نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 1-12-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4474
كتاب: الطب النفسى
بين الأيديولوجيا والتطور (1) (الحلقة 12)
الفصل السادس: الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى Evolutionary Biorhythmic Psychiatry (2)
……………..
…………….
مراحل تطور الفروض التى تحدد معالم النظرية:
أولاً: غيرتُ اسم النظرية التى أقدمها من النظرية التطورية الإيقاعية إلى النظرية التطورية الإيقاعحيوية Evolutionary Biorhythmic Theory ، لأننى لاحظت أن بعض من سمع بالاسم قد استقبل كلمة إيقاع منفصلة عن الإيقاع الحيوى الذى أقصده تحديدا، وبالرغم من طول الكلمة المضغمة وغرابتها مقارنة بسهولة الكلمة الانجليزية المقابلة،Biorhythm فإنى أفضلها مرحليا حتى أجد بديلا أكثر رشاقة.
ثانياً: صححتُ ترجمة نظرية الاستعادة بالعربية من أن “الأنتوجينا تكرر الفيلوجينا” إلى أن الأنتوجينا “تلخِّص الفيولوجينيا وتكررها”، فهذا أقرب إلى معنى Recapitulation ومع ذلك فهذا مجرد عنوان، والتلخيص لا يعنى الإيجاز هنا، وإنما يعنى المرور بنفس كل الأطوار ولكن فى وقت “موجز” جدا مع احتمال استكمال مسيرة النمو أو التطور، فالعملية ليست مجرد تكرار أو تلخيص وإنما هى دورة حيوية لابد أن تختلف نقطة نهايتها عن نقطة بدايتها وإلا انغلقت الدائرة ولم تعد إيقاعا.
ثالثاً: إن هذه الدورة التى استغرقت فى حدود المعروف عنها ملايين السنين، ويوجزها نمو الإنسان فى تسعة أشهر ثم بضع عشرات من السنين، (متوسط عمر الكائن البشرى الآن)، تتكرر فى كل أزمة نمو فيما يسمى إعادة الولادة، ولعل أهم ولادات معروفة – دون أن يسميها صاحبها كذلك ، هى – كما أشرت حالا – أزمات النمو التى وصفها إريك إريكسون، فيما هو معروف باسم: أعمار الإنسان الثمانية وهذه الأزمات تستغرق أياما وأسابيع وشهوراً فى طورها النشط، وفى تقديرى من واقع خبرتى وترجمتى لبعض الخبرات التاريخية ونقدى لبعض الأساطير و”الحواديت” الشعبية أن الوحدة الزمنية المناسبة هى ستة أسابيع (أربعين يوما) ثم تكمل دورة الإيقاع ما بين الأزمة والأزمة باكتساب الخبرات ومعالجة المعلومات القابلة لإعادة التشكيل فى الأزمة التالية وهكذا، وقد اسميتُ هذه الاستعادة أو الإيجاز دورة الماكروجينى Macrogeny (3) وبالتالى يمكن القول قياسا: إن الماكروجينيا تلخص الأنتوجينيا وتكررها، وهو ما يشير إلى أن كل أزمة نمو هى إعادة ولادة، وتلخيص لكل تاريخ الفرد (والنوع أيضا).
رابعاً: إن أية دورة إيقاع حيوى مهما قصر زمنها بعد ذلك تسير على نفس النهج.
خامسا: إذا بدأنا بإيقاع النوم يمكن اعتبار كل عشرين دقيقة من نوم الريم (النوم النقيضى = نوم حركة العين السريعة (REM Sleep، متكاملة مع دورة النوم العادى هى تلخيص لكل من الفيلوجينيا والأنتوجينا والماكروجينى، وقد فضلت ألا أطلق عليها اسما خاصا مكتفيا بأن نتذكر وظيفة النوم وكيف أنه إعادة تنميط Re-patterning للمعومات، وأن كفاءته مرتبطة بنجاح هذا الإيقاع فى أداء وظائفه التنظيمية التى هى أقرب إلى الإبداع الفسيولوجى/البيولوجى الطبيعى، والتى تعتبر العملية الأساسية وراء المفهوم الأحدث فالأحدث من أن “المخ يعيد بناء نفسه“The Brain Re-builds Itself باستمرار، حتى وإن لم تتحدد أطوار دورات نبضه بوجه خاص.
