها حين تطرق الحديث إلى المخ المتنحى؟

المعلم: تقريبا.

الطالب: يعنى العواطف والدوافع فى المخ المتنحى؟

المعلم: ليس تماما، ثم يا أخى لاتتعجل، لقد وعدتنى بحسن الاستماع حتى أنتهى من اجتهادى.

الطالب: أنا آسف، أكملِ أكملِ

المعلم:

2- فهى تركيبات كلية بشكل مبدئى، وكل “تركيب مترابط” يمثل مستوى  من الانفعال، فالتركيب يكون بدائيا كلما كان هذا الكل التنظيمى شاملا لعدد أقل من النيورونات والدوائر، وكان أقدم عمراً (فى المخ الأقدم) وكان أقرب إلى الإنفعال الفج وإلى الدوافع العضوية، وكذلك كان ظهوره أقرب إلى النشاط التفاعلى، والعكس صحيح، أى إنه إذا كان التركيب التنظيمى شاملا لعدد أكبر فأكبر من النيورونات والدوائر، وكلما كان أحدث عمراً (فى المخ الأقل قدما وهكذا) كان أقرب إلى ما نسميه العواطف Feeling أو الدوافع الأرقى، وكذلك كان ظهور هذا التنظيمات أشمل لكل من الفعل والتفاعل، أى الدفع التلقائى والاستجابة معا إذا كان كل ذلك فهو تنظيم أحدث وأرقى وأشمل.

3- كلما انفصلت تنظيمات الدوافع والانفعالات الترابطية عن بقية الوظائف الترابطية الأخرى، كانت الظاهرة الدوافعية مستقلة (بدائية نوعا ما)، والعكس صحيح: أى أنه كلما ارتبطت بالوظائف الترابطية الأخرى مثل التفكير والتعلم والإرادة كانت أقل استحقاقا للتناول بصفتها وظائف مستقلة.

الطالب: لا .. لا…عندك، أكاد لا أستطيع تتبعك.

المعلم: أعلم ذلك، ولكنها مبادئ عامة تحل مشكلة تصور الطاقة تصورا خرافيا أو مجرداً.

الطالب: تريد أن تقول أن الطاقة التى تتحدث عنها هى نوع من الترابط الكلى التنظيمى.

المعلم: ولكن أضف لو سمحت أنها: فى حالة توظيف نـَـشـِـطْ.

الطالب: وما الذى يجعلها فى حالة توظيف نشط؟ ألا يحتاج هذا التوظيف فى ذاته إلى طاقة.

المعلم: لماذا لا تتصور معى  يا ابنى أن التنظيم فى ذاته يحرك بعضه بعضا فيولد الطاقة ([2]) متى ما سارت ترابطاته فى اتجاه بذاته.

الطالب: والله حيرتنى، التنظيم ذاته؟ فى اتجاه بذاته؟ أليس عندك شئ أسهل.

المعلم: أسهل مثل معاملة الوظائف النفسية وكأنها تصدر من موضع محدد “بذاته” مثلما يبسطها العاجزون عن التصور الكلى والدوائرى، فيحددون موقعا بالسنتمتر فى مكان جغرافىّ لبعض العواطف بذاتها؟ هل هذا ما تريده؟

الطالب: لعل معهم حق، هذا يسهل لنا الحفظ.

المعلم: يجوز أن معهم حق ولكنهم ليسوا مع الحق، فالحفظ ليس هدفا فى ذاته

الطالب: إذن فأين الحق، إنى أود منك أن تحدثنى عن هذه الطاقة حديثا أوضح حتى ولو كررت ما قلت بلغة أخرى فالتكرار يعلم الشطار.

المعلم: لقد حـَـيـَّـرَتنى هذه المسألة كثيرا كثيرا، ففكرى كله مبنى على افتراض طاقة أو قوة ما فى الكيان الحيوى إذا ما أحسن تنظيمها وتوجيهها، تكامل الوجود البشرى وانتقل إلى آفاق التطور بلا توقف، وإذا أعيقت ظهرت المضاعفات، وأجهض النمو، وتشتت الجهد، وأعلن المرض.

الطالب: كلام جميل، فماذا حيرك فى ذلك؟

المعلم: حيرنى أن مفهوم هذه “القوة” الـ.. “ما” غير واضح فى ذهنى، ولا أستطيع أن أترجمه إلى تصور تشريحى، أو حتى فسيولوجى يسير مع تركيب المخ، ولا مع فكرة الترابط التى سهلت لنا فهم التفكير مثلا.

الطالب: إنك تـُغـَلـّب نفسك، ودعنى أساعدك ولو خرَّفت، يخيل إلىّ بالمنطق السليم أن الحياة ذات نفسها طاقة دون مفهوم تشريحى أو فسيولوجى، وحتى الذرة غير الحية فيها كل هذه الطاقة الذرية دون تشريح أو فسيولوجيا، هذه بديهيات أليس كذلك؟.

المعلم: أى والله، ربنا يفتح عليك، يبدو وأن هناك من البديهيات ما لا يحتاج إلى إثبات، ولكن هذا لا يمنع أن نبحث عن أقرب تصور لمفهوم الطاقة ومفهوم الغرائز و……

الطالب: (مقاطعا): ما للغرائز وما للطاقة.

المعلم: يا إبنى وهل الغرائز إلا طاقة نوعية موروثة متوجهة نحو إشباع بذاته

الطالب: أعذر جهلى وإلحاحى ودعنى أعود للتساؤل: ولماذا الهجوم على الغرائز هى الأخرى؟ أليس الهجوم عليها يتضمن الهجوم على الوراثة، بل وعلى الطبيعة؟

المعلم: لقد ناقشنا ذلك من قبل، والأرجح أنه هجوم على أى افتراض ميتافيزيقى (هكذا أسماه بعض المهاجمين) لطاقة غير محددة، وهو هجوم ضمنى على الإعلاء من قيمة الوراثة.

الطالب: ولكن ألم يقل فرويد بشئ كهذه الطاقة، اسماها اللبيدو على ما أذكر فلماذا قلت أنه لم يضع نظرية للانفعال؟

المعلم: نعم، عليك نور لقد اسمى الطاقة التى كان يتحدث عنها  باسم “اللبيدو”، وشاع عنها أنها طاقة جنسية أساسا – ليست تناسلية بالضرورة – وهوجمت هجوما لا هوادة فيه هى الأخرى، علما بأنها قد تشير إلى طاقة الحياة ذاتها، وخاصة فيما يتعلق بالحافز إلى التواصل بين البشر.

الطالب: هجوم؟ هجوم؟ هجوم؟ أليس وراء العلماء شئ إلا الهجوم على بعضهم البعض.

المعلم: ولم لا؟ إن هذا يدفع إلى مزيد من الإتقان، ويؤكد ضرورة التحفظ فى إطلاق النظريات، ويساعد فى البحث الأعمق عن الحقائق الأصدق.

الطالب: وبعدين؟ ما آخرة هذا الهجوم على الطاقة والغرائز؟.

المعلم: توارت هذه الهجمات فى الظل قليلا، فيما عدا نظرية اللبيدو التى أبقاها انتشار الفكر التحليلى النفسى وتعصب مدارسه.

الطالب: ثم ماذا؟

المعلم: ثم عادت إلى الظهور من مدخل علم الإثولوجيا Ethologic.

الطالب: علم ماذا؟

المعلم: هل نسيت؟ لقد ذكرنا هذا الاسم من قبل، وقلنا إن هذا العلم هو علم الطباع والأجناس وتكوينها.

الطالب: نعم نعم؟ كان ذلك بشأن الحديث عن ” الطاقة الخاصة الفعالة”، فى فصل التعلم.

المعلم: عليك نور.

الطالب: هل تعنى أن الطاقة الخاصة الفعالة هى هى الغرائز النوعية والدوافع الفطرية؟

المعلم: هناك ترابط حتما، لكن ليس بالضرورة أن تكون هى هى.

الطالب: (مقاطعا) كل ماتفعلونه بعد الهجوم والدفاع، أن تغيروا الأسماء، فبدلا من نظرية الغرائز تتكلمون عن الإثولوجيا، وبدلا من دوافع السلوك الفلانى، تسمونها الطاقة الخاصة الفعالة .. على من تضحكون بالله عليكم؟ على أنفسكم؟

المعلم: مالك تتكلم بهذه الحدة، إن الحقائق الأصيلة واحدة، وهى تأخذ أسماء تابعة للعلم الذى يدرسها، ولما اصبحت دراسة الطباع والأجناس هى المختصة بدراسة الغرائز والدوافع، وكذلك السلوك المطبوع ووراثة الصفات والسلوك جميعا، عادت لتأخذ مكانها الطبيعى بلغة النيوروبيولوجيا، ومن ثَمَّ فى دراسة النفس من هذا المدخل، ولا يضر الظاهرة أن تتوارى بعض الشئ نتيجة لسوء استعمال لغة غامضة لتعود إلى الظهور تحت ألفاظ أدق ولغة أوضح.

الطالب: سمها ما تشاء، وأكمل من فضلك لعلى أفهم.

المعلم: إن كلمة الطاقة التى حيرتنى وشغلتنى، ولعلها هى التى أسماها فرويد (أو أسمى شبيهتها) “الللبيدو”، والتى أعلى من  شأنها مكدوجال فى نظريته عن الغرائز، والتى وصفت مؤخرا من منطلق الإثولوجيا باعتبار “.. أنه فى أى وقت من الأوقات يوجد “كم” من الطاقة متاح لتنشيط جانب من السلوك الغريزى”.. كل ذلك لم يوضح لى معنى الطاقة بشكل كاف.

الطالب: فماذا أنا فاعل الآن؟ ماذا أذاكر وماذا أدع؟ بل ماذا أعرف أصلا؟

المعلم: فكـِّـر معى يا أخى.

الطالب: أفكر؟ هكذا خبط لزق، أنا أريد أن أذاكر وأنجح.

المعلم: لا أطالبك بالتفكير بديلا عن المذاكرة، وأعيد عليك بإيجاز ما فصلته منذ قليل، وهو أنه يستحيل أن تكون الطاقة التى أعنيها بالمعنى المطلق للكلمة، وإنما هى مرادفة لتنظيم نيورونى، معين، بترتيب معين جاهز للإطلاق، لإصدار سلوك معين.

الطالب: ترتيب نيورونى جاهز للإطلاق؟ يعنى ماذا؟

المعلم: ألم أطالبك أن تتصور معى أن ترتيب الأجزاء ترتيبا خاصا متناسقا جاهزا للإطلاق هو هو أصل الطاقة المعنية.

الطالب: يمكن، ولكن الحديث عن مقدار الطاقة وإزاحة الطاقة صعب بهذه اللغة.

المعلم: تماما، ولكن لابد أن تتذكر احتمال أن كل تركيب نيورونى له مقابل تنظيم خلوى.

الطالب: وهل تعنى بكل ذلك أن أى دافع وأى عاطفة لهما ترتيب خصوصى؟ نيورونى وخلوى أيضا

المعلم: فعلا، تقريبا

الطالب: الآن تذكرتك حين أشرت إلى إزاحة النشاط ([3])، فإذا صدقتك الآن فكيف تفسر حكاية الإزاحة هذه بتركيباتك النيورونية.

المعلم: إذا أعيق تنظيم عن الإطلاق، أزيح حتى يطلق بديلا عنه، مدفوعا ضمنيا من خلال هذه الإعاقته، وهكذا.

الطالب: أكاد أصدقك.

المعلم: وكلما زادت مساحة التنظيم، وارتبطت بأكثر من تنظيم آخر، وشملت أكثر من تنظيم اصغر، كان الدافع أو العاطفة أرقى وأشمل، وذلك يسير جنبا إلى جنب مع مراحل النمو من ناحية، ومع ظروف البيئة ومجالاتها من ناحية أخرى

الطالب: ولكن معنى كل ذلك أن الوظائف الدوافعية هى التنظيمات الموروثة الجاهزة للإطلاق، فماذا تدفع.

المعلم: إنها إذْ تُطلق، وأحيانا يقولون تُبسط Unfolded إنما تثير فى نفس الوقت تنشيط ترابطات مناسبة تخدم الهدف من إطلاقها، وتناسب – عادة – ظروف الحاجة إلى إطلاقها؟

الطالب: وهذا التنشيط هو الذى جعلها تستحق اسم “الدوافعية”.

المعلم: نعم، ولكن هذه التنظيمات الأولية إذْ تتصاعد فى الترابط تندمج تنظيماتها فى النهاية مع تنظيمات أعلى المراتب فى الوظائف المعرفية حتى ليصبحا واحدا.

الطالب: غير فاهم.

المعلم: إذا كنت غير فاهم هذه البدايات، فكيف بالله عليك سأوصل لك تربيطات الإبداع ومدى ما يمكن أن يشمل من ترابطات، إن الإبداع يشكل أرقى شمول للعواطف والدوافع والتشكيلات الترابطية فى تناسق تكاملى عال.

الطالب: تعنى أن الإبداع ليس هو التفكير الإبداعى فحسب.

المعلم: طبعا، إذ هو قمة التكامل بين أعلى ارتباطات كل الوظائف، والقاعدة أنك كلما تقدمت على سلم النمو وجدت أن أعلى الوظائف فى كل ناحية تكاد تكون هى هى، فلا يمكن فصل التفكير الإبداعى عن دوافع نمو الذات ( أو امتداد الذات) عن العواطف الأرقى المقابلة ( كما سيأتى) وكل هذا يعد بأن يلتقى فى واحدية عند القمة.

الطالب: يعد بماذا؟؟ الله .. الله !! هذا هو اجتماع القمة الترابطية.

المعلم: نـِـعـْـمَ ما قلت.

الطالب: طيب طيب، ولكن ما علاقة هذه الطاقة بمختلف ما يسمونه الدوافع؟

[1] – هذه إضافة لاحقة

[2] – لن أتكلم هنا – ولا فى الهامش – عن طبيعة الطاقة وقدرتها على التأثير المباشر ومدى إشعاعها مما قد يتجاوز هذا المستوى من النقاش، لأنه يقع فى مجال “ما بعد علم النفس” وهو مجال بكر خطر فى آن واحد.

[3]–  صفحة 139

الفصل الثامن: الدوافع

الفصل الثامن: الدوافع

الفصل‏ ‏الثامن

الدوافع

المعلم: الدوافع هى التنظيمات الأولية الجاهزة التى تدفعنا كما سبق أن أشرنا، للقيام بسلوك معين نتيجة إثارة أو احتياج بذاته.

الطالب: إذا كان الأمر كذلك، فما هى الحاجات Needs

المعلم: الحاجة Need هى هى الدافع ولكن من وجهة نظر الارتواء، وأما لفظ الدافع Motive فإنه يستعمل لنفس الظاهرة من وجهة نظر الإطلاق أو الإنطلاق، فالحاجة إلى الشرب هى هى دافع العطش، هذه هى المسألة.

الطالب: والماء؟

المعلم: الماء يسمى المحرِّك أو الباعث أو الغاية Incentive ولكن هذه تفرقة تقريبية.

الطالب: المهم هل ثَمَّ تصنيف سهل للدوافع يصلح للحفظ فالامتحان؟.

المعلم: طبعا: إن الدوافع الفطرية (الموروثة) هى عضوية أو نفسية، وهى تفرقة ظاهرية لأن كل ما هو عضوى هو نفسى وبالعكس، كما اتقفنا منذ بداية البداية، وعموما: أنه لكى يكون الدافع فطريا لابد وأن يتصف  بالشموليةUniversality  أى أنه عند جميع أفراد نوع بذاته، وأنه يوجد منذ الولادة وإن كان ذلك لا يشمل كل الدوافع، فدافع الجنس مثلا فطرى ويظهر عند البلوغ، ويعتبر ولادة جديدة، وأخيرا فالدافع الفطرى يتصف أيضا بصفة الدوام Permanency، وهى تعنى أن الدافع لابد وإن يحقق غايته مهما اختلفت وسائل تحقيقها وأشكال السعى إليها، ولا يمكن أن يلغى الدافع وإنما قد يختفى نشاطه الظاهر مؤقتا، أو تقل حدته بعد تحقيقه، ثم يعاود نشاطه استجابة لنقص إرتوائه وهكذا.

الطالب: كنت أسألك عن تصنيف الدوافع كلها.

المعلم: ..لابد من مزيد من إكمال التقسيم حتى تلم بالموضوع كله: الدوافع العضوية مثل الجوع والعطش والجنس والتنفس.. هى التى تحافظ على الحياة… الخ،

أما الدوافع التى تسمى نفسية فهى مثل دافع الأمومة ودافع الانتماء الاجتماعى (دافع القطيع Herd Motive)، فهى التى تتجلى عند الإنسان بوجه خاص،

ثم هناك دوافع التعامل مع البيئة مثل الاستطلاع، والدهشة والميول، وهى دوافع عامة لكنها أرقى وأكثر تميزاً عند الإنسان.

الطالب: نعم؟ نعم؟ الدهشة والميول دوافع فطرية.

المعلم: يقظتك تزعجنى، إنى أنقل لك الشائع من تقسيمات دون اقتناع كامل فلا تفتح لنا أبواب النقاش حتى لا أرجع فى كلامى، ومع ذلك “فالدهشة” مثلا تصف الطفل إذ يتعرف على الجديد، وهى تصف “النوع النشط من الإدراك” إذا كنت تذكر، أما “الميول” فهى تعنى هنا الميل الفطرى لتقبل الطعم الحلو ورفض الطعم المر كما ذكرنا أيضا.

الطالب: نعم، نعم، ثم ماذا؟

المعلم: لا تتعجل فهناك دوافع فطرية أيضا مختصة بالطوارئ.

الطالب: حلوة هذه، إحكِ لى إذن عن ” داوفع النجدة والحريق”!!.

المعلم: إن الخطر Danger يوقظ  دافع الهربEscape ويصاحب ذلك مشاعر الخوف  Fear ولا يختفى إلا بالحصول على الأمان.

– ثم إن الإعاقة Interference توقظ دافع القتال Combat ويصاحبها عادة مشاعر الغضب Anger ولا تهدأ إلا بالتخلص من هذه الإعاقة فالانطلاق.

– وكذلك الصعوبةDifficulty توقظ دافع التفوقMastery  عليها ويصاحبها مشاعر التصميمDeterminism  ولا تنتهى إلا بالانتصار.

– ثم إن التراجع والتسليم أو التوقف عن نشاط معين نتيجة لرغبة فى ذلك واختيار، والرغبة فى الاعتماد Dependency وما يصاحب ذلك من مشاعر الاستكانة والأمان Security كل هذا وراءه دافع أيضا ويسمى هذا دافع الإذعانSubmissive motive .

الطالب: كل هذا التراجع والتسليم وتقول دافع!! أليس فى هذه التسمية الأخيرة تناقضا

المعلم: لا طبعا، فالإذعان قد يحقق الحماية احتراما لواقع بذاته، وقد يؤجل المواجهة لمواجهة تالية.

الطالب: لا .. لا.. لقد زوّدتها، وما الذى يفسر استمرار الدافع أو توقفه

المعلم: إن الفرصة السانحة تبدو كالفريسة التى تغرى بالمتابعة ولذلك تدفع هذا الدافع إلى اللحاق بها ويسمى دافع  الملاحقة Chase (or Pursuit) Motive وتصاحبها مشاعر الحرص والشغفEagerness .

الطالب: بصراحة أنا لست مقتنعا أن هذه “دوافع طوارئ” فأى طوارئ تدعو للإذعان، أو لانتهاز الفرصة وملاحقتها، إن هذا أو ذاك يمكن أن يحدث فى الطوارئ وفى غير الطوارئ.

المعلم: وأنا معك، وإنما أنقل إليك المألوف فى تدريس هذه الظاهرة النفسية.

الطالب: تنقل إلىّ؟ وما وظيفتك أنت؟

المعلم: أعرفك الشائع ثم أقول لك رأيى، لأنى أخشى أن أبدا برأيى ثم لا يأتى فى الامتحان، فتأكل وجهى.

الطالب: صدقت، ولكن لى اعتراض آخر فبعض ما ذكرت من دوافع لا يبدو أنه فطرى تماما.

المعلم: عندك حق أيضا، ولكنه حق جزئى، لأن كل دافع مما ذكرنا موجود بشكل فطرى وبدائى وموروث، ولكن صورته هى التى تختلف، فدافع الملاحقة مثلا يبدو فى الحيوان وهو يلاحق فريسته ويبدو فى الطفل وهو يلاحق قطاره اللعبة ويبدو فى لاعب كرة القدم وهو يتقدم نحو المرمى، ويبدو فى الناضج وهو يلاحق فرصة عمل جديدة وهكذا وهكذا.

الطالب: ولكن كيف تتغير الدوافع هكذا وتتحور.

المعلم: إنها تتغير بالتعليم، فنحن نتعلم استجابات جديدة New Responses، كما يحدث تعميم لمثيرات جديدة New Stimuli وكذلك فإن الدوافع يمكن أن تمتزج بعضها ببعض مثلما يتحد دافع السيطرة مع دافع القتال فى شكل دافع اكتساب السلطة سواء سلطة المال أم سلطة الحكم

الطالب: ومع ذلك تظل هذه الدوافع تحت اسم الدوافع الفطرية.

المعلم: ليس تماما، وحتى الدوافع المسماة دوافع مكتسبة لابد أن لها أصل فطرى.

الطالب: خيل إلى ذلك حتى قبل أن نتكلم عنها، فما هى؟

المعلم: يا سيدى إن الدوافع المكتسبة أكثر فأكثر، يطلق عليها أحيانا اسم مستقل هو المواقف Attitudes  بمعنى أن يكون لك موقف أو ميل بذاته تجاه حادث أو رأى أو مذهب، لا يرتبط مباشرة بأصله الفطرى

الطالب: ولكن أليست هذه هى العاطفة تجاه هذا الشىء؟

المعلم: تقريبا، ولا تنس أن كلا من الانفعال والعواطف من الوظائف الدوافعية أيضا، وهى متداخلة بشكل ما.

الطالب: رجعت الأمور تختلط ببعضها، وماذا أيضا؟

المعلم: ويقال إن الاهتمامات Interest كذلك من الدوافع المكتسبة.

الطالب: يعنى المتعلـَّـمة.

المعلم: هو كذلك، وأخيرا فإن السلوك الغائى Purposive Behaviour قد يعتبر دافعا مكتسبا إذا ارتبط بغاية مكتسبة، لكنه قد يكون أعمق وأقرب للفطرة البدائية إذا ارتبط ببرامج البقاء ودوافع حفظ النوع مثلا

الطالب: أى أن المواقف، والاهتمامات، كلها دوافع مكتسبة.

المعلم: ليس تماماً ، فهى تحويرات تنبع غالباً من دوافع فطرية.

الطالب: ولكن: قل لى هل قوة الدوافع واحدة عند كل أفراد نوع بذاته؟

المعلم: طبعا لا، إن الدوافع تختلف من فرد لفرد، ومن وقت لوقت حسب إشباعها من عدمه.

الطالب: بصراحة أنا لست مستريحا لكل هذه التقسيمات الكثيرة فقد كثرت وتزاحمت، وأريد أن استوضح عن كيف يكون العدوان دافعاً مثل الدوافع.

المعلم: يا إبنى، يا إبنى: الحديث عن العدوان وحده قد يطول، وخاصة وأنى خصصت له بحثا مستقلا ([1]) ، وفيه أوضحت بعض الجوانب الإيجابية للعدوان ليس فقط فى الدفاع عن النفس، وإنما فى الإسهام فى تفكيك القديم الساكن لإعادة تشكيله فى العملية التى تسمى “الإبداع”.

الطالب: يا خبر،… العدوان يسهم فى الإبداع، يبدو أن هذا يحتاج فعلا إلى تفصيل مستقل.

المعلم: عندك حق

الطالب: فلنؤجل هذا ولتحدثنى عن كيف تتُسْتثار الدوافع لتؤدى وظيفتها

المعلم: إن  إثارة الدوافع فن يحذقه الساسة، والمعلمون، والمدربون، والمربون، وهى تشمل:

(1) تحديد هدف اساسى واضح

(2) ثم تحديد أهداف مرحلية وسطى

(3) ثم تأكيد الثقة بين الموجـِّـه والمنفـِّـذ

(4) وكذلك توفير إمكانيات الوصول إلى الهدف

(5) واستبعاد السلبيات المعوِّقة والدوافع المضادة

(6) وإثارة التنافس المناسب مع ما سبق من أفعال ومكاسب، ومع الآخرين بشكل بناء.

الطالب: كلام منظم ومنمق، لكن ما أصعب تنفيذه يعرفه كل واحد دون حاجة إلى هذا العلم.

المعلم: عندك حق: إلا أن هناك وسائل تطيبقية مقننة فى الحروب والأزمات قد تجعل من هذا الجزء من علم النفس أهم موضوع على الإطلاق عند بعضهم.

الطالب: ولو.

المعلم: إذن هل أقول لك رأيى ورزقنا على الله؟

الطالب: لماذا تجمعنى وإياك.

المعلم: لأنى استرضيك، فإن ماسيلى ليس مألوفا فى الامتحان ولو كان الأمر بيدى لجعلته أولى الأمور بالمعرفة والامتحان.

الطالب: ماذا تريد أن تقول؟

المعلم: اسمع يا سيدى، إن ما يهمنى فى موضوع الدوافع هذا هو.

(1) أنها تنظيم معين فى المخ أساساً.

الطالب: هذا ما سبق أن قدمت به هذا الفصل.

المعلم:

(2) وأن هذا التنظيم موروث أو مكتسب، ولكنه غائر وجاهز للانطلاق حسب الحاجة والنقص فى إروائه وحسب الإثارة الخارجية والنشاط البيولوجى التلقائى.

الطالب: معقول، وهذا أيضاً سبقت الإشارة إليه.

المعلم:

(3) وأن الطاقة التى يتميز بها هى هذا الميل التلقائى للانطلاق فى ترتيب بذاته.

(4) وأن كل تنظيم إذْ يـُطلق يدفع إلى ترابط يناسب تحقيق احتياجاته.

(5) وأن أى تنظيم موروث يمكن أن يتعدل بالتعلم على الأقل من حيث وسيلة تحقيقه.

(6) وأن كل طرق التعلم مسئولة عن مثل هذا التنظيم والتعديل وخاصة الطرق ذات الطابع الغائر مثل التعلم بالبصم.

(7) وأن التنظيم الأدنى (الدافع الأدنى) يعمل مستقلا لتحقيق الحاجة الأدنى، ولكنه يمكن أن يندمج مع ما هو أعلى منه فى كلٍّ أشمل ليكون دافعا أعلى وهكذا.

الطالب: عندك عندك، ما هذا الكلام عن “الأدنى” و” الأعلى” بصراحة إنك كلما قلت ذلك أربكتنى.

المعلم: لقد اتقفنا منذ البداية على هيراركية الوظائف النفسية.

الطالب: نعم؟ نعم؟ ما معنى “هيراركية” أولا؟

المعلم:  لقد أشرنا إلى ذلك من قبل – ألا تذكر- وهم يترجمونها أحيانا إلى “هرمية” وأنا لا احب هذه الترجمة ففضلت تعريبها، لأن الهرم أعلاه نقطة وهو يضيق كلما ارتفعنا، فى حين أن الهيراركى أعلاه توليف (ولاف) أكبر، وهو يتسع ويشمل الأجزاء فى الكل الأعلى كلما ارتفعنا.

الطالب: فكيف نطبق هذا المبدأ على موضوعنا هذا عن الدوافع ولو أنى لم أفهمه جيدا.

المعلم: إن هذا التفكير هو أصلح ما يكون لفهم تقسيم الدوافع، أما تقسيمها إلى وحدات جزئية، واستقطابها بين ما هو فطرى أو مكتسب، وما هو داخلى أو بيئى، فهو تقسيم مستعرض، ولو سرنا وراءه لاستطعنا أن نعدد ألف دافع ودافع بعدد التنظيمات الموروثة والمكتسبة، حتى يمكن أن نتكلم عن الدافع إلى الكلام، والدافع إلى النظر، والدافع إلى المشى على قدمين … والدافع لمشاهدة التليفزيون والدافع لمشاهدة كرة قدم.. وهكذا.

الطالب: هكذا أفهم، وأظن أن اعتراضك هذا هو الذى كان وراء رفضى وعدم ارتياحى للتقسيمات سالفة الذكر.

المعلم: هو كذلك، فهل تريد أن تسمع التقسيم التصعيدى؟

الطالب: بكل صعود.

المعلم: أنت تعرف موقفى من مثل استظرافك السمج هذا، على أن لى ميلا لرفضه فى هذا الموقف الجاد أكثر.

الطالب: آسف، لقد استسخفت نفسى عقب قولها مباشرة وهأنذا احسن الاستماع تكفيرا عن هذا السخف.

المعلم: لقد قسم ماسلو Maslow  الدوافع هيراركيا إلى طبقات سـِت بعضها فوق بعض، واسماها “حاجات” لا “دوافع” وقسمها من الأدنى للأعلى كالتالى:

(1) الحاجات الفسيولوجية وتشمل الجوع والعطش والجنس الخ

(2) الحاجة إلى السلامة

(3) الحاجة إلى الحب والانتماء

(4) الحاجة إلى المكانة

(5) الحاجة إلى تحقيق الذات

(6) الحاجة إلى الفهم المعرفى.

الطالب: ولكن ماذا تعنى من الأدنى للأعلى؟

المعلم:

أولا: أن الأدنى أكثر أهمية للحفاظ على الحياة ذاتها واستمرارها، وكلما صعدنا درجات الهيراركى كانت المسألة تتعلق بنوعية الحياة وتميَّزها الانسانى أكثر فأكثر.

ثانيا: أن الأدنى أقوى من الأعلى ولابد أن يتحقق بدرجة معقولة قبل أن تتاح الفرصة للأعلى أن يتحق بطريقة تلقائية.

وثالثا: أن الأعلى يشمل الأدنى ضمنا، ولا يحل محله إبدالا.

الطالب: ولكنى كنت قد سمعت أن الوظائف الأعلى هى تسامى بدلا من الوظائف الأدنى، وأظن أن فرويد هو الذى قال بمثل هذا حتى أرجع الحضارة إلى كبت الغريزة الجنسية أو شئ من هذا القبيل.

المعلم: هذا صحيح، إلا أنه تفسير قاصر بعض الشئ، فالحضارة نمو طبيعى يعلن كفاءة مسيرة التطور، كما أن السمو لا التسامى هو طبع فى الوجود البشرى وليس مجرد إخفاء لدوافع غير مرغوبة، لقد أدى فرويد واجبه من خلال اجتهاد خاص، إلا أن الفهم الأشمل قد أطلق التسلسل تلقائيا من دائرة اصغر إلى دائرة أكبر باضطراد طبيعى، هذا إذا سار النمو فى مساره الطبيعى، أما إذا لم يتحقق الدافع الأدنى بالقدر الكافى وبالأسلوب السلسل المناسب فإن الارتقاء إلى ما هو أعلى على حساب ما هو أدنى محتمل أن يتم،

الطالب: أى أن هناك طريقين للتصعيد والنمو.

المعلم: لا بل طريق واحد وهو التصعيد التلقائى، والآخر هو الإبدال وهو “كنظام” النمو وليس نموا بالمعنى التكاملى، ويمكن أن يكون مرحلة على الطريق.

الطالب: والله كلام معقول أحسن من الرص الأول.

المعلم: شكراً.

الطالب: لا شكر على فهم، أكمل قبل أن أرجع فى كلامى.

المعلم: إنى أفضل أن أضع لك ترتيبا خاصا بى على الوجه التالى:

(1) دوافع حفظ الحياة (مشترك فى كل الأحياء)

(2) دوافع حفظ النوع (كل نوع فى تكافل محتمل، بما فى ذلك استمرار بقاء الإنسان)

(3) دوافع حفظ الكيفية للنوع (النوعية التركيز على ما يتميز به كل نوع)

(4) دوافع تحقيق الذات الفردية([2]) كممثل للنوع.

(5) دوافع تطوير النوع (بالفعل الحضارى المشترك والعلاقة التكافلية مع الأنواع الأخرى والطبيعية)

الطالب: لا .. لا .. أربكتنى، إن كلام “ماسلو” أبسط وأوضح.

المعلم: عندك حق، ولكنا لا نسعى إلى الكلام الأوضح بل نحن نحاول الاقتراب إلى ما هو أعمق، وما هو أقرب إلى برامج التطور ومسار النمو.

الطالب: إذن أفهمنى ماذا تريد أن تقول.

المعلم: إن أى كائن حى يحافظ على حياته كفرد أولا، لأن هذا الحفاظ هو الحد الأدنى لاستمراره فردا ومن ثم الفرصة الأساسية لما يلى ذلك وهو استمراره نوعاً الخ.

الطالب: ولكن أحيانا يكون الحفاظ على النوع أهم من الحفاظ على الذات الفردية.

المعلم: بالضبط، هذا فى أوقات الأزمات المهددة بالسحق الجماعى، ويمكن تأكيد ذلك بما يحدث فى أوقات الخوف الساحق مع تنشيط الجهاز العصبى الذاتى! (كما ذكرنا تقريبا) حين تقفز لغة التطور فتلد (أو تجهض) الأنثى الحامل، ويقذف الذكر حيواناته المنوية دون انتصاب، ودلالة ذلك عندى تطوريا هو أنه حتى إذا لم يستطع الكائن الفرد الحفاظ على بقاء ذاته، فقد يكون للجنين فرصة الاستمرار، أو للحيوان المنوى فرصة التلقيح، وهكذا نجد ارتباط الحفاظ على النوع مع الحفاظ على الذات ارتباطا شديد التداخل .. ومع ذلك ففى الأحوال العادية نرى أن الحفاظ على الذات يسبق الحفاظ على النوع.

الطالب: حكاية “يسبق” هذه لا تدخل مخى بسهولة.

المعلم: مثلا إن غريزة العدوان أسبق وأهم من غريزة الجنس. لأن وظيفتها الأساسية هى الحفاظ على الذات، فإذا تحققت، أصبحت غريزة الجنس جاهزة للنشاط التناسلى أساسا ومن ثـَـمَّ: الحفاظ على النوع وهكذا.

الطالب: ألهذا الحد تعتبر دافع العدوان هاما برغم تهميشه فى معظم كل التقسيمات أو التعامل معه باعتباره دافعاً تحطيمياً فحسب.

المعلم: قلت لك إن مراجعة غريزة العدوان لها شأن خاص، ثم دعنا من التقسيمات السابقة يا إبنى الآن، وخلنا فى التصعيد الهيراركى واحدة واحدة.

الطالب: وهو كذلك.

المعلم: فإذا تحقق حفظ الحياة فردا (بغريزة العدوان أساساً والغرائز الفسيولوجية مثل الجوع والعطش … الخ)، ثم تحقق حفظ النوع (بغريزة الجنس على مستواها التناسلى أساساً) انطلق المستوى الثالث وهو ما أسميته “حفظ الكيفية” للنوع، وكنت أتمنى أن أسميها إيجازا حفظ النوعية لولا أنى خفت من الخلط بين النوع والنوعية.

الطالب: إذن لزدتنى ربكة!!.

المعلم: لا ربكة ولا يحزنون، إنه بعد تحقيق حفظ الحياة ثم الطمأنينة على استمرار النوع بالتناسل، فإن كل نوع يمارس ويطلق تنظيماته التى تحدد تميزه النوعى.

الطالب: ماذا تعنى؟

المعلم: الإنسان مثلا يتميز بأنه حيوان ناطق، أسَرى، اجتماعى، يحتاج إلى الأمن والأمان من خلال التعاون مع أخيه الإنسان بوعى واختيار نسبى إلى آخر هذه الصفات بما يشمل حصوله على المكانة وتكيفه، وكل هذه الصفات العامة المشتركة تندرج تحت حفظ النوعية، ولكل نوع ميزاته التى تميزه عن النوع الآخر وأنه لابد أنه يولد بتنظيمات جاهزة للإطلاق (وهى الدوافع) قادرة على الحفاظ على هذه الصفات.

الطالب: بدأت استوعب ما تريد قوله، ولكن حتى هذه الصفات فإنها تبدو صفات وليست دوافع.

المعلم: لا يوجد تعارض بين أن يكون الدافع صفة أيضا، مع استمرار كونه دافعا هل نسيت أن الدوافع كادت تشمل كل شئ إذا أخذنا بوجهة نظر أنها ليست إلا تنظيمات قابلة للإطلاق، ثم إن المسألة بالنسبة لتحقيق النوعية كدافع، ليست مجرد إطلاق الصفات فحسب ولكنها تشمل الوفاء بالوظائف التى ظهرت لها هذه الصفات، فلا يكفى عند الإنسان أن يصدر أصوات الكلام ليكون إنسانا حقق نوعيته، ولكن ينبغى أن تتشكل هذه الأصوات فى كلمات تؤدى وظيفة حمل المعنى والتواصل معاً وبهذا يحقق نوعيته.

الطالب: آه دخلنا فى الكلام الصعب، إذن هذه تشمل المراحل الأربع الأخيرة عند “ماسلو” … حتى الفهم.

المعلم: تقريبا .. أو قل فعلا.

الطالب: تقريبا أم فعلا؟

المعلم: يا سيدى إن المرحلة التالية عندى وهى تحقيق الذات قد قال بها ماسلو كذلك، وهى ليست عامة للنوع بقدر ما هى خاصة للفرد فى قمة ممارسته وظائفه الإنسانية فى اتصالها وتعاونها مع أخيه الإنسان.

الطالب: تقصد أن مراحل ماسلو امتدت لتشمل مرحلتك الرابعة.

المعلم: نعم مع كثير من التداخل.

الطالب: لكن الفرق بين المرحلة الثالثة عندك وهى دوافع حفظ الكيفية (النوعية) والمرحلة الرابعة التالية وهى دوافع تحقيق الذات للفرد كممثل للنوع لم يتضح لى بعد.

المعلم: عندك كل الحق وفى الأغلب سوف أغير ذلك حين أكتب هذه الفكرة بالتفصيل([3]) وأتتبعها فى الأصحاء والمرضى على حد سواء.

الطالب: وإلى أن تراجعوا جنابكم رأيكم: ماذا أفعل أنا فى الامتحان؟

المعلم: تفكر معى، وتتأمل نفسك وما حولك، وتراجع هذا الفرض، وتفحص الوسائل الممكنة لتحقيقه أو رفضه أو تحويره، فينجلى مـُخك وتمضى كالسهم.

الطالب: ولا داعى لاستذكار بقية العلوم إن شاء الله !!

المعلم: أعنْىِ فيما بعد، فيما بعد.

الطالب: فيما بعد ماذا؟

المعلم: وفيما بعد التخرج!

الطالب: خلنا فى الآن لو سمحت وقل لى شيئا يوضح الفرق بين حفظ النوع وتحقيق النوعية.

المعلم: فى الواقع أن صفات النوع ليست على مستوى واحد فالتفكير عند الإنسان مثلا يبدأ كما لاحظت من أبسط المحاولات للتعرف على البيئة “وحل المشاكل” إلى أعلى مراحل الإبداع وفرط الترابط، والمراحل السائدة عند أغلب أفراد النوع هى المراحل التى تحافظ على النوع ككلِّ قادرٍ على التعاون والتشكل مع بعضه البعض، وهذا يتطلب صفات نوعية عامة ومتواضعة فإذا ما تحقق ذلك، فإن الفرد – كممثل للنوع- يمضى فى مرحلة أعلى وهى تحقيق ذاته بمعنى تشغيل كل إمكانياته التى يتصف بها النوع فى أكبر كفاءة حققها بتطوره، ليمتد بالتخليق النمائى المستمر.

الطالب: ماذا تعنى؟

المعلم: إذا كان المخ مثلا يعمل فى الأحوال العادية بكفاءة 10%، (وهى النسبة المعروفة لعدد المشتبكات العصبيةSynapses  التى تعمل معا فى لحظة بذاتها)، فإن تحقيق الذات يسمح بتزايد هذه النسبة فتزيد كفاءة عمل المخ، وتبدأ تجليات الإبداع، إبداع الذات أو انجازاتها..

الطالب: وهل هذا تحقيق الذات أم توسيع الذات؟

المعلم: والله عندك حق، تصور أن سيلفانو أريتىSilvano Arieti  قد اعترض على كلمة تحقيق الذاتSelf Actualization هذه، وفضل عليها كلمة قريبة جدا مما قلت أنت الآن (حتى لو كنت قد قلتها ساخرا) وهى كلمة امتداد الذات Self Expansion.

الطالب: يبدو أن ذاتى، تتمدد بحرارة النقاش.

المعلم: ولم لا؟ إن دوافع تحقيق الذات ثم امتداد الذات إنما تثار من خلال عاملين معاً (أ) تحقيق المستوى الأدنى من الدوافع بقدر كاف ثم (ب) الاحتكاك بالبيئة الانسانية من خلال مثل هذا النقاش الحى، أو النقاش مع العطاء الانسانى المسجل كتابة، مثل القراءة المعرفية (النقدية الإبداعية).

الطالب: وهذا يشمل النقاش مع ماهو مكتوب؟

المعلم: وما هو مسموع، وما هو مـُـشاهـَـد، عليك نور، وهكذا تفتح إمكانيات جديدة فى المخ هى التلقى الحوار،  وليس التلقى الوعاء.

الطالب: أى حوار وأى وعاء.

المعلم: القراءة الحوار هى أن تقرأ ما تقرأ مثلما تحاورنى هنا الآن، أما القراءة الوعاء فهى أن تحفظ المعلومات وكأنها تنزيل مقدس، ثم تسكبها منفصلة عنك كما دخلت منفصلة.

الطالب: نعم نعم؟ أنت ما صدقت أم ماذا؟ .. آسف، عد بنا إلى آخر مرحلة، فإذا حقق الانسان الفرد ذاته كممثل للنوع، ماذا بقى به من حاجة إلى دوافع تدفعه إلى ما بعد ذلك؟

المعلم: بصراحة هذا ما لا أعرفه تحديداً.

الطالب: ما لا تعرفه؟ إذن لماذا تقوله لى؟

المعلم: لأنه فرض بالقياس، فمادمنا نفترض أن الانسان تطور إلى ما هو عليه الآن، فليس من حقنا أن نكف عن التصور أنه سيتطور إلى ما هو أعلى مما هو عليه الآن، حتى بعد أن تعمل كل أعضائه بكفاءة كاملة، حتى يمكن أن نتصور انطلاق حاجته لنمو أعضاء جديدة أو على الأقل تنظيمات جديدة قادرة على خلق خلايا جديدة إذا اقتضى الأمر.

الطالب: لا .. لا.. لا .. يفتح الله، إنه شئ يربك المخ، خلينى عند امتداد الذات، فإن مجرد التفكير فيما تقول – رغم وجاهته وبريقه – هو رعب لا أحتمله فلعله ضرب من الخيال تمتع به جنابك فى أحلام يقظتك تعويضا عن إهمال تدريس آرائك هذه لنا.

المعلم: علىّ الدور هذه المرة أن أعلن لك موافقتى: وهو كذلك.

الطالب: أظن يكفى الحديث عن الدوافع عند هذا الحد، فإن الحديث فيه مغر لدرجة أنه لن ينتهى.

المعلم: عندك كل الحق.

الطالب: سؤال أخير لو سمحت.

المعلم: خيرا؟

الطالب: لقد قلت فى البداية إن الدافع هو تنظيم نيورونى (وما يقابله من تنظيم خلوى) جاهز للإطلاق فما بعده، فأى تنظيم جاهز لأن يتعدى عمل كل الامكانيات الإنسانية معاً، وما هذا الذى هو بعده وقد جلس على قمة الهرم الحيوى؟

المعلم: هأنت ذا تجرجرنى  للعودة، ليكن، لقد خطر لى هذا التساؤل وتمنيت بينى وبين نفسى ألا يخطر ببالك حتى لا يطول الحوار، وردى عليه فى إيجاز هو فرض سوف ألمح إليه بما يتناسب مع حجم هذا الدليل وهو: أن التنظيم الحالى إذا تم إطلاقه فى كفاءة كاملة مع سائر التنظيمات الأخرى، فإن ذلك يحمل وظيفيا ظهور تنظيمات جديدة من توليفات وتنسيقات أعلى، فإذا زادت الاحتياجات المتطورة عن قدرة هذه التنظيمات الولافية الجديدة فإنه لا يوجد ما يمنع من افتراض نمو خلايا جديدة وأعضاء جديدة، ولعل هذا يتماشى مع فتح مسيرة التطور إلى آفاق أرحب لا تعرفها، ربما تسمى “الغيب”.

الطالب: خلاص خلاص أنا الذى جئت به لنفسى .. لست فاهما شيئا.

المعلم: أنت فاهم، وهذا ظاهر فى عينيك، ولكنى أوافق أن هذا ليس وقته ولندع المرحلة الخاصة بدوافع تطوير النوع لا تلهينا عن ما هو أكثر إلحاحا.

الطالب: كاد يخيل إلى فى حديثك – وكلى ألم – أن أغلب وجودنا حاليا فى مجتمعنا هذا بظروفه القاسية، أعْنى أن أغلبنا مازال فى المرحلة الأولى والثانية من الدوافع.

المعلم: لا أظن ذلك، ربما أوافقك بالنسبة للمرحلة الأولى أما الثانية ففيها كلام، وكفى استطراد وإلا انتقلنا إلى الحديث فى السياسة.

الطالب: السياسة ؟!! لا ياعمى، أفضل أن تحدثنى إذن عن الحب والعواطف كمهرب شرعى من الحوّم حول الحمى.

المعلم: الحب والعواطف؟ تقصد الانفعال.

الطالب: وما الفرق بينهما؟

[1] – ‏”العدوان‏ .. ‏والابداع”‏ (‏للمؤلف‏) ‏مجلة‏ ‏الانسان‏ ‏والتطور‏’ ‏العدد‏ ‏الثالث‏ 1980 (‏جمعية‏ ‏الطب‏ ‏النفسي‏ ‏التطوري‏) ‏القاهرة‏، ثم فى هامش (49).‏

[2] – أفضل الآن 2018 أن أتكلم عن “تفعيل الأسطورة الذاتية” بدلاً من تحقيق الذات الفردية، ويمكن الرجوع إلى نقدى المقارن بين السيميائى وكويلهو وابن فطومة فى دورية نجيب محفوظ ، العدد الثانى: ديسمبر 2009، المجلس الأعلى للثقافة: “الأسطورة الذاتية: بين سعى كويلهو، وكدْح محفوظ”.

[3] – وهذا ما تناولته فى عملى النقدى السالف الذكر الهامش السابق عن تفعيل الأسطورة الذاتية (هامش 44)

الفصل التاسع: الانفعال والعواطف والوجدان

الفصل التاسع: الانفعال والعواطف والوجدان

الفصل‏ ‏التاسع

الانفعال والعواطف والوجدان

الطالب: يارب سترك، هذه منطقة حساسة أكثر، لا أعرف كيف سوف تقلبها علما، نحفظه ونسمعِّه.

المعلم: هل مازلت متوقفاً عند الحفظ والتسميع بعد كل ذلك، ألم تتحرك فيك الحاجة إلى المعرفة فى ذاتها.

الطالب: تحركت ونصف، هات ما عندك وأمرى إلى الله.

المعلم: لابد من مدخل عام أولاً عن العواطف والانفعال، وربما الوجدان.

الطالب: وما الفرق؟ وكل هذه الألفاظ تستعمل مكان بعضهما البعض؟

المعلم: قبل أن نتكلم عن الفرق بين الألفاظ دعنا نحدد ماهية الظاهرة التى تجمعهم.

الطالب: سترجعنا إلى تحديد الماهيات ولن نتنهى فى سنتنا.

المعلم: وضوح البداية سيسهل التسلسل حتى التمييز والتحديد.

الطالب: وماذا تريد أن توضح فى البداية؟

المعلم: أريد أولا أن أزيل بعض الشائعات حول هذا الموضوع الحساس.

الطالب: شائعات؟

المعلم: نعم، ذلك أن المعلومات التى على غير أساس تدور أكثر ما تدور حول هذا الموضوع الحساس، وهذه المعلومات التى يتداولها العامة هى للطنبلة([1]) وليست لإنارة معرفية، وهى هى – للأسف – المعلومات التى تتناقلها أغلب المحافل العلمية أحيانا دون الرجوع إلى أصولها ومضمونها الموضوعى أو ثباتها الزمنى.