سادسا: إذا كان نوم الريم يستغرق عشرين دقيقة كل تسعين دقيقة بانتظام خلال متوسط ساعات النوم الثمانى، فإن ما وصفه فرنر Werner (4) واستفاد منه سيلفانو أريتى حول إرهاصات الإبداع ، تحت اسم Microgeny (5) هو فى تقديرى دورة إيقاع حيوى شديدة القصر، يمكن أن تستغرق دقائق أو ثوانى تتم فيها نقلة نوعية مفيقة تسمح بإعلان إعادة تغيّر كيفى لا يظهر إلا فيما بعد فى ناتج دورة إيقاع الإبداع هذه، وهذه النبضات الإبداعية لا تـُرصد طبعا، وإنما تـُستنتج من نتائج تراكمها الإيجابى فى شكل ناتج إبداعى حسب نوع الرصيد من المعلومات: رموزا أو معادلات أو ألفاظ أو نظريات علمية أو أى إبداع من أى نوع كان وهو ما استعرت له مصطلح الميكروجينا.
سابعا: إنه إذا حيل بين انتظام اداء الإيقاع الحيوى الطبيعى وبين تحقيق وظيفته التشكيلية فالنمائية والتطورية لأى سبب قهرى أو اغترابى، أو انغلاقى فإن دورات الإبداع الحيوى (النبض) قد تنغلق فيتوقف النمو (الإبداع) ويتوقف التغير الكيفى فيجهض الإبداع، وينغلق النبض إلى حركة دائرية مغلقة، (وهو ما أتى ذكره تفسيرا لبعض اضطرابات الشخصية من منطلق توقف النمو) (6) .
ثامنا: إذا زادت نبضة الإيقاع الحيوى جسامة وحدة، أو انحرفت أطوارها أو أجهضت فى أحد أطوراها الباكرة إلى ما لا يمكن احتواؤه فى حركية نبضات النمو والإبداع فإن مضاعفات ذلك تظهر فى صورة إعاقة أو معاناة جسيمة وهو ما يبرر تسميتها مرضا، وقد نحتُّ لهذه النوبة المتجاوزة حدود النبض السوى لفظ السيكوباثوجينى Psychopathogeny، ليعىنى: نبضة مختلة ذات عائد سلبى، ولكنها تظل “نبضة” و”دورية”، وأعتقد ان هذا قد يفسر دورية كثير من الأمراض النفسية النوابية.
تاسعا: هكذا يمكن ترتيب توازى نبضات الإيقاع الحيوى المتصاعدة على الوجه التالى:
Ontogeny recapitulates Phylogeny
الأنتوجينيا تلخص الفيلوجينا
Microgeny recapitulates Macrogeny
الميكروجينى تلخص الماكروجينيا
أما السيكوباثوجينا Psychopathogeny (7) فهى النبضة الفاشلة أو المنحرفة أو الجسيمة، وهى، أو آثارها، تمثل الإمراضية لمعظم الأمراض النفسية الدورية أساسا (وليس فقط) كما ذكرنا.
عاشرا: كما أن دورة الإيقاع الحيوى للقلب لها أطوار بنائية متتالية من أول طور الامتلاء السريع فالامتلاء المتباطئ حتى طور الدفع الأقصى طول الوقت طول الحياة، كذلك فإن الإيقاع الحيوى للمخ (الدماغ) له دوراته لكنها ليست بالتتالى المنظم مثل دورات القلب الأقرب إلى أن تكون ديناميكية كمية.