الطالب: إنى ألـِفـْتُ هذه النغمة منذ بداية حوارنا فى هذا الدليل فماذا تريد أن تقول؟ وماذا علىّ أن أعرف؟

المعلم: قد يثبت بالتفكير العميق والتحليل الهادئ والمراجعة أن العواطف والانفعال من حيث المبدأ ليست سوى إشاعة.

الطالب: يا نهار لن يفوت؟ تريد أن تعيدنا ثانية إلى من أنكروها؟  تريد أنت أيضا بجرة قلم أن تصدر فرمانا علميا بإلغاء الحب والود والتعاطف والحنان؟ لا عندكَ حتى لو عدت فاستشهدت برأى فرويد كما فعلت من قبل([2]).

المعلم: صبرك بالله، قد تستعيد هذه الألفاظ قيمتها من باب آخر وقد تؤدى وظيفتها بطريقة أرسخ وأوقع.

الطالب: ولو، ولكن لتستمر هى هى ذات الألفاظ.

المعلم: حتى لو كانت قد امتهنت وأفرغت من معانيها وأسئ استعمالها وأخطئ فهمها …؟ هل يعجبك أن يكون “الحب” بجلالة قدره هو ذلك الشئ المتبادل فى الأفلام والمسلسلات إياها، والأغانى إياها؟

الطالب: إذا لم يكن هو ذلك، فما هو الحب؟

المعلم: لا داعى للعودة إلى أحجية التعريفات، ودعنا نحدد ابتداء أساسيات الظاهرة.

الطالب: كيف تدعونى إلى تحديد أساسيات ظاهرة وقد بدأت بإنكارها تقريباً.

المعلم: أنا لم أنكر شيئا، لقد حاولت أن أفاجئك أننا حين نتكلم عن العواطف والانفعال، لن نتناولها بالشائعات حولها، وإنما سنتناولها من منطلق علمى، مرتبط بما تعاهدنا عليه منذ البداية وهو أن الوظائف النفسية هى من عمل المخ أساساً (وليس كلية).

الطالب: ليس أمامى إلا الاستماع حتى نرى آخرتها.

المعلم: أولاً لابد أن أنبهك أن هذا الموضوع هو من الموضوعات الشائكة التى شغلتنى حتى كتبت فيها مبحثا قائما بذاته وصل إلى ما يقرب من تكامل النظرية([3])، وإليك الرابط معها إذا أردت الرجوع إليها ([4]).

الطالب: لا يا عم، أعدك أنى سأرجع إليها عندما أتخرج على شرط أن توجز لى الآن الأمر ما أمكن.

المعلم: سأحاول، لنبدأ بصعوبات دراسة العواطف:

  هناك صعوبة حقيقة فى طريقة البحث فى العواطف، حتى أن بعض السلوكيين لم يقتربوا منها أصلا أمانة وعجزاً معاً كما ذكرنا حالا.

(أ) فدراسة العواطف ([5]) من خلال الملاحظة التتبعية ما هى إلا دراسة السلوك الظاهرى لما نتصوره أنه نابع منها.

(ب) ودراستها من خلال الملاحظة التجريبية هى افتعال لا يـُـظهر إلا جانبا سلوكيا أو تفاعلا جسديا (أتونومى فى العادة) لا يلم بأبعاد الظاهرة.

(جـ) والطريقة الكلينيكية التى تشمل الملاحظة وحدْس الباحث الشخصى والتفاعل بينهما تحتاج لنوع خاص من الباحثين وهى طريقة لها قدرتها لكن عليها تحفظات منهجية لابد أن توضع فى الاعتبار.

(د) وخبرات النكوص الفنية والخبراتية والمرضية بما تشمل من استيعاب ثم وصف لاحق قد تعانى من مآخذ التأمل الذاتى والتشويه الانفعالى (المرضى مثلا)، وعليها نفس تحفظات الطريقة السابقة تقريباً.

الطالب: يا ساتر استر أرجعتنا إلى مشاكل المنهج بكل ثقلها والتى ربما لا حل لها.

المعلم: ألست معى أن علينا أن نعترف بالصعوبات لنواجهها بدلا من أن نستسهل فنشوِّه الحقائق؟

الطالب: إذا قدرنا هذه الصعوبات جميعا فلا داعٍ لدراسة العواطف فتوفر علىّ مذاكرتها.

المعلم: ما هذا؟ هل مازال كل همك هو المذاكرة والامتحان؟ ألم أنجح فى إثارة شغفك بالمعرفة؟ ثم هل أنا الذى أقرر المقرر وأضع الامتحان؟ انت الذى يتجلـّى منك “الشغف بالمعرفة” مع تصاعد حوارنا تلقائيا.

الطالب: وهل الشغف بالمعرفة عليه درجات آخر السنة؟

المعلم: بل أحيانا يصبح مصيبة تؤدى إلى التهلكة.

الطالب: أرأيت كيف، لا عليك: هاتها، ودعها تكمل.

المعلم: ثم تأتى صعوبة اللغة المستعملة فى دراسة الانفعال والعواطف وما لم يتفق العلماء والباحثون على معنى اللفظ الذى يستعمل لتسمية كل ملاحظة رهن الدراسة فلن نصل إلى شئ، وخذ مثالا كنت سألته منذ قليل عن ما هو الحب، ففى حين اعتبره واتسون Watson أنه “الاستجابة للهدهدة والطبطبة” فقد زَعـَـمَ كل من لوجوLugo& وهرشىHershey أن الحب هو “.. الرعاية والمسئولية والمعرفة والاحترام” فكيف ندرس ظاهرة اختلف العلماء فى تعريفها إلى هذه الدرجة ونسميها بنفس الأسم.

الطالب: ألا يمكن الرجوع إلى المعاجم لحل هذا الاشكال.

المعلم: إن جزءا كبيرا من الاستعداد للبحث فى العواطف والانفعال الذى أشرتُ إليه حالا صرفتـُه فى استشارة المعاجم، ولم تسعفنى بالقدر المفيد، فالمعالجم الانجليزية مثلا تستعمل لفظى الـ Emoticns والـ Feeling بالتبادل بما يغرى بأنهما مترادفان، وقد يثبت أنهما غير ذلك كما سيأتى حالا، وقضية ظهور الكلمة، ثم تاريخها التضمينى Connotative history قد سبق أن تناولناها، كما أشرنا كيف أن الظاهرة أسبق من اللفظ الذى يتضمنها، وليست سجينة مرحلة بذاتها من المراحل التضمينية لتطور اللفظ، إشكالة هذه القضية تظهر أكثر ما تظهر فى الألفاظ المستعملة فى وصف العواطف والانفعال.

الطالب: لماذا هذا  بالله عليك؟

المعلم: لأن العواطف والانفعال ظاهرة قبلفظية Preverbal فى أساسها، وقد يلحقها اللفظ ويستوعبها وقد لا يستطيع أن يفعل.

الطالب: قـَـبـْـ ماذا؟

المعلم: قـَـبـْـلفظية أعنى قبل اللفظية بمعنى: أنها ظاهرة توجد قبل تخليق الألفاظ التى تشرحها، أو تقدم مفرداتها.

الطالب: الله يسامحك، فما هى الانفعالات إذن.

المعلم: تَحمـَّلنى لو سمحتَ، فقد وضعت لها توصيفا طويلا جدا (بالنسبة للانفعالات فى الانسان أساساً) أقول: توصيفا لا تعريفا، وإنى آسف لذلك.

الطالب: ولا يهمك، هاته وخلـِّصنا.

المعلم: خُذْ عندك يا سيدى: “الانفعال هو وظيفة دافعية أولية (نسبيا)، وهى تثير الفرد نحو، او بعيدا عن، مثير بذاته، ولكنها تبدو أحيانا استجابة لمثير داخلى معروف أو مجهول لصاحبه، وكلما كانت هذه الوظيفة مستقلة فى ذاتها كانت بدائية ومحددة المعالم، فإذا ما بدأت فى الترابط مع وظائف أخرى تضاءلت كوظيفة مستقلة حتى تكاد تتلاشى تآلفا وتداخلا فى التفكير والمعنى والإرادة وغير ذلك”.

الطالب: هذا كلام صعب، لكنه يبدو معقولا، فما الذى يشغلك حوله

المعلم: الذى يشغلنى هو “أنت”

الطالب: أنا؟

المعلم: طبعا، إذ سرعان ما ستلاحقنى  بأسئلتك.

الطالب: هذا صحيح، كيف أنها وظيفية دوافعية وأين تقع من الدوافع تحديدا؟

المعلم: هى طاقة بالمعنى الذى شرحناه فى الدوافع.

الطالب: ولماذا لم نسمها دوافع وندرسها هناك ونخلص.

المعلم: إن الدافع تنظيم جاهز للإطلاق، أما الانفعال فهو تنظيم جاهز أيضا ولكنه استجابىّ وتبادلىّ أساساً.

الطالب: ولكن على ما أذكر كانت هناك دوافع استجابية أيضا، أظن مثل الهرب فى القتال.

المعلم: وهذا يرتبط بالانفعالات المصاحبة لكل منهما وهى الخوف، والغضب مثلا.

الطالب: إذن فالانفعال صفة مصاحبة للدافع وليست دافعا فى ذاته.

المعلم: لا تفتـّح على نفسك وعلىّ مالا يـُغلق، من يدرى أيهما يدفع الآخر، ألا يجوز أننا نهرب لأننا نخاف، فالدافع إلى الهرب هو الخوف.

الطالب: طبعا.

المعلم: لا تتحمس هكذا، فبالرغم من أن هذا الاستناج يؤيد ما ذهب إليه بعض العلماء من أن الانفعال هو السبب فى السلوك الذى يثيره إلا أن هناك من يقول العكس.

الطالب: العكس؟! ماذا تعنى بالعكس؟.

المعلم: إن هذه النظرية تسمى نظرية جيمس ولانج James & Lang Theory  وقد اكتشفها كل من الأمريكى وليم جيمس William James والهولندى كارل لانج Carl Kange سنتى 1884 / 1885، كل على حدة فى نفس الوقت تقريبا حتى سميت باسمهما معاً، وفكرتها بسيطة، وإن كانت غير واضحة لأغلب الدراسين.

الطالب: لماذا؟

المعلم: لأنهم يصيغونها باختصار وكأن النظرية تقول: “إننا نخاف لأننا نرتجف، وليس: إننا نرتجف حين نخاف” وهذا تبسيط مخل، لأن فكرة النظرية كما قلت لك بسيطة، إذ تقول إن الاستجابة الجسدية والسلوكية هى الأصل، ولها مصاحبات عضوية فى الدم والأحشاء والعضلات وغيرها، وإدراك هذه التغيرات واستقبالها على مستوى الشعور هو المسئول عن الانفعال المصاحب.

الطالب: والله معقول.

المعلم: ولكن الفهم الجزئى، والشك أيضا، جعلهم يجرون تجارب قطعوا فيها بعض أعصاب الجهاز السمبثاوى الواصلة لدماغ كلب التجارب ووجدوا أنه ما زال يشعر بالخوف، فراحوا يدمغون النظرية ويرفضونها، وكأن استقبال التغيرات الجسمية المصاحبة لا يتم إلا عن طريق هذا الجهاز السمبثاوى، لا عن طريق الدم ولا عن طريق الشعور بالجسد عامة وتغيراته .. وغير ذلك.

الطالب: ما أعظم الفرق بين التسطيح والإحاطة الواعية.

المعلم: والأدهى أنهم حقنوا مادة الأدرينالين (باعتبارها الإفراز الرئيسى للغدة السمبثاوية فهى المسئولة عن التغيرات الجسمية)، وحين لم تحدث نفس التغيرات المألوفة فى حالة الخوف جعلوا ذلك مبررا أيضا لرفض هذه النظرية ناسين بقية الأبعاد والاحتمالات.

الطالب: مع أننى كنت قد كدت أقتنع بهذه النظرية.

المعلم: لا عندك، إنها تفسير حسن لبعض الانفعالات المصاحبة بتغيرات جسمية معينة، ولكنها لا تصلح للعواطف والانفعالات الأشمل والأعمق والأرقى.

الطالب: ما حكايتك يا سيدى؟ أكلما أقنعتنى برأى فاقتنعت تراجعت أنتَ عنه، وكأنك تتلاعب بعقلى.

المعلم: ابدا والله، فالطريق طويل وأنت تريد أن تركن فى أول محطة.

الطالب: أن أركن فى أقرب محطة أفضل من أن أركن فى هذه السنة الثانية .

المعلم: يا أخى صبرك، والله إنى أكاد أكون واثقا أن هذا الحوار قد يثير فيك طريقة للتفكير هادئة وصبورة تعاونك فى سائر علومك فتتفوق أجمل.

الطالب: ياليت ..، ولكن ما الحل فى مفاجآتك هذه؟!

المعلم: اسمع ياسيدى نحلها بطريقة معقولة فنقصر صحة هذه النظرية على الانفعال دون العواطف والوجدان.

الطالب: نعم؟ نعم؟ وما الفرق بالله عليك؟

المعلم: فى محاولتى لتمييز هذه الألفاظ ([6]) عن بعضها وجدتها تصف نفس الظاهرة ولكن على مستويات مختلفة.

الطالب: وكيف كان ذلك؟

المعلم: إن الانفعال Emotions يشير اساساً إلى النشاط البدائى، والتهييج العام تجاه مثير داخلى أو خارجى واضح أو غامض، وعلى هذا المستوى البدائى فهو نشاط مستقل عن الوظائف الأخرى والمستويات الأخرى.

الطالب: أى وظائف وأى مستويات؟

المعلم: أى أنه نشاط تهييجى دوافعى، منفصل عن الوظائف الترابطية مثل التفكير وكذا التغيير

الطالب: هذا عن الانفعال، فماذا عن العواطف؟؟

المعلم: لعل العواطف Feelings تشير إلى الأثر الشعورى المـُـدرك الدال على أن الانفعال لم يعد مستقلا عن الوظائف الأخرى والمستويات الأخرى، وهى ذات جانب حـِـسى يقال أنه يشير إلى كتلة الإحساسات المـُسـْتـَقـْبـَلـَة من الداخل والخارج من مصدر بذاته والتى لم تتميز بعد، كما انها ذات جانب حركى (أو انبعاثى فعلى) وهو التهيؤ العام نحو مثير بذاته.

الطالب: معقول والله، ولو أنى لست فاهما تماما.

المعلم: واحدة واحدة، ولعلك إذا عرفت ما هو الوجدان اكتلمت الصورة بوجه عام ثم تفهمها على مهلك بالتكرار والتمعن معاً.

الطالب: إذن: فما هو الوجدان يا سيدى.

المعلم:  الوجدان([7]) هو درجة أرقى من الترابط، إذ يلتحم الانفعال أكثر وأكثر بالفكر واللغة والإدراك الأعمق، ولا يقتصر على صبغ الأرضية الشعورية فحسب بهذا الاستقبال العام غير المحلل، وقد وجدت مؤخراً أن Sentiment ليست الترجمة المناسبة للفظ “وجدان” بالعربية، ففضلت نحت اللفظ بالإنجليزية Wjdan.

الطالب: نعم! نعم! ننحت ألفاظاً جديدة فى لغة غير لغتنا .

المعلم: ولم لا، إن اللغة الانجليزية ترحب بذلك فهى تدخل 450 كلمة جديدة فى أبجديتها كل عام.

الطالب: يا خبر..!!

المعلم: فى حين أن مجمع اللغة عندنا لا يسمح بعشر معشار هذا العدد من الكلمات المعربة الأفضل من الترجمة التقريبية

الطالب: أرجوك لا تخرجنا عن موضوعنا فماذا يقصد بالوجدان مرة أخرى لو سمحت.

المعلم: إنه مازال يعنى شحنة عامة تصاحب الفكر وتتداخل معه، ولكنها لاتتطابق تماما مع الفكر، لأنه إذا تطابق الانفعال تماما تماما مع الفكر أصبح هو المـَـعـْـنى.

الطالب: هكذا ساحت الأمور كالعادة!!.

المعلم: يا إبنى ، يا إبنى:  لم تسح ولا يحزنون، هل نسيت أننا كلما ارتقينا على سلم كل وظيفة كادت تتداخل فى أعلى طبقات الوظيفة الموازية لها حتى تصبحان (أو تصبحن) واحدة.

الطالب: نعم، ولكن ليس لدرجة أن يصبح الانفعال “معنى”.

المعلم: ولم لا! إن الكلمات والفكرة إذا احتوت معانيها تماما وتضمنت ما يراد بها، قامت بوظيفتها التواصلية والتعبيرية دون حاجة إلى انفعال مستقل مصاحب، ولا إلى عواطف شعورية منفصلة عنها.

الطالب: هذه أول مرة أسمع فيها مثل هذا الكلام.

المعلم: وهل نتحاور الآن لأكرر عليك ما سبق أن سمعتـَـه، أم لنفكر فى مالا نعرف؟

الطالب: وهل يقول بذلك كل العلماء أم هذه شطحاتك وحدك؟

المعلم: يقول بعضهم مثل ذلك أو بعضا من ذلك بطريقة أو بأخرى، ولكن التحديد والتوصيف والترتيب قد استكملوا فى المبحث الذى أشرت لك إليه منذ قليل (الهامش48).

الطالب: أكاد لا أصدق أن الانفعال يصبح معنى.

المعلم: ألم أقل لك أن يونج – مثلا – يعتبر الانفعال – مجرد الانفعال– ظاهرة مرضية، ولابد أن تستنتج أنه يقصد إن انفصال هذه الطاقة الدافعية عن مصاحباتها الترابطية ليس طبيعيا ولا سويا.

الطالب: هذا صحيح لو كان يونج يقصد ذلك.

المعلم: ثم إن عدم تعرض فرويد للانفعال كظاهرة مستقلة واعتباره انشقاقا ربما يعتبر دليلا على نفس التوجه أيضا؟

الطالب: يا عمنا عليك حجج ومداخل تخترق أى مقاومة لأفكارك!!

المعلم: أبدا والله، فأنا فقط أحاول أن أجد مخرجا من هذه المعمعة لا أكثر ولا أقل.

الطالب: وأنا؟ ألا تخرجنى من هذه المعمعة بأن تقول لى ماذا علينا فى الامتحان.

المعلم: لست أدرى، ولكن مرحليا قد يسألونك عن تقسيم العواطف Dimensions of feeling

الطالب: ماذا؟ تقسيم ماذا؟ وهل العواطف تقسم؟

المعلم: يقصدون تقسيم العواطف ما بين السار وغير السار Pleasant-Unpleasant أو ما بين المثير والمدغـِـدغ Excitement-Numbness أو ما بين التوتر والاسترخاء Tension-Release.

الطالب: وما فائدة ذلك؟.

المعلم: توضيح والسلام، حتى تعرف أن العواطف شىء له ابعاد من النقيض إلى النقيض مثلا، وأحيانا يسألونك عن مصادر السرور والكدر.

الطالب: نعم؟ نعم؟ أليس هذا شئ بديهى.

المعلم: ألم نتفق أن علمنا هو الحديث فى البديهيات المفهومة بلغة محترمة موثوق بها.

الطالب: أو بلغة غير مفهومة!! ما علينا، طيب قل لى ما هى مصادر السرور ومصادر الكدر  وأين تباع الأولى حتى أشترى لى منها كفايتى إن أمكن!!

المعلم: يا إبنى يا إبنى – بعد إغفال سخريتك – هناك مثيرات سارة بذاتها “هكذا” مثل الطعم الحلو، وهناك مثيرات منفرة أو مكدرة بذاتها مثل الطعم المر.

الطالب: عـُلـِمْ، وماذا أيضا؟

المعلم: هناك ما يسر إذا كنت ترغب فيه، وهو هو قد يكدر وينفر إذا رغبت عنه.

الطالب: وكيف ذلك؟

المعلم: مثل الأكل إذا كنت جائعا أو صائما قد يكون مصدرا للسرور، ولكنه هو هو قد يكون منفرا وأنت ممتلىء المعدة حتى التخمة.

الطالب: آه صحيح، يكفينى هذا.

المعلم: ليس بعد، فهناك مصادر سارة لا لأنها كذلك فى ذاتها ولكن لأنها ارتبطت بفكرة أو حادثة سارة، وكذلك هناك مصادر مكـِّدرة أو منفرة لأنها ارتبطت بذكرى أو مناسبة منفرة، فنفس المكان الذى أعلنت فيه نتيجة البكالويورس يثير السرور عند مـَـنْ سمع فيه اسمه متبوعا بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، وهو هو قد يثير النفور والكدر عند من سمع فيه نتيجة إخفاقه المرة تلو المرة، حتى أنه يقرر أن يعزف عن الذهاب إليه حتى لو علم بنجاحه فى مرة تالية، لأنه يظل فى ذاكرته مصدرا دائما للكدر.

الطالب: أليس هذا ما سبق أن قلنا مثله فى الارتباط الشرطى؟

المعلم: بالضبط.

الطالب: وماذا علينا أيضا فى المقرر.

المعلم: يا أخى الله يسامحك، ومع ذلك قد تـُسأَل عن وسائل التعبير عن الانفعال العواطف Emotional Expression والمطلوب منك أن تجيب أن هناك تعبير لفظى، وهناك تعبير بملامح الوجه وهناك تعبير حركى وجسدى وهكذا، وسوف أرجع لذلك مرة ثانية بعد قليل.

الطالب: ولم؟ فلننتِه منها الآن.

المعلم: لا .. سوف نتناول ذلك ونحن نتحدث عن “نظرية” Papez بابيز الفسيولوجية لتحديد مسارات العواطف وارتباطاتها بالخبرة الانفعالية والتعبير عن الانفعال.

الطالب: نظرية من؟ ولكن ما هى الخبرة الانفعالية  Emotional Experienceالتى تقصدها

المعلم: إنها تعنى الشعور بانفعالٍ مـَـا فى دائرة الوعى.

الطالب: ولكن ألا توجد عواطف بعيدة عن دائرة وعينا، أى فى مستويات أعمق من الشعور؟ ولا تخشى شيئا فأنا مازلت أذكر محاولتك تجنب استعمال كلمة اللاشعور.

المعلم: توجد طبعا، ولكن من أين لنا أن ندرسها، إنها قبل أن تحتل دائرة الشعور قد تظهر بشكل غير مباشر فى السلوك والتأثير على انواع الاستجابات المختلفة.

الطالب: وكيف يمكن أن نعرف أن هذا السلوك انفعالى وأن ذاك السلوك ليس كذلك.

المعلم: يسمى السلوك سلوكا انفعاليا  إذا زادت مظاهر التعبير عن الانفعال عن الموقف المـَعـْنـِى، أو الفكرة المصاحبة، ويحدث ذلك.

(1) فى حالات الإحباط والعجز عن الوصول إلى الغاية

(ب) أو فى حالات الإعاقة المؤقتة وتأخير الارتواء

(حـ) أو فى حالات إطلاق سراح التعبير بعد تحقيق الأمل.

الطالب: تقصد مثلا – حين نقول فى الملعب “هيلاهوب” إذ يتأخر تسجيل الأهداف، أو حين يزيط الملعب وترتفع الرايات الحمراء إذا سجل هدف الفوز.

المعلم: لم الرايات الحمراء، لم لم تقل الرايات البيضاء؟

الطالب: أنت زملكاوى مائة فى مائة.

المعلم: أنت مالك؟

الطالب: ليس عيبا أن تكون زملكاوياً، لكن دعنى أجرك إلى الامتحانات فهناك سؤال غريب يتكرر فى الامتحانات حتى الآن؟ يقول “ما تأثير الانفعال على كل من النفس والجسد” لا أعرف لماذا يتكرر هذا السؤال؟.

المعلم: ولا أنا، ذلك لأنى أعتبره سؤالا غريبا لأن الانفعال ليس كيانا منفصلا عن الجسم والنفس حتى يؤثر عليهما، إنه هو ذاته نشاط جسمى له مظهر فى المجال النفسى، ثم إننا حتى لو اعتبرنا تجاوزا أنه نشاط له استقلاليته المؤثرة، فإن آثاره تشمل كل الوظائف الجسمية والنفسية بلا استثناء، فهو من ناحية سؤال متناقض التركيب، ومن ناحية أخرى مترامى الإجابة، حتى تصبح إجابته السليمة كأنها تحصيل حاصل.

الطالب: يا ساتر، ما دمت تعرف ذلك فلماذا يتكرر الامتحانات هكذا؟

المعلم: وهل أنا الذى أضـَعـْـه فى الامتحان؟، ربما المقصود من ذلك هو التأكيد على تأثير الجانب النفسى وخاصة العواطف البشرية بشكل عام على وظائف الإنسان، وبذلك نؤكد لطالب الطب أهمية دراسة علم النفس وتأثيرها على الإنسان الذى هو مجال عمله وحقل مهنته حين يصبح طبيبا.

الطالب: معقول، ولكن قل لى كيف أجاوب عليه أنا؟

المعلم: سوف أستجيب لسؤالك رغم عدم اقتناعى بوجاهة السؤال، خذ يا سيدى:

أولا تأثير الإنفعال على النفس

1- إن الانفعال يؤثر على سرعة استجابتك لمثير بذاته، فقد يطيل مدة “رد الفعل” وقد يقصرها.

2- قد تؤثر العاطفة على الإدراك “فالقرد فى عين أمه غزال”، وقد تستغرقك محبة شخص ما حتى تعمى عن عيوبه بل وتراها حسنات إذا ما رضيت، والعكس صحيح فأنت تتصيـَّـد له الأخطاء إذا ما سخطت عليه، كما قال الشافعى:

 وعين الرضا عن كل عيب كليلة ….  كما أن عين السخط تبدى المساويا.

3- قد يؤثر الانفعال كذلك على الانتباه، فأنت تنتقى من بين المثيرات من حولك ما تتطلبه حالتك العاطفية، فإذا كنت سعيدا مسرورا جذبت انتباهك حركة براعم الورود إذ تتفتح وزرقة السماء بين طبقات السحب، وإذا كنت حزينا كئيبا جذبت انتباهك أوراق الورود الذابلة القديمة الملقاة نصفها فى الطين، وكثافة السحب السوداء وإنذاراتها القاتمة دون زرقة السماء بين المساحات البينية.

4- كذلك فإن السلوك الانفعالى المتعجل يعوق التعلم فى حين أن التهيؤ العاطفى المستقبل الهادئ يسهل عملية التعلم، وقس على ذلك فى عملية الاستذكار والاسترجاع أثناء الامتحان وما بينهما من حفظ وتثبيت للمعلومات.

5- ثم إن علاقة الدوافع بالانفعال هى علاقة تـَـرَادف تقريبا، أو علاقة تبادلية أو علاقة اصطحاب،ففصلهما عن بعضهما صعب للغاية لأنهما يقعان فى مجموعة الوظائف الدوافعية معاً.

6- أما تأثير العواطف على التفكير فإن ذلك يتوقف على نوع التفكير، فالتفكير الخيالى والذاتى والذاتوى (الذى يركز على ذات الشخص طول الوقت) يقع تحت رحمة العوامل الانفعالية الشخصية، أما التفكير الموضوعى فهو أقرب إلى حسن تقييم الواقع كما هو بلا تحيز عادة.

7- أما الإبداع (وقد تعمدت فصله هنا عن التفكير) فهو قمة الالتحام الولافى Synthetic بين ارتقاء العواطف إلى درجة المعنى وبين ارتقاء الترابط إلى درجة خلق الجديد، حتى يكاد يصبح الاثنان ظاهرة واحدة.

الطالب: كل ذلك، هو تأثير الانفعال على النفس، فما هو تأثيره على الجسم؟

المعلم: خذ يا سيدى.

إن تأثير الانفعال على الجسم يمكن أن يظهر فى أحوال السواء كما يمكن أن يـُـحدث أمراضا تسمى الأمراض السيكوسوماتية أو النفسجسمية أو النفسفسيولوجية، كما يمكن أن يضاعف من أمراض جسمية قائمة فعلا أو يؤخر الشفاء.

الطالب: واحدة واحدة ..، واحدة واحدة لو سمحت.

المعلم: وهو كذلك، ولنأخذ مثالا محددا وهو ما يحدث نتيجة للاستجابة الزائدة للجهاز العصبى السمبثاوى، وسأنتهز الفرصة وأشرح لك هذا الجزء كما تعودت من مفهوم تطورى طريف.

الطالب: تطورى؟ كيف ذلك.

المعلم: إن الجهاز السمبثاوى بالذات يسمى جهاز “الكر والفر” ولكى تعرف طبيعة عمله عليك أن ترجع إلى أصول وظيفته فى حرب البقاء الجسدية، فتتصور أسداً يهجم على حيوان آخر، (أو حتى على انسان) ثم تستنتج ما هى التفاعلات اللازمة للقتال، أو حتى للحفاظ على النوع لو انتهت المعركة بالهزيمة، وسوف تستنتج عمل هذا الجهاز السمبثاوى بسهولة وتحفظها بمعنى تطورى طريف دون رص صفات بجوار بعضها.

الطالب: ماذا تعنى؟

المعلم: أعنى أن التغيرات التى تحدث نتيجة إفراز الأدرنيالين، هى تغيرات لازمة للقتال، فالأدرينالين إذن يعتبر سلاح الانفعال الأول الذى يساعد فى آليات الكر والفر، فزيادة ضربات القلب تدفع الدم أسرع، واتساع الشعبيات الهوائية تدخل هواء (أكسجين) أسهل، وانقباض الأوعية الدموية الرئوية تسهل مرور الهواء وتقلل الافراز الذى قد يعطل، وانقباض قنوات الغدد المفرزة يمنع الأفراز ويوفر الطاقة لما هو أهم، وشحوب الجلد نتيجة لانقباض الأوعية تحت الجلد يبهت اللون فيسهل الاختفاء، فى حين أن أوعية العضلات تتسع لتستوعب كما أكبر من الدم يساعدها على القتال، أو حتى على العدْو إذا لزم الهرب، كذلك ينقبض الطحال والمنطقة الحشوية بصفة عامة فتزيد كمية الدم فى الدورة الدموية مما يساعد فى المعركة، كما أن عرق اليدين يسهل الإمساك بالعدو، ووقوف الشعر كان وسيلة للحماية فى قديم الزمان كالشوك، واتساع حدقة العين يوسع مجال الرؤية وإن كان على حساب دقة الرؤية فالمهم فى المعركة المدى وليس التفاصيل، ورفع الحاجب الأعلى يوسع مدى الرؤية (نظريا)، وكما ذكرنا ص 193 فإنه حتى القذف عند الذكور دون انتصاب هو نوع من احتمال التأمين للنوع (ولو مصادفة) لو ان الفرد المقاتل هلك، كذلك الإجهاض نتيجة لانقباض رحم الحامل قد يحمل نفس المعنى لتحقيق نفس الهدف، وعلى احتمال أن الجنين ينزل سليما إذا كان فى الشهور الأخيرة فيحافظ على النوع، وزيادة إفراز قشرة الغدة فوق الكلوية تفيد فى مواجهة التوتر، وتحليل الجليكوجين إلى سكر وحتى البروتينات تتحول إلى سكر مما يوفر الطاقة اللازمة للمعركة، وقصر مدة التجلط والنزيف يساعد فى وقف النزف الذى يمكن أن يحدث فى المعركة ثم إنه مضاد للهستامين وللحساسية، ومثير عام للتكوين الشبكى.

الطالب: ولكن ألا تجد أن فى هذا التفسير تعسفا شديدا.

المعلم: حتى لو كان فيه تعسف فهو يسهل الحفظ، وما عليك إلا أن تعدد المظاهر دون ذكر مبرراتها التطورية، إجعلها فى سرك ولن تنسى شيئا.

الطالب: والله فكرة، مع أننى كنت أتصور أن التعبير عن الانفعال هو أرقى من ذلك بكثير.

المعلم: بصراحة، إننى أوافقك فى ذلك فلم يعد التفاعل المناسب للانفعال البشرى فى حياتنا الحاضرة هو ما يـُـعـَـدّ لدرء خطر جسدى، خارجى فى العادة، وأصبح الخوف من الداخل أكثر من الخوف من الخارج، ثم إنه بعد ظهور المخ الحديث ورسوخ وظائف الشعور والتفكير والإرادة، يبدو أن عمل هذا الجهاز “الكرّ فرِّى!!”، قد أصبح مساعدا عاما لهذه الوظائف من حيث أنه مثير عام للتكوين الشبكى، أما عمله الاصلى وهو الإعداد لدرء خطر فيزيقى فقد أصبح نشازا حتى ليعتبر الإفراط فيه أقرب إلى المرض أو مسببا للمرض، فنحن لم نعد نخشى أن نقابل أسدا فى ميدان التحرير أو نصارع “موبى ديك” حوتا أبيض بالقرب من شاطئ سيدى بشر.

الطالب: ولكن أخطار اليوم أهم وأكثر تهديدا.

المعلم: طبعاً!، هذا حقيقى ولذلك فنحن نحتاج أن نشحذ الوعى وأن نحسن الحسابات لتوجيه الدوافع الانفعالية للإسهام فى توسيع دوائر الدفاع وتخطيطات الهجوم الساحق القاتل جماعيا أحيانا.

الطالب: يا خبر!!، هل معنى ذلك أن الإنسان الحديث قد استغنى عن تفاعلات الجسم للانفعال.

المعلم: ربما، تصبح من آثار الماضى فعلاً، وربما تندثر مثلما اندثر فعلا بعض منها مثل جحوظ العينين ووقوف الشعر (اللهم إلا فى الخوف الشديد).

الطالب: وإذا اندثرت هذه الوظائف فما قيمة هذا الجهاز السمبثاوى.

المعلم: فى رأيى أنه إذا لم توجه فاعليته إلى التكامل مع التفكير والإبداع بصورة إنسانية جديدة، فقد يندثر فعلا مستقلا، وعموما فقد ثبت أنه فى حالات الوعى الفائق Higher States of Consciousness يسهم هذا الجهاز بطريقة تكاملية إنسانية أرقى.

الطالب: وهل يتناسب التفاعل الجسدى مع إثارة الانفعالات بشكل إيجابى دائماً؟

المعلم: ليس دائماً طبعا، لأن التفاعلات للخطر إذا لم تخدم درء نوع الخطر الحالى أصبحت عبئا على التكيف والوجود، وكأن الحل الحقيقى المنتظر هو ان يتطور هذا الجهاز فتتغير التفاعلات إلى تفاعلات تناسب نوع المخاطر الجديدة مثل: خطر العزلة، وخطر الحقد القاسى، وخطر الجشع المستعر.

الطالب: إن هذا لا يحتاج إلى الجهاز السمبثاوى ولكنه يحتاج إلى جهاز “ثورتاوى”.

المعلم: إعمل معروفا، دعنا من السياسة، وخفف من السخرية لو سمحت.

الطالب: أنا آسف، لكن إذا كان هذا هو عمل الجهاز العصبى السمبثاوى فما هو عمل الجهاز الباراسمبثاوى فى هذه المنطقة؟

المعلم: إن الجهاز العصبى الباراسمبثاوى Parasympathetic يعمل  فى تكامل مع الجهاز السمبثاوى وإن كان عادة فى عكس الاتجاه، فإن المؤثر الذى ينبـّه أحدهما يثبط الآخر، ووظيفة هذا الجهاز الباراسمبثاوى هى وظيفة إنشائية وبنائية وكأنه يمثل وزارات التموين والتعمير والإسكان فى الجسم، أما الجهاز السمبثاوى فهو يمثل وزارة الحربية والداخلية والدفاع.

الطالب: وهذا الباراسمبثاوى ماذا ستكون ووظيفته الجديدة إن شاء الله فى التعديل الوزارى التطورى القادم يا سيادة الرئيس المفخم.

المعلم: بالرغم من سخريتك سأجيب، إذْ أننى أرى وظيفة هذا الجهاز الباراسيمبثاوى هى اقرب توافقا مع مرحلة الإنسان التى نأمل أن يتجه إليها، وأتوقع أن يكون عمره أطول لأنه يخدم البناء والتناسل أساساً، بل لعله يسهم فى إمكان طول التواصل فى العملية الجنسية عند الإنسان، فتقوم العملية الجنسية بوظيفة أرقى من مجرد التناسل، وكل هذا يدل على نوعية موقفه التطورى، ولكن تبعا لمسيرة الديالكتيك الطبيعية فلابد أن يتآلف مع نقيضه السمبثاوى فى جهاز جديد، وهذا ما يحدث بدرجة ما فى حالات الوعى الفائق.

الطالب: ” الديا….” ماذا.

المعلم: الديالكتيك، يعنى الجدل، يعنى الضدين يصبحان واحدا جديداً.

الطالب: يعنى ماذا؟

المعلم: آسف آسف، رجعت فى كلامى، هذا يتخطى حجم هذا الدليل، فلنؤجل الحديث عنه حتى نفتح ملف الإبداع.

الطالب: حتى الآن فهمت أن الجهاز العصبى الذاتى بشقيه السمبثاوى والباراسمبثاوى، يحتكر التغيرات الجسمية المصاحبة للانفعال.

المعلم: ليس تماما .. فإن الغدد الصماء تتفاعل كذلك وتؤثر وتتأثر بالانفعال، فنخاع الغدة فوق الكلوية يفرز الأدرينالين أيضا والغدة النخامية الأمامية Ant Pituitary Gland  تزيد من إفراز الهرمون المثير لقشرة الغدة فوق الكلوية A.C.T.H، وحتى الهرمون المثير للغدد الجنسية G.T.H فإنه يفرز نتيجة للإنفعال، وبعض إناث الثدييات لا تمر بمرحلة التبيض Ovulation إلا إذا رأت الذكر، وعن طريق هذا المسار البصرى النخامى تحدث إثارة الغدد الجنسية ويحدث التبييض، والغدة الدرقية تفرز أكثر مع الانفعال وكذلك الغدة النخامية الخلفية فيزيد إفراز الهرمون المانع لإدرار البول، وبالتالى يقل إفراز البول، ولو أن إفراغ المثانة يحدث كثيرا مع فرط الانفعال.

الطالب: ياه !! قلبناها فسيولوجى.

المعلم: وطب باطنى أيضا، فالانفعال الزائد يعتبر مسئولا عن:

– بعض الأمراض السيكوسوماتية (النفسفسيولوجية) مثل قرحة المعدة، والربو الشعبى، والقولون الثائر، والقولون المتقرح، وأحيانا الذبحة الصدرية.

– كذلك فقد يزيد الانفعال من عجز نسبى، فيجعله عجزا كاملا مثلما يتفاعل المريض بلغط بالقلب دون هبوط، باكتئاب وقلق على صحته يثبطه ويعجزه عن المشى مثلا دون مبرر عضوى فعلا.

– وبعض العجز الذى يسمى عجزا وظيفيا فى حالات الهستيريا يحدث نتيجة لتحول الانفعال اللاشعورى للتعبير عن رغبات انفعالية دفينة بلغة العجز الجسمى، وهذا ليس له علاقة بالجهاز العصبى الأوتونومى لا السمبثاوى ولا الباراسيمبثاوى.

الطالب: وهل يمكن رصد أو قياس هذه التغيرات الجسدية واعتبارها دليلا على انفعال معين مثلا حتى لو أنكره صاحبه.

المعلم: طبعا يمكن، حتى أن التغييرات الجسمية التى أشرنا إليها سالفا من زيادة النبض والعرق وضغط الدم وغيرها، أحيانا ما يكتشفون من خلال رصدها كذب الشهود أو المجرمين فى بعض الجرائم، وبهذا القياس (يسمى جهاز كشف الكذب)، وإن كانت نتائج هذا الجهاز هى اجتهادية وليست نهائية.

الطالب: ولكن قل لى، لقد ذكرت لى نظرية جيمس ولانج تفسيرا للانفعال، وهى التى ظهرت فى القرن الماضى، ألم يظهر منذ ذلك الحين ما يتناسب مع العصر.

المعلم: حدث يا إبنى أن عالما اسمه بابيز Papez وصف سنة 1937مسار المؤثرات المسئولة عن الانفعال، وأوصلها بالمهيد Hypothalamus مارة بقرن آمون Hippocampus عبر القبوة Fornix مركز التعبير (الحشوى) عن الانفعال، وكذلك أوصلها بالتلفيف الطوقى Cingulats Gyrus واعتبره مركز الخبرة الانفعالية.

الطالب: يا سلام!! مثل مسارات الفسيولوجيا العصبية تماما، هل هذا هو علم النفس الحديث!!!

المعلم: ابدأ والله، هذه هى مصيبة علم النفس المـُمـَيـْكن!، أن يتهرب من مسئوليته إلى التراجع إلى المستوى الأدنى لبساطته وليس لدقته وصدقه. إن كل هذه النظرية لا تختص إلا بانفعالات مثل انفعال الغضب الثائر Rage وانفعال الخوف Fear وأمثال ذلك من الانفعالات البدائية، أما المشاعر والعواطف والوجدان البشرى الإنسانى مثل الحياء والتعاطف والعرفان والمشاركة، فكل هذه الدوائر والمسارات البابيزية ليس لها أدنى علاقة بها.

الطالب: وهل لهذه العواطف الأرقى مسارات عصبية محددة مثل التى تحددت للانفعالات البدائية.

المعلم: كما قلنا فى كل الوظائف النفسية، فالمسألة ليست مسألة موقع Locality أو مركز Centre، ولكنها نسق Organization ومدى Extent، وهذه العواطف الأرقى، والتى تميز الإنسان تمثل تنظيمات متصاعدة ومدى متزايد الانتشار، ودعنا نكرر أنه كلما كانت العاطفة  أكثر تمييزا للإنسان وارتباطا بالفكر الأرقى واقترابا من الإبداع كانت أشمل، وأكثر إتساعا، وأقل استقلالا واشد تناسقا وتكاملا مع الوظائف الأعلى الأخرى.

الطالب: تريد أن تقول أن للعواطف ترتيبا هرميا مثلما فعلت فى الدوافع.

المعلم: طبعا.

الطالب: فما هو بالله عليك.

المعلم: هذه مسائل تحتاج إلى تفصيل مستقل، المهم الآن أن تعرف أن المسألة تبدأ من الإثارة العامة غير المميزة وتنتهى بالمعنى الفعل ([8]) مارة بمراحل التوتر واللذة والاكتئاب حسب الترتيب الفرضى المطروح، والقواعد الأساسية تشير أنه كلما صعدنا سلم التطور ازداد ترابط الانفعال بالوظائف الأخرى وفقد استقلاله، كما ذكرنا، وكذلك امتد الارتداد الزمنى والمكانى من الانفعال اللحظى كالفعل المنعكس إلى الاستجابة من خلال بـُعد النظر والتوقع والرجاء… الخ.

الطالب: لا .. لا .. الظاهر أن المسألة تحتاج إلى تفصيل فعلا، وأنا أوافق أن نؤجلها، كنت فقط أود أن أعرف علاقة العواطف بالتفكير

المعلم: هناك نظرية هامة تشير إلى أن الانفعال والعواطف هى نتاج مباشر لعملية معرفية  أساسية، أى أن الانفعال تال للمعرفة والتفكير، وقد قال بهذا سيلفانو أريتى مثلا … حيث أوضح….

الطالب: (مقاطعا): لا … لا يا سيدى، يكفينى هذا فلا أظن أن ذلك يمكن أن يأتى فى الامتحان.

المعلم: ثانية الامتحان؟

الطالب: طبعا، وسامحنى.

المعلم: لكن هناك من الجديد ما هو شديد الأهمية بالرغم من علاقته الضعيفة بالامتحان .

الطالب: إذن لا داعى له لو سمحت .

المعلم: أنت طالب ذكى، ومن حقك أن تعرف حتى فكرته

الطالب: هذه رغبتك أنت، وليس عندى مانع، لكن بسِّـطها لو سمحت.

المعلم: بعد  أن فرحت بلفظ الوجدان باللغة العربية حين وجدت أن “وجد” تعنى المعرفة والخلق كما تفيد عواطف متنوعة حسب “حرف الجر” اللاحق بها: “وَجـَـدَ عليه”، و “وَجَـدَ به” وغير ذلك ولم أجد لفظاً مقابلا يقوم بهذه المعانى معا.

الطالب (مقاطعا): ما هذا يا سيدى؟ هل ستقلبها درسا فى اللغة العربية، وهل سأمتحن باللغة العربية أم ماذا؟

المعلم: يا ليت، إن تاريخ نشأة اللفظ، خاصة الذى يعبر عن عاطفة إنسانية أرقى هو هو تاريخ تجلى هذه العاطفة، ودراستكم بالإنجليزية تفصلنا عن ثقافتنا وعن نبض وجودنا.

الطالب : لا .. لا .. إعمل معروفا حتى لا تزيد مقاوتى وأنا أرطن بغير لغتى.

المعلم: لا عليك، فكل هذا الجزء ليس مقررا لا عليك، ولا على التقليديين من أساتذتك وأساتذتهم.

الطالب: أساتذتهم؟  مـَـنْ تقصدْ؟

المعلم: إلى أين تجرجرنى، هل أتوقف عن هذه الإضافة وهى بالنسبة لى أصبحت محورية، وأنا أعرف ذكاءك وحب استطلاعك.

الطالب: لا .. لا .. اعمل معروفا قل ما شئت مادام لن يأتى فى الإمتحان فكل معرفة ليست مفروضة علىّ تصلنى أوضح وأكثر فائدة.

المعلم: عليك نور، اسمع يا سيدى: بإيجاز شديد وبعد استغراقى فى فحص وبحث وقراءة موضوع الإدراك، ثم موضوع الوجدان انتبهت إلى أن فصل وظائف المخ (النفس / العقل) عن بعضها، وكذا التحديد لمواقع بذاتها، هو فصل تصنيفى، وتحديد تقريبى، وقد يشوه هذا وذاك  التعرف عليها، وكما أشرت سابقا كنت قد وصلت إلى أن الإدراك هو وسيلة معرفية أساسية وضرورية قبل وبعد التفكير عبر الحواس وبدونها.

الطالب: عندك عندك، نحن فى موضوع الوجدان والعواطف الآن وليس الإدراك.

المعلم:  طيب طيب، حاضر، إن المسألة مرتبطة أشد الارتباط ببعضها البعض، فمن قراءاتى الأحدث، وأثناء ممارستى العلاج، خاصة علاج الذهانيين والعلاج الجمعى وصلنى أن الوجدان هو وظيفة معرفية تكاد تواكب الإدراك، وتتجاوز التفكير (الحل مشاكلى)، وقد تطور علم النيوروبيولوجيا حتى تكشف لهم – مثلما لاحظتُ أنا ومثلى فى الممارسة:  أننا نفهم ونفكر ونقرر بالوجدان مثل، وربما أشمل وأعمق، مما نفعل بالتفكير، حتى وصفوا ما أسموه “العقل الوجدانى الاعتمالى” Emotionally proccessing mind ، وأرجعوا إليه فضل أنواع أعمق من المعرفة، ومشاركة أحذق فى الإبداع، ودور جوهرى فى مواصلة السعى لمعرفة المطلق .

الطالب: معرفة ماذا؟

المعلم: لا عليك فوّت هذه .

الطالب: ما هو أنا مفوّت هذه، وغير هذه كما أوصيتنى من البداية، لكننى أسأل لأتنور، هل هذا له علاقة بحكاية “تعمى القلوب التى فى الصدور” وأيضا  “بل على قلوب أقفالها”؟

المعلم: وبعدين معك، لا تجرجرنى إعمل معروفاً، أنا لا أفسر العلم بالدين ولا أفسر الدين بالعلم، أنا أدع كل سبيل معرفى يتقابل مع غيره بما ينير طرقى معاً دون خلط سطحى.

الطالب: أنت الذى لمـّـحت وقلت السعى لمعرفة المطلق .

المعلم: أنا آسف، هو كذلك، لا ليس كذلك، إن شئت بعد التخرج فاقرأ ما كتبتُ حول الإدراك فيما يناهز الألف صفحة وحول الوجدان فى حوالى ستمائة صفحة، بل إن كل كتاباتى حتى النقدية والإنشائية (الإبداعية) لامست هذه المنطقة الخطرة التى نناقشها الآن.

الطالب: لا يا عم، يكفى هذا، وإلا لن أتخرج أبداً.

[1] – طنبل: البليد الأحمق،  ويقال له: تَنْبَل، وهى ما يقابل “طنـّـش” و”تطنيش” بالعامية المصرية

[2] – لم يكتب فرويد نفسه نظرية خاصة بالانفعال، واعتبر ظهور الانفعال نوع من الانشقاق Dissociation رغم أن نظرياته كلها نابعة من الطاقة الجنسية والحيوية والعلاقة بين الناس، وحتى يونج اعتبر الانفعال مظهراً مرضيا.