حادى عشر: لا أحد يعرف حتى الآن كيف يعيد المخ ترتيب نفسه مع كل دورة إيقاع حيوى، لكن الأبحاث تجرى على قدم وساق، فبعد أن نضجت وتأكدت معلومة أن المخ يعيد بناء نفسه أقرب إلى المُسَلَّمَة، لم يتمكن العلم حتى الآن إلا من رصد نتائج هذا التنظيم مع كل دورة: بدءًا من دورات النوم حتى دورات الإبداع ولم أعثر – حتى الآن- على ما يربط ذلك بدورات النمو أو الامتداد إلى دورات الكون (الليل والنهار والنور والظلام ودورات الفلك).
ثانى عشر: يتوقف ترتيب الأمراض الناتجة من فشل أو انحراف أو إجهاض الإيقاع الحيوى للدماغ على ما إذا كان الناتج هو مظاهر تجاوُز حدة النبضة لحدود السواء حتى تفكيك النظام القائم مع العجز عن إعادة التنميط، أو كان الناتج هو مظاهر إعاقة أداء النبض الحيوى للوظيفة التنظيمية والإيقاعية لإعادة التشكيل المستمر.
ثالث عشر: فى آخر تطور لفكرى فى مسألة الإبداع وصلت إلى أن مراحل نبض الإيقاع الحيوى تشمل خمس أحوال (8) ولكنها لا تحدث بالترتيب كما فى حالة مراحل نبض القلب، وإنما ترتبط دوراتها المستمرة بظروف عادية، تلك الظروف التى تسمح بانطلاقها وتتبادل وتتشكل مع المراحل الأخرى حسب الفرص المتاحة إبداعا أو مرضا أو علاجا، وفى حالة المرض فإن النبض يستمر خاصة فى الأمراض الدورية لكن بنظام مختل وناتج فاشل.
إذن فنحن فى إيقاع حيوى مستمر فى الصحو والنوم، فى الصحة والمرض.
وفيما يلى موجز لبعض ما أريد التأكيد عليه:
أولاً: برغم أنها نظرية نابعة من الممارسة الكلينيكية أساسا إلى أنها تدعمت، ومنذ البداية، بأصول من الطب عامة (وخاصة الجهاز الدورى بدءًا بإيقاع نبض القلب ثم الجهاز الهضمى الأيضى (أى شاملا التثميل الغذائى)، وحتى استعارة محدودة من علم جراحة العظام، كل ذلك تحت قيادة المخ (والجسد الشامل باعتباره وعيا متـَعَـيِّـناً، (9) وقد نشرت ذلك فى المجلة المصرية للطب النفسى (10).
ثانيا: من حيث المصادر النفسية التى دعمتنى فقد كانت جماعا من مدارس متعددة من مدارس علم النفس المعاصر، وأكتفى بذكر أسماء بعضها لأننى غالبا سأعود إليها كلما لزم ذلك أولا بأول وأخص بالذكر:
أ- علم النفس التحليلى (كارل جوستاف يونج، وليس التحليل النفسى)، ثم المدرسة الإنجليزية فى التحليل النفسى، و(مدرسة العلاقة بالموضوع: ميلانى كلاين – فيربرن & جانترب).
ب- أغلب أفكار وفروض كارل يونج بعد انفصاله عن فرويد.
ج- التحليل النفسى عبر التفاعلات Transactional Analysis (إريك بيرن).
د- علم نفس الوعى (انتقاءات محدودة من هنرى إى الذى ابتدع اسماً ليميز مدرسته العضوية الديناميةOrgano-dynamisme عن التحليل النفسى الذى كان يلقبه بعلم نفس اللاوعى، بما فى ذلك بعض استلهاماته من هوجلج جاكسون Huglig Jackson (دون الرجوع إلى الأخير مباشرة).
هـ- أفكار ساندور رادو الهيراركية البيولوجية.