[3] – النظرية التطورية فى الانفعالات (تطور الانفعال من الإثارة البيولوجية العامة إلى المعنى الفعل) نشرة “الإنسان والتطور” 29-2-2016 www.rakhawy.net.

[4] – ‏”العدوان‏ .. ‏والابداع”‏ (‏للكاتب‏) ‏مجلة‏ ‏الانسان‏ ‏والتطور‏’ ‏العدد‏ ‏الثالث‏ 1980 (‏جمعية‏ ‏الطب‏ ‏النفسي‏ ‏التطوري‏) ‏القاهرة‏.‏

[5] – سأستعمل فى هذه المقدمة كلمتى العواطف والانفعال كمنرادفين حتى نحدد الفرق بينهما لاحقا – إن أمكن.

[6] – هناك من يعرف الانفعال بأنه حالة من التهيج والتحريك لما هو عواطف معتمدا على تعريف العواطف بأنها موقف تجاه مثير بذاته له جانب حسى غير تحليلى أو رموز وجانب حركى تهيئ، وهذا كله وجهه نظر تعتمد على البدء بتعريف العواطف، لو كان ذلك ممكنا فى ذاته، ثم تعريف الانفعال بالإشارة إلى تحريك هذه العواطف، ومن قبل وجهه النظر هذه واقتنع بها فيمكنه الحديث بلغتها على أن يدافع عنها.

[7]–  الوجدان باللغة العربية أعمق وأشمل من كل ما جاء عنه فى هذا العمل الأقدم، ويمكن الرجوع فى ذلك إلى “نشرات الإنسان والتطور” بالموقع مثلاً: نشرة بتاريخ 13-7-2014: ملف الوجدان واضطرابات العواطف”  عن الوجدان”، وأيضاً النشرة بتاريخ: 9-2-2015…الخ

وحين لم أجد لهذا اللفظ الشمول العظيم ما يقابله فى الإنجليزية نحتّ له لفظ wijdun واستعملته فى فروض العواطف وأيضا فى وصف أبعاد مميزة تضاف إلى التشخيص التقليدى لكل مرض Wijdanic Dimension Non – wijdanic  أنظر مقال: فى تصنيف الأمراض النفسية: “تعدد الأبعاد وجها لوجه أمام تعدد المحاور”. افتتاحية المجلة العربية للطب النفسى (1990)، وأيضا:

Revision of the Use of the Term “Affective” in Psychiatric Practice and Research.  Egypt. J. Psychiat., (1990) 13: 135-137

[8] – مرة أخرى أنظر هامش رقم (48)

الفصل العاشر: عن الحلم والإبداع والنوم

الفصل العاشر: عن الحلم والإبداع والنوم

الفصل‏ ‏العاشر

عن الحلم والإبداع والنوم ([1])

الطالب: إذا كانت قراءاتك وخبراتك مؤخرا قد أوصلتك إلى هذه المعارف الجديدة الرافضة، أو الناقدة فماذا نفعل نحن وأنتم تسوّقون لنا بضاعة قديمة أخشى أن تكون مضروبة؟

المعلم: الأمر ليس هكذا تماما فالأحدث لا يكون له معنى وربما فائدة دون أن يرتبط بالأقدم، والأحدث عادة لا ينسخ الأقدم تماما، قد يعدله أو يصححه أو يضيف إليه.

الطالب: ماذا تعنى بنسخ الاقدام؟

المعلم: الآية الكريمة تقول: “ما نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا”.

الطالب: اضبط، هاأنت ذا تستشهد بالقرآن الكريم.

المعلم: يا إبنى انت ما صدقت!! أنا أشرح لك معنى كلمة “ينسخ” التى سألت عنها

الطالب: طيب طيب، فماذا عندك من جديد فى موضوعنا

المعلم: بصراحة الموضوع التالى هو كله جديد بالمقارنة بما شاع عنه، ولكنه يتلعق بفروضى وخبرتى أكثر من قراءاتى

الطالب: أحسن، فما هو؟

المعلم: هو عن الحلم والإبداع

الطالب: هاتها هاتها، وما يحدث يحدث!

المعلم: ألا تذكر أننا قلنا إن التفكير هو نوع من الترابط وإعادة الترابط، والخيال عادة هو هو ترابط على مستوى أعقد وأسهل معاً.

الطالب: كيف يكون أعقد ثم يكون فى نفس الوقت أسهل؟

المعلم: هو أعقد لأنه تكوين ترابطات جديدة غريبة فى العادة لم يسبق أن يصحب بعضها بعضا، وهو اسهل، لأنه ليس ملتزما بالقواعد الثابتة السابقة، فأى شئ أو معلومة أو جزء من معلومة يمكن أن يربطها التخيل بأى شئ أو معلومة أو جزء من معلومة أخرى

الطالب: هى لعبة حرة إذن بلا قواعد

المعلم: ليست تماما فهو أنواع وتشكيلات ومستويات

الطالب: هل تقصد أحلام اليقظة

المعلم: ليس فقط، بل لعل أحلام اليقظة هى الأشهر لكنها من أسطح درجات الخيال، إذا قورنت بما يحدث فى الأحلام

الطالب: وهل نحن نتخيل فى الأحلام

المعلم: يعنى، هو مستوى آخر أو نوع آخر بين الخيال والإبداع

الطالب: لا ..لا .. لا، واحدة واحدة، ماذا تريد أن تقول لى؟ ما هى طبيعة الخيال عموما قبل تصنيفه، وما علاقة ذلك بالآحلام؟

المعلم:

(1) إنه بمثابة استراحة للمخ من الوعى التسلسلى الترابطى الموجَّه باستمرار

(2) إنه بمثابة لعبة العقل التى تتيح له العودة إلى النشاط المنظم المنطقى أكثر تماسكا.

(3) إنه تفكير طليق يسمح بالبعد عن الواقع الظاهر فى إجازة، مادمنا ملتزمين بالرجوع إلى الواقع كما هو أو أفضل.

الطالب: وهل هذا اللعب العقلى واحد أم ستصنفه لنا كالعادة؟

المعلم: جئت به لنفسك، خذ عندك:

1- هناك اللعب الخيالى الذى يمارسه الأطفال عادة فى شكل قصص من نسيج الخيال أو القيام بأدوار يتقمصون فيها الكبار أو أبطال السينما وإضافة تفاصيل جديدة وما شابه ذلك.

2- ثم هناك أحلام اليقظة وهذه موصى عليها من العقل التسلسلى المنطقى الظاهر (المتغطرس عادة، الوصفى غالبا).

3- وكثير من التفكيرالذى أسميناه التفكير الآمل Wishfulfilment أو الذاتى Autistic أو المتمركز حول الذات (الذاتوى) Egoistic أو أى تفكير غير موضوعى لابد وأن يحمل تخيلا بدرجة أو بأخرى.

الطالب: ولكن قل لى إذا كانت أحلام اليقظة نوع من التخيل حتى لو كانت لتحقيق أمل بعيد، أو سرحانا والسلام، فهل الأحلام هى أيضا كذلك؟

المعلم: لا طبعا: “هناك فرق”.

الطالب: أى فرق بالله عليك

المعلم: 4- إن نشاط الحلم الدورى هو إبداع فى وعى آخر بعيد عن متناولنا، وهو يحدث اثناء النوم، وله ترابطاته الحرة غير الموجهة تحديدا، ثم هو صور تتآلف وتتجادل فى أغلب الاحوال، وليس حكيا مسلسلاً كما نحكيه ونتصوره، فهو يصلنا بعضه بعد تحويره وربما تشويهه، يصلنا بالحكى لاحقا،

الطالب (مقاطعا): يخيل لى أنك بذلك تبعده عن ما نعرفه عن الخيال

المعلم: ربما،  فهو أقرب إلى الإبداع ولكنه يجرى فى وعى أعمق.

الطالب: وعى أعمق؟ تقصد اللاشعور.

المعلم: ليس تماما، وعى الحلم هو وعى خاص عميق ليس فى متناولنا فى حالة اليقظة، هذا كل ما فى الأمر، أما تسميته بالنـَّفى أعنى “لا شعور” فهو ينقص من زخم فاعليته.

الطالب: لست فاهما

المعلم: بصراحة الحلم له وعيه المستقل كما ذكرت، واعتباره من نشاط اللاشعور ثم تفسيره برموز الشعور، هو من أكبر الخلافات التى اختلفتُ فيها مع رائد التحليل النفسى سيجموند فرويد

الطالب: انت بذلك تظلم التحليل النفسى، وبالذات تظلم فرويد الذى اعْتَبـَرَ أن وصوله إلى فك رموز الأحلام هو أعظم انجازاته.

المعلم: فرويد شخص عظيم عرف ما يستطيع وتوقف عنده، لكن المصيبة أنه تمادى فى الاستغراق فى أبجدية نظريته، وراح يطبق لغتها على كل المجالات، فأخفت حقيقة ظواهر أعمق وأهم مثل وظيفة وظاهرة الأحلام، أخفاها بتفسيراته الرمزية والشبقية.

الطالب: ماذا تقول؟ هل تفسير الحلم يخفى الحلم أم هو يكشف مغزاه كما تعودنا أن نسمع.

المعلم: لكن يبدو أن ما تعودنا أن نسمعه سواء من فرويد، أم من خالتى “الحاجة سعدية”، ليس هو الحلم، بصراحة الحلم لا يحتاج إلى تفسير.

الطالب: أكاد لا أتابعك لو سمحت، إذا كنت ترفض تفسير الحلم حتى بتفسيرات فرويد الذى لا تنكر عظمته، فما هو سر احتفالك هذا وحماسك للحديث عنه الأحلام.

المعلم: لأنه تقع فى موقع محورى فى نظريتى الإيقاعحيوية التطورية.

الطالب: لا لا، اعمل معروفاً خلنا فى تفسير الحلم.

المعلم: قلت لك الحلم لا يحتاج إلى تفسير، بل إلى احترام وفهم لوظيفته.

الطالب: وما هى وظيفته؟

المعلم: إن الأحلام وكما ثبتت بأبحاث رسام المخ الكهربى، وكما عاينتها فى خبرتى الإكلينيكية تقوم بوظيفة لعلها فى نفس أهمية اليقظة، إنها بما يحدث فيها من تشكيل وتفكير وتعلم وتذكر بل وإبداع، تكمل دائرة اليقظة، بل وربما تكون أهم.

الطالب: أهم من اليقظة؟!

المعلم: آسف للمبالغة لكنها تكمل ما يحدث فى اليقظة

الطالب: لقد حفظتك، فأغلب ما يتراءى لك تنطلق منه وكأنه الحقيقة الجديدة الأخرى، لكننى لا أخفى عليك أننى أجد من الصعب علىّ أن أسلم له بسهولة.

المعلم: عندك حق، لكننى لا أتوقف عندما يتراءى لى بل سرعان ما أجد ما يدعمه، أو يصححه أو يطوّره من واقع الممارسة!

الطالب: وكيف كان ذلك؟

المعلم: لقد أجروا تجارب على الحرمان من النوم وثبت أن هذا الحرمان يخل بالتوازن الكلى لمستوييات الأمخاخ (العقول) لدرجة الهلوسة والخداع الحسى وحتى الهياج.

الطالب: ياه !! شئ أشبه بالجنون، أنا خائف.

المعلم: عندك حق، هو شىء مخيف، لكنها معلومة مهمة ومفيدة.

الطالب: ولكنك تتكلم عن الحرمان من النوم وليس عن الحرمان من الأحلام.

المعلم: بل لقد أجروا تجارب على الحرمان من الأحلام([2]) بوجه خاص وثبت أنه يحدث نفس الأثر الذى أخافك.

الطالب: أى والله أخافنى بحق، ولكن كيف يجرون هذه التجارب و “ينشنون” على الحلم فيحرمون المجرَّب عليه منه بالذات دون النوم الآخر؟ وكيف يعود إلى النوم من جديد؟

المعلم: لعلك لا تعلم أننا نحلم بانتظام – سواء تذكَّرنا الحلم أم لا، حكيناه أم لا، نحن نحلم لمدة عشرين دقيقة كل تسعين دقيقة أثناء نومنا وهذا ما يـُـرصد برسام المخ الكهربائى من خلال تسجيل ما يسمى “حركية العين السريعة” REM (وهو ما أسماه أ.د. أحمد مستجير([3]) نوم “الريم”)، هذا غير نوع آخر من الأحلام أثناء النوم الآخر بقية النوم، وحين نوقظ النانم بمجرد ظهور علامات نوم “الريم”، أى بمجرد بداية رصد حركة العين السريعة فإننا بذلك نحرمة من نشاط الحلم وليس من النوم كله، وقد وجدوا أن نتائج الحرمان من النوم تكافئ – تقريبا – نتائج الحرمان من الأحلام، فأرجعوا الوظيفة الإيجابية الأهم للحلم إلى نشاط “الريم” أساسا وليس إلى النوم كله.

الطالب: ولكن أرجوك أشرح لى أكثر ما هو هذا النوم الحالم، وما هى علاماته؟

المعلم: هأنت ذا تطلب منى ما هو خارج المقرر.

الطالب: خارج المقرر، داخل المقرر، أريد أن أعرف

المعلم: يا إبنى قلت لك لا تجرجرنى، أنت حر، النوم الحالم هو النوم الذى تحدث فيه الأحلام أساسا وتصاحبها ذبذبات سريعة للعينين، وهو يستغرق مدة عشرين دقيقة كل تسعين دقيقة بانتظام من كل ساعات النوم، ويبدو أن حركات العينين السريعة إنما تحدث لأنها تلاحق صور الحلم، أو بالتحديد تتابع تقليب المعلومات التى بها يتم تنظيمها وتشكيلها فى هذه المرحلة النشطة بانتظام.

الطالب: النائم مغمض العينين يلاحق صور الحلم! وينظم المعلومات!! يا صلاة النبى!!.

المعلم: هذا هو ما يحدث، ولقد زاد الاهتمام بهذه الظاهرة وتعمّق تفسير مغزاها ودورها، بما دفعنى أن أواصل متابعتها فى مرضاى ومن أعرف ونفسى: حتى وصلت إلى حقائق، أعنى إلى فروض أرجو أن ننتبه إليها لأنها أمدتنى بفوائد عملية رائعة فى ممارستى العملية فى التطبيب فهل تريد أن تسمعها:

الطالب: هانذا جاهز، هل نسيت أنى طالب طب.

المعلم: أقول لك فروضا.

الطالب: لقد حفظتك وجعلتنى أحترم الفروض العاملة مثل أو أكثر من النظريات وخاصة النظريات الجاثمة .

المعلم: يا فرحتى بك، خذ عندك يا سيدى:

1- إن أهمية الأحلام ليس فى محتواها بقدر ما هى فى نشاط الظاهرة ذاتها.

2- إن الترابط الذى يحدث فى الحلم هو اجترار للمادة الموجودة ومحاولة فسيولوجية نفسية لإعادة تنظيمها.

3- إنه من خلال نشاط الأحلام تنتظم المادة الموجودة والمـُـدْخـَـلة أثناء اليقظة إذْ يجرى ترتيبها بحيث تصبح أقرب إلى التناول والفاعلية عند اللزوم، فنشاط الحلم جزء مكمل لعملية التعلم إذا كنت تذكـُر ما شرحنا عن الصور المنطبعة، فإن هذه الصور هى التى تتتعتع أى تلخلخ أثناء هذا النشاط ثم ترتب مع هذه الحركة، فليتـُقلط  الحالم بعضها أثناء وقبيل اليقظة فى جزء من الثانية أو بضع ثوان، ثم يعيد تشكيلها بخيال سريع أسطح باعتبارها الحلم المحكى، فى حين أن نشاط الحلم الحقيقى يكون أبعد عن تناوله وأقرب إلى الإبداع الأعمق والتشكيل الأعمق أصالة، وبالتالى غير قابل للحكى.

4- وعلى ذلك: فإن الأحلام تعتبر صمام أمن ضد الجنون حتى ولو لم تتآلف مع مادة اليقظة، دون تفسير.

5- إن التناوب بين “اليقظة” و”النوم” و”الحلم” هو جوهر طبيعة الحياة العقلية النابضة السليمة حتى أنى قابلته بنبضات القلب([4]) اندفاعاً وتراخيا (ثم تأكد هذا، ولكنها أعمق وأخطر وأبلغ إبداعا، وذلك حسب تطور فروض ومفاهيم الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى) ([5]).

الطالب: عندك، عندك لقد قلبتها محاضرة، لقد كدت أظن من فرط حماسك لوظيفة الأحلام هكذا أننا لا ننام لنرتاح ولكنا ننام لنحلم.

المعلم: عليك نور، ولكن يبدو أننا ننام لنرتاح ونحلم معا،

نحن نحلم لتنتظم حياتنا العقلية ويتثبت محتواها أثناء الصحو،

ونحن فى الحلم نطلق مالا نستطيع أن نطلقه فى اليقظة،

ونحن ننام لنتمكن من إعادة التنظيم بعد التشكيل واستعادة الهارمونى وهكذا باستمرار.

الطالب: ولكن قل لى ألم يكن “فرويد” على حق إذن حين أعطى الأحلام كل هذه الأهمية.

المعلم: اشهدك على نفسك أنك أنت الذى تعود لفتح الموضوع.

الطالب: إشرح  لى هذه المعلومة وكفى.

المعلم: من يدرينى متى تتوقف، أنا ما أصدق أن تنفتح شهيتك حتى أغرقك بما أتمنى أن يسمعه أحد، إسمع يا إبنى: إن لى رأيا فى هذا الموضوع قد تجده غريبا، أوجزه فيما يلى حتى لا أطيل:

الطالب: ولا يهمك، أطِلْ أطِلَ حتى “تكمل”، هذه فرصتك!!، بل وربما فرصتى حتى لو ابتعدنا أكثر عن المقرر.

المعلم: أنت حر، خذ عندك، وتحمّل:

1- قلت لك إن فرويد عبقرى فريد، اعْتَبَرَ اكتشافه عن الأحلام أهم ما اكتشف، وأنه “حدس لا يأتى المرء مرتين فى عمره” وفى نفس الوقت اعتبر أنه اكتشف بذلك “أكثر الأمور بداهة”، ليكن، هذا رأيه.

2- ومع ذلك فإنى أعترف أن ما حدث بعد هذا الحدس هو سوء تأويل له، فقد اكتشف فرويد بحدس العباقرة وعمق الرؤية (داخل ذاته فى الأغلب) أن الأحلام هى من أكثر الأمور أهمية لاستمرار حياة الإنسان وتوازنه، وحين ذهب لتفصيل ذلك حتى يصبح حدسه علما قابلا للانتقال والنفع: بَالَغَ فى أهمية محتوى الحلم دون الإلمام بظاهرته فى ذاتها.

3- هكذا فتح فرويد العظيم باب القصر العظيم، ولكنه لم يدخله حيث شغلته قراءة النقوش على جدران السور عن معرفة الوظيفة الفعلية والحركة التنظيمية الهائلة التشكيلية داخل هذا القصر الرائع.

الطالب: فرويد بجلالة  قدره يكتفى بالفرجة على النقوش على حوائط السور دون فحص ما يجرى داخل القصر؟!!

المعلم: بصراحة هو معذور فى ذلك.

الطالب: لماذا معذور؟

المعلم: لم يكن عنده الوسيلة للتعرف على العمليات الجارية، فلم يكن عندهم حينذاك رسام للمخ الكهربائى، ولا كانت الفروض جاهزة لوضع خطة متكاملة، ولا كانت لديهم دراسات تفصيلية عن تأثير العقاقير المختلفة المعالجة للمرض النفسى على كمية هذا النوم أو أنواعه، ولم تكن قد بدأت فكرة ولا إمكانيات تجارب الحرمان من النوم، ناهيك عن الحرمان من الحلم، وأثرهما على توازن النفس.

الطالب: ما أحلى العلم اذ يقبل جوهر الأشياء ويتغاضى عن انحرافات التفاصيل فيكمل بعضه بعضا.

المعلم: بهذا التعليق منك أرتاح أنا بدورى وأطمئن إلى مقدار حبك للمعرفة، لأن عندى الكثير فى هذا الشأن: أريد أن أبلغك إياه

الطالب: اعمل معروفا، أنت ما صدقت!!، ومع ذلك فقد شوّقتنى

المعلم: هل تصدقنى إذا قلت لك إننى انتهيت إلى أن الحلم، حتى لو لَمْ نحـْـكـِـه، هوإبداع الشخص العادى

الطالب: لا..لا..لا.، أرجوك أنا صدقت بالكاد ما تيسر من فروضك حتى هذه المرحلة، إيش أدخل الإبداع فى الحلم

المعلم: اصبر وسوف ترى

الطالب: أرى ماذا؟ أرى أن الشخص العادى مبدع وهو نائم بالصلاة على النبى!!؟ يا سيدى: المبدع على حد علمى هو الشخص الموهوب المتميز تماما عن الشخص العادى فكيف تقول إن الشخص العادى مبدع بالضرورة

المعلم: عندك حق، لكن تذكّر باستمرار، وأنت طالب معرفة قبل أن تكون طالب طب أن المعارف تتجدد باستمرار، وأن المسلمات تـُراجع حين يكون النقد جاهزا وقادرا.

الطالب: إعمل معروفا خلنا فى الحلم حتى فى المرض والجنون، لا تصعبها علىّ الله يخليك.

المعلم: الإبداع أعلى مراتب هذه العمليات كلها بقدرته على إعادة التشكيل، الإبداع ناتج ولافىّ أعلى، وبالتالى هو درجة أرقى وأعمق من مجرد تشكيلات الخيال.

الطالب: إعمل معروفا “ولاف” يعنى ماذا، لا تكركبها علىّ.

المعلم: الولاف هو التشكيل الجديد الذى يحتوى المفردات ، بما فى ذلك الوحدات المتناقضة فيما بينها ليجعل منها كيانا جديدا، فيخلق منها تركيبا أحدث مبتكرا غير مسبوق

الطالب: لست فاهما

المعلم: يعنى تركيبية جديدة من تفكيكة قديمة

الطالب: الله الله! سمكرة فى خردة

المعلم: أقول لك ماذا؟ لملم نفسك احسن لك

الطالب: أنا آسف فهو ترابط أيضا

المعلم: الإبداع ليس ترقيعا، هو عملية أكبر من ذلك بكثير، هو قانون الحياة والتطور والنمو على كل المستويات عبر التاريخ، وهو الترابط الأعلى، والمهم أنه ترابط لتأليف كيانات وتوافقات جديدة، أكثر منها استعادة لترابطات وتسلسلات مكررة.

الطالب: لماذا تصر على حكاية “ترابط” “ترابط”، أليس الإبداع هو خلق الجديد كما ألمحت.

المعلم: يا أخى هل يخلق الجديد من الهواء الطلق أم من ربط المفردات المتاحة من القديم والجديد بل ومن المتناقضات التى يصنع منها جميعا شكلا جديدا من أجزاء قديمة.

الطالب: زدنى الله يخليك

المعلم: هل تذكر كيف أن التخيل هو نشاط حر يجمع مفردات متباعدة بجوار بعضها.

الطالب: هذا لعب واستسهال وليس إبداعاً.

المعلم: ربما عندك حق نبدأ بأبسط مثال وهو التأليف بين النصف الأعلى لجسم إنسان والنصف الاسفل لجسم سمكة فى تخيل أسطورة عروس البحر.

الطالب: وهل هذا إبداع وفن؟ هذا قص ولصق

المعلم: عندك حق أيضا،  فهذا أقرب إلى اللعب الخيالى فعلاً، ولكن إذا دخل هذا القص واللصق فى نسيج قصة أو رسم تشكيلى متناسب، أو فى قصيدة شعرية أو فى تِأليف معادلة رياضية جديدة، أو حتى فى فكرة تصنيع غواصة جديدة، أصبح هو الإبداع لأنه لم يصبح “أى كلام” ، ولا “أى ربط مستحدث”، بل اصبح خلقا وتأليفا جديدا بين أجزاء قديمة لانتاج مخلوق بديع تماماً.

الطالب: وما علاقة ذلك بالمخ والأحلام؟

المعلم: إن قمة الترابط بلغة المخ تتم على مستوى ترابط النصفين الكرويين Cerebral hemispheres إذ يعملان معاً فى تناسق فائق.

الطالب: هكذا تريد أن تؤكد كيف أن علم النفس هو دراسة وظيفة المخ الأعلى.

المعلم: عليك نور، ولكن ليس المخ الأعلى فحسب، وإنما كل الأمخاخ معا، ودعنى اذكرك أنكم فى الفسيولوجى لم تعيروا النصف المتنحى Recessive hemisphere  نفس الاهتمام الذى حظـِـىَ به المخ الطاغى، فطغى المخ الأعفى وسيطر واستحوذ حتى كاد يستبعد كل ما عدّاه حتى انتهى الأمر إلى ما نحن فيه من اغتراب.

الطالب: من ماذا؟

المعلم: لا عليك لا عليك

الطالب: أى والله، تذكرت، فقد كنت أعجب وأنا أذاكر أن منطقة بروكا Broca’s area تقع فى النصف الايسر فقط لمعظمنا، وكنت أتساءل بينى وبين نفسى عن الحكمة فى هذا، وما فائدة النصف الآخر.

المعلم: إن هذا التساؤل هام وخطير، وقد بدأت هذه الملاحظات منذ (1855-1911)، وصفها عالم الأعصاب الفيلسوف العبقرى هوجلج جاكسون Hughling Jackson، وفى سنة 1926 قال هانشن Henshen أن المخ الأيمن اقل أهمية من الأيسر ([6]) وهو ليس إلا عضوا ناقصا ومخزنا.

الطالب: وحتى لو كان مخزنا الا يدل ذلك على أهميته وقد سبق أن قلت إن الإنسان “كمً من المعلومات”؟

المعلم: تُمْسِكُ لى على الواحدة، نعم “كم”، ولكنه “كَم نَشِطٌ” جاهز لتوليفات جديدة باستمرار، وليس زكيبة مملوءة بالرموز!! بل إن فى كل ناحية من المخ تختزن تصانيف مختلفة عن الناحية الأخرى، نظام على أحدث ما وصلت إليه الحياة، فقد ثبت أن للمخ الأيمن علاقة بالصور والأنغام والتركيبات الكلية فى حين أن المخ الطاغى له علاقة بالرموز والوحدات المسلسلة خطيا أكثر.

الطالب: الله الله!! أرشيف منظم حسب الصنف؟

المعلم: ليس تماماً، فهو ليس أرشيفا ساكنا منظما تحت الطلب، بل هو معمل حركىّ مشارك نشط بلغته الخاصة وأبجديته المميزة المتجددة أبدا.

الطالب: تريد أن تفهمنى أن وظيفة نصف المخ المتنحى غير نصف المخ الطاغى؟

المعلم: نعم، وكما لاحظت منذ قليل أنى أتكلم عن المخ الطاغى وليس نصف المخ، وكان هذا قصدا منى لا خطأ، وأننى أتكلم عن هذين المخين وأقصد أنهما يمثلان نموذجا لكل الأمخاخ.

الطالب: أى أننا عندنا أكثر من نصفين وأكثر من مخين!!.

المعلم: نعم نعم، عندنا أمخاخ كثيرة، ولكلٍّ تاريخه، وطبيعة عمله

الطالب: لن أسأل حتى لا تضيـِّـعنى فى التفاصيل، وسوف أكتفى بالتساؤل عن وجود أية أدلة على طبيعة عمل المخ المتنحى.

المعلم: وصفت عالمة سوفييتية اسمها لوريا Luria من قديم تفوق هذا المخ فى الموسيقى، فقد وصفت حالة ملحن اخرج أعظم أعماله بعد أن أصيب بالعجز عن النطق (الأفازيا Aphasia) نتيجة لإصابة مباشرة للجانب الايسر، وقد ثبتت هذه الظاهرة من قديم فقد وصف دالين Dalin منذ سنة 1745 حالة من فقد المنطق التسلسلى (وهو أساس اللغة الرمزية مثلا) مع الاحتفاظ التام بالقدرة الموسيقية كما وصف شخصا أصيب بشلل أيمن تام وفقد النطق ومع ذلك احتفظ بقدرته على غناء ترنيمة تسبيح كما هى تماما بمجرد أن يساعده آخر على بدايتها، وقد اعتبر “هنشن” أن الجانب الأيمن بدائى فى أغلب النواحى، واعتبر – إذاً – أن الأنغام تابعة للجانب الأيمن بعد فقد النطق نتيجة لإصابة الجانب الأيسر.

الطالب: بدائى، أليس فى ذلك ما يفسر ما اخذناه فى الثانوية العامة من أن الشعر سابق فى تاريخ الأدب للنثر المرسل وأن الشعر موسيقى والنثر تسلسل.

المعلم: هذه إشارة طيبة..تطمئننى على أنك فاهم، لكن مع التذكرة أن الشعر لا يمثل البدائية، بل هو إبداع على أعلى مستوى.

الطالب: والله ولا فاهم ولا يحزنون ولكنى أصبِّر نفسى.

المعلم: هل تكفى هذه الإشارة فى هذا المجال؟

الطالب: لا .. لا .. إن هذا الموضوع هو موضوع يبهرنى ويطمئننى إلى ما قلت لى من أن علم النفس هذا هو وظيفة المخ مثله مثل بقية فروع الفسيولوجيا التى ندرسها، هات كل ما عندك حتى ولو لم يكن علينا للامتحان.

المعلم: مادام هذا هو طلبك فاعلم أنه قد ينطبق على ما وصف أيضا فى حالة الموسيقى الشهير رافل Ravel الذى أصيب فى قمة مجده بفقد القدرة على التعرف التحليلى للموسيقى وقراءة النوته فى حين لم يفقد القدرة على العزف، كما أنه لوحظ أن بعض الخبرات الشعرية قد تظهر لأول مرة بعد الإصابة الجزئية أو المؤقتة بفقد النطق نتيجة للاصابة يتلف المخ الأيسر .

الطالب: إذن يحق لى أن أتخيل أنى لو شرحت مخ موسيقار أو ملحـّـن لوجدت مخه الأيمن اضخم وأزحم.

المعلم: نكتة هذه أم سخرية؟ إن وظائف المخ فى قمة كفاءته تكلم بعضها بعضا، فكل مخ (وحتى كل نصف مخ إذا شئت أن تتكلم بلغة التشريح أو الفسيولوجيا العادية) له تخصصه، وهو يكمل النصف الآخر، ثم الكل الآخر.. الخ.

الطالب: ولكنى أذكر وأنت تحدثنى عن ظاهرة الرؤية السابقة Déjà vu ان النصفين تصلهما نفس الصورة فى الإدراك بفارق جزء من جزء من الثانية، وقد فَسَّرتَ لى بذلك أن الإنسان فى هذه الحالة يخيل إليه أنه رأى نفس المنظر قبل ذلك، وقد فهمتُ أن النصفين يقومان بنفس الوظيفة وهى الإدراك هنا مثلا.

المعلم: ذاكرتك تمام التمام، نعم لقد حصل، ولكن تبدو أن التفاصيل تختلف، أى أنهما يشتركان فى الوظائف من حيث المبدأ، ويختلفان فى التفاصيل.

الطالب: وكيف كان ذلك؟

المعلم: أغلب الدلائل تشير إلى أن المخ الطاغى الأيسر عادة هو المختص باللغة والتفكير الرمزى أو الإسنادى.

الطالب: وما التفكير الإسنادى لو سمحت؟

المعلم: ألم تأخذ فى النحو المسند والمسند إليه، إن هذا هو التفكير الإسنادى اسمه بالإنجليزية Propositional وقد اعتبر جاكسون من قديم ان وظيفة المخ الطاغى ليست امتلاك Possession الكلمات ولكنها استعمالها، فالإسناد ليس مجرد تتابع الكلمات ولكنه أن تشير كلمة للأخرى بحيث تعطى للكلمتان (أو الكلمات) معاً معنى لما تجمعـَـا له.

الطالب: أخشى أن يستدرجنا الإطناب – وهو طابعك مثلما هو طابعى – إلى الخروج عن الموضوع، فهلا اختصرت لى الحكاية فى الفروق بين عمل النصفين؟

المعلم: لا بأس سأحاول أن أبسط لك الأمر، واحدة واحدة، كل ما أريد منك أن تعرفه الآن هو عدة أساسيات متعلقة بهذه القضية.

الطالب: لست متأكدا أننى سوف استوعبها؟

المعلم: لكنها أساس جوهرى فى فهمك بعد ذلك للأمراض النفسية وخصوصا الجنون، وهى أساس فهمك لعملية الترابط على أعلى مستوياته فى فشلها ونجاحها، وبالتالى للإبداع، وهى أيضا أساس تصديقك أن علم النفس هو فسيولوجيا المخ ككل على أرقى مستوى.. هل تذكر؟

الطالب: اذكر، ولكن… دعك من كل هذه التفاصيل، وهيا نوجز ما علينا معرفته

المعلم: حاضر، خذ عندك:

(ا) أن المخ مخان ( على الأقل (فتح كلام!!) وليس نصفين.

(ب) أن عمل كل منهما يكمل الآخر.

(جـ) أن المخ الطاغى يشبه الشخص العالم المنطقى، المتحذلق، الذى يحسن استعمال اللغة والرموز فى تسلسل ويحسن تعلم العلاقات فى سببية متتالية.

(د) أن المخ المتنحى (مع خطأ التسمية) يشبه الشخص الفنان الذى يتعامل بالصور أكثر مما يتعامل بالرموز المحددة، ويحسن التركيب لا التسبيب، ويهتم بالكليات والتخيل والتراكم والتكيف والأنغام.

الطالب: عندك عندك إن ما أعلمه أن العالم مبدع، والفنان مبدع، فكيف تفصل بينهما هكذا وأنت تتكلم عن الإبداع؟

المعلم: أنا لم أفصل، ولكننى أحاول أن أهز ثوابت معطلة، ثم إننا نحتاج إلى إعادة تعريف الإبداع، حتى لا يقتصر على بيت شعر أو رسم لوحة أو إخراج فيلم، الإبداع هو عملية تجديد حيوى نوعى نوابىّ طول الوقت.

الطالب: أمن اجل ذلك قلت أن الشخص العادى يبدع مادام يحلم، فماذا تقصد؟ لأننى لم أسألك ساعتها.

المعلم: يا خبر! لقد زغت منك، فهذه أصعب منطقة، عموماً أنا اعتبرت أن أى تغير ولو واحد فى الألف فى اتجاه النمو هو إبداع وهذا ما يحدث لكل منا كل ليلة.

الطالب: لست فاهما.

المعلم: هل تسمح لى أن نؤجل هذا الموضوع الآن.

الطالب: وهل أنا أملك غير ذلك، خلنا فى المخ الطاغى والمتنحى.

المعلم: أؤكد لك على تكافل عمل المخين فى الإبداع خاصة.

الطالب: وكأن الـCorpus callosum  مهمة جداً فى الإبداع.

المعلم: اسمها بالعربية: الجسم المندمل([7])، وقد درسوا عمل نصفى المخ منفصلين أيضا من خلال قطع هذا الجسم فى بعض الحيوانات الأعلى، ومن خلال دراسة بعض حالات الصرعيين الذين تجرى لهم عملية شق هذا الجسم المندمل، ومن خلال بعض الأورام التى توقف عمل هذا الجسم، ووجدوا الأدلة لعمل المخين معاً فى الإبداع كما أشرتَ.

الطالب: يا سلام، لقد كنت استهين بهذا الجسم المندمل فى التشريح لأنه جسم منتظم ليس له علاقات كثيرة وحفظ علاقاته سهل جدا فلم أكن أتوقف عنده ولكن ما أنت تفاجئنى أن له وظيفة بالغة الخطورة.

المعلم:  حصل، وقد قال عالم إسمه فيجان Fegan “إن كل الملاحظات تدل على أنه بعد الجراحة التى يلغى فيها عمل هذا الجسم المندمل، نجد أمامنا إنسانا له عقلين ومجالين للوعى منفصلين، والسؤال المطروح هو “هل قطع الجسم المندمل يحدث شقا فى وظيفة العقل، (أو ازدواجا) أم أنه يظهر ازدواجا قائما بالفعل.

الطالب: كدت أقتنع أن لنا مخان فعلا.

المعلم: على الأقل، ثم إن لاشلى Lashley ( وهو من أشرت إليه من قبل فى هذا الدليل) يقول بأن علماء النفس – على الأٌقل فى الفترة الأخيرة – لا يجدون سببا أو منطقا فى التمسك بفكرة واحدية العقل.

الطالب: إنى أخاف أن تكون كل الدراسات السابقة للتفكير لم تـَدْرُس إلا تفكير النصف الطاغى، أو قل المخ الطاغى حتى لا تحتج، فاللغة والكلام والمنطق والحساب كلها تابعة له كما فهمت، وعلينا إذن أن نبدأ دراستنا من جديد للمخ الآخر وبذا يتضاعف المقرر.

المعلم: كل همك المقرر، المقرر..!! نعم  يا إبنى لابد من تنظيم معلوماتنا بعد هذا الفتح الجديد.

الطالب: يا سبحان الله، هكذا، علينا هم متلتل إذا كان لابد أن أحفظ كل ذلك.

المعلم: دعنى أغريك ببعض المعلومات من مدارس قائمة فعلا تؤكد هذا التمييز، بل سأحاول أن أدخل فيها بعض أقوال الفنانين والمبدعين حتى أجذب انتبهاهك، أو ربما يستحسن أن أثبتها لك فى هامش مستقل([8]) حتى لا تتصور أننى أوصيك بحفظها صمًّا.

الطالب: برغم أنك وضعتها فى الهامش إلا أننى أعجبت بها جدا، ولكننى أيضا انزعجت منها تماما.

المعلم: أنت حر، فالانزعاج أمام الحقائق العلمية مفيد بلا أدنى شك.

الطالب: ولكن خبرنى، كيف يختص كل نصف، آسف، كل مخ، بوظائفه تلك وهما فى التشريح سواء بسواء؟

المعلم: هل رأيت فائدة انزعاجك؟ إنه مزيد من الاسئلة، طبعا لا أحد يعرف كيف حدث التخصص على وجه التحديد لأن ذلك يتعلق بتاريخ فيلوجينى (تاريخ تطور الحياة والأحياء) طويل، إلا أن نمو اللغة بالذات وتحديدها فى أحد المخين يؤكد أن هذا التخصص أكثر ما يكون فى الإنسان، إلا أنه لا ينفى أن يكون هناك تخصص حتى فى حالة عدم وجود لغة، ويبدو أن كل نصف (آسف: غلبتنى العادة) أعنى كل مخ يختلف عن الآخر من حيث انتقاء المعلومات الداخله والمحتوى وربما الترتيب كذلك.

الطالب: يكفينى هذا، كل شئ “يبدو يبدو” … ومع ذلك…

المعلم: إن الموضوع يطول شرحه، ولو تذكرنا خطوات الإبداع المألوفة، لظهرت اعتراضات شديدة حول هذا التحديد بين المخين (أو النصفين) بهذا الشكل المسطح.

الطالب: عن أى خطوات تتحدث؟

المعلم: آه !! ألم أقل لك ذلك؟ كنت أود أن أؤجل الحديث عن الإبداع، ومع ذلك فإليك كلمة قصيرة عن خطواته:

(1) المرحلة التحضرية حيث تختبر المشكلة وتستكمل المعلومات اللازمة.

الطالب: هل هو تحضير مثل التحضير للامتحان.

المعلم: طبعا لا، ما هذا، إن حياتنا الصحيحة كلها هى مرحلة تحضيرية، وإلا فكيف يكون الحلم ابداعاً والتطور إبداعاً

الطالب: لست فاهماً.

المعلم: أحسن، خلنا، نقتصر على كتابة رواية، أو قصيدة، أو حتى اشراق فكرة علمية متبكرة .

الطالب: أحسن:

المعلم: خذ عندك بعد المرحلة التحضيرية تأتى.

(2) مرحلة الحضانة وهى مرحلة انتظار ليس فيها نشاط ظاهرى يتعلق تعلقا مباشرا بالمشكلة

(3) ثم مرحلة الإلهام حيث يصل المبدع إلى الحل وكأنه ضربة معلم جاءته فجأة وبقدرة خارقة فى حين أنها ثمرة إعداد وحمل كامنُ.

(4) وأخيرا مرحلة التحقيق والتطوير والتعديل وهنا يدخل الحل المطروح من خلال الإلهام إلى معمل الواقع واختبارات الزمن ليتأكد أو ينفى أو يُطور أو يُعدل.

الطالب: بذمتك هل تصدق أن من يريد أن “يبدع” سوف يمر بهذه المراحل وكأنه ينتقل من سنة أولى إلى سنة ثانية وهكذا؟

المعلم: طبعا لا مستحيل، إن كل ذلك إنما يحدث مرارا وتكرارا فى زمن بالغ القصر، لا أريد أن أذكره حتى لا تحول الحوار

الطالب: أكثر الله خيرك فماذا تريد أن تبلغنى إياه على قدرى

المعلم:  أريد أن أؤكد لك أنه لا إبداع بدون نبض تشكيلى، وأن ما يسمى إلهاما ما هو إلا نتيجة جهد وخبرة ومعلومات هائلة وزاخرة.

الطالب: مخ أم أمخاخ؟

المعلم: عليك نور، كل الأمخاخ بما لايترك جزءا قديما أو حديثا إلا واشترك فى العملية.

الطالب: يا ساتر استر هذا أمر مخيف، مجرد تصوره صعب.

المعلم: ربما لهذا نجد أن المبدعين المعروفين قلائل، إذا قصرنا كلمة إبداع على من ينتج عملا جديدا مختلفا خارجه فيسمى كذلك

الطالب: ولكن ألست معى أن المبدعين بهم شئ من كذا أو كذا!

المعلم: ولكن هذا لا يعنى إطلاقا أنهم مختلو العقل لا قدّر الله، بل إن الإبداع هو قمة العقل، وبالتالى فهو قمة الصحة، لأنه أكبر نشاط ترابطى رغم ما يبدو على المبدعين من شذوذ، إلا أنه قد يكون شذوذا إلى أعلى، كما أن عدم توازنهم الظاهرى أحيانا هو إعلان عن نشاط متميز خاص.

الطالب: ترابطى؟ تانى؟

المعلم: نعم، فمازلنا نتحدث عن الوظائف الترابطية، وقد تدرجنا بها واحدة واحدة من الإدراك حتى الإبداع، وحتى الوجدان نظرنا إلى دوره فى اعتمال فعلنه المعلومات وهو ما أطلقنا عليه “العقل الوجدانى الإعتمالى” ونشاطه وصلنى مؤخراً على أنه منتهى الترابط للتوليف.

الطالب: سؤال أخير لو سمحت، هل هناك فرق بين المبدع، والفنان، والموهوب والعبقرى؟

المعلم: يا ساتر استر، إن هذا يحتاج إلى كتاب بأكمله، ومع ذلك واحتراما، لشغفك سوف أقول ما أراه فى هذا الشأن فى إيجاز تعريفى شديد، وأرجوك ألا تسألنى التفاصيل حتى لو اختلف ما أقوله عما تعرفه أو ما هو شائع.

الطالب: لن أسألك حتى تحدث لى منه ذكرا.

المعلم: فتح الله عليك، اسمع يا سيدى.

أولا: إن كلمة فنان إذا أحسن استعمالها أصبحت تصف أنواعا من التشكيل الخفيف المخصص للتسلية التفريغية الترويحية، كما قد تصف نوعا من الإبداع الرائع المميز، ولابد من التمييز بين الفن الخفيف المدُغدغ فهو نوع من الانشقاق Dissociation، وهو نشاط جزئى يشمل جانبا دون آخر فى العادة، وهو موقوت قصير العمر (لايستمر معظم الوقت) أما الإبداع الأصيل فهو خلق لا أريد أن أقول إنه يقترب من الخلق الإلهى.

الطالب: استغفر الله العظيم.

المعلم: أنا قلت “يقترب”، ربما يفسر ذلك غرور المبدعين وشطحات بعضهم.

الطالب: هذا عن المبدع فماذا عن الموهوب

المعلم: ثانياً: إن الموهوب، ليس مبدعا بالضرورة، فهو متميز فى أداء بذاته وليس مؤلفا بين أجزاء أو متناقضات حتى ذهب بعضهم إلى اعتبار الموهوب نقيض المبدع، وهذه مبالغة، لأنه لا مانع أن يكون الموهوب مبدعاً، إذا توفرت له مواصفات المبدع.

الطالب: نقيضه؟!

المعلم: طبعا هذه مبالغة، ففى حين أن الموهوب يحسن أداءه، فإن العبقرى (وهذا هو الاسم الذى أعنى به المبدع الخلاق، ودعنا نستعمل لفظه مؤقتا) فهو يصنع الجديد، وفى حين أن العبقرى يعطى حياته كلها لهدف الخلق الإبداعى فإن الموهوب قد يستعمل موهبته كوسيلة للحصول على أهداف منها القوة أو السلطة أو المتعة أو الشهرة …

الطالب: ياليتنى لم أسالك.

المعلم: لا، لن تستطيع أن توقفنى إلا إذا أكملت:

ثالثا: العبقرى يكاد يكون هو المبدع، وإن كان عمله قد يخرج فنا أحيانا، كما أن تميزه يعطيه لمحة موهبة، إلا أنه عادة فريد نوعه، دائم الانبهار، قادر على الدهشة، متحمل للتناقض، يصنع ترابطات جديدة بنشاط مستمر دون أن يخفى أصالته حتى لو ظل وحيدا لا يتراجع مهما حدث.

الطالب: هذا ليس مبدعا بل نبيا.

المعلم: لا أريد أن أوافق أو أنفى، ولكنه يحمل أمل النبوة، وشرف وآلام الأصالة معاً.

الطالب: شكر الله لك، وأرجو أن نقفل النقاش لأنى أخاف على نفسى من العبقرية ولا أحب الألم.

المعلم: من حقك … ولكن.

الطالب: لكن ماذا؟ اريد أن أذاكر دروسى، كما هى دون إبداع، ماذا وإلا.

المعلم: هذه الطريقة فى التربية تتعلق بتنمية المرحلة الأولى فحسب، مرحلة الحصول على المعلومات، ومالم يلحقها ما يليها فأنت نسخة أخرى: تكرار جيد لا أكثر ولا أقل.

الطالب: وماذا أفعل أنا؟ هل أرسب من أجل عيون النصف المتنحى، إنى أتصور أنه لو عمل كما ينبغى فإن النتيجة هى أن أصبح أنا المتنحىِّ أو المتنحىَّ (بكسر الحاء وفتحها) عن كلية الطب.

المعلم: بل وسائر الكليات.

الطالب: غيروا إذن نظام التعليم.

المعلم: ياليت، ولكن كثيرا من المحاولات التجريبية البديلة قد باءت بالفشل، أعتقد أنها فشلت “لأنها خلقت شبانا وأطفالا مبدعين ليست لهم القدرة على الاستمرار أو التكيف، أى لم تحلق رجالا ونساء يحافظون على استمرار قدراتهم فى زيادة دائمة.

الطالب: وما هو الحل؟

المعلم: لابد من ضبط جرعة الحرية بما يناسب قوة السيطرة، وضبط جرعة الطغيان والتنحى، وضبط جرعة الاستيعاب والتخزين المعلوماتى فى مقابل استعمال هذه المعلومات بقدر نشط متجدد و ….

الطالب: عندك عندك، لابد من ضبط جرعة ما تريد أن تقوله لى فى مقابل ما هو مقرر علينا.

المعلم: ولكن.

الطالب: ولا لكن ولا يحزنون، لقد جرجرتنا استطراداتك إلى الإبداع، حتى اعتبرت النشاط الحالم إبداعا، ثم اختزلت ما نحكيه من أحلام إلى ما تبقى على السطح قبيل اليقظة  ننسج منه ما نعتبره حلما.

المعلم: أنا قلت ذلك؟

الطالب: غالبا.

المعلم: لا يا شيخ!! يخيل إلى ّ أنك فهمتَ أكثر مما أردتُ توصيله.

الطالب: تحاول رشوتى.

المعلم: الأصغر أكثر قدرة على التلقى، أعرف ذلك.