و- قراءاتى مؤخرا فى النيوربيولوجيا والعلم المعرفى العصبى ونبذات من العلوم الكوانتية (11)
ز- كتاب “أنواع العقول” لدانيال دينيت وقد نشرت موجزا له ونقدا محدودا (12)
ح- كتاب:”النفس ودماغها” لكارل بوبر، وجون إكلس (13)
………………….
………………….
ونكمل الأسبوع القادم
بعرضالجزء التالى من نفس العمل:
[1] – يحيى الرخاوى: “الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[2] – هذا تخطيط مبدئى بخطوط عريضة لمقدمة سبق أن أشرت إليها فى أكثر من موقع، وقد اختصرته فى هذه البادئة وأضفت إليه، بعض ما تسمح به حدود هذا العمل المقدمة كله.
[3] – بحثت عن أصل كلمة macrogeny بالإنجليزية، ولم أجد أنها تتناسب مع ما خطر لى بالعربية، ولم أجد كلمة بديلة، فخطر لى أن أتراجع ، وأن أبدا بالعربية، وأن أسمى التلخيص والاستعادة التى تحدث فى أزمات النمو الفردى اسما غريبا مثل اسم النظرية، وهو “نموّجينى” إشارة إلى أنها تعنى تكرار التطور الفردى الذى هو تكرار وتلخيص للطور الحيوى فى أزمات النمو المتتالية ، ثم تراجعت عن ذلك مكتفيا بهذا الاسم الغريب للنظرية نفسها الذى أتوقع أن يكون مجالا للتفكير ضمن احتمالات الرفض، وقررت أن استمر فى استعمال الكلمة المعربة “ماكروجينى” للغرض الذى حددته أنا وليس تناسبا مع الأصل الإنجليزى، ثم حين يأتى طور الترجمة إلى الإنجليزية!!!، ربما يقبلون أن أنحت لهم كلمة Growthegeny لتفيد ما أريد !!! عذرا.
[4] – فرنر Werner هو الذى أبتدع استعمال هذا اللفظ microgeny واستعاره سيلفانو أريتى فى كتابه الذات داخل النفس Intra-psychic self
[5] – على عكس كلمة ماكروجينى، وجدت أصلا مناسبا فى الإنجليزية لهذه الكلمة: “ميكروجينى”
Microgeny is used as an umbrella term to describe the symptoms which lead up to a specific behaviour or mental process. MICROGENY: “The steps which are the precursor to a behaviour reaction.
[6] – يحيى الرخاوى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”، 1979 جمعية الطب النفسى التطورى
– تحديث: “حالات البارانويا واضطرابات الشخصية” تحت الطبع
[7] – أنظر كتابى “الأم: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” الفصل الخامس “الاكتئاب”، 1979، جمعية الطب النفسى التطورى بموقع المؤلف www.rakhawy.net
[8]- نشرة “الإنسان والتطور” بتاريخ: 14-3-2016، “تنويعات الإيقاعحيوى وحالات الوجود المتناوبة، ونشرة 15-3-2016 “علاقة الإيقاعحيوى بفرض الحالات المتناوبة” بموقع المؤلف www.rakahwy.net
[9] – Concretized consciousness
[10]- Egypt. J. Psychiatry. (1980a) 3 159-161 “Expansion of the Concept of “Medical Model” in Psychiatry”
[11] – Quantum Sciences
[12] – Daniel C. Dennet: “Kinds of Minds Towards Understanding of Consciousness” Published by Basic Books A Member of the Perseus 1996.-
والكتاب المترجم صادر عن “المكتبة الأكاديمية” ترجمة: د. مصطفى فهمى – القاهرة 2003
+ نقد الكتاب فى نشرة الإنسان والتطور اليومية: بتاريخ 2-1-2008، “أنواع العقول (وإلغاء عقول الآخرين) الطريق إلى فهم الوعى”
بموقع المؤلف www.rakhawy.net
[13] -The self and Its Brain, By Karl R. Popper and John C. Eccles, Springer International , 1977.