الطالب: لكننى لم أفهم وظيفة النوم إلا باعتباره المجال الذى تحدث فيه الأحلام

المعلم: عندك حق، ولكن دعنا نوضح أكثر: “فالنوم هو حالة نوبية مؤقتة من التوقف النسبى لنشاط المستوى الشعورى لعمل المخ، وبالتالى توقف التفاعل الظاهر مع البيئة، وخاصة بالنسبة للاستجابات الحسية والحركية”

الطالب: ولكن هل هذا التناوب يحدث عند كل الأحياء.

المعلم: لم تبدأ هذه الظاهرة بشكلها المتناوب بين الصحو والنوم إلا فى الفقريات، كما أن فترات الكمون الطويل مثل البيات الشتوى ليست نوما، وكل الكائنات لها فترات النشاط التى تتناوب مع فترات الكمون، ولكن لا يطلق ما يميز ظاهرة النوم إلا فى الفقريات الأرقى، فكثير من التناوب عند بعض الكائنات لا تعتبر نوما بالمعنى المعروف عند الإنسان مثلا.

الطالب: تقول إن النوم ظهر فى الفقريات وما هو أحدث منها.

المعلم: الذى أردت تأكيده هو أن ظاهرة التناوب بين الصحو والنوم ظهرت مؤخرا، وفرق بين التعبيرين، لأن الرأى الأغلب هو أن النوم هو الأصل، أى هو الأقدم، وأن ما جدّ على الكائنات هو حالة الوعى الصحو أو حالة اليقظة، والنوم من هذا المنطلق يصبح ظاهرة نكوصية Regressive Phenomenon تسمح للكائن بالرجوع إلى أطواره الأولى لفترة محددة، مما يتيح له أن يكون أقدر على الفعل الواعى الهادف فى أوقات يقظته، فهو نكوص فى خدمة النمو والتشكيل.

الطالب: ماذا تعنى؟

المعلم: النوم ليس مجرد رجوع أو رجعة، هو ليس حالة سكون أو همود، ولكنه حالة من النشاط المختلف عن نشاط اليقظة نشاط الأجزاء الأقدم والتى ليس لها مجال للنشاط فى حال اليقظة، دعنا نرى من خلال حوارنا هذا ماذا يفعل النوم وماذا يحدث أثناءه.

الطالب: هل يعنى ذلك أن الكائنات الأدنى هى فى حالة نوم دائم، وأنه بظهور الوعى والانتباه أصبح النوم متقطعا؟

المعلم: تقريبا، فتح الله عليك، كأن الكائنات الأولية لا تعمل فيها إلا الأجهزة التلقائية والانعكاسية أو بتعبير الكمبيوتر “سابقة البرمجة” Preprogrammed، وهى هى الحالة التى تكاد تميز أغلب نشاط الإنسان المغترب حاليا أثناء اليقظة.

الطالب: أقترب من الفهم تدريجيا، وإن كان ذلك يشككنى فى التعريف الأول وهو أن النوم حالة من توقف الوعى.

المعلم: يا أخى .. يا أخى .. حتى لو أننى قلت ذلك فإننى أعنى توقف وعى اليقظة ليحل محله وعى النوم مع وعى الحلم بالتبادل

الطالب: بالله عليك كيف أبلع هذا التعبير “وعى النوم” وقد اعتدنا أن نتصور أن الوعى هو الشعور والإحساس

المعلم: النوم يعتبر الآن حالة خاصة من الشعور Special State of Consciousness  ولعلك تذكر أنى رفضت كلمة اللاشعور حتى كدت أقول لك أنى أفضل تعبير شعور “1”، وشعور “2” وهكذا.

الطالب: لا اذكر شيئا أو لعلى نسيت قصدا لأنها معلومات تقلب موازينى كالعادة، فكيف يكون النوم شعوراً؟ لا حول الله ياربى.

المعلم: لا تربك نفسك ودعنى أذكّرك بأننا عجزنا عن تعريف الشعور والوعى بشكل نهائى، وسيأتى ذلك لاحقا، فدعنا ننطلق إلى ما هو أنفع من النقاش اللغوى.

الطالب: إذن فحدثنى عن أهمية النوم ونفعه، أو دلالته، أو أى شئ يبعدنا عن التعريف والجدل اللغوى.

المعلم: اسمع يا سيدى:

1- النوم يحدث بطريقة دورية شبه قهرية، وهو يمثل بذلك ظاهرة تعتبر محورا فى تفكيرى وفهمى للمخ، وهى أن المخ البشرى عضو نابض Pulsating، أو قل عضو نوبى Phasic، بل إن الحياة كلها كذلك، وحتى ما بعد الحياة – فى تصورى – لابد أن يكون كذلك.

الطالب: واحدة واحدة، من فضلك واحدة واحدة.

المعلم: يستغرق النوم الحالم حوالى ربع وقت النوم، فكل تسعين دقيقة يظهر النوم الحالم عشرين دقيقة وهكذا

الطالب: لقد  ذكرنا ذلك من قبل وأشرنا إلى هذا النظام المتبادل؟ وكأنه التبادل بين النوم واليقظة.

المعلم: بالضبط، إن كل الظواهر البيولوجية تدل على هذه النوابية أو الدورية.

الطالب: وهل يولد الإنسان هكذا منتظما نوابيا دوريا منذ البداية وحتى النهاية؟

المعلم: إن هذا الانتظام يرتبط بنمو المخ وتنظيمه المنسق، فالطفل حديث الولادة…. ينام أغلب الوقت ثم تزداد ساعات يقظته تدريجيا، ولا داعى للتفاصيل.

الطالب: أوافق أنه لا داعى للتفصيل ولكن هل عرفتم أسباب النوم؟

المعلم: هناك نظريات كالعادة، بعضها توارى بعد أن ثبت ضعف حججه، ومثال ذلك النظرية القائلة بأن النيورونات، وخاصة فى جذع المخ (فى التكوين الشبكى Reticular Formation) يصيبها التعب أثناء اليقظة، فتتوقف عن العمل جزئيا فيحدث النوم، وقد ثبت ضعف هذه النظرية لأننا نستطيع – مثلا – أن نسهر بعد ما نتصور أننا تعبنا تعبا مفرطا وأن النوم حتم، وغير ذلك من أدلة لا مجال لذكرها، وطبعا انتهت نظريات أقدم كانت تفسر النوم بتجمع مواد كيميائية خاصة لتنظيم النوم.

الطالب: كلها نظريات وكلها انتهت، فماذا تبقى الآن؟

المعلم: تبقى إن النوم يمثل الأرضية الفسيولوجية التى تحدث فيها الأحلام بكل دلالاتها وعلاقتها بالمرض والصحة وفهم الجانب الآخر من حياة البشر كما ذكرنا حالا، فالنوم يمثل التناوب الفسيولوجى بين نشاط مستويات المخ، فيفتح الباب لفهم التناوب المرضى فى كثير من دورات الأمراض النفسية والعقلية، ثم إن اضطراب النوم يعتبر قياساً حساسا لحالة الصحة والمرض آخذين فى الاعتبار الاختلافات الفردية الشاسعة بين الأفراد.

الطالب: كأنى بك تقول: لو فهمنا النوم لفهمنا المخ، ولوفهمنا المخ لفهمنا الإنسان.

المعلم: هو كذلك تقريبا إن شئت، على شرط أن نميز بين طورىْ النوم ووظيفة كلٍّ منهما.

الطالب: فما هى الفروق بينهما؟

المعلم: النوم الهادئ ([9]) Quiet Sleep هو النوم الخالى من الأحلام، لكن ليس تماما، فقد ثبت أن به أحلاما اقل نشاطا وإن لم يتحدد الفرق تماما، وهو نوم يتميز بندرة حركات العين السريعة والوجه وسكون الجسم، وتتخلله اختلاجات من وقت لآخر، ويظهر فى رسام المخ الكهربى فى شكل موجات بطيئة جسيمة، بعكس النوم المفارق([10]) Paradoxical Sleep،  (نوم الريم) فقد سمى كذلك لأنه يتميز بنشاط فى كافة المجالات بما لا يتفق مع فكرة النوم من حيث هو راحة واسترخاء، ففيه يكون التنفس سطحى غير منتظم، والنبض غير مستقر، كما تصحبه حركات بسيطة فى اليدين والقدمين مع دفعات من حركات سريعة للمقلتين، وإذا ايقظنا شخصا فى تلك الفترة فإنه عادة ما يخبرنا أنه كان يحلم.

الطالب: لقد قلبت معلوماتى، هكذا جعلتنى أتصور أن فى النوم يقظةً ما.

المعلم: عليك نور، ألم نقل أنها درجات فى الشعور والوعى، لا أكثر ولا أقل فإذا كانت اليقظة درجة من النشاط فالنوم الحالم درجة أخرى والنوم الهادئ درجة ثالثة وهكذا.

الطالب: وهل اليقظة درجات أيضا؟

المعلم: طبعا، ولكن لهذا حديث آخر، قد نعود إليه وقد لا نعود.

الطالب: ياليتنا نعود إليه.

المعلم: ثم تعود تشكو من أنه غير مقرر وكلام من هذا القبيل.

الطالب: إذا فحدثنى عن المقرر.

المعلم: الرأى الأغلب أن هناك جهازا مسئولا عن اليقظة، وهو التكوين الشبكى الصاعد، وأى تثبيط لعمل هذا الجهاز قد يثير جهازا أخر مسئولا عن النوم.

الطالب: ولكن ما هى الفوائد التطيبيقية لكل هذه المعلومات؟

المعلم: إسمع يا سيدى، إليك بعضها:

1- من قديم والملاحظة الإكلينيكية تقول إن اضطراب النوم بالزيادة والنقصان شديد الصلة بالمرض النفسى.

2- وفى التجارب التى أجريت لمعرفة تأثير الحرمان من النوم على الحالة النفسية وجد أنه لا يمكن إطلاق قاعدة عامة لذلك، ويبدو أنه لكى يحدث ذهان نتيجة للحرمان من النوم الذى قد يصل إلى خمسة عشر يوما متصلة، لابد من وجود استعداد خاص لدى الشخص، وقد وجد أن الحرمان من النوم كله هو أساساً حرمان من الراحة أما الحرمان من النوم الحالم فهو حرمان من الأحلام، وبالتالى من وظيفتها النشاطية التنسيقية التشكيلية الإبداعية لمخزون نشاط الجزء الأقدم من المخ فى جدل مع زخم المعلومات المستحدثة، ولهذا فإن المهم فى إحداث “الذهان التجريبى” هو الحرمان من الأحلام (النوم الحالم) بوجه خاص وليس الحرمان من النوم ككل. كما ذكرنا، لعلك تذكر بعض ذلك.

الطالب: أذكر ونصف، لقد فلقتنى بإعادة كل ذلك ولكن قل لى: هل هذا مصداق القول الشائع من أن الجنون هو حلم اليقظان والحلم هو جنون النائم؟

المعلم: تقريباً، بعد التجاوز فى استعمال كلمة الجنون

الطالب: كأن الحلم هو صمام أمن ضد الجنون، وأذكر أنك ألمحت إلى ذلك من قبل.

المعلم: بالضبط.

الطالب: ولكنك تقول أن الكل يحلم ربع ساعات نومه، فلماذا يجن البعض ولا يجن الآخرون؟

المعلم: إن سؤالك هذا سيفتح الباب لفروض متلاحقة لا مجال لذكرها هنا، ولكن دعنى أقول لك إن الحلم لا يصبح صمام أمن ضد الجنون إلا إذا كانت الوصلة بين نشاط الحلم ونشاط اليقظة ذات فاعلية تنظيمية.

الطالب: تعنى تفسير الأحلام؟

المعلم: أبدا .. أبدا، فأنا أميل إلى الرأى القائل بأن نشاط الحلم يساعد فى إعادة تنظيم المادة المكتسبة أثناء اليقظة، كما أنه يسمح بنشاط مستويات المخ فى تناوب يسمح للمخ بالقيام بوظيفته القيادية بفاعلية سلمية، وبذلك يكون المهم هو كفاءة هذا التنظيم وهذا التناوب، ولعل تذكّر الأحلام ومحاولة تفسيرها – إن خطأ وإن صوابا – تسهم بطريق غير مباشر فى التقريب بين مستويات النشاط وليس علينا بالضرورة أن ننتبه إلى التفسير التفصيلى والرموز وما إلى ذلك مما أشاعته مدرسة التحليل النفسى بوجه خاص.

الطالب: فإذا كان الأمر كما تقول، وأن الحرمان من الحلم، أو قطع الوصلة بين الحلم واليقظة هو سبب الجنون أو هو من أسباب الجنون، فكيف أفسر ما سمعته من أن الحرمان من النوم هو أحد طرق العلاج الحديثة؟

المعلم: هذه مرحلة مازالت تجريبية، ويبدو أنها تـُحدث أثرا طيبا من خلال تفاعلات نقيضية Paradoxical أو غيرذلك، وقد نجحت هذه التجارب بوجه خاص فى حالات الاكتئاب، وقد أجريتُ مع زميل لى([11]) تجارب فى هذا الصدد، ووجدنا أن الحرمان من النوم فى ذاته ليس هو العامل الأول والأخير فى الإسهام فى الخطة العلاجية، إذ أنه ليس إلا مرحلة من المراحل تؤدى وظيفتها بطرق مختلفة، وتتوقف نتائجها على ما يليها من خطوات، ويبدو أن الحرمان من النوم بما يشمل الحرمان من الأحلام فى حالات الاكتئاب يثير تهديدا أكثر بإطلاق النشاط الداخلى فى شكل ذهان، مما يضطر النشاط الأقرب للسلامة الأحدث (أو المخ التكيفى) إلى زيادة قبضته لمنع هذا التهديد الجديد الذى زاد، وقد ينتج عن ذلك تماسك لا بأس به يخفى الأعراض ويجعل التهديد الكامن بالذهان أو بفقد السيطرة الذين يعانى منهما المكتئب بوجه خاص، يجعلهما تهديدين أكثر حدة، مما يتطلب دفاعا أكثر يقظة، فهو السلامة.

والتفسير الثانى أنه بعد الحرمان من النوم لبضعة ليال قد يحدث ما يسمى بالظاهرة التعويضية Rebound Phenomenon فتزيد فترات النوم وفترات الأحلام – النوم الحالم بوجه خاص – مما يجعل هذا التعويض بالزيادة يبدو وكأنه هو صمام الأمن اللازم لتفريغ النشاط بالطريق الطبيعى وهو نشاط الحلم بديلا عن التهديد  بتفريغه فى حالة اليقظة محدثا الذهان،

الأمر الثالث هو أن الحرمان من النوم فى بعض الحالات مثل اضطراب الشخصية قد يهز حَلْوَسَطـًا مرضيا نمطيا فيتخلخل مما نحتاج إليه فى كثير من الأحيان لإمكان بدء خطوة علاجية بنائية تالية، لا يمكن بناؤها فوق حلوسط تلوثى جامد، وكأنه يحدث شيئا من الاهتزاز أو عدم التوازن أو التعتعة المرغوب فيها كخطوة من الخطوات التالية فى الخط العلاجى، وإنى آسف أن أتطرق إلى هذا التفصيل، لكنك أنت الذى سألت، وما علىّ إلا أن أجيب.

الطالب: دعها تكمل وخبرنى إذا كان الأمر كذلك، فكيف تعمل العقاقير المختلفة بالنسبة لصمام الأمن هذا الذى أسميته النوم الحالم؟ حتى لا نكتفى بتصور أن الذهان مجرد نشاط كيميائى ضار لابد أن نعادله بنشاط كيميائى مضاد؟

المعلم: سؤال ذكى .. دعنى أذكر لك مجرد أمثلة وأطمئنك إلى أن بعض الاتجاه الحديث يذهب إلى تفسير عمل العقاقير من خلال تأثيرها على النوم الحالم بوجه خاص، وليس من خلال النموذج المشتبكىSynaptic Model  الذى تمت دراسته فى اللاحياة أساسا In Vitro، ولا يمكن تعميمه على الشبكة المشتبكية Synaptic Network  بسهولة أو دقة وسأضرب لك أمثلة عابرة لكيفية عمل بعض العقاقير من خلال تأثيرها على النوم الحالم أو – إن شئت الدقة العلمية – سأذكر لك حقائق تصاحب بعضها بعضاً لعل فى ربطها مع بعضها البعض ما يفيد بعض الأمراض والأعراض، ويفسر الشفاء منها عن طريق العقاقير بشكل أو بآخر، ولو مرحليا.

الطالب: عندك .. عندك .. كيف تحدثنى عن علاقة العقاقير بالنوم الحالم قبل أن تحدثنى عن علاقة الأمراض النفسية بالنوم الحالم؟

المعلم: يا سيدى إن الحديث عن علاقة العقاقير بالنوم الحالم هو حديث أسهل، ذلك أن الأمراض النفسية لها أطوار تختلف فيها نشاطات مستويات المخ (الأمخاخ) فى أغلب الأحوال، ونتائج دراسة النوم الحالم تختلف باختلاف الطور الذى يمر به المرض وليس فقط باختلاف التشخيص الأصلى، فإذا حدثتك بأمانة عن علاقة النوم الحالم بمرضٍ ما: فلابد أن نشير إلى أى طور فى هذا المرض، فى أى نوع من المرضى أمكن دراسة هذا النوع من النوم، وبأى طريقة سمحت لهؤلاء المرضى بالذات بالدارسة، فستجد أننا لابد أن نتواضع تماما ونحن نأخذ بنتائج هذه الأبحاث والمعلومات، ولابد أن تتوقع أنى سأنتقى من بينها بشكل أو بآخر ما يؤيد ما ذهبتَ إليه من أن النوم الحالم هو صمام الأمن ضد الذهان أو الجنون وأن العقاقير تعمل بطريقة أو بأخرى من خلال تنشيط أو تثبيط هذا النوم الحالم مع الحذر الشديد قبل التعميم، وإليك مثلا هذه المعلومة: فقد تـَمَّ رصد زيادة فى كم النوم الحالم أثناء ساعات اليقظة فى حالات الفصام.

الطالب: نوم حالم أثناء اليقظة؟! ما هذا التناقض يا عمنا؟ وكيف علموا ذلك.

المعلم: بدراسات رسام المخ الكهربائى.

الطالب: ياه!!

المعلم: معذرة.. ولكن دعنا نرجئ هذا الحديث إلى حين نتحدث عن بعض الأمراض بالتفصيل إذا تواصلت هذه السلسلة.

الطالب: كدت تـُصَوِّر لى أن دراسة النوم والأحلام هى مفتاح الصحة والمرض.

المعلم: لعلها كذلك، أعنى هذا هو الفرض الأساسى الذى أحاول الإفادة منه طول الوقت.

الطالب: فحدثنى عن بعض تأثير العقاقير مما يتعلق بفروضك، ويكافئ حماسك.

المعلم: أرجوك أن تقبل اعتذارى إذ يكفى عليك فى هذه المرحلة أن تعلم أن أغلب العقاقير العلاجية تنقص من كم النوم الحالم، وخاصة مضادات الاكتئاب بأنواعها، وأن هذا الإنقاص يتبعه زيادة تعويضية Rebound ولم يستقر الباحثون على إرجاع التحسن الأكيد فى حالات الاكتئاب إلى النقص ذاته أم إلى الزيادة البعدية.

الطالب: مرة  أخرى تطل الحيرة برأسها.

المعلم: دعنى أذكرك أننى مؤخراً بعد التمادى فى فروض الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى وربط ذلك بحقيقة أن المخ يعيد بناء نفسه، اعتبر أن النوم بالذات هو نوع من إعادة تشغيل المخ فسيولوجيا حتى يواصل بناء نفسه([12]).

الطالب: الله الله ولكن أليس الأفضل أن أتعرف على ماهية الوعى مادمت قد جرجرتنى إلى ما يسمى وعى النوم، ووعى الحلم، وكل هذا الكلام.

المعلم: ياليت ولكننى أنبهك من البداية أننى قد عجزت شخصيا عن التعرف الكافى على “ماهية الوعى”.

الطالب: لعلك تعرف أننى أصبحت أحترم حيرتك وتواضعك أكثر فأكثر.

المعلم: أكثر الله خيرك: دعنا نرى.

[1] – هذا الفصل يحوى إضافات لاحقة من فروضى الأحدث، وكثير منها لم يرد فى الطبعة الأولى!

[2] – يمكن الرجوع لبعض التفاصيل بهذا الشأن فى كتابى: دراسة فى علم السيكوباثولوجى صفحات 237، 269، 271، 238، 273، 355، 356، 637، 639، 640، 702، 703، 704، 740. ، وأيضا فى كل ما كتبت عن الأحلام لاحقا أنظر الرخاوى “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” مجلة فصول- المجلد الخامس. العدد (2) سنة 1985 ص (67 –91). وكتابى “عن طبيعة الحلم والإبداع دراسة نقدية فى: “أحلام فترة النقاهة” نجيب محفوظ ، دار الشروق، 2011

[3] – أ.د. أحمد مستجير عالم وشاعر ومبدع وزعيم المترجمين العلميين المعاصرين،  كان عميداً لكلية الزراعة من سنة 1986 إلى سنة 1995، ثم أستاذا متفرغا، كما أنه عضو في 12 هيئة وجمعية علمية وثقافية، منها: مجمع الخالدين، ومجمع اللغة العربية بالقاهرة، حصل على العديد من الجوائز، منها وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى وجائزتَـيْ الدولة التشجيعية والتقديرية.

[4] – يمكن الرجوع إلى تفاصيل هذه الفكرة فى كتابى دراسة فى علم السيكوباثولوجى وخاصة صفحات 135، 136، 156، 200، 215، 246، 639، 641، 702.

[5] – نشرة الإنسان والتطور، الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى  (147)مبادىء ومنطلقات وخطوات التطبيق، بتاريخ: 15-1-2017 www.rahkawy.net

[6] – سوف نتحدث هن المخ الأيسر دائما باعتباره الطاغى فى الشخص الأيمن والعكس صحيح بالنسبة للشخص الأعسر ولن نشير إلى التنبيه على ذلك ثانية فى السياق القادم حتى نهاية الفصل.

[7] – يقول ماك كولوش Mc Culloch وجارول Garol منذ سنة 1941 أن الجسم المندمل يحوى من الألياف ما يساوى ويزيد عن مجموع الألياف الهابطة والصاعدة فى أحد النصفين الكرويين، ومع ذلك فالمعرفة عن حقيقة وظيفته ضعيفة للغاية.

وقد وافق جليس Glees ما استنتجه كل من ميرزوسبرى Myers & Sperry من أن الجسم المندمل هو الوسيلة التى يستطيع بها النصفان الكرويان أن يشاركا فى العمل معاً بحيث يستفيد أحدهما من خبر الآخر.

وقد كتب ف . بريمر .F. Bremer “لقد تبين الآن أن وظيفة الجسم المندمل تصاحب أعلى وأكثر النشاطات تعقيدا فى المخ”.

[8] – 1- يقول دستويفسكى ” إن الضيق الذى ينبع من الطبيعة المزدوجة للانسان يترك آثاره على كل أعماله”.

2- يقترح أندريه جيد أن هناك صراع بين ما هو معقول وما هو غير معقول وأنه يوجد نوعان من التفكير.

3-  فرق وليم جيمس William James  بين نوعين من التميز وهما التمييز التفريقى الدقيق (التحليلى) والتمييز الوجودى أو الكيانى (الكلى).

4- أن مدرسة بافلوف واتباعه قد أشارت إلى ما سمى الجهاز الإشارى الأول First signal system وهو أقرب ما يكون إلى التفكير الكلى والجهاز الإشارى الثانى Second signal system وهو أقرب ما يكون إلى النوع المنطقى المسلسل الثانى.

5- إن العمليات الأولية التى وصفها فرويد أقرب إلى النوع الأول والعمليات الثانوية اقرب إلى النوع الثانى بما يتبع ذلك من يخصص النصفين.

6- عبر برونار Brunar عن هذه القضية بقوله ” إن “منطق” العلم و” ولامنطق” الفن يتحدثان بلغتين مختلفين تماما ولكن يبدو أن كلا منهما يكمل الآخر.

7- يقول روش، وكيس Rusch & Kees ويعتمد الكاتب اساسا أن يقلب الصور غير اللفظية إلى صور لفظية.

8- يقول ستيفن سبندر Stephen Spender “إن سحاب الفكرة التى أشعر بها تتكثف إلى رذاذ الألفاظ”.

9- يقول أينشتاين Eineestien إجابة على سؤال جاك هادمار Jacques Hadamard وهو يحاول وصف خطوات إبداعه الفنى: ” … يبدو أن المكونات الفيزيائية (العضوية) تعمل كمقومات أولية فى التفكير، وما هى إلا علامات وصور فى ارتباطات اشبه باللعب تقريبا، وفى حالتى فإن هذه المقومات الأولية هى مرئيات أوبعض النوعيات العضلية، وفى المرحلة الثانية يأتى البحث عن الكلمات والعلاقات حين يكون للعب الأولى قد استوفى حقه جاهزا للاخراج بالإرادة.

[9] -‏ ‏ويسمي‏ ‏أحيانا‏ ‏النوم‏ ‏العادي‏ ‏أو‏ ‏غير‏ ‏الحالم‏ ‏أو‏ ‘‏النوم‏ ‏دون‏ ‏حركة‏ ‏العين‏ ‏السريعة‏ NREM Non-Rapid-Eye-Movement sleep ‏ وقد‏ ‏رمزت‏ ‏له‏ ‏بالكلمة‏ ‏قد‏ ‏حس‏ ‏في‏ ‏مقابل‏ ‏الزمز‏ ‏نحعس‏ ‏الذي‏ ‏يعني‏ ‏نوم‏ ‏حركة‏ ‏العين‏ ‏السريعة‏ ‏كما‏ ‏سيلي‏.‏

[10] – ويسمى أيضا نوم الحركة العين السريعة نجعس، أو النوم الحالم، أو النوم النشط أو كما ذكرنا حسب أ.د. مستجير نوم “الريم”، أنظر هامش “56”.

[11] – أ.د. رفعت محفوظ – أستاذ الطب النفسى – جامعة المنيا.

[12]– هذه إضافة لاحقة طبعا 2018.

الفصل الحادى عشر: لمحة عن الوعى ومستوياته

الفصل الحادى عشر: لمحة عن الوعى ومستوياته

الفصل‏ ‏الحادى عشر

لمحة عن الوعى ومستوياته

الطالب: لقد كررت لى أثناء حديثنا عن النوم والأحلام وحتى الإبداع، مصطلحات مثل وعى النوم، ووعى الحلم، ووعى اليقظة.

المعلم: حصل

الطالب: وأحيانا كنت تذكر كلمة “شعور” مرادفة لما هو “وعى”

المعلم: نعم نعم، حصل أيضا، لكننى لم أتمادَ، ماذا تريد؟

الطالب: ثم تأتى الآن تربط ما هو وعى هكذا بالنوم والأحلام والإبداع وكل شىء

المعلم: عندك حق، إذن ماذا؟

الطالب: بصراحة أنا محتار أكثر، أريد الآن توضيحا: هل الوعى هو الشعور، وكيفُ تنكر اللاشعور ثم تتكلم عن وعى النوم ووعى الحلم بعيداً عن اليقظة أى عن الشعور

  المعلم: يا إبنى يا إبنى! الأمر ليس سهلا، لدرجة أنى أتصور أن السلوكيين التقليدين حين أغفلوا الحديث عن الوعى تماما، لم يفعلوا ذلك إنكارا، وإنما لعجزهم المتواضع أن يحددوا الظاهرة القابلة للدراسة تحت هذا الاسم.

الطالب: وهل نجح غير السلوكيين فى تحديد ماهية الوعى.

المعلم: لا أعتقد، وإن كانت الصعوبة لا تبرر الإنكار، وعجز اللغة المتاحة ليس كافيا لتجاهل مثل هذه الظاهرة الأصل: الشاملة المحتوية المتعددة المستويات.

الطالب: كأنى بك تتحدث عن إنكار وجود الله لمجرد أنه ” ليس كمثله شئ”.

المعلم: يا ولد!! ما كل هذا!!؟ واحدة واحدة، لا تستدرجنى إلى ما لا ينتهى.

الطالب: ما رأيك، هل نكتفى بما ذكر عن الوعى فيما يخص وعى النوم ووعى اليقظة ووعى الإبداع.

المعلم: والله فكرة، إن ملف الوعى محيط لا يمكن الإحاطة به، وأخشى أن نختزله فنشوهه.

الطالب: ربما عندك حق، ولكن ماذا لو فوجئت أن سؤالا جاء فى الامتحان عن الوعى

المعلم: لا تحمل هما فهم لن يقتربوا من هذه المنطقة أصلاً

الطالب: لماذا؟

المعلم: ربما لأمانتهم وربما .. كما تعلم

الطالب: لا أعلم شيئا

المعلم: أحسن

الطالب: أحسن ماذا؟

المعلم: أحسن ألا يقتربوا حتى نجد اللغة الى يمكن أن تسعفنا

الطالب: اللغة التى تسعفنا للإجابة فى الامتحان أم اللغة التى نفهم بها الوعى

المعلم: نحن فى ماذا أم ماذا؟ امتحان ماذا يا إبنى؟ قلت لك لا تحمل همًّا فهم لن يقتربوا من هذه المنطقة،

الطالب: هل هم يبتعدون فى انتظار أن يحذق الطلبة والأساتذة لغة الوعى مثلا

المعلم: يا إبنى ما لهم هم بهذه المنطقة

الطالب: صحيح إذا كانوا لا يسمحون لى أن أجيب بلغتى العربية التى ولدت بها فكيف يُنتظر منهم أن يقتربوا من لغة الوعى

المعلم: انت تتكلم عن لغة الوعى وكأنك تعرفها

الطالب: آه صحيح، ما هى لغة الوعى

المعلم: الوعى ليس له لغة خاصة، هو لغة فى ذاته، ثم كيف أفـَهّمـًكَ مالا يمكن فهمه بالألفاظ العاجزة، إن دراسة الشعور والوعى وتعريفه هى أقرب إلى الخبرات الفنية، والخبرات الحدسية منها إلى المنطق الحسابى والتعاريف العلمية بالألفاظ.

الطالب: والله معهم حق هؤلاء السلوكيون الذين تركوا الجمل بما حمل.

المعلم: قلت لك إن العجز لا يبرر الإنكار، ثم إن إخواننا السلوكين يقرنون هذه الظواهر بالانتباه وظاهر العقل، الأمر الذى يقصر عن استيعابها، وأرجوك لا تستدرجنى فى هذا الدليل إلا فى حدود  الأسس الأولية، وهذه الحدود تسمح لى أن أقول لك إن هذا الموضوع برمته هو موضع اهتمام فرق كثيرة، من أهمهم:

(1) من يدرس الانسان ككل.

(2) من يهتم بأرضية ظاهرة الوجود الإنسانى بقدر ما يهتم بمحتوى السلوك الجزئى.

(3) من يستعمل ذاته وسيلة لاستيعاب الخبرة: خبرته وخبرة العالم، ولا أعنى بهذا التأمل والتفكير أو ما يسمونه الاستبصار الذاتى Introspection ولكنى أعنى المعايشة الكاملة، والحدْس أحياناً، وهو ما أشرنا إليه تحت مسمى “المنهج الفينومينولوجى”

(4) من يهتم  بنوع الخبرة نفس اهتمامه بكمِّها.

الطالب: أكاد أوقن أن من الأفضل لى ألا اتمادى فى السؤال، لأنك كلما اجبتنى زدتنى حيرة وزدتَ الأمر غموضا، إذا كنت قد فهمت فقد خيل إلىّ أن تيار الوعى  مثل ماء النيل، والوظائف الأخرى مثل المراكب فوق صفحته.

المعلم: لا طبعا، هذا تشبيه قاصر. الوعى طبقات ولغة وتنظيمات ومستويات وهو يدخل ويتداخل مع سائر الوظائف وفى سائر الأحوال فى حين أن ماء النيل لا يدخل المراكب، وإلا غرقت.

الطالب:  ألا يمكن أن تعرف لى الوعى بأى تعريف مهما كان عاجزا

المعلم: بصراحة أرجو أن تعفينى من ذلك بعد كل ما ألمحت إليه، وإن أصررت فأسمح لنفسى أن أثبت لك خبرة  سجلتها بعد حوارنا هذا بثلاثين عاما وكنت قد نسيت ما كان بيننا، ولا أعرف كيف، ستصلك بعد كل هذه السنين، إذْ أين أنت الآن.

الطالب: سجلها يا سيدى لأصحابها ينوبك ثواب.

المعلم: وأنت أيضا تشاركنى فى الثواب، فأنت الذى صبرت علىّ وأتحت لى هذه الفرصة.

الطالب: إذن هيا

المعلم: بعد أن عجزتُ تماما عن توصيف الوعى فإن ما وصلنى من خبرتى المهنية، وخاصة فى العلاج الجمعى، ومع الذهانيين بالذات، هو أن أبدأ بنفى ما  ليس هو، ثم ألحق النفى بـ “لكن” .. لعل وعسى، فكتبت ما يلى:

  • الوعى ليس وظيفة مستقلة ولكنه حركية إيقاعية .
  • الوعى ليس صفة لاحقة ولكنه منظومة مشتملة .
  • الوعى ليس نشاطا متبادلا مع الوظائف الأخرى أو متصلا بها سندا أو وسادا، ولكنه حركية متداخلة فى كل الوظائف .
  • الوعى ليس واحدا ولكنه منظومات متعدده متصاعدة تمثـِّـل مراحل فى التطور، التى هى هى مراحل النمو، وهى متبادله النشاط- دورية الإيقاع- متكافلة متجادله فى حالة السواء، وعكس ذلك فى حالة المرض.
  • الوعى ليس مرادفا للروح ولكنه على علاقة وثيقة بالادراك الأعمق عامة وبالوجدان خاصة.
  • الوعى ليس هو “الشعور” الظاهر فى بؤرة الانتباه، ولكنه متعدد فاعل حتى لو كان كامنا.
  • الوعى ليس صفة ثابتة، لكنه حركة متصاعدة متوجـِّهـَة نحو “واحدية الوعى المطلق” المفتوحه النهاية .
  • الوعى ليس وجدانا متميزا ولكنه شديد الارلاتباط بما يسمى: العقل الوجدانى الاعتمالى.
  • الوعى ليس قاصرا على الوعى بالوعى، ولكنه موجود عند كل الأحياء (وغالبا فى المادة غير الحية أيضا).
  • الوعى ليس هو تعريفه فى المعاجم، ولا حتى فى كثير من الكتب العلمية ولكنه حاضر حضورا أوسع وأشمل من كل الألفاظ التى تصفه.
  • الوعى ليس دائما فى متناول التناول بالحكى أو الرموز أو الحرف، ولكنه يشكل لغة جديدة فى الإبداع عامة وفى الشعر خاصة .
  • الوعى ليس موضوعا للحوار الشخصى لكنه ممارسة متعددة المستويات والأبعاد بين الأحياء أساسا، (ومع كل شئ وفى كل شئ إلى كل شئ).
  • الوعى ليس نشاطا فسيولوجيا للمخ فحسب ولكنه نشاط حيوى (بيولوجى) وجودىّ يشمل كل الخلايا وخاصة الجسد
  • الطالب: هذا كلام صعب، ولعله أقرب إلى الشعر، ومع ذلك فقد أثارنى وأحرجنى، وأثار فىّ تساؤلات بلا حصر، ولكننى سوف أكتفى بأن أسال عن كيف يدخل الوعى فى سائر الوظائف؟

المعلم: إن دراسة هذا التداخل تجرى الآن من منطلق نموذج للكمبيوتر من خلال تطبيق فكرة عملية “فعلنة المعلومات“، وهى تلك العملية التى تنظم دخول المعلومات فى الجهاز العصبى المركزى، ويقال إن التكوين الشبكى له شأن كبير بها، وهى كعملية شاملة: مسئولة عن الوعى، وكعملية انتقائية مسئولة عن الانتباه، وكعملية تنظيمية هى مسئولة عن توازن الجهاز المخى كله وتماسكه.

الطالب: زدنى شرحاً، ربنا يخليك.

المعلم: إن هذه العملية (فعلنة المعلومات Information Processing) تمر بمراحل متلاحقة ومتبادلة على الوجه التالى:

1- التفرس والغربلةScamming & Screening ، وهذه الخطوة تعنى الانتقاء التلقائى للمعلومات الداخلة من أى مصدر إدراكى، وهى خطوة شديدة الأهمية لأنه يستحيل فى لحظة ما أن يستقبل المخ كل المعلومات المتاحة فى مجال الإدراك، وبذلك فلابد من عملية الغربلة هذه حسب الموقف والهدف والاستعداد وكل الظروف الأخرى التى تحدد نوعية اللحظة.

2- الفعلنة (أو التنغيم) Processing ، وهذه الخطوة تعنى تنظيم المعلومات الجديدة الداخلة مع المعلومات القديمة القائمة بطريقة تناسب “نغمة” الوعى الموجودة وحالته حينذاك، وبهذا تصبح هذه المعلومات ذات فاعلية جاهزة للفهم أو لتفعيل أى سلوك تال.

3- التكامل Integration بعد أن تنتاغم النغمة، بين القديم القائم، والجديد الداخل، تبدا عملية التوليف بينهما بما تطلبه الحاجة والموقف والغاية، ومن خلال هذا التكامل يصبح التنظيم المخى قادر على الضبط والفعل والاستجابة.

4- الضبط Controlling  وهذه الخطوة هى التى تسمح بخروج المعلومات (بعد تكامل المعلومات الداخلة مع المعلومات القائمة) فى شكل استجابات سلوكية، وهى التى تساهم فى ضبط التفكير الارتباطى مثلا …

الطالب: ولكن ما علاقة كل هذا بالوعى يا عمنا، أليست هذه العملية أقرب إلى ما سبق أن اسميته بالإدراك النشط.

المعلم: هذا صحيح إلى حدٍّ ما، ولكنها ليست عملية إدراك معرفى محدد بقدر ما هى عملية أكثر كلية وشمولية، كما لا يمكن – أيضا – استبعاد مثل هذه العملية من خطوات التفكير أيضاً: فهى أرضية لسائر الوظائف الارتباطية، إلا أنها فى كليتها هى أساس استمرار حالة الوعى بصفته الأساس والأصل لأى عملية أخرى، ثم إنها فى جزئيتها وحسب ارتباطها بأى وظيفة غيرها، تدخل وتشارك فيها بشكل ما.

الطالب: إذن فالوعى هو عملية تكاملية ضامّة أرضية متداخلة.

المعلم: ما هذا كله! ما هذا كله؟!

الطالب: هى جاءت “هكذا”.

المعلم: ما رأيك أن ندعها “هكذا” حتى تتبين الأمور.

الطالب: على شرط ألا تأتى فى الامتحان

المعلم: امتحان ماذا يا عم، خلـّها فى سرك.

الطالب: إذا كان الأمر كذلك وكان الوعى بكل هذا الغموض وأيضا بكل هذه الأهمية، فكيف يستفيد الطبيب أو المعالج من معرفة هذا التنظير الصعب.

المعلم: … وكأنك تعرف المأزق الذى نعيشه، إن الحديث عن الوعى يكاد يبعدنا عن التعرف عليه، علما بأن ممارسة التواصل والتكافل عن طريقه هى عملية أسبق من التواصل بالكلمات والأحضان، ولا تنسى أن كل الأحياء تتواصل مع بعضها البعض وخاصة من نفس النوع، من خلال حركية الوعى بلا لغة وبلا شرح ولا رموز

الطالب: فلماذا تـَرَاجـَعَ الإنسان عن هذه الوسيلة الأصدق والأكثر مباشرة؟

المعلم: لقد حل محل ذلك الكلام والمناقشات والنظريات والخطب

الطالب: تسخر منى؟

المعلم: بل أعنى ما أقول إن كل الأحياء التى لم تتطور حتى مرحلة اللغة اللفظية تواصلت وتتواصل فيما بينها من خلال الوعى البينشخصى ثم الوعى الجمعى ثم الوعى الجماعى إلى الوعى مع دوائر الوعى حولها فى الطبيعة الممتدة وهذا ما حفظ بقاءها فلم تنقرض

الطالب: إذن: ماذا حدث للإنسان حتى تنازل أو تراجع عن هذه الوسيلة الرائعة الصادقة للتواصل

المعلم: أكرر أنه تورط بعد ظهور اللغة بكل رموزها الطاغية المستبعـِـدَة لكل قنوات التواصل الأخرى فاستغنى عن التواصل بنبض الوعى المتعدد اللغات، فتراجعت المعرفة بالإدراك الذى ذكرتُ لك عنها أنها معرفة أشمل وأقدر من التفكير،

ثم تراجع التواصل بنبض الوجود وحلت محله الأحضان وألفاظ الحب وصفقات العلاقات،

ثم ضاقت الدوائر الجماعية، وتكلست جدران كل جماعة بالتعصب والتمييز والسيطرة والظلم وأصبحت مجاميع الناس تكاد لا تمثل نوعا واحدا من الأحياء.

الطالب: عندك عندك، هل قلبت المسألة سياسة!!؟ إنْ صح كلامك هذا فأنت تنعى النوع البشرى قبل الآوان.

المعلم: أبدا، أنا ثقتى فى الإنسان لا حدود لها، وقد تعمقت أكثر من خلال ممارستى العلاج الجمعى بالذات ثم علاج الوسط، فالتواصل فى هذين النوعين من العلاج يجرى بقدر كبير من خلال الوعى المشترك، والنشاط الجماعى، واللغة غير الرمزية.

الطالب: غير ماذا؟ تقول غير ماذا؟ وهل توجد لغة غير رمزية؟ وهل تعنى التفاهم بالإشارة

المعلم: طبعا لا، هى لغة مثل لغة الطير معا فى السماء، والسمك معا فى البحور، ألا تذكر كيف ذكرنا أن الوعى نفسه هو لغة خاصة، بدلا من أن نبحث عن “لغة الوعى”؟.

الطالب: نعم، صحيح، ربما نسيتها لأنى لم أفهمها.

المعلم: فوّت هذه لو سمحت، أعنى التواصل بكل قنوات التواصل وليس فقط بالألفاظ وما تعنيه عند الغالبية، أو فى المعاجم.

الطالب: لست فاهما.

المعلم: هذا يحتاج إلى عمل مستقل لا يقل حجمه عن حجم هذا العمل برمته، ودعنى أقول لك مثلا محددا من العلاج الجمعى.

الطالب: ياليت.

المعلم: فى العلاج الجمعى يشترط التواصل النهى عن الكلام فى الماضى، أو حتى فى المستقبل كما يجرى التركيز على “هنا والآن”، و”أنا وأنت” فيبدأ تنشيط الوعى البينشخصى بين الأفراد وبعضهم البعض بدءًا بالمعالج الرئيسى، ثم يمتد التواصل على أكثر من محور وبمشاركة الآخرين حتى ولو لم يشتركوا بالألفاظ، ونتجنب الحديث عن الأسباب ولا نستعمل الأداة “لماذا؟” ليحل محلها “إذن ماذا؟” فيتكون وسطنا وعى جمعى يجمعنا هو وعى الجماعة بدءًا بجماعة العلاج الجمعى، وتمتد الدائرة تلقائيا إلى دوائر أوسع فأوسع، إلى الوعى الجماعى فما بعده وهكذا.

الطالب: هكذا ماذا؟ وهل هناك أوسع من الوعى الجماعى.

المعلم: أرجوك لا تضطرنى إلى الخوض فيما بعد ذلك حتى نظل فى حدود العلم الشائع، ماذا وإلا…

الطالب: وهل انت راعيت ذلك أبدا، إن ما وصلنى هو مزيج من خبرتك وقراءاتك حتى كنت أنوّه إلى ذلك مراراً حتى نعود إلى ما هو مقرر علينا.

المعلم: أنا آسف، عندك حق، ولكن اسمح لى أن أعتذر عن الحديث عن الوعى المطلق فالوعى الكونى، فوعى “الغيب” إلى ما بعده.

الطالب: وماذا بعده.

المعلم: يا إبنى يا إبنى، اسأل الرضـّع حديثى الولادة أو الحس الشعبى النقى أو حتى الطيور فى السماء، وسوف تخبرك عن الغيب وما بعده

الطالب: لست فاهما

المعلم: أحسن خلـِّـنا فى المقرر

الطالب: لا يا شيخ!! كل هذا فى المقرر.

المعلم: يعنى.

الطالب: يعنى ماذا؟

المعلم: يعنى ما وصـَـلـَلك.

الخاتمة

الخاتمة

خاتمة

وبعد:

هذا كتاب كتب قديما فى ظرف خاص، ولا أعرف كيف انتشر، وكيف نفذت الطبعة الأولى، ولابد من الاعتراف بعد اضطرارى لإعاده نشره بعد هذه العقود أنه يقدم موجزا متواضعا للأبعاد الأساسية للوظائف النفسية، ذلك أننى لم أضف له ما استحدث بعد نشره من إنجازات علمية أو تطورات فى فروضى الخاصة، اللهم إلا نادراً وفى بعض الهوامش غالباً، وإنى أعتقد أن كل فائدته قد تكون فى تسجيل تاريخ مرحلة عزيزة علىّ،

كما أننى اعتبرتها فرصة للاعتراف بفضل القسم – قسم الطب النفسى قصر العينى- الذى تدربت فيه وتعلمت منه وقمت وأقوم بالتدريس فيه حتى الآن، ثم أنه بمثابة تسجيلٍ آمل معه فى توصيل طريقة أخرى لتقديم العلم لطالب العلم وتشجيعه على الحوار والنقد، والإضافة والرفض، والمشاركة، الأمر الذى كان سبباً فى منعى من تدريس هذا المقرر بهذه الطريقة (أو بأى طريقة) كما جاء فى المقدمة.

ثم إننى قد قمت بحذف بضع صفحات من الفصل الأخير عن “الحيل النفسية وعلاقتها بالوعى” وذلك نظراً لأنها مرتبطة تماماً بفكرة اللاشعور، وقد تحفظت على استعمال هذا المصطلح، ثم إنى قد تناولت أغلب هذه الحيل فى أكثر من عمل آخر، فأضيف هذا الحذف إلى حذف الفصل الأخير عن القياس النفسى.

وقد كنت أنوى أن أواصل كتابة سلسلة بنفس المنهج ولنفس الغرض وقد بدأت فعلاً بعد صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب فى كتابة “دليل الطالب الذكى فى الطب النفسى” وصدر فيما لا يزيد حجمه عن أربع محاضرات شاملة كل أبعاد ما أمكن تقديمه لمعالم هذا الفرع لطالب السنة الرابعة بكلية الطب، فى هذا الحيـّز، لكننى – مؤخرا جداً- بعد ما كتبت آلاف الصفحات فى ما أسميته “الأساس فى الطب النفسى” وصدرت إلكترونيا فى موقعى تباعاً فى نشرات “الإنسان والتطور” اليومية من 5/10/2010 إلى 16/1/2016، عدلت عن اختزال هذا الكم الهائل فى مثل هذا العمل، ثم عدلت نهائياً بعد أن توقفت عن التدريس لطلبة الطب، ليس فقط بسبب ما حدث حول هذا الكتاب كما جاء فى المقدمة أيضا، ولكن فى محاولة “ملء الوقت بما هو أحق بالوقت”.

عذراً أيها الطالب الذكى الصديق، والقارىء الذكى الصبور، ونلتقى دائماً فى رحاب المعرفة بفضل الحق تعالى.

وله الحمد.

المحتوى

العنـوان صفحة
إهـداء 3
أولاً: مقدمة الطبعة الأولى (1980) 5
ثانياً: مقدمة الطبعة الحالية الثانية (2018) 6
الفصل‏ ‏الأولتاريخ .. وشهادات 11
الفصل‏ ‏الثانى ‏تقديم وتعريف واعتبارات أساسية 57
الفصل الثالثالإدراك 93
الفصل‏ ‏الرابعالتعلم 115
الفصل‏ ‏الخامسالذاكرة والاستذكار 141
الفصل‏ ‏السادسالتفكير 157
الفصل‏ ‏السابععن الطاقة والحياة 173
الفصل‏ ‏الثامنالدوافع 185
الفصل‏ ‏التاسعالانفعال والعواطف والوجدان 201
الفصل‏ ‏العاشرعن الحلم والإبداع والنوم 225
الفصل‏ ‏ الحادى عشرلمحة عن الوعى ومستوياته 257
الخاتمة 267

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *