الرئيسية / الأعمال الأدبية / كتب أدبية / كتاب الترحال الأول: الناس والطريق

كتاب الترحال الأول: الناس والطريق

  • الأهداء والمقدمة
  • الفصل الأول: وإلا، فما جدوى السفر؟
  • الفصل الثانى: بعد ظهرِ يوم سبتٍ حزين
  • الفصل الثالث: فى ضيافة المرأة المُهرة
  • الفصل الرابع: الحافة والبحر
  • الفصل الخامس: أغنى واحد فى  العالم
  • الفصل السادس: لا بد من باريس، وإن طال السفر

تَـرحالات

يحيى الرخاوى

الترحال الأول: الناس والطريق

الترحال الثانى: الموت والحنين

الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال

لماذا الأعمال المتكاملة؟

عجزتْ أداة واحدة أن تستوعب “القول الثقيل ” الذى ألقى علىّ. حملتُهُ. من خلال الجدل الحى بين ذاتى ومرضاى ودنياىَ، فلجأتُ إلى كل ما أتيح لى من أنغام وأشكال.

لم أكتب إلا مسودات، لذلك كنت  أنوى أن يكون العنوان”الأعمال الناقصة” وخاصة أن ترجمة  Collected Works أو  Collected Papers هى “مجموعة أعمال” أو “مجموعة أوراق” فلان، الأمر الذى لا  ينبغى أن يسمى كذلك أو ينشر بهذا الاسم، إلا بعد أن يكف صاحبها عن العطاء، أو عن الحياة.

ثم قبل ذلك وبعد ذلك: هل يكتمل شئ أبدا؟

وحين آن أوان الحسم، قررت أن تخرج كل المحاولات كما وصلتْ إليه، ولتكتمل بعدُ أو تتكامل مع غيرها. فكان هذا العنوان “الأعمال المتكاملة”  أملا فى أن يكون  جمّاع المحاولة هو “توجُّهٌ ضام،  حولَ محورٍ ما”.

يحيى الرخاوى

*(رَحَل) عن المكان ـ رحلاً ، ورحِيلاً، وتَرْحالا،  ورِحلةً: سار ومضى.

وفى الحديث: “لتكُـفَّنَّ عن شتمه أو لأَرْحَلَنّك بسيفى“.

(رَحّلـَةُ): جعله يرحل.

وفى الحديث: “عند اقتراب الساعة تخرج نارٌ من قمـر عـَدنَ تُرحِّل الناس“.

(ارْتـَحـَلَ): رَحَلَ. وارتحل البعيرَ: جعل عليه الرَّحـْلَ. و ـ ركبه.

و ـ وارتحل فلانٌ فلاناً: علا ظهره .

وفى الحديث “أن النبى (ص) سجد فركبه الحـَسـَنُ فأبطأ فى سجوده، فلما فرغ سئل عنه فقال:   إن ابنى ارتحلنى فكرهت أن أعْجِلَه“.

(الراحلة): من الإبل: الصالح للأسفار والأحمال.

وفى الحديث : “تجدون الناس بعدى كإبل مائةٍ ليس فيها راحلة“.

… ويقال: مشت رواحله: شابَ وضعُف.

(الرُّحـْلة): ما يرتحل إليه، يقال: الكعبة رُحْلة المسلمين، وأنتم رُحْلتى.

(الرَّحـُول): كثير الارتحال.

(الرَّحـِيل): الارتحال. و الرحيل القوىٌّ على الارتحال والسير.

(الَمرْحـَلـَة): المسافة يقطعها السائر…. بين المنزلين.

(المعجم الوسيط)

“…، رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت ،

الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” .

(قرآن كريم)

وفى الاستعمال المصرى:

  “آصبر على جارك السوّ يا يرحل يا تجيله مصيبة تاخده“.

والترحيلة: هى تشغيل مجموعة من الفلاحين بعيدا عن بلدتهم الأصلية

           بأجور زهيدة، وبلا مأوى مستقل فى العادة.

وعمال التراحيل: فئة من الفلاحين اعتادوا العمل أساسا فى الترحيلة.

و ” الحاجة اترحّلت من مكانها”، أى انتقلت إلى موضع آخر، حسن أو سىء.

******

إهـــداء الترحالات الثلاثة

إلى رفاق الرحلة الأم

الناس (كل الناس) على الطريق (إليه).

 مقدمة

يقع هذا العمل ما بين السيرة الذاتية و أدب الرحلات، وكنت أتصوّر أننى سوف أنجح أن أصنّفه إلى أى ٍّ منهما. ولم أنجح.

التَّرحال الأول نشر مسلسلا؛ أشبه بأدب الرحلات، إلا أنه غلبت عليه تداعيات تتجول بين الداخل والخارج. كانت رحلة  مع رفقاء تتراوح أعمارهم بين سنى حينذاك (51 سنة)، وبين الثامنة. ثلاثة منهم أولادى من دمى: مُنى ومى ومصطفى، واثنتان، بنتىّ عاطفيا وأدبياً: مايسة ومنى السعيد الرازقى، وطفلان بمثابة حفيدىّ،  هما ـ أيضا ـ كذلك: بالعشرة والجيرة والصداقة معا:علِى عماد غز وأحمد رفعت محفوظ. ثم زوجتى الصديقة الصبور، فوزية داود.

طوّفنا معاً أوروبا بحافلة خاصة، وخيمة، وقد نشر أغلب هذا العمل فى صورته الأولى على حلقات فى مجلة “الإنسان والتطور”، باسم “الناس والطريق”، وكنت قد عزمت أن أضيف”.. وأنا (الناس والطريق…..وأنا) للعنوان .حين تبينت كم هو أقرب إلى السيرة الذاتية، لكنى اكتشفت بعد نشر هذا التَّرحال الأول مستقلا استحالة كتابة ما هو سيرة ذاتية أصلا.

ولأن العمل تغلب عليه طلاقة الحكى وفرط الاستطراد، فقد فضلت أن أعيد تنظيمه  بشكل أتصور أنه قد يعين القارئ على التحرك داخله. مع أنى  غير مقتنع بذلك.

هذا، وقد عدلت  مؤخرا عن نشر الترحالات الثلاثة فى مجلد واحد، حتى لا أفرض نفسى على من لم يستسغ بعضى، فكانت هذه الكتب الثلاثة لمن شاء أن يكتفى بأى منها، على أن أجمعها لاحقا لمن شاء أن يحتفظ بها معا.

وفى حين يغلب على التَّرحال الأول تداعيات ابن سبيل مع الناس على الطريق، فإن التَّرحال الثانى يغلب عليه الاتجاه العكسى من الداخل إلى الخارج (وبالعكس) وأيضا من القبر إلى الرحم (وبالعكس). ومن ثَمّ كان الاسم “الموت والحنين”،

أما التَّرحال الثالث  فهو اكتشاف لاحق لملامح من ذاتى كُتبت دون قصد ِكشِفِ ما كَشَفَتْ، فبدت لى أكثرمصداقية وأشجع بوْحا، فكان ما أسميتُه “ذكر ما لاينقال”.

أعتقد أن اسم “أدب المكاشفة” أقرب إلى هذا العمل من “أدب الرحلات” أو “السيرة الذاتية” أو حتى “أدب الاعتراف”.

التَّرحال الأول

إهـــداء الترحال الأول

إلى رفـاق الرحلة الأولى

فوزية داود، مايسة السعيد، منى يحيى، مى يحيى،  منى السعيد،

مصطفى يحيى، أحمد رفعت، على عماد،  يحيى الرخاوى.

عام (1984)

الفصل الأول

وإلا، فما جدوى السفر؟

“… وأخرُج بين الحين والحين إلى سطح السفينة، لأجد البحر، أصل كل شىء، وقد احتوانى من كل جانب..

 أفتح  وعيى  للانهائى،  فأتلاشى بإرادة أعمق، وتتضاءل  الأفكار  والطموحات،  ويخفت الغرور، ليرفرف الشك – دون رفض – على ما فات.

 ولـِمَ  لا ؟ ؟

قبيل 21 أغسطس 1984:

لظروف خاصة، وفاء لوعد قديم، قررت أن أقوم بهذه الرحلة المحدودة (رحلة الأسابيع الأربعة)، فالتمست لها هدفين، علّهما يخفيان ـ ولو عنّى ـ الدافع الأصلى: أولهما: تجديد الوعى بمثيرات طازجة عهدتُها مع التَّرحال. وثانيهما: التعرف على أولادى أكثر، فى محاولة جديدة لكسر الوحدة.

قبل أن تبدأ الرحلة، تيقّنت من فشل الهدف الثانى؛ حيث أُجهض فى محاولات تمهيدية، وذلك حين تبيّن لى حجم المسافة التى بينى وبينهم، وأن هذا الهدف، الاقتراب الذى أنشُده، هو نوع من الحلم الخاص المتكرر، حلم يطفو على السطح فى أوقات الضعف القهرى، حين أكون أقرب إلى اهتزازى، وفى الوقت ذاته، أكثر وعيا بطبيعة نهايتى كفرد؛ فأستشعر الموت يزحف فى يقين الواثق من غلبته فى النهاية، فأعمّق وعيى به، وإذا بى أندفع نحو الآخرين بشغف أكثر، وحاجة أشد.فى هذه المرة، تصوّرت أن الفرصة متاحة للاختلاء بأولادى بعيدا عن رتابة العلاقة الفوقية من جانبى، والاعتمادية من جانبهم. إلا أننى قبل أن نبدأ أدركت ـ بلا جديد ـ أن محاولة عبور مثل هذه المسافة، بينى وبينهم، قفزاً أو قسراً، ليس وراءها إلا أوخم العواقب، فتراجعت.

لم يبق، فى ظاهر الأمر، إلا الهدف الأول. تـُـرى هل هو هدف أم نتيجة مرجوّة؟

قبل أن أستطرد، أستأذن القارئ فى الحديث عن ظروف كتابة هذا العمل: فما دعانى إلى ذلك إلا ورطة جديدة تتعلق بما وعدت به من إكمال كتابة موضوع “ماهية الوجدان”؛ لنشره فى مجلة “الإنسان والتطور. كنت قد وعدت بذلك مرارا ولم أفِ بوعدى، فتصورت أن فى هذا السفر فرصة للنظر الأعمق، والترتيب الأنسب، وذلك بفضل بعدى عن العمل اليومى (المزدحم بالروشتات، والتليفونات، والإلحاح، والعدَّ، والمشورة، والمجامـلة، والأهداف الصغيرة، الجيدة، والقبيحة). هكذا أوهِمُ نفسى أبداً: بأننى قادر على إكمال بعض كتاباتى العلمية، والأدبية المتوقفة، حين أبتعد؛ ربما لأبرر لنفسى حق الترويح والانطلاق، وربما لأن السفر فعلا يسمح بذلك، حيث يسمح بنوعية مختلفة من اليقظة القادرة على التنظيم والتسجيل. وتذكرت طه حسين وهو يكتب كتابه الضخم المهم عن أبى العلاء فى أعلى جبال الألب “شامونى”، قلت إن طه حسين قد اقترب من أبى العلاء كل هذا القرب حين فرّ به بعيدا عنا، فلمَ لا أحذو حذوه لعل الله يفتح على قلمى فينجز ما وعد؟

(واقع الحال أننى رجعت من الرحلة وأنا لم أخط حرفا عن مسألة الوجدان  هذه كما وعدت، وحتى الآن يوليو 2000. بعد عودتى، رحت أحكى لزملائى فى المجلة بعض ما مرّ بنا فى هذه الرحلة، وطبيعة إيقاعها مما حال دون وفائى بوعدى، فاقترح علىّ بعضهم – تعويضا أو عقابا – أن أكتب هذا الذى حكيته لهم فى المجلة. قلت أجرّب. فكان ما ظهر بعنوان “الناس والطريق” فى المجلة عبر سنوات، وهو ما يشغل التّرحال الأول وبعض التّرحال الثانى من هذا العمل).

حملتُ كتبىِ وناسىِ ونفسىِ وتوكلت. تفتحت مسامى. عرفت أننى فى حالة انتظار إيجابى لأمورٍ تستأهل.

علاقتى بالكتب حالة كونى مسافرا تحتاج إيضاحا خاصا. فأنا أشعر أنى بغير كتاب فى صحبتى، كالذى يمشى عاريا فى شارع مأهول بالغرباء. ودائماً آخذ معى من الكتب ما يثقل الوزن حتى يهدد المسموح به فى الطائرة، وقد تضيق بذلك زوجتى (سراً عادة)، وقد تتوقع ـ لا شعوريا فى الأغلب ـ أن يكون هذا الثقل على حساب ما تأمل فى شرائه، على الرغم من وعدها بغير ذلك. أنا لا أطمئن إلا وفى صحبتى عدد متنوع من هؤلاء الأصدقاء الكتب، ثم إن السفر هذه المرة كان بالباخرة، ومعى حافلة (أتوبيس-ميكروباص) صغيرة، فلا مشكلة وزن أو حجم شاذ، ذهابًا وعودة، ولا تنافس بين كتبى ومشترياتها. فأعددت حقيبة مستقـلة للكتب، وبها من المراجع ما يلزم. لكننى، ولأول مرّة، وجدت نفسى أفتحها عنوة ليلة السفر، بعد تيقنى من خبرتى السابقة، وطبيعة المسافة التى تنتظرنى لأقطعها قائدا الحافلة الصغيرة، أننى لن أستطيع أن أمس هذه الكتب طول الرحلة. فى حسمٍ مؤلم: تركت الحقيبة بما فيها مغـلقة، لكننى استدرتُ فمددت يدى إلى ملحمة حرافيش محفوظ، وجمعت البطاقات التى كنت قد سجّلت عليها ملاحظاتى على هذه الملحمة، وقدرت أن يمكننى  أن أرحل فى زمان هذه الملحمة حالة كونى مرتحلا فى أرض الله الواسعة، ويا حبذا لو صحبنا  جارثيا (مائة عام من العزلة)، فحملت الملحمتين معاً، وقلت لعلى واجد فيهما ما يصلح للمقارنة أو الإلهام بالتبادل.

تذكرت علاقة نجيب محفوظ بالسفر، ففهمتها أكثر؛ إذ يبدو أن أستاذنا يقنع ويثرى ” بالسفر الداخلى” المتصل، الذى نصاحبه فيه أطول وأعمق.  السفر الظاهرى قد يكشف أو لا يكشف. تذكرت له حوارا يقول فيه إنه لا يميل إلى السفر ولا يسعى إليه، ولكنه إذا فُرض عليه لظرف أو لآخر، فإنه ـ بعد رهبة البداية ـ يجد نفسه متطهراً متجدداً، أو مثل ذلك. تذكرته وفهمته أكثر فأكثر، وأنا أنظر فى نفسى  (أُنظر أيضا  الترحال الثالث إن شئت). أنا أقيم حتى أشعر أنه ليس ثَمَّ داع لأىة حركة أخرى. فكل شئ هنا فى مصر قائم جاهز متاح، بل هنا فى حجرتى على مكتبى، فلماذا شد الرحال، فإذا ما سافرت تقلّبتُّ حتى فزعت من نظرتى الساكنة ـ حالة كونى مقيما ـ لـِمَا كنت أظنّه الدنيا (داخليا ـ وخارجيا)، فالقعدة المغلقة تهددنى باحتمال التسليم إلى االاستكانة الغامضة، والأفكار الثابتة، و ضعف الحوار مع الناس والطبيعة، وكذا تلوّح لى بأوهام التفوق، وتغرقـنى فى عاديّة المشكلات، واحتمالات خبث التنافس، وأوهام أحلام التطور (الـخاصة والعامة)، كل ذلك يتبدى لى بأثر رجعى ـ متى سافرت ـ أنه كان قد أحاط حياتى بإيقاع شبه ثابت، مما يعرضنى عادة لـلبعد عن “الآخر” الحقيقى، ولاحتمال التعصب المعلن أو الخفى،

وهكذا: كلما ألقيت بنفسى ـ أو ألــقِىَ بى ـ فى الطريق، خارج النفس الغالبة، وخارج الديار، رحت أعيد النظر فى نفسى وفى الناس – لا كما رسمتُهم لنفسى ولا كما اعتدت عليهم، فأستسلم لاقتحامهم  الرائع، فأتجدد. ويتحرك الوعى إلى ما يمكن.

ليكن. وليكن من بين ما يتحرك هذا القلم بيدى.

فهل يا ترى هذا هو ما يسمى “أدب الرحلات؟

أدب الرحلات أدب حديث قديم، وصورته الحديثة آخذة فى التقدم بين صنوف الأدب، أصبح نشاطا أدبيا مستقلا. ومنذ رفاعة الطهطاوى حتى خيرى شلبى، وأوربا بالذات تحظى بنصيب وافر من انبهار واعتراض من كتبوا هذا النوع من الأدب من أدباء مصر. وفى تصورى أن كتابة الرحلة بصفتها أدباً هو من قبيل السيرة الذاتية أكثر منها نوعا من وصف المدائن والناس، وبالتالى يسرى على هذا النوع من الأدب، ما يسرى على السير الذاتية من تحفظات.

كتابة السيرة الذاتية مستحيلة أصلا، على عدة مستويات، فالشخص الذى يجرؤ على هذه المحاولة هو محكوم عليه برؤيته أولاً. ورؤيته ليست مرادفة لما “هو”، وحتى صورته التى غامر فرأى ما أمكن منها ليست دائما صالحة “للإذاعة” والنشر، فهو يُخضع هذه المحاولة لأحكام المجتمع، وقيود الفكر ومرحلة التاريخ، فضلا عن قيود النشر (فى بلادنا خاصة). هذا، لـو أنه وُهـِب الشجاعة لـقول مارأى، وأيضا لو أنه وُهـِب البصيرة لرؤية ما هو كائن فعلا، وليس مجرد تصوره عن نفسه. ومن هنا، ينبغى أن نعتبر أن أية سيرة ذاتية، ليست إلا “وجهة نظر”، بل إنها ليست إلا “وجهة النظر المسموح بإعلانها” فى حدود ما يسمح صاحبها، وما يسمح الناس، لا أكثر.

كتابة السيرة الذاتية فى بلادنا العربية ـ بشكل خاص ـ أمر غريب على طبيعتنا، وعلى عاداتنا؛ حيث لا يُظهرالكاتب ـ أى كاتب ـ من نفسه إلا مواضع الفخر والتفوق، فإذا أظهر ضعفا أو خطأ أو تشوها أو انحرافا.. فإنه إنما يفعل ذلك ليعلن بعده مباشرة أنه إنما ” عرف الشر لا للشر لكن لتوقّيه!!” (ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه!!). مصطفى محمود يعلن إلحاده حين يصل إلى بر الأمان، والإيمان. أنور السادات (يجزيه الله خيرا، ويسامحه) يكتب قصة حياة خيالية يبحث فيها عن ذاته (البحث عن الذات)، فيشط به الخيال حتى يصدقه نفسه، ويفرضه علينا. جمال عبد الناصر (يرحمه الله، ويغفر له) لا يشط إلى هذا المدى. وإن كان ما كتبه عن نفسه قليلاً وسطحىاً، فإن ما كتبوه عنه قد أرضاه حيّا (غالبا)، وآذاه ميتا، أو قدّسه “أملا أو حلما “حتى نفاه “شخصا”، ثم طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، ومصطفى أمين، حتى محمد حسنين هيكل، كل أولئك كتبوا صدقا وأمانة وخيالا وأحلاما معا، وبعضهم وثـَّق ما يقول بوثائق لا تثبت حقيقةً ، ولا تنفيها(عادة).

أديب السفر يعامَل باعتباره أديبا، لا مؤرخا، ولا رحالة مسجِّلا، فهو يكتب نفسه ابتداء، وينجح ـ مثل كل أديب ـ بقدر ما يستطيع أن يعرِّض نفسه لـلتجارب، وبقدر ماتسمح له مسام وجوده باستنشاق الآخرين، وبقدر ما تتيح له مرونة أفكاره بإعادة النظر وتفجير شرارات التغيير من خلال تصادم الاحتكاك، وبقدر ما يستطيع أن يصوغ كل ذلك بأدوات مهارته، حالة كونه مسافراً.

أما السفر الذى يسجـِّل الأحداث العابرة، ويصف عادات من يلقاهم هنا أو هناك، وكأنها العادة المتأصلة فى هذا “الشعب” أو ذاك!! فهو عادة ما يقع فى خطأ المبالغة فى التعميم، وكأن من قابله الكاتب مصادفة (فى الأغلب) هو “ممثل نموذجى” للبلد الذى زاره. عجزتُ دائماً عن فهم كيف يحكم كاتبُ رحلة على شعب بأكمله؛ لأنه التقى بنادلٍ فى مقصف صفته كذا، أو قابل صاحبة فندق شكلها كيت، أو بائع تحف، أو فتاة هوى التقى بها بضع دقائق أو بضع ساعات، ثم يجرؤ أن يقول: أما الرجل السويدى أو المرأة الفلبينية فهو كذا أو هى كيت…إلخ. كما أنى عجزت عن فهم كيف يعتبر كاتبٌ ما أن قـُطراً ما هو عاصمته، أو هو أكبر مدنه، أو هو أشهر آثاره، فى حين أن نبض الشعوب، وأصالة الفروق بين ناس وناس لا تظهر إلا كلما ابتعدنا عن المدن عامة، والعواصم خاصة. ولنا أن نتصور أن كاتباً أجنبياً قابل مواطنا مصريا من الزمالك، وآخر قابل مواطناً آخر من عزبة القصيّرين (فى غمرة) أو من منشاة الجمال مركز طامية، أو من أم قمص (جمّص) مركز مـلوى، أو كفر عليم مركز بركة السبع، فكيف يصف أى من هؤلاء من قابله باعتباره “الرجل المصرى” النموذجى، وأنه يمثل طبيعة “الشعب المصرى”،.. وهات يا كتابة، إن أغلب زوارنا العرب ـ مثلاً ـ لا يعرفون من مصر إلا حى المهندسين، وشارع الهرم، ومصر الجديدة على أحسن الفروض.

ومع علمى بكل ذلك، وبسبب علمى هذا، أقدمتُ على هذه المغامرة بالكتابة فى هذا النوع من الأدب، وأنا خائف من كل ذلك، مشفق على قارئى من أن يأخذ كلامى مأخذا لم أقصد إليه، فأنا أتصور أنى لا أكتب إلا استجابتى الشخصية المحدودة لمؤثرات جديدة، ومتلاحقة، لا أكثر ولا أقل. وما الأحكام والآراء والرؤى الواردة فى هذا العمل خاصة إلا زاوية محدودة لرؤية كاتب يحاول أن يكون يقظا فى استيعابه وتمثله لما رأى من ناس وطبيعة وأشياء، وقبل ذلك وبعد ذلك، لما رأى فى نفسه، ومن نفسه.

هذا السفر الذى أنتزع نفسى إليه، أو ترغمنى الظروف أو المصادفات عليه، هو الذى يحرك وعىى إلى حيث لا أعلم. اكتشفتُ بمحض الصدفة أنّ أكثر من نصف ما كتبته مما قد يسمّى شعراً، كتبته فى “حالة سفر”(أنظر الترحال الثالث إن شئت). استطعت أن أرجح من خلال ذلك أننى بمجرد أن أتخلص من الإغارة السرية المتسحبة المستمرة على وعيى بالمؤثرات الرتيبة الباهتة، وأيضا بالضغوط الملحّة الجاثمة، تتفجّر من داخلى الرؤى المؤجَّلة، والمهمَــَََلة، والكامنة، والعنيدة، فأعيد تنظيمها “لأقول” بالأداة التى تحضرنى.

انتبهت من كل ذلك إلى وظيفة السفر عندى، وقلت لعل ورطتى فى سفرتى هذه، تكون فرصة جديدة أتعرف من خلالها على بعض أبعادى، لا على بعض أولادى كما تصورت أولاً، وأمِلتُ -ربما كبديل – أن أسمح لبعض نفسى، مما أعرف ومما لا أعرف، أن تنساب منى، وأنا أجرب هذه الأداة الجديدة، والتى قد تسمى أدب الرحلات ستراً وتحايلاً، وإن كانت قد انتهت لتكون أقرب إلى السيرة الذاتية، أو لعلها تتراوح بين هذا وذاك، فهى ترحال بين الداخل والخارج طول الوقت، (ثم تطور الأمر لأسميها “أدب المكاشفة”، وليس حتى “أدب الاعتراف”).

أنا شديد النفور من أغلب أنواع السفر الأخرى، لا أكاد أعرف لها معنى يبررها، مهما بلغ حماس أصحابها لها. لا أفهم  أسفار المشتريات الاستهلاكية، ولا أسفار المؤتمرات العلمية (شبه العلمية). بل إننى لا أفهم أسفار السياحة بمعنى زيارة التاريخ والآثار؛ حيث يكون الهدف الأهم هو التجوال “حول الأطلال” و “داخل المتاحف”. كم من مرّة مازحتُ فيها مرافقىّ فى بعض أسفارى، ونحن نزور الأماكن “المقررة” (مثلا: عمارة الإمپاير ستيت أو تمثال الحرية) فأقول ونحن نلتقط الصور بجوار هذا المَـعـْلمِ أو ذاك: “وهكذا تم التوقيع فى سجل تشريفات “سيدنا الأثر “الفلانى” بعد دفع المعلوم فى صندوق النذور”، فلزم التنويه!!. حتى إذا سأَلـَنا سائل عند العودة عن هذه الأماكن، أو إذا ذُكِــرَتْ أسماؤها بانبهار أمامنا، شاركنا بإيماءةِ رأسٍ أو نظرة أُلفة، وبالتالى ننضم ـ ولو منتسبين أو أعضاء شرف ـ إلى فصيلة من يعرف هذه الأسماء المشهورة التى يدور حولها الأكابر والمثقفون والساسة المسافرون فى فخر وزهو فوقيّـين.

نعم، كل هذه الأسفار لا تستأهل لدىّ شد الرحال، ومع ذلك فإنه حتى لو شاركتُ فى مثلها لبضعة أيام، فإنى أمارس خبرة تفجير الداخل، وتفتح المسام، بطريقة تجعلنى أعود ـ حتى رغما عنى ـ مهزوزاً منتعشاً مفكِّراً أبحث عن بدايات جديدة، أو أعيد وزن أفكار قديمة، أو كليهما.

حين كنت فى باريس (1968/1969)، فى مهمة علمية، (هكذا يسمّونها) تعلمت من الفاقة والنشاط أنه لا يعرف المرء بلدا إلا إذا مَشاها، ما إستطاع، على قدميه، شارعا شارعا، جالسا على مقاهيها (بالذات) ما طال له الجلوس، متأملا، مشاركا فى كل حين، بقدر ما تمكّنه اللغة وتحفزه الدهشة. حتى أنى كنت- أحيانا أرحب بالتوْهِ وفقد المعالم، وأتلكأ فى إخراج الخريطة؛ مادمت أسير حيث لا أدرى، فأعيش كما لم أحسب، وألاقى من لم أتوقع، وقد كدت أصبح فى نهاية العام الذى قضيته هناك شيخ حارة باريس بالنسبة إلى زملائى فى أعضاء المهمة العلمية المزعومة، وأيضاً بالنسبة إلى بعض الأصدقاء الذين يحضرون إلى باريس عابرين. كان من بين ما يستهوينى أن أذهب من أقصى الشمال حيث أسكن فى المونمارتر، إلى أقصى الجنوب حيث أعمل فى مستشفى سانت آن، مخترقا ميدان الأوبرا، عابرا السين، ثم محاذيا له، ثم مخترقا الحى اللاتينى حتى أصل إلى محطة جلاسيير (الحى -الدوّار الـ- 13). يستغرق ذلك عادة أكثر من ساعتين أستمتع بكل دقيقة منهما. لا يمنعنى من ذلك مطر أو برد، بل يزيدانى انتعاشاً، وأعيد أثناء ذلك تأمل كل شىء، وكأنى أراه من جديد، فأشعر بالدفء والقدرة. وكانت نـشوتى تزداد فى أيام الشتاء مصحوبة بقدر مناسب من التحدى وأنا أواجه الـصقيع، أتحسس أنفى فلا أجده، وكنت أتساءل : مِن أين جاءنى هذا الحب العارم لـلشتاء والمطر والصقيع، وأنا ابن التراب والحر والعرق والتلوث المصرى الأصيل؟. أتذكر كيف كان جارثيا يفضل (أو يصر) أن يكتب رواياته أثناء تواجده فى باريس فى نفس درجة حرارة بلده القائظ، وأعجب لارتباط كتابته بما أتصوره من عرق وأنفاس ثقيلة. لكننى عكسه تماما، أسارع فأحتضن اللفحات الباردة المثيرة، وأمضى أحسد هؤلاء الناس فى جميع الأحوال، وأقول لنفسى: إن بعض الكسل الذى يثقل خطانا وتفكيرنا ـ فى بلدنا ـ قد يرجع قليلاً أو كثيراً إلى المناخ الحار المغبر الذى يخدرنا ضمن بقية المخدرات الحديثة والقديمة. لكن سرعان ما أراجع نفسى ـ دون أن يخف حقدى عليهم ـ فأقول: “.. ولو، فنحن قادرون، أو ينبغى أن نقدر، على أن نخترق أجواءنا إذا أحسنَّا تحديد الهدف، وضبط الإيقاع، ومواصلة التحدى”، وأعرف أننى أضحك على نفسى (غالباً).

أقول إنى لم أعرف باريس ـ أو غيرها ـ إلا سائرا على قدمىّ، وما سخرت ملء عقلى، إلا من هذه الجولات السياحية التى اضطررت فيما بعد إلى المشاركة فيها؛ حين كنت أزور بعض البلاد فى عجالة، تلك الجولات التى يسمونها “الرؤية السياحية العابرةsight seeing “؛ حيث تجلس فى حافلة (أتوبيس) مكيفة الهواء، ويحكى لك السائق، أو المرشد، أسماء الأماكن والشوارع، والمعارك، والقُوَّاد.

تيقنت من موقفى هذا، أثناء إحدى الجولات حول مدينة بوسطن، فى صيف العام الماضى، حيث شعرت أنى أشاهد فيلما تسجيليا رديئا لا أكثر، لولا أن أنقذنا السائق بوقفةٍ فى “ركن الشاى”. فى سفينة تاريخية تؤرِّخ لبدء تحرير الولايات المتحدة من الشمال، بإعلان الثورة على زيادة الضرائب على الشاى، من قِبَل الحكومة البريطانية المستعمِرة. الشعور نفسه راودنى بدرجة أقل فى سان فرنسيسكو، لولا تنوع الطبيعة، وخفة ظل المرشد، وركن الشاى اليابانى (مع الفارق بين ركن شاى وركن شاى!!(.

خرجت دائما من المقارنة بين الجولة على الأقدام ضائعا داخل المدينة، والجولة داخل حافلة سائحين مع مرشد، أنه: لا سبيل إلى معرفة الناس من وراء زجاج داخل حافلة سياحية مكيفة الهواء، وأنه لا سبيل إلى مغامرة معرفة النفس ـ بالسفر ـ وأنت تتلقى معلومات جاهزة، وفكاهات مكررة، من مرشد موظف. لذلك فإنى رجّحت، أن الإيقاع البطئ فى السفر هو أساسٌ لا غنى عنه لمن يريد أن يعرف الأمكنة والناس، من خلال انصهاره بها: تمشى وتسأل. تمشى وتتوه. تمشى وتتعب، فتجلس فى المقهى الأقرب أو البستان الأجمل أو محطة المترو الأدفأ أو الأبرد. تمر ببائع الزهور والصحف والفاكهة واللحوم والدجاج المشوى و “الآيس كريم”، وألعاب الحظ، فلا يفوتك تعبير الوجه ومساومات الشراء، وإغراءات الجذب الصغيرة، وطباع الناس البسطاء. يدخل كل ذلك إليك عبر أرضية وعيك، حتى لو وجَّهوا بؤرة انتباهك إلى شئ آخر، أكثر تفاهة ـ فى العادة ـ رغم ظاهر أهميته – التاريخية مثلا.

هذا بالنسبة إلى داخل المدينة. أما بالنسبة إلى التنقل بين البلاد وبعضها، فما أعظم الطائرات وأسخفها. هذه الثورة التى جعلت العالم قرية صغيرة، هى هى التى حرمت المسافر (ابن السبيل) من الاستيعاب البطئ للنقلة الجغرافية / الحضارية / الثقافية، التى هى ثروته الحقيقية وحصيلته الباقية من أى سفر. إن هذه الحركة بالسرعة البطيئة هى المسئولة عن نقلات الوعى وتقلب المشاعر، ومن ثَم تجَدُّد الأفكار واتساع الأفق، أما أن تضع نفسك فى طائرة حديثة، ثم تجدك بعد ساعات تقل أو تكثر، فى بلد غير البلد، مع تشابه الخدمة والمطارات والإجراءات  وفنادق “العواصم”، فهذا ليس سفرا.

أتذكر أول قصّة قرأتها: وكنت لم أبلغ العاشرة، وجدتها فى مكتبة والدى باسم “الشيخ الصالح”. لا أذكر مؤلفها، ولا تفاصيلها الآن. أذكر أن الغلاف الخارجى والورقة الأولى لم يكونا هناك (عكس ما وجدتُ عليه ثانى رواية وقعت فى يدى: كان اسمها  “أزميرالدا” (فى الأغلب). كانت رواية الشيخ الصالح هذه تدور حول رجل “شيخ” ظاهر التقوى، ينتقل من بلد إلى بلد على بغلة، ويجرى وراءه طول الرواية “عبدٌ”حافى القدمين، ونكـتشف ـ فى النهاية ـ أن هذا الشيخ ليس سوى قاطع طريق. حضرتنى هذه الصورة بوضوح شديد، حتى أننى تذكرت أنى حين تقمّصتُ بعض شخوص الرواية، لم أتقمص إلا ذلك العبد دائم العدو وراء سيّده!!. وكم أحسست بحبات كالعرق يتفصد بها جبينى وأنا فى حالة التقمص هذه، وأنا لا أكف عن الجرى وراء سيدى “الشيخ النصاب” لحراسته، وخدمته، دون شكوى أو تعب. أما رواية “أزميرالدا” فلم يبق فى ذاكرتى منها إلا صورة بطلها وهو يقطع حجرة التدخين ذهابا وجيئة مئات المرّات. الحجرة تقع فى جانب بعيد من حديقة قصرٍ ما، وهذاالذى تبقَّى لا علاقة له بالتدخين، وإنما بخطى هذا الشخص ذهابا وإيابا طول الوقت. لماذا “ذهابا وإيابا”،”ذهابا وإيابا” بالذات؟ لا أعرف. (سوف أعرف).

ثم يقفز فكرى إلى تداع آخر، فأفهم لماذا كان “ابن السبيل” (فى فقه الإسلام وآدابه) أهلا لـلصدقة والزكاة والبر، مهما كان موسِرا فى الأصل، قادرا فى موطنه وبين أهله.

تذكرت ما كنت أسمعه عن جدى لأبى وهو يرسل رجاله إلى  كل الطرق المارة ببلدتنا، أو حولها، يدعون المسافرين، أبناء السبيل، (وخاصة بعد عصر أيام رمضان) إلى النزول ضيوفا للإفطار والنوم، ولايجوز البدء فى الأكل (خاصّة ما نابهم ـ “منابهم”ـ من نصيب فى اللحم) إلا بعد عودة هؤلاء المندوبين بالضيوف أو بدونهم، فيطمئن جدى وصحبه إلى أن أحدًا لم يعبر منطقتهم وهو جائع، أو مُجهد، أو بلا مأوى. ثم يأكلون: “منابهم”.

فهمتُ كل ذلك من جديد، وعرفت كم كان السفر قاسيا ومرعبا قديما، ولكنى ما رضيت أبداً عن أن نستبدل به ـ تماما ـ كل هذه الرفاهية بهذه التكنولوجيا الفائقة من طيران وتكييف؛ لأن ثمن ذلك هو أن ننسى الطريق أصلا، الطريق خارجنا، الموازى والمؤدى إلى طرق الداخل المتعـِـبة، والرائعة، والمتشعّبة. (ربما لهذا ابتدعوا مؤخرا ما يسمّى مغامرات “سفارى”. من يقدر عليها؟).

جاء قدرى الجميل هذه المرة، أن تكون رحلتى هذه بالباخرة، والسيارة، مع صحبتى هذه من الأصدقاء والصديقات فى هذه الأعمار المتباعدة المحرِّكـة، فاستبشرتُ خيرا، وانتظرت الجديد.

أثناء وجودى فى فرنسا أيضا ذلك العام،  قمت برحلات قصيرة كل نهاية أسبوع، وصلت إلى أسبوعين أحيانا، كان، بعضها بالسيارة الصغيرة مع الإقامة فى الفنادق الشديدة التواضع (نجمة واحدة، أو أقل إن وجد ما هو أقل) أو التخييم فى المخيمات المعدة لذلك، هذا فضلاً عن الرحلات الجماعية بالحافلات الكبيرة مع زملاء المنح من العالم الثالث (ضيوف فرنسا آنذاك 1968).

كل ذلك علّمنى ما هو سفر.

إذا كان المشى هو السبيل الأمثل لمعرفة داخل المدن، فإنه لا بديل عن السيارة للتعرف على الطبيعة والحوار معها فيما هو بين المدن وبعضها، وبين القرى وحولها، ثم إنه لا سفر دون إطلاق عنان التداعى الطليق لزيارة داخل النفس المهجور أو المنسى، يتم هذا أو ذاك بعيدا عن العواصم والحوانيت العملاقة (السوبرماركت، والمُولاَتْ!!) التى تلتهم الوقت والوعى والنقود والانتباه جميعاً، وأيضاً بعيداً عن وصاية المؤسسات الفكرية، والعقائدية، وعن غلبة الذاكرة الحاضرة المسطّحة.

فإذا كنتَ أنت قائدا لـلسيارة الساعات الطوال، وجدت نفسك فى حالة من الانتباه تفرض على بصرك ووعيك ووجودك ـ فى نهاية الأمرـ تفاصيل مناظر الطبيعة المتلاحقة، بما فى ذلك سباق الناس على الطريق، وأنواع حمولاتهم، وحوارهم بالأضواء والإشارات، وأماكن انتظارهم، ثم دورات الراحة فى الموتيلات والمطاعم والمعسكرات. كل ذلك يعيد إليك، أو يعرّفكَ بمعنى “ابن السبيل”، وإن اختلفت الوسائل واللغات. فإذا سمحتَ، أو حتى إذا لم تسمح، فسوف تجد نفسك فى رحلات الداخل الموازية، حين تعود إلى طبقات ذاتك وناس عالَمك، وحوارات زمانـك، فتزورها أو ترتبها أو تتبينها من جديد، فتُفَاجأ بما لم تكن تحسب.

 21 أغسطس 1984:

إلى ميناء الاسكندرية؛ لأستقل الباخرة بحافلتى الصغيرة، ومعى زوجتى، دون بقية أفراد الرحلة من أولادى الذين سبقونا بالطائرة إلى أثينا. الإجراءات غير معقدة، على الرغم من أن بعضها لم يكن ذكيا تماما. رحت وأنا أنتظر دورى للدخول بالسيارة إلى المركب، أتعرف على زملائى من المسافرين بوسائل انتقالهم الخاصّة مثلى، فوجدتُنى لا أشبه أيا منهم فى شئ.

فثـَمَّ رجل أشقر، فى غاية الأناقة والرقة، قد تخطى وسط العمر، يصحب زوجته (أو من تقوم مقامها، من أين لى أن أعرف) كما يصحب كلبه فى عربة مجهزة للرحلات (كارافان، منهّ فيه!). عربة هى والقصر المتنقل سواء. لا. ليس هذا. لسنا هما.

وثمة عربة “جيب”(أو كالجيب)، قوية الملامح، جسيمة التواجد، واثقة من نفسها كأنها تقود راكبها، وليس هو الذى يقودها. يمتطى صهوتها فتى وفتاة بلغ من تراكم التراب المختلط بالعرق بالبقايا، على جسديهما وملا بسهما، ما يوحى بأنهما خاصما الماء والصابون طوال رحلتهما التى لاتبدو لها بداية ولا نهاية. وأكاد أحك جلدى نيابة عنهما، وأقول: ولا نحن مثل هؤلاء.

وثمة مجموعة من “الموتوسيكلات” تربو على العشرة، أصحابها بين فتيان وفتيات، كلهم فى فتوة الفرسان، وعلى من يستكثر على المرأة الفروسية أن يلبس عينىّ فى تلك اللحظة، ليدرك معى أن هاتيك الفارسات بعضلاتهن التى لم تنتقص من أنوثتهن شيئا، وبوجوههن الحاسمة الرافضة كل سلبية أو اعتمادية، هن فارسات بكل ما تعنى الكلمة. فأين نحن- مصريين ومصريات ـ من الفرسان والفارسات والفروسية والشباب؟

وأنظر فى نفسى لأجدنى شخصا يقاوم الاستسلام وهو يطرق أبواب العقد السادس من عمره، وهو يجرّب من جديد بعض ما يمكن، ببعض ما توحيه إليه أفكاره التى أتعبته بقدر ما صدّقها.

ألمحتُ فى البداية أن بعض ما ورّطنى فى هذا الآن كان وعدا قديما لأولادى، ظللت أؤجّل الوفاء به تسع سنوات، حتى خطر ببالى أن الظروف قد سمحت، وبهذه الصورة. وحين اكتمل الإمكان بدأ التنفيذ، بغض النظر عن لياقتى الحالية، وما طرأ من تغييرات بمرور السنين، أعرف هذا النوع من المآزق: أن يعيش شخص مع أفكاره؛ باعتبارها واقعا ممكنا، ما دامت تبدو مفيدة أو واضحة. فيخاصم المنطق العام أو المألوف، وهو يحسب أن منطقه واضح بسيط مباشر، أكثر بساطة من كل ما يتصورون. وأنا أعرف أن من أهم مشاكلى، أننى أصدّق نفسى، وأتصور دائما احتمال تحقيق شطحاتى على أرض الواقع، وأتذكر كيف تورط فى مثل ذلك جوزيه أركاديو الكبير فى مائة عام من العزلة، حين راح يترجم أفكاره أولاً بأول، إلى مخترعات وأدوات، حتى خلق عالما “واقعياً”من الضياع الحالم، والحقيقة الواعدة معاً. أرجع إلى نفسى وأقول: ولو.. الحمد لله. لم أصل إلى هذه المرحلة القصوى بعد، ولا حتى إلى علاقة سارتر (فى بداياته على الأقل) بـ “الكلمات”. ربنا يستر.

مازلنا فى 21 أغسطس 1984:

فى الباخرة الإيطالية، وأثناء تغيير العملات، يقف أمامى رجل أسود فى منتصف العمر، يتكلم الإنجليزية بلكنة أمريكية، ويمسك بيده رزمة كبيرة من الأوراق الماليّة المصرية يحاول تغييرها، فيحاول المسئول فى الباخرة، أن يُفهمه استحالة التعامل بالنقد المصرى خارج مصر(لاحظ التاريخ 1984) وأفهم من الحوار أن ثمة تعليمات غير واضحة قد وصلت إلى الأمريكى، فأحاول مبادرا أن أدافع عن الاتهامات التى تبادلها مساعد الربان الإيطالى، مع الأمريكى السائح الأسود، بأن هذه سرقة وابتزاز و.. و..، ويؤكد لى الأمريكى أن هذا مافهمه حين استبدل نقوده من أحد البنوك الرسمية، عند وصوله فى أول الأمر، فهم أنه يستطيع استبدال ما يتبقى معه من نقود مصرية عند مغادرته، مادام قد استبدلها بطريقة رسمية. ولعل هذا صحيح ـ لست أدرى ـ ولعل غموض التعليمات هى التى أوحت له أن ذلك ممكن فى الباخرة، أو فى أى بلد بعد مغادرته. ولعل عذراً ما معه، لكن ما أوقفنى وأثارنى ـ منذ البداية ـ هو هذا الاندفاع إلى اتهامنا بكل هذه التهم، والتصديق عليها من أمريكى وإيطالى معا. وتصاعد الغيظ حتى التدخل، ضد كل ما أوصيت نفسى به، وما نبّهتنى زوجتى إليه، وهو أن” أكون فى حالى”، وألا أحاول تعديل أخلاق الخواجات كما اعتدت أن أمارس ذلك مع أبناء بلدى، ولم تُذكّرنى كيف فشلتُ فى تعديل أخلاق المصريين، ناهيك عن أخلاقى أو أخلاق أولادنا، أوصتْنى زوجتى بكل ذلك دون أن تقوله، فكم قالته، بلا طائل. بدليل أننى تطوعت مقتحما وأنا أقول للأمريكى أن ثَـمَّ وقتا للعودة إلى البنك فى الميناء، ومحاولة استيضاح ما غمُض عليه، فيذهب، وقد تعجبت لمبادرته بسماع النصيحة. لكنه سرعان ما يعود ماطا شفتيه، فأرجح أنه استفسر من سلطة قريبة، فأسأله بإلحاح مشفق حذر عمّا حدث، فيقول: لا فائدة، لقد “أكلتـُها”. وتتم القصّة فصولا، بأن يبدل له مساعد القبطان (الإيطالى) قيمة ما يحمل من نقود مصرية، بأقل من قيمتها الرسمية بلا أوراق ولا يحزنون (تذكّر مرة أخرى أننا سنة 1984). وهكذا ينقلب الناصح الأمين تاجرا منتهزا، عينى عينك، وأقول لنفسى: لا لوم عليه وحده، وإنما اللوم علينا أيضا وقبلا. قليل من الوضوح والتعليمات المكتوبة منذ البداية ـ يحفظ السمعة. تلعب المصادفة دورها: إذ تجمعنى بهذا الأمريكى الأسود على مائدة العشاء، فى السفينة، فأحاول ـ من جديد ـ أن أوضح له الأمر، ولكنه ـ فى ثقة و غباء الأمريكى المتفوق!! ـ يؤكد أن هذه ليست إلا وسيلة “رسمية” للحصول على أكبر قدر من العملة الصعبة، وأنه ـ فور وصوله ـ سوف يبلغ سفارتنا ووزارة خارجيته بما حدث… وأنه… وأنه… وأرفضه بالقدر ذاته الذى ألوم فيه المسئولين عندنا عن احتمال عدم الوضوح.

كانت تلك هى مقدّمة حوارى مع هذا الأمريكى ـ بهذه المواصفات ـ أثناء العشاء، حوارنا فى السياسة والحياة. رحت أرسمه، وأنا أحاول طول الوقت أن أذكّر نفسى بالتحذير المبدئى القائل: إن هذا الرجل الأمريكى ـ ليس بالضرورة الممثل الرسمى لمن هو أمريكى. هو ليس أمريكا.

هو رجل شديد الثقة بما يقول، وخاصة إذا تحدث مع من يتصوره دونه (ويبدو أنه يعتقد أن كل من بالسفينة هم كذلك). هو يتكلم وكأنه يُفتى. يصدر أحكاما نهائية من منصّة علوية معصوبة العينين، وقد وجدتُنى رافضا لهذه الأحكام والفتاوى فى الكبيرة والصغيرة. الحرية ـ كما أتصورها ـ هى مقرونة بالتواضع والحيرة المسئولة، فاستدرجتُه ليحدثنى عن نفسه وبلده بعد أن حكيت له عن زيارتى الأخيرة لبوسطن ونيويورك وواشنطن، وسان فرانسيسكو، ولوس أنجلوس، فنبهنى أن هذا خطأ من يزور الولايات المتحدة، فمن لم يزر ولاية واشنطن state فى أقصى الشمال (لا مدينة واشنطن العاصمة D.C.)، ومن لم يزر فلوريدا فى أقصى الجنوب، فهو لم يعرف الولايات المتحدة. ولعله صادق، ولكنى بعد قليل تبينت أنه من فلوريدا، وكان يعمل ويقيم فى ولاية واشنطن تلك، ورجّحت أن كل فرد من ولايةٍ “ما”، يعتبِـرُ نفسه وولايته هما الممثل الشرعى لهذه القارة غير المتجانسة. وأمتلئ غيظا من هذا التوحد الاحتكارى الغبى.

ويذكرنى هذا بغيظى طفلا من واحدة لا أعرفها، لكننى أعرف أن اسمها “هانم”، أصرّ شاعر مولد الشيخ الرخاوى (هو عم لى، غير شقيق، كان عالما أزهريا، لكن ابنه قلبه بعد وفاته شيخا له مقام ومولد على طريقة متفرعة من الطريقة النقشبندية الجوديـّة) أصر هذا شاعر المولد هذا أن “هانم” هذه هى الممثلة الشرعية المعترف بها لما هو “امرأة”، وبالتالى فإن من ليس معه مال يمكـّنه أن يتفرج على هانم سوف يموت “قتيل المحبة، والسبب هانم”. كان يغنى:

“قلبى عشق بنت بيضا واسمها هانـم،

دقّه على صدرها محمل بـِسـَالاَلِمْ

واللى معاه مال ييجى يتفرّج على هانم.

واللى بلا مال، يموت قتيل المحـبّة،

والسبب هانم”

ولما كان مصروفى آنذاك ـ حتى أثناء المولد ـ لا يكفى لأتفرج على هانم هذه، فقد كنت أحقد على الشاعر وعلى هانم حقداً بلا حدود؛ لأننى كنت على يقين أنى سأموت ـ قتيل المحبة ـ دون أن ألمس امرأة؛ مادامت هانم هذه هى كل النساء. ولكننى رويدا رويدا أكتشف أن الدنيا مليئة بعنايات وزينب وست الناس وفتحية وفوقية، ثم أُلفت ومرفت ونُهى، ثم مارى وإليزابيث وديانا وصوفيا، وأتذكر كيف تحديتُ احتكارية هانم هذه وأنا أشاهد تلك اللقطة من 30 يوم فى السجن، التى تفتح لمن مثلى كل الأبواب وهى تؤكد أن كل النساء حلوات، وأن لكل واحدة مذاقها الخاص، “يا خى يوه يوه يوه”،،. فكان الريحانى – ومن بعده عادل خيرى- فاتحها على مصراعيها، خيارة، تفاحة، برتقالة، يا خِى يوه يوه يوه. وكلما شاهدتُ هذا المشهد فى المسرحية تمنيت لو بـُعث شاعر مولد عمى الشيخ الرخاوى فى قريتنا من غيبته؛ ليشاهد هذا التطور الخطير معى حتى يخجل مما أذلنّى به صغيرا.

ثم يأتى هذا الأمريكى الفلوريدى يقول لى إن الذى لم يتفرج على موطنه الأصلى، أو على مكان عمله شخصيا لم ير أمريكا، فيغيظنى الغيظ ذاته الذى يعترينى كلما قابلت صاحب فكر أو عقيدة، وقد احتكر الجنة لأهل دينه، واحتكر الصواب لمفردات عقيدته. واحتكر الإخلاص لطين وطنه، ولكننى أهدئ نفسى حتى لا أستسلم للتمادى فى الرفض؛ وأتذكر كيف أقع فى نفس الخطأ بدورى حين تعلّ علىّّ مصريتى، فأبالغ فى عظمة وخطورة الانتماء لها، هذا الانتماء الذى يغذى غرورنا ووجداننا حتى يجعل من مصر أم الدنيا فى كل العصور؛ ربما لأن الذى بناها كان فى الأصل حلوانيا قبل أن يقول مصطفى كامل قولته الشهيرة (بحسن نية ساذجة: إننى لو لم أولد مصريا..إلخ)، ويخطر على بالى أنه إذا كان صحيحا أن “اللّى بنى مصر كان فى الأصل حلوانى”، فلا بد أن الذى بنى أمريكا كان فى الأصل “بتاع كشرى”.

ما زال هذا الأمريكى يحكى لى عن نفسه: قال إنه لم يبلغ الخمسين، وإنه متقاعد من سنوات، وإنه كان يعمل فى الجيش، وإنه أمضى خدمته فى السعودية (ولم أدر أين، ولماذا؟؟- كان ذلك قبل حرب الخليج طبعا)، وإنه الآن “يسيح” فى العالم هو وزوجته بعد أن استقل أولاده عنهما، فابنه البكر فى التاسعة والعشرين من عمره (!!!)، وبنتاه مستقلتان من سنين. وتعجّبت، فاستوضحت، متى تزوج؟. وقد كنت أحسب أنى عملتُها مبكرا مغامرا (72 سنة)، ولكنه أوضح لى كيف بدأ حياته الزوجية الكاملة وهو حول السابعة عشر. ويبدو لى أنه بدأ مبكرا لينتهى مبكرا، وكأن هدف البداية كان هو هذه النهاية، تصوّر أن يكون هدفك فى الدنيا هو “التقاعد اللذيذ”، أو حتى “التقاعد السائح اللذيذ”!! يا صلاة النبى! هدف التقاعد المبكر أصبح من معالم دورة حياة الرجل الأمريكى، حتى أننى تصورت أن شطارة الشخص هناك يمكن أن تقاس بمدى نجاحه فى التبكير بالتقاعد. ثم ماذا؟. لست أدرى. هذا الأمريكى الأسود قال لى إنه يمضى بقية حياته فى السياحة، وآخرٌ يقضيها فى التأمل فى كوخ بالجبل، وثالثٌ خلف سنارة صيد فى منتجع منعزل هادئ على شاطئ مجهول، وحسدتُه ابتداء، يا ليت،!! ثم رفضتُه فورا، ما هذا؟، فتصوّرى دائما أن تفجــُّـر وسط العمر، وإبداع الكهولة، هو النتاج الأبقى للبشرية. ومن غير المعقول، أن نربى أشجار البشر حتى تتطاول فروعها وتطيب ثمارها، ثم نحيلها إلى التقاعد، مكتفين بالظل، وعينات مجففة من طرحها القديم!!!. برنارد شو، وبرتراند راسل، ونجيب محفوظ، متى نضج عطاؤهم؟. وماذا لو كانوا قد تقاعدوا فى سن هؤلاء المتحضرين الجدد؟ المهم، حسدته على الرغم من كل هذا التنظير، وحسدته أكثر حين شاهدته بعدُ مع زوجته: امرأةٌ  فتية نضرة شقراء دمثة، لا يفتأ فى رقّة ـ غير سوداء ـ يميل عليها ليعدل من ياقة “بلوزتها”، أو يمـسح لها بعض البقايا المتناثرة خطأ حول فمها، البقايا التى لا يراها أحد سواه، بقايا ماذا؟ لست أدرى. أنا مالى؟ ثم هو لا ينى يلثم أطراف أصابعها. متى تزوجتْ هذه السنيورة التى تمّ نضجها فى هذه السن المتأخرة دون أى تراجع، متى تزوجتِ من هذا الرجل؟ ولماذا؟. ليس عجبى لمجرد أن شقراء تزوجت رجلا أسود، فهذا أمرٌ ألـِفْتُه فى باريس ونيويورك وألف ليلة وغير ذلك، ولكن لأن هذا الرجل بالذات لم أجد فيه قوة السود، افتقدتُ فيه نبض أرضى فى أفريقيا، لم أتصور فيه فحولة الفطرة وجاذبية البداءة، وهى الصفات التى أتصورها تميز هذا الجنس الأصيل.

أرجع إلى الحوار معه، فأنكشه فى انتخابات الرئاسة (الأمريكية سنة 4891) فيُفتى ـ دون تردد ـ أنها دائما أبدا لعبة محسوبة تُـولّى علينا من يقودنا دون فروق كثيرة بين الكاسب والخسران، ويسألنى: هل تعرف مغزى “لعبة البدّال”؟. ولم أفهم ماذا يعنى؟. قال “خدعة البدّال” تلك التى علمونا إياها صغارا؟ قلت له إننى لا أعرف عن ماذا يحكى، فقال لى إن راكب الدراجة يضع قدمه فوق البدّال، والبدال يرتفع، ولكن القدم دائما ترتفع أعلى منه، مهما ارتفع البّدال أو انخفض، فقدمُ الراكب فوقه أبدا، هكذا السياسة، هم فوق، ونحن تحت، دائما، مهما حاولنا، ومهما ارتفعنا، فأقدامهم فوق رؤوسنا بلا خلاص، يسرى ذلك على البدال الأيمن كما يسرى على البدّال الأيسر، جمهورى، ديمقراطى، نفس الحركة، ونفس النظام.

أعجبت بفكرته، وتراجعت عما ظلمته به من أحكام، ثم غمرنى يأس حين تجسّدتْ لى اللعبة المقابلة فى بلدنا، نحن لم نصل بعد إلى خدعة الحركة الزائفة (لعبة البدال) نحن نلعب مع السُّلطة (بكل أنواعها) لعبة “وابور الزلط”،

كنا فى طنطا، وكنت حول السادسة من عمرى، كانت الحرب العالمية الثانية، صفارات إنذار التجارب، تطن فى أذنى. كانوا يرصفون بعض الشوراع حديثا. حين كنت أشاهد العجلة الأمامية الضخمة لوابور الزلط وهى تزحف “تبطط ” كل شىء. أُرعب من أنها يمكن أن “تبططنى” شخصيا ضمن ما تسحق، مع أن خطواتى القصيرة الصغيرة كانت أسرع من حركة الوابور دائما، بل إننى كنت أتّصوّر أن وابور الزلط هذا يسير وحده دون سائقه الذى كانت ملابسه بلون الزفت الذى يسير فوقه، فكان من السهل أن يخفيه خيالى، فإذا فَرَضَ هذا السائق نفسه بصيحة تحذير مثلا، كنت لا أملك إلا الاعتراف به، ولكن باعتباره تابعا مقودا من الوابور لا سائقا أو قائدا له. ذلك أننى كنت أشعر أن وابور الزلط هذا كائن حى يمكن أن يتذكرّنى شخصيا، وأن يعدّ خطة سحقى، ولم أجرؤ، وإن كان قد خطر ببالى، أن أرشوه (الوابور لا السائق) بـ”ساندوتش” الصباح، فلا هو سوف يشبعه، ولا حشوه يستأهل.

قلت فى نفسى: إذا كان تبادل السلطة عند هذا الأمريكى المتغطرس تمثل لعبة البدّال، الحاكم فوق والناس تحت، دائما أبدا، مرة يمينا ومّرة يسارا، فهذا أمرٌ طيب، هى حركة والسلام، أما عندنا فالسلطة مثل وابور الزلط، ونحن: أطفال فى السادسة.، نخاف أن يبططونا دون ذنب.

أوقفـْتُ خيالى قسراً. أنا مسافر لأستريح، لا لأجتر الهم، لعبة البدال عندهم، ولعبة وابور الزلط عندنا، ماشى، هذه مجرد اختلافات ثقافية يا عزيزى!!!

ما هذا الذى أبدأ به رحلتى هذه؟!!، فاقتحمتُ سخريته ويأسى بخبطة واحدة سائلا: إذن ماذا؟. إذا كانت المسألة دائما واحدة على الجانبين، مع اختلاف الأحزاب والمرشحين والرؤساء، إذن ما العمل؟. ويتعجب لسؤالى، ويرفع حاجبيه، ويمـط شفتيه، معلنا أنه “….وأنا مالى؟” (هو ماله!!!)، فأشعر باطمئنان كاذب لتوارد الخواطر، وكأنى به يقول: لم يعد لنا فى الأمر شىء، وتقاعدى ليس تقاعدا عن عملى فقط، ولكنه تقاعد عن مسئوليتى تجاه ما يحدث، مما ليس لى فيه يد، ولا رأى، رغم أوهام الديمقراطية، وتكرار الانتخابات. ومع ترجمتى هذه للسان حاله، أصررت على مواصلة الحوار، وأصرّ هو على أنه لا حل، ومع ذلك ـ ولعجبى الذى يتجدد بلا أدنى مبرر، لأننى على علم مسبق طول الوقت بشيوع هذا الموقف المريح ـ بدا لى جليسى مطمئن البال، قرير العين لهذا “اللا حل”. ولم أحاول أن أستمع أكثر من ذلك، فقد تعلّمت أنَّ هؤلاء الناس استقرّوا “بشكل ما”، على “شئ ما”، هم لا يدرونه فى الأغلب. فقد رُسِــم لهم بدقة بالغة، من نظام شديد الإحكام (بدأ غربيا وانتهى عالما والعياذ بالله). هو نظام شديد التعقيد أيضا.  لا أظن أن أحدا يعلم من الذى يديره (كان هذا الظن قبل شيوع تعبير “النظام العالمى الجديد الذى لوّح بما زاد الأمر غموضا). من أهم أهداف هذا النظام ـ على ما أظن ـ هو العمل على  تحييد رجل الشارع، تحييد الناس، كل الناس، بقية الناس، (اللهم إلا أثناء الانتخابات بما لها وما عليها)  يبقى بهذا الشكل الأمر، أى أمر، مع من بيده الأمر، الذى هو بدوره يقع فى يد أعلى هى التى تدبـر “الأمر”، فيصاب الشخص العادى بمرض “الحكمة المُعدى”، يحمى نفسه من مسئولية التساؤل. من أهم مظاهر هذا الهرب أن يظل الواحد متفرجا طول الوقت  بلا فاعلية، ولكن بانتباه شديد. هو يتفرّج حتى وهو يدلى بصوته بين الحين والحين، لكن لا خوف منه، ولا من صوته، ما دام من بيده الأمر (لا من يهمه الأمر) يلوّح له بشعار الديمقراطية وحقوق الإنسان طول الوقت.

إيقاع لعبة السلطة فاق بكثير قدرة الشخص العادى على متابعة الأحداث، فضلا عن الإسهام فى صنع القرار. ومع ذلك لم أستطع أن أمنح نفسى حق مثل هذا الانسحاب الحكيم.  أتصور من فورى ـ وبطريقة خاطئة حتما ـ أننى “شخصيا” مسئول عن تعديل كل ذلك، وكلما كان الأمر واقعا أكثر، كانت مسئوليتى (الإبداعية!!) أعمق وأخطر (ما هى حكاية الإبداعية هذه؟). أقول لنفسى مخادعا فى الأغلب: إذا كنت لا أملك بديلا واضحا، فلا أقل من أن أعيش خبرتى مهما طالت وآلـَـمَت، لعلها تولّد قلقا خلاّقا. أما أن أقف ساخرا راضيا عالِــما حكيما متفرِّجا، فهذا ما لم أنجح فيه حتّى تاريخه. كنت، ومازلت، أحسب ذلك التظاهر بالرضا والتسليم، أو “الأناماليّة” رفاهية، لا حقَّ لى فيها.

أواصل الحديث مع الأمريكى الأسود ناسيا ما نبهـّت نفسى إليه حالا، فأنكشه ـ مرة أخرى ـ موجها الحديث إلى دور القس جاكسون (لاحظ التاريخ)، مرشح الرياسة السابق الذى فشل فى تعضيد حزبه له، وكان فشله معروفا مسبقا، ولكن مجرد محاولته كان لها دور ـ بالنسبة لى على الأقل ـ فعندى أنه أدى دورا، وقال كلمة. فيتحمس جليسى بغير روح، ويقول إن جاكسون هذا كان سيفعل شيئا آخر، ولكنه لا يقول لى ـ ولا لنفسه، ربما ـ كيف كان سيواجه الحاكم السرى الحقيقى لبلده العملاق، الغافل عن مصيره/ مصيرنا.

أشعر فى نهاية الحوار أننى أمام “أمريكى فقط”، و ليس إنسانا أسود حطّ  أجداده ظلما وخطفا  فى هذه الأمريكا، إنه لا يعلن بسواده رائحة الطين، وقوّة الأبنوس، وشموخ الـليل، كما يعنى لى كل ما هو أسود. هذا “البنى آدم” الذى هو أمامى هكذا: لا هو بالثائر الواعى الذى يتعصّب لـلونه ـ ولو مرحليّا ـ، ولا هو بالمنسحب الفنان المبدع الذى يرى رؤية مستقبلية؛ ليساهم فى إظهارها مهما صغـُـر دوره. هو مجرد أمريكى، تصادف أنّه أسود، فتزوّج من بيضاء جميلة، فرضىَ بهذه النقلة “السرية” إلى الجنس الأرقى، أعنى الجنسيّـة الأرقى (!!)، فماتت قضيته قبل أن تبدأ.

قبل أن أغادر مطعم الباخرة الذى كنت أجالس فيه هذا المتقاعد الأسمر (بهـُتَ سوادُه!!)، يحدث فصل بارد إذ يتقدّم النادل منى بالحساب، فأُخرج له “كوبون” العشاء الذى صرفوه لنا مع التذاكر، فيبتسم فى استعلاء مهذب، وأن هذا الكوبون خاص بمطعم “إخدم نفسك على الواقف”. أما هذا المطعم، فهو اختيارى، وبمقابل. فأحاول أن أمنع حبّات العرق من أن تظهر أمام جليسى الذى تصوّرت أنه لا يـُخفى امتعاضه منى، وأدفع بالتى هى ألْــسَـع، وأقول لنفسى: ولو. نحن أبناء الأصول قبلا ودائما، والذى لا يعرفك يجهلك. وأبلعُ ريقى، بعد أن كتمت عرقى، وأمضى ليتجمع سخطى على الأمريكى، أكثر من تجمعه تجاه النادل، أو تجاه النظام العالمى القديم، (لم يكونوا قد جدّدوه بعد ليبدوا جديدا)، أو تجاه خيبتى وقلة خبرتى.

ثم أهدّئ نفسى بحكمة متأخرة مكررة معا، فأقرص أذنها محذرا مجددا من التعميم. هذا الرجل ليس هو أمريكا، وهذا النادل، ليس إيطاليا، وأنا لست مصر؟.

22 أغسطس 1984:

أمضى يوما واحدا وليلتين فى هذا المجتمع الصغير المتحرك، وألتقى بندرة من المصريين، فهم يركبون البحر عادة فى رحلة العودة بالعربة والأشياء، وليس فى رحلة الذهاب هذه. أعتبر أنه من مزايا السفر الحر بعيداً عن المجموعات، أن تتاح لك الفرصة أكثر فأكثر للقاء من “ليس كذلك “، ولعل هذا ما نفّرنى منذ بدأتُ أفكر فى ضرورة اتساع دائرة رؤيتى للعالم فى السنوات الأخيرة، أقول هذا هو ما نفرّنى (ربما مؤقتا، وربما خطأ) من الرحلات الجماعية التى تنظمها شركات السياحة عندنا. كنت أخشى ـ ومازلت ـ ألا تعدو هذه الرحلات الجماعية أو الفئوية المنظمة أن تكون انتقالا فى المكان فحسب، فتمضى الرحلة بين المصريين فى عمليات تنافس الشراء، وهمز المقارنات، وحذق التوفير، ومباهاة التسوّق، وأساليب الشطارة، بلا أدنى فرصة لأن أنفصل عنهم، أو أن ينفصلوا عنى. فما جدوى الانتقال؟. وأين هو أصلا؟. هذا فضلا عما سيفرضونه علىّ من أسئلة وشكاوى باعتبارى طبيبا نفسيا، ولا مؤاخذة.

أقول: فرحتُ بقلة المصريين، وكثرة الأغْراب، وتقمصت بحّارة السفينة وربانها، فعلمت معنى أن تكون بحّارا، وأن تظل الأرض التى تعيش عليها تتأرجح فوق الماء طوال حياتك، فيتأرجح معها وجودك، ويصبح انتماؤك إلى العالم أرحب، و أكثر مرونة من ذلك المقيم فوق الرمال، أو أعلى الجبل، أوفى شقة بإيجار قديم وسط المدينة.

ذات يوم لاحق أخذت صديقتىّ هدى ونهى (7 و8 سنوات، وهما شقيقتا “أحمد رفعت” أحد أصحابى فى هذه الرحلة) إلى حديقة الأورمان، كان يوم جمعة  من أيام شتاء قاهرى جاد، كنا قد  فشلنا أن نؤجر قاربا فى النيل لأسباب طقسية، جلسنا على أرض الحديقة ورحنا نلعب. سألتهما الواحدة تلو الأخرى عن ماذا تريد أن تكون حين تكبر، فأجابت إحداهما (لا أذكر من منهما تحديدا) أريد أن أكون مدرسة وممرضة، وتعجّبت، وأعدت عليها الاختيار لتحدد أى المهنتين تفضل عن الأخرى، فأجابت نفس الإجابة بإصرار، وأنها تريد الاثنتين معا. قلت لنفسى، ولمَ لا؟ وأصرّتا أن أشارك فى اللعبة، وحين جاء دورى (كنت قد تخطيت الخامسة والخمسين على ما أذكر) سألتنى هدى عن المهنة التى أريد أن أكونها (!!)، ولم تذكر، أو تتذكر، أو تُـشِر إلى أنى اخترتُ والذى كان قد كان، نظرتْ إلىّ هدى تنتظر الردّ، فعرفت أنها تعنى سؤالها فعلا، وأنها لا تمزح، وأنها تنتظر جوابا، وأنها لا تقصد أن أجيب بأثر رجعى (لو خيّرت كنت اخترتُ كذا أو كذا). رجّحت أنها سمحت لخيالها أن يلغى الواقع ومعه تاريخى وسنى، فحذوتُ حذوها، واخترت مهنتين معا، وقلت لها أحب أن “أطلع فلاحا وبحّارا”، وصدّقتـَنْى بنفس السهولة التى اختارت بها لنفسها مهنتين معا.

لعلى حين أجبتها حينذاك كنت أعيش بعض آثار خبرتى التى أحكيها الآن عن علاقتى بالبحر وتقمصى البحارة. تنبّهت من إجابتى تلك إلى علاقتى بالأرض وتقمّصى لفلاح بلدنا، ومشاركتى له بعض أيام طفولتى فى جنى القطن، أو “دراس” القمح، ومايرتبط بهذا وذاك من معنى الغوص فى طين الأرض والاستقرار، فى مقابل حركة البحّار وهـو يجوب العالم، أرضه سفينته، وغايته الدنيا بأسرها، ووجدت نفسى هذا وذاك معا دون صراع، ألستَ معى أنهما يتكاملان؟

بدأت بصيرتى تتضح فيما يتعلق بعلاقة نوع وجودى بما سوف يأتى فيما بعد بشأن “حتم الحركة” و”برنامج الذهاب والعودة” المتكرر بلا انقطاع، يبدأمن طين الأرض وجذورى ثابتة ممتدة ليظل يتمايل مع حركة البحر المترجحة بلا شطآن عبر أفق ممتد.

أعيش رقص الباخرة، وإيقاعها الهادئ، وتعليمات مساعد الربان المتوالية، والدعوة تلو الدعوة لتناول الوجبات، وهو يتمنى لنا “شهية طيبة”، ويدعونا للمشاركة فى ديسكو المساء، أو يدعو الكاثوليكيين فقط لقدَّاس الصباح!!،

لا أتعرّف على أحد خلال يوم واحد، ولكننى أخرج مؤكدا لفكرتى القديمة التى ذكرتها فى مقدمة هذا الحديث من أن الطائرات على عظم ما أضافت واختصرت، قد حرمتنا من فرص أروع، وإيقاع أهدأ.

أخرج بين الحين والحين إلى سطح السفينة، لأجد البحر العظيم، أصل الأشياء، وقد احتوانى من كل جانب. أفتح وعيى للانهائى، فأتلاشى بإرادة أعمق، وتتضاءل الأفكار والطموحات، وينطفئ الغرور، ويرفرف الشك – دون رفض – على كل ما فات.

ولـِمَ لا؟  وإلا،  فما جدوى السفر ؟

مساء 22 أغسطس 1984:

تصل الباخرة إلى ميناء بيريه، وهو جزء لا يتجزأ من أثينا العاصمة، وإن كان الفصل بين ما هو بيرياس (هكذ ينطقونها)، وماهو أثينا، فى الحديث والروح والأسعار والإجراءات، هو فصل شديد الوضوح منذ البداية. كنت قد واعدت أولادى ـ وقد وصلوا قبلى بساعات بالطائرة ـ بلقاء فى ميدان عام فى أثينا، خشية ألا يعرفوا طريقهم ليلا إلى الميناء. هذه أول مرّة لى ولهم، نحط الرحال هناك. وما كان اتفاقنا إلا فوق خرائط لا تمثل لوعينا شيئا يمكن أن يُعتمد عليه، وهكذا لم أكن أتوقع أن يكونوا فى الميناء فى انتظارنا، لكن هاهم أولاء هناك، هم فعلا!! يا خبر! ما الذى أتى بهم هكذا “برافو”، أفرح برؤيتهم وكأنى لم ألتق بهم من سنوات، وكأنى قد اشتقت إليهم دهرا، وكأنهم لم يوصّلونى إلى ميناء الإسكندرية صباح أمس. وأنا الذى تمضى الأسابيع تلو الأسابيع فى القاهرة لا أراهم، ولا أسعى ـ قصدا ـ لرؤيتهم، ليس فقط لاعتكافى المتصل ـ بعد العمل الضرورى ـ فى استراحة ريفية خاصة بجوار القاهرة، وإنما حتّى وأنا أقيم معهم فى الشقة ذاتها، أراهم ولا أراهم، وأعجب لتدخّل الحركة ـ بالسفر ومافيه وما يمثله ـ فى الإحساس بالزمن، وبالتالى فى تلوين المشاعر، وتحريك الوجدان، وألمح فى صحبتهم سيّدة سوريّة تحتضنهم كأم رؤوم، فأهتف فى سرّى غصباً عنّى: “تحيا الوحدة العربية”، ويعرّفونى بها، وأنها أم أحد أصحاب الفندق الذى نزلوا به فى جليفادا، وأنها تفضّلت مشكورة باصطحابهم إلى الميناء بما ترتب عليه من فرحة ذكرتُها. وأخجل من نفسى ومن أفكارى العنيدة فى رفض هذا التقديس الذى أعتبره دائما مفتعلا لما هو “وحدة عربية”. لكننى لا أستسلم لتغيير مفاجئ، فقط أنبه نفسى أنّ علىّ أن أضع معنى هذا اللقاء مع عربى فى الخارج، ومعنى فضل هذه السيدة على أولادى لمجرد أننا عرب معا. أهمس لنفسى: ضع كل هذا فى اعتبارك مستقبلا وأنت  تحكم وتشجب وتتشنّج. حاضر.

تنطلق حافلتنا بأرقامها المصرية تتهادى فى ليل أثينا المنعش. يقول لى بعض أولادى فى تأكيد مندهش إنهم اكتشفوا أن أثينا هى – أيضا – أوروبا، وكأنهم اكتشفوا حقيقة جغرافية جديدة، فأضحك وأقول لهم: فماذا كنتم تحسبون؟. فيفهمون ما أعنى. وتذهب ابنتى لتؤكد أنها كانت تحسبها “قذرة” “زحمة”، مثلما الحال عندنا، فأنبهـها بحدّة إلى عيب ما تقول، فتعتذرـ فى ألم واضح ـ لتعدل كلامها بما تقصد أصلا، ويشترك معها بقيّة الأولاد فى شرح وجهة نظرهم: إنهم كانوا يسمعون كثيرا أن اليونان هى مصر وبالعكس، وأن اليونانيين كانوا بمصر كثرة عاملة مهاجرة، ثم أصبح المصريون باليونان، وخاصة أثينا، هم الكثرة المهاجرة العاملة، حتى أن اللغة الثانية فى أثينا وبيريه هى العربية (هذا صحيح). فغلب على خاطرهم أنهم لن يجدوا فرقا يذكر بين الشارع المصرى ودرجة نظافته وازدحامه، وانضباطه الشكلى قسرا لبضعة أيام، بعد كل تغيير وزارة، أو تجديد وزير داخلية،  ثم أبوك عند أخوك، وبين الشارع اليونانى فى أثينا، فإذا بهم ـ خاصّة وقد نزلوا فى ضاحية جنوبية لأثينا، شديدة الجمال، قليلة الناس، طاغية الخضرة، تسمى جليفاداـ فإذا بهم يجدونها أقرب إلى ما سبق لهم رؤيته فى أوربا الغربية جدا، وعلى حد قولهم لا تقل عن جنيف جمالا أو نظافة. ولم أعرف كيف أرد عليهم وأنا أقود السيارة وأنا لا أعرف شيئاً مما يقولون.

لم يسبق لى أن زرت أثينا إلا لبضع ساعات أثناء رسو المركب فى رحلة العودة من فرنسا سنة 1996، شاهدت فيها المقرر السياحى (الأكروبول) مشاهدة الدورة الروتينية السياحية الفارغة، فانتظرتُ مؤجِّلا الرد عليهم حتى أستوعب كلامهم بهدوء حين أشاهد مايحكون عنه صباح اليوم التالى. وقد كنت أحسب أننا سنسافر فجر هذا اليوم التالى، إلا أنه بناء على هذه الصدمة الجمالية الحضارية، استجبتُ لرجائهم أن نمضى يوما آخر ـ على الأقل ـ فى هذا البلد الجميل.

فى الفندق، وجدتُ الحديث بالعربية أساسا، ولم أرتحْ رغم فرحة داخلية، وفخر خفى. راحت  السيدة (الأم) السورية السالفة الذكر ترحب بنا بالطريقة العربية، فكادت تحرمنى من الشعور بالنقلة اللازمة للإعلان الداخلى لبداية الرحلة. فهمت من حديثها، ومن الحديث معها، ومما وصلنى من بعض المعاملات حولى، أن ثمة بداية هجمة تجارية استثمارية سورية على اليونان، هذه الهجمة تبدو من الوفرة والنجاح بحيث تكاد تضارع الهجمة اللبنانية على “نيس” و”كان”، وتصورت أن ثراة السوريين، ورجال الأعمال الطموحين قد تحايلوا على النظام الاقتصادى هناك، بمد نشاطهم أو تحويل نقودهم إلى الخارج، وما إلى ذلك مما سبق أن خبرناه فى مصر ونعرف عنه. ألمحت للسيدة السورية بسؤال عن سببب إقامتها هنا، فوجدت منها عزوفا عن الدخول فى التفاصيل، بل إنها أفهمتنى بإصرار لا مبرر له، أن ابنها ليس شريكا فى الفندق كما سمعتُ، وأنه يدرس الهندسة، وأنها تقيم فى الفندق ـ بصفة مؤقتة ـ فى فصل الصيف. تظاهرتُ بتصديق كل كلامها مــرغما، وحين سألتها عن الأحوال فى سوريا، ردّت ردّا اشتراكيا تقليديا بأنها “عال العال”، فحوّلت الحديث بسرعة، ورضيت بهذا القدر من التصريحات المحدودة. إلا أننى بعد أن التقيت بعدد من السوريين مصادفة، وبعد أن لاحظت عددا من المطاعم الشامية الفاخرة، وبعد أن كنت أسأل أحد كبار السن من اليونانيين عن اسم شارع أو رقم أتوبيس، فيسارع بسؤالى بالعربية إن كنتُ قادما من سوريا، بعد كل ذلك تأكد عندى أن اليونان قد أصبحت “لهؤلاء “السوريين متنفسا طبيعيا لحركة اقتصادية وهجرة مؤقتة. فرحت بحركة المد والجزر هذه. أعنى بها التبادل الشرعى بين البلاد بالهجرة. و فرحت بقدرة إنسان العصر ـ ما أمكن ذلك ـ على تخطى الحدود، ومحاولة التأقلم السريع لمتغيرات السياسة والاقتصاد حسب نظرته وطموحاته. ولكننى أمِلت أكثر لو كان دافع الهجرة الاقتصادى يواكب دافعا آخر لهجرة حضارية، مع الالتزام بالانتماء إلى الأرض الأم، أو مع استمرار رحلات “المكوك “الواعية والمنتظمة، وبدأت أراجع نقدى المستمر والقاسى لما هو حضارة غربية، والذى لم أتراجع عنه أبدا، ولكننى فتحت بابا جانبيا لإعادة النظر.

أنا  لست أدرى ماذا يعنى تعبير “الجوع الحضاري”، إن وُجِدَ أصلا، لكنه خطر ببالى هكذا، كما خطر ببالى ـ أيضا ـ تعبير آخر هو “الاختناق الحضارى” ثم “الفقر الحضارى”، ورجحت أننى وقعت فى لعبة الكلمات المتقاطعة التى تقتحم ذهنى بين الحين والحين، على الرغم من أنى لا أعرف اللعبة الحقيقية المعروفة بهذا الإسم، ولا أحبها ولم أحاولها فى حياتى، فــرُحت أحاول أن أكوّن جملة مفيدة مما يقفز إلى وعلى هكذا دون سابق ترتيب، فأقول:

يا حبّذا لو كان الدافع إلى السفر ـ فالهجرة عند بعضنا ـ نوعاً من علاج مرض “الاختناق اللاحضارى” أو الفقر الحضارى؛ سعيا إلى إشباع “الجوع الحضاري”، جنبا إلى جنب مع أكل العيش والتهريب.

لا تقنعنى هذه الجملة بما كنت أرجو، إذ تبدو لى وكأنها حكمة هروبية خليقة أن تحرمنى من طلاقة الشطح وبراءة الاستكشاف، فأُصدر فرمانا أن أكف قسرا عن مواصلة هذا الحديث الداخلى المُلَـفْظَـن؛ لأقـترب أكثر مما يدور حولى.

23 أغسطس 1984:

انتقلنا فى الصباح إلى أثينا دون سيارة؛نظرا لاتفاقنا أن يكون المشى داخل المدن هو وسيلة الانتقال (الأُولى). كان الأولاد هم المرشد لنا لسبقهم لنا بساعات أتاحت لهم استعمال الأتوبيس العام ومعرفة بعض أسماء الأماكن والشوارع، وكان عجبهم أن الراكب يضع أمام السائق ـ فى صندوق بجواره ـ بعض الفكة مما يعرف أنه تعريفة الركوب. بلا تذاكر ولاكمسارى ولا يحزنون، فمن أين للسائق أن يعرف أن ما وضع و”شخشخ”، هو المبلغ المضبوط؟. لابد من افتراض درجة من الأمانة. لابد أن هؤلاء الركاب ـ أو أغلبهم ـ أمناء. هذه حقيقة أخرى، وصدمة أخرى ذكّرتنا ببدهيات تقول: “إن الأصل فى المعاملات الأمانة، لا الشطارة (ولا الحداقة)، والأصل فى الحق أن يصل إلى صاحبه، وليس أنه “اللى ييجى منه أحسن منه”. وقد تدهورت عندنا القيم العامة، والانتماء إلى الدولة الواحدة، والحق المجرد، لدرجة بات معها كل واحد منا (أو كل أسرة أو كل فئة) دولة قائمة بذاتها، وأصبح التعامل بيننا لا يربطه قاسم مشترك، لا حق الله، ولا حق الناس، و لا حتى، حق النفس. لعل هذه المقارنة هى ما بهرت الأولاد وهم يكتشفون أن جليفادا وأثينا هما فى أوربا وليستا مثل مصر.

بالقرب من “سينتاجما” (مجلس الشعب تبعهم !! على الأرجح)، وجدنا الحَمام والتاريخ فى انتظارنا كالعادة.  أصبح منظر الحمام، وهو يلتقط الحب وفتات الخبز من أيدى السائحين، منظرا مُقَررا فى كثير من بلدان العالم.  أنت تجده هنا كما تجده فى ميدان سان ماركو بفينسيا، وأمام الساكركير فى باريس، والكنيسة الكبرى فى ميلانو وحول الكعبة المقدّسة. تقفز إلى وعيى أن فكرة الأشـُهر الحرم، ومنع الصيد فى أماكن بذاتها، وأوقات بذاتها، هى فكرة كامنة فى وجدان التكوين البشرى يصالح من خلالها إخوانه الأحياء، الذين استحل قتلهم بلا مبرر فى غير هذه الأماكن، فى غير هذه الأيام. أما منظر الجنديين ذوى الزى التاريخى، والخطوة البطيئة المرتفعة، وهم يقومون بدورهم، كديكور بشرى لـلفرجة والتذكـِرة، فهو منظر يبدو جميلا ـ لأول وهلة ـ بلا أدنى شك. وهو يتكرر فى المنشية عندنا بالإسكندرية، كما يتكرر أمام قصرالملكة فى لندن، وغير ذلك كثير من بلاد الله، لكن المعنى فى استعمال كائن بشرى حى للفرجة عليه، هو معنى يقلقنى كثيرا، حتى المهرج فى السيرك، وهو يقوم بدوره للفرجة، له عندى قبول أكثر من دور هذا “الجندى الديكور”.

يقترب السائحون من الجندى الواقف “زنهار” قبل معاودة سيره، ويلمسونه برقّة، فلا يتحرّك. هم يلتقطون الصور بجواره وتحت قدميه، ثم يعاود الجندى سيره واستعراضه. أتصوّر ،لأهدّئ نفسى، أن الجندى راضٍ بما يفعل، وأنه يكافأ مكافأة كبيرة لأدائه هذا الدور هكذا، وأنه لا يستمر هكذا ساعات طويلة؛ إذ لا بد أنه يُستبدل قبل الإنهاك، ولا بد أنه فخور وهو يتقمص تاريخ بلده، فخور بما يفخر به بنو وطنه، لكن كل ذلك لا يمنع الغصّة التى وقفت فى حلقى، وتسحبت منه حتى غمرت بدنى، فتكوّمتْ لتصبح قبضة تضغط على قلبى. حاولت أن أقــلد مشيته لأتقمّص شعوره، أبدا، قلت: الإنسان ليس ديكورا متحركا، وما عاد ينبغى أن يكون كذلك مهما كان الثمن والمعنى  والرمز.

وهل نحن – من عمق معيّن – غير ذلك ؟ إخرس يا جدع أنت هل هذا وقته؟

افترقنا: أولادى وزوجتى فى مجموعة، وأنا وحدى (فى مجموعة!!!)، على أن نلتقى ظهرا. فعلت ذلك كى أعفيهم من وجودى المرهِق الثقيل عليهم غالبا (أنا الذى أدّعى ذلك دون يقين) ولأعفى نفسى من التطلع بلا نهاية فى واجهات المحلات بشبق غامض.

كنت قد وضعت لأفراد الرحلة نظاما نقديا؛ بحيث يحمل كل فرد مبلغا محدودا يتصرف فيه باستقلال، يأكل على حساب راحة النوم، أو ينام نومة أفضل على حساب ما يشترى، أو يشترى على حساب النوم والأكل..إلخ. هو حر…يتصرّف فى حدود المبلغ الذى تسلمه فى بداية الرحلة، وحتى نهايتها.(أظن كان المبلغ خمسمائة دولارا للفرد طول المدة ـ 82 يوما ـ، وكانت قيمة الدولار فى السوق السوداء آنذاك 47 قرشا صاغا!!)  ذلك أنه كان من ضمن أهداف الرحلة أن تكون رحلة كشفية معسكرية مخيمية أساسا، لا سياحية ولا استهلاكية. معنا الخيمتان والمواقد والأغطية وأحذية المشى والنقود المحدودة، وما قـــُــدّر يكون!!.

تركتهم، وتركت قدمىّ تقودانى كما عوّدتهما فى الأماكن الجديدة، واتفقنا على اللقاء بجوار الـ”سينتاجما” بعد ثلاث ساعات. تبعت قدمىّ البصيرتين ورحت أتجوّل كعادتى حولى وداخلى دون ترجيح أى كفة، فأجد عدد الناس أقل، وعدد الخدمات أكثر، وعدد الأصوات الزاعقة أقل، وعدد الزهور والخضرة فى الشارع والشرفات أكثر، وعدد العربات أكثر، وحجمها أصغر، وعدد الشوارع وسعتها أقل، وأكثر (المقارنة بما عندنا طبعا آنذاك).

أذهب لأبحث أولا عن خرائط للطرق التى سوف أقطعها عبرأوربا، فهذه أول مرّة أبدأ جولتى من الجنوب. اعتدت أن أتسلح بالخريطة والبوصلة بمجرد أن أضع نفسى فى سيارة الترحال، حتى حذقت اللعبة، ويقابلنى مكتب يوجوسلافيا بترحيب جيد، يذكرنى بأنها البلد الوحيد التى منحتنا تأشيرة دخول بلا مقابل (كانت أيامها يوغسلافيا بحق وحقيق). ولا أظن أن هذا فقط من باب تشجيع السياحة والدعاية، وإنما أعتقد أنه مبدأ أساسى من مبادئ الفكر الاشتراكى، وأحصل على ما أريد من خرائط بعد جهد متوسط لصعوبة التعبير، وأفرح بحاجز اللغة على الرغم من أنه شديد، فما أحوجنا أحيانا إلى الحديث بالوجه والإشارة باليدين، بعد أن أغارت الكلمات القديمة الجوفاء على عمق نبض وجودنا. أُفرغت كثير من ألفاظ الود والتواصل من  وظيفتها. أفـرح حين أجد الحروف اليونانية ذات الرسم اللاتينى الواحد تُنطق بطريقة أخرى. أنت حين تَقرأ كلمة يونانية وكأنها إنجليزية أو فرنسية، سوف تـَـنطِقُ كلمة أخرى تماما. أدركت ذلك وأنا أقارن بين أسماء البلاد خلال الرحلة وهى مكتوبة باللغتين اليونانية والإنجليزية (أو ما شابه) فأجد حروفا غريبة علىّ، والأهم أنى أجد حروفا واحدة لها ذات الرسم إلا أن نطقها مختلف تماما،

أتذكر صديقا لى كان فى باريس، سوف يأتى ذكره مرارا فى الأغلب، كان نصفه إيطالىاً، ونصفه فرنسىاً. ضبطنى مرة، وأنا أكتب بالعربية، فوقف ينظر من خلف كتفى إلى الكتابة من اليمين إلى اليسار، وهى غير منتظمة فى أىة نمطيّة يعرفها هو، فأخذ يتطلع إلى ما أفعل والنقط تتراقص فى حرّية فوق بعض الحروف دون غيرها. وقف ينظر وكأنى فنان تشكيلى أقوم برسم لوحة ليس كمثلها شىء، وحين لاحظ أنى رأيت كل هذه الدهشة على وجهه صرّح لى بما يدور فى خلده، وأن فروق الكتابة ليست أقل دلالة على روعة اختلاف البشر من فروق الكلام الصوتى، ثم طلب منى أن أكتب له اسمه بالعربية، ففعلت، فأخذ يتأمله، ويقربه ويبعده، وهو فى دهشة غير مصدق، قائلا بالفرنسية ذات اللكنة الإيطالية إنه “غير معقول”. ويضحك، ثم ينظر ويضحك، ثم يضحك وهو ينظر، ثم يضحك فقط حتى اضطررت أن أشاركه فى طفولة رائقة فرضتها علينا دهشته البريئة، وحين ذهبنا للغذاء مع زوجته، أخرج من جيبه هذا اللغز المصوّر (اسمه مكتوبا بالعربية) وأراه لزوجته، وراح يضحك من جديد، حتّى أضحكنا من جديد.

تذكّرت ذلك مع الفارق، وأنا أشاهد لعب الحروف الجديدة ليس فقط برسمها، ولكن بنبراتها ورنينها أيضا، وتحرّك وعيى أرحب.

تقودنى قدماى إلى الأكروبول دون سؤال أو قصد محدد، فأتوجّه إليه منفردا ومجذوبا تلقائيا، وليس جزءاً من معالم سياحية مقررة مثل زيارتى السابقة الخاطفة له، أختار إليه ـ كالعادة ـ أضيق الشوارع وأقدمها.

منذ إقامتى قرب المونمارتر فى باريس ذلك العام (86 ـ 96)، وقبل ذلك منذ تعوّدى على الوصول إلى منزلنا فى قريتى من محطة قطرالدلتا مخترقا “درب الوسط” “(الملتوى كالثعبان، الضيق كنفق سرى) متجنبا داير الناحية، منذ هذا وذاك،  أتصوّر أن تاريخ البيوت بدأ متقاربا فى مواجهة حميمة، وأن الشوارع قد ظهرت بينها فيما بعد، لتصبح ممرات قسرية شُقت للضرورة، وما أصبحت الشوارع ميادين، ولا حلقات سباق، إلا حديثا. لذلك فإننى أهتدىبحدسى وخبرتى أول ما أتجوّل فى أىة مدينة جديدة إلى هذه الشوارع الضيقة، ويا حبّذا تلك الشوارع التى يبلغ من ضيقها استحالة مرور العربات بها.

تحضرنى زياراتى لخالتى ـ رحمها الله – فى سوق السلاح بالقلعة، وأنا حول العاشرة. ما زلت أعيش الشوارع هناك بسلالمها المتآكلة. أتحسس كيف مازالت ماثلة فى كيانى مع شعورى بالخوف من أن أتزحلق على أطرافها، كلما خطرت ببالى من جديد. فَرِحْتُ مؤخرا حين وجدت أن هذا الشعور مازال يراودنى بطريقة أرق وأطيب وأنا أمر يوميا على سوق السلاح بعد أن انتقل سكنى إلى المقطم مؤخرا.

لم أفرد خريطة أثينا ولا مرة واحدة، بدأتُ رحلة المشى حتى وصلت إلى ما أردتُ دون أن أحدده مسبقا، هذا هو، فأنا أسير فى مثل هذه التهويمات الحرة بالتوجّه التلقائى دون خريطة، بقدر ما أسير فى الاستكشاف المنظم بالخريطة والبوصلة. هناك حول المرتفعات المؤدية إلى الأكروبول، تقع المقاهى على الأرصفة فى جمال طبيعى، والمقهى فى “بلاد برّه”ـ فى أغلب الأحوال ـ هو مطعم ومقهى وبار وخدمات نظافية (للإخراج والغسيل)، وهى تحت أمر وإذن الرواد دائما ـ بل المارة أيضا. إلا أن ما زاد وميـّز أثينا هنا حول الأكروبول هو تلك الدعوة الحارة من النادل تلو النادل للمارة أن “يتفضلوا” بالهناء والشفاء، ورغم أنك ستدفع الثمن إلا أن الدعوة تبدو “عزومة” صادقة بشكل أو بآخر، وأنت تستطيع أن تقرأ خارج كل مقهى/ مطعم أسعار المشروبات والوجبات الكاملة، والطلبات المنفردة، تقرأها بالتفصيل قبل أن تتورط، وعلى الرغم من الحديث عن ملايين السياح فى اليونان، فإننى لم أشعر هنا بزحمة أو استغلال. فالأسعار بالمطاعم تقل عن ما يقابلها فى مصر (إن وجد ما يقابلها) بمقدار النصف أو يزيد، والبقشيش ليس ابتزازا مقررا، ولا فرق فى الترحاب والوداع بين من يعطى أكثر ومن يعطى أقل، ومن لا يعطى أصلا؛ ممن لا يستطيع، بل إنى حين اطمأننت إلى أسعار هذه المقاهى/المطاعم، ونوع المأكولات الحريفة من “محشى باذنجان”، و”مسقعة باللحم المفروم”،

قررت دعوة زملاء الرحلة لـلغداء، كنوع من البداية السمحة. تناولت مشروبا خفيفا، ولم أعط النادل بقشيشا لأرى، ورأيت ما ذكرتُ من ترحيب غير مشروط، وبعد لقائنا فى الميعاد ظُهرا جعل أولادى يتحدثون عن شدة الرخص هنا (بالمقارنة) بأسعار الملبوسات مع ارتفاع الذوق، وجمال التنويعات. فتألمت لأن مصر كانت دائما مضرب الأمثال فى الرخص والذوق معا، ودخل الفرد عندنا هو أقل حتما من هذا البلد، فما هى الحكاية؟ أكف نفسى عن التمادى فى هذا الاتجاه. أنا لم أحضر هنا لأضرب وأطرح، ولا هذا وقت السياسة التى أدّعى الفخر بأنى لا أفهم فيها إلا ما ينفرنى منها، تحدث الأولاد عن ذلك أيضا وكأنهم قرأوا أفكارى فزادونى غما ورفضا لـلتمادى  فى هذه الدراسات المقارنة. هل هذا وقته أو مكانه؟ حدثتهم عن جولتى وعن دعوتى لهم على الغداء. فرح الجميع لتوفير ثمن وجبة واجبة الدفع من ميزانيتهم المحدودة، أو على الأقل  لتخلّصهم من وجبة بديلة من العيش “الحاف، والحلو” بسكويت”!!.

حين ذهبنا إلى المقهى ذاته قرب الأكروبول عبر الشوارع الضيقة المثيرة، شرحت لهم كيف اكتشفته، وكيف هدتنى تلك الشوارع إلى الطابع الخاص للبلد الذى نزوره، وضحك أولادى الذين صحبونى فى مثل ذلك إلى جنيف القديمة، وتذكروا فرجتهم سابقا على سكنى بالمونمارتر، وشوارعه الضيقة الصاعدة باستمرار.

لم نعرف أسماء الأطعمة  باليونانى (طبعا)، فدخلنا إلى الواجهة الزجاجية المحيطة بالعينات، وأشار كل منهم إلى النوع الذى يحبه، وحين سألنى النادل هل هؤلاء كلهم أولادى، أجبت بالإيجاب، دون أن أشعر أننى أكذب. وحين جاء وقت الحساب مال علىّ، وقال إنه مجرد عامل وليس صاحب المقهى، وكدت أقول له: إذن لماذا كل هذا الإخلاص والحماس والدعوة والدعاية والود والحرارة؟ كنت قد نسيت أنّ مَن أخذ الأجرة حاسبه الله على العمل، كما كان الأمر عندنا منذ سنين، وأن من أكل عيش اليونانى يضرب بسيفه (بعد التحوير)، قال الرجل، وهو يعتذر عن عدم استطاعته أن يعمل تخفيضا خاصا لى يناسب هذا العدد الهائل من الأولاد والبنات، أنه مجرد عامل، ثم أصرّ أن يتنازل عن “بقشيشه” إشفاقا على، بل إنه رغم هذه المقدمة والاعتذارات، عاد فتبرع عـلى مسئوليته وعمل تخفيضا خاصا فى نهاية الأمر دون طلب منى، وتكلف الواحد منا ما لم أتصوره فى بلد سياحى فى مكان سياحى، فى حضن الأكروبول.

أدركت من كل ذلك أنه ليس ثمَّ افتراض هنا أن السائح هو ثرى بالضرورة، وأنهم يدركون أن  الشطارة السياحية ليست هى أخذ أكبر مبلغ من المال من هذا الغريب الذى لا يعرف شيئا عن حقيقة الأسعار، والذى قد لا يقابله الشاطر إلا مرة واحدة طول العمر. رجحت أيضا أن ما فعله معنا هذا النادل تلقائيا لا يمكن أن يكون تخفيضا لتكوين زبون، أو لكـسب لاحق منتظر منى، فهو يدرك تماما أن مثلى قد لا تخطو قدماه هذا المكان مرة أخرى، وإنما هى علاقات إنسانية مضبوطة بجوهر مصالح أعمق، فى إطار من حرارة ود البحر الأبيض، وهو التزام خلقى هو ـ فى النهاية ـ مكسب للجميع، الزبون والعامل وصاحب المحل والبلد المضيف والدعاية المستقبلية. نعم. ليست المسألة حذقا وشطارة عاجلة، بل هى بعد نظر، وانتماء واع، ومكسب مضمون عمره أطول.

استأذنت منهم، وحملت مشتريات أفراد الرحلة معى “وحدى”، عائدا إلى الفندق قبلهم؛ لأرتب خط سيرى غدا، وأعيد تنظيم أفكارى، تاركا لهم “بعد الظهر” لاستكمال ما شاؤوا من مشاهدة ومقارنة وتعلم وانبهار. كان الحمل ثقيلا؛ لأنه حوى بعض مهمات التخييم فى المعسكر، وسألت ـ بالإنجليزية ـ أحد المسنين الواقفين بمحطة الأتوبيس، عن رقم الأتوبيس الذاهب إلى المطار (حيث الفندق بالقرب منه)، فأجابنى بعد أن أطال النظر إلى وجهى، أجابنى بالعربية دون الإنجليزية، هكذا بحدس سليم. وكان أولادى قد حدثونى عن أصحاب المحلات الذين جعلوا يحدثونهم بالعربية عن ذكرياتهم فى الإسكندرية، وأغلبهم يذكر عبد الناصر ذكرا غير حسن، وقد تمادوا فى تفسير طردهم (هكذا صوّروا خروجهم من مصر) بأنه ـ الله يرحمه ـ كان يكره المسيحيين. وإذا كان معهم حق فى تفسير تضييق الخناق عليهم، حتى تفضيلهم المغادرة مما أسموه طردا، فإن تهمة التعصب الدينى لا تليق على عبدالناصر بالذات. راح عبد الناصر، و ترحم  الجميع على “أيام”، وأمِلوا فى “أيام”، وندموا على تصرفات، وبقى الود، والحلم.

قال لى العجوز اليونانى: كيف حال الناس فى مصر؟. قالها وكأنه يسأل عن أهله لا أهلى، قلت له: بخير”يجتهدون” ولكنهم كثير. قال: أعلم ذلك، قضيت هناك كل عمرى. لم يقل نصفه أو أغلبه، وكأنه يعتبر أن ما جاء بعد ذلك (بعد عودته هنا) ليس من عمره، أو هو شئ جديد لا يصح جمعه إلى ماسبقه، سألته ما رجّحته، هل كنتَ فى الإسكندرية؟. قال: بل “الكاهرة” ولم يقل مصر، مثلما نسمى نحن القاهرة، فهو يميز بدقة أصح ما بين كلمتى مصر (القطر)، والقاهرة (العاصمة). وظل يسألنى عن اسم الفندق الذى أريده، وأحاول أن أُفهمه أنى أعرف أنه بعد محطة المطار مباشرة، وأننى لست فى حاجة إلى أن يتعب نفسه بمحاولة إفهام السائق أن ينزلنى حيث ينبغى، ولكنه يذهب للسائق بمجرد توقف العربة وقبل أن أركب، ويرطن معه، ثم يأتى يطمئننى، وينظر إلى حمولاتى المخيمية الثقيلة، ثم يشفق علىّ – وكأنه أبِى حين كان يوصى سائق العربة الأجرة الذاهبة إلى بركة السبع أن ينزلنى فى الموقع السليم؛ حيث تاكسى طنطا. شعرت أننى استدفأت بأبوة حانية كنت أحسب أنى استغنيت عنها من فرط ممارستى دور الأب دون الابن فى مهنتى وتدريسى وأسرتى جميعا، وتصورت أنه لم يبق أمام هذا اليونانى السمح، إلا أن يواصل الركوب معى؛ حتى يوصلنى إلى الفندق ليطمئن على، وهو يحمل عنى بعض أشيائى، وتساءلت ـ كما تساءل أولادى من قبل ـ لمَ يعاملنا الناس بكل هذه الرقة والدماثة؟. هل لأنهم كانوا عندنا؟. هل لأننا نذكّرهم بأيامهم الحلوة هناك؟. هل لأننا أكرمناهم فهم يردون الجميل؟. هل لأنهم هم هكذا ونحن الذين لا نعرفهم؟. وهل يا ترى نحن ـ أيضا ـ هكذا كما يصفوننا؟. أعنى هل مازال أغلبنا هكذا؟. أم حدث الشىء؟؟ بل حدث الشئ فى الأغلب: عنف النقلات تأتى من أعلى، بلا إعداد أو استعدادٍ تحتىّ أعم، مع التمادى فى قلة حزم الحكومة وقلة خدماتها معا، مع استيراد مظهر الحضارة دون روحها، مع تغير فئة القادرين ماديا بسرعة يصعب معها تغيير الأخلاق إيجابيا أولا بأول، ومع ذلك فالطريق طويل. ولا محل للتسرع فى الحكم. لولا أننا كرام بررة، لما تركنا كل هذا الأثر على هؤلاء الناس. وأتساءل كما تساءلت عن لبنان من قبل: هذا بلد غنى: زراعى صناعى إلى حد ما، سياحى ـ تاريخى ـ عريق، فلماذا كانوا يهاجرون؟ لا أكاد أصدق أن الحاجة المادّية هى التى كانت الدافع الأول أو الأساسى لهذه الهجرة إلينا خاصة. ولا أظن أن اللبنانيين قد هاجروا إلى أمريكا الجنوبية، فأمريكا الشمالية ونيوزيلندا مؤخرا للسبب المادى ذاته، وإذا كان المصريون حاليا يهاجرون لأسباب مادية فى الظاهر فقد يـُثبت التاريخ أن وراء هذه الهجرة شىئا آخر. على كل حال فقد عاد اليونانيون إلى بلادهم ورحلنا نحن وراءهم، إلى هناك، ومع أنى دخلت اليونان هذه المرة من باب مصرى سورى، إلا أنها ظلت متميزة بما هى، وقد كان الفندق السورى الذى أقيم فيه ـ على الرغم من تواضع إمكاناته ـ هو أغلى من مثله فى سان فرانسيسكو، وبوسطن وباريس ونيويورك، وقد منعتُ تصعيد الاحتجاج داخلى؛ اعترافا بجميل الأم التى رعت أولادى كل تلك الرعاية فى غيبتى. لكننى قارنت بين هذا التعجيل للكسب، وبين موقف الصينيين وأولاد عمومتهم (من كوريين ويابانيين..الخ)، حيث يبالغون فى الرخص، بالمقارنة بالأسعار المحلية، حتى يخيل إليك أنهم يخسرون، ومع ذلك يستمرون وينجحون. وهممت أن أنبه السيدة السورية (الأم) إلى أن هذا الموقف اللاهث نحو المكسب السريع، فيه قصر نظر على المدى الطويل، ولكنى خفت من سوء تفسيرنصيحتى. فالفندق نزلاؤه قليلون، والأعمال حولى تدل على أنها أعمال صفقات واتفاقات كبيرة لا أفهم فيها كثيرا، فما أدرانى أنا بما هم أنجح فيه وأقدر. ولكن شعور عابر سبيل مثلى يرى ويقارن، لا يمكن إهماله، حتى لو كان مثلى لا يفهم فى لعبة رجال الأعمال، إلا بمقدار ما يفهم صديقى “عم فتحى” الميكانيكى فى حل ألغاز الشطرنج. طيب بالله عليكم : أنا مالى؟

الجمعة 24 أغسطس 1984:

بدأنا السفر فى ساعة مبكرة. الجو شديد النقاء والإنعاش، وكانت المشكلة هى فى الخروج إلى الطريق السريع، دون أن نتوه داخل أثينا وقد نصحنا ابن السيدة السوريّة صاحبة الفندق أنْ:” ضلّك ماسك البحر. ضلّك ماسك البحر”، مع أن البحر هنا (الكورنيش) لا يسمح لراكب سيارة أن يظلّ ماسكه، مثلما يمكن أن يحدث عندنا من شبرا الى حلوان. لكنى اتبعت النصيحة على قدر الاستطاعة. فخريطة أثينا التى معنا هى خريطة داخلية أساسا، ليس فيها ما يبيّن السبيل إلى الخروج إلى الطرق المحيطة،

بدأ السفر البرى الواعد.

كنت قد اتفقت مع أولادى أن يتناوب كل منهم الجلوس بجوارى كمرشد، أعطيه خريطة المنطقة التى نعبرها، وأحدد له بلد القيام ومحطة الوصول التالية، ونتفق على الطريق، وعلى أسماء البلاد التى سنعبرها بالتتالى، ونحدد المسافات بمقياس الرسم، ونعدل عداد الكيلومترات على الصفر، وننطلق. واعترض أغلبهم، فهذا لا يحب الجغرافيا، وتلك لم تمسك بخريطة من قبل قط، وهذه تريد أن تنام، وكان لا بد أن أصدر أمرا بالتناوب دون اختيار، ومن لا يعرف شيئا عليه أن يتعلمه، لأن ذلك جزء لا يتجزأ مما اتفقنا عليه، وبمجرد بداية التجربة وجدتْ المرشدة الأولى متعة وإثارة فى قراءة اللافتات، والسؤال أحيانا بالإنجليزية، وأخرى بالفرنسية، لكننا نتلقى الإجابة دائما باليونانية، وينهمك الشخص المسئول بإخلاص متفان فى الشرح باليونانية، رغم وضوح أننا لا نفهم شيئا، ولا يربط بيننا وبينه إلا نطق اسم البلد، وربنا يستر أن يكون النطق صحيحا؛ ذلك أن درجة مطّ الحروف يفرق حتما، فحين سألنا عن لامْيَا Lamia، كما قرأناها بالإنجليزية، تعجّب المسئول الواحد تلو الآخر، حتّى رجّح أحدهم ما نعنى، فإذا به يرفع حاجبيه ثم ينطقها صحيحة “لا مِيييااا، بمدّ الألف، ومد الياء، أكثر، ثم مط الألف الأخيرة، فـنبتسم ونقول (بالإشارة) هى كذلك، وكأننا نشير إلى ما قال دون أن نجرؤ على إعادته، حتى لا يرجع فى كلامه. والحقيقة أننا أدركنا بعد قليل أن علامات الطريق شديدة الوضوح، شديدة الدقة، كنت دائما أتعجب من افتقار طرقنا لمثل ذلك (تذكّر التاريخ!) اللهم إلا تحذيرات السرعة، وأنه” على الأجانب ألا يخرجوا من الطريق الرئيسى”!!! ( لا يا شيخ!! ! يخرجرون إلى أين؟).

نمضى فى طريق متسعة بعض الوقت، تضيق رويدا رويدا حتى تصبح طريقاً مزدوجة عادية، لكننا ندفع دائما ثمن المرور عند بوابات تحسب المسافات، (كما حدث عندنا مؤخرا مع الفارق) ويأخذ الطريق رتابته المكرورة، ولا يبقى منتبها إلاىَ والمرشدة الصغيرة، أما بقية أفراد الرحلة فسرعان ما راحوا يغطون فى نوم عميق. أنتبه إلى أن الطريق ليس رتيبا كما أوحى لى نومهم، وأبدأ حوارا مع مرشدتى عن الجمال والخضرة من حولنا. الخضرة فى المرتفعات والسهول وكل مكان، وأكاد أقول لها إننا أخطأنا ونحن نقول إن مصر بلد زراعية، وإنها هبة النيل؛ لأن هذه البلاد هنا هى هبة الله مباشرة، دون وساطة لنهر أو دورات فيضان. وتكاد ترفض الصغيرة أن أحرمها من التمتع بالجمال بثرثرتى وإصرارى على تقليب آلام المقارنة، وأعترف لنفسى مكررا أننى فعلا أحرم نفسى كذلك من حقها فى مواجهة هذه الطبيعة الرائعة دون وصاية العقل أو حقد الحسرة.

قد يكون مناسبا أن أعترف أنى أتصوّر أحيانا أن غلبة تفكيرى هكذا تجعلنى عاجزا عن المتعة الخالصة، حتى أنى اعتبرت نفسى أحيانا ممن يفتقرون إلى قدرة معايشة اللذة المجردة مما يسمّى عندنا، نحن النفسيين، اللاهيدونيا anaerobia. وحتى مع اعترافى بهذا العجز عن اللذة الاختيارية، أو الوعى الكافى بها، فإنى أعترف أن مسام إدراكى، أذكَى منى وأطيب، فهى تسمح أن يدخلنى الجمال والتناغم بلا استئذان، وأن يطفوا على إنتاجى وتوجُّهى فى أغلب نشاطاتى. وها هى الفرصة: أن أحاول أن أجعل أروع مافى هذه الرحلة هو أن أتدرب على ألا أكون بعدها ومن خلالها “كما كنت” “قبلها. أن أتوقف عن الخوف من الاستمتاع، ألا أكتفى بالمتعة بأثر رجعى،

لابد أن أتعلم كيف أبدأ فى الاستمتاع “الآن” وبوعى مناسب.

أليست الفرصة الجديدة ينبغى أن تكون جديدة فى كل شىء؟.

يمرق منّا بين الحين والحين موتوسيكل (تعمدت عدم الترجمة إلى دراجة بخارية!!) يركبه فارس، وأحيانا تمرق كوكبة من الفرسان معا، وكأنهم يتسابقون، وأقدّر ـ بالمقارنة بسرعتنا ـ أن سرعة هؤلاء الفرسان لا تقل عن مائة وخمسين كيلومترا فى الساعة، وربما مائتين. أتساءل عن هذه الوسيلة التى بدأت تتزايد بشكل يدعو إلى الدهشة (يدعو مثلى على الأقل إلى ذلك)، أهو وفر للوقود؟ أبدا، فهذه الموتوسيكلات السريعة تصل سلندراتها إلى أربعة، وسعتها لا تقل عن سيارة صغيرة، فما الحكاية؟. وأتصوّر أن هذا الاتجاه الأحدث هو بمثابة عودة إلى الفروسية لا بد أنها تُـشعر الراكب بنشوة الاختراق الحاسم، والقدرة على المواجهة بالجسد، حالة كونه “أنا”. كما تحمل معانى التفوق وهو يمضى فى سرعة الشهب ومضاء السيوف. ثم إنها ـ هكذا سرحتُ ـ تسخِّر التكنولوجيا ضد الرفاهية. فقد تعوّدنا أن عطاء التكنولوجيا يصاحبه دائما مزيد من البلادة والرخاوة والثبات فى المحل كلما زادت الأزرار و”التحكم عن بعد”. أما هذه التكنولوجيا التى تسمح بكل هذه السرعة، فهى تؤكد حضور الجسد فى مواجهة الطبيعة بكل اختراق التحدى والتلاؤم معا، وكلما مرق منا فارس أو فارسة (والتفرقة صعبة أو مستحيلة) دعوت لهم بالسلامة، هم وأمثالهم مستعملا ألفاظ أمى (روح يا بنى ربّنا يكتب لك السلامة انت واللى زيّك)، وكأنهم أولادى، فتبتسم (أو هكذا خيّل إلى) مرشدتى الصغيرة، وكأنها سمعت دعوتى.

أتذكر نوعا آخر من رفض دعة التكنولوجيا دون قوّتها وإمكانيات تناسقها مع طبيعة نشطة، وهو ما رأيت داخل المدن كمقابل للموتوسيكلات خارجها، ألا وهو استعمال قبقاب التزحلق ذى العجلات، فى المواصلات داخل المدينة. فقد لاحظتُ، حين كنت فى باريس، أنه قد لجأ شبان وشابات أصغر إلى ركوب القباقيب والانطلاق بها فى الشوارع، وحقيبة الظهرمعلقة بحبالها إلى تحت الإبطين، ينطلقون بين السيارات فى سرعة ورشاقة، وكأنهم يرقصون الباليه بفخر وجمال. نعم.. الأمر يحتاج إلى شوارع كالحرير، وأخلاق كالفولاذ، ولا سبيل للمقارنة بما عندنا من هذا أو ذاك، ولكن ما يهمنى من هذا وذاك هو الروح الكامنة وراء هذا وذاك، روح الفتوة ورفض الدعة، على الرغم من أن كل وسائل تكنولوجيا الرفاهية فى متناول الأيدى وللجميع تقريبا،

هم لا يرفضون الدعة وقت الدعة، لا يطيب لهم أن يتمادوا فى التخدير طول الوقت. كيف انتشرت عندنا شائعة تقول إن الرفاهية دائما هى الهدف؟ هى غاية المراد؟  تصيبنى الحساسية عندما أسمع تعبير “مجتمع الرفاهية”!!. يا ساتر، الرفاهية عندنا هى الراحة والكسل، وأن يخدمك الناس دون أن تخدمهم.الرفاهية عندنا هى الهدف من الحصول على الشهادة “الكبيرة”، وهى الهدف من الانتخابات، وهى الهدف من المكسب، بل من التدين أحيانا. الرفاهية عندنا لا تعنى اختصار السبل لمضاعفة الوقت، وإنما تعنى فى المقام الأول أو الأوحد: الدعة، والاعتمادية، والجهد الأقل. طالب الجامعة عندنا الساكن على بعد بضع مائة متر من كليته، لا يركب دراجة، ولا يمشى، وإنما ينتظر الأتوبيس مهما تأخر، ومهما انحشر. ومهما كان سيصل  سيرا على الأقدام قبل أى أتوبيس، و الأكل عندنا التهام ممتع غير منتظم، والنوم أفضل وسيلة للطناش،(واللى تشوفه بالنهار الأكل أحسن منه، واللى تشوفه بالليل النوم أحسن منه، الله يرحمك يا ستى أم أمى!!).

ما  حكايتى مع المتعة ؟ مع الفرحة ؟ مع الرفاهية ؟ هذه شئ وتلك شئ ، أما الرفاهية فأنا حَذِرٌ طول الوقت من مجتمع الرفاهية بهذه الصورة الشائعة، حذر لدرجة الخوف، أخاف من أى كسل فيتهمونى بادعاء التقشف، تقشف ماذا يا جماعة؟  أكتب  هذا الكلام الآن -أثناء مراجعة الطبعة الثانية، يوليو0002- وأنا أعيش فى رفاهية جهازالتكييف مضطرا،حلة كونى لا أطيقه، هل معنى ذلك أننى ضد الاستمتاع كما أتهم نفسى دائما؟  ليكن، أفضل عليه مروحة السقف مهما قالوا إنها “بلدى” تفسد (فى حد زعمهم) كل الجمال المصنوع (الديكور) داخل الحجرات اياها.(قمت أغلقتُـه وأدرتُها!!.)

أذكر كيف انزعجتُ حين ركّبت جهاز تكييف فى حجرة مكتبى بالعيادة دون حجرات الانتظار. تصورتُ أيامها أن كلامى للمرضى كذب بقدر ما هذا الجهاز هو كاذب، يصنع واقعا غيرالواقع. تصورتُ أن ما أقوله لمرضاى فى درجة حرارة معينة لا بد أن يختفى بمجرد خروجهم من حجرتى ومواجهتم بدرجة حرارة الواقع.  عن أمى عن أمها أنها كانت تقول : “كلام الليل مدهون بزبدة، يطلع عليه النهار يسيح “. أرجح أنها كانت تلمّح للوعود التى يعدها الأزواج استرضاء للزوجات ليلا،لتحقيق أمل الجنس البشرى للحفاظ على نوعه، ثم، متى طلع النهار، كلٌّ ملهى فى حاله، وحين تعطل جهاز التكييف هذا فى العيادة (كنت اشتريته قديما مستعملا جدا) لم أصلحه لمدة عشرات السنين ، حتى نزعته خردة وكأنى أخلع ضرسا مسوسا، عدت مؤخرا إلى الاستسلام لجهاز جديد بعد أن صار وجودى بالعيادة لـلمشُورة والمتابعة وليس أساسا للعلاج والمواجهة.

أُطلق على الهواء الذى يصلنى من جهاز التكييف صفة  “الهواء البلاستيك”، وحين فُرض علىّ فى بيتى جهاز خاص أيام حساسيتى المفرطة من كل نعومة واستسهال، هاج علىّ ما يشبه الهجاء بعنوان : “لدائن اللذات والشبع”: :أدرتُ زر النسمة العليلة، روّضتُ لـيْـث العاصفةْ،……، بحثتُ عن شوق قديمٍ غامضٍ، عن بغتةِ المواجهةْ، عن حفز صدِّ القدرِ، عن ثورة الجلود والمشاعرِ، فغاصت الأناملْ، فى خدر لهفـةٍ مهلهلةْ، وذابت القلوبُ فى رخاوةِ الدّعةْ.

رعبى الشديد من الدعة، من الرفاهية، هل هو رعب أم رفض أم خوف؟ أنهيت هذا الخاطر بإعلان خوفى أن يكون الاستسلام للدعة هو تراجع عن شرف التساؤل، عن الملامح الحريفة، عن تفضيل الطبيعة البلاستيك على الطبيعة الطبيعة ، أنهيت هذه الصيحة  وكأنى أنعى نفسى، أو أرثى عصرى، قلت “… ترسّخت قواعد المداعبةْ، توارت الأهلةْ، فى عتمة الرفاهيةْ،…….تناسخت لدائن اللذاتِ والشبعْ، وضابط الإيقاعِ صمتُ الوعى، والمداهنة،……، تخبو الملامح الحريفةْ.  يتوه وجه الشمس خلف المدفأةْ.”

أكتشفُ أن ما كتبته مما تصورته شعرا، هو أقرب ما يكون إلى ما هو سيرة  ذاتية،  (هذا الاكتشاف هو الذى أضاف إلى هذا ما أسميته:.”ذكرُ مالاينقالْ”  حيث قررت أن أجمع ما ظهر منى عفوا، مما اكتشفت  لاحقا أنه ليس إلا  سيرتى الذاتية الأصدق. أنظرالترحال الثالث إن شئت).

ربما كان هذا الشعور المستمر بالخوف من الدعة، ومن ثمّ بادّعاء التقشف، هو الذى يكمن وراء تفضيلى التخييم على فنادق الخمس نجوم، وأيضا هو الذى يفسر تلك القواعد الصارمة التى أفرضها على أولادى، والمبالغ الزهيدة التى أعطيتها لهم فى هذه الرحلة. ربما.حلول فردية، وشبهة كذب. لكن: ماذا أفعل؟ – دعونى أحاول حتى لو كنت أخدع نفسى. هذا بعض حقى، وهو بعض زادى لأستمر.

يمرُق بجوارى فارس وفارسة. أعلم هذه المرة أن من تركب خَلف القائد هى فارسة. علمتُ ذلك بالصدفة، ولا أقول كيف، أنا أركب الموتوسيكل أحيانا حتى الآن، بل إننى اشتريت موتوسيكلا حديثا ما زال قابعا ينتظرنى بعد أن حالت دون استعماله، فورا،     تلك العملية التى أجريتُها لغضروف ركبتى مؤخرا؛ وأسفتُ أنه ليس له “مارشا” أتوماتيكيا.

أنا أفهم كيف يضبط فارسٌ توازنه على هذه السرعة الفائقة، لكن أن يحمل السائق وراءه آخر، فضلا عن أخرى، و ينطلق هكذا بهذه السرعة، فلا بد أن يلتحما ويتفاهما ويتناغما حتى يصيرا واحدا. ما أروع الفروسية الجديدة وأصعبها. أضيقُ بهؤلاء النيام خلفى داخل حافلتنا، عدا المرشدة الصغيرة التى هى مضطرة لليقظة حسب الاتفاق. وأسأل: أليس السفر نفسه هو الرحلة؟. أم أن الوصول إلى المحطة القادمة هو غاية المراد؟ تعلّمتُ بعد طفرة من طفرات مراجعاتى أن أرفض حكاية “الوصول” هذه، فأصبح الغرض من السفر يتحقق عندى منذ دوران مفتاح العربة فى بداية الرحلة. أنا حين أسافر أصل قبل أن أرحل، حتى أننى اعتدت أن أبدأ رحلاتى مع زوجتى إلى الإسكندرية مثلا بالجلوس فى أحد أركان فندق فى أول الطريق الصحراوى. وكأننا أنهينا الرحلة ولسنا نبدؤها؛ ذلك لأن الغاية عندى تكمن فى التحريك ذاته الذى يبدأ بمجرد عقد النية.

أنظر إلى مرشدتى الصغيرة آمِلا ألا تكون قد قرأت أفكارى، فأنتبه إلى ماتتطلع إليه. ألاحظ تجمع سيارات فى مكان شديد الجمال، متوسط الارتفاع؛ مما يوحى بوجود شئ خاص يستأهل هذا التجمع. أتوقف، ويستيقظ النيام لننزل، فنرى.

فى مثل هذه الرحلات بلا دليل، ولا خطة محكمة مسبقة، دع رجليك، وعجلة قيادتك تقودك إلى التجمعات الصغيرة (والكبيرة أحيانا)، ودع سيارتك تأتنس بأخوات لها فى الطريق، وتوَقَّــفْ حيث يتجمع هؤلاء أو أولئك، وإنك واجدٌ ـ بالصدفة ـ ما ينبغى أن تراه دون أن تحدده مسبقا. فالناس إذا أطلقوا طبيعتهم النقية بعيدا عن مشتريات المدن والحوانيت العملاقة، لا يتجمعون إلا على جمال و خير. وقد كان.

نزلنا، وهبطنا مع الهابطين إلى حضن الجبل، والغدير يتهادى تحت قدميه. الفاكهة تباع زهيدةً أسعارها دون استغلال فرصة وفرة السياحة. المعابـر الخشبية تتراقص تحت أقدام العابرين كأنهم يرقصون جماعة. الناس يشترون الذكريات ظاهرا، ويمشطون الوعى الراكد فى سرية منعشة، وهم يتمتعون بالصحبة والدفء، دون وصاية أو صفقات.

(ما زلنا) الجمعة 24 أغسطس 1984:

لاحت الحدود عن بعد، وتوقفنا عند آخر محطة بنزين، نموّن، ومحطات البنزين، مثل المقاهى، هى لخدمة الناس والسيارات. هى مقاه ومطاعم وخدمة متكاملة، وأحسب أن تقديم خدمات النظافة البشرية (الإخراج) هى حتمية فى مثل هذه الأماكن بحكم القانون، نظافة هذه الأماكن المخصصة لهذه الوظيفة العظيمة هى المقياس الدقيق لشعور الناس بالناس.أنت تقضى حاجتك وراء باب مغلق، فى مكان سوف تتركه ليدخله غيرك حتما، فهل تتركه كما وجدته، أو أفضل مما وجدته؟. أم كما تعرف وأعرف؟.

كنتُ كلما ثرت على النموذج الغربى للحياة، أحاول أن أذكّر نفسى بالخطأ المغرور هذا، فأصحبها لأشكُمها (كلمة عربية) بأن أذهب إلى مراحيض عامة توجد فى أول المنيل بالقرب من السنترال هناك، أمام محل المرحوم عم محمد حسن ‘سمكرى’ العربات، وأقول لنفسى: أليس هذا نحن؟. فلتعرف حدودك يا فتى (أنا الفتى!!) قبل أن تتمادى فى الهجوم على الخواجات “الذين هم”، فما دامت مراحيضهم أنظف من حجرات الصالون عند أكابرنا، فهم أسيادك يا فتى (أنا مازلت ذلك الفتى الغِرّ!!!)، فأوقفُ هجومى عليهم، إلى حين، أى إلى أن أتبين أننى لست “فتى”، وإن كنت غِرّآ، كما أتبين أن هذا ليس هو المقياس الوحيد لـلتقدم الحضارى، حتى لو كنت أهتدى فى بعض المساجد إلى “الميضة” بحاسة الشم، والعياذ بالله، فإننى أرفض ـ رغم كل ذلك ـ أن يكون الوضوء، الذى هو إعلان لضرورة تكرار النظافة، هو المبرر لكل هذه القذارة. لا ليس ذنب ديننا هذا كله، ولكنه التخلف، ديننا يؤكد على الإتقان والأمانة وإزاحة الأذى عن الطريق (وليس فقط فى المراحيض) وكلام كثير لا أريد أن أكرره، أشعر أن خجلا ما يجعـلنى أهرب من التمادى فى المقارنة، مقارنة، مقارنة، مقارنة، الله يخيبنى، بطّل. كفى!! الله!!!! (لم أقرأ رفاعة الطهطاوى . أحسن!)

دخلنا محطة البنزين وعملنا كل ما تـتصوره. اشترينا ما قد نحتاجه فى أول بلد شيوعى سندخله فى رحلتنا (تذكّر التاريخ من فضلك)، ووجدنا كل شئ متوفرا، حتى ملء أسطوانة بوتاجاز المخيم الصغيرة. وحين اتجهنا إلى الحدود بعد حوالى نصف ساعة، وجدنا الصف قد امتد إلى أكثر من كيلومتر. انتظمنا فيه، وسرعان ما انتظم وراءنا من العربات مثلما هو أمامنا ـ على حد الشوف ـ وقالت ابنتاى الـلتان زارتا روسيا فى العام قبل الماضى (مايسة ومنى السعيد)، إننا لا بد أن نُخطرهم بكل ما معنا من عملات، وأن نحتفظ بورق تغيير العملة طول الوقت، و…. و… إلخ. فهمت كل ذلك وأدركت مغزاه، واستعددنا له بكل أمانة، فما نحن إلا عابرو سبيل، ولم يكن فى خطتنا البقاء فى يوغوسلافيا طويلا. ويطول الانتظار حتى تضطرب حساباتنا، فقد صرنا بين العصر والمغرب، ويتبين لأولادى معنى رخصة “الجمع والقصر” فى السفر، ويتناقشون فى هذه المسألة، ويكاد بعضهم يضيف تفسيرات عصرية، وشروطا جديدة تصعّب استعمال هذه الرخصة . يقول أحدهم مازحاً: لا جمْع ولا قصر إلا فى مخيم، فترد أخرى: أو على قارعة طريق.

كان فى تصورنا ـ وحساباتنا المبدئية ـ أننا سنصل بلجراد فى اليوم ذاته، وتبيّنتُ ماكنت أعرفه من جديد، وهو أن مثل هذه الرحلات لا يحسب لها بعدد الكيلومترات تقسم على سرعة السير، وإلا أصبحت الرحلة هى السخف بعينه، فضلا عن أنها حسبة خاطئة أصلا.

أذكر أننى فى طريق العودة، سألت نادلا فى محطة بنزين فى أعلى جبال سان كلود برنار فى سويسرا عن المسافة بيننا وبين أيوستا، أول الطريق السريع، فابتسم وهو ينظر إلى سيارتنا وقال ساعة ونصف، أو أقل قليلا، قلت. له إننى أسأل عن الكيلومترات، فابتسم وصمت. وحين غادرت المقهى (الاستراحة) وجدت علامة قريبة تقول إن المسافة هى خمس وخمسون كيلو مترا، فتعجبت كيف نقطع هذا القدر الضئيل فى ساعة ونصف. ثم سرعان ما تبينت دلالة إجابة النادل بالساعات لا بالكيلومترات. ذلك أننا وصلنا أيوستا ـ دون توقف ـ بعد ما يزيد عن ساعتين بالتمام، كان الطريق ثعبانا يتلوى بين القمم،

أذكر بعض أهل بلدى حين كنت أسأل أحدهم عن ” كم بينك وبين زفتا”؟ (مثلا).  فيجيب:” ثلاثة قروش “، فأدرك أن “كم” لـلعدد، وأن العدد الذى يهم أهل بلدى هؤلاء هو عدد القروش التى فى جيبه،، لا عدد الكيلومترات، ولا عدد الساعات.

تتقدم قافلة العربات رويدا، تصل عربتنا إلى نقطة الحدود. ثـَمَّ شعور غريب حين تنقل قدمك على خطٍّ ما (هو خط وهمى فى الحقيقة رغم عناد الحكومات وسخف الأمم المتحدة) فتكون فى البلد الفلانى، ثم تنقلها إلى الخلف فترجع إلى البلد العلانى،

كنا نلعب هذه اللعبة سنة 1996، ونحن فى جنوب فرنسا فى الباسك الفرنسى قرب بيارتز؛ حيث يوجد حول الحدود ما يسمى بالأوبرج الأسبانيولى داخل الأراضى الأسبانية، ثم طريق شبه جبلى يربط بين فرنسا وأسبانيا، نصله على الأقدام، ونعبر لنشترى رموزا سياحية وأشياء أخرى، مما فاتنا شراؤه أثناء زيارتنا لسان اسباستيان فى شمال أسبانيا، ويقول لنا صاحب الأوبرج إن هذه الصخرة الصغيرة، مشيرا بيده، هى الحدود، فيقف أحدنا وكل قدم من قدميه فى ناحية من الصخرة؛ ليعلن أنه وضع قدميه إحداهما فى أسبانيا، و الأخرى فى فرنسا، وأتصور أن الرجل يخدعنا، أو لعله يمزح معنا، فأقبل الخدعة ولا أتمادى فى الشك أو التساؤل، وأفهم أكثر لماذا تـُصر مقاطعات الباسك فى كل من فرنسا وأسبانيا (بلغتها الخاصة ولهجاتها الخاصة وطباعها الخاصة) على أن تصبح دولة مستقلة ذات سيادة. هل لأحد سيادة على صخرة؟

ولو !! فمهما استقلّت الدول أوانـتفخت الذات، بسبب التاريخ واللغة والمصالح والزعماء والغرور الفردى والعرقى، فسوف تظل هذه الخطوة البشرية البسيطة تعبُر ذلك الخط الوهمى، الذى يحاول أن يفصل بين الناس وبعضهم، وبين البلاد وبعضها.

بعد إجراءات الخروج الشديدة البساطة التى تمت على الجانب اليونانى، اقـتربنا من السلطات اليوغسلافية، فإذا بالإجراءات أبسط، حتى أن أحدا لم يطلب منا أن نعلن عمّا معنا من نقود أو ممنوعات، إذا زادت عن مبلغ معيّن كما فعلت السلطات اليونانية بنا عند الدخول إلى أراضيها. أنت لا تستطيع ـ عادة ـ أن تميز الناس من بعضهم على الحدود بين بلد وبلد. فالناس ـ عادة ـ على جانبى حدود الدول أقرب إلى بعضهم البعض من الناس فى الدولة ذاتها التى قد تختلف فيها اللغة والطبيعة الجغرافية والأصل العرقى وسبل الرزق على الرغم من  أنهم يحملون نفس اسم البلد، نفس الجنسية. خيل إلىّ ـ مثلما ذكرت حالا عن الباسْك ـ أن اليوغسلاف على الحدود اليونانية أقرب إلى اليونانيين على الحدود اليوغسلافية وبالعكس. كذلك الحال مع الإيطاليين واليوغسلاف على الحدود بين يوغسلافيا وإيطاليا، كما أن جنيف ليست إلا سفح جبال الجيرا فى فرنسا فهى فرنسا، أو هكذا أعامـلها لولا فرق أسعار العملات، أفلا يحق لى أن  أصف خطوط الحدود بين الدول  بـالخط الوهمى؟.(إياك أن تسمع إسرائيل).

قال لى جندى (أو مسئول) الحدود اليوغسلافية وهو ينظر فى جوازات السفر.”مصر؟”. وضحك ضحكة ترحيب (على ما أعتقد)، وربما تعجب للأرقام العربية على السيارة، وقلت له: “مصر “، فعند اختلاف اللغات لا يبقى فى الحوار إلا أسماء البلاد والأعلام، هذا لو سهّل الله بنطقها سليمة أو قريبة من السلامة.  أردف الجندى: “مبارك؟”!!. وكان الرئيس مبارك قد أنهى رحلة إلى يوغسلافيا منذ أيام قليلة. قلت له “نعم” “مبارك”، وأحسست أن الرباط القديم بين تيتو وعبد الناصر، ما زال قائما والساسة فى البلدين يحاولون تحديثه بشكل ما (لاحظ التاريخ نحن فى:1948). فرحت رغم تحفظات لى سابقة على هذه العلاقة، وعلى كل من المذكورين. ثم أكمل الجندى بالحماسة والفرحة ذاتها قائلا: “مبارك..حسن Mobarak Good”، ورفع إصبعه الإبهام وهو قابض يده، علامة التأييد والتكريم والتشجيع. قلت له بفخرالمغترب: “نعم”. ولكنه أردف: “سادات”. وغمز بعينه، وقهقه، فقلت له: “مبارك حسن، وسادات حسن”. فقد تعلمت أننى بمجرد أن أغادر بلدى أشحذ انتمائى إلى كل ما تمثله بلدى،أو يمثل بلدى، من رؤساء وأخطاء، وتاريخ، فأرفض أى همز أو لـمز من غريب حتى لو كان حسن النية، حتى لو اتفق رأى الشخصى مع همزه ولمزه، فرأيى الشخصى هذا هو لأهل بلدى وليس للتصدير.

مازلت أذكر فى رحلة الحج كيف كنت سأشتبك مع أحد السعوديين (الذى لا يمثل كل السعوديين طبعا) الذى راح يعايرنى، من الوضع مضطجعا، بهزيمة 1976، وكأننا – نحن المصريين ـ انكشارية المرحوم والده. فراح يقرّعنا على فشلنا فى الدفاع عن حريم سيادته. لم أدافع عن الهزيمة، لكننى لم أسمح بالنقاش حول المسئول عنها رغم موقفى منه،  مادمت خارج بلدى فأنا المسئول عن كل شىء. أسكتُّه بما ينبغى، وعيّرته بأمواله العاجزة عن ردّ شرفه/شرفنا، بل لمّحت أنها – الأموال- هكذا- قد تكون المسئولة عما لحقنا.

خارج بلدى، كل زعمائى أبطال، وكل غسيلنا نظيف، ومن يعجبه؟

وأعود إلى الجندى اليوغسلافى فأجده قد التقط اعتراضى، فسكتَ غالباً دون اقـتناع أن كلهم “حسن”(Good) ناصر حَسن، وسادات حسن، ومبارك حسن، (لم يبق إلا أن أضيف: وانا “حسن”،وانت “حسن” . أنا طريقى وسكّتى طريق حسن، آه. الله يسامحهم)، وعلى الرغم من أن كلامى لم يعجبه، إلا أنه لم يسحب ضحكة الترحيب، ولا  علامة التعجب من على وجهه وهو ما زال ينظر إلى  الأرقام العربية على السيارة، ولا اختفت سماحة التواضع التى قابـلنا بها.

أدركت كم نخطئ  ونحن نحكم على رؤسائنا من خلال آراء الناس فى الخارج. حين مات السادات ودّعه العالم الغربى كبطل للديمقراطية والسلام، فى حين كان وداعنا له بالداخل وداعا هادئا ناضجا به مسحة من اللامبالاة (ضع جانبا الـشماتة). كم كتب بعض كتابنا عن شعبية السادات فى الولايات المتحدة، ولكنه لم يكتب لنا عن شعبيته فى يوغسلافيا أو كوريا الشمالية. عبد الناصر، استوردنا بطولته من أحلام الإنسان العربى، أكثر من واقع المكافِح المصري؛ رسموا  له صورة البطل الأسطورى فى العالم العربى، فاستوردها بعضنا كما هى وأضاف إليها من شطحاته ما شاء. ثم راحت  هذه الصورة المستوردة تفرض نفسها علينا فى الداخل، فنكاد نتمزق بين أحلامهم وواقعنا.

عبرنا الحدود، وغيرنا ما شئنا من النقود، دون سؤال أو إقرار، وأعطونا كوبونات للبنزين وكأنها مقررة بمقابل معقول، ولم أفهم حينذاك لماذا هذا الإجراء، وتصوّرت أنهم يوفرون علينا بذلك نسبة معينة، ومع ذلك لُـمتُ ابنتى ،التى قامت بتغيير العملة، على شرائها كل هذه الكوبونات، فمن يدرى كم سنصرف، وكم سنركب، ثبت بعد ذلك أنى ـ فعلا ـ “أعترض والسلام” (تهمة زوجتى لى باستمرار).

ما كاد نصف ساعة يمضى، أو ربما أكثر قليلا، حتى فوجئنا بالطريق تضيق، والجبال تظهر. ومن أسف أننى اهتممت فى رحلتى هذه بخريطة طرق المواصلات، أكثر من اهتمامى بخريطة التضاريس الجغرافية، وكنت أحسب أنه لا توجد إلا خريطة واحدة لكنى عرفت فيما بعد أن خريطة التضاريس ذات ألوان محددة الدلالات تعرّفنا بمدى الارتفاع فى مختلف البقاع. لم تكن مسألة الارتفاع مجرد مفاجأة غير محسوبة، حين واجهت صعوبة فى سيولة انطلاق السيارة، رغم وزنها المتوسط الثابت، رجحت أن يكون ارتفاع الحِمل فوق السيارة، دون تناسق جانبيه هو السبب فى “عدم السحب”، وربما “عدم الاتزان”. رجحت أيضا، أن يكون السائق (شخصى الفقير إلى عطفكم، ورؤيتكم لا رأيكم) هو السبب، علما بأنى قد سبق لى القيادة فى المرتفعات فى أوروبا ليلا ونهارا دون مشاكل.

أذكر كيف ذات ليلة من فرانكفورت إلى باريس فى طريق “وطنى” (ضيق مأهول بين المدن الصغيرة وداخلها) بدءا من بَعد المغرب، وصولا إلى باريس قبيل الفجر، لمجرد أن نوفر مصاريف إقامة ليلة أخرى فى فرانكفورت. مرّة أخرى، دخلت إلى جبال شامونى بعد لفة كاملة حول بحيرة ليمان( أو لومان) فى سويسرا، مخترقا طريقا شديد الضيق، شديد الصعود. لم أكن أخاف شيئا، ولا شعرت بأدنى صعوبة، فما الذى جرى لى الآن؟. فقلت لعل العربة الصغيرة تختلف عن هذه الحافلة. قلت أيضا: لعله الزمن الطويل بين الرحلة الأولى والثانية (خمسة عشر عاما). وقلت كذلك: لعلها الزيادة المتعددة التجلى: زيادة الوزن، وزيادة الأطماع ، وزيادة الجبن، وقلت أخيراً لعله نذير باحتمال خراب الداخل، وجمود الحركة، بما يواكب ذلك كله من تمادى التصلب. من يدرى؟ هل هو السن؟

مسئوليتى هذه المــرَّة مضاعفة لكثرة عدد الرفاق (الرعية)، وثقل الأمانة. لم أحاول أن أعلن الصعوبة التى أعيشها لمن حولى إلا قليلا..  ابنتى منى يحيى، وهى التى أخذت دور المرشدة فى هذا الجزء من الرحلة، التقطت هذا الداخل ـ أو بعضه على الأقل ـ لست أدرى كيف، فحكت لى تطمئننى بطريق غير مباشر، أن هذه العربة ذاتها قد حَسِبتْها (تـَعـوم) منها ذات مرة قريبة، وهى تقودها فى الطريق من الإسكندرية إلى القاهرة، ثم نسيَتْ ما حَسِبَتْ، فثبتت العربة واتزنت فجأة!! وعلمتُ من حكيها هذا أنها تشير إلى داخلى أنا الآن، وأعطتنى لبانا. أنا لا أحبه، ولا أطيقه فى فمى (أو فم أى رجل) أكثرمن ثوان، طاوعتها وبدأت المضغ، فاعتدلتْ العربة وتوازنتْ. قالت ابنتى لى، أو قلت لها، العربة كان ينقصها لبان لا ضبطا ولا زيتا، ولكننى سرعان ما ألقيت ما فى فمى بعيدا، لم أطقه.ولم تعد العربة للعوم.

نام الجميع من جديد، إلا مرشدتى، كان الليل قد تسحّب حتّى دخل، لم يعد ثم ما يُرى إلا أضواء العربات التى لم تقلل من سرعتها. كنت كلما عبرتُ جسرا طويلا بين جبلين، شعرت بخوف كنت أعيب مثله على زوجتى من قبل.  كنت أعتبر أن من يخاف على نفسه “هكذا”، ومعه آخرون، هو أنانى يعمل حساب قيمة لحياته شخصيا أكثر منهم، ولكننى حين واجهتُ هذا الخوف الآن لأول مرّة، على غير عادتى، الخوف من الأماكن المرتفعة، عذرتها، وفهمت أكثر ما نسميه عندنا (نحن النفسيين) “رُهاب الارتفاع” acrophobia.

كنت حتى هذه اللحظة، ومن أول الرحلة قد ألجمت داخلى بشكل حاسم ، حتّى لا تتسرب منى معالم الرحلة وآثارها فى التشتت إلى قضايا شخصية داخلية أطماعية، ثانوية عامة، سخيفة، قابعة ومتجددة، لمْ…ولا تنتهى. فعلتُ ذلك الكف بوعى شائك؛ حتى أتمكن من أن أقوم بمسئولياتى نحو أسرتى وصُحبتى على الوجه الذى يلزم بلا بديل.

على أننى أسمح لنفسى الآن، وأنا أكتب هذه الخواطر لاحقا، أن أعبّر عن هذا الداخل بما له علىّ، وما لى عليه:

أنا أحب الحياة بقدر أكثر قليلا من القدر الذى يتحرك به فى داخلى الموت، أحس أنه كلما زادت ملاحقة حدّة الموت إلحاحا، وكلما زادت علاماته اقترابا، أندفع إلى الحياة والناس بكل ما أملك، وبكل ما أفعل،  وحين أصاب بإحباط غير محسوب، ومحسوب، وخاصة حين أفشل فى تنافس لا أملكُ أدواته، ولم أختر معركته، تراودنى رغبة شديدة فى التوقف المناوِر حتى أهدِّئ من شماتة داخلى، وأفوِّت عليه إلحاحه. ثم أفوّت عليه فرصة الانسحاب حين يدرك أنه توقـُّف المتحفز لجولة جديدة.

جاءت هذه الرحلة. وكل ذلك حاضر نشط عندى، لا يعلمه غيرى، وإن اطّـلعتْ على بعضه أحيانا ـ رغما عنى ـ زوجتى.

لم أكن أملك أن أتراجع عنها، عن الرحلة؛ وفاء لوعد سابق، وحرجا من كشفٍ محتمل، ولم أكن أملك أن أؤجِّل أىة خطوة من خطواتها، فإيقاعها سريع بطبيعة محدودية الوقت مع طول الطريق وطموح الاستكشاف، وصحبتى معتمدة على خبرتى وحضورى، وما يوحى به وجودى من قدرات واعدة تجعلهم يتوقّعون كل شئ بما يشبه السحر المغلّف لأساطير بساط الريح (جميل ومريح)، دون أن يعرفوا حقيقة ما أعايشه، ودون أن يعلنوا مدى اعتماديتهم صراحة.

أنا أعيش كل ذلك راضيا مختارا منجذبا إلى الحياة؛ هاربا من الموت بداخلى.

تراءى هذا كله أمامى وأنا أرى الجبل إلى جانبى، وعلامة أن هنا منطقة تساقط صخور، وشبكة من الأسلاك، تشبه شباك الصيادين ، لكنّ يبدو أنها من الصلب المتين، مفروشة على بعض جوانب الجبل، قال: ماذا؟. قال: لتمنع سقوط الصخور!!.

وعلى الجانب الآخر، أرى الهوة السحيقة، ويدفعنى اللعين فأدافعه، والعربة بيننا فى حرج بالغ، وتهدأ السرعة، وأبتعد عن الجانبين ما أمكن فى كل انحناء، فأعطل الطريق.

ما أن يعتدل المسار فأعتدل بالسيارة؛ حتى يمرق منى سيل من العربات التى كانت معركتى مع داخلى، وضبطى لحركة عربتى، وحركة وعيى معا، تعوق انطلاقهم. بعضهم ينظر، وبعضهم يعذر. أما الذين معى، فهم يبدون أنهم فى طمأنينة “قصوى” إلى “مهارتى”، حتى زوجتى التى كانت تقوم عنى بمهمة الخوف فيما سبق، فأعايرها بضعفها، كانت هذه المرّة مطمئنة (جدا) لقيادتى وحرصى !! لا يوجد مبرر لأى من هذا  والله العظيم، صدقونى.

وسط محاولاتى المستمرة للضبط، والتحكم، والإخفاء، أسمع بوقا غير مألوف فى عالم الناس المتحضرة، حيث تكفى إشارات الأنوار ليلا، فأتصوّر أن احتلالى لمنتصف الطريق قد ضاق به مَن خلفى، حتى واكب الإضاءة بالنفير لينبهنى. ولكن البوق جاء منغما نغمة ليست غريبة على أذنى، إنها النعمة المصرية التى لم يستطع عبد الناصر أن يصادرها، البوق يردد “يحيا النحاس باشا، هل معقول؟ أميل إلى أحد جانبى الطريق، فإذا بسيارة تمرق فى هدوء نسبى ، وترتفع من داخلها أيدٍ تلوّح لنا فى الهواء. تلوّح بالتحية  فعلا.  ألمح أرقاما عربية على اللوحة الخلفية للسيارة (سوريا:…..5 1 3 7..إلخ)، وأعرف أنهم أبناء العم، لمحوا أرقامنا العربية، ففرحوا بنا كما فرحنا بهم، فانطلقت أبواق التعارُف فتلويحات الترحيب، وأقول مرة أخرى معانِدا كل موقف سابق: “تحيا الوحدة العربية”!! وأنَحى كل “لكن” جانبا، فما كان أحوجنى فى هذا الوقت بالذات إلى هذا البوق وهذا التلويح، وأعود إلى زملاء الرحلة وقد غلبهم النوم فى ظل الطمأنينة  لتى لا مبرر لها(!!)، فأزداد مسئولية وعزما. لكن الظلام يشتد، وأستعين بمرشدتى الصغيرة لتنتقى لنا سيارة نقل، عجوز وقور، تسير بالقرب من سرعتنا (حول التسعين)، فنركّز أبعادنا على أنوارها الخلفية، ونحتفظ بالمسافة بيننا وبينها، وننسى أين نسير، وماذا حولنا، ومَـن خلفنا، وكل ما تفعله سيارة النقل نفعله حرفيا، ومن اقتدى بالخواجة فى بلاد الخواجات فلا خوف عليه، ولا هو يحزن. وتنجح الخطة، وتختفى الجبال والهوّات فى عباءة الظلام، ولا يبقى إلا مصباحان مضيئان. فجأة ـ دون أدنى مبرر أو سابق إنذار ـ يقرر سائق النقل أمامنا أن ينطلق؛ ربما لأنه يحفظ الطريق من قبل، وقد علم أن وعورته قد خفت، أو ستخف حالا، فتزداد المسافة بيننا ولا أساير انطلاقه، بل أنتظر فرجا جديدا (عربة نقل أخرى) تعيننى على ما أنا فيه. ووسط الظلام الحالك لا أدرى إن كنت أسير فى جبل أم فى سهل، ولا إن كان ما بجوارى هوة سحيقة أم حقل أذرة (كنا نسميه صغارا فى بلدتنا الجبل الأخضر حيث قيل لنا إنه قادر على احتواء، فحماية لصوص وقتلة الليل فى ثوان). وأغتاظ من النائمين فخورا فخرا سريا بثقتهم فى مهارتى المزعومة، ومتعجبا من ذلك أيضا، وأزداد بهذه الثقة مسئولية، وبالتالى أزداد قبضا على الداخل – وحين يزيد غيظى عن فرحى وعزمى أتوقف عند محطة بنزين، بمجرد أن شعرت أنى قد سرت لبضعة كيلومترات فى طريق مستقيم، حسبت أنه يعلن باستقامته نهاية المنطقة الجبلية، وكانت الساعة قد جاوزت الحادية عشرة، وتستيقظ القافلة، وأسأل الرجل قائلا: “كوبون؟ (أعنى هل تقبل كوبونات؟). فيقول لى برأسه وبكلمة لم أفهمها أن: لا، فحسبت من إجابته أن هذه الكوبونات التى دبّسَتْــَنا ابنتى فى شرائها على الحدود لها محطات بالذات (قطاع عام مثلا) هى التى تتعامل بها. أما بقية المحطات فتتعامل نقدا بالدينار (وما أحلى وقع اسم العملة اليوغسلافية الخوجاتى: دينار)، وأستخسر دفع دينارات صاحية فى البنزين، ويشير عامل البنزين مستعملا ذراعيه ووجهه وجسمه إلى محطة بنزين تالية، على بعد عشرين كيلومترا ـ كما فهمنا ـ مرددا:”كوبون” “كوبون”، ثم ينظر فى ساعته ويمط شفتيه، ولا نعرف لماذا هذه الحركة الأخيرة. وأفـهِّـُم نفسى أنه يعنى أن المحطة التى تتعامل بالكوبونات تقع على بعد هذه المسافة، ولكن لماذا النظر فى الساعة ومط الشفاه؟. وتحاول أن تفهمنى إحدى بناتى غير ذلك، فلا أسمع لها، وحين نصل إلى المحطة التالية أخرج الكوبونات مباشرة، دون سؤال، فيصرف لى البنزين مباشرة (قال يعنى: أريد أن أحرجه!!)، وأحسب أنى كنت على صواب فى ظنى الأول، إلا أننى أتبين بعد يوم وبعض يوم أنّ ما فهمَتْه ابنتى، وحاولتْ أن تفهِّمنى إياه دون طائل، هو الصحيح، وأن الرجل الأول كان يتصور أنى أسأله: “هل عندك كوبونات”؟. فيقول: “لا” ويشير علىّ بمحطة رئيسية تالية يمكن أن أشترى منها كوبونات، والكوبونات لا تباع للأجانب إلا بالعملة الصعبة، ولا تباع فى كل محطة، بل فى محطات رئيسة محددة. ويبدو أن المواطن اليوغسلافى (أيامها) تُصرف له كوبونات محددة كل مدّة (تموين شهرى مثلا)، بطريقة تساعد على الحد من الاستهلاك، أو تلزم بعدالة معينة، وأضحك من نفسى، ومن مقالب الحديث بالإشارة، وأعيد فهم مط شفتى عامل البنزين، وهو ينظر فى ساعته؛ حيث كان يرجّح ـ فى الأغلب ـ أن وقت صرف الكوبونات قد انتهى فى هذه الساعة، وأحمد الله هامسا: جاءت سليمة بفضل تصرّف ابنتى على الحدود، ذلك التصرف الذى اعترضتُ عليه دون مبرر، فلولا أن كان معنا هذه الكوبونات لما حصلنا على حاجتنا من البنزين. يبد أن زوجتى على حق، فقد كنت “أعترض والسلام”.

يزداد الليل ظلمة، وتقل عربات النقل القابلة للمتابعة، وأسأل الركب أثناء فترة الصحو الاضطرارى فى محطة البنزين: هل نستمر حتى بلجراد ونحن على سفر، منذ ست عشر ساعة متصلة تقريبا؟. فيقولون: “نعم” توكّل. يقولونها وهم يستعدّون للنوم من جديد، ويشتد غيظى، فأنا لم أتعب من القيادة، ولكنهم لا يعرفون ما بى، ولا يحسبون احتمال اانقضاضٍ من داخلى، منتهزا فرصة الظلام والوحدة. ونقف “فى أول استراحة جانبية”، ونفكر فى أن نُخرج بوتاجاز المخيم الصغير، لنعمل شايا ساخنا، وندرس الموقف، فما زال أمامنا إلى بلجراد ما يزيد عن ثلاثمائة كيلومتر. المسألة أن يوغسلافيا كانت فى اعتبار التخطيط للرحلة مجرد طريق، ورؤية استطلاعية عابرة، ولم نكن قد قررنا أن تكون محل إقامة أو تخييم لصعوبة اللغة، وقلّة المعلومات عنها. أقول لهم: ليكن، ولكننا سنصل بلجراد وجه الصباح، ثم إننى  سأقود فى اليوم التالى مباشرة نفس المدة تقريبا، “أكثر من عشر ساعات أخرى”، وربما المسافة ذاتها إلى تريستا (إيطاليا) ففينيسيا، فيقولون: هذا متروك لك، إذا تعبت.

أنا علاقتى بالتعب غريبة؛ إذْ لكى أتعب لابد أن أسمح لنفسى أولا أنه يحق لى أن أتعب. أما إذا كان هذا السماح غير مطروح، فأنا لا أعرف التعب، فأستمر، كيف؟ لست أدرى.  إلى متى؟ أستمر عادة مهما طال الزمن فى حدود دواعى الاستمرار، والعمل.

وهكذا لم أتعب، أو لم أسمح لنفسى بالشعور بالتعب، لكن حسابات طاقتى البشرية التى لا أدرك أبعادها، تخيفنى.

ها هم رفاق الرحلة يصرون على أن يتركوا الأمر لى جملة وتفصيلا، وأكاد أرجح أنهم يفعلون ذلك استعجالا للعودة للنوم وليس نتيجة فرط الثقة فى رأيى وتقديرى، وكنا قد فشلنا فى إخراج البوتاجاز الصغير لعمل الشاى الذى كان يمكن أن يدفئ اليدين والصدر، وربما يحسّن التفكير أيضا، وما إن أنطلق مرة أخرى بالعربة لمدة نصف ساعة لا غير، حتى يفتح الله علينا بتجمّع متوسط لعدد من العربات أغلبها نقـل، وتستعيد عربتنا استقلالها مرة أخرى، فتقرر أن تنضم إلى زميلاتها مؤتنسة بالأضواء المنبعثة من مبنى قريب جميل، فأستجيب لها اتباعا لقاعدة سبق ذكرها، وهى أن الناس ـ والعربات ـ فى حضن الطبيعة لا يجتمعون إلا على خير وجمال ودفء. وأتوقف وأنا أهدهد العربة، وأمسح عجلة قيادتها فى رفق، كما كان يمسح الفارس على شعر رقبة الحصان، وهم يغيّرون الخيل ما بين خان وخان على الطريق، فى روايات الجيب القديمة، أو فى روايات ديستويفسكى. ومنذ بداية الرحلة، كانت هذه العربة قد بدأت تعلن شخصيتها المستقلة، وتتلقى عواطف من حولى، ثم عواطفى حين أنفرد بنا الطريق، ولم يعد يقظا إلا أنا وهى طوال الرحلة.

حضرت العربة بشخصيتها الإحيائية منذ ركبنا المركب، ونحن جلوس فى القاعة الكبيرة المكيفة الهواء، حين قالت لى زوجتى “إنى أحس بشفقة حانية على عربتنا”، وظننت أنها تشفق عليها من عددنا أو من الحمولة المنتظرة، فسألتها إيضاحا، فقالت: ها نحن نجلس وسط كل هؤلاء الناس فى النور والمؤانسة، وهى تحت وحيدة فى البرد والظلام. ونظرتُ فى وجهها (وجه زوجتى) لأضحك، إلا أننى وجدتها جادة أشد الجد، فحبست ضحكتى وصدّقتها، ونسيت هذا الحديث، لكننى عدت أذكره حين بدأتْ هذه الصداقة الخاصة تُعدينى، فراحت العربة تفرض شخصيتها علىّ، فتنمو صداقة جديدة  بينى وبينها، ربما من خلال يقظتنا معا، فهى الوحيدة التى تظل مستيقظة معى طول الوقت تحت كل الظروف فى كل الطرق. كان عندها ـ العربة ـ كل الحق فى وقفتها تلك . سرعان ما تبيّنا أن المكان هو “موتيل” ومقهى فى حضن الجبل، وأنه متوسط فى الطريق بين الحدود ومدينة “نيش” (أكبر بلدة تالية على الخط الرأسي)، وأنه ملتقى  قائدى الليل، وخاصة من سائقى عربات النقل، سواء كانوا قد مالوا، ثم يواصلون السير ليلا، أم أنهم سوف يستريحون هنا حتى الصباح،. قررت فجأة أن نمضى ليلتنا فى حضن هذا الجبل وسط هؤلاء الناس، ووافقونى دون نطق حرف واحد.

الحجرات  نظيفة بسيطة، بها الماء الساخن والبارد والحمام الكامل المستقل، وسعرها زهيد زهيد.

كان هذا هو أول موتيل نبيت فيه، ولم أستطع أن أدرك حينذاك هل هو زهيد؛ لأنه فى بلد اشتراكى. أم أنه كذلك؛ لأن هذا هو نظام الموتيلات عندهم، أو لأن رواده هم من سائقى النقل المتسببين، وليسوا أصلا من السياح القادرين.

بعد أن استقرت الحال فى الحجرات واطمأننا إلى نومة مريحة، وحمام نظيف، وماء دافئ، وإفطار واعد، ذهب الأولاد إلى حجراتهم ليناموا أو يتسامروا. نزلتُ وزوجتى إلى الصالة الكبيرة، وأخذنا نتأمل قادة قوافل الليل وصخبهم وشربهم وضحكهم وانطلاقهم وبساطتهم وقوتهم. قالت زوجتى إن هذا الجو يذكرها بشئ ما فى فيلم زوربا اليونانى، ولم أسأل ماذا تقصد، ولكن وصلنى ما تعنيه. أحس أن هذا وجه آخر (غيرالعواصم والمدن) شديد الأهمية لما هو “أوروبا “. أسميه “أوربا الأصل”، يشمل ذلك أوربا الجبل، وأوروبا القهوة الّدوّار المرحبة على الطريق، السائقون على الفطرة، الضحكة المجلجلة دون غيبوبةِ السـُّكـْر، أو سجن المحافظة، العالم الصغير المتغيّر أبدا، وأحسست بصاحب الموتيل، وكأنه فرح بنا لأننا لسنا من زبائنه المعتادين. وعلى السلالم، قابلتُ بعض أطفال الأسرة السورية التى حيّتنا فى الطريق.

حين خرجت لأحضر بعض حاجاتى من العربة كان الرذاذ قد بدأ يتساقط.

بدأت أشم رائحة الجبل،.للجبل رائحة قوية حنون، فملأنى ما ملأنى.

قلت لزوجتى فى فرحة: “هذا هو… هذا هو.”.   ولم تسألنى ماهذا الذى “هو”  “هو”.

 

الفصل الثانى

بعد ظهرِ يوم سبتٍ حزين

 وعلى المائدة الأخرى، يوجد شاب وفتاة لا

يتكلمان، وكأنهما قد أحاطا “بكل شئ”، فلم تعد

ثمة حاجة إلى مزيد من كلام، أو كأنهما قد أدركا

– لكثرة ما تكلما- أن الكلام لايفيد، أو كأنهما قد

اتفقا على يأسٍ مشترك يجمع بينهما بعد أن فقدا

أملا مشتركا ما.

لمَ هذا؟. لماذا؟.

 24 أغسطس 1984، مساء:

مازلنا فى”موتيل” الجبل. الأولاد سبقونا إلى النوم. زوجتى وأنا نأنس بأجواء “زوربا” اليونانى، على الرغم من أننا لم نعد فى اليونان، بل نحن فى اليونان رغم أنف النظم السياسية والاقتصادية والأمم المتحدة. الطيبة هى هى، والدفء الوجدانى والأصوات العالىة دون إزعاج، وتعبيرات الوجه “الحاضرة” دون أدب زائف، نفس الناس، هم هم. تلوح فى خيالى صورتا شخصين لا أعرف شكلَ أىٍّ منهما: د. نعيم عطية، وكازانتزاكس.

حين سألت صاحب الموتيل إن كان بإمكانى أن أدفع الحساب بالدولار، وأجابنى بالإيجاب. ثم راح يحسبها بعقـله الصناعى الصغير ذى الأزرار، تعجبت لقرب السعر الحر (السوق السوداء) من السعر الرسمى فى بلد اشتراكى، وقلت: لعـل فى الأمر خدعة، ولكنى لم أسمح لنفسى بالتمادى فى الشك. فالوجه أكثر سماحة، والصوت أكثر وضوحا من ألعاب الخداع والشطارة. مضيت أسأله عما يمكن أن نراه أثناء مرورنا العابر “جدا” ببلجراد. فراح يفكر ببطء نسبى، وقد كنت أحسب أن الرد جاهز (كما هو عندنا مثلا) ثم قال: تزور “قبر تيتو مثلا”. فابتسمتُ، فابتسمَ، فشجعتنى ابتسامته على أن أزيد من مساحة الضحك، فـتشجع بدوره، وضحك. وكانت لغة الحوار (الابتسامة- فالضحك) تساعد لغتنا الإنجليزية المتواضعة التى نتفاهم بها. قلت له: لا، شكرا، “عندنا قبر عبد الناصر”. وهنا قهقه مضيفى قائلا: “يكفى كل شعب من شعوبنا قبر واحد لكل منهما”. وربت على كتفى- مع أنه أصغر منى بكثير- فأحسست بيده حانية كأب طيب. ما أحوجنى دائما إلى الأبوة من كل الأعمار، أعرف ذلك عن نفسى، لاأجده ولا أرفضه، وأروح إلى الاتجاه الآخر أمارس أبوتى لكل من حولى، متى أكف عن هذا الجوع الذى لا يتوقف؟ (أنظر – إن  شدت – الترحال الثالث الفصل الأول والثانى). شعرت أن التفاهم البدنى – تعبيرات الوجه والإشارات، بالأيدى، وحركات الجسد تقربنا من بعضنا البعض، من هؤلاء الناس، هل هم ناس البحر المتوسط، أم ناس البلقان؟ الأمر يختلف كلما صعدنا شمالا، حيث تزداد المسافات بين أجساد البشر؛ حتى يصبح جسد الآخر، بل نظرة عينيه إذا طالت، من المقدسات المحظور الاقتراب منها. نعم.. هناك فى أقصى الشمال عليك أن تحافظ على المسافة، ودرجة الانحناءة، وأن تغض البصر، وتتقن الهمس المهذب؛ حتى تنقلب كلمات المحادثة إلى كرات صغيرة من الجليد الهش.

انتهى حديثى شبه السياسى مع صاحب الموتيل، وقلت فى نفسى: إن يوجسلافيا ربما تمر- الآن- بحالة تتمطـّى فيها بعد موت تيتو، فوجود زعيم مثله، له كل هذا الثقل.. ثم اختفاؤه، لابد أن يسمح للناس وهم يتزحزحون من تحت عباءته السميكة: “بالتمطى”، ولاأحد يعلم ماذا بعد التمطى. هل هو نوم جديد، تحت ثقل جديد، بحكم العادة؟. أم أنه مشى، فوثب، فانطلاق، إلى عالم الحركة، الحركة والإبداع؟.

بجهد متوسط،استطعت أن أوقف غلبة التساؤلات السياسية دون آمال الوثبة الواعدة.

عدت أواصل- فى صمت- مشاركة زوجتى وفرسان الليل بعض ما يجرى، ثم صعدنا للنوم، وهواء الجبل يغسل كل خلية من خلايا وجودنا.

كان النوم عميقا وهادئا، رغم أن أحلامى لم تتركنى أتعمق أكثر فيما أنا فيه؛ إذ مر بى طائف جعلنى أحلم بوضوح: “أنى “أخطب”، وأنا أشرح “لأحدهم” كيف أن القطاع العرضى فى أجسادنا يشبه فصوص البرتقالة!!. ثم كيف- لذلك- أننا نستطيع أن نلم أجزاءنا إلى  بعضها بعد تقطيعها إلى فصوصها، نلمها فنصبح وحدة جديدة قادرة على الغناء (نعم: الغناء وليس البناء).

لم يكن حلما مزعجا، ولكنه كان غريبا غير متوقع. بالذمة: هل هذا- هنا- وقُت تقطيع ولحام..؟ (لاحظ التاريخ مرّة أخرى، نشرهذا الحلم هكذا عدد يناير-مارس5891، مجلة الإنسان والتطور، هل كان حدْسا بما حدث فيما بعد؟).

لم أفسّر الحلم آنذاك، لا تفسيرا شخصيا، ولا تفسيرا سياسيا. أنا لا أفسّر    أحلامى عادة، ولا أحلام مرضاى، فقط أمعن النظر فيها، مادامت لغة الحلم هى الصور أساسا، فلماذا نسارع بترجمتها دون تأمّلها كما هى.

أحلامى- عموما- تنبهنى إلى كثير من خداع ما أتصوره فى يقظتى. فأحيانا ما أتصور أننى تمام التمام، وأنا أتخذ قرارا ما برؤية واضحة وتبرير سليم، فأزعم أنى قد تصالحت مع كل شىء، حين فهمت كل شئ وعـلمت كل شئ “حتى لا أسائل واحدا عن علم واحدة لكى أزدادها”. (صبّحك الله بالخير يا عمّناالمتنبى). وقد أكون قد تصورت أننى قد أتممت زرع كل شىء، ولم يبق علىّ إلا الحصاد،!!!. ثم أفاجأ أنى أحلم فى ذات الليلة بمعارك مع وحوش أسطورية لا يحمينى منها إلا اختبائى وسط زواحف بلا معالم واضحة!!. وحين أصحو وأتذكر، أُخرج لسانى ساخرا لهذا الوهم الذى لاح لى أثناء يقظتى حين صـّور لى أن أمورى قد استقرت، وأن الحلول    اقتربت، وأن الحصاد وشيك، وأنى تمام التمام فى طريق التكامل والعقبى عندك!! الحلم أصدق أنْباءً من الوهِم.

حلمت أخيرا بعد عودتى من هذه الرحلة، (التاريخ يناير 1985) بعد أن تصورت أن داخلى قد استقر على “يقينٍ ما”.. حلمت أن أنثى قرد حامل قد دخلت معركة غير متكافئة مع وحش أسطورى، فبقر الوحش بطنها قبل أوان ولادتها بكثير، وإذا بمحتوى بطنها يـُخرج قردة صغيرة قادرة على الجرى، والحياة مستقلة ، لا تحتاج جتى لـلرضاع من أمها القتيلة.

العجيب أن أعمار وأحجام الذرية (القردة الصغيرة) كانت متفاوتة رغم كل حسابات علم الأجنة، إذ كيف ينمو أحد الأجنة أسرع من قرينه فى البطن نفسها، فى الوقت ذاته؟

حلمت هذا الحلم فى الوقت الذى كنت أعلن فيه لنفسى أنى تصالحت مع بقيتى تصالحا واكب دخول أصغر أولادى الجامعة، الأمر الذى صوّر لى أننى تخلصت من حسابات ومخاوف لعبة “مستقبل الأولاد”. وحسابات الثانوية العامة.

يستطيع القارئ أن يرى فى هذه الأحلام ما يرى، فهى بعض رحلات الداخل. لا أقدّم لها تفسيرا. لا أريد أن أفعل. أولى بالحلم-على الأقل- أن يمْثُل مثولا هكذا بنبضه دون ترجمة أو تأويل، وأكتفى بأن أستنتج أن نتائج هذه الرحلة كما تراءت لى فى حدود وعيى الظاهرى، ليست هى حقيقة ما وصلنى. إنها أعمق وأخفى حيث لا سبيل إلى معرفة ما ترتب وما تبعثر فى الداخل إلا باختبار الزمن، وتغير نوع الإنتاج. و لعل بعض ما أكتب الآن هو من نتائجها الممتدة.

السبت: 25 أغسطس 1984:

استيقظنا فى الصباح الباكر دون “منبه”، وتمتعنا بالماء الساخن الذى انتهزنا فرصة الحصول عليه دون توقع لنقوم جميعا بالاستحمام احتياطيا تحسبا لقادم المفاجآت فى الطريق أو المعسكرات. من يدرى متى نجد الماء والستر ناهيك عن الليفة والصابون. تناولنا إفطارنا، وثمنه متضَمَّن فى أجر الحجرة الزهيد. وكانت مفاجأة أكثر إبهاجاً للأولاد جعلت كل واحد منهم يضع يده على جيبه فرحا، وكأن رأس ماله قد زاد ثمن الإفطار بضربة حظ طيب، فضلا عن أننا نجلس حول مائدة لها كراسٍ تضمُّـنا جميعا، وأكواب الشاى والقهوة تدفئ أيدينا و معداتنا وأرواحنا.

كانت السماء مازالت تمطر رذاذا يشتد أحيانا، ويخف حينا، وبدت الفرحة بالمطر (التى جعلتنى أصيح أمس “هذا… هو”) غير مناسبة، لأنها كانت مساء أمس فرحة، ونحن فى “حالة إقامة”. أما السفر “فى المطر فى الجبل” فهذا شئ آخر.

كان آخر عهدى بالسفر فى المطر (بلا تلافيف جبلية) وأنا أقطع الطريق بين باريس وبروكسل. تذكرت الآن كيف تعودت وقتها بسرعة على حركة المسَّـاحات ورخات عجلات السيارات التى تمرق أمامى وهى تتخطانى، فأمـِلتُ  حالا أن أتغلب على مخاوفى التى تحركت بالتعود بعد قليل. لكننى هذه المرة أرصد صاحِبى المتربص بداخلى وهو يتلمظ ويفرك يديه، فأزداد رهبة، فأكتـُمُـها عن صحبة الرحلة، وهم يذهبون ويجيئون ويُحكمون رباط غطاء الحمولة فوق ظهر العربة، وقد ارتدى كل منهم المعطف الخفيف المانع للمياه، ذا غطاء الرأس المحكم، وكأنهم يعيشون فى بلاد ممطرة طوال العام. أعجبتنى قدرة السن الصغيرة على التكيف الأسرع، دون سجن الاعتياد أو وصاية الفكر بالحسابات الجبانة. ولم يكن ثَمَّ بديل عن مواصلة الرحلة، وفورا. فأى انتظار لتوقف المطر هو جهل بطبيعة أوربا وطبيعة الجبل. فالأمطار قد تطول أياما، أو قد تنقشع بعد دقائق بلا شروط ولا إرهاصات.

تحركت الحافلة الصغيرة فى الصباح الباكر، وبعد دقائق- بدأت أعتاد على المطر، وحركة المسّاحات، ومروق العربات السريعة بجوارنا. وموجاتها المتناثرة من تحت عجلاتها إلى زجاجنا الأمامى، وتعجبت- مرة أخرى- لهذا التأقلم السريع الذى قهر كل حساباتى وترددى. وبدأ الأولاد يغنون مشاركين هذا الجو الصباحى المنعش.

كنت قد نسيت فى الجزء الأول من هذه الخواطر، أن أشير إلى أغانى الرحلة، ودورها الهام كأرضية مميزة لتجمُّعنا الصغير. ويمكن أن أرجع عزوفى عن ذكرها إلى خوفى من عجزى، عن أن أنقل روحها وأنغامها، وهما الأهم من كلماتها. بصفة عامة.. فإن أغانيهم الجماعية كانت تعـِلن بداية يقظة، أو رغبة فى مشاركة، أو انطلاقة فرحة، وأحيانا: استعدادا لنوبة نوم تالية. وكان من ألطف اللغات الخاصة التى ابتدعتها الصحبة، هو أن يقول أحدهم (عادة أصغر الأولاد) من فور يقظته، أو بعد صمت ثقيل: “تم ترارارم”. فيرد عليه أحدنا: “تم..تم”. وكنا نعتبر أن هذه العلامة هى إشارة أو دعوة للمشاركة فى أغنية قادمة، ويحدث، لكن أحيانا تكون هذه الإشارة هى بمثابة أغنية كاملة فى حد ذاتها، فنروح نكررها بأنغام مختلفة، ثم:…نضحك.

وقد لاحظت أنه – فى أغلب الأحيان – لايوجد أى تناسب بين الأغنية التى تنطلق، وبين الموقف الذى نعيشه، أو المنظر الطبيعى الذى يحيطنا ونخترقه ونـتجدد معه وبه. وفى بداية الأمر، كنت أرفض هذا التناقض، وأشعر أنهم منفصلون عنى وعن الرحلة، ولكنى رويدا رويدا أصبحت أشعر بأن تلقائية داخلهم هى أصدق من حسابات فكرى.

مازلنا نغتسل بالماء الهابط مباشرة من رحمة رب الأكوان، فنكاد نهز أجسادنا ورؤوسنا بما حولها من ريش ووجدان يقظ، كديوك نجحت فى عبور ترعة ذات ماء جار. فالمساحات تتسع وتتماوج بنا ومن حولنا، وأرواحنا تتفتح لاحتضان ماننهب من أرض وسماء ومابينهما. ولاتمضى سوى دقائق ونحن نستبشر الخير متصاعدا حتى تعلن زوجتى نسيان سترتها على مائدة الإفطار. ولـلعجب: لانضطرب ولا نضجر- على الرغم من ضيق الطريق، ولهفة مواصلة السير، وندور حول أنفسنا بصعوبة بالغة، ولا تعترض على الرجوع للبحث عنها إلا “حافلتنا الطيبة” (سأسميها بعد ذلك أحيانا: الأتوبيس) التى كانت قد بدأت تروض نفسها على الإىقاع الجديد للظروف الجديدة، ويبدو أنها كانت قد برْمَجت نفسها للمضى قدما دون توقّف، فراحت تتلكأ ونحن نلوى عنقها فى الاتجاه المضاد، ولكنها ترضخ – أخيرا – على مضض؛ لنعود من جديد إلى الموتيل دون لوم أو أسف، ولكن بخوف يقظ، ونشوة غامضة، وتنطلق المجموعة:

توتو… نَىْ،…. يا توتو…. نَىْ

حـَطّ إيـُدهْ على إيدى

أبويا راجل صعيدى

يضربك.. تصعب علىّ

أىْ

توتو… نَىْ،…. يا توتو…. نَىْ

بالذمة ما المناسبة؟. ونعثر على السترة، بل نكتشف أن زوجتى كانت قد نسيت حقيبتها أيضا، بما كان فيها من جواز سفر وأوراق هامة ونقود قليلة، ويعطونها إياها بفرحة، فنفرح بدورنا لأمانة الناس وطيبتهم، ونعود وقد زاد إشراق الصباح دون أن يتوقف المطر أو تظهر الشمس، وتنطلق المجموعة:

المعزة عزيزة… يا حصـُّول

اللى ببريزة… ياحصـــــُّول

جت مِنْ ورانا…. على غفلة

كلت السراير….. يا وِلداه

والكل مسافر…… يا وِلداه

وتحضر معنا نيللى، وصلاح جاهين داخل العربة، وتهب روائح رمضان، ونترحم على الفوازير التى هى “بحق وحقيق”.

لعل القارئ قد شاركنى شعورى نحو هذه الأغانى وتوقيتها، وعدم التناسب الظاهر بين كلمات الأغنية ومثيرات الخارج، ولكنى أؤكد احتمال أنه “عدم تناسب” “مناسب”. فهو عدم تناسب ظاهرى فحسب؛ إذ يبدو أن ثمة علاقة أكثر عمقا وأدق حساسية بين الداخل النقى والخارج الفطرى، علاقة أكثر حساسية وأعمق ارتباطا من منطلق الألفاظ وتسلسل الأفكار. وأتذكر كم نفرض الوصاية أكثر فأكثر على تلقائية الأولاد، فنحجر على حدس خيالهم وشطحات عدم ترابط منطقهم، إذ نقدم لهم فنا مسطحا، وقصصا تافهةً، تحت عنوان النصح والإرشاد.

حين كنت حول السابعة، أو ربما السادسة، كان يحضر لنا كل سنة، من بلد مجاورة (العطاعْطة)، شيخ وديع اسمه “عم عطية” يعقّب البرسيم، وكنت أنتظره بشوق من العام إلى العام. حيث كانت حكاياته أعمق وأطول وأهدأ وأكثر طرافة من حكايات عم “شعبان”، الذى يأتى كل ليلتين يدير الطلمبة “الماصة كابسة”، لملء خزان الماء فوق البيت، حفظت حكاياته؟ هك شعبان كلها بعد تكرارها عدة مرات. كنت أعرف لعم شعبان هذا اسما آخر لم أتحقق من أصله وما يشير إليه إلا بعد سنوات، فقد كنت أسمع من يلقّبه أنه “جوز اللومانجية” (لم يكن سبابا. كان مجرد تمييز له عن شعبان آخر). تبينت بعد سنوات أن زوجته كانت قد سُجنت لعدّة سنوات فى لومان طرة فى جريمةٍ ما، وكان عم شعبان هذا يعمل فى أكثر من عمل معا لثقة أهل بلدنا فى قوته البدنية، فكان يدير هذه الطلمبة الماصة كابسة ليلا بالإضافة إلى أعماله المتعددة نهارا، أما عم عطية فكانت له حجرة فى “البدروم”، يقوم فيها بتعقيب البرسيم (تعقيب البرسيم هو غربلة بذوره بطريقة فنية لفصل الخفيف من الثقيل ، والقِشر من الحب)، كان يعمل طول النهار وبعض الليل، وكنت أسمى الحجرة التى يعمل بها: حجرة عم عطية، رغم أنه كان لا يشغلها إلا بضعة أسابيع كل عام، وكانت وحدته ورضاه وهدوؤه وهو يهـز “الغربال” بين يديه فى رتابة حكيمة، دون ملل، جزءاً من روح حكاياته، وكأنه هو شخصيا أحد أبطالها. وكنت حين أطلب منه أن يحكى لى حكاية يسألنى: عايز “مَثل” ولا “حدوتة. – وكنت فى البداية – لا أعرف الفرق بين المثل والحدوتة، ثم تبينتُ أن المثل -دون الحدوتة- هو حكاية قصيرة مركزة تنتهى عادة بحكمة واضحة المعالم، أو تفسر قولا شائعا، وما زلت أذكر”مثل” الرجل الذى ورث ثلاثة أكياس ذهب. وفى موجة حماسة وتحد وحب استطلاع اشترى بها ثلاثة حِكَمْ، من شيخ عجوز، اشترى بثروته كلها ثلاثة أمثال هى: (1)” إمش سنة ولا تخطى قنا”. ثم (2) “حبيبك حب ولو كان دب”، وأخيرا (3)”من آمنك لم تخونه ولو كنت خاين”. وتمضى الحكاية وصاحبنا نادم أشد الندم على تهوره، ولكن الأحداث تُظهر له كيف أن كل مثل-حين طبّقه فعلا عيانيا فى الوقت المناسب- قد أنقذ حياته فى مأزق بذاته. من وقتها تعلّمتُ كيف أن “الكلمة” إذا حملت معناها أدّت أمانتها، بأن تكون فعلا واقعا، الكلمة – هكذا – هى أغلى ما فى الوجود، وقد تنقذنا من المهالك.

رحت أذكر بالذات المثل الأول “امشى سنة ولاتخطى قنا”. وأنا أمضى بحافلتى الصغيرة فوق الجسور المعلقة، وداخل الأنفاق، وأعتذر فى سرى مخاطبا عم عطية فى سرى: بأن “الدنيا تغيرت ياعم عطية فسامحنا”. ومع سرعة إيقاع المثل وتركيزه على الحدوتة. فقد كنت أفضل دائما الحدوتة؛ لأنها أطول وأقل مباشرة وأثرى خيالا. وكلما تذكرت أستاذية عم عطية وتلقائيته الإبداعية، قارنت بينها وبين برامج الأطفال وقصص النصح والإرشاد التى نبالغ فيها بالوصاية على خيال أطفالنا. وأسفت، ودعوت الله أن يهدى أولئك المسئولين عندنا عن برامج الأطفال ومطبوعاتهم؛ حتى ينسوا بعض “واجبهم الفضائلى” لحساب تنمية حدس خيال الأطفال التلقائى، فيقدمون لأطفالنا فنا بحق، حتى لو بدا هذا الفن لحساباتهم “بلا معنى”. فالفن الملئ بالمخوفات ليس سيئا، ولا هو مُـضر، ويستحسن أن يقدم لأطفالنا هكذا (دون حذف)؛ لأن إسقاط الداخل بمخاوفه و”لامنطقه”، وحتى بشاعته المزعومة، فى خيال قصصى، أفضل من حبسه وراء حاجز من فضائل مصنوعة، المهم ألا نتدخل بمنطقنا العاجز فى تلقائيتهم الحلوة، يا “حصـُّول”!!.

وتنطلق العربة، وتمرق من أنفاق صغيرة غير مضاءة بدرجة كافية، وأسأل مرشدتى الصغيرة التى عليها الدور، “منى السعيد”، أن تنظر فى الخريطة لترى متى ينتهى الطريق الجبلى، فتقول لى إنه لن ينتهى قريبا، فالخطوط الحمراء البُنية مستمرة، وأن ثم “أوتوستراد” ينتظرنا بين أغلب الطريق من “نيش” إلى “بلجراد”، ولا أكاد أصدق ماتقول حتى تستقيم الطريق وتنبسط، ضد فتواها المعتمِدة على ألوان الطرق لا التضاريس، وأجد نفسى أسير وسط حقول من الأذرة على الجانبين.

تذكرنى حقول الأذرة بالذات ببلدنا قديما (قريتى شخصيا)، وتذكرنى أكثر بطريق شُقّـت حديثا بين قليوب ومنيا القمح، وأقول عكس ماقال أولادى، عندما وصلوا إلى أثينا،: “لا… ليسوا مثلنا”. فأقول أنا معاندا: “ياه..!!. كم هم مثلنا”. مادام عندهم أذرة لها “كيزان” فهم مثلنا؟.

كان أول عجبى من مثل هذا فى العام الماضى، وأنا أشاهد الأذرة فى الطريق (الوطنى) الجميلة بين جنيف ومونتريه، وأستطيع أن أفسر جزءا من عجبى هذا بأنى تعودت أن أعتقد أن أكل خبز الأذرة، متصل بالفقر، حيث كنا نصف الغنىّ بأن خبزه “قمح صافى”. أما خبز الأذرة بالحلبة فهى أكل عامة الفلاحين (المزارعين). فلماذا يزرع هؤلاء الخوجات الأغنياء الأذرة، مع أنهم قادرون على أن يأكلوها “قمح صافى”؟.

المهم: آنستنى حقول الأذرة، وتيقنت أنه لا جبال ولايحزنون، كما قالت المرشدة الصغيرة. هذه السهول المرتبطة بالأذرة المزروعة تصور لى أن الأذرة لا يمكن أن تزرع إلا فى حقول منبسطة مثل بلدنا.

رحنا نتـعجب من يوغسلافيا هذه- مثل سائر أوربا-حيث تبدو لراكب السيارة من أمثالنا بلدا زراعيا فى المقام الأول، ومع اختلاف النظم الاقتصادية والسياسية. فأوربا هى أوربا، والزراعة تملأ كل شبر من أرضها، بل كل سنتيمتر، ولا أستطيع أن أضع -فى خيالى طبعا-حدا فاصلا بين قطاع عام وقطاع خاص وقطاع تعاونى!!. بين أرض الدولة وأرض الناس. فالأرض لابد أن تزرع كلها تحت أى اسم وأى قطاع، حتى يأكل كل الناس، وليتشاجروا بعد ذلك على توزيع ما يتوزّع، وحتى لو ألقوا بالمحاصيل فى البحر ليحتفظوا بسعرها، فلن يدوم الجنون طويلا، المهم أن تزرع الأرض كل الأرض، ويارب اجعلْ بلدى ممطرا حتى نزرع غصبًا عنا. ولكن من يدرى، لعلنا حينذاك لو أمطرت طول العام (مثل ما هو الحال فى السودان!!!) نتركها للشيطان والفيضان، فتمتلئ بالأعشاب والمستنقعات، ونسافر نحن نرفع قصعة الخرسانة على أكتافنا المتبلدة فى بلاد النهر الأسود تحت الأرض فى قيظ الهجير؟.

تمضى السيارة أسرع فأسرع مع انبساط الطريق، وتمضى أفكارى أسرع فأسرع مع انطلاق الخيال. أحاول أن أطرد المقارنات والحسرة لألقى بنفسى فى بحر الخُضرة التى أخذتْ تحتوى حواسى من كل جانب. ثم ما هذا الزحام المتزايد فى كل الطرق بلا استثناء؟. وأنواع المركبات الذاهبة والعائدة لا رابط بينها. فمن سيارة “سبور” تجر قاربا أو “كارافانا”. أو حتى “يختا” إلى كاميون كأنه مخزن عملاق متنقل، أو منزل صغير متحرك، ثم إننا فى نهاية الصيف، ولابد أن الإجازات قد قاربت على الانتهاء أيضا، لكن الزحام كان حقيقيا ومتزايدا.

لاندخل “نيش”، وننحرف إلى الشمال فالغرب نحو بلجراد، ويبدأ الأوتوستراد، ويبدو أنه لم يكتمل بعد. ها هى يوغسلافيا تحاول أن تطلق سراح المرور البرّى بها، فتربط بين مايسمى الشرق، ومايسمى الغرب بموقعها المتوسط وطبيعتها الفريدة. وإن كنت- بينى وبينك- لم أكن قد وعيت بعقل الطفل الفلاح المصرى أىة فروق  حقيقية بين أى غرب وأى شرق،  فكلهم خواجات،  وخواجة يعنى “بلاد برّة” ودمتم، وسبحان مغير العقائد، ومقسّم البلاد بفضل الحروب والحكام والغباء والأيديولوجىا!!. وأفرح بالسير السريع (نسبيا) فى الطريق السريع (يعنى!) بعيدا عن الجبال والأنفاق والجسور والمفاجآت، إلا أننى بعد قليل أملّ مللا متزايدا، فكثرة العربات المارقة من جوارى، وتزايُد السرعات على الجانبين ورتابة المناظر حولى، جعلت السفر-هكذا- أشبه بالحدث المكرر حتى الجمود. هذا الشعور لا يأتى إلا فى الطرق السريعة (الأتوستراد). أما الطرق الوطنية التى تعبر القرى، وتُكثر من الالتواء والصعود والهبوط، فإنها تدعو دائماً إلى الحوار والمؤانسة.

تتوقف الطريق دون إشارة إلى ما يدعو إلى ذلك، وتطول الوقفة، وينزل أصحاب السيارات يتمطون ويتساءلون، ويستقيظ أولادى الذين كانوا قد بدأوا فى النعاس؛ ربما نتيجة للملل -مثلى- من الطريق السريعة، أو بحكم ما اكتسبوا من عادة فى    هذه الرحلة بالذات كما أشرت مما حرمنى  من الشعور بمشاركتهم إياى بعض ما يهزنى هزا مما أراه حولى متجددا أبدا. هذا ثمن صحبة العيال، علما بأن الكبار أصعب . ما علينا. أنزل أستفسر، ويجيبنى بعض قادة السيارات المجاورة من أصحاب الخبرة بأنه إما تصليح فى الطريق، وإما حادث تصادم. وتطول الوقفة فأتطلع إلى أرقام السيارات وأنا أتجول بينها، أحاول أن أتبين جنسياتها، فلا أستطيع. فكلها حروف وأرقام متشابهة، فأتطلع إلى الوجوه لعلى أنجح فى أن أخمن نوع الجنسية-حتى مع التقريب لأقرب بلد صحيح!!-وتلوح لى خلفنا بعدة عربات حافلة صغيرة قديمة نوعا ما، يركب فيها ركاب يجذبون نظرى فى الحال؛ فنساؤهم يغطين الرأس وبعض الوجه “بالإيشارب”، فأتصور أننى عثرت على مسلمى يوغسلافيا ممن أسمع عن كثرتهم وتمسكهم بديننا بشكل أو بآخر، فأتقدم نحوهم للتعرف والتحية، ومعى بعض الأولاد، ويقفز حاجز اللغة فيحول دون أى تفاهم، فتبدأ الاشارات. أشير إلى أرقام عربتى وحروفها باللغة العربية، فيبتسمون، فأحمد الله على بداية أى شىء، وأواصل، فأقول بالعربية: “مُـسلمْ”، فتنفرج الابتسامة عن ضحكة مرحبة فرحة، ويقولون: “مُـسلمْ”، فأمسك خيط اللغة الجديدة وأقول: “لااله إلا الله” فيردون: “محمد رسول الله”، وأطمئن إلى هذه الخطوة الناجحة. لم يبق إلا التعرف على الجنسية والوجهة، فأتبين بعد جهد جهيد أنهم ليسوا يوغوسلافاً، وإنما من تركيا، وأرجح أنهم فى مهمة عمل، لا سياحة ولا استطلاع. فقد كانت حمولتهم تشير إلى ذلك، كما كانوا فى حالة أقرب إلى الاستسلام المشوب بحزن متواضع يمنعنى من أن أتصور أن ثمة سياحة، أو عسكرة، أو إجازة، وترفض زوجتى أن يكونوا أتراكا هؤلاء “الغلابة”؛ فقد تعودنا على أن التركى هو السيد الحاكم المتغطرس (الغبى، كما نصوّره عادة)، وأن التُّركيات هن الـــ “جلفدان هانم” أو السيدة “شمردل” (بل: مدموازيل شمردل يا بغـلة !!) أما هؤلاء الناس، البسطاء الحزانى المستسلمون لـلوعد والمكتوب، الساعون إلى أرزاقهم فى بلاد الفرنجة عمالا أو ماشابه، فهم ليسوا أتراكا حتما، حتى لو قالوا إنهم كذلك. وهكذا أعاود التفكير فى معانى الألفاظ التى تتغير بتغير التاريخ والجغرافيا.(وأكتشف الآن أنهم ربما كانو تركا أكرادا لاتركا أتراكا. يبدو أننى ما زلت أرفض أن أرى التركى غير السيد إياه. – أفندم).

تحرك الركب بطيئا، ثم تزايدت السرعة تدريجيا. وحين وصلنا إلى السبب الذى عطلنا، تبين لنا أن ست عربات (تقريبا) قد أصبن بالقلب والتحطيم والانحراف والخراب والتلف…، لكل حسب قَدِرهْ، نعم. حسب قَدَره، وليس حسب خطئه. فالمسألة فى حوادث الطرق السريعة لاتتوقف على المخطئ فحسب، وإنما على حسابات القدر أيضا، وربما قبلا. تصيب الحادثة كل من تصادَفَ أن جاوَرَ السبب أو المتسبب، كل من حاذاه أو تبعه أو اقترب منه، أو حتى حاول تفاديه، ولم تُتَحٌ لى فرصة طويلة لـلتأمل فى الوجوه والتفاعلات تجاه هذا الحادث المتعدد الضحايا، ولا أنا حاولتُ ذلك، تعلّمتُ أن الحوادث تغرى بالحوادث. لمحتُ (أو تصورت) أن الوجوه الناجية والعابرة المحيطة بالحطام والضحايا، بدت لى أقل تفاعلا من توقعاتى. تعبيرات لا تتناسب مع حجم الخراب ومنظر الإصابات، وبدهى أنى مخطئ فى حكمى؛ إذ كم مضى من الوقت منذ الحادث، وبالتالى كم تغيرت تعبيرات الوجوه، وكم كانت لفْتتى غير كافية لتبين حقيقة المشاعر، ثم إن هذا التبلد المتناسب طرديا مع حجم الكارثة (حسب توقعاتى) هو رحمةٌ بنا، وليس نقصا فينا. وأراجع نفسى أتساءل: لم إذن بادرتُ باتهام هؤلاء الخواجات ـ هكذا ـ بالتبلد غير المتناسب مع الموقف؟.

أجد فى داخلى اتّهاما قابعا يتربص بأهل الغرب جميعا، وهو جاهز أن يصفهم باللامبالاة، والبرود والاستعلاء بمجرد أن تلوح أى فرصة لذلك. وبما أنى لمست من “الطبيعة” هذه المرة محاولة أن تُصالحنى عليهم بشكل أو بآخر، فقد فتحت بابى ورجَّحت خطأ أحكامى، واستمعت إلى همس وجهة النظر الأخرى تتسحب من داخلى أيضا.

ألستُ، وأنا الشرقى، المفروض أنه عـُرف بالمبادرات الانفعالية، هو من ضَبَطَ نفسه متلبسا أكثر من مرة، بغير مايُحب الناس أن يُـظهروه من أسى وشفقة فى مثل هذه المواقف؟.

هأنذا أعترف كيف كنت أشعر فى بعض الأحيان- وأنا أمر بحطام سيارة فى طريق مصر الإسكندرية (الزراعى أساسا، والصحراوى بدرجة أقل).. كنت أشعر بشعورين معا، أحدهما، وهو الأقل أهمية فى هذا المقام هو شعور الشخص العادى من شفقة وأسى وتعجب مما يثير الدعوات بالرحمة للمصاب، والستر لنا. أما الشعور الآخر الذى لم أحدِّث به أحدا من قبل، فهو شعور غريب لا يخلو من قسوة، ويختفى وراء هذا كله ما لم أتبينه تحديدا وإن كنت لا أستبعده، شئ مثل ظل راحة أو ملمح فرحة. بدهى أنى لم أقبل هذا الشعور أبدا، فما بالك بالآخرين لو عرفوا عنى بعض ذلك؟. وقد كنت أكاد أشعر بهذا الشعور الآخر وهو يـُخرج لسانه “بشكل ما” لـ”شئ ما”، لـ”شخص ما”، لـ “فكرٍة ما”، ربما هو يخرج لسانه لطمعنا وغرورنا ونسياننا أننا جميعا على “كف عفريت”، أو أنه يخرج لسانه لاعتمادنا على قوة السيارة- أىة سيارة، بما فى ذلك سيارة الحياة- ومدى متانتها، وحذق قيادتنا، ومبلغ مهارتنا، أو أنه يخرج لسانه لغرورنا الذى يحدد لنا دقة ميعاد “الوصول”، (أى وصول). الوصول إلى نهاية الرحلة أو نهاية النجاح، ثم نجد ماهو أدق توقيتا وألزم وصولا وهو نهاية الحياة. المهم أنه يخرج لسانه والسلام.

وحين تجرأت ذات مرة، وألمحت إلى زميل لى (طبيب نفسى، هو تلميذى وهو الآن رئيس قسم فى جامعة ما) عن هذا الشعور الغريب غير المناسب تجاه هذا مثل هذه الحوادث أمام هذا الحطام، كنتُ آمل أن يفهمنى، ويشاركنى التساؤل، واثقا أنه لن يجرؤ أن “يشخّصنى”، أو يصدر حكما فوقيا، أو يسمّى عرضا بذاته، فإذا بزميلى هذا يستبعد هذا الشعور أصلا، ينفى وجوده، مع أنه شعورى وأنا الذى أحكى عنه، لكنّه اعتبرنى أمزح، وعذرتـُـه، فهو لايتصور بما يعرفه عنّى، أنا الذى أكاد أذوب رقة على طفل تعرت ساقه بجوار أمه النائمة عنه فى يوم بارد، لا يتصوّر أنى أحمل بين جوانبى أى “شىء” غير هذه الرقة. وحين رحت أؤكد له أن هذا وارد وأنى لا أمزح، وأنى مسئول عنه وغير خائف منه، نحَّى وجهه بعيدا وفتح حديثا آخر!!، فأبتسم خجلا ومجاملة، وأعذره ، وأسكت.

منذ انكشف عنى غطائى، وأنا أصاحب كل المشاعر “الأخرى” مصاحبة لصيقة، وأعرف أننى بها أكتمل، وأن الفرق بين الخيــّـر والشرير، ليس فى أن الخيــّـر دائم الفضل رقيق الحاشية، فى حين أن الشرير قاسى القلب جاهز الحقد، وإنما الفرق هو فى قدرة الخيــّـر على أن يعى ويروّض شرّه بالمجاهدة والتقبل والمسئولية، ماضيا فى اتجاه واحديّته المبدعة من ناحية، صاباَّ طاقته لخير الناس، بتلقائيةٍ حتميةٍ من ناحية أخرى، دون إنكار الجانب الآخر من نفسه، ودون رفضه وجوده من حيث المبدأ. الشر لا يكون شرّا إلا إذا انطلق مستقلا .

لاحظتُ جزع صحبتى البادى من منظر التحطيم والجرحى، وما خفى مما هو أصعب، ورحت أقارن بينها وبين  الوجوه الهادئة حول الحادث الكارثة، وأتساءل من جديد: أليس من المحتمل أن يكون فتور تفاعلاتهم- إذا قيست بفرقعات مشاعرنا التى نسميها عواطف- هو نوع من هذا التجاوز نحو التكامل، وأراجع نفسى حين أتذكر طول رحلتى، وصعوبة مخاطراتى مع ذاتى، وأستبعد أن يكونوا جميعا، أو أغلبهم، قد مضى كل هذا المشوار، وأجد أن الأقرب أن أغلبهم قد بالغ فى تركيزه على ذاته المستقلة، فذهب يمارس بشجاعة نذلة مبدأ أن “الحى أبقى من الميت”. فإذا أضيف إلى ذلك مافعلته شركات التأمين من تخدير مشاعر الناس، بالتعويض المنتظر الجاهز (وسأرجع إلى ذلك)؛ لأمكن أن نفهم فتور التفاعل هذا بحجمه الواقعى، لا أكثر ولا أقل.

مضت بنا حافلتنا الصغيرة فى الطريق الشديدة الاتساع البالغة الازدحام، ورتابتها تزداد، والنوم يحل هنيئا مريئا على كل الأفراد إلا مرشدتى الصغيرة. وندخل بلغراد بعد العصر مباشرة. وقد قررنا أن نبيت فيها هذه الليلة، فنتبع سهم “مركز المدينة” لنجد أنفسنا فى وسط بلغراد بسهولة غير متوقعة، ولا نصدق أننا هناك، فأين المدينة الذى هذا هو وسطها؟. أين هى من القاهرة العملاقة المترامية أو من باريس أو من الإسكندرية؟ الشوارع تكاد تكون خالية، والترام يتهادى فى خجل متواضع، والناس حزانى متباعدين عن بعضهم البعض فى الأغلب، وأدركت أن الفرق بين أن تسمع عن عاصمة بإيقاع ثقلها السياحى، وأن تراها رأى العين، هو الباعث على هذه الدهشة الأولية.

نفس المفاجأة أصابتنى عند وصولى بروكسل سنة (1996)، قادما من باريس بالسيارة، وكنت أتصور أن ضخامة العاصمة تدل على قيمة أو مستوى القطر كله، ولكنى عرفت من ملاحظاتى المتتالية، أن العكس  هو الصحيح. فكلما كانت العاصمة أقل عَمْلقة، كانت الدولة أكثر رقيا ولا مركزية.

مازلت أذكر قرية صغيرة جدا فى جنوب فرنسا تعدادها لم يتعد الثلاثمائة رجل وامرأة وطفل، أمضيت فيها يوما فى إجازة الربيع (الباك) فى أبريل1996، ومع هذا العدد الصغير من الناس، ومع وجود الفندق المضيف فوق حظيرة “ثيران” موفورة الصحة!!، وكان فى مواجهة محل إقامتى (فى حجرة نظيفة فوق حظيرة ثيران) نادٍ، وبار، ومقهى، وموتيل، وحين دخلته محاولا أن أستنشق ريحه، وأستوعب روحه، لم أجد فارقا كبيرا بينه وبين مقاهى باريس بجوها الخاص الحى المثير.

وأستنتج أن حضارة البلد فى العصر الحديث لابد أن تقاس بتناقص فروق “الخدمات” و “الفرص” بين القادر وغير القادر، بين المدينة والقرية، بين الحاكم والمحكوم، ولكنها أبدا لا تقاس بالتطاول فى البنيان، وحجم ديون البنوك. بهذا المقياس يمكن أن نتعرف على موقعنا الحضارى المعاصر، بالمقارنة العابرة بين ليل القاهرة الثقافى، وليل المنصورة أو كفر الزيات (مثلا)، ولا أقول كفر عليم أو جِرزة، فثَمَّ ندّاهة ذات قوة سحرية تمرّ على أهالى الأقاليم عندنا من المغرب، أو بعد العشاء على أحسن تقدير، تنبههم أن يعودوا إلى عششهم، يتحلقون حول التليفزيون أو ينجبون أطفالا لا ضمان لمستقبلهم. وأرجع إلى تواضع بلجراد وتــِرامها،

لا أستطيع أن أستبعد منظر بروكسل وترامها، وأتذكر قصة نصب “ظريفْ” حدثت لى ذلك اليوم عند وصولى إلى بروكسل،(أغسطس 1996) فقد استهترت بحجم هذه المدينة الصغير، وغرَّنى هدوؤها، فرحت أشترى بعض حاجات هامشية دون أن أحمل خارطة للمدينة. وحين هممت بالعودة، لم أهتد إلى الطريق الصحيح المؤدى إلى بيت الضيافة المتواضع  الذى وضعنا فيه أمتعتنا، وتركتُ فيه زوجتى وصحبى. (كان الأرخص من أى فندق ولو بنجمة واحدة)  كنت حافظا العنوان، وقبل أن أهم بالتوقف للتأكد من الاتجاه. لمحت رجلا فى منتصف العمر وكأنه يشير إلىّ بيده إشارة ما، فقلت فرصة، أسأله عن الطريق، فإذا به يسألنى هو: إلى أين أنا ذاهب؟. لعل طريقه فى طريقى، فقلت له العنوان، فابتسم ابتسامة الواثق المطمئن، وقال “أصحبك إليه فهو فى طريقى”، وحين وافقت، بدأت لأول مرة أتبين أنه يتحسس باب السيارة ليعثر على المقبض، وهنا فقط عرفت أنه “أعمى”، وأنه كان يحدثنى مهتديا بصوتى لا أكثر، وأنه- بالتالى- لم يكن يشير إلىّ أنا بوجه خاص ليختبر شهامتى (رغم ظهورها بالصدفة!)، فأىة خدمة يمكن لى أنا الغريب أن أسديها لهذا الخواجة ابن الخوجاية؟. وأى جميل سوف يحفظه لى ولبلدى؟. ركب صاحبنا بجوارى وأنا أسأله عن العنوان، فأشار بيده أن أمضى فى استقامة دائما Toujours tous drois، وتعجبت أنه “هكذا جاهز”، وسألته: هل التقط العنوان الذى أريده بهذه السرعة، فأكد لى أن: “نعم”، وقلت لنفسى ياله من كفيف متطوع هو أبصر من عساكر مرورنا، لكن العربة تمضى والمسافة تطول، وأنا أذكر أننى لم أبتعد عن محل الدار التى أضافتنا إلا قليلا قليلا. وكلما سألته، أجابنى “دائما فى خط مستقيم”، وأتذكر الأغنية التى كنا نغنيها فى الرحلات الجماعية بالفرنسية ذات التورية الذكية والتى تقول “إنه إذا كان الرب يريد أن نسير دائما فى خط مستقيم، فسنصل إلى سان فرانسيسكو”. والتورية هنا أن “الخط المستقيم” يؤخذ جغرافيا بين باريس وسان فرانسسكو، لا مجازيا بمعنى السلوك القويم، وأبتسم، ولكن الوقت يمضى والسيارة منطلقة، فأبتسم ابتسامة أخرى هى خليط من الحرج والعجب والاحتجاج، وأنكّـت على نفسى مطمئنا إياها أننا لم نعبــُـر- بعد- الأطلنطى. ويبدأ الفأر يلعب فى عبى، لكنى أستبعد أن يكون رفيقى ومرشدى الضرير قد استغفـلنى. وكلما تلكأت عند إشارة مرور حمراء، وأصررت على سؤاله متذكِّراً أننى لم أبتعد هكذا عن مستقرى، طلب منى أن أقرأ اسم الشارع على الناصية، فأفعل، فيهز رأسه مطمئنا، ويواصل: “دائما فى خط مستقيم”، “أخيرا وصلنا”،هكذا قال بعد سؤال أو اثنين عن أسماء بعض واللافتات، وقال لى أن أركن يمينا قليلا مشيرا بيده وكأنه يرى، ففعلت. وإذا به يفتح الباب فى عجالة متمتما وكأنه يشكر، وأخذتنى المفاجأة. ولكنى لم أتصور ماحدث.

كنت لا أزال أستبعد الاستغفال غرورا بذكائى، وتمسكا بشهامتى المدعاة. نزلت بسرعة ورحت أدور حول السيارة لألحق به، وأنا أظن أنه ينتظرنى ليدلنى بشكل أو بآخر، ولكنه كان “فص ملح وذاب”. وهنا- فقط- أدركت أنـه “فَعَلها”، لأوصّـله مجاناً، وابتسمت، وغصة فى حلقى تعلن أنى بدورى “شربتُها”، ومـِنْ من؟، من كفيف ظريف الحيلة لدرجة القسوة. وماكدت أطَـمْئــِنُ نفسى إعجابا بذكائه؛ لأتجرع المقلب بروح رياضية، وأقفل عائدا إلى العربة حتى وجدت المفاجأة الأكبر تنتظرنى، فقد نسيت- فى لهفة اللحاق به- مفتاح العربة فى داخلها، والأبواب الأربعة محكمة الإغلاق. وانقلب ضحكى غيظا مضاعفا، ويرثى قائد تاكسى لحالى فيدلنى على إمكان إحضار مفتاح بديل بمجرد معرفة رقم الشاسيه من وكيل الشركة المنتجة للسيارة، ويصطحبنى إلى هناك، ويرجعنى مصلحا بذلك- بعض الشىء- خطأ مواطنه الأعمى، ولا أجرؤ أن أحكى له أو لزملاء الرحلة عن تفاصيل ماحدث إلا بعد إفاقتى من المقلب، وخاصة أنى حين رجعت-أيضا فى خط مستقيم!! -وجدتنى قد التقطت ذلك الخواجة الظريف الكفيف من مكان لا يبعد أكثر من مائة خطوة عن مكان إقامتى.

صرت كلما تذكرت هذا الحادث فيما بعد ابتسمت، إعجابا بهذا الذكاء الخواجاتى الخاص. وحين أقارن هذا الاحتيال بما وقع لى- لنا-من ضروب النصب الخوجاتى فى هذه الرحلة، أترحم على نصب زمان الظريف الطريف، فى مقابل ألعاب الثلاث ورقات، والسرقة الأحدث ، موديل 1984.

أعود إلى بلجراد ذات الوجه الحزين، وأسأل رفاق رحلتى إن كانوا قد لاحظوا مالاحظت على الوجوه الشابة وغير الشابة على حد سواء، فينبهوننى إلى أن اليوم والوقت هو بعد ظهر يوم السبت، وقد بدأت عطلة نهاية الأسبوع، وأغلب المحال مغلقة، ولابد أن الناس إما رحلوا إلى خارج المدينة… وإما أنهم قابعون فى البارات والمقاهى والبيوت . وأصدقهم وأقبل تفسيراتهم المتفتحة، لتصادف حضونا فى هذه الأيام (السبت/الأحد) الأمر الذى حرمنى من أن “ألتقط” ماهى بلجراد بطريقتى الخاصة حين أحشر وعيى وسط ناسها؛ لأنهل أكبر جرعة من الوجوه والعلاقات والأصوات والتصادمات المفيقة والأدب (أو قلة الأدب) المتميز- ونركن السيارة بسهولة، ونسأل عن فندق نقضى فيه الليلة، فالوقت المقدر ليوجسلافيا كلها لا يحتمل  تخييماً، ونحن نريد أن “نعيش العاصمة” (وليس فى العاصمة) يوما وبعض يوم. و لانجد إلا فندقا ذا أربعة نجوم. الحجرة فيه بالشئ الفلانى فى الليلة والعياذ بالله، ويضع كل من أولادى يده فى جيبه، وأكاد ألمح أرقام الآلات الحاسبة وهى تدور خلف الجباه، وأفرح بالنتيجة التى عرفتُها مسبقا؛ حيث كنت قد فضلت مواصلة الرحلة مادام لاينتظرنا هنا إلا “يوم أحد”، خال من الناس والحياة، وقد صح توقعى، واكتفينا بثلاث ساعات فى جولة حرة، على أن نلتقى لنواصل السير على أمل أن نبيت فى أول موتيل يحل الليل علينا بقربه، ورحنا ننسخ اسم حروف الشارعين على الناصية التى سنفترق منها، وكذا أسماء أكبر المحلات المحيطة، وبدأنا الجولة الحرة الاستطلاعية على أن نلتقى فى الميعاد المحدد.

مضيت وحدى – كالعادة- فاتجهت إلى وسط الحديقة العامة التى ركنا بجوارها، فى حين انطلقوا هم فى الشارع العريض يغنون بالفرنسية أغنية بسيطة تجعلك ترقص وأنت تمشى تقول الأغنية:

كيلو متر على الأقدام، يليـّن الحذاء.

كيلو متراين  على الأقدام..

هذا يليـّن،.. يليـّن،…. يليـّن،.. الحذاء.

ثلاثة كيلومترات على الأقدام…وهكذا

وأتساءل: أين أغانى العمل عندنا، أليس هذا هو ما يقابل: يا مهوّن هوّن!! كيف تراجعت هذه الأغانى مثل أشياء كثيرة ثمينة. هل معنى قلتها أو ندرتها أنه قد أضيف إلى قهرنا الخارجى قهراً داخليا يحول دون الناس والغناء الجماعى، فى العمل أو فى اللعب على حد سواء؟.

دخلت الحديقة الخالية، حتى الحديقة خالية، مع أنى كنت أتصور أنه فى يوم العطلة، وفى هذا الجو، ينطلق الناس إلى الحدائق.  ولم أفهم معنى لخلوّها إلا من رجل وامراة فى منتصف العمر يجلسان غير ملتصقين، وبجوار الرجل زجاجة- نصف ملآنة ونصف فارغة – وبينهما شئ يؤكل (فى الأغلب)، موضوع على ورقة فوق الأريكة، وركبنى تطفـلى فاقتربت أكثر، وقلت أسأل عن اسم المكان الذى نحن فيه، وعن أقرب المعالم الممكن مشاهدتها، حتى لا أغادر المدينة كما دخلتها. وحين اقتربت أكثر حتى لم يعد شك أنى أقصدهما، هش لى الرجل وبش (باليوغسلافى     طبعا!!ا)، لكن السيدة- التى كانت تكبره بعدة سنوات- اكفهرّت، وكأنى سأخطف رجلها منها. وما بين جذب الهشاشة والبشاشة، ودفع الاكفهرار، تقدمت وأنا أكاد أدور على عقبى دون تراجع!!، وقلت له: إنجليزى؟English ؟، فضحك وبرطم ورفع حاجبيه بلا أى معنى، وقلت أطرق بابا آخر فتساءلت: فرنساوى؟ Français؟، فأنزل حاجبيه، ونظر إلى ساعته، وزادت بشاشته، فزاد اكفهرار وجه المرأة، وقلت لنفسى: لافائدة، لابد من “سلاح الإشارة”، فأخذت أشير بسبابتى إلى الأرض، ثم بذراعى الاثنتين إلى ماحولى، وإلى الميدان على مرمى البصر، والكنيسة من ورائه، وأردد كلمتى “اسم” name، و”مكان” place، مرة بالإنجليزية، ومرة بالعربية، ومرة بلغة ثالثة لا أعرفها. أنا، ولا هو طبعا، ويبدو أن الرجل قد أعجب بإصرارى غاية الإعجاب لدرجة دفعته للانصراف عن صاحبته المتجهمة (بعد الاكفهرار) متأملا حركاتى وحماستى كأنى كائن قادم من كوكب آخر، ثم يبدو أننى-أنا أيضا- استحليت اللعبة، فزدت إصرارا، وزاد وجه الرجل احمرارا، (ثلاثة أسباب للاحمرار: الخواجاتية، والزجاجة المترنحة بجواره، وابتهاجه بهذا الكائن الغريب الذى هو أنا). وبين الحين والحين، ينظر إلى صاحبته، ويتكلم كلاما كثيرا، وهو يشير إلى شخصى، وتصورت- بشكل ما- أنه يترجم لها ماأقول، مما لم يفهم (!!) ياحلاوة !!.

أحس أن المسألة طالت، وأنى قد زودتها حبتين، فبدأت فى الاعتذار والتراجع تدريجيا (بالإشارة و “البرطمة” طبعا)، لكن الرجل قام متحمسا فجأة، والمرأة تحاول أن تثنيه بلا جدوى، فأمسكنى من يدى، واتجه بى إلى الشارع مترنحا، فتصورت أنه سيُرينى لافتة دالة أو معلما خاصا، أى شئ مكتوب يمكن لـمن مثلى أن يقرأه، ولكن: أبدا، فقلت له للمرة الكذا Place  فردد ورائى لفظا كالذى قلته مع اختلاف غير واضح، شيئا مثل: Plaza أو Plasar لست أدرى، ومضى بى أكثر، والتفت يلوّح لصاحبته فخورا بشهامته، رغم يأسها البادى من كلينا، وتصورت أنى فعلت فيه جميلا بالابتعاد عن هذه المرأة، ذات الريح الشائك والحضور الجاثم، ثم يبدو أننا تبادلنا الأدوار فأخذ هو يتكلم بلغة ما (فى الأغلب هى لغة أوروبية؛ لأننا فى أوروبا على الرغم من كل شىء!!!) وهو يشير بيديه إلى الأمام، ثم إلى اليمين، ثم يعد على أصابعه عددا ما، ويئست من إمكان إيقافه، إذ لن ينفع بحال أن أحلف له بالمصحف الشريف أنى لا أريد عنوانا- أى عنوان-، وأنى لاأبحث عن أحد- أى أحد، إلا أن “الجلالة”، فالشهامة أخذتاه، وهات ياشرح، منتهزا الفرصة للابتعاد عن صاحبته أكثر فأكثر، وابتسمت إذ تصورت أنه يستعملنى (مثل رجل بروكسل الكفيف)، حتى إذا وصلنا إلى ناصيةٍ ما بعيدا عن مجال رؤية صاحبته، أطلقَ ساقيه للريح هربا من هذه الورطة “المكفهرة”، الجالسة على الأريكة فى انتظارٍ متربص. لمحتُها تلاحِقُنا بفحيح السخط، حتى كدت أضع كفى على ظهرى اتقاءً لسياط الاحتجاج. وبدهى أن الرجل كان من السكـْـر فى حال. وحين اقترب منى فاحت رائحة الكحول تمام التمام. أخذت أهز رأسى بالإيجاب مع كل إشارة منه أو تأكيد، وأطبطب على صدرى بالامتنان، ثم فتح الله علىّ بكلمة كنت التقطها من محطة بنزين تعنى- فى الأغلب- شكرا (باليوغسلافى!!). وهى “فَــلاَ ” ومما ذكرنى بها أن بعض أولادى قالوا إنها كلمة قريبة من العربية حين نقول استحسانا: “نعم… هكذا..وإلا: فَــلاَ. وما إن نطقتُها “”فلا”!! حتى تهلل وجهه منتصرا، فأخذتُ أرددها وكأنها “كلمة السر”، وأحييه وأحنى رأسى، وأرفع يدى شاكرا (فَالِياً)، وهو يترنح عائدا إلى قضائه وقدَرْهُ القابعة فى عرينها مثل النمرة المهجورة.

على الرغم من أن المنظر كله ليس فيه جديد بعينه، إلا أنه ترك فىّ شيئا طيبا. فلقد أحببت الرجل، ولم أكره المرأة (على الرغم مما وصلنى من عدوانها المزعوم)، ولوكان حُسن النية ذا رائحة، لـشـممتها رائحته تفوح من هذا الرجل طول الوقت، وهو فى أشد حالات الحماسة لمساعدتى بلا أدنى داع، حتى ولو كان الداعى الخفى هو الهرب- بعض الوقت- من قَدَِره المتربص على الأريكة. لم نكن قد أمضينا فى هذا التمثيل الصامت أكثر من بضع دقائق، عدت بعدها إلى الشارع الكبير، فإذا بى ألتقى بأولادى وزوجتى يدورون حول الناصية المقابلة، فهتفنا للقاء وكأننا قد افترقنا زمنا، وكأن أحدنا قد عاد بعد سفرة طويلة، والآخر ينتظره فى الميناء!!. وضحكنا لهذا الشوق المتفجر وسط المشاحنات المستمرة، ويبدو أن ماجذبنى وإياهم إلى تلك الناصية الأبعد كان”حاسة الشم”، وليس فرط الشوق، ولا التخاطر عن بعد (التليباثى)، فقد اكتشفنا أنفسنا بجوار كشك لبيع سندوتشات الهامبورجر بالصلصة والشطة، ودفع كل منا لنفسه ماطلب على ماقُسم واشتهى، ثم افترقنا بسرعة قبل أن تتصادم الإرادات.

صعدت إلى مبنى زجاجى عملاق لا أعرف محتواه أصلا. وإذا بى فى محل من محلات “كل شىء”، و”أى شىء”، وكلها أشياء غالية الأسعار بادية الرفاهية، وقلت: ياخبر!!، “وكأنك ياتيتو ما اشتراكيتو”. أليس هذا هو لافاييت وسامارتان باريس، أو هو C&A لندن، أو جنبلذ نيويورك، أو هو أى محل عملاق فى أى مكان، فأين الشيوعية؟. ومن المشترى؟ ومن أين؟. ولماذا؟ وبدهى أن هذه الدهشة داخلية مسطحة، لأن ثمة سياحاً، وثمة حاجة لعملة صعبة، وثمة أنظمة لا أعرفها، المهم: دخلت المبنى وصعدته دورا دورا، وفى ذهنى أن أفى بما وعدت به أولادى من أن أُحضر “مشمعا” لتغطية أغراضنا فوق العربة، اتقاءاً للمطر، متحديا خيبتهم البليغة فى أثينا حيث عجزوا عن شراء مثله. وعند صعودى جذبنى-كالعادة- ركن الكراريس والأقلام، وأخذت أجمع من الكراريس ذات الرسوم المتحركة على أغلفتها ماراقنى، وهذه المشتريات لى أنا شخصيا، وليست لأولادى أصلا. فأنا أعرف نقطة ضعفى هذه أمام الأقلام الرخيصة والكراريس الطـفـْـلية، بل إن أولادى ـ حتى الآن ـ حين يُحضرون لى هدية تسعدنى لا يحضرون- عادة- إلا كراسا أو مقلمة أو قلما رصاصا ذا سن رفيع، أو ممحاة لا تترك أثرا على الورق. لابد أن أعترف أن وراء هذه الانتقائية الشرائية للأقلام والأوراق، درجة من عدم الأمان تُصوِّر لى أننى يوما ما سوف أعجز عن الكتابة، أو أُمنَع من الكتابة.

حين احتدت أزمة الكراريس فى مصر حوالى سنة 1975، رحت أخزنها برعب شديد وأنا أشعر أنى لا أظلم أحدا بهذا الاحتكار. فأنا أولى الناس بها (بالكراريس)، وتحايلت على ناظرة مدرسة والدة زميلة صديقة، لأحصل على فائض الكراريس عندها بأى ثمن، وما زالت عندى حتى الآن بقية من هذه الثروة، فقد انتهت الأزمة سريعا ولم تعد ثانية.

بل إننى حين أسمع عن وسائل التعذيب فى السجن السياسى، وأتصور نفسى داخله- رغم أنى لا أملك شرف مايضيفنى هناك- أقول لنفسى إنى مستعد للبقاء لأية مدة، بعدد رزم الورق وأقلام الكتابة التى يسمحون لى بها، وكنت أحسب أن أكبر “تعذيب” لى هو أن يحرمونى من الورقة والقلم، فتظل الأفكار تدور فى عقلى بلا تحديد ولا تسجيل، ولا “آخر” أخاطبه بها وعبـْـرها.

واصلتُ التنقل فى المحل السوق العملاق من دور إلى دور؛ بحثا عن بغيتى الأصلية؛ حيث كنت أبحث عن مشمع لتغطية العربة ليقى ما عليها من أغراض من المطر المحتمل فى أى وقت، وحين وصلت إلى ركن السيارات أحالونى (بالإشارة وبعض الترجمة) إلى ركن المعسكرات. ولما لمحت بغيتى عن بعد، وذهبت أطلبها نظر الرجل المختص إلى ساعته (باليوغسلافى طبعا!!)، ومط شفتيه، وتركنى وانصرف وهو يشير إشارات عاقلة تفيد “المستقبل” على أرجح وجه. ويرتفع حاجباى فى بلاهة، ويبدو أنهما لم ينزلا حتى التقطنى آخر، وأنا فى دهشة ممتدة، كما يبدو أنى “صعبت عليه”، فقال لى بالإنجليزية: “يوم الاثنين” ثم أشار إلى ساعته، وكانت الخامسة والنصف، ففهمت، فتذكرت، وانصرفت وأنا أتأمل صور “الكارتون” على غلاف الكراريس، وأحاول أن أعد الإجابة على أولادى حين يشاهدون شروتى- المعتادة- التى حالت دون وفائى بوعدى حين قبلت التحدى بأنى سأجد الغطاء المشمع المطلوب هنا فى بلجراد. جاءتنى فكرة تعويضية جعلتنى أندفع عدوا إلى السيارة قبل أن يحضروا: أخرجت كيس نوم الخيمة الكبيرة من جرابها، وفردتها فوق ظهر العربة. وأنا متعجل أتصبب عرقا؛ خشية أن يأتوا قبل إتمام المفاجأة. وأخذت أشد أطراف الكيس قسرا من هنا ومن هناك حتى تحقق المراد. وحين عادوا ورأوا مافعلت تصوروا أنى اشتريت المشمع، وحين فاجأتهم باختراعى، أُعجبوا به إلا زوجتى التى تبين وجاهة اشمئناطها حين عسكرنا فيما بعد. فإذا كيس الخيمة قد تمزق من أكثر من موضع نتيجة شدّى له واستعماله لغير ما هو، فلم  يعد يصلح للنوم فى أمان من التراب والزواحف،  ولم ينتهِ شعورى بالذنب إزاء هذا الذى “أبدعته” إلا حين أصلحتُه بعد حين، وأيضا ربنا ستر فلم تمطر، لم آُختَبر مثل حرّاس المرمى أمام هجوم ضعيف، أو استجابة لآية “اللهم لا تدخلنى فى تجربة”، ولكن لماذا أسبق الحوادث؟.

أعود إلى موقعى فوق العربة وقد انتهيتُ من تنفيذ فكرتى المبدعة؛ وأجدنى أتعجب وأنا أتصور نفسى وأنا أتحدث إلى معارفى عن بلجراد عند عودتى، فأقول لهم إنها: كراسات عادية، وفكرة فاشلة، وكل ذلك هو “أنا”، وليس “بلجراد” طبعا.

قلت أمضى ماتبقى من وقت سعيا إلى مزيد من التعرف على نفسى وعلى ناس بلجراد، على ما قُسِم. كانت المحال قد أغلقت جميعا، فزادت الشوارع فراغا كاد يتردد فيها صوت لم يُطلق أصلا، فزادت الوجوه التى تظهر نادرا، لتختفى سريعا، حزنا على حزن افترضتُهُ ففرضتْتُـه.  حاولت أن أمنع نفسى من أن أسارع-كالعبيط- بالربط بين الشيوعية والحزن، ثم إننى شخصيا أحب الحزن أحيانا، بل أفضله كثيراً. الحزن الذى يعلن يقظة الوعى وإدراك الواقع بحجمه وتناقضاته، ولكن الحزن الذى لاحظتُه هنا فى بلجراد، هو حزن فيه انكسارٌ لم يرُق لى، ولم أرحب به أصلاً.

هل هو يوم السبت سبب خلو الشوارع وقفل المحلات؟ أم أنه مزاجى الشخصى. وتلوين ما ألتقطه بأرضية انفعالى الجاهز للهَمِّ المقيم؟.

دخلت إلى قهوة/بار (ولا فرق هناك) على أمل أن أجد ناسا آخرين، ليسوا حزانى، وليسوا منكسرين، فإذا بى فى بركة صمت آسنة. مائدتان هما المشغولتان، لا أكثر، ووراء البار وقفت ثلاث سيدات فى أواخر العمر أو أقل قليلا، وكان حول إحدى الموائد أربعة رجال عجائز، يشربون شيئا أبيض فى أكواب صغيرة، لا هى ممتلئة، ولا هى تفرغ، وأخذت أراهن نفسى وأنا منفرد فى ركنى: متى سيرفع أحدهم كوبه الصغير، فلا يتحقق ذلك أبدا، وكأن السائل ينتقل من الكوب إلى طاسة المخ، مارا بالمعدة بماصّة غير مرئية؛ ذلك أن إحدى السيدات الثلاث تأتى بين الحين والحين لتملأ مالم يُفرغ (!!)، فلا يمتلئ. وعلى المائدة الأخرى، يوجد شاب وفتاة لا يتكلمان، وكأنهما قد أحاطا “بكل شئ”، فلم تعد ثمة حاجة إلى مزيد من كلام، أو كأنهما قد أدركا- لكثرة ما تكلما- أن الكلام لايفيد، أو كأنهما قد اتفقا على يأسٍ مشترك يجمع بينهما بعد أن فقدا أملا مشتركا ما. لمَ هذا؟. لماذا؟.

يدخل رجل عجوز جدا، وحده جدا، ينظر إلى إحدى النسوة فى أبوة حانية، فلا تحضر مسرعة لكنها تبتسم وتحنى رأسها موافقة، ثم تظـل تميل خلف البار، وتقوم، وتضع على صينية غير ظاهرة أشياء وأشياء، حتى خيل إلى أنها تعد وليمة خاصة، ثم ترفع ما أعدت وتذهب إلى العجوز الوحيد، ولا ألمح على الصينية إلا شطيرة خبز جاف، وبيضة واحدة مسلوقة، وكوبا بأسفله بعض من النبيذ الأحمر (على مايبدو)، وملاّحة. أين الوليمة ياربى؟. ويبدأ الرجل فى سكون فى تقطيع البيضة بالسكين، ثم رش الملح فى إتقان صبور..، ثم يذهب يأكل فى هدوء فظيع، تصورتُ معه أنه توفى من زمن، وأن الموجود أمامى هو جسد باهت، وقد ضل سبيل القبر إلى صاحبه (صاحب الجسد) الذى سبقه إلى هناك، لا… ليست هذه يوغسلافيا، ولابلجراد، ولاسبت، ولاأحد، حرام أن أحكم على بلد، وعلى شعب، وعلى نظام، من خبرة ساعتين بعد ظهر يوم سبت حزين. فخرجت مندفعا أبحث عن أى شئ آخر، ووجدته فى محل “جيلاتى”.

كانت البائعة فيه تتفجر شبابا وقوة، (وقد تعلمتُ من “راكبات الموتوسيكلات” أن عضلات الفتيات هى من الدعائم الجديدة للأنوثة العصرية!!)، وقد وقف بجوارها (خلف “فاترينة الجيلاتى” المتعددة الألوان)، فتى فى فتوتها وبهجتها ذاتها، وهو يضحك، ياسبحان الله.. يضحك!!. وكان “الأيس الكريم” كريما بحق، فقد زحزحت برودته من على قلبى برودة أقسى وأشد، وخرجت عدوا قبل أن يقلبها خيالى غــمّا، ورجعت آفِـلا إلى العربة، فوجدت أولادى سبقونى إليها، وهم يتطلعون إلى كيس النوم فوق الحمولة على سطح الحافلة، وبعضهم قد امتطى ظهرها يعيد تنظيم بعض الأشياء، وهم يتصورون أنى نجحت فى شراء المشمع المطلوب.

ونتفق على أن نغادر هذا الجو الكئيب، وقد رجّحنا أنه سوف يكون أكثر كآبة يوم الأحد، الأكثر إجازة، وأسأل أولادى مرة ثانية عن الحزن الذى وصلنى من الناس هنا، فينكرون درجته ومبالغتى، وإن كانوا يقرنون بعضه بالطيبة والسماحة، فيحكون عن رجل منحهم “فكة” لـلحديث فى التليفون دون مقابل، وحين أصروا على إعطائه المقابل ورفض، أعطوه عملة مصرية متواضعة لـلذكرى، ففرح بها كما لم يتوقعوا، وحمدتُ الـله على حسن استقبالهم، وفرحت لاختلاف الرؤى، حتى تخف الأحكام الشخصية الدامغة. وتصوّرت لو أن واحدا من أولادى الفرحانين هكذا كتب ما رأى، فقد يُــثبت أن اليوغسلاف أسهل ناس، وأكرم ناس، وأطيب ناس.إلخ، فأقارن ما وصلنى بما وصلهم، وأتأكد مما حذرت نفسى منه من زيف وكذب أى تعميم.

ننطلق وقد اقترب الليل، ويصادفنا على الناصية شاب أشقر، هو خواجة مائة فى المائة، إلا أن نظراته إلى أرقام العربة بالعربية لا تمت إلى دهشة الخواجات، ثم إن ابتسامته المرحبة جعلتنا نقترب منه أكثر، وقبل أن نسأله عن الطريق إذا به يحيينا “مرحب مرحب ياشباب، أهلين”، فجاءت كلماته العربية ذات الرنين الشامى بردا وسلاما، ونفرح فرحتنا برفاق الطريق السوريين، أصحاب السيارة المزغردة، ونرد التحية بأحسن منها، ونسأل ويجيب، من سوريا أيضا، ونودعه، ومازالت فى قلوبنا آثار دفء كلماته، وننطلق بسرعة، مغادرين بلجراد، متجهين غربا، حريصين على كل دقيقة من ضوء النهار.

لم يعد الطريق بعد كيلو مترات قليلة طريقا سريعة “أتوستراد”، والعربات القادمة تكاد تتلاصق مثل عربات قطار البضاعة بلانهاية مع اختلاف السرعة، وأتعجب: إلى أين يذهب كل هؤلاء الناس ليلة الأحد؟. ومن أين يأتون؟. نحن نتوجه إلى زغرب، ومنها إلى تريستا بإيطاليا وهذه السيارات القادمة كلها: إلى أين؟ سؤال ليس له جواب بالمعنى الذى أبحث عنه. فقد تصورتُ- بلا داع- أن أى مكان فى هذه الأوروبا مثل أى مكان؛ حيث إن الله لم يبخل بالجمال على أرض هؤلاء الناس طولا وعرضا، فوزعه بالعدل والقسطاس. ولذلك فأنا لا أفهم لم ينتقل الناس من جمال إلى جمال فى نهاية الأسبوع. مع أنه كله جمال!!. أليس عند كل منهم قدر من الجمال يغنيه عن الترحال؟. وبسرعة: أضحك من سذاجتى، لأتذكر علاقتى بحتمية الحركة والتنقل وفاعلية ذلك . أتذكر كيف اكتشفت أن الترحال لا يجددنى فحسب، بل هو يجدد حتى المكان الأصلى الذى غادرته مرتحلا. إن الانتقال فى ذاته هو التغيير المطلوب لذاته، وترحال نهاية الأسبوع عند هؤلاء القوم يكاد يكون مقدسا.

مازلت أذكر أنى قضيت أثناء مهمتى فى فرنسا أكثر من أربعين “نهاية أسبوع” خارج باريس (علما بأن إقامتى بباريس كانت حوالى الخمسين أسبوعا فقط)، وكان دافعى فى بداية إقامتى للخروج “معهم”، هو الأمل فى أكلة “محترمة” بفرنكات زهيدة. فقد كان النشاط الثقافى للمركز الفرنسى الذى أتبعه “مركز المنح الدولية” CIS  يهيئ لنا رحلة (رحلات متنوعة نختار منها) أسبوعيا، وكانت حسابات الفاقة تقول إن ثمن خمس وجبات فى باريس (من العيش “الباجيت” الحاف أو بالجبن الكامومبير والبطاطس المسلوقة والتفاح الأرخص من الطماطم) هى أغلى من ثمن الاشتراك فى الرحلة ذات الوجبات الخمس، (زبدا ومربة ولحمة ومكرونة وكازوزة، أو ما يعادلها إلخ). وبمرور الأيام وتكرار الرحلات، فهمت معنى الخروج كل نهاية أسبوع، حتى لو أخذ السفر ذاته نصف الوقت بالتمام، وحتى إذا تعطلت عودتنا عدة ساعات بعد ظهر يوم الأحد؛ بسبب اختناقات الدخول إلى باريس.

واصلنا السير شرقا نحو زغرب، ونحن متفقون على عدم القيادة ليلا، وأننا سنتمتع بأول “موتيل” يقابلنا، تقول ابنتى المرشدة الصغرى وهى تنظر فى الخريطة: إننا مقدمون على طريق جبلى- فاكتشفنا أننا أحببنا المشى فى الجبال بعكس ما كان حالنا الأوّل. لم نصدّق المرشدة بسهولة فنحن لم نكن قد تأكدنا نهائيا من معنى الألوان فى الخريطة. الطريق يسرى بين مروج كثيفة الخضرة دون أىة إشارة لارتفاع أو انخفاض. ولأول مرة، يرن جرْس كلمة “مروج” فى وعيى، فأحس بذبذباتها تهزنى بشكل آخر، (وأكتشف أن هذه الكلمة لا ينبغى أن تستعمل إلا بصيغة الجمع، فما أسخف وأضحل كلمة “مرج” مفردة!!، وهى لا تذكرنى إلا بعشوائيات حى المرْج قرب المطرية)، وأعجب للغة كيف تتشكل رسائلها ووظيفتها حتى دون تغير اللفظ، ولكن بمجرد تغير الصيغة.

تتكاثف طبقات الخضرة فى بعضها بتنسيق رائع، فتكاد تملؤنى ريا وانتعاشا، خضرة تتجاوز بساط برسيم بلدى وأعواد أذرته، خضرة لاتطاول هامات النخيل عندنا، لكنها فيضان رائع من جمال متعدد الطبقات، وتتخللنى الطبيعة حتى لا أعود أميز الحد الفاصل بين الداخل والخارج، وكأنى أصبحت أخضر ذا أوراق، وكأن لى براعم فى جوانب وعلى توشك أن تتفتح. ولا أصرح بهذه المشاعر الأعمق لمن حولى؛ فقد يئست من انتظار احتمال المشاركة بهذا العمق، بل إننى تعلمت أنه لا مشاركة فى مثل هذا المستوى من الإحساس، وأن أىة محاولة ناطقة مع البشر – فى مثل هذه الظروف حتى لو كانت شعرا- هى خليقة بأن تشوه الحوار مع الطبيعة، ناهيك عن الالتحام بها

لكن مستوى آخر من المشاركة يؤنسنى، تنطلق المجموعة تغنى (بالفرنسية):

على طريقة الإجازات

يغنى يرقص الهواء الجميل.

على طريق الأجازات

نمضى نتنزه.

يغنى يرقص الهواء.

ولا أفهم الكلمات- طبعا-لأول وهلة، لكنى أطمئن لبعض المشاركة من اللحن ذى النغمة الناعمة الشجية، ثم أتعرف على بعض الكلمات، ولا أطمع فى المزيد. وأنتبه- عكس ملاحظتى الباكرة- إلى أن بعض الأغانى التى تنطلق بها المجموعة تلقائيا، ليست دائما منفصلة عن الموقف والطبيعة؛ إذ يبدو أن جرعة خاصة من الطبيعة تستخرج أغنيتها المناسبة متى شاءت. وكان حديث قد دار بيننا من قبل حول هذا التناسب بين الطبيعة والأغنية. حين أدرنا تسجيلا عربىاً- ذا إيقاع شرقى رتيب، فإذا بى أشعر بتململ سرعان ماتصاعد حتى أعلنتـُه، فوافقتنى الأغلبية، فقد بدا أن عدم رتابة الطبيعة من حولنا، بل تكثيفها المتداخل الرائع، لا يحتمل هذا الإيقاع الراتب. وتصورتُ أن بعض تصعيدات الألحان الغربية، أو سرعة إيقاعها على الناحية الأخرى، هو أقرب إلى مانحن فيه، وقبل أن أتمادى فى هذا التصور، لعبت بأزرار “المذياع”، فإذا بزن وطنين وأصوات غريبة ولحن مزعج يرتفع فى نـُعاب أعرفه؛

ذكرنى كل ذلك بأغان تفرض نفسها علىّ أحيانا فى الرابعة صباحا؛ حين أكون منهمكا فى عمل عقلى يحتاج إلى أرضية خافتة من ألحان ما، ذلك أنه فى هذه الساعة المبكرة جدا لا يكون البرنامج الموسيقى قد بدأ إرساله (لم يكن امتد 42 ساعة)، فأضطر للعبث بأزرار المذياع فيأتينى مثل هذا “الزن” الذى وصفته الآن، فأصاب بهذا القذى فى أذنى، ذلك القذى الذى لا أستطيع أن أنسبه إلى أىة لغة قريبة. ولست أدرى لم كنت أرجح -بلا أى مبرر- أنه إما بالتركية وإما بالكردية، وبعد أن سمعت الأغانى اليونانية والتركية الجميلة تراجعتُ طبعا، ورغم كل هذا القبح – أو بسببه – كنت أترك تلك الضوضاء تسرى حتى يذهب عنى أى احتمال لـلنعاس بفضل وخز تلاحق هذه الشظايا السمعية، فلا معنى – إذن – لاستنتاجى -السالف الذكر – لحتمية التناسب بين الطبيعة واللحن. وهأنذا أعترف بما ظلمتُ به الإيقاع الشرقى؛ إذ يبدو أن مثل هذه الأحكام المتعجلة لا تصدر إلا من جاهل بالموسيقى مثلى. فقد كنت ومازلت أحس أن مساحة هائلة من وجودى منسية تماما، طالما ظللت لا أفهم- هكذا- فى الموسيقى، فأنا لا أميّز بين السيمفونية والكونشرتو، ويؤكد لى صديق نادر هو أ.د طارق على حسن (وهو موسيقار مبدع، وفنان تشكيلى، فضلا عن أستاذيته فى الطب) أنى أفهم هذه الموسيقى دون أن أدرك ذلك، أو بتعبير أدق- أنى لابد قادر على معايشتها لما يعرفه عنى، وأن ما ينقصنى هو الوقت ومفتاح التهيؤ وأبجدية التذوق، فهو يعتقد أننى أمتلك الاستعداد والقدرة والنبض. فأتعجب، وأشكره آملا، وأدارى خجلى أكثر ولا أستطيع أن أوافقه أبدا.

أتذكر أمل تشارلز داروين صاحب نظرية التطور، أمله وهو يسترجع تاريخ حياته الجافة وعقله المنظم، وكم أنه كان يتمنى لو أتيحت له فرصة أن يحيا حياته من جديد باختيار ذاتى، إذن لنمّـى- كما قال آملا- هذا الجانب الموسيقى من وجوده؛ لأنه- دارون- لم ينْـمُ أبدا كما يحب ويتصور، ويخيل لى أن اللغات الأساسية المعلنة المتاحة للإنسان المعاصر هى ثلاث أساسية: الرمز اللغوى، واللحن الموسيقى، والتشكيل المساحاتى واللونى. وأتألم لطغيان لغة واحدة على تربيتى، تربيتنا، كل هذا الطغيان، وأرجع إلى ملاحظة صديقى الأستاذ الطبيب الجميل الموسيقار التشكيلى أ.د.طارق حسن، وأتساءل: هل يمكن أن يصدُقُ أمله فعلا فى واحد مثلى؟ ولم لا؟. ألست أقرض الشعر موزونا دون إلمام بالأوزان؟ بل إننى نادرا ما يفوت على أذنى بيت مكسور دون أن ألتقط عيبه، وربما أعدله، حتى لو تداخلت البحور واختلفت، حتى لو اختفت القافية. أليس الشعر هو تشكيل للزمان والمكان برمز وصورة يتخطيان قوالب اللغة القديمة؟. وقبل أن أطمئن إلى أن هذا الجانب الموسيقى من وجودى مازال حيا، ويمكن إطلاقه إلى مداه، أتذكر بعض التعليقات على شعرى المتواضع؛ حيث إنه لا يخرج عن بحر أو اثنين، ويكرر- مثل أغلب الشعر الحديث -للأسف- البحر المتدارك، حسب ما قالوا لى، فأتراجع عن رضاى عن تعليق د.طارق، وأرضى بأقل الأمل.

أعود إلى المجموعة والهواء مازال يغنى، ونحن جزء منه وسط المروج الراقصة من حولنا. أتذكر أن تجاوب الطبيعة مع الأغنية لايرتبط -بالضرورة- بالطبيعة الوديعة أو المنعشة. بل قد يواكب الطبيعة القاسية والثقيلة.

أتذكر طفولتى أيضا وما كان بها من أغان  طروب تنطلق فى جو ملتهب قاس.

كان ذلك أكثر ونحن نجنى القطن فى أغسطس وسبتمبر، وجنى القطن فى بلدنا كان مهرجانا شعبيا متصلا كل عام، قبل أن تتشوه قرانا بالتسجيل والفيديو، وكانت البنات الجانيات الطروبات ينطلقن فى تحد قَوِىٍّ لحر الظهيرة بالأغنية:

الحر طلع علىّ وانا أعمل ايه فى الحر

لما الهدوم تنعصر، لما الخدود تحمر

الحر طلع علىّ… إلخ

حين سمعت هذه الأغنية لأول مرة، وكنت حول الثالثة عشرة، أخذت أنظر فى الوجوه وهى تحمر، ويشدنى وجه “مديحة” ذات العيون الواسعة والمشية المتثنية القوية، والدلال المستبد، وأرى وجهها “مزنهرا” فى صحة متدفقة. وحين احترت مؤخرا بعد تخصصى فى تعريف ماهىة الصحة عامة، والصحة النفسية خاصة، وكتبت فى ذلك بحثا مستفيضا، وكيف أن الصحة ليست مجرد اختفاء المرض أو عدم وجود أعراض، كان يطل علىّ وجه مديحة فى هذا اليوم الحار، وأقول لنفسى سرا. لو أن عندى من اللغة العلمية ما أبلغ به زملائى وتلاميذى أن الصحة اسمها “مديحة”، لأعفانى ذلك من أى تنظير آخر؛ ذلك أن وجه مديحة الذى يزيد احمراره حر سبتمبر وجنى القطن: هو النقيض المطلق لهذا الانطفاء الغبى الذى هو المرض الحقيقى الذى يسمى باسم تدليل سخيف، التكيّف الاجتماعى جدا، الذى ليس سوى حياة باهتة، هى والمرض سواء.

وأنزع نفسى من حقول القطن ووجه مديحة، واللوز المفتح ينتشر حوله فى حنان رائق، وأعود إلى الليل وهو يتسحب علينا فى طريقنا إلى زغرب، فيحد من سطوع الخضرة وتحديد معالم الطبيعة، وأنظر فى الساعة فأجدها الثامنة مساء، والشمس مازالت طالعة، وإن كانت تتوارى وتظهر بين سحب متناثرة قرب خط الأفق (الغربى- إيطاليا)، وأتذكر شاعرا مجهولا يصف مثل هذا المنظر فى جمال كاد يفوق جمال الطبيعة نفسها، حين يشبه الشمس “بين تبلّج وتفرّج”، “كتنفس الحسناء فى المرآة، إذ كـَمـُلـَتْ محاسنها ولم تتزوج”. وكان والدى -رحمه الله- يعجب بهذين البيتين، وهو يدندن بهما بين الحين والحين، ويعود يشرح لى تنهيدة هذه الحسناء المنسية، وبخار أنفاسها يتكثف على زجاج المرآة فى أجزاء دون غيرها، ووجهها- والشمس بين تفرج وتبلج- يطل ولا يطل. ويفرح والدى بجمال اللغة فرحته بجمال الفتاة وجمال الطبيعة جميعا، ويظل هذا التشبيه كامنا فى قاع وعيى، حتى أعيد اكتشافه هنا من جديد، بل إننى اكتشفته مقلوبا وأنا أرسم صورتى الذاتية فى ديوانى بالعامّية “أغوار النفس” حين وصفت محاولتى التعرّف على ذاتى فى المرآة:

أنا لو أبُصّ فى المرايهْ حاشوف خيالْ، إيده اليمين إيدى الشمال، واجى أقرّب ألتقى برْد الجماد، وشّى يبطط والنَّفَسْ بيغطِّى تقاسيمه كما جبل السحاب قدّام قمرمظلم حزين.

وأتساءل: لمَ كل هذا الحزن؟ لمَ كل هذا؟ (أنظر الترحال الثالث،الفصل الثانى).

وأعترف أننى كنت أحوج ما أكون لحفل الطبيعة هذا، هنا، هكذا.

يزداد زحف الليل بأسرع مما توقعنا، وتتراءى لنا محطة “بنزين”. فنعلم- أو نأمل- أننا على وشك الاقتراب من موتيل ما، فالموتيلات عادة تسبق أو تلحق محطات البنزين بدرجة ما، ويبدو أن تجربتنا – فى موتيل الجبل – كانت رائعة لدرجة جعلتنا نتصور أن “كله كذا”. لكنى أشك فى توقعاتنا هذه، فالروح العامة اختلفت، والإيقاع تغير، وزحمة السيارات- بلا حوار- اشتدت، وغلب عليها- فيها- وجوه تبدو مشغولة جدا بالتجارة أو بالرفاهية، دون الطبيعة أو الناس من أبناء السبيل، وأرفض هذا التمادى فى الأحكام لمجرد تغير الجو العام. وأفتراض أن المسافرين هم هم مسافرو الجبل الخواجات أصحاب العربات النقل وكرافانات الفسح وسيارات السباق الجامحة، فلماذا رأيتُهم هناك “أجدع ناس” وأراهم هنا “أى كلام”؟.

على الرغم من  كل هذه التحفظات، فقد تحقق بعض ظنى حين وجدنا حجرات الموتيل المشار إليه قبل قليل، تقع فوق بناء محطة البنزين شخصيا، بكل الفضلات البشرية والبترولية والمصانعية المختلطة بعضها ببعض لدرجة الاختناق. أين هذا من صفاء الجبل والرذاذ يغسل رباه برقة حانية؟. وترفض المجموعة المبيت “هنا” حتى لو…، وأرفض بدرجة أقل مواصلة السير فى الظلام حتى لو 000، خاصة وقد اكتشف أحد أولادى أن مصباحا أماميا فى سيارتنا لايضئ نوره الكبير أصلا، وأحمد الله أنه المصباح الأيمن، وإلا… ويغلب رفضهم رفضى فنمضى آملين فى فرج “موتيلى” قريب، وتطول المسافة، والخبثاء من خلفى يتهامسون أن “كله مكسب”، باعتبار أن أىة مسافة نقطعها فى الليل ستمنحنا وقتا مماثلا بالنهار لانضيعه فى السفر، ويثور غيظى لاختلافنا الذى يزداد؛ حيث أعتبر- كما ذكرت (وأريدهم أن يعتبروا) أن السفر غاية فى ذاته، وأن النهار له عينان تسمحان لنا بأن نكون فى حالة وعى مباشر فى مواجهة الطبيعة. وقبل أن أعلن خواطرى هذه، أتذكر بغيـظ كيف افترقتُ عنهم بهذا النوم الطويل الذى يغمرهم، إلا من عليه دور المرشد بجوارى، ولا أستطيع أن أمنع ذلك وإن كنت أتحسّر على حرمانهم من بعض مثيرات الطبيعة وأنغامها التى أتحاور معها طول الوقت، لكننى لا أوقظهم أبدا إلا إذا توقفنا. داخلنى شك أنهم يستعملون الليل للسفر حتى يوفروا اليقظة للتمتع نهارا، طيّب، ألا يعملون حسابى؟ أم أن العربة تسير ليلا وحدها؟ وأسكت وأدعو الله ألا يلاحظوا درجة احتجاجى حتى لا أفسد عليهم كسلهم الاختيارى. وبعد قليل (والقليل هنا أصبح حوالى مائة كيلومترا بعد أن تعودنا على التحدث بالمئات) نجد موتيلا آخر قريبا من محطة بنزين أيضا (لكنه ليس فوقها مباشرة)، وأكاد أسمع تململا من أنصاف النيام، ولكن رأسى وألف سيف ألا أتحرك، وأدعو أن تعززنى السيارة، فتحرن فعلا(مثل بَغْلَتِنا زمان)  وتتوقف وحدها محشورة بين عربتين عملاقتين يسدان طريق خروجها، وكأنها تحتمى بهما. وأتصور أننى والعربات الثلاث قد انتصرنا على بقية أنصاف النيام الآملين فى أجمل الأجواء بآرخص الأسعار، وأقل الجهد، وهذا ما لم يعِـد به منظر هذا المكان.

الموتيل “مودرن” والعياذ بالله، حجراته قبيحة مفروشة بموكيت يبدو أنه وضع خصيصا لاصطياد أىة ذرة تراب، والحفاظ عليها لحقن رئتينا بها ضد الحساسية(!!). وتصر الموظفة المسئولة (بلا ترحيب) على استلام كل جوازات السفر، حتى بعد أن دفعنا الأجرة مقدما. ويتضاعف غيظى وأعذر رفض الأولاد وأنا أقارن هذا التصرف بذلك الترحاب، الذى استضافنا به موتيل الجبل؛ حيث أقمنا “بكلمة شرف”، ودفعنا فى الصباح دون إلحاح أو شكوك، أليست هذه يوغسلافيا، وتلك يوغسلافيا؟ (كنت أتساءل هكذا قبل أن أعرف أنه لا يوجد شئ اسمه يوغسلافيا بل عدة بلاد وأعراق جمعهم تيتو وبالشيوعية قسرا، ثم تفرقوا كل واحد: أبوك عند أخوك) وثمة عامل آخر قد يفسر الاختلاف وهو أن وفرة الزبائن كما يستدل عليه من زحمة العربات، وبالتالى ارتفاع الكسب، قد زاد من جشع أصحاب المكان، وبالتالى قلل من دفء عواطفهم، إضافة إلى اختلاف أهل الجبل عن أهالى السهول عامة.

يصعد الأولاد قبلنا يكملون نومهم !، وأنزل أنا وزوجتى نتصفح الوجوه، ونختبر الضيافة، ونشارك الناس فى المطعم والكافتيريا الملحقين بالموتيل، ونفتقد جو “زوربا” الذى عشناه فى الجبل، هذا  شئ أشبه بسخف برامج سمير صبرى وافتعالها، يقدم لنا النادل المشروب فى تجهم روتينى، وكأننا لن ندفع مقابلا له. ونسارع بالصعود إلى حجرتنا قبل أن يطردونا، “نسارع” إلى حجراتنا مرغمين؛ حيث ندرك أننا ذاهبون لاستنشاق التراب والعطن.

وتمضى الليلة بالطول أو بالعرض.

الأحد 26 أغسطس 1984:

كان الصباح غـائما فأتاح لنا فرصة التلكؤ. كان الطعام جيدا كمّا وتشكيلا لكنّه كان بلا روح. بدا لنا أقل كرما و أضيق سماحا من الإفطار الفقير الذى تناولناه فى  فى موتيل الجبل، وكأن روح المكان تسرى حتى فى مذاق طعامه، لكننا تمتعنا مرة ثانية بمجرد الجلوس “معا حول المائدة”، بعد أن بدأنا نخاصم البسكويت بأنواعه، كما بدأنا نمل من الأكل فى العربة فى الوضع “جالسا، وأمامك قفاً غير مشارك”.

أخذ كل منا يخمن كم أمضينا فى الرحلة حتى الآن. ابتدأت معالم الزمن تضيع، وأجمعنا جميعا أننا نحس بالزمن أطول بكثير مما هو، وكأننا بدأنا الرحلة منذ بضعة أسابيع، ونتحدى بعضنا بعضا أن نذكر الأحداث بتواريخها. فبدلا من أن نقول: “لما كنا فى اليونان”، نقول: “أول أمس: لما كنا فى اليونان”، ولم يخفف تكرار هذه التذكرة من وقع المفاجأة فى كل مرة نذكر فيها أننا أول أمس- فقط- كنا هناك. أو أننا عصر هذا اليوم، أو مغربه- وربنا يستر- سوف نكون فى إيطاليا. والذى شغلنى حتى العجب (والخوف) هو ملاحظتى لتلك السرعة العجيبة التى يسير بها قادة السيارات فى الضباب؛ إذ يبدو أن السيارات تسير بالسرعة ذاتها ليلا أونهار بغض النظر عن مدى الرؤية، كان الجو  ضبابا أو انقشاعا.  فى الضباب تعلّمت أن الأخطر هو أن تمشى ببطء. الحادث الوحيد الذى هدد حياتى، فعرفنى الخط الدقيق الفاصل بين الموت والحياة، كان خبطة من الخلف عند “قها” على طريق القاهرة الاسكندرية الزراعى، حدثت بسبب إبطائى المفاجئ فى الضباب. هاجت علىّ وساوسى ومخاوفى أكثر فأكثر حين تذكرت تلك الخبرة الباقية كما هى حتى دقّ قلبى تحسّبا، وقبل أن أواجه الشجعان الصغار  بتصنّع  شجاعـةٍ داعيا الله ألا تُختبر، سَتَرها رب العالمين، بلطفه على أبناء السبيل، وانقشع الضباب فجأة. الحمد لله.

انطلقنا فى اتجاه زغرب، وعادت الخضرة والمروج تغمر وعيى. ومن فرط موجات الجمال تلو الجمال، قالت بنتٌ من بناتى إننا قد شبعنا جمالا (وخضرة) حتى لم يعد مزيد من الجمال يلفت النظر. وقد صدقتها لها وليس لى، فكل ما يزيد ويتكرر لا بد أن تشبع منه الحواس فى وقت ما، لكنى لا أشبع من الجمال أبدا. أنا أحس بجمال جديد فى كل شئ مهما تكرر، فثَمّ اختلاف لمن يريد، ويبدو أنى أعيش فى حالة دهشة مستمرة، وهذا هو الشق الاستقبالى من وجودى. أما الشق الفاعل فلعله هو ماوصفنى به أستاذنا الدكتور/مصطفى زيور فى إحدى الندوات العلمية، من أننى فى حالة “مخاض دائم”. وحين أتمثل حالى هذه فأجدنى “مستقبِلاً مندهشا أبدا، وفاعلا” فى مخاض دائم، أشفق على نفسى وأحسد الزلط الأمـَلس والعقول المستقرة داخل المناهج الثابتة، والوجدان الرائق المتمتع بالسواء والسلامة طول الوقت، طول العمر. لا أستطيع أن أستسلم لهذا النوع من الشبع والسلامة. يفاجئنى الجمال بتجلياته المتنوعة ، فلا يتكرر أبدا،

أتذكر أنى اكتشفت فى طريق الصعيد (بين عزبة البكباشى وطموه، ثم بين بنى سويف وملوى، ثم فى كل مكان) طبقات من الخضرة، وتنويعات من المناظر لم أكن أتصور أنها فى مصر بهذه الروعة والتنسيق، وخاصة حين تلاحظ كيف يقوم النخل شامخا بهاماته يحدد الأفق، ويثبت البساط الأخضر من تحته. ظللت أقارن وأُبـهر حتى أسوان، ثم عائدا بمحاذاة البحر الأحمر، مخترقا الجبل من قنا إلى سفاجة، ومنها إلى العين السخنة، ياه!! ما أجمل بلدنا أيضا، بل ما أجمل بلدنا قبلا،، وخاصة قبل نشاز بيوت الطوب الأحمر المتناثرة المرشوقة كبصقات مصدور يائس، على بساط أخضر. ولولا ضيق الطريق، وضحالة ذوق العائدين من بلاد البترول، وكثرة المفاجآت، ولولا قلة الخدمات، وقلة النظافة، وقلة الرحّالة..، ولولا..ولولا …ولولا …وأوقف نفسى؛ إذْ ماذا يتبقى من الجمال بعد كل هذه “اللوْلـوَات”، وأثق فى مستقبل بلدى على الرغم من كل شىء.

وأربـّت على عنق (عجلة قيادة) الحافلة المطيعة. وأسوى شعر عرفها المتناثر، ونمضى… بلا مفاجآت جبلية أو طقسية.

وصلنا إلى محيط زغرب، ولم ندخلها، وقد بدت لنا ونحن نلف حولها (أكثر من عشرين كيلو متراً هى المسافة بين سهمى “زغرب شرق”، و”زغرب غرب” (مثل مجموعة قلاع شرقية متعددة الأبراج، وتنتهى الطريق السريعة (إسما على الأقل)   لندخل إلى طريق وطنية. ونحدد اسم أكبر بلد قادم فلا نستطيع قراءته، وحروفه تكتب هكذا Ljublgana، لتكن، لجبلجانا. وحين نقترب منها، ونكتشف الجبال المحيطة بها، مع استمرار الطريق السهلة، أضحك على نفسى حتى لا أنسى اسمها، وأضع ألفا قبل اسمها، وأقسِّمها لتصبح “الجبل جانا” (أى جاءنا الجبل)، ولا أصرحّ لأحد من زملاء الرحلة بشطحاتى هذه.

هذه منطقة-أخرى-لها طابعها الخاص فى التفوق الجمالى. هل هذا هو ما يقال عنه الجمال الأخـّاذ”؟ أقف عند فعل “أَخـَذَ” هذا، لأحدد كيف أنه فعل متميز، إذا كان الحديث عن الطبيعة والجمال، وقبيحٌ إذا كان موضوعه الطمع والاستحواذ والاعتماد. وإذا كنت قد وصفت حالى حين زال الحاجز بين الداخل والخارج، فأحسست أنه ولم يبق علىّ إلا ان أورق وتتفتح براعمى،  “أخذنى”  الجمال حتى أصبحتُ جزءا من كل. جزءاً لا يمكن فصله، لم أعد أنا هو “أنا”، إلا بقدر الجزء الذى أمثله من هذا الكل. أخذنى الجمال كما أنا. لم أعد أنا، شعرت أن  الفعل “أخذ” هو فعل مناسبا لهذا المقام. وأبتسم لتجلّى هذا الفعل فى السياقات المختلفة .

أتذكر صديقا (أ.د. أسامة الشربينى . رحمه الله) جاء يشكو لى- فى سخرية ودعابة – أن مشروع خطبته قد فشل، بعد عدة لقاءات مع المرشحة (وكنت أعرفها، بل إننى الذى رشحتُـها له). ولما سألته عما حدث؟. قال إنها هى التى اعتذرت عن عدم إكمال مشروع الزواج. ولما سألته عن السبب. قال إنها قالت له إن شخصيتك لم “تأخذنى”. وأخذ يسألنى فى فرحة الذى نجا بجلده: ماذا كان عليه أن يصنع حتى “يأخذها”؟. وأضاف أن ربنا موجود “يأخذها” بمعرفته. فجعلنا نضحك. وأنا أطيب خاطره، وأتساءل بدورى عما كانت تقصده صاحبته  بكلمة “يأخذها”، وكيف، ثم هأنذا أكتشف مقصدها حين أخذنى هذا الجمال هكذا حتى احتوانى، الأخذ الجميل هو نوع من التسليم المتناغم للطبيعة، أو للآخر، دون أن نضيع، ودون أن ننفصل.

أفيق فجأة من هذا الوجْد الخاص مع تجليات اللغة، أفيق على “مشاكل الطاقة”؛ إذ أشاهد مؤشر الوقود، وقد مال ذات اليسار، حتى كاد يلامس الخط الأفقى إلا قليلا. وكانت كوبونات بنزيننا قد نفدت، وفشلت كل المحاولات للحصول ولو على خمسة لترات بدون كوبون. كما فشلت محاولات إصلاح أو شراء مصباح أيمن، بدلا من المعطل،  والساعة جاوزت الرابعة، وقيل لنا إننا لن نجد من يبيعنا كوبونات، وبالعملة الصعبة، إلا فى لجبلجانا (ثبت بعد ذلك أنها تنطق لوبليانا، فالچيم تنطق ياءً). ولم يكن بد من الاستمرار فى السير بثقه مزعومة، مضمرين أننا  إذا توقفنا – لا قدر الله – فسوف نرغم عربات الإنقاذ فى الحكومة اليوغسلافية أن تتولى أمرنا، بما يحافظ على استمرار العلاقات الودية بين دول عدم الانحياز!!!. ولكن الله سلم ووصلنا الى لجبلجانا (لوبليانا)، ونظرت إلى الخريطة، وقدرت أنه لم يبق على الحدود الإيطالية سوى أقل من مائة كيلومتر. فقلت آخذ من الوقود ما يكفى هذه المائة الكيلو فقط. ولكنى عجبت من أن معظم العربات التى أمامى وخلفى تملأ خزانات وقودها حتى النهاية (فل تانك). وقد تبينت – فيما بعد – أنه يوجد فرق فى سعر البنزين بين يوغسلافيا وإيطاليا، يفسر خيبتى ونصاحتهم،  وهو  يتناسب مع اختلاف النظم الاقتصادية، ما أصعب مهمة الحكومات، الحمد لله أننى لست وزيرا فى أى نظام كان، كنت سأحمل هم ما لا أعرف، إلى أىن ذهبت ؟ قف!!!!

عزمت علىّ ابنتى منى يحيى أن تقود هى. بدلا منى لأرتاح. قليلا، مع أننى لم أكن قد سمحت لنفسى بالتعب، كما كنت أعلم أنى لـن أرتاح إذا تركت عجلة القيادة، ولكنى وافقت محاولا أن أنتصر على وساوسى الخاصة. وسرعان ما فوجئنا بالتواء الطريق وضيقه، ودخولنا إلى منطقة جبلية ذكّرتنا بالمغامرات بعد الحدود اليونانية اليوغسلافية أول أمس (ياه..أما زلنا “بعد غـَدِ أولَّ أمس”؟ فقط؟). وبكل سخف طلبت من ابنتى التوقف، محاولا ألا أهز ثقتها، فالعيب فىّ، واعتذرت لها بأنى خائف بقدٍر أكبر من قدرتى على السماح، رغم أنى أعلم أنها تقود أكثر ثقة، وربما أكثر مهارة منى، بل وربما أكثر جسارة أيضا. وهذا هو مزلق الفرس (لا مربطه). وبعد قليل انتهت المنطقة الجبلية، ولكننا ظللنا “ننزل” بلا انقطاع حتى شغلنى كيف سأصعد كل هذا الصعود عند العودة.

وينام الجميع.

ولا يستيقظون إلا حين يهدأ سير العربة، ونكتشف أننا وصلنا إلى الحدود الإيطالية، أين، بالمقارنة بالحدود اليونانية اليوغسلافية؟

بدا لنا أنه لم يدر بنا أحد داخلين، كما لم يسألنا أحد خارجين من يوغسلافيا، عن أى شئ على الرغم من كل تخوفاتنا.

 

الفصل الثالث

فى ضيافة المرأة المُهرة

..يبدو أن”الطريق” يوقظ بشكل ما علاقة أخرى بالطبيعة البشرية، والحدس، والتنبؤ، وألعاب القدر، وضعف الحسابات.

…. قانون خفى، وتناسق محتمل، ونشاز وارد، وقدَر متربص، وانتحار كامن، وغرائز متحفّزة،

14 إبريل 1985 (وقت كتابة هذا الفصل):

لم يعد ثَمَّ شك فى أن تسجيل هذه الرحلة، ليس سوى تحايل للكشف عن جانب ما من “سيرة” كاتبها، ثم إنى أكتبها بعد أسابيع كثيرة (أو شهور قليلة) من نهايتها؛ فهى ليست تسجيلا.. ولكنها استعادة طليقة. ذلك أنه قد خطر ببالى أن كل هذه الرحلة يمكن أن تختصر فى كلمات كالتالى:

“سافرنا و عسْكرنا، وعاشرنا الخواجات (وقد:”جـدُّوا فى الزَّمانِ وألعبوه”، كما يقول المعرى) وصاحبنا الطبيعة، ولم يُلْهِنا الشراء عن الناس أو عن أنفسنا، وعــُــدنا”.

فماذا يمكن أن يجعلها تستأهل أن تحتل هذه الصفحات، إلا أن يكون كاتبها يريد أن يقول شيئا فانتهزَهَا فرصة، ليقوله. وهل يمكن ذلك إلا بهذا التجوال فى الداخل؟

الكلام عن الرحلة ليس إلا تحايلا، للترحال “فى الذاكرة”، أكثر منه وصفَ تجوال “فى الطريق”. كذلك لابد من الاعتراف أن ما أسميه “الناس”، إنما يشير إلى الناس فى “الداخل”، أكثر مما هم فى”الخارج”. على أنى لا أعنى بالذاكرة ذلك التذكر الراوى، بقدر ما أعنى ذلك” الإحياء المعايِشْ.

الذاكرة أمرها عجيب، وكل الحديث العلمى عن طبيعتها، لابد أن يتوارى بجوار حقيقة حِدّتها، وأعاجيب مفاجآتها، وحيوية روائحها؛ ذلك أنه يمكن الحديث عن الذاكرة كما دَرَستُها وأدّرسها بتقسيمها إلى : ذاكرة فورية، أو ذاكرة قريبة، أو ذاكرة بعيدة،… إلخ. وكل ذلك إنما يشير إلى “حفظ” معلومات معينة، ثم استرجاعها بتوقيت معين، وقدر معين. أما الذاكرة التى تبرق فى الظلام، والذاكرة التى تنقضُّ من شاهق، والذاكرة التى تتهادى فى تراخٍ، والذاكرة فى سباق التتابع، والذاكرة التى تفوح رائحتها حقيقة وفعلا، فهذه ظاهرات ليست فى متناول “المنهج العلمى” التقليدى المتواضع. فليفسح لنا العلم مجالا لنقول ونحكى، وليكن موقفنا حاسما وحادا مهما ضحكوا وأنكروا الكاتب اليابانى يوكيوميشيما، وهو يقول “كنت أدعى لسنوات طويلة أن بـوسعى تذكر أشياء شاهدتها وقت ميلادى، وكلما قلت ذلك كان الكبار يضحكون…إلخ”. ولم لا يصدقونـه؟. خوفا من أن يتذكروا بدورهم؟ فإذا لم تصدّق يوكيوميشيما، فلتصدق جارثيا ماركيز وهو يصف ما قفز إلى سطح وعى الكولونيل “أورليانو بونيدا أمام فصيلة الإعدام (فى مائة عام من العزلة)؟ “… لم تحضره أنصع ولا أغرب من كتلة الجليد (مجموع رؤوس الإبر) التى رآها طفلا منبهرا بدهشة والده فى مهرجان الغجر السنوى. (كان ذلك قبيل تنفيذ الحكم بالإعدام رميا بالرصاص).

خطرت لى هذه التأملات!!! وأنا أستقبل مفاجآت “وعيى الآخر”فى هذه اللحظة. ثمانى عشرة سنة مضت وأنا أسأل أولادى عن أغنية كنا نغنيها معاً؛ حين كنت أتوجه بهم صباحا إلى المدرسة، فلا يتذكرونها. ولا أنا طبعا، وفجأة، وبدون مناسبة، وأنا أقود السيارة فى هذا البلد الغريب، تقفز إلى وعيى تلك الأغنية بالذات؛ برنينها وصليلها، وكلماتها التى تبينتُ بعد قليل أنى لم أفهم معانيها كما ينبغى، ويرجع الأولاد أطفالا يتقافزون على المقعد الخلفى للسيارة، وبجوارى؛ ليغطوا بهذا النشاط الغنائى بعض الغم المدرسى الصباحى، وتعود الأغنية بكل أنغامها وأنا أقود السيارة هنا فى بلاد الغربة، تعود لتكشف عن نفسها (وربما عن المنطقة من دماغى التى كانت مختبئة بها) فأردد بالفرنسية فى صمت:

كان ثَمَّ فيل يتأرجح،

فوق شبكة من خيوط العنكبوت،

وحين وجد ذلك ممتعا (مُهِمًّا)،

ذهب ينادى فيلا ثانيا.

أصبحا فيليْن يتأرجحان

فوق شبكة من خيوط العنكبوت.

وحين وجدا ذلك ممتعا…..إلخ إلخ

(ثم ثلاثة أفيال.. فأربعة.. وهكذا).

كنا قد خرجنا من الجبل، ذى الطريق الوعرة التى كنا نتأرجح فيها، والذى كان أولى باستعادة هذه الأغنية. ثم إن معنى الأغنية لم يكن فى متناولى أصلا حتى ذلك الحين، لكنه النغم هو الذى عاد أولا ثم جرّ وراءه الكلمات. قبل أن أعلن مفاجأة ذاكرتى العجيبة، أراهن إحدى بناتى على أنى تذكرتها “أخيرا”، وتتعجب، وتنكر، فأنشدها فتشاركنى، فأسألها-لأول مرة بعد ثمانية عشر عاما- عن معنى الشطر الثانى الذى كنت أردده بالفرنسية دون أن أعرف معناه، فتترجم لى معناه، فأمتلئ فرحا طفليا، وأنا أشاهد ذلك الفيل الضخم يتأرجح على شبكة خيوط لعنكبوت. !الدنياوهمٌ رائع. الأطفال يعرفون ذلك وهم يشاهدون الفيل يتأرجح على شبكة خيوط العنكبوت، وأنه ينادى زملاءه الواحد تلو الآخر، ليجدوا ذلك ممتعا. الله!!!”.

ظهرت أشجار الفاكهة فى الحدائق حولنا من كل جانب، وكأنها تلتقى فى نهاية الطريق فتسده، وأدعى الخجل من هذا الرطان الخوجاتى، فلا أنا أتقن الفرنسية، ولا كانت طفولتى كذلك.

أنا لم أدخل المدارس إلا متأخرا (فى سن السابعة)، ظللت أقاوم هذا السجن المبكر حتى يئس أبى منى فعلّمنى الحساب أولا حتى استطعت أن أقوم بحساب تفاصيل صرف العشرة صاغ التى كان يعطيها لأمى فى طنطا كل صباح، لعل ذلك كان سنة 1940، وكانت العشرة صاغ تكفى لشراء اللحم والخضار وكافة الطلبات ويتبقى ما أثبته وأنا فرحان كبديل عن المدرسة. وحين اضطُررت إلى دخول المدرسة أخيرا كنت قد تقدّمت قليلا فى حروف الهجاء أيضا فدخلت مباشرة إلى سنة ثانية أوّلى (غير نظام الابتدائى. أيضا كان يسمى النظام الإلزامى) بواسطة من فريد أفندى نصّار (من بلدنا)، كان مدرسا فى مدرسة ملحق المعلمين بطنطا، وفجأة وجدت لزاما علىّ أن أحفظ القرآن من الآخر أجزاء “عم”، و”تبارك” ثم “قد سمع”، مع أنها كانت مدرسة ولم تكن كُتَّــابا، فعجزت طبعا، وفى أجازة الصيف دخلت امتحان الملحق للسنة الثانية، للالتحاق بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية الابتدائىة بطنطا، دون سابق التحاق بالسنة الأولى لكبر سنى، ربما كان النظام يسمح بذلك، وربما جاملوا والدى الذى كان مدرسا فى مدرسة التجارة المتوسطة مع زميله “ابراهيم أبوالنجا” الذى صار بعد ذلك من أهم رواد الإدارة فى صحيفة الأهرام ثم فى مصر كافة.

أول ما وقع نظرى على مؤلف لوالدى (أيام أن عثرت على روايتى الشيخ الصالح، وأزميرالدا) كان بالاشتراك مع الأستاذ إبراهيم أبو النجا، كان كتيبا صغيرا أشبه بالكراس، وأذكر أن عنوانه كان “مناظرة بين العقل والعاطفة”. كان تسجيلا لمناظرة أجريت فعلا بينهما فى حفل مدرسى كما أخبرنى والدى فيما بعد. فوجئت آنذاك بأول تناقض أرصُده بغموض نسبى، ذلك أن والدى كان يدافع عن العقل (بطريقة عاطفية لا تخفى)، فى حين كان رجل الحسابات ابراهيم أبو النجا يدافع عن العاطفة (بإثباتات عقلية حاسمة المنطق). وأذكر أننى توقفت عند استشهاد والدى فى هذاالكتيب وهو يحاول أن يثبت -هجاءً- أن العاطفة الجامحة تسخِّر المنطق لأغراضها، استشهد والدى بقول الشاعر”والمالُ حلّل كل غير محلّل حتى زواج الشيب بالأبكار”، ولست متأكدا إن كنت قد رفضت هذا الاستشهاد لأنه فى غير موقعه، فى تلك  السن الباكرة، أم أن هذا الرفض أتانى لاحقا فى سن متأخرة.  أين العاطفة فى هذا الاستشهاد بالله عليكم؟ إنها حسبة عقلية صفقاتية خبيثة !!

نجحتُ فى امتحان الملحق للالتحاق بالمدرسة الابتدائية بعد أن كاد قطارالتعليم يتركنى، نجحت بالصدفة أو بالثقة فى قدرة والدى على تعويض ما قصّرت فيه، لا أعرف حتى الآن، لكنى وجدت نفسى فجأة فى سنة ثانية ابتدائى فى مدرسة “الجمعية الخيرية الإسلامية ” بطنطا، دون أى تحضير دراسى جاد سابق، وكنت قد جاوزت الثامنة، لم أمكث فى تلك المدرسة إلا بضع أسابيع، ثم انتقلت إلى زفتى مُطالَبا من والدى – هكذا خبط لصق –  أن أكون الأوّل على الفصل ، ومن الفترة الأولى؟ كيف بالله عليكم؟

كان والدى يحاسبنا حسابا عسيرا. أنا وأخى محمد الذى يكبرنى بسنتين . كنا إذا لم يطلع الواحد منا الأول فى امتحان  الفترة، ولو حتى جاء ترتيبه الثانى، ينادينا بعد استلام الشهادة، ويسألنا عن درجة كل مادة، ويكمل الدرجات الناقصة ـ ضربا بالمسطرة على أكفّنا ـ حتى الدرجة النهائية، مثلا الحساب 42 على 50، خذ عندك43، 44، 45 وهكذا، وكنت أحتجّ بينى وبين نفسى أحيانا، وعند أمى أحيانا أخرى بأن المفروض أن أُضرب عددا من المساطر تساوى الفرق بينى وبين الأوّل، وليس بينى وبين الدرجة النهائية، فكانت أمى تطيّـب خاطرى وهى لا تفهم ما أعنى، ثم تقول وهى تبكى بأن والدنا أدرى بما يفعل. كنت أتعجب كيف يطلب منى والدى أن أطلع الأول وأنا تاريخى الدراسى كله عام واحد (فى المدرسة الأولية) وبعض عام فى هذه المدرسة الجديدة التى لا أعرف ماذا هى، ومع ذلك طلعت الرابع فى الفترة الأولى، ولم يشفع لى ذلك، بل إن أخى طلع الثانى، وكان فى سنة رابعة ابتدائى، ونال جزاءه بنفس  الطريقة، وفى الفترة الثانية كنتُ قدعملتُ حساب المساطر التى تنتظرنى، لكن طلع ترتيبى الثانى، فتذكرت موقف أخى وأن هذا التقدم مرتبتين (من الرابع إلى الثانى) لن يشفع لى، وإذا بى أنفجر بكاء فور معرفتى هذا الترتيب. كان ذلك  فى حصة حامد أفندى مدرس الإنجليزى، وكان هو مشرف الفصل الذى يوزع الشهادات، وتعجّب الرجل، كيف لا أفرح بترتيبى المتفوق (الثانى) وأنفجر هكذا فى البكاء، فسألنى، فأخبرته وأنا أنشج عن مواد “قانون العقوبات” الغريب الذى يحاسبنا به والدى، فأخذ الشهادة منى، ووجد أن الفرق بين درجاتى ودرجات “الأول” هو درجة واحدة، فاستأذن الأول، بعد أن قرر شيئا رأفة بحالى، وقال له (للأول) إن ترتيبه لن يتغيّر لأن اسمى “يحيى”، فإذا أضاف لى درجة واحدة فى مادته (الإنجليزى)، ويبدو أنه أقنع نفسه أنى أستحقها، فسيظل الأول هو الأول، وسأكون أنا الأول مكرر، وقد كان، وكان الترتيب حينذاك يكتب بالأرقام 1-2-3) وليس بالحروف (الأول، الثانى، الثالث)، فزادنى حامد أفندى درجة فى الانجليزى، وقلب رقم اثنين إلى”م” ووضع على يمينها رقم”1″، فأصبح ترتيبى 1″م”، (أى الأول مكرر) وأنقذنى  مما لا يقل عن ثلاثين مسطرة وهو العدد الناقص عن مجموع الدرجات النهائية.

ومازالت فرحتى بهذه الدرجة أكبر من فرحتى بأى درجة نلتها فى حياتى.

هذا تاريخ لا يسمح أن تقـفـز إلىّ مثل هذه الأغانى بالفرنسية هكذا، فى الوقت الذى لا يتذكرها أولادى (أصحابها الأصليون).

أنظر أمامى فإذا بالخضرة المتنوعة تتكثف بشكل جميل حتى يبدو لى أن الطريق يختفى فيها، وأنها حدائق ممنوع اختراقها، فتتسرب إلى ذاكرتى ـ فى ما يشبه الاعتذار التعويضى ـ أغنية قديمة جدا، سمعتُُها فى طفولتى الأولى بـِلحنها المطاط، الذى يفرض على من تغنيها من نساء بلدنا أن تُحرك كلتا يديها مضمومتين أمام فمها ذهابا وعودة، فى تراوُح هادئ، وسلاسة طروب تقول الأغنية:

“نين يابراهيم؟.

َنُشوا الجناينْ، ونمشى منين يابراهيم؟.

لو كنت تتلف لالفّك فى جوز قفاطين،

واشيل المشنـّة وأقول حلو وعسل ياتين.

وتتردد الأغنية، وتتغير الأسماء، فيحل” بركات” محل” بِراهيم”، و”جوزْ ملَساَت” محل” جوز قفاطين”، و”البلح الأمهات”محل”التين”.

نين يا بِــركات،

َنُشوا الجناين ونمشى منين يا بِركات،

لو كنت تتلف لاِلـفـَّك فى جوز ملَسات.

واشيل المشنـّه واقول طرى وعسل يامْهات.

(ملحوظة : نين” تعنى “منين” وملَـسات جمع ملس، والملـَس هو غاطاء  أسود كاس أشبه بالعباءة منه بالملاءة اللف، كان النساء يلبسنه احتشاما عند الخروج عادة).

وأضغط على بدال الوقود وكأنى أخلّق الطريق تخليقا أشق به حاجز الحدائق الجميل، وأشعر أن الذىن منعوا دخول أرض الله إلا على محتكريها قد نسوا أن للحدائق إرادة مستقلة تسمح بدخولها لمن يحبّها. “سماح”الحدائق أرحب من “خلق الناس”. إن من يضيـّق على المحبين الطريق، هوالخوف النابع من داخلنا قبل المطاردة الملاحِقة من خارجنا،  الخضرة مهما تداخلت لا تصبح سورا يمنع الاختراق إلا إذا أغلقنا مسامنا نحن أولا . نحن نقيم الحواجز داخلنا وخارجنا،  لتحول دون اتصالنا بالطبيعة ، حالت غابات الأسمنت المسلح  التى تلاصقت على الساحل الشمالى عندنا  مؤخرا بين الناس والبحر، ويا ليت سكانها يعرفون ما هو البحر..

كنا قد تخطينا المنطقة بين “زغرب” و”لجبلجانا” (لوبليانا). وها نحن أولاء، قد وصلنا إلى الحدود الإيطالية.  ركنا الأتوبيس حتى يراجع مسئول الجوازات أوراقنا، وقد استغرق ذلك وقتا طويلا، بالمقارنة بما كان على حدود اليونان ويوغسلافيا. ويبدو أن النقلة من “الشرق” إلى “الغرب” (السياسَييْن) أصعب من العكس (مع أن المفروض هو العكس). وحين طلب الجندى المسئول على الحدود أوراق السيارة، فرحت وقلت: “أخيرا”!!. سيثبُت أن تعبى فى القاهرة له جدوى، فكل شئ معى تاما وجاهزا: الرخص، ودفتر”التربتيك”، واستمارة “129”، ورخصتى الدولية ذات الأختام الخمسة. فأنا أحمل من بلدنا مايسمح لى بذلك، رخصة درجة أولى (جميع أنواع السيارات استخرجتها وفى داخل داخلى أنى قدأُضطر للعمل بها يوما، من باب الاحتياط ضد الفقر. أنظر بعد)، على الرغم من كل ذلك مط الرجل شفتيه. بعد أن قلـّب بسرعة واستهانة شديدتين فى كل الأوراق، وسأل: “الكارت الأخضر”؟ . لم أفهم لأن أوراقى فيها كل الألوان، إلا الأخضر، وتحمست للدفاع ؛ فقد سألت كل الناس المسئولين فى بلدنا قبل مغادرتها عن المطلوب، وأكدوا لى أنى- هكذا- تمام التمام، وزيادة. ولكن رجل الحدود هز كتفيه مرة أخرى وأشار إلى مكتب قريب على أحد الجانبين، وانصرف كأنى فهمت. ولم أكن قد فهمت وحياة رسول الله، فتابعتـه، وقد اهتزت ثقتى بأوراقى قليلا، محاولا أن أفهمه أُنى كنت فى اليونان ويوغسلافيا، ولم يطلب منى أحد شيئا بأى لون كان، بل إنهم  قد بلغت ثقتهم بى، (ربما ببلدى) أنهم تركوا أرقام سيارتى باللغة العربية لم يستبدلوها، وأنهم…وأنهم..، وهو يرفض الاستماع أصلا، ويعاود بين الحين والحين الإشارة إلى المكتب إياه، ذاكرا شيئا مثل أن اليونان ويوجسلافيا بلاد “أى كلام”. أما بداية من إيطاليا فيبدأ الكلام الجد، وإيش جاب لجاب، وتصورت أن أوراقى ناقصة لدرجة أنه يحتمل ألا نكمل الرحلة ونعود إلى بلدنا لنقص فى أوراف السيارة. لم أفزع، وقلت فى نفسى: والله فكرة!. فلعلنى شبعت مما رأيت، ولقد مررنا فى بلاد الله وقابلنا من خلق الله مايحتاج إلى شهور وسنين؛ حتى نستوعب بعض مايجدر بنا أن نستوعبه. المسألة ليست بعدد البلاد أو بعدد الساعات، وإنما بنوع الرؤية وصدق المعايشة. والله فكرة!! وذهبت إلى المكتب “المشار اليه”، وكررت لفظـَىْ “كارت أخضر”؟ فى شكل استفهامى، لعل وعسى. وإذا بالآنسة الحلوة كما القشدة الصابحة تبتسم فى وداعة، وتمد يدها إلى “دفتر” كله “أخضر فى أخضر”، وتطلب منى – ببساطة وترحيب – رخصة السيارة،  فأذهب وأحضرها، وتسألنى عن مدة الرحلة، فأذكر لها رقما تقريبيا، وأدفع فى دهشة مستسلمة بلهاء مايوازى أربعين أوخمسين دولارا، وأكتشف أن هذا “الكارت الذى هو أخضر” هو مايفيد التأمين الإجبارى لصالح الغير على السيارات التى تسير فى بعض بلاد أوروبا الغربية . وتُعدد لى البنت (التى هى مثل القشدة الصابحة) الحروف المثبتة على الكارت والتى تشير إلى المدة والبلاد التى يغطيها التأمين طول شهر، و” أتنفس الصعداء” (بدا هذا التعبير طريفا مناسبا لمشاعرى فى هذه اللحظة). وأعود رافعا رأسى كالقائد المنتصر بلا معركة وقد حلَّ إشكالا لم يوجد أصلا إلا فى تقصيره وجهله. ويلمح بعض أولادى ابتسامتى فيطمئنون أننا سوف نكمل الرحلة، بعد أن واكبوا قلقى المبدئى، وعرفوا بعض تخوفاتى حتى تقلصت أمعاؤهم. أما البعض الآخر، فكان يرد على الجندى الآخر الذى يتصرف وكأنه يفتش أمتعتنا   ويسأل: “ويسكى”؟، فيردون: “مسلمْ”، فيهز رأسه باعتبار أنه فهم.

ونمضى بعد أن نتخلص من بقايا الدينارات اليوغسلافية، فى مكتب تبديل العملة ذاته، ونحصل على ملايين الليرات الإيطالية (فى ثوان: أصبحت مليونيرا!!)  فى مقابل عشرات من الدولارات المزهوة المتبخترة فى سوق المال والسياسة.

نحن الآن فى أقصى شرق إيطاليا، معنا الكارت الأخضر الذى فاقت أهميته ما يحيطنا من خضرة، لم يختلف شئ ذو بال، اللهم إلا اتساع مساحة الانفراج على وجوه الناس، وتراخِى إحدى الساقين فى وقفة جنودالمرور، والإجابات الرحبة التقريبية، ونجاح استعمال اللغة الفرنسية أو الإنجليزية بدرجة أكبر. الفروق تبدو قليلة لكن الدلالات كثيرة.

سرعان ما “ركبنا”الطريق السريعة المتغطرسة مثل الإمبرياليين (بصراحة: أنا لا أفهم هذه الكلمة جيدا، ولا أستعملها أبدا، ولكنى وجدتها مناسبة هنا بشكل ما.. فليصححنى الشعراء والساسة!!). وسرعان مانقترب من محطة بنزين فخمة جدا، وواسعة جدا، ونعاود البحث عن مصباح أمامى  “كامل” لحافلتنا، فلا نجد، فنشرب البارد، ونملأ خزان “البنزين”، ونكتشف فرق سعر البنزين. ونقترب من كوكبة من فرسان “الموتوسيكلات”. عدد كبير جدا هذه المرّة، يمتطى صهوة جياد السباق الأحدث، يختلط فيه الرجال بالنساء بلا تمييز، وأراهن نفسى لو نجحتُ فى “فرز” أيتها أنثى من ذكر، فأقترب وأدور وأدقق باحثا عن شعر حرير، أو صدر ناهد، أو استدارة دالة، بلا طائل.”فالجينز”، والكاب، والسويتر، قد أخفوا كل شىء، وأخشى أن يشك بعض أولادى فى حركاتى، وينظر لها (لحركاتى) بعض الفرسان والفارسات شذرا. لا.. أبدا، معذرة، فلا أظن أنى أحسنت الوصف، ولا أظن أنهم يعرفون كيف ينظرون “شذرا” أصلا. هم ينظرون “فقط”، متى أكف عن هذه الإسقاطات؟؛ إن من طبيعتهم- المكتسبة غالبا- أن يقبلوا كل احتمال، بما فى ذلك موقف تحررى يقول: “..وانت مالك يابايخ”. أنا لا أعتقد أن عندهم وقتا للنظر شذرا أو بدون “شذر”. هم يقفون..، يستريحون، يشربون البارد أو الساخن، وقد يتكلمون فى صمت أو بصوت، ثم ينطلقون بسرعة مئات الكيلومترات فى الساعة. إلى أين؟؟. لست أدرى!! (ربما: ولا هُمْ).

نبهنى أحد الأصدقاء (المرضى) بعد أن قرأ الفصل الأول من هذه الحلقات، إلى أن المخرج فللينى صور هذه الموجة “الموتوسيكلاتية” مؤخرا فى أحد أفلامه؛ باعتبار أنها علامة من دلائل الفاشية الجديدة. ربما!. ولكنى لم أنتبه إلى هذا المعنى، قد تقع منطقة الالتقاء فى معانى التأكيد على”الفردية” و”القوة” و”السرعة” و”أوهام الحرية”، ترجمها المخرج فللينى إلى الفاشية. أما ما وصلنى من هذه الوسيلة فهو شعور إيجابى بشكل ما، بدت لى نوعا من الفروسية التكنولوجية المعاصرة. المهم.. لم أستطع أن أميز فيما بينهم فتى من فتاة، عدت إلى الأولاد بعد أن استعملوا كل خدمات محطة البترول بلا استثناء، فوجدتهم يتحدثون- بـقرف- عن ركاب عربة مجاورة، وحين سألتهم عما أثار سخطهم  لم يزيدوا عن أن “دمهم ثقيل”. ونظرت فوجدت خمسة من الشباب مثل كل الشباب، ثم أعدت النظر؛ فوجدت فيهم “شيئا ما” قد يبرر مشاعر الأولاد، شيئا ليس طبيعيا، أشبه بخليط من الغرور والاستهانة والتراخى والبجاحة والبهجة المغلقة على أصحابها دون غيرهم، ولم أمتعض وإن كانت شفتاى همتا بذلك.

انطلقنا فى الطريق السريعة من جديد، وتمر بنا سيارة “سبور” تجر يختا أحمر اللون، جميل المنظر، يقودها رجل يليق بها وتليق به، وينبهنى ابنى مصطفى للمنظر، ويذكر بعض التفاصيل عن ميزات هذه السيارة مما لا أفهم فيه، ويعجب مصطفى-مثلى- بالتناسق الملئ بالشباب والفتوة بين الثالوث المنسق: السيارة، واليخت، والقائد، وكأنهم ثالوث يصاحب بعضه بعضا. لايقود أحدهم الآخرين، وتزداد الطريق اتساعا ونعومة (هو الاتساع ذاته منذ البداية لكن يبلغنى ـ الآن ـ اتساعه من داخلى)، وتزداد السيارات انطلاقا وازدحاما، والمسافة من تريستا إلى فينيسيا لاتحتمل نوما جديدا مهما بدت الطريق متسعه مملة، وقبل أن يعتذر رفاق الرحلة الركاب الخلفيون للنوم وهو يدق أبوابهم (أو يستسلموا له) نلمح عن بعد تباطؤاً فى الصفوف الخمسة المتوازية من السيارات المنطلقة، وكنا فى الصف الثالث، وعلى يسارنا صفان يسبقانا فهما أقصر، فأقصر، فأفكر فى أن أنحرف يسارا كسبا لبضع عشرات من الأمتار؛ حتى نتبين سبب التباطؤ، ثم أعدل عن هذا القرار فى آخر لحظة، لنـقترب من العربة ذات اليخت أمامنا فى الصف ذاته. ويبدو أن الخاطر نفسه كان قد خطر على قائدها، لكنه نفذه من فوره، وما إن ينحرف يسارا وبيننا وبينه ثلاث عربات لا أكثر، حتى تمرق من جوارنا سيارة مندفعة جدا، تصدمه جدا جدا، وأسمع من خلفى صيحات الأولاد بأنهم “هم أولاد الــ…ثقلاء الظل” ، “ألم نقــل لكم؟. “كان يبدو عليهم”- وقبل أن أسأل الأولاد عما يقصدون، تمر أمامى صورة الحادث ذاته فى الطريق من نيش إلى بلجراد، وكأنه يعاد تصويره بالسرعة البطيئة. فقد طار اليخت وانحرفت السيارة محطمة، فدخلت فى السيارة المجاورة إلى اليمين، التى دخلت بدورها فيما على يمينها، وهكذا حتى الصف الخامس (أقصى اليمين)-حيث كانت تقف سيارة قديمة (نسبيا) صغيرة متواضعة، فيها رجل وزوجته وابنه وابنته، وقد أصيبت سيارتهم إصابة بالغة رغم أن جميع ركابها قد سلِـموا والحمد الله (جسديا على الأقل).. هكذا فى لمح البصر. وأقول لنفسى:أين الشطارة؟. وسبحان المنجى!!. فلو أن هذا الحادث تأخر إلى يسارى بضعة أمتار، رغم أنى ملتزم بكل قواعد المرور، والخوف، والحساب، لـَكـُنـّا الآن فى “كلام ثان”، أو بالتعبير الأحدث: لـرحنا فى أبو ليرة (إيطالى)- والليرة أقل من النكلة طبعا – وأذكـّر القارئ بما سبقت الإشارة إليه عن قانون الطرق السريعة، وأنه.. “لكلٍّ حسب قَـدَرُه”. وأرجع أستفسر عنما عَنَاهُ أولادى من تلك التعليقات الـفورية، وقبل أن أسألهم يتوقف بصرى عند اصفرار وجه رب العائلة فى أقصى اليمين، وهو يلف حول سيارته المحطمة ويحتضن طفليه. ويظل هذا الامتقاع الأصفر عالقا على وجه إدراكى، حتى يكاد ينسحب على فكرى، فأقاوم الشحوب، دافعا بدمِاء حيويةِ دهشتى إلى ألفاظى، وقبل أن أعلن السؤال أسمعهم يقولون: إنهم “هم” الشبان ثقلاء الدم إياهم، وأنهم (أولادى) كانوا يشعرون منذ البداية أنهم (الشبان) “لن يجيئوا بها إلى بر”، وظللت أتأمل هذا الربط العنيد من جانب الأولاد بين “ثقل دم الجناة”، و”تناسق فتوة” المجنى عليه الأول، فإن صح قولهم وما ترتب عليه من غلبة الشر على الشبان بلا مناسبة، وإن صحت المقابلة بأثر رجعى بين قوتين استرعتا انتباهنا قبل الحادث، فما ذنب أولئك الضحايا الأبرياء خارج لعبة التحدى المفترض؟؟. وأحاول أن أخفف الوقع على مشاعر ابنى مصطفى، فأتصنّع المزاح قائلا: “نقرت الرجل عينا بإعجابك بسيارته وفتوته ويخته”، فيجزم متألما بأنه “لا”، وأصدقه؛ فقد كان إعجابنا بثالوث الفتوة أقرب إلى الاستمتاع بتناسق جمالى منه إلى التطلع إلى أوجه الرفاهية التى يرمز إليها. وأدعو للرجل بالشفاء، ولنا بالستر، ولرب العائلة المصفر الوجه بالعوض، وعلى ثقلاء الظل بالـــ..بلا شىء، فأنا لا أعرف ماذا أصابهم فعلا دون دعواتى، ورغم نفور أولادى منهم، فهم لا يستأهلون ما جرى لهم، لا أحد يستأهل؟. ثم ما معنى تركيز أولادى على عربة الأشرارالخمسة (يعنى) وتجاوزهم ما أصاب عربة القوة المتناسقة وهى التى تمثل ـ لهم على الأقل ـ الطبيعة الخيـّرة المنطلقة؟. وماالذى جعلهم ينزعجون لتصور أن تصدم “الوقاحةُ” “الفتوةَ”، أن يحطم الشرُ الخيرَ، حتى لو نال الصادم جزاءه بتحطيم سيارته وإصابته شخصيا بدرجات لم نتبين مدى خطورتها تفصيلا، فما ذنب المصدوم؟. وأحاول أن أفهمهم خطأ حساباتهم، ثم لعل عربة “الفتوة” هى المخطئة، لأنها انحرفت يسارا فجأة، فيضيفون رفضا آخر يعلنون به  أن هؤلاء “السفلة” هم الذين مرقوا مندفعين، فأخلّوا بمسارات الآخرين، ولا أستطيع التمادى فى مناقشتهم، ولا أستسلم لأحكامهم ذات الأثر الرجعى المختلطة بالشماتة مع تجاوز ما أصاب الأبرياء.

لا ليست المسألة “خناقة” بين الشر النشاز، وبين الطبيعة الفتية، وحتى إن كانت كذلك، فما ذنب بقية الضحايا المسالمين؟. ولماذا يدهم الشر تلك الأسرة البريئة، البعيدة، بسيارتها المتواضعة، فيروحون أبرياء تحت أقدام المتصارعين؟؟

أنا مالى؟. له فى ذلك حـِكـَمْ !. وما توقفتُ هنا وأطلت هكذا إلا لأمهّد لكشف ما خطر لى من:احتمال أن”الطريق” يوقظ بشكل ما علاقة أخرى بالطبيعة البشرية، والحدس، والتنبؤ، وألعاب القدر، وضعف الحسابات:…. قانون خفى، وتناسق محتمل، ونشاز وارد، وقدر متربص، وانتحار كامن، وغرائز بدائية، يبدو أن كل ذلك يثار مع السرعة  والازدحام فى وساد آخر من الوعى البشرى الفردى والجماعى، كل ذلك يدخل فى حسابات قـَدَرٍ لا نعرفه، فيقرر ما بدا له مما لا نعرف معه الظالم من المظلوم من سئ الحظ.

يتحرك طابور السيارات على ناحية ببطء، فأكتشف عددا أكبر من الـسيارات المحطمة والبنى آدمين المصابين، لا يمكن أن يسرى على كل هؤلاء نفس قانون العقاب والثواب هكذا بهذه البساطة الحسابية، تزداد السرعة تدريجيا، وتنطلق معظم السيارات، “كما كنت”!!! أتلفّت باحثا فى سخف عن آثار الحادث، ومظاهر الألم واحتمال الشماتة وإمكانية التعلم فى وجوه قائدى السيارات من حولى، المارقين عن يمينى وعن يسارى بالسرعة ذاتها وأكثر، فلا أجد لها أثرا. وأكرر لنفسى دهشتى من”سرعة المحو” (أول باوّل يا “وعى” حـوّل، قياسا على المثل القائل: أول باوّل يا قرد حوّل)، ولكن نظرة إلى مرآة السيارة ترينى وجهى، فأخجل من أحكامى، وأرجع إلى تساؤلاتى القديمة: كل هؤلاء الناس، كل هذه السيارات، كل هذه النقود، كل هذه الحوادث، كل هذه الكيلومترات… إلى أين؟ فعلا…؟. إلى أين…؟.

تُخرج ابنتى كتاب”المخيمات”المرتب بأبجدية منظمة حسب البلد والموقع، وعدد النجوم، ورقم التليفون لكل غرب أوربا تقريبا، وتجد اسم أقرب مخيم إلى فينسيا، وتقرأ لنا مواصفاته، وأوافق وننقل رقم تليفونه؛ استعدادا لمكالمته من أول محطة بنزين، تلوح من بعيد، نقترب منها، الفرق واضح، محطة جميلة أنيقة، ولكنها صامتة خالية مثل “حوش” قبر أحد الوجهاء فى مقابر الإمام، ونتذكر أن اليوم هو الأحد، وأقول فى نفسى: “أحسن”؛ فأنا لا أحب الاهتداء إلى أماكن إقامتى فى الرحلات بالتليفون والتخطيط المسبق، وإنما بسؤال المارة، ومفاجآت المصادفة، فبهذا اكتشف ما لم أحسب، ثم إنى أثق فى حس وحدْس حافلتنا الطيبة أكثر من ثقتى بأى دليل مخيمات أو تليفونات، وأعرف يقينا أنها (السيارة) ستقودنى بحنان واع إلى أفضل مكان.

ونبدأ رحلة السؤال، الناس جاهزون، يكفى أن تذكر كلمة واحدة حتى يبدأ الشرح واضحا مرحِّبا، هؤلاء الناس طيبون، ولمَ لاَ؟. بمجرد أن نقول كلمة السر   “مخيم؟؟..(كامبنج (Camping ?س”. حتى يجئ الرد وكأنه لا يوجد إلا مخيم واحدا، الكل يرد:”مطار Airoporto”، ونفهم- أخيرا- أن المخيم (أو المخيمات) يقع فى اتجاه، أو بجوار المطار، ونبدأ فى السؤال: “مطار”؟؟، ثم تظهر علامات مخيم “ماركوبولو” كثيرة جدا، ومتتالية جدا، ونتوقع خيرا على الرغم من تخوفى من احتمال بعد المسافة عن فينسيا البلد!! تلك البحيرة التى أعرفها وأتصوّر أن البيوت تنمو على سطحها مثل أعشاب البحر، فمن أين لها بمطار وطائرات؟.

الشمس قاربت الغروب، لابد من الإسراع حتى نتمكن من نصب الخيمة قبل الظلام، ونمر على قرية صغيرة مما أحب، فأواعدها بكل ما يلح علىّ للبعد عن المدينة، أى مدينة. مازلنا وراء الأسهم حتى وصلنا إلى هذا الـ “ماركوبولو”، فاذا به مثل ممر من الزلط، وقد اصطفت بطوله العربات والخيم بشكل يشعرك أن عليك أن ترحل بعد ساعة على الأكثر، أو أنك لابد أن تبيت الـليل داعيا فى انتظار الصباح لمشاهدة اسمك مع المُفرج عنهم لحسن السير والسلوك، أو لانتهاء العقوبة، ومع كل ذلك يهم بعضنا بالموافقة، ويصر الآخرون على البحث من جديد، ويغلب الرأى الأخير ونذهب لنسترد جوازات السفر، ونعتذر، فيمط المسئول شفتيه، فنتمادى فى الاستعباط، ونسأله عن مخيم قريب آخر، فيقول لنا: أغلى بكثير، فنقول: ولو، ولكن “أين هو “؟.. فيستعبط  بدوره قائلا: “هنا أو هناك، فى كل مكان”، يقولها ماطا شفتيه فى غيظ (أو قرف…لست متأكدا). فنرجح أنه يسوق علينا اللؤم جزاء وفاقا، فتذكرنا “مايسة” أنها شاهدت لوحة قبيل هذا المخيم فيها اسم آخر “لمخيم آخر”، وأنها متأكدة، فنجعلها ترشدنا إليها، ونكتشف أن اللوحة على بعد عشرة أمتار فحسب من باب هذا المخيم (“المعتقل/الممر”). ونهم أن نرجع إلى صاحبه نخرج له لساننا، الطيب أحسن، ونصل إلى المخيم الآخر، والعربة تكاد تقفز فرِحة لأنها تخلصت من هذه الوحدة التى كانت تنتظرها فوق ذاك الحصى الجاف غير الحنون. وعلى بعد كيلومتر ونصف لاغير نجد شيئا آخر، وكأننا انتقلنا فجأة، بوعد سابق، إلى حلمنا المتوارى فى أرضية تحفظاتنا المادية. صحيح أن السعر مختلف، لكن الغالى ثمنه فيه، ونؤجر “بنجالوز”، بالإضافة إلى خيمتنا الأم.  والبنجالوز عبارة عن كوخ جميل يسع أربعة أسِرّة (كل زوج فوق بعضه) لكنه رحْب، وأمامه جلسة وأرائك مصفوفة، وننصب الخيمة لأول مرة، وبسرعة مناسبة لم نكن نتوقعها، ويكتشف الأولاد خيبتى البليغة حين استعملتـُها غطاء لما فوق العربة فى “بلجراد”؛ فقد تمزّقت من أكثر من جانب، ولا سبيل لإزالة آثار العدوان، ولاتشمت زوجتى بى، ونمضى الليلة الأولى فى المخيم دون أى إحساس بالتعب رغم كل شىء. بدا لنا (لى) أن النوم، هذا النوم، هذه الليلة، هو يقظة منعشة على الجانب الآخر .

الجو شديد الإنعاش والحنان معا، أقرب إلى الدفء الذى يتوارى فى وداعة أمام نسمة ليل تتهادى قبل الأوان. والمخيم به مطعم، وسوق أعظم (سوبر ماركت)، وخدمة هاتفية، وحمام سباحة، وناس. نعم ناس بحق (وحقيق)، لا معتقلون، ناس من كل بلد وجنس. وأقول للأولاد: هذا هو المخيم…، ويوافقوننى دون سابق خبرة ، فأصدّق..

تبدو السعادة بغير حدود على ولدىّ الأصغرين،أحمد وعلى. تنتقل إلىّ بسهولة،

أكتشف أن عدوى الفرحة الطفلية التى أصابتنى، هى ناتجة من إطلاق سراح طفلىِ من داخلى بمثير مباشر لم يستأذِن. أعنى أنها ليست فرحة والد أو جَدٍّ يفرح لفرح أطفَاله أو أحفاده، بل إننى فرحت أكثر لأنى وجدت من يشارك “هذا” الأنا الذى تأهب للانطلاق من وراء ظهرى وظهورهم، انطلق طفلى من داخلى ربما ليسترد بعض الحقوق المغـتصبة من عشرات السنين،انطلق فعلا مع أطفال مثله دون كلام كثير.

لى موقف خاص متعلق بصداقتى للأطفال والشباب عبر تاريخى كله، فمع أنى لا أبدو طفلا أبدا فى ظاهر وجودى الحالى، كما أنى لاأذكر أنى كنت طفلا كما أسمع عن الأطفال، أو كما درست عن الأطفال، أو كما أدرّس (وأفتى) عن الأطفال. ثم إننى لا أحترم الإشاعات التى تُطلق على براءة الأطفال وطهارة الأطفال دون الجانب الآخر من أنانيتهم وقسوتهم. بل إننى كتبت ذات مرة فى الأهرام أهاجم حكاية “براءة الأطفال فى عينيه”، مذكرا القارئ بمنظر طفل (أنا) يربط عصفورا اصطاده هو وأقرانه، ثم إنه قد يقضم رأسه فى برود مرعب، أو منظر مجموعة من الأطفال وهم يجرجرون صغار القطط بحبل من رقابهم، حبل قد يخنقهم فى أىة لحظة.

أتذكر منظرنا ونحن بعد أطفال فى بلدنا، نصطاد زنبورا، ثم ننزع ذبانه، ثم نحبس أرجله فى شق بوصة مشقوقة من جانب تدور أفقيا فوق شوكة (سِِــلة: بكسر السين) – قال ماذا، قال: نعمل ساقية. وكم خرجتْ أمعاء الزنبور المسكين أثناء هذه العمليات الجراحية البدائية، فنعاود المحاولة مع زنبور آخر، وهكذا.أىة قسوة.

حين أصاحب الأطفال لا أعنى تقديسا لبراءة مزعومة، وإنما مواكبة “لفطرة واعدة”.

بلغ بى هذا الموقف المختلف (الشاذ حتما عن الشائع) أن كتبتُ ” فى هجاء البراءة،” كلاما يفزعنى  كلما قرأته، وأنا الآن أتأكد أننى لا ألجأ إلى ما يشبه الشعر-رغم كل شىء-إلا حين تكون الجرعة أكبر من أن تستوعبها صورة أخرى. حين قرأت هذه القصيدة على شيخى نجيب محفوظ رفضَهَا وجهه رفضا أزعجنى، ولم أستطع أن أدافع عن نفسى، صنّفتْ فى هذه القصيدة أنواع البراءة التى أرفضها : براءة قاسية، تقتل بالإغفال والمسالمة”- براءة ساكنةٌ، تقطّعت أطرافها، فساحتْ الحدودُ، مائعةٌ مرتجّة”، – “براءة مخاتلة، وتاجرة، تطل من بسمتها المسطحة، معالم المؤامرةْ، والصفقة الخفيّة”،

هذا الموقف الحذر من الطفولة، من سوء استعمال وفهم ما هو طفل، يجعلنى أقرب لطفولتى، وليس أبعد، وأيضا هو الذى يجعل صداقتى للأطفال ليست صداقة الرعاية الفوقية، أصدقائى الأطفال هم  “الأطفال” الذين خلقهم الله، أما الأطفال البلاستيك للاستعمال الظاهرى والاستثمار والإسقاط، الأطفال المصنَّعون بنعومة يستعملون من الظاهر فهم ليسوا هم، ليسوا أنا، أنهيت قصيدة  هجاء البراءة هذه باحترام فطرتنا القوية الفتية، فى مقابل هذه الاستعمالات الظاهرية.  “جحافل البــشرْ، كالدود والجذورْ،  تغوص فى اشتياقْ  فى الطين والعفَـنْ”،

تغمرنى وأنا أقرأ هذه النهاية رائحة النتن الرطب  ونحن نجمع دود الأرض من جوف الطين لنجعله طُعما لما يمكن أن نصطاده من سمك المصرف ذى الماء الراكد تعلوه طبقة من الريم الأخضر ذى الرائحة الأخرى المكملة لهذا العبق الملئ بالزفارة والدم، كنت أشعر آنذاك أننى أقرب إلا شبق الأرض ووعد الجنس.

(حين قرأت هذه الفقرة الآن، سبتمبر 0002 لم أخف منها مثتما كان الحال عندما كتبتها منذ خمس عشرة سنة، ذلك أننى كنت أقرأ فى رواية “العطر”لـ “زوسكيند، آنستنى الرؤية المشتركة)

أرجّح أنهم -سامحهم الله-قد سرقوا منى طفولتى قديما بغير علمى، فأخذت كل هذا الحذر من كل ما هو طفلىّ يتلقّــى، وتحيّزت كل التحيّز لما هو فطرى يتفجّر.

مع أصدقائى الأطفال وفى حضن الطبيعة تنشط طفولتى الحالية بمعايشة جديدة (وليس بتذكّر مُعاد). أعيش صحوتها وكأنها حضور طازج، فأهتف مع أولادى الأصغر لمخيم “الألبا دورو”، ممنين أنفسنا  بسباحة وجرى وانطلاق.

صداقتى لأحمد رفعت وعلى عماد هذه وهم بعد فى السابعة والثامنة، فى هذه الرحلة، فى هذه اللحظة، لم تكن صداقة الوالد، بل القرين.

أفضل مصاحبة الأصغر؛ يفهموننى أكثر، كما أنى أتحملهم-“بما هم إجمالا”-أكثر فأكثر. وكثيرا ماكتبت كلاما يقول عنه الكبار إنه غامض، فيلتقطه أصدقائى الأصغر بشكل يطمئننى. وكلما زرت أقارب لى هنا أو هناك، فى القرية أو فى المدينة، وصعُبَتْ علىَّ مجالسة الكبار ومجاراة أحاديث القيل والقال، وكثرة السؤال، وأحوال المال، هربت إلى الأصغر، فأجدهم فى انتظارى بما أنتظر منهم، فأشاركهم وأحتمى بهم من حديث الكبار. تتراوح أعمار أصدقائى هؤلاء بين الثالثة، والسادسة عشرة، (تقريبا)، لا أدرى أين يذهبون بعد ذلك. انتبهت إلى أنه بمرور الأيام أجد هؤلاء الأصدقاء يشيخون (لا يكبرون) بمجرد عبور حاجز العشرين عاما أو قبل ذلك، وأنا كما أنا، الطفل العنيد أبدا، ماذا يحدث؟. هل هم يعقلون..؟. طيب..، وأنا؟. أليس من حقى، أو من واجبى، أو حتى قدَرى، أن أهمد وأعقل؟. ثم ماذا يعقـّلهم هكذا إلى درجة الانطفاء الباهت؟.

فى أول الأمر: يتمذهبون يمينا أو يسارا، سلفا أو ادعاءَ ثورة،

ثم ينقلبون أبواقا مردِّدة بعد أن كانوا مصانع أفكار مجددة.

وبعد ذلك يلبسون قميص أكتاف الزوجة، فالوظيفة، فالقرش أحيانا، والخوف كثيراً، حسب حظ أى منهم من الإعارة أو التجارة.

وما إن ألتقى بأحدهم بعد سنوات من “تحويل مجرى الوعى” هذا، حتى أجدنى أمام كهل بارد عاقل مفضال (نعم “مفضال” وليس فاضلا فقط!!)، فأشوّح له بيدى فى سرى أن “تشاو” (وداعا: مازلنا فى إيطاليا)؛ ذلك أن حديثى مع هذا ا”لرجل المفضال”، الذى كان صديقى طفلا ثم صار “هكذا” لايمكن أن يخرج عن بعض “السباب السياسى”، و”السخط الاقتصادى”، ثم يتعثر الحديث، ثم يتوقف، وسرعان ما أنصرف داخليا، فينصرف زاهدا أو مشفقا علىّ، أو رافضا أيامى، ولاحول ولا قوة إلا بالله. فأنتقل إلى الجيل الأصغر، ويتكرر “النص”، حتى أنى أستطيع أن أعد الآن أربعة أجيال من الشباب (أو الذين كانوا شبابا) على الأقل ممن تخطّونى جميعا: الجيل تلو الآخر، وأنا واقف فى “محطتى” الطفلية السرية ذاتها. أقف فاغرا فاهى، متعجبا من الشيخوخة المبكرة التى تجرى على هؤلاء الأطفال والشباب ضد كل حسابات الفطرة الواعدة، أو على الأقل ضد حساباتى الآملة من هذه الفطرة الواعدة، وكل ذلك لم يعلمنى أن “أعقل” أو”أيأس”، ولكنى تعلمت ماهو أهم، هو أن أتوقع هجرهم وتعقلهم وشيخوختهم المبكرة دائما أبدا، فأستقبلها بما ينبغى من واقعية وصبر وألم طبعا، ولكن دون دهشة أو احتجاج أو مقاومة مثل الأول. ومادامت الأجيال تتعاقب، فلا ضير علىّ، وسأجد الرفاق الأصغر دائما فى انتظارى، اللهم إلا إذا نجحت “أسرة المستقبل” أن توقف عجلة المستقبل.

وذات مرة، سألت أحد “العقلاء”من زملائى عن سر هذه الظاهرة،  ظاهرة صداقتى للأصغر، فقال لى لابد وأن شخصى أو شخصيتى هى”أى كلام”، لذلك فإنى أستسهل الضحك على ذقون الأصغر، ولكنى لا أحتمل الصراع التنافسى فى مواجهة الأكبر. رعبتُ من احتمال أن يكون ذلك هو التفسير الصحيح، ومرة قال آخر (لعلها زوجتى) إنى أستغل انبهارهم بى فأستعملهم لملء فراغ وجودى، ياخبر!!. محتمل!؟. ولكن هؤلاء الأكبر الذين يهددون وجودى الهش، بوجودهم الراسخ هم لايحاوروننى أصلا. هم يزدادون قوة وبطشا فيزدادون إصرارا وثباتا، فأين التنافس والخوف مما يمثلون؟. هل يستدرجوننى لأعمل معهم أو كنظامهم مع تبادل الأدوار، وكأننا نتحاور؟ إن إصرارى على الاحتفاظ بطفولتى، وفى نفس الوقت على رفض البراءة المغشوشة والمسطحة، هو الذى أتاح لى أن أستمر ولا أتنازل مهما كان (أنظرالترحال الثالث إن شئت).

تدرّبت بعد طول السنين أن أجدد صداقاتى مع العمر المناسب، وما دامت النساء تنجب أطفالا، فأنا سأجد الأصدقاء دائما مهما اعتبرنى الكبار “أى كلام”، ومهما اعتبرنى الصغار مجرد “محطة” لابد من تجاوزها. غير أنى أتعجب: ألم يكن العكس هو الأرجح؟. ألم يكن المفروض هو أن أعتبر أنا الصغار حالمين مثاليين فأنتظرهم- بعد السماح- فى المحطة التالية: محطة العقل والتدبر، أو محطة المكسب والشحم الزاحف حول الأوعية الدموية، وأيضاً حول الأفكار الباهتة المعادة، أو عند محطة تكرار العُمْرات غير الخالصة، أو فى سراديب الصفقات الدينية السرية، فلماذا انقلبت الحال، لأصبح أنا المتخلف عند محطة الطفولة الدائمة المزدحمة بالدهشة والقلقلة!!؟.

نرجع مرجعنا إلى صديقىّ الطفلين الفرحين بالألبادورو، وهما يساعداننى فى تهيئة المكان المعد للجلوس أمام الكوخ (البنجالوز)، وعلى بعد خطوات تقبع خيمتنا لأول مرة منذ بدأنا الرحلة. وتذهب بناتى الأربع إلى السوق الأعظم (السوبر ماركت) ليبضعوا عشاءنا، وكنا قد نوينا أن نقبع هذا المساء لنطبخ لأنفسنا شيئا يناسب النسيم العليل والمخيم الفخيم. ونكتشف أننا لا نملك آنية للطبيخ أصلا، فنـلمح طاسة أمام الكوخ المجاور، ورجلا خواجة (شديد الخواجاتية) وقد تخطى منتصف العمر يلبس “شورتا”، يروح ويجئ، فنبدأ ممارسة هواية المخيمات فى “التعاون بالعشم”. وكنت قد لاحظت منذ قديم، أن هذا المبدأ هو من أساسيات التعامل فى المخيمات، فضلا عن غلبة الكرم التلقائى فى كثير من الأحيان.

كانت بداية تعلّمى ذلك فى مخيم فى سويسرا/جنيف (1969) حين تقدم جار لنا، ونادانى، وأشار إلى وعاء واسع، عميق، حديدى وأسود له أرجل رفيعة، وبجواره كيس من النايلون أشد سوادا، ولم يكن لى عهد بكل هذا “السواد”. للاستعمال الآدمى. وبعد عدة إشارات دالة، مع بضع كلمات فرنسية، تصورت أن الرجل يظن أن هذه الأشياء ملكى، وأنها كانت سببا فى تلوث بعض أمتعته- مثلا- فأخذت أشرح فى حماسة أنها ليست أشيائى، وأنا مالى، وإنى آسف، وإنى مبتدئ، وطالع فى المقدر جديد،…وجميع عبارات الدفاع المحتملة، والرجل يبتسم ويهز أكتافه، ويشرح عرْضه  بلغة لا أعرف فيها حرفا ، لكننى لاحظت طيبته وتواضعه بشكل لا يخفى، مما اضطرنى إلى أن أردد، فى استسلام: “نعم”..أو.. “ليكن”…أو.. “ماشى”. ولم أكن أعرف ماهذا الذى يمكن أن يكون أو يمشى. فإذا به يذهب متحمسا، ويحضر الأشياء السوداء، ويضعها بجوار خيمتنا، ثم يكتشف قلة خبرتنا فى نصب الخيمة كما تبدى من عدم انتظامها، وهشاشة مقاومتها،  فيترك سيارته وأهله؛ ويساعدنا فى إصلاح ما أفسده المطر. وقلة الخبرة، ويستغرق ذلك وقتا هو أوْلى به خاصة وهو قد كان على وشك الرحيل الفورى، وأستشعرُ هذه الفروسية الخواجاتية، وأن مسألة عصر السرعة، وقيمة الوقت، لا ينبغى أن تكون علامة دالة دائما على تدهور الخلق، وموت الشهامة، وخاصة فى المعسكرات. وربما كان الحنين إلى التخييم، هو لإنماء هذا الخلق التعاونى، ورعاية الكرم الفطرى. فالسواد الذى أعطانى إياه، كان شوّاية وفحما، لم يعد هو فى حاجة إليهما، وقد كان حوارنا الأصم عبارة عن محاولته أن يستأذننى أن يهديهما لى، ثم إن العون الذى بذله كان تلقائيا وطيبا. وكنا فى أشد الحاجة إليه.

تذكرت كل ذلك وأنا أنبِّهُـنى إلى طيبة الخوجات وكرمهم، فتشجعت وذهبت لفورى لاستعارة “الطاسة” من جارنا الخواجة جدا، فيبادر الرجل بالاستجابة باسما مرحبا، ونشعر من جديد أن “الدنيا بخير”، وأن الناس لبعضها، وأن هذه الاستعارات الصغيرة بين الجيران – مع مشاكلها الطريفة- تعطى للحياة معنى آخر يتحدى “الاستكفاء الذاتى”(“الذواتى” فى العادة)- ذلك أنه- حتى مع الكفاية والغنى- لا يكون للعلاقات الإنسانية طعم إلا بـ”خذ..وهات”. وهذا الاستكفاء الذاتى إذا زاد أصبح استغناء قبيحا يشوه الدنيا، ويكثف الجليد على طرق المواصلات بين البشر. ونوقد الموقد (البوتوجاز) الصغير لنعمل شايا مصريا ونستعد لأكلة شهية، وتعود “لجنة المشتريات” بحمولتها الثمينة، وأسألهن إن كن قد راعين نوع اللحم حتى لايكون خنزيرا، فيؤكدن أنه ليس كذلك. ولكنى أشك فى منظره، ويَـعُدْن إلى السوق ليتأكدن، فإذا بالشك يصبح يقينا، وتبدى إحداهن استعدادها لدفع ثمن الخطأ، وتصر الأخرى على إرجاع اللحم “بالعافية”، ويظهر أن السبب أنهن نطقن “الخنزير” بالفرنسية Pork والإنجليزية Ham (أو بعد طلْيَنَتِـها بالمطّ: بوركو مثلا)، والبائع ليس عنده فكرة، فاسم الخنزير بالطليانى، شئ أقرب إلى “ميالى”، وهذا من مقالب الحذْق المصرى (الحداقة) فى نحت لغة من لغة أخرى؛ إذ يبدو للحاذق المصرى منا أن مط كلمة فرنسية إلى أسفل، أو أعلى، أوعلى ناحية يقلبها إيطالية بقدرة قادر. فالجبن “فروماج” تصبح “فروماجو”، و”بونجور” تصبح “بونجورنو”، وبالتالى لابد أن “بورك” (خنزير)، تصبح بوركونو… فيقع المحظور.

وأتذكر أننى حين ذهبت إلى فرنسا اتبعت القاعدة ذاتها فى تحوير اللغة الإنجليزية إلى فرنسية. حين رحت إلى بقال أشترى جبنا، وهى بالانجليزيةCheese قلت لنفسى: لاعليك، ببعض المط تمشى الحال. وطلبت من البائع Chaise بإذن الله، ونظر لى الرجل مندهشا. أنا أشير إلى الرف وهو يشير إلى محل “الموبيليا” المقابل، وأُصِر على تكرار الطلب، ويصر الرجل وهو يمسك بالمقعد الذى فى محله ويرفعه، ويهزه فأتصور أنه قد”فاض به”، وأنه سوف يناولنى به، لكننى أطمئن طبعا إلى استحالة ذلك لما أعلمه عن أدب هؤلاء الناس “الكُمَّل”، وأخيرا يستسلم لتصميمى ويسمح لى بالدخول إلى المحل لآخذ بيدى ما أريد، فأفعل وينتهى الموقف بسلام. وأكتشف بعد أسابيع أن مافعلته بكلمة جبن بالإنجليزية Cheese لتصبح فرنسية Chaise قد قلبها إلى “مقعد”، وليس إلى جبن متفرنس،  وسبحان لاوى الألسن فى كل اتجاه.

وتنجح بنتاى فى استبدال لحم الخنزير بمياه غازية؛ إذ لايوجد لحم إلا هذا المحرم. ويتراجع أملنا فى وجبة ذات رائحة تليق بالهواء الطلق والجو الصحى، ويبدأ إعداد الحساء المتعدد المحتوى، والصالح لكل الأغراض: (شراب ساخن، ومن رائحة اللحم، وسائل دسم جاهز لأىة “فتة” محتملة، ووهم بأن ثَمَّ طبيخا يـُعد.. ولى فيها مآرب آخرى). ونفرح بهذه الوجبة “الجوكر” التى أصبحت بعد ذلك غذاءنا الرئيسى، وأحيانا الوحيد، ليتطور الأمر ليصبح عقابا (أنت حاتسكت: ولاّ أعملك شوربة !!). وتنتهى الوليمة، ونعيد إلى الرجل طاسته، مغسولة وآخر تمام، وأتمنى على الله أن يحتاج شيئا ليتأكد مبدأ “هات.. وخذ”، ويستجاب الدعاء بأسرع مما أحسب؛ فيطلب الرجل بعد قليل ثقابا، فأفرح بدرجة لا تتاسب مع تواضع الطلب.

فى المقهى البار الملهى الخاص بهذا المعسكر الفخيم، يتجمع الرواد حول المناضد، وآلات لعب الحظ والمهارة. ويسرى صخب موقظ يوحى بالحيوية المستحبة، فأذهب وأحضر أوراقى دون أن أقول لأحد على مكانى. فقد آن الأوان لإجازة منفردة، ولو ساعة أو بعض ساعة. فما أنا بالشخص الذى يحتمل ألا يختلى بنفسه وورقه أكثر من يوم، وها قد مر على يومان (دهران: بالحسابات الجديدة للزمن). وأنا لم أختل بأوراقى ولم أسامر قلمى. وهأنذا أضعها أخيرا أمامى معتذرا واعدا بحوار أعمق وإنَصات طيب.

وتتلقانى أوراقى- كالعادة- بسماح شديد، فهى واثقة دائما من أنى لا أملك منها فرارا، وأنه على عينى هجرى لها كل هذه الدهور، فأمسح جبهتها، وأداعب أطرافها، وأنصت إلى همسها وسط هذا الصخب المتداخل، وأقول وتقول، وأنظر وتوافق، وأقترح وتُعارض، وآمل وتحذّر، وأبتسم فتتذكر، وأتطلع إلى الوجوه من حولنا فتعلـّق، ويمر وقت ليس بقصير.

أنظر إلى المائدة، فإذا الورق خال من غير سوء، والقلم متراخ فى غير كسل، فألملم ورقى راضيا بهذا الائتناس الصامت، الذى لم تجرح بكارته شقاوة وشهوة الكتابة.

وننام نوما جديدا، فالهواء غير الهواء، والأصوات غير الأصوات، والناس غير الناس..؟.

الاثنين 27 أغسطس:

صباح آخر كأجمل مايكون الصباح؛ بحيث لا يصح وصفه أصلا إلا بأنه صباح حقيقى. ذلك أن الصباح الذى فرضته علينا الحياة الأحدث، ليس صباحا أصلا. فلا شمس تخرج من خدرها أمام العين مباشرة، ولا صوت لطير، ولا لفحة هواء باردة سمحة فى آن، ولا وجه إنسان خال من حسابات الأمس وأطماع اليوم، ولم تحل هذه البرامج الصباحية محل الصباح الحقيقى أبدا. بل لعل بعض برامج الصباح قد شوهت ماهو “صباح” بكثرة الأحاجى، وادعاء خفة الظل، وانثناء الأصوات الأنثوية التى لا أجد لها أية علاقة بالهواء والنقاء والخضرة ووجوه البشر الطازجة،

كانت علاقتى بالصباح قد تجددت قبيل قيامى بهذه الرحلة؛ حين بدأتُ أمارس عادة قهرية قبيحة (من حيث المبدأ: وهى الجرى “منفردا”) وذلك قبل طلوع الشمس على طريق سقارة، وكنت حين ألقى راكب حمار أو سائق “كارو” فى طريق سقارة، أجدهم ينظرون إلىّ إشفاقاً، فألقى تحية الصباح كسرا لتوهمهم أنى سائح أهبل. ألقيها بصوت مرتفع نسبياً “صباح الخير”، فإذا بى أتلقّى ردا غير الذى ألفتُه فى المنزل أو فى العمل أو فى شوارع المدينة (زى: صباح النور..الخالية من النور والدفء تحت تأثير الفول المدمس ومحشر المواصلات). أقول كنت أتلقى ردا جديدا يقول: “نهارك قشطة”، فأشعر أن هذا الرد الأكثر صدقا له طعم جديد، طعم طازج منعش مطمْئِـن معا. وحين حاولت أن أستعمل اللغة الجديدة فأبدأهم بأن: “صباحك قشطة”، كنت أتصور أن الرد سيكون “صباح الخير”، ولكن يجيئنى رد أكثر جدة: أنه “بالصلا عالنبى”. ماهو الذى هو بالصلا عالنبى؟ ومامعنى الصلاة على النبى هنا؟. تفسيرات كثيرة، ومعان طيبة جدا خطرت ببالى- ولن أذكرها- فأكتفى بفرحتى بتغيير الإيقاع الروتينى للتحيات الفاترة المعادة، وأمضى فى العدو المنفرد الخائب.. ويمضون هم إلى رزقهم على باب الكريم.

هذا صباح آخر، به نفس الطزاجة. لسعة البرد الطليانية لم تقلل من الدفء البشرى المحيط، بل زادته حرارة طيبة حانية.

وأشاهد السيدة المسئولة عن المخيم، وهى تسير أمام مكتبها، فى خطى كالقفزات الصغيرة، تملأ رئتيها بهذا الصباح، وتكاد تبخل أن تخرجه مع الزفير، وهى امرأة لاتقل سنها عن الخمسين، إلا أن بها قدراً من الحيوية والصحو يكفى لانبعاث رسائل موقظة محفزة لكل خلايا من حولها، من الرجال خاصة.

فى بشاشة مفجِّرة، تشرح لنا الطريق والمواعيد، ونشترى منها تذاكر الأتوبيس (خدمة إضافية رقيقة تجنبنا مشاكل اللغة، والفكة) وأنا أنتهز فرصة السفر لأركب المواصلات العامة، أتعرف فيها على البشر. ذلك لأن ركوبها فى بلدنا أصبح بطولة تحتاج إلى تدريب خاص. وقد كنت دائما أعتبر المواصلات مجتمعا بأسره، هذا لو أتيحت للبشر الفرصة أن ينظر أى منهم فى وجه الآخر، لا أن ينحشر بعض لحمه فى بعض لحم الآخر؛ ليصبحا جزءًا من الكتلة الممتزجة من هجين أجساد الركاب المصريين (أهمّه) فى بلدنا المكدسة بكل شىء. وسبحان مخلص الأجساد من بعضها عند المحطة التالية. يولد الإنسان المصرى من جديد كلما ركب أتوبيسا ونزل بالسلامة، ثم نقول “تكافؤ الفرص”!!. ولماذا لا ننتج؟. إن مجرد وصول مواطننا إلى عمله صباحا هو بطولة فردية يومية لابد أن يتسلّم بعدها خطاب شكر لنجاحه فى الحضور، ثم يكافأ بالانصراف استعدادا لليوم التالى، لأنه بذل من الجهد مايكفى لدفع أمة بأكملها إلى محطة أتوبيس العودة.

ثم إنى أرجو ألا يستبعد القارئ ألمى الشخصى، وأنا أسخر من حقيقة لا أعيشها بحجمها الآن، فكل هذا يغيب عادة عن راكبى السيارات الخاصة أمثالى، كما يغيب عن اللائمين والمنظـّرين من أصحاب الأقلام والقرارات، على الرغم من كثرة السفر، وحتم المقارنة. أنا حين تضيق بى الحال من فرط التفكير والعجز، تخطر على بالى حلول مضحكة لمشاكلنا اليومية، فأروح أتصور أنها حلول عملية على الرغم من يقينى باستحالتها بشكل ما. فمثلا بشأن مشكلة المواصلات عندنا، رحت أكتب حلا للمشكلة فى صورة فرمان طيب يـُـلغى به استعمال جميع السيارات الخاصة، إلا فى السفر بين المدن؛ حيث تقبع الجراجات خارج المدن (مثل رأس البر زمان أو العصلة -دهب-  الآن ، قبل العاشرة مساء). ولا يسمح داخل المدن إلا بالحافلات العامة والدراجات والموتوسيكلات، وكذلك يسمح للمسنين القادرين والوزراء و”المهمين” والمعوّقين (حتى الرئيس) العاجزين عن قيادة موتوسيكل خاص بأن يركبوا فى صندوق جانبى (سيدكار) أو صندوق خلفى لموتوسيكل خاص، أو بالأجر، أو تعد لهم حافلات خاصة محددة المواعيد. أتصور بذلك أن الدنيا ستتغير، ليس- فقط – فيما يتعلق بالمواصلات، ولكن بما يخص الأخلاق والعلاقة بين الناس وإحساس المسئولين بالعامة. ويبدو مثل هذا الحل “جنونيا” لغرابته، لا لاستحالته. وعموما “فأبشِْر بطول سّيارةٍ يامُرفّهْ”. فأى حل يمس أى كبير، لـن يخرج إلى حيز التنفيذ، حتى لو كان للتوصية بمرور السيارات الأرقام الفردية يوما، والزوجية يوما آخر إلا لو أعطـوا للناس “الذين هم” لوحتين لكل سيارة يقوم السائس بوضع اللوحة المناسبة لليوم المناسب!! يوم لوحة فردية ويوم لوحة زوجية !! لن تنفد حيلهم أبدا ،هذا لم لا يملك عربتين ..إلخ!!

المهم.. ركبنا الأتوبيس حاملين مصباح سيارتنا المحترق معنا، آملين فى شراء بديل عنه؛ فهو- كما يبدو- لايـُفك إلى أجزاء، غيّرنا العملة فى محطة المطار. وجاء الأتوبيس فى ميعاده “بالثانية”، كما هو مثبت فى الجدول المعلق على مكان الانتظار- المحطة-، ووصلنا فينيسيا فى أقل من ربع ساعة.

أنا صديق للبندقية من قديم، وإن كانت صداقتى لها، لاترجع إلى أسباب جندولية محمد عبد الوهابية، ولا لأسباب أثرية تاريخية. ولكن لأسباب شخصية ، ربما تتعلق باقتراحى المواصلاتى سالف الذكر، وبحبى للماء والناس حبا جما، من أيام رحلات المركب كل خميس فى زفتا والانتقال من زفتا إلى ميت غمر ، والانتظار على المردة والسهر فوق حجارتها ليالى رمضان، كل ذلك وأنا قبل العاشرة، تمشى  فى شوارع البندقية وسط مواكب وموجات الناس المتلاحقة؛ فتقترب  من الناس بشكل تصعب مقاومته، لا سيارة ولا أتوبيس، وإنما ناس وشوارع مبلطة ببلاط قديم نظيف (غالبا)  ومقاه، وفن على كل لون وشكل.  متى وصلتُ إليها، آخذ نفسا عميقا. وأنا أخلع إيقاع وعيى اللاهث، وألقى خارج سطح إدراكى كل تلك الوجوه الملبدة بالهم والحساب.

قبل أن أبدأ جولتى مع الأولاد، رأيت أن أنهى موضوع مصباح السيارة، وهذا موضوع لا قيمة له فى ذاته، إلا أن موقف سائق التاكسى ورجل محل قطع الغيار العجوز المبدع، علّـمانى أشياء هى دين علىّ لمن أحكى له الآن هذاالحكى. فبعد سؤال صاحب الجراج الكبير فى ميدان روما، فى نهاية جسر الحرية عن بغيتى وهى إصلاح المصباح أبلغنى أن أعود عبر الجسر الطويل إلى ميستر Master (والعلاقة بين فينسيا وميستر، مثل العلاقة بين زفتا وميت غمر.. أو المنصورة وطلخا..). فتوجهت إلى سائق تاكسى وأفهمته بطريقة ما- المشكلة، وطلبت منه أن يصحبنى ذهابا وعودة، وسألته قبل أن أركب (نظرا إلى سمعة الطليان فى هذا المكان).. كم سيكلفنى هذا، فأجاب أن ذلك يتوقف على الوقت الذى سنقضيه هناك، ثم ذكر رقما تقريبيا شديد التواضع، قلت خيرا. وتواعدت مع الأولاد على مكان اللقاء، وصحبنى السائق فى “ميستر” من محل إلى محل، وهو يستبعد أن نحصل على المصباح؛ لأن الحكومة الإيطالية لا تستورد لا السيارات اليابانية، ولا قطع غيارها؛ حفاظا على مصانع فيات- ومع ذلك فقد واصل اللّف معى والسؤال نيابة عنى فى صبر هادئ حتى عثرنا على  محل قطع غيار كبير، به عجوز طيب لا يقل عمره عن سبعين سنة. نظر العجوز إلى المصباح، ثم إلىّ، ثم إليه، ثم فتح “كاتالوجا”، ثم نظر ثانية وعاشرة،  ثم ذهب، ثم فك، ثم عاد، ثم أعاد العملية فى صمت جميل، أخجلنى، وأدهشنى، حتى كدت أقبل يده الماهرة، داعيا له بطول العمر (حتى لو فشل)، هذا أستاذ فى الحياة والصنعة جميعا. وظل الرجل يتابع مهمته الإبداعية حتى خلق مصباحا جديدا من عدة أجزاء “وماركات” متفرقة- وللأسف، فقد سألت السائق بالإنجليزية البسيطة التى نتفاهم بها، إن كان هذا العجوز واثقا من أن هذا “الإبداع المصباحى” هو فى قدرة مصباحى القديم فعلا، فأنا على سفر، وأخشى المفاجآت. ولم يرد العجوزبعد الترجمة، بل نظر نظرة عاتبة مشفقة متعالية فخورة بما عمل. فخجلت من جديد حتى كدت أعرق، ذلك أننى قرأت فى نظرته أن هذا المصباح لابد أن يكون- والله العظيم- أفضل من المصباح الأصلى،

لابد أن حضراتكم الآن قد علمتم كم أنى شديد البحلقة والاندهاش، دائم التلمذة. ويزداد ذلـك عندما يكون أستاذى عجوزا صامتا. وقد ذكرت علاقتى بعم عطية معقب البرسيم، وعم شعبان ضاخ الطلمبة، (الماصة كابسة)، وهأنذا أتعلم من شيخ خواجة معنى جديدا للإبداع والطيبة. مثلما تعلّمت كثيرا من مهنتى من صمت أستاذى عبدالعزيزعسكر، أكثرمما تعلمت من كلامه.

أتذكر فضل عجوز آخر علىّ، وأنا فى هذه السن، هو الحاج سيد عطوة، وقد كان فضله يتجلّى أثناء إعدادنا للمجلة التى نصدرها  باسم (الإنسان والتطور) وكيف يقف طول النهار وجزءاً من الليل، وقد تجاوز السبعين، وحده على قدميه يصلى صلاة الإتقان والإنجاز،فيعطينى دروسا متصلة فى الحياة مع كل “بروفة”، ولا يترك مادة من المجلة إلا علق عليها، وكثيرا ما يناقشنى فى رسوم الصديق عصمت داوستاشى، محتجا بأنه “لماذا هذا؟”. وأنه لا… ونعم.إلخ.. فأقسم له أنى أيضا لا أفهم هذه الرسوم مثله تماما، وأنها لابد أن تؤخذ هكذا بالحس العام، فيمط شفتيه، فأواصل إصرارى على أنها جميلة فقط، فيكاد يوافقنى، لكنه يصر على الفهم، فلا أملك له ردا. وحين يعترض على مقال غامض، أو “كتابة طليقة”، لا أحاول أن أقنعه، ولكنى أصر على أنه ليس علينا إلا أن نحاول، وحتى لو لم نفهم التفاصيل فلنحب الصدق المحتمل وراء التناثر الظاهر، فيأخذنى على قدر عقلى، ويطيّب خاطرى، ونتبادل أنخاب حمص الشام بالشطة، ولكنه لا يهمد فيعود ينصحنى أنه لابد أن يكون لكلامنا معنى واضح، حتى لا نكون مثل ذلك الذى يقول لصاحبه “أن السمك يخرج نارا” فيرد صاحبه “كيف ذلك فالسمك فى الماء، والماء جدير بأن يطفئ النار من فوره”؟  فيرد الأول إنه “أهُو كَـلاَمْ”.ويأبى الحاج سيد أن يكون كلامنا فى المجلة  “أهُو كَـلاَمْ”. وأقسم له أنه أبدا لن يكون كذلك حتى لو لم نفهمه، ويصدقنى، ويدعو لى، فأدعو له. وأفرح أنه أقصر منى كثيرا، لأن ذلك يسمح لى حين تسخن العواطف بيننا أن أنقض على صلعته مقبّلا إياها، قبل أن يستعد بالابتعاد الدفاعى المتواضع،

هذا مافعلته – فى خيالى، عن بعد- بصلعة هذا العجوز الإيطالى، مجدِّد المصباح القديم بإبداع متفرد. ويصحبنى الشاب سائق التاكسى عودا إلى فينسيا، ونتحدث قليلا فى السياسة وكيف أن كفة الحكم فى أوربا تميل إلى أن تتجه ناحية الأحزاب الاشتراكية (فرنسا- أسبانيا- اليونان- إيطاليا) دون الشيوعية أو الرأسمالية، فيبتسم السائق فى خبث المتفرج الواعى، ويقول ما أفهم منه إنها “اشتراكية القادرين”. وأهمس لنفسى إنه “هلْ غادر الشعراء من متردم”.

رجعت إلى أولادى وهم فرحون بكل الناس، وكل الأشياء، وكل الألوان، وكل الأجواء، وذكرت لهم ماحدث من فضل الشاب والعجوز، فقالوا لى إنه يبدو أن الطليان من أحسن الناس، وأن بائعاً جرى وراءهم ليـرد لهم بقية خمسين ألف ليرة حسبوها ألفا أو مائة، فقلت لنفسى ـ مرة أخرى ـ إننى كنت على حق من أن أحذرها ـ نفسى ـ منذ البداية من مغبة التعميم ، ثم إنه يبدو أن أولادى يلتقطون الخير أسرع من واحد مثلى لا يكف عن المقارنة وإصدار الأحكام المتعجلة بالحق والباطل. وهكذا رحت أراجع هذه الإشاعات عن نصب وألاعيب الإيطاليين، وانتهيت كالعادة إلى أن كل بلد “فيها”، و”فيها”.

بمجرد أن عبرنا الجسر من ميدان روما إلى داخل فينسيا، بدأت رحلتى الخاصة، وأنا أستعيد الأماكن، والمشاعر، والروائح ، والوجوه.

السائر فى فينيسيا، لايحتاج إلى أن يسأل عن أى مكان. فكل مكان مثل كل مكان، وهو فى سياحة مستمرة حيثما سار وحيثما توقف، وما عليه إلا أن يترك نفسه مع تيار الناس يميل كما يميلون، ويعتدل كما يعتدلون، وسوف يجد نفسه حيث يجدون أنفسهم، فيحقق ما لا يدرى مما ينبغى، هذا الشعور بالدفء والمؤانسة بمشاركة الناس فى “ماهو مشترك” بين الناس، هو جوهر الأسفار جميعا، بل ربما هو جوهر الوجود وأمل المستقبل. ولا أريد أن أزعج القارئ بأفكار تلح علىّ كلما امتزجتُ مع مثل هذا الجمع من كل لون وجنس ودين وعقيدة؛ حين أخاطب ربى متسائلا متفائلا واثقا فى عدله ورحابة ملكه وسعة صدره وفيض رحمته، يختفى كل تعصب. فإن لاح لى أى ظل من تعصب فى أى اتجاه بعد هذه المشاعر، فإنه يبدو لى من أغبى الجنون وأقبح الطبيعة، بل هو جريمة فى حق ووجدان عقل أى انسان ينتمى إلى شرف الحياة. وأتمنى لو ألبست شبابنا النقى المتمسك بدينه، المتحمس لفريقه، دون سواه، لو ألبسته عيونى فى هذه اللحظة. إذن لتفجر نقاؤه إبداعا يشمل الناس جميعا، ولترعرعت سماحته ثورة تحطم كل غباء متحوصل، ولاندفع الناس إلى الناس فى ود قوى يسحق قوى النشاز الكونى من بقاع العالم. راودنى هذا الخاطر وأنا أجلس على الأرض المبلطة بذلك البلاط القديم، إغاظة فى كل سيارات العالم؛ حيث إن الشارع- هكذابدون سيارات – هو ملكى الخاص، وأدعو بعض أولادى لمشاركتى الجلسة لنخرج ألسنَتَنَا معا لجميع أنواع السيارات، فَيَهُمُّ أحدهم أن يفعل، وإذا به يرفض ويشدنى كالملدوغ أن أقف من فورى، فأفعل مندهشا؛ حيث كنت فى حالة تصالح مع طوب الأرض، وعطن الماء، وروائح البشر جميعا، وأنظر إلى حيث يشير فأجده محقا. فآثار “الكلاب” مازالت تتحدى نظافة شوارع أوروبا جميعا، وفينيسيا ليست مستثناه. لا أشعر بالقرف الذى تصوره صاحبى الصغير، ولا أتمادى فى الجلوس .

نمضى مع موجات البشر حيث نصل إلى ميدان سان ماركو، فنجد الحمام فى انتظارنا، ولا أكرر ماسبق أن قلته فى الفصل الأول عن “الناس والحمام”، لمّا كنا أمام البرلمان (سينتاجما) فى أثينا. إلا أن حمام سان ماركو أشهر وأكثر من غيره، ويمسك ابناى (حفيداى، صديقاى) الصغيران- أحمد وعلى – يدىّ، ويجذبانها ليسألنى على- هامسا- متى سنرجع. وأتعجب ابتداء لـلسؤال، فأنا أتصور أنهم فى غاية المنتهى!! مثلى. وأجيب “وقتما تشتهيان”. وكنت – شخصيا – قد التهمت جرعتى المناسبة التى أستطيع أن أجترها بهدوء؛ فبعد مثل هذه الجرعات الدالّة أستطيع أن أصطحب هذه الدنيا بكل أبعادها وروائحها وأرضياتها ونبضها فى كيانى الجاهز للتلقى، تعودت أن مثل هذه الجرعة تكفينى وزيادة، بل إننى أتعمّد أحيانا ألا أتخم بغيرها بعدها حتى لا تضيع الأولى، الأوليات منى. وهكذا أصبحتُ على استعداد للانصراف دون حاجة إلى مزيد من البحلقة والتجوال، وأكتشف أنهما يريدان الرجوع إلى حمام السباحة فى المخيم قبل غروب الشمس، فأفرح سرا، وأتبين أن هذا هو ما يمكن أن أريده تحديدا، ومعهما بالذات دون الآخرين، وإن كنت لم أسمح لرغبتى هذه بالاقتراب من ظاهر وعيى؛ ربما خوفاً من البحث عن من يشاركنى بلا جدوى، لكن يبدو أن صديقىّ الأصغر قد سمعا نداء طـِفـِلى من ورائى. ونرتب الأمور مع بقية أفراد الرحلة، وأعود مع صغيرى محملين بأغلب المشتريات؛ حتى نترك لـلباقى فرصة أكبر فى التجوال الحر، خاصة وأن بعضهم كان يزور فينيسيا لأول مرة.

وصلنا المخيم بسرعة وسهولة، وفى ثوان كنا جاهزين لننطلق إلى المسبح، مثل هذا المسبح تماما لا يجذب الأولاد فى بلدنا، بل قد يقاوم أحدهم النزول إليه، ولكنه هنا- لسبب ما- يجذب ثلاثتنا بسحر خاص واعد بالبهجة والنكوص الطيب. أنا لا أعرف العوم (حتى ذلك الحين – عرفته بعد ذلك مضطرا بعد إصابة ركبتىّ من الجرى(

حين حاولتُ صغيرا أن أتعلم العوم كنت قد كبرت على ذلك، واجتهد بعض أولاد عمى أكبر منى وأكثر شقاوة،أن يساعدونى فى هذا الأمر، هازلين ساخرين جادين صابرين فى آن، وأنا: ..”أبدا”، كنا نذهب إلى بئر ساقية، فيربطونى بحبل طويل سميك (سَلبَةْ) حول صدرى، ويلقوننى فى الساقية عاريا عريا كاملا، وأنا:… “أبدا !!”. كنت حول الرابعة عشرة على ماأذكر، ونجح أخى الأكبر فى تدريبات العوم الكلابى، وفشلت أنا (كالعادة)، بل إن أغيَظَ ماكان يغيظنى أن شيخا كفيفا طريفا (وفديا) كان يذهب معنا، ويقفز إلى بئر الساقية دون تردد وهو يبسمل ويحوقل، وهات ياعوم، وأنا مندهش منكمش أرتعش من البرد والخجل طول الوقت،

عموما: علاقتى بكل أنواع الألعاب صغيرا، هى علاقة واهية نتيجة لتلاحق هزائمى، قبل وبعد كل محاولة. ولعل السبب فى ذلك، أن أخى “محمد” الأكبر منى بسنتين اثنتين كان يحذق كثيرا من الألعاب بشكل يجعلنى دائما أختبئ فى ظله، بل فى جب عجزى وخجلى أساسا. ولم يكن لى أصدقاء فى مثل عجزى، ولا فى مثل سنى، أستطيع أن أبدأ معهم بالتدريج كما ينبغى، وحتى صداقاتى المحدودة جدا كانت تقتصر على تبادل الرسائل، والتوصية بقراءة قصّة،  أو المشى البطئ على جسر المصرف، أو طريق الزراعية فى بلدنا. ثم، فيما بعد، حول ضاحية مصر الجديدة (1945)، قبل أن تصبح هذا الأخطبوط ذا الألف ذراع، كنا نمشى ونتكلم، ونتكلم ونمشى،ثم نفترق لنتراسل، ونقرأ،ولا لعب، ولايحزنون.

أذكر ذات مرة أن ابن عمة بعيدة لنا جاء يزورنا فى بلدتنا، وكان يحذق لعب تنس الطاولة (البنج بونج)، وظل يلعب مع أخى الأكبر هذا مايقرب من أربع ساعات متواصلة، وأنا أنتظر أن يحن علىّ أحدهما ولو بشوط واحد، ولافائدة. وحين جرؤت على السؤال عن متى ينتهيان، لم يكلف أى منهما خاطره بالرد علىّ أصلا. ومازلت أذكر معنى “الانزواء من داخل” منذ ذلك الحين.

ومرة أخرى فى صحراء مصر الجديدة (1947) ذهبت متطفلا مع أصدقاء أخى هذا لـلعب كرة القدم، وكنت حول الرابعة عشرة، وكانوا جميعا حول السادسة عشرة، وقد نسونى تماما عند تقسيم الفرقتين، فذكّرتهم بوجودى، فقال أحدهم: اذهب إلى أىة فرقة “فوق البيعة”، وبلعتُها، وقررت أن أنضم إلى إحدى الفرقتين، ولكنى لم أخطِر أفراد الفريق الذى أقحمتُ ُنفسى عليه، وكيف أفعل؟. ظللت أجرى طوال الشوط الأول بجوار خط التماس دون أن أقترب من أى من الفريقين، أو تقترب منى الكرة أصلا، وانتهى الشوط وأنا لا أدرى هل كسبتُ أم خسرتُ؟. وكيف لى أن أدرى وأنا لست على يقين أصلا من قبولى فى الفرقة التى أنتمى إليها؟. وفى الشوط الثانى: انتقلت إلى الفريق الثانى- دون أن أخطر أحدا أيضا- وظللت أجرى على خط التماس المقابل طوال الشوط أيضا، دون أن يلحظنى أحد، أعنى دون أن يهتم بى أحد أو يفكّر فى سؤالى مع أى الفريقين ألعب، حتى انتهت المباراة وأنا لم ألمس الكرة.

ثم فى إحدى سفراتى السابقة ـ أثناء مهمتى العلمية فى باريس (1969) ـ  حكيت هذه القصة لزوجة صديقى بيير برينتى، و هى إيطالية اسمها فرانكا، واسمه بيير برينتى وهو الذى أشرت إليه سابقا لمّا رسمت له اسمه بالحروف العربية. (وسيأتى ذكره كثيرا لاحقا)، كان دائم الفخر أنه جمع الحسنيين، فنصفه الأمومى من الميدى (وسط فرنسا)، والنصف الأبوى من تورينو (شمال إيطاليا)، وهو يعتقد أن هاتين المقاطعتين جمعا أنقى عناصر الشعبين. وكان بيير قد أخذنا إلى غابة فى جنوب باريس؛ حيث تسكن عائلة قريب له، فوجدناهم يلعبون كرة القدم كبارا وصغارا، فأصرّ بيير على أن أشارك فى اللعب، رغم تأكيدى له عن مدى تهبيلى العشوائى. وكانت كلما عثرت الكرة فى قدمى- بالصدفة طبعا- هلل وشجعنى كأنى قصدتُ شيئا،أو كأنى ألعب فعلا، حينذاك، بلغتنى عنى معلومة  شديدة الدلالة: وهى أنى لم ألعب حقيقة وفعلا “أبدا”، وذكرت لزوجته (فرانكا) علاقتى باللعب عامة، وبكرة القدم خاصة، وحكيت لها، دون تردد أو خجل،  حادث صحراء مصر الجديدة مع أخى وصحبه، فقالت مازحة إنه يبدو أنه كان يلزمنى أكثر من ثلث قرن من الزمان، ثم الحضور إلى غابة فى فرنسا شخصيا،  حتى أعرف إلى أى فريق أنتمى، وحتى تقترب هى وزوجها منى بكل هذه الرعاية فأطمئن. يومها قررت أن أعمل فى بلدنا عند عودتى غابة مثل هذه الغابة، وسطها ملعب (ملاعب) لمرضاى وعائلتى الكبيرة، لاننسى فيها طفلا،ولا نُـغْــفُلُ مبتدِئا.ولا نلهب عاجزا ، أو نتجاوز مريضا. وقد كان.

كل ذلك خطر لى وأنا فى حمام السباحة مع أحمدرفعت  وعلى عماد . فارق السن بينى وبينهما يقترب من خمسين عاما، وأنا أتصنع أنى أرعاهم، وأحرص عليهم من الغرق، والواقع أنى كنت أعيش كل الخبرة الممكنة فى هذه اللحظة بشكل ذاتى أساسا، وبصحبة أقرانٍ أحرار، وتمر سحابة محملة بما تيسر، وتتوسط السماء فوقنا تماما، وترُخ رخة قصيرة، فأفرح فرحتين، وأنا أتمتع بمنظر الماء الهابط من السماء يتلألأ على الماء الصناعى بعض محاولات الإنسان الدائبة لتجميل الحياة، والإضافة إلى الطبيعة بكل ما أوتى من إبداع مثابر.

هطول المطر فى بلدنا مصاحَب أبدا بذكريات فصل الشتاء، ومغامرات الأوحال، والحوادث، وأعطال المرور. أما أن يهطل المطر عليك فى جو منعش، وأنت فى حمام سباحة نظيف حالة كونك “تبلبط” طفلا مع الأطفال، فهذه نغمة أخرى عزفها رب الطبيعة والناس، حين ألهم الناس أن يحسّنوا وسائل متعتهم لتتناغم مع خلقهم. ليست المسألة ليست حمام سباحة بديلا عن الطبيعة ،بل تنويعات مضافة تتكامل مع الطبيعة.

كانت حمامات السباحة فى بلدنا لا تمثل عندى شيئا ذا بال، بل إنى كنت أنفر منها نفورى من النوادى التى تحتويها. فأنا لا أعرف مجتمع هذه النوادى أصلا، ولست متأكدا على ماذا يجتمعون، و على أى شئ يفترقون. والمرة الوحيدة التى دخلت فيها نادى الجزيرة، كانت بدعوة من صديق اعتقد أن عندى ما أقوله بمناسبة عرض فيلم “ابنة ريان”، وكان لى فيه رأى منشور، وقد خرجتُ من هذه التجربة بخبرة لا تسر. فقد شعرت أنى أكلم ناسا لا أعرفهم، على موجة إرسال ليست فى أجهزتهم ما يستقبلها.

لم أتعرف على ما هو حمام سباحة (جدا) إلا فى خلوة لاحقة، وعلى مساحة رائعة من مياه فيروزية قابعة وسط صحراء الخليج العربى، تتحدى كل جفاف وجفاء، كل ذلك فى فندق “أبللى” فى رأس الخيمة. كنت أنزل فيه ذات أغسطس، والحرارة فوق54ْ، وتذوقت لأول مرة طعما فسّر لى ماكان يقال فى بلدنا عن أم كلثوم من أنها كانت تستحم باللبن الحليب، ربما تفسيرا لجمال ونعومة وقوة صوتها الرائق، أفهمنى حمام رأس الخيمة هذا معنى حمام أم كلثوم المزعوم، ليس فقط بسبب نعومة وقوة صوت أم كلثوم، ولكن يبدو أنى استشعرت فيه معنى الرضاعة أيضا حيث درجة حرارته تقترب من دفء حليب لبن الأم. وأذكر عاملا آخر شجعنى على أن أختلس نزول ذلك الحمام دون توتر- المرة بعد المرة – وهو أنه كان خاليا معظم الوقت، لم يكن يشاركنى فيه أحد إلا نادرا، ومن هؤلاء تلك الهيفاء التى لا يمكن أن تميّز إن كانت ترتدى لباس الاستحمام أم لا. كانت تنساب وهى تسيرحول الحمام قبل أن تنساب فى مائه وكأنها تعوم دون أن تحرك ذراعيها أو ساقيها، قشر بياض يؤكد ازدواجية أصل الإنسان ، إذ يبدو أن مثل هذا الحريم انتقل من مرحلة  السمك إلى مرحلة الغزال دون المرور بحلقات القرود والغوريللا التى اختص بها تطور الرجال الخناشير.  فى هذه الصحراء المحافظة جدا كنت أتأمل هذا الإبداع الخاص جدا حتى أنسى درجات الحرارة ، والرطوبة والسوْنا الطبيعية، ثم فجأة ، يهاجمنى  هذا الإلحاح المستمر فى التفكير فى الفقراء جدا، الذين لايجرؤون على مجرد تخيل أن يروا هذا أو بعض هذا.

حمام سباحة آخر مزّقنى بين المشاركة فى رفاهية ليست  فى معجمى، وبين  العجز عن  التخلص من إلحاح الهم العام وأنا مشغول بالناس الشديدى الفقر على بعد خطوات منه. كان ذلك فى هيلتون الخرطوم. كنت فى مهمة فحص متهم طبيب لتقدير مسئوليته الجنائىة فى جريمة ملتبسة، كان المسبح (والفندق) مليئا بناس تكساس ذوى القبعات العالية المخططة و العريضة  ذات الريش، وكأنى أشاهد النسخة المعكوسة من فيلم لرعاة البقر أو ادعاء تحرير العبيد فى ولايات الجنوب الأمريكية،  هؤلاء الرعاة  الباحثون عن البترول فى الأغلب يقومون بتعبيد الأحرار السود، وليس بتحرير العبيد. كان هذا الحمام يحتوى داخل الماء بارا يقدم كل المشروبات (فى الماء أيضا) وحوله كراسٍ صخرية أو رخامية يغطيها الماء يجلس عليها السباحون ويشربون، ثم يعاودون النكوص.

ظللت أتساءل ، وحتى الآن: كيف لاتقتل كل هذه الرفاهية كل إحساس بالحاجة إلى العدل وضرورة اليقظة؟. وكيف يستطيع أن يذكر الناس فى هذه الحمامات، هكذا، ناسا آخرين على بعد أمتار أو أميال لايجدون مايسمح لهم بمجرد استمرار دخول نَفَسِ الهواء وإخراجه؟ وكيف لمن يدّعى- مثلى- أنه لاينسى الفقراء المحرومين، أن يستمتع بنعمة الله ونعم البشر، وهذه الأفكار لا تفارقه؟. وما حال من هو أصغر وأصغر ـمن أبناء الأكثر ثراء ـ ممن يتصورون أن الحياة هى كلها “هكذا” فهم لم يروا إلا ماهو “هكذا””، حتى لو كان كل مايكسبه أهلهم شريفا جدا؟ هكذا يزعمون جدا.

كيف تسربت هذه الأسئلة إلىّ الآن بهذه الصورة؟  هل هذا وقته؟ أسئلة كلها تجلب الغم فى وقت يُعتبر الغم فيه جريمة أو خطيئة لابد أن يحاسبنا الله عليها. وهل عدم قدرتى على الاستمتاع التى أشرت إليها سابقاً، هى التفسير الذى يجعل صورة المحرومين تقفز إلى ظاهر وعيى فى مثل هذا الموقف؟ وماذا سوف يفيد المحرومين إذا أنا حرمت نفسى من المتعة أسفا عليهم، ثم لا أعمل شيئا حقيقيا لهم؟

الحمد لله. حمام المخيم الإيطالى هنا هو حمام شديد التواضع، وإن كان شديد النظافة، شديد الجمال، وناسه طيبون “منا وعلينا”، ولا يوجد تناقض ظاهر على بعد أمتار أو أميال، وكل من يملك ما يساوى بضعة جنيهات يستطيع أن يمضى هنا يوما أو بعض يوم، وهو أمر يشجع على النسيان، وحمدِ الله دون تنغيص ادعاءات حب العدل.

ونخرج من الحمام إلى الكوخ، وأرشو الطفلين ببعض “الفكة” التى يمكن أن يمارسوا بها ألعاب التسلية فى مقهى المخيم، واعدا إياهم بأنى لن أبلغ قيمة هذه المبالغ إلى أمينة الصندوق، ابنتى المسئولة ؛ كانت هذه الرشوة أملا فى أن أنفرد بنفسى أكبر وقت ممكن، لعلنى أكتب شيئا. وانفردت بها:

أخذت أتأمل نزلاء هذا المخيم الفخم ذى الأربعة النجوم (فالمخيمات مثل الفنادق تحدد درجتها السياحية بعدد النجوم أيضاً، ولكن ما كل نجمة نجمة) – وتساءلت: هل هؤلاء الناس ذوو العربات الفارهة والبيوت المتحركة، يسترخصون الإقامة فى مثل هذا المخيم، عن الفنادق اللائقة بأمثالهم أو حتى عن بيوتهم؟. ويجيئنى الجواب معادا: إن المسألة ليست فى درجة الرفاهية ونعومة الخدمات، وإنما فى فكرة الخلاء، والخدمات المشتركة، وتنشيط كل ما هو فطرى وكريم وسمح ومتعاون فى وجودنا الذى زحفت عليه دهون البلادة والخوف والحسابات. ويتأكد عندى هذا المعنى، حين أذكر أن مثل ذلك يحدث مع ناس أكثر ثراء، حين يبحثون عن المتعة والتغيير فى أماكن أقل خدمات وأوفرمشقة. ذلك أن من عادات أهل الجزيرة العربية من الأثرياء ـ مثلا ـ أن يخرجوا إلى “البر” بين الحين والحين. ولم أفهم فى بادئ الأمر أن “البر” هو الصحراء المترامية الخالية. فطول عمرى أعتبر البر هو الشاطئ، إذ هو “خلاف البحر” ومقالبه. الا أن “البر” عند إخواننا هناك كان يعنى “المخيم” و”التخييم”.

مرة وأنا فى رأس الخيمة-لمدة أسبوع خاطف- علمت من صديق يسكن قصرا (بحق وحقيق) مكيف بكل شئ (…مما لايخطر على قلب بشر) أن عائلته فى البر منذ فترة، وعلمت – بطريق غير مباشر- أنهم هناك يمارسون حياة بدائية كاملة (بما فى ذلك- ولا مؤاخذة- قضاء الحاجة)؛ لأنه لا توجد خدمات متحضرة، كما هى الحال فى هذه المعسكرات المتواضعة فى أوربا. وجعلت أتساءل وأنا فى دورة مياه قصر هذا الشيخ، وكأنها من الذهب الخالص!!- “أيتركون هذا الحمّام الذى يخجل واحد مثلى أن يلوثه حتى ولو حيل بينه وبين وظيفة بيولوجية حتمية، “ليعملوها” هناك فى الخلاء كيفما اتفق؟. ياسبحان الله!! ـ ومازلت أذكر أيضا كيف عاد ابنه (متبنيه) الأصغر (7 سنوات) من البر، ومعه جحش صغير، يريد أن يدخل به الصالون المكيف!! (بعد أن عثر عليه فى البر و”شبط فيه”. حيث الحمير هناك بلا صاحب لأنها ملكية مشاع) – وتعلمت من هنا وهناك أن المسألة ليست مسألة رفاهية وتكييف طول الوقت، وأن هذا النشاط وذاك ليس وراءهما إلا التذكرة والتأكيد على ضرورة النكوص، والاتصال المباشر بالطبيعة

نحن فى مصر لا حصّلنا هذا ولا ذاك. لم يبق لنا من مثل هذا النشاط إلا شد الرحال إلى بعض الموالد حيث مازالت الجِمال تحمل الأمتعة والعائلات أياما وليالى،  من الصعيد إلى مولد السيد البدوى، أو من وجه بحرى إلى سيدى عبد الرحيم القناوى. المهم : شد الرحال. والفرق شديد بين ناس يخرجون إلى الخلاء (الخاص… أو العام) من كثرة النقود ودغدغة الرفاهية، وآخرون يدخلون إلى ساحة الأولياء وزحام الناس من إلحاح الرجاء و “قلة مفيش”- ومع ذلك فقد أحسست أن الفكرة متشابهة. فثَمَّ انتقال، وتخييم، وناس أغراب يلتقون دون سابق معرفة، ونشاط جماعى دون اتفاق، وهدف مشترك- فى مساحة ما- دون إعلان.

أنا أعتبر نشاط الموالد من أهم ما تبقى لنا من فرص النكوص الدورى الجماعى، إلا أنى – بكل ألم- أسمع نغمة جديدة يتزايد علوها فى الهجوم -أيضا- على هذه الموالد، يهاجمها المتمدينون باعتبارها “تخلفاً وقذارة”، ويهاجمها المتدينون المتزمتون باعتبارها مسخرة وبدعة. ونحن شطار فى الهجوم دون إعطاء بديل أو اقتراح بتعديل. فبدلا من أن نوسع فى المكان، ونقدم خدمات النظافة والإخراج، نهاجم، وننذر، ونتعالى، بل إننا لانعتنى بمثل هذه الخدمات العامة حتى فى الأماكن السياحية المعدة للتخييم فى مصر، وما أقلها، وكأن ثمة خطة مدبرة قصدا عندنا تمنع الناس من مغادرة منازلهم… اللهم إلا القادرين.. يغادرونها إلى منازل أغلى وأثقل تسمى الفنادق،  أو القرى السياحية، والباقى يـُرَصُّ رصا أمام التليفزيون بأمر سلطوى، يبدو أنه متفق عليه بين أصحاب السلطة الفكرية والإعلامية والسياسية والدينية جميعا.

أتساءل بانزعاج: فماذا بعد؟.

لو أننا واصلنا حرمان شعبنا أكثر فأكثر من هذه النشاطات الجماعية النكوصية الدورية (الموالد، والمهرجانات، وحلقات النشاط الجماعية – النكوصية والإبداعية والإيمانية جميعا) تحت دعوى الإلتزام الدينى القامع، أو التحضر السطحى الكاذب… إلخ…أى مصير ينتظر حركة وجودنا الدورية؟. وأى خصام مع دورات الطبيعة، ودورات النكوص الحتمية؟

مازلت أذكر زفة مولد النبى فى زفتى. الحرفيون فوق عرباتهم “الكارو” يستعرضون أنشطتهم المختلفة فى بهجة ما بعدها بهجة، ولست أدرى هل مازالت هذه الطقوس تقام حتى الآن أم لا. ثم يحضرنى عبد الحكيم قاسم وهو يرسم حيوية مولد السيد البدوى “فى أيام الإنسان السبعة”، وأدعو الله دعوة إجمالية لا أعرف محتواها، وبالتالى لا أعرف كيف يمكن أن تتحقق، ولكنه ـ سبحانه ـ أدرى.

أفتقد فى هذا المخيم – فى رحلة تأملاتى وحيدا- هؤلاء “الغجر” من الخواجات الذين كان منظرهم مألوفا لدَّى فىّ أثناء إقامتى فى مخيمات فى سويسرا وإيطاليا (سنة 1969) فإذا كانت الأسر الكبيرة، والقادرون فى شبه الجزيرة العربية يخيمون نكوصا إلى ماهو قبيلة، فإن الشباب المحدثين (الهيبز وما شابه) يرتحلون ويخيمون نكوصا إلى ماهو “غجرى”… بما فى ذلك أخلاق الغجر بما لها وما عليها.

تحضرنى لندا دارنل  بحول خفيف فى عينيها، يزيدها جمالا، فى فيلم “عنبر إلى الأبد”، تبتسم لى وتشير بسبابتها على فمها ألا أفسر أكثر من هذا، فلا أسمع لها، ويهف على وجدانى ذلك الخليط من المشاعر التى تحركت بى حين شاهدت ـ لأول مرة ـ فى معسكر ما فتى وفتاة من هؤلاء، وقد تجمعت عليهما قاذورات الرحلة والطريق والزمن، حتى فاحت منهما رائحة العرق بالشبق والحرية، فاستقبلت كل ذلك بخليط من مشاعر الدهشة، والغيظ، وحب الاستطلاع، والغيرة، والإعجاب، ولا أطيل حتى لا أكشف أكثر على ماهو أكثر، ويمكن للقارئ- لو صدقنى- أن يقوم هو بجمع هذه الصفات والمشاعر بعضها إلى بعض، (لا على بعض). وقد يقرأ هو مالم أكتبه، وقد يتمتع  برائحة الشواء واللقاء مجانا.

أرجعت خلو مخيمنا هذا(الألبا دورو = أظن أن معناه هو “الذهب الأبيض” ربما)  من مثل هؤلاء “الغجر” إلى احتمال انحسار أمثال هذه الموجات (الهييبز.. إلخ) أصلا منذ بداية السبعينيات، أو لأن المخيم ذا أربعة نجوم، وهؤلاء الغجر يفضلون الأرخص والأقذر.

ويعود ولداى (حفيداى/ رفيقاى/ صديقاى) فرحين باكتشافهما لطريقة ممارسة ألعاب الحظ والشطارة، ويحاولان أن يستدينا منى مايصرفهما عنى، فأوافق طلباً لاستمرار خلوتى بنفسى، وينصرفان فأُخـْرج ماصحبت معى من أوراق، وقد عقدت العزم على الكتابة، وأجد موضوع “تطور الوجدان” يطل على من بين الأوراق البيضاء، فأخجل من أفكارى “العلمية” حول هذا الموضوع، فى هذا الجو المشحون بشتى العواطف والمشاعر والوجدان والأحاسيس.. وكل ماينتمى إلى هذه “المنطقة” من الوجود.

الفكرة وراء هذه “النظرية” التى تشغلنى عن تطور الانفعال، هى أنه – حين يتكامل الشخص نموا – لا يوجد عنده شئ اسمه عواطف أو انفعال أو حتى وجدان، بالمعنى الشائع الذى يصورها باعتبارها وظائف مستقلة ذات معالم خاصة بها. فإن صح ذلك وتم إلغاء ماهو عواطف ووجدان: فما هذا الذى أنا فيه؟. وبم أسميه؟. وكيف أصفه بمصطلحات العلم الوصى على الخبرات (الذى يقال له: علم نفس!!)

قلت لنفسى. لنفرض أنى- شخصيا- أقترب من أعلى مراتب الوجدان تطورا فرديا (وهذا غير صحيح) فليكن ما أنا فيه هو ما أحب أن أسميه “المعنى الجوهر”، أو “المعنى الشامل” أو “الحقيقى” أو “النابض” أو “المتناغم”؛ وهو مايفيد نتاج الالتحام الطبيعى بين مايسمى وجدانا بما يسمى فكرا إذا أصبحا “واحدا” يستحيل فصمه إلى أجزائه، وبالتالى ما حاجتى إلى انفعال مستقل إذا ملأنى المعنى؟ فيردُّ علىّ قائلا: ولو. وأعجز عن كتابة أى حرف، على أىة ورقة.. ولو على سبيل نقاط للتذكر مستقبلا.

ينقذنى من مواجهة عجزى هذا حضور بقية أفراد الرحلة من جولتهم، فى حالة من النشوة والانبهار ليس لها مثيل، ويعرضون على غنائمهم، وأستعيد حبى لألوان “المورانو” الرائعة، ويحاولون إفهامى أن مفارش “فينسيا” “صنع اليد” هى أكثر فنا وذوقا من هذا المورانو المقوْلب فى الغالب، فلا أفهم. وعموما.. فأنا من بلد لايقدّر “شغل اليد” حق قدره كما يفعل “الخواجات” والذين يفهمون، وتحاول ابنتى أن تشرح لى كم من الساعات أنفقتها الفنانة التى “شغلت” هذا المفرش. فأقول فى نفسى قولة جورج سيدهم فى “المتزوجون”: “ناس فاضية”.. ولكن: أبدا، هذا فن حقيقى يحتاج إلى تأمل خاص، هو ليس فى مجال قدراتى الآن، وأعد نفسى- مثلما أفعل بالنسبة إلى الموسيقى – أن أفرغ له يوما.

ويبدأ الإعداد للعشاء، وكانوا قد اشتروا من الآنية ما أغنانا عن استعارة جديدة، الحساء جاهز وكأنه يلوّح لنا بما خرج منه، والتقشف له طعم شهى.

أكلنا وشربنا الشاى، وسهرنا، وحاولنا أن نسمع إذاعة مصر فلم نفلح، وكنا فرحين بأول ليلة استطعنا فيها أن ننام فى مكان معروف لنا مسبقا من أول النهار!!،

وأذهب وزوجتى إلى المقهى النادى الملحق، نتأمل الوجوه، ونشارك من بعيد، ثم نشارك من قريب، ثم نشارك جدا،  ونحمد الله حمدا كثيرا طيبا نرجوا أن ننتفع به.

الثلاثاء  82 أغسطس 1984:

صباح حقيقى آخر، بكل الآمال المجهولة، والرسائل الهامسة، والأنغام الجياشة الواعدة، والصمت الناطق بالهدهدة الدافئة، ويستيقظ الأولاد على راحتهم لأول مرة، ويعد الإفطار المناسب والذى منه، وكنا قد بدأنا نستعمل منضدة مخيمات اشتريناها من أثينا، فردناها، فجمعتنا فى رحابة ذكية. فضّل ولداى الأصغران (رفاق الأمس وحمام السباحة) أن يمضيا اليوم فى المخيم دون النزول إلى فينيسيا، ففرحت فرحا شديدا؛ لأنى سأجد سببا يبقينى فى المخيم بحجة رعاية الصغيرين، فأعلنت ذلك، وأخذت أعد نفسى بيوم كامل أرتب فيه داخلى.. وقد تتاح لى فرصة أفضل لكتابة بعض ماوعدت، وكان المخيم بكل أشيائه وأجوائه قد استقر فى وعيى حتى أحسست أنه بيتى وأكثر، وكأنى أقيم فيه منذ تناسخى الرابع عشر بعد المائة..، والمرأة الُمهرة المسئولة عن المخيم تمشى فوق قفزاتها الصغيرة، أمام “مكتب الإدارة”، وهى تطلق دفء الفتوة ذات الرائحة الشبقية، وإذا بزوجتى تفضل أن تبقى معنا فى المخيم . حاولت أن أثنيها عن عزمها خشية أن تكون “جاءت على نفسها” من أجل خاطرى، إلا أنها أصرت أن تبقى حتى لو ذهبتُ أنا والأولاد. وقلت: فرصة. أبدأ معها جولاتنا الصغيرة  فى الحوارى والأزقة المحيطة إن وجدت، ولا بد أن توجد، جولاتنا لايعرفها السياح فى مجموعات، ولا السياح ذوى الياقات الزرقاء.

ما إن رحل الأولاد الكبار، وانطلق الأصغران إلى الحمام دونى، حتى صحبت زوجتى بعد الضحى إلى السوق الأعظم (السوبر ماركت).قصدت إليه أصلا لأصلح ما أفسدته تجربة بلجراد فى كيس نوم خيمتنا، وجدته مليئا بكل ماحلمت به من معدات التخييم ، فاشتريت ما أحتاج إليه وما لا أحتاج إليه استعدادا لأسفار مجهولة  لا تحدها ولا شطحات ألف ليلة ، أبتاع كلما أتصوّر أنه سيحافظ على استمرار حركتى فى بلاد الله لخلق الله، وأنوى أننى  حين عودتى سوف… وسوف… وسوف.

أعود، وأبوك عند أخيك..،إلا قليلا .

أسمِّى مثل هذا النشاط: الجولة السرية فى الأماكن غيرالسياحية، فدخلنا القرية الصغيرة التى واعدتها بالعودة؛ حين لمحتها ونحن نبحث عن مخيمٍ نبيت فيه من فور وصولنا. الشوارع خالية خالية، وأحسن وصف لها هو مانسميه فى بلدنا “ليس فيها سريخ ابن يومين”. وحقدت عليهم، ثم أشفقت علينا، ورفضت هذا وذاك، ماهذا الصمت كله؟. أين الناس الزحمة؟. يعملون؟. كلهم يعملون؟. كل الوقت؟ وأين العجائز والنساء؟. وتركنا العربة وأخذنا نمشى على أقدامنا فى دهشة وصمت مفروض علينا حتى لا نجرح الصمت المطبق حولنا، وبين الحين والحين تمرق بجوارنا سيارة صامتة أيضا، وكأنها تسير دون دوران الموتور، وأخيرا توقفت سيارة غير بعيدة منا، ثم عدلها صاحبها فى مواجهة باب حديقة منزل لا هو بالفيلا، ولاهو بالقصر، ولكنه جميل متميز بين هذا وذاك، نزل منها صاحبها(من الوجهاء) لابسا “أبيض فى أبيض”، ومضى فى هدوء باسم، فأمر باب الحديقة أن يفتح ذاكرا- بالضرورة- كلمة السر. شئ أشبه بــــ:- افتح ياسمسم”. وعاد هذا الرجل إلى سيارته وأخرج حقيبته، وذهب إلى باب المنزل بالهدوء ذاته. ليفتحه بحركات موسيقية ناعمة، وكأنه يرقص الفالس، لا يمشى مثلنا، هكذا لعب خيالى وصاحـَبـَهُ حتى دخل إلى برجه الخالى بالسلامة.

طيب ، بالله عليكم ، ماذا فى هذا المنظر حتى أحكيه بهذه التفاصيل الدقيقة التى تبدو بلا معنى.. لابد من البحث عن دلالة هذا الحدث الذى انتقل من أرضية جولتنا إلى واجهة مسرح وعيى الآن، وحينذاك. ربما كان ذلك بسبب ما جذب انتباهنا من ذوق رفيع تميزت به “عمارة” هذا المنزل وما جاوره، بالمقارنة بالنشاز المعمارى الذى أصبح يتحدى أى حس سليم فى بلدنا، لا… هذا لايكفى، إذن ماذا؟ نعم: وجدتها، فقد بدا لى- رغم كل شىء- أن هذا الرجل المهذب جدا، الأنيق جدا، هو وحيد جدا-جدا، لماذا؟. لست أدرى. قلت لزوجتى: هل يمكن أن يؤدى فرط النظام، وعمق الهدوء، وتمام الاستكفاء الذاتى، وتناهى الذوق المتناسق، هل يمكن أن يؤدى كل ذلك إلى هذه الدرجة القصوى من “الوحدة”، فأجابت بصدق دون أن تعلن شكّها فيما ذهبت إليه: أنها “لا تدرى”، فكانت أطيب منى وأبسط، سألت نفسى: لماذا ألجأ إلى الانتقاص من أى تكامل بهذه الشطحات الفرضية؟. وما الداعى إلى افتراض “الوحدة” وسط هذا النسيج المتناغم من الجمال والدعة؟. ومع ذلك، برغم اعتراض زوجتى غيرالمعـلن، فأنا أكاد أقسم أن هذا المهندم (الذى لا عيب فيه): كان وحيدا، وحدة “بلبل” أسمهان المهجور، لم يستقبله أحد، ولايبدو فى المنزل أحد أصلا، ولاحتى كلب فى الحديقة يهز ذيله لصوت السيارة، ويتمسح بقدم صاحبه من فور نزوله منها، نحن فى وقت الظهيرة، أين ناس المنزل؟ فى الداخل، أو مازالوا فى الخارج؟.. وأنا مالى؟

دخلنا إلى أقرب مقهى، فلم نجد به أحداً إلا رجل البار واقفا وراء طاولته دون اهتمام بقدومنا- ربما- حتى نقرر، فقررنا أن نخرج من الباب الآخر، وقد بدأ ظل من حزن صامت يزحف إلى وعيى فأسـَـرِّبــُهُ بعيدا حتى لا تلحظ زوجتى، هل هذا وقته.. هل أعدتْـنى الوحدة المزعومة التى أسقطتـُها على هذا الرجل “الأبيض فى أبيض”؟

دخلنا مقهى آخر سمعنا به أصواتا “ما”، وفعلا، كانت ثمة منضدة مستطيلة (لعلها اثنتان بجوار بعضهما) وقد جلس حولها خمسة أشخاص يلعبون الورق، وبجوار كل شخص شخص آخر، والأصوات شديدة الضجيج، والتشجيع شديد الحماسة، وانتقينا منضدة صغيرة بعيدا عن هذه المباراة المشتعلة، وكأنها بركان نشط فى صحراء غير بركانية. ولم يكن فى المقهى كله سواهم إلا نحن، وبصراحة هم لم يلاحظونا، أو قل: ماكانوا يستطيعون إلا أن يهملونا، حتى الصبى النادل الجميل الذى لا يزيد عمره عن السابعة عشرة قد جاءنا فى تكاسل، واللبانة فى فمه، وهو ينظر إلينا بربع أو نصف عين، ويتابع المباراة بعين ونصف، وهو مازال فى الوضع مائلا، أشرنا له بما يمكن، فانصرف، وعاد بكل تراخ ليضع أمامنا شرابا لـسنا واثقين أنه هو الذى طلبناه؛ لأننا لسنا واثقين ماذا طلبنا أصلا.

قلت لزوجتى إنهم لابد فريق من العمال الكادحين يمضون فترة استراحة الظهيرة فى هذا اللهو الخفى (!!)، ولكن “ظهيرة” من؟. لقد مر وقت طويل حتى انتبهنا إلى أن المسألة زادت عن كل توقعاتنا، كنت قد انهمكتُ مع زوجتى فى حديث يتصل بشكل أو بآخر بتعديل الكون، والجدّية، والإصرار، (و “أنه”… و “لذلك…”، فإنه من المستحيل”…، و”حتى لو..”).  أقر وأعترف أن بى هذه العادة القبيحة التى تقــلب أىة فسحة – ومع زوجتى بالذات- إلى هذه الجدّية المحفوفة بالهموم، وهى مسكينة تستمع وكأنها- شخصيا- المسئولة عن كل ذلك، وعن غير ذلك أيضا، ذلك أننى أفترض أنها- بدهيا- تتربص بى وبالزمن لتحقيق “حياة الدعة دون مقابل”، بمجرد أن أسهو..، وكلام من هذا “القبيل”. وأكاد أجزم أنها تلعن فى سرها “هذا القبيل” ليل نهار، وخصوصا فى مثل هذا الوقت، إلا أن تلك الحماسة الممتدة وغير المناسبة جعلتنا نتأمل هؤلاء الناس أطول فأطول، ونتابع رهانا بدون مقابل إنهم إما أن يكفوا عن الشراب، وإما أن يسكروا طينة حتى لايعودوا يعرفون “الآس السباتى” من “العشرة الطيبة”، ولا الملك من الكتابة- ونخسر- نحن الاثنين الرهان؛ لأنه لا هذا يحدث ولاذاك، ويعودنى المعنى الأول الذى جعلنى أقف أمام الرجل المهذب، “الأبيض فى أبيض” راقص الفالس، الذى زعمت بوحدته الثلجية، فهنا العكس تماما: صخب وسكر ولعب وقلة ذوق، وقفزٌ عند المكسب، وقفزٌ آخر مكتوم عند الخسارة،… حيوية صاخبة فى الاتجاه الصاعد والهابط على حد سواء. وأبلغ زوجتى ما خطر ببالى من هذه المقارنة، فتنبهنى إلى أننى آخذ بالظاهر، وأنه ربما كانت وحدة هؤلاء – على الرغم من صخبهم الظاهر – هى التى دفعتهم إلى “كل هذا”، فهل كسروها بما يفعلون؟. أتعجب لـمعارضتها، ولكنى أتأمل كلامها وأقول: يارب سترك، لو صح كلامى الأول عن وحدة الرجل المهذب، وصح كلامها الثانى عن وحدة أهل الصخب وقرب السُّكر وحماس المكسب والخسارة، لأُغلقت كل منافذ الأمل فى أن المجتمع البشرى يمكن أن  “يتواصل” أفراده مع بعضهم البعض، كما خلقهم الله.

إذا كان ذلك كذلك عندهم ، فما ذا عندنا بالله عليكم؟

هل هذا الذى نفعله فى بلدنا، ويفخر بعضنا به باعتبارنا أدفأ عاطفة وأكثر تواصلا، هو العلاقات الأرقى إن شاء الله ؟  هل هذه القبلات التى أصبح الرجال بتبادلونها عندنا على العمّال على البطّال  هى الدليل على حرارة العواطف.عندنا ؟ هل هذا هو “التواصل البشرى” المناسب الذى نقيس به غيرنا؟.

ثم أليس من المحتمل – الآن – أننا(زوجتى وأنا) لا نفعل إلا أن نُسقط وحدتنا نحن (ومن مثلنا) على هؤلاء البشر الذين لا نعرف عنهم إلا ظاهرهم؟

ونخرج من المقهى بعد أن شبعنا جهامةً، وغما، واجتهادا، وأملا،ومراجعة، وتكون الساعة قد جاوزت الثالثة ظهرا، والشوارع ما زالت كما هى. أين الناس؟

فى الطريق إلى المخيم عائدين يلفت نظرنا مكان لانتظار السيارات، صغير وجميل، مكتوب عليه “خاص بزبائن المطعم فقط” (نفهمها بالعافية)، ونبحث عن هذا المطعم المُلحق، فلا نجد إلا محل بقالة مقفولاً، وبجواره كوخ متواضع نظيف وجميل أيضا. لابد أن يكون هو ذاك، وأفرح من جديد لأن هذا- بالضبط- هو ما أنشد الآن، فأنا شديد الانجذاب إلى مطاعم القرى والضواحى الصغيرة، ونقرر بلا تردد أن نخون الأولاد ونتناول وجبة ساخنة يخدمنا فيها “آخر”، فنبدو لأنفسنا كما الزبائن المحترمين فى هذا المطعم السرى الجميل. إلا أننا سرعان ما نكتشف أن المسألة ليست سائبة، وأن ميعاد الغذاء قد انتهى، و أنهم لن يفتحوا المطعم إلا فى السابعة مساء وحتى التاسعة والنصف تماما (أهلا…!!). هكذا احترام كل شىء، ويغلب على ظنى أن رواد هذا المطعم هم ضيوف أسرة هذا الكوخ، لا أكثر، رجح ذلك حين عدنا فى المساء، بعد أن ذهبنا نطمئن على الصغيرين، فشاركتهم غـُطسا عابرا، كان غـطسا أَبـَويـَّا هذه المرة؛ إذْ لم أعثر بداخلى على طفل الأمس، بعد ماكان من نقاش الظهيرة مع زوجتى، بما فى ذلك إسقاطات الوحدة.

يبدو أن عمل بعض الأسر يكون متكاملا ومحليا فى هذه الأماكن البعيدة الجميلة. فقد خيل إلىنا أن المنزل، ومحل البقالة، والمقهى، والمطعم هم جميعا جزء لا يتجزأ من منزل أسرة صغيرة تقوم فيها الأم أو الأخت أو الخالة بالطبيخ، ويقوم الابن بالخدمة، ويقوم الأب بالإدارة وطلبات المقهى ومحل البقالة… وحين جاء الشاب يسألنا: ماذا نأكل، حاولنا أن نـُفهمه أننا نريد أى أكل طليانى جدا، لا نجده إلا فى إيطاليا؛ شريطة ألا يكون بيتزا أو مكرونة إسباجتى. لم يفهم ـ طبعا ـ فقلنا ليس أمامنا إلا الإشارة، وربنا يستر، ولكن الإشارة إلى موائد الغير أكبر عيب، فكيف السبيل إلى أن نقول: “مِن هذا” دون أن “ننظر” فى أكل غيرنا؟. علما بأننا كنا قد عدنا نمتلئ سماحا، ونرى “كل الناس حلوين” رغم هموم الظهيرة والفشل فى تعديل الكون، وكسر الوحدة، فلم نكن فى حالة تشكك فى أى احتمال لما هو “نظر” فى أكل الغير، أو إلى نقود الغير أو أى شئ والـله العظيم. واهتدينا أخيرا إلى طلبٍ ما (أرز بالكمون وسمك مشكل على ما أذكر)، وجاءت الطلبات عند حسن الظن، وإن بدا الأرز لأول وهلة أنه “معجن”، ولكن ما إن ذقناه حتى تأكدنا أننا أمام شئ “مختلف”، وكانت هذه هى الحال مع أنواع السمك وطريقة طهيه. وبعد أن انتهينا ودخلت أغسل يدى إذا بى أجد نفسى فى المطبخ شخصيا. فوجئتُ وفوجئــْـن، (ثلاث نساء عجائز)، ولكننى سررت فى السر إذ تحقق ظنى أنى فى بيتٍ، ولستُ فى مطعم، وكدت أدهش من دهشتهن الشديدة، وأنا أتذكر الممثلة المصرية (التى لا أذكر اسمها) التى كانت تقوم بدور الزوجة الريفية للمرحوم سعيد أبو بكر فى مسرحية “حركة ترقيات”، وهى تنتفض حين دخول الغفير عليها، فتغض بصرها إلى الأرض قائلة: “يوهْ؟ رااجل!!”. تراجعتُ دون إحساس بالخطأ؛ فثم بابان بجوار بعضهما، وشكل بعضهما، وليس على الباب الذى دخلته أى شئ يدل على المنع أو السماح، ولا على الباب الآخر صورة رجل أو امرأة أو تسريحة أو صنبور، المهم.. جاء الفتى الصغير المهذب، وأشار إلى لافتة على الباب، عليها حروف “أوربية”ولفظة تنطق بـ “كازينا” (فى الأغلب) طيب بالله عليك ياسيدى كيف أعرف أن هذه النقوش تعنى “لاتدخل من فضلك.. هذا هو المطبخ”- ولكن العتب على الشم، إلا أنه من أدرانى من أين تأتى الرائحة والمطعم الجميل، كله روائح شهية تمنعك من مجرد التفكير؟ المهم. مرت الحادثة بسلام، وحاسبنا الشاب فى رقة، ولم ندفع أنا وزوجتى أكثر مما يقابل ثمانية جنيهات.

حين رجعنا إلى المخيم كان الأولاد قد رجعوا من جولتهم المستقلة، وقالوا إنهم تمتعوا أكثر من أمس، ربما بعد ما تخلصوا منا، لكنهم عزوا متعتهم إلى أنهم قد ألفوا المكان والناس. وكانت رائحة الحساء تفوح “كالعادة”، وكانوا قد أحضروا لنا مفاجأة ما ينفع لإعداد عشاء ساخن كما ينبغى. وأنظر إلى زوجتى وتنظر إلىَّ، هل نعترف بالخيانة؟. أم نضطر إلى اصطناع الجوع ثم التزويغ أو التمويه؟ وأنقذنا ذكاء الأولاد على كل حال من هذا وذاك؛ فقد وجدوا فينا فتورا فى استقبال المفاجأة، والإسهام فى إعداد الطعام نتيجة للشبع والرضا معا، ولم يثوروا احتجاجا، وإن كانوا قد تهامسوا حقدا، وفرضوا علينا تعويضا مناسبا، وهو أن ندفع نصيبنا من ثمن العشاء، حتى لو لم نتناوله معهم، فما ذنبهم فيما اشتروا حاسبين حسابنا. وفرحنا- زوجتى وأنا- بهذا الحل الوسط، ودفعنا “التعويض” المقرر عن طيب خاطر، وهمست زوجتى: “هين قرشك ولاتهين بطنك”. وقلت: جاءت سليمة.

ثلاث ليالٍ بالتمام، ننام فى المكان ذاته!!! هذا عز لم نحلم به والله والعظيم، وغدا سوف نشد الرحال إلى نيس، على الرغم من أننا أجمعنا جميعا على أننا سعدنا فى هذين اليومين والليالى الثلاثة؛ بما يجعلنا نقبل أن نمضى بقية الإجازة هنا دون ضجر، وتذكرت شعورى نفسه عند توهم مشكلة “الكارت الأخضر”، على حدود يوغسلافيا/إيطاليا، وسررت أن ما جعل هذه الرحلة موفقة بهذا القدر، هو ذلك الشعور بالرضا السابق لأى حركة أو سكون أو ذهاب أو رجوع.

كانت الغالبية راضية عن الإقامة فى أى مكان،

كذلك عن السفر فى أى وقت،

عزمنا، وتوكلنا.

ذهبت أودع وأحاسب مضيفتنا “المرأة الفرس”، وكانت الساعة قد قاربت العاشرة مساء. فعجبت- من جديد- لهذه المرأة التى تخطت الخمسين دون أن تتنازل عن درهم أنوثة من أنوثتها المتفجرة المستبدة (عرفت لماذا تريد هندا أن تستبد يا ابن أبى ربيعة: . إنما العاجز من لا يستبد). أجابتنى المُهرة عن سؤالى عن الطريق السريعة إلى ميلانو فى إجابات قصيرة واضحة:

“… إلى فينيسيا فى خط مستقيم، ثم ترى اللافتات إلى بادونا… ميلانو”. قارنت كلامها بخريطة شديدة التعقيد كان قد رسمها لى شاب سوبر ماركت أدوات التخييم، ذلك الشاب الخجول النحيف المتردد . كنت قد سألته نفس السؤال ، فرسم لى هذه الخريطة التى بدت لى كأنها خطوط فك اشتباكٍ ما. هل التركيب الجسدى الواضح المتحفز، الذى تتميز به هذه المُهرة دون الفتى الرقيق، هل يصاحبه الوضوح العقلى المخترق ذاته؟. سيقول السلوكيون: “لا”، ولابد من “إحصاء”، والذى منه. وسأوافق، ولكنى لن أستطيع أن أمنع الربط بين وضوح وجه المرأة وتحديد تقاطيعها، وبين خفة دمها وثباتها، ووضوح وصفها ودفء حيوتها، وينتهى بى هذا البحث العلمى العابر إلى نتيجة تقول: “إن الوضوح، قرين الوضوح”، و”المهرة أقدر من السنجاب!!”.

وننام جميعا فى البنجالوز، حيث فضلنا أن نلم الخيمة ليلا؛ حتى نقوم مبكرين جاهزين. ويسعنا البنجالوز.

جحر ديب يسع مائة حبيب، وسِعنا البنجالوز، وهو ليس جحر ديب، ونحن تسعة.

 

الفصل الرابع

الحافة والبحر

ثم تبينت أن سيدنا بوذا هو الجالس وكرشه أمامه،

غريبة، دون صليب أو مصلوب، فهمتُ- دون سؤال طبعاً،

يا شطارتى!! – أن ثمة جالية هناك من البوذيين، أو أن

عدوى شرق أقصية خاصة أصابت بعض أهل هذه القرية،

وهات ياحرية، وهات يابوذية، ولا أحد أحسن من أحد،

وكل شئ- وكل دين- جائز فى الولايات المتحدة (ما دمت

بعيدا عن السلطة يا أبا على، دع الناس تتسلَّّ)

 

17يوينو 1985 (وقت كتابة هذا الفصل):

يخيل إلى أنى قطعت نصف “الطريق”، طريق الكتابة- هنا- لا طريق السفر، ومازلت أكتب كأنى “أحاول” لأول مرة؛ ذلك أنى أخترق مقاومة تكاد تمنعنى من التمادى فى هذا النوع من الاستكشاف بالقلم؛ خوفا… وخجلا، خوفا من أن أصل إلى المنطقة فى نفسى التى لا أحب- ولاينبغى- أن أعلن عنها، وخجلا من عرض مظان هذه الرفاهية “الخاصة” على “عامة” الناس، ولسان حالهم، وحالى، يقول: “نحن فى ماذا يا هذا؟، (إحنا فْ إيه، ولا فْ إيه؟)، وكأن الحوار بين القادر والمحروم لابد أن يستمر تكتما وسرقة، أو كذبا وادعاء فيمارس القادر الرفاهية فى السر، وهو يعلن الشعارات الراشية والمسكـّنة جهارا نهارا، ويذهب يبرر لنفسه التميز والتملك مشهِرا فى وجه الناس كل القيم “الدينية” و “المذهبية” الواعدة المؤجّلة، ويظل التبرير والتأويل والادعاء يوسع المسافة ويطمس المسئولية،

فأقول لى:

أبدا، وليكن. وليظل القلم صاحب الحق بلا وصاية علىه حتى لوتباعد ما يخط عما يقدر صاحبه، فأزداد إقداما فى محاولة الاختراق لـلتواصل، فما عدت أجرؤ على التوقف أو حتى التلفت أو التردد، وذلك بعد ماهدد هذا السلوك، (التردد فالتراجع) بأن يصبح سمة من سمات نشاطى العقلى الحذر، بل ربما سمة تصف خطوات حياتى كافة،…نعم، أصبحت أرعب من وفرة البدايات وندرة التمام، حتى قررت أن أعدل عن ذلك جذريا بأن أكمل أيا مما بين يدى، مهما كان، وعلى حساب أىة بداية أخرى واعدة، وخاصة إذا كان هذا الذى بين يدى، قد سرى وتشكل فأصبحت له طاقته الذاتية. نعم.. هو التوريط الذاتى، وهذه العملية (التوريط الذاتى)- رغم سوء السمعة- هى من أقوى أشكال “الإرادة الخفية”،

الناس تحب أن توهم نفسها بأنها تفعل ما تقرر، وأنها تقرر ما تريد، (ياسبحان الله!!)، مع أن من وُهـِب قدرا، ولو ضئيلا، من البصيرة، لابد أن يدرك بوضوحٍ ما، أن المسألة لاتعدو أن تكون صراعا شديدا فى محاولة الخروج من ورطة فى “موْحل” إلى ورطة فى “مِعْبر”، لكنها ورطة دائما، هنا وهناك، أليست الحياة نفسها ورطة كبيرة، سماها سقراط “مرضا” نشفى منه بالموت العظيم، واعتبرها أبو العلاء بعض جناية أبيه، ورآها الخيام إقحاما له فيما لم يختر.

الشاطر من يدرك قواعد اللعبة ما أمكن؛ حتى يمكنه أن ينتقل من “الموْحل” إلى “المعْبر” ثم إلى حيث يجذبُه الأمام إليه، المهم ألا نستسلم لقدرية تضع اللوم على المجهول لتبرر الغوص فى الطين، أو نـُخدع بحرية وهمية تخفى عنا سخرة الخارج تحت غيامة مسخرة الداخل، وأغلبنا يصيح كالأبله: “أنا حر” وهو يدور حول نفسه فى رقصة الدوخة الكبرى.

ورطة؟…ورطة !، لتكن،

نعم، ورطت نفسى فى هذه الكتابة، مثلما ورطت نفسى فى أشياء كثيرة، وكل أملى أن أكون الآن على مِعبر (بكسر الميم) لا فى موحل، وسبحان المنجى.

الأربعاء 29 أغسطس 1984

قمنا من الكوخ فى نشاط ليس لنا فضل فيه، وفى خلال ساعة وبضع ساعة، كان كل شئ قد أُعـِــدّ، حتى الوظائف العبادية والبيولوجية تُــؤدّى بسرعة وإتقان، بحيث تتفق مع مراحل الرحلة وظروف الخدمات وفروق التوقيت (!!). وسبحان الله الذى جعل ركعتى الفجر فى السفر لا تدخلان فى رخصة الجمع والقصر، والذى جعلهما(ربما، بالذات) خيراً من الدنيا، وما فيها، ولكنى أتصور أن ثمة مواصفات لهاتين الركعتين لازمة لتكونا كذلك، (خيراً من الدنيا، ومافيها). ومن ذلك التصالح مع الخارج/ إلى الداخل، وأيضا أن نفهم “الدنيا” ليس فقط بمعنى الحياة الأولى (هذه الحياة)، كما أن التصالح عندى لا يعنى الاستسلام والتخدير، وإنما يعنى حوارا فاعلا يـُعقد كل صباح (كل فجر) يجعلنا نقبل التحدى، مستعينين بالفوق والتحت إلى الأمام، مهما بلغت لزوجة الموْحل.

قمنا، وتصالحنا، وشفينا، وشربنا الشاى، وأعددنا شاى الرحلة وتوكلنا. المرأة “المهرة” المسئولة عن المخيم تودّعنا، وكأنها تستقبلنا،بنفس الترحاب والدفء والطيبة، نفس الضحكة الرحبة، والصوت الممتلئ الخشن فى أنوثة قوية خاصة، وتساءلت. كم ألف بنى آدم يأتى هنا وكم ألف يذهب؟ كل عام، كل صيف، كل موسم…إلخ. وهذه المرأة ترحب بهم قادمين، وتودعهم ذاهبين، هكذا؟ صعب أن أفترض أن هذه الضحكة تعنى ما أتصور من قوة، ودعوة، وأمن، وتشجيع، ورضاعة، وهدهدة، و…، ولكن الأصعب أن أتصور أن هذه الضحكة ليست سوى قناع تلبسه لزوم الشغل فحسب، هذه امرأة تعيش ما تفعل، وتحب ما تقرر، وربما هذا ما يجعلها، وسيجعلها، دائمة الحيوية، حاسمة الردود، دافئة الجذب.

انطلقنا حسب تعليمات المرأة المهرة فى خط مستقيم إلى فينيسيا، ثم لاحت لافتات “بادوفا”، وكان مرشدى فى هذه المرحلة من الرحلة هو الإبن الأكبر، مصطفى، وهو على أبواب الجامعة حقيقة، لا تقريبا (هو الأكبر فى الرحلة فقط، لكنه أصغر أبنائى من ظهرى، فقد تركنا إبنى الأكبر”محمد” مجندا جدا فى الجيش) – وأنا لم أتعرف على مصطفى هذا بعد.

كان مصطفى وهو صغير، شديد الطفولة صارخها، رقصا وفرحة واقتحاما، ثم شب صبيا، فأصبح شديد الإبداع “المنزلى”: أثاثا وطهيا!!. وفى الوقت ذاته، بالغ القوة العضلية، رفعا ونطرا!!، ثم صار يافعا (أحذّره مازحا من أن يشتط فيتجاوز طوله طولى إلا بإذنى) ثم بدا لى شديد الجهامة (أمامى خاصة) وراح يبالغ فى الالتزام (الدينى خاصة) وأيضا فى الصمت والحذر والحسابات والتردد، وقد بدا لى أن كل هذه الصفات ليس لى فيها يد مباشرة، بالإضافة إلى أننى أحسست مؤخرا أن المسافة تتزايد بينى وبينه، فتركتُها تفعل، وقنعتُ بتواصل حوار صامت لا أعلم تفاصيله، وإن كنت متأكدا من استمراره، وأحسب أنه يدرك بعضه فى مستوى ما من وجوده. أما مصير كل ذلك، سواء بالنسبة إليه أو إلى سائر أولادى، فهذا ما لا أعلمه.

ياليت الأهل يعرفون أنهم غير مطالبين بالتوجيه والإرشاد، بقدر ماهم مطالبون بإعلان “الحضور فى الوعى”، و “صدق المحاولة”. وما أصعب المهمة. ومن هذا المنطلق، كان دور ابنى هذا كمرشد فى أىة فترة من فترات الرحلة صعباً علىّ تماما؛ حيث كنا نتبارز فى حدة يقظة مسنونة. أقول أو أسأل فيستجيب بانتباه مفرط؛ حتى أشعر بأشواك انتباهه تلكزنى فى جنبى، ليس انتباهاً هذا، ولكنه وقفة استعداد، وتوجّه الوعى على زناد الرد. هو يريد أن يثبت لى أنه لا يخطئ، وأن تعليماتى هى المسئولة عن أى انحراف فى الطريق “كذا”، أو “كذا”، وأنا أريد أن أثبت له أنه بهذا التحدى لا يحسن التلقى، فإذا أحسن التلقى فهو لايحسن التصرف، وأنه السبب، وتتصاعد حرارة الحوار الصامت حتى يتقد الجمر، وتكون النتيجة أن ننحرف عن الطريق السريع (الأوتوستراد) لنجد أنفسنا داخل “بادوفا” شخصيا، ونحن لم نكن ننوى أن نزورها أصلا. مدينة ككل المدن، ناسٌ وبيوت وشوارع وحوانيت وحاجات، هى هى، ونبدأ فى السؤال للخروج: ميلانو؟. أتوستراد؟. يا سنيور : ميلانو ولا مؤاخذة؟…والنبى ياعم أوتوستراد؟. ونخترق البلدة من أقصاها إلى أقصاها، فأفرح بالتعرف الاضطرارى عليها، وينفعنى ذلك عند العودة، لأننا بفضل صُدفة (مختارة!) قضينا بها ليلة عند العودة؛ ما كنت أحسب أنى سأفوز بها لولا هذه الغلطة، وقد سبق أن نبهت إلى أنه “لاتـَوْه فى سفرْ” حين يكون الحبل على الغارب بقصد الاستطلاع لا الوصول؛ لأن كل توه هو معرفة جديدة، مفاجِئة حتما.

ما زلت أذكر توْها رائعا حدث لى فى جوار سان فرانسيسكو قبل عام واحد، وأنا فى رحلة اضطرارية- إلى أمريكا، قبلتُها بقدرة “ابن سبيل” مشوق دائما إلى هذا السعى الملح وراء الشئ (نفس الشئ!! حتى لو خيل إليه أنه وجده، لكن: أبدا)..

كنت فى سان فرانسيسكو، بلد الربيع الدائم، و الزلازل المغيرة المتكررة المهلِكة والمجدِّدة معا، وأيضا بلد الشذوذ الجنسى والحرية الجديدة !! قررت أن أستأجر سيارة، لارغبة منى فى ذلك، ولكن استسلاما لإغارة دعاية ظلت تلاحقنى فى شكل إعلان يتحدانى فى كل مكان: فى حجرة الفندق المتواضع الذى يؤوينى، فأوراق الإعلان تلاحقنى على المنضدة الوسطى، وداخل الصوان، حتى تصورت أنها مكتوبة على لفافات الورق فى “دورة المياه”، وكلها تهمس لى : “أجِّر سيارة”، “أجِّر سيارة”، “أجِّر سيارة” Rent a car، ووقتى لا يحتمل مجرد التوقف للنظر فالاختيار، يومان ليس إلا، ولكن من يسمع فـُيسكت عنى هذا الإعلان الـلحوح؟ “أجِّر سيارة”، كلها ستة عشر دولارا وخمسة وسبعون سنتا (هكذا يقول الإعلان)، ولم أملك إلا أن أنهزم رغم خوفى من اختبار عنادى القيادى فى بلد لا أحبه،

أمريكا، بلد شديد اللا تجانس واللا انتماء، مما يثير فى داخلى رفضاً مخالفاً، فأصبح كالجسم الغريب، ولا أفلح عادة فى أن أروض نغمتى الخاصة مع لحنهم المجهول، فأظل نشازا طول إقامتى بها، فكيف أغامر بأنْ يمتد نشازى إلى سيارة أقودها فى محيط أرفضه، ثم إنى نادرا ما أنجح فى أن أفصل ذاتى عن سيارتى، وأنا فى السيارة- عادة- أقترب من الأرض أشم رائحتها، أسمع همسها، فأسير فى فلكها عليها، فكيف أفعل ذلك على هذه الأرض الجديدة التى لا أحبها ولاتحبنى، مُخاصمها أنا دون سبب ظاهر، لم أتعرف على أهلها بما يصالحنى عليها؟. ومع ذلك انتََصرَ الإعلان.

توجستْ زوجتى خيفة، وقد اعتدتُ توجسها المبدئى ثم رضاها الظاهرى حتى أصبح هذا “النص” (سكريبت) جزءا لا يتجزأ من أرضية قراراتى، فلم يعد يعوقنى. ذهبت إلى العنوان المبين بالإعلان، وكان على بعد بضع خطوات من الفندق، فوجدت شابا وحده يدير العملية (العمليات) كلها، يستلم ويسلم، ويكلم الجراج، ويكلمنى، ويكلم جارى، ويداعب- أو يرد- على أحد المارة، إحدى المارات، أمام باب المحل فى عجل، ويعود إلينا، لكنه لا يعود، ولم أكد أفتح فمى بكلمة “سيارة”، حتى مد يده إلى عدة أوراق وضعها أمامى وانصرف.

أخذت أقرأ، وأنتظر، وأنتظر، وأقرأ… والناس تدخل وتخرج، وهو لايسأل فى صحتى، لأنى- فى زعمه -“حر”، وأخيرا فعلتها، وكتبت اسمى أمام كلمة “اسم”، وسجلت رقم جوازى، وانتظرت حتى فَرََغ َ من كل الناس، فهّم أن يتركنى ليكمل “سندوتشا” ظل ينتظر نصف ساعة وهو مقضوم منه قضمتين، ومازال ما تبقى منه ينتظر أن يلحق بمصيره المحتوم. ما زلت مستسلما أتفرج عليه وكأنى نسيت ما جئت من أجله. وكأنه نسينى هو  الآخر، ألست زبونا مثل الآخرين؟ انتبهت فجأة. من أدرانى أن موجة أخرى من المؤجرين والعائدين لن تجتاحنى، وأنا مازلت أتهته فوق الأوراق؟!. توقف الشاب عن القضم فجأة وخاطبنى بنصف امتلاءة فم، ونصف لسان، ونصف انتباه، نظر فى الأوراق  الناقصة بسبب جهلى، وقال بلهجة أمريكية إنه “أو. كى”، “أو. كى”، ما هذا الذى هو “أو. كى”، أنا لم أقل شيئا ، ولم أكتب ما يفيد؟. فتناول منى جواز السفر، وأكمل ما أراد: أخرج نسخا، ووضع أوراقا، وطلب النقود بإشارة من يده.

أخرجت له الستة عشر دولارا وخمسة وسبعين سنتا (الحق حق). وهنا فقط وجدت أمامى إنسانا فى كامل الانتباه، وبمتابعة لهجته الأمريكية بالكاد، استطعت أن أرد على تساؤله المتعجب المحتج من ضآلة المبلغ المدفوع، أليس هذا هو المبلغ المثبت فى الإعلان الذى ظل يلاحقنى فى حجرة الفندق الفلانى حتى كاد يظهر فى أحلامى؟ قال: نعم. ولكن هذا المبلغ هو لـلسيارة الفورد الكذا (لم ألتقط اسم الماركة الفرعية بالضبط، فأنا لا أفهم فى هذه المسائل)- قلت بيقين المصرى الفصيح”عليك نور، وأنا لا أريد إلا هذه الفورد بالذات، وإذا به يتأسف بأن هذا الـ… “بالذات” مؤجَّرة، وأن عنده ماهو أفخم وأحسن وأسرع (لعب أمريكانى لجر رجلى إذن!!)-وظل يستعمل أفعل التفضيل حتى لم أعد ألاحقه، قلت: الأمر لله، وما الفرق بالدولار (وليس بالكيلو سرعة) قال: بسيطة، تسعة دولارات وخمسون سنتا (قال يعنى!!)، فأخرجت، بمقاومة مشروعة، عشرة دولارات بالتمام، فى حين انقبضت أسارير زوجتى الواقفة- مسكينة- تتابع الحديث، وتبتهل إلى الله، هكذا ظننت- أن تفسد الصفقة من أصلها. ملأ الرجل الأوراق، وقمت بالتوقيع، وتصورت أنه لم يعد أمامى إلا استلام المفتاح، ولكنه ذهب غير بعيد، ومد يده إلى أوراق أخرى، من رف آخر، ثم عاد متبخترا وقد حلت “اللبانة” محل آثار السندوتش، وجعل يسألنى أسئلة لم تخطر على بالى أصلا: “هل تريد التأمين على السيارة؟. على نفسك؟. على زوجتك؟. لصالح من؟. وعنوانهم؟. و… و…؟”. وأنا فى حياتى لم أؤمن على شىء، ولا على أحد، ولا لصالح أحد، (اللهم إلا بضعة جنيهات سنويا ضد أخطاء المهنة، ومثلها التأمين الإجبارى مع تجديد رخصة السيارة)- قلت لـنفسى: “اللهم اخزك يا شيطان، ياعم قدِّم المشيئة”. فردّ صاحبنا وكأنه سمع حديثى مع نفسى وقد تجلـَّت عليه آثار الديمقراطية الأمريكية فى أتم تجلياتها، ردّ قائلا : “أنت حر” قلت لنفسى : “يا زين ما قلت، نحن فى بلد الحرية”. لكنه راح يذكرنى أنه لو أصيبت السيارة بأى شىء، فسوف أدفع الشئ الفلانى. قلت لنفسى: من أين ياحسرة، ونحن فى بلاد الغربة؟ المهم… كلمة من هنا وكلمة من هنا دفعت ثمانية دولارات (يابلاش مقابل سيارة بأكملها فى حالة ما إذا…)، حسِبت أنه سيهمد ويسكت، ولكنه لم يفعل، فعاد يذكّرنى بما يمكن أن يصيبنى خلال هذه الساعات الأربع وعشرين (لــن يمر هذا اليوم على خير!!). راح يعدد – فى لطف جم- التَّذْكِرَة باحتمالات الكسر، ، والعجز، والشلل، والعمى، وجميع أنواع الأمراض والإصابات، حتى تصورت أنه لوح فى وجهى بأمراض السرطان والإدمان وضمور الأطراف والإيدز !! فكدت أقتنع أن كل ذلك محتمل خلال يوم النحس هذا داخل سيارته الفخيمة؟!!. تلكأت حاسبا أن كل مرض من هذه المصائب له تأمين بذاته، نظرت إليه  وعلى وجهى أسئلة لم أحدد بأيها أبدأ، فإذا به ينظر إلىَّ لائما ساخراً كأنه يعايرنى أنى أمّنت على السيارة، واستخسرت ذلك فى نفسى وزوجتى، وأنى- شخصيا- بذلك- لا أساوى سيارة. فاندفعتُ أمحو الإهانة، ودفعت، ودفعت، ودفعت، هذين دولارين، وهذه أربعة، وهذا لزوجتى اللطيفة (هو يقول…) ليس خسارة فى شبابها!!. وحين ملأ البيانات، وعرف سنى، وسن زوجتى (مع أن الله أمر بالستر) قال لى إنهم سيرسلون “المبلغ”- بإذن الله- إلى أولادى فور حدوث الحادث!!،

جعلت أتحسسنى من رقبتى حتى ساقى، وعلمت لماذا أنا لم أؤمن على حياتى قبل ذلك أصلا، فأنا لم أجد بعد تبريرا مقنعا ومنطقيا يبرر حق هؤلاء الأولاد فيما أملك، لا الآن، ولا بعد موتى، فكيف أستسيغ أن يقبضوا ثمن حياتى شخصيا، وليس فقط ما أملك؟. جعلت أتململ من عدم فهمى لكل الأنظمة التى لا أفهمها، وما أكثرها مهما كان مصدرها. وخطر ببالى أن أسأله بالمرة عن: كم سيقبض، هؤلاء المنتفعون أولادى، إذا ما أكرمهم الله بحادث مريع (أو: رائع) خلال الأربع والعشرين ساعة التالية فى سيارته المصونه؟ سألته فعلا،  فذكر مبلغا كبيرا طمأننى على قيمتى وقيمة زوجتى، ياحلاوة، هكذا يكون “تكريم الإنسان”، ذلك الشعار الذى يوضع الآن عندنا على العربات القبيحة إياها بدلا من “عربة نقل الموتى”، وكدت أزهو بجهد والدينا منذ أكثر من خمسين عاما حتى أنجبانا لنساوى هذه الألوف المؤلفة، وبالعملة الصعبة !!. ولكنى سرعان ماتراجعت حين تذكر أن هذه- هى قيمتى “ميتا”، أما قيمتى حيا، فهذا أمر آخر لا أحسب أن أحدا يهتم به بنفس القدر. وحمدت الله أن أحدا من المنتفعين لم يكن معنا، وإلا لزادت احتمالات الحوادث، من يدرى؟. وقد فهمت أيضا لماذا سألنى هذا الشاب عن كل شئ إلا عن مهارتى فى القيادة، بل إنه لم يطـّلع على رخصة القيادة محل فخرى؛ إذْ أنها درجة أولى كما ذكرت، وحسبت مجموع المبالغ التى دفعتها فوصلت إلى 52 دولارا (قارنها بالرقم المكتوب على الإعلان!! 75،16 دولار). وحمدت الله أن جاءت على قدر هذا، ونويت أن أغيظه، وأظل ألف بالسيارة طوال الأربع والعشرين ساعة دون توقف؛ حتى للنوم،  وذلك لآخذ بحقى انتقاما من هذا المقلب. نفس ما كنا نعمله فى سينما الكرنك فى شارع عبد العزيز فى الأربعينات حين كنا نستخسر أن نخرج فنرى الفيلم مرتين ما دام “العرض مستمرا”.

استلمت السيارة، وكان شرطى الوحيد ألا تكون “أتوماتيك”، فابتسم الرجل فى شفقة (فى الأغلب) قائلا: ولا يهمك ليس عندى إلا أتوماتيك،ولا يهمك؟! إنهيهمنى ونصف، وحاولت أن أفهمه أنى أحب أن أستعمل قدمى اليسرى؛ حتى أحقق توازنا لا يعرفه هو، وأن هذه القدم اليسرى- لـرعونتها- سبق أن هجمتْ على الفرملة ذات مرة باعتبارها “دبرياج” فى سيارة أوتوماتيك جدا، فى الطريق بين دبى والشارقة، وإذا بالسيارة المارسيدس جدا جدا (لم تكن ملكى بداهة) تقف مكانها تماما بلا قصد طبعا، وعينك لاترى إلا الزجاج الأمامى، وأذنك لاتسمع إلا أصوات الفرامل من خلفى، لكن الله ستر، لست أدرى كيف؟!. ومن يومها وأنا أرعب من أى شئ يعمل أتوماتيكيا مادامت أطرافى سليمة ولله الحمد. ولم يعبأ الرجل بكلامى، وهجم علىّ يُجلسنى على عجلة القيادة فى استظراف قبيح، وجعل يشير إلى أنه: “هذا: خلف، وذاك: هيّا، وخلاص”، وانصرف جريا، خجلت أن أستوضح أكثر أو أتراجع، وركبت السيارة مرعوبا، وظللت برهة بلا حراك أصلا، ربما ظنا منى أنها من فرط أوتوماتيكيتها ستدير محركها بنفسها بمجرد أن أنوى، الأمر لله، وفعلتها، هكذا: هيا!! وسرعان ماتعودت ساقى اليسرى على الشلل الإرادى حين هددتها أنى سأربـطها فى المقعد إذا هى تحركت إلا للنزول فحسب.

انطلقت السيارة- أتوماتيكيا فعلا- تجوب شوارع سان فرانسيسكو، آسف، لاتجوب، بل تصعد لتهبط فتعود تصعد وهكذا، فسان فرانسيسكو مدينة عجيبة مبنية على جبل غير طيب، يثور فى أوقات غير مناسبة، وما زال أهلها يتناقلون أخبار آخر  زلزال، يرددون التاريخ المرعب دون أن يغادروها، فلا أحد يستطيع هجر هذا البلدالجميل.، (وقد أعود فى استطرادة أخرى أحكى عن أهلها، وأحيائها: الصينى، واليابانى، والمربع الروسى الذى ليست له علاقة بروسيا إطلاقا، وحى الشذوذ الجنسى حيث “بيوت الرجال”، والمقهى المصرى غير المناسب).

أحاول أن أحتفظ باتجاهى فى محاولة إثبات بعض أفضال “التوه” الاستكشافية؛ لإثبات مقولة إنه “لا توه فى سفر”؛ حيث يصبح التوه مكسباً سياحىاً يستكشف ما هو أهم من الخطة المرسومة. وقد حدث ذلك التوْه فى سان فرانسسكو وحولها بهذه العربة “الذاتية التسيير” كما يلى:

انطلقنا فى الصباح الباكر من سان فرانسيسكو متجهين لزيارة الغابات الحمراء Red Woods، أحد المعالم التى تمثلت أهميتها عندى باعتبارها نقطة انطلاق المرحوم القس جيم جونس، صاحب أكبر مذبحة انتحارية جماعية فى العقد المنصرم، بدأت رحلته من كنيسة فى سان فرانسيسكو إلى الغابات الحمراء هذه، وانتهت بالانتحار الجماعى فى غابات جوايانا، اتجهنا إلى الغابات مهتدين بالخريطة، وما إن عبرنا الجسر الكبير حتى وجدت نفسى فى محيط من الطرق تملؤه السيارات عابرة الولايات المتحدة، وكل العلامات تشير إلى أن أقصى سرعة هى 55 ميلا، ولا يلتزم بها إلاى، وكأنى الوحيد الذى يعرف القراءة؛ حتى شككت أنى أخلط بين الميل والكيلو. ما علينا، ظللت أتبع اللافتات بالتى هى أحسن- هكذا تصورت-حتى اختفت (اللافتات)، بل اختفت الطريق الكبيرة، فنظرت إلى زوجتى بجوارى، فابتسمت- بحكم العادة، لا الشماتة.  أخذت السيارة تسحبنا “أتوماتيكيا” من الأوسع إلى الأضيق، حتى وجدنا أنفسنا فى قرية جميلة لم نكلف خاطرنا أن نسأل عن اسمها، ولكنى تعجبت حين وجدت فيها كنيسة لها شكل مختلف عن الكنائس، ثم تبينت أن التمثال القابع أمامها هو لسيدنا بوذا وهو جالس وكرشه أمامه، غريبة، فهمت- دون سؤال ، يا شطارتى!! – أن ثمة جالية من البوذيين، أو أن عدوى شرق أقصية خاصة أصابت بعض أهل هذه القرية، وهات ياحرية، وهات يابوذية، وكل شىء- وكل دين- جائز فى الولايات المتحدة (ما دمتَ بعيدا عن السلطة يا أبا على، دع الناس تتسلَ)،

علاقتى بالسيد بوذا علاقة وثيقة،وأعتقد أن بينى وبينه عماراً لا يعلمه الا الله، وإن كنت لا أفهم لماذا “كرشه” أمامه هكذا. هل هذا من فرط طمأنينته الإيمانية ؟ كان والدى يمازحنا حاكيا أن مقرئا مبتدئا قرأ الحديث الشريف “المؤمن كيّسٌ فطِنٌ” خطأ هكذا “المؤمنُ كيسُ قُطنٍ”، وحين اعترض السامعون وسألوه عن معناه، ردّ مبررا أن المؤمن يتمتع براحة البال والطمأنية فيأكل براحته فيمتلئ جسمه دليلا على الرضا والشبع الحلال، وأن قلبه أبيض مثل بياض القطن، فهل كرش بوذا هذا يشير إلى مثل ذلك؟  بوذا يؤكد لى أشياء كثيرة، ويطمئننى على أفكار كثيرة، ويحيى فىّ آمالا كثيرة، ويرجعنى عن تعصبات كثيرة، وإن كان يسمح لى بشطحات غير قليلة.  ألقيت على تمثاله الماثل السلام، كان اليوم أحدا، وكنت أتمنى أن يكون المعبد البوذى مفتوحا لأشاهد الصلاة البوذية؛ فأنا حريص كل الحرص على أن “أحضر” كل عبادة بكل لغة، وخاصة اللغات التى لا أفهمها، لعلى أجد فى هذا الحضور مايقربنى مما لا أعرف، وأفضل هذا “الحضور” عن مناقشات دفاعية مغتربة تدور حول احتكارات دينية مضحكة.

حين كنت فى باريس أسكن فى حى المونمارتر حيث كنيسة الساكركير، حضرت صلاة بدت لى بطقوسها وموسيقاها مثل حفل عرس فخيم، وتكرر حضورى لأكثر من “أحد”، ولكن لم يصلنى شئ ذو بال، فقد طغت الخطب والتراتيل و طقوس الزفاف بلا عرائس أوعرسان، طغت على ماذهبت أبحث عنه.

وفى مصر، حضرت صلاة محدودة فى دير وادى النطرون (الأب مقار) وجعلت ألف مع الطائفين القلائل، وأحدهم يمسك مبخرة أو فانوسا، لا أذكر، والأغانى غريبة غير مفهومة، وظللت كلما لففت لفة، ابتعدت أكثر عما جئت أتحسس تجاهه. لذلك فقد أسفت أن أجد هذا المعبد البوذى مغلقا؛ لأنى كنت سأعد المشاركة فى الصلاة فيه من بعض أفضال هذا التوه. الشوارع خالية، المقهى الذى دخلناه لتناول إفطارنا كان مزدحما صاخبا؛ حتى ذكرنى بمقاهى باريس، على الرغم من أنه فى قرية صغيرة.

عاودنا السير وأنا شامت فى صاحب السيارة فرح بأنى آخذ حقى كاملا، ناسيا أن زيادة استهلاك الوقود هى على حسابى، بدأنا فى السؤال عن الغابة الحمراء، فإذا بصبيين يشيران لنا إشارة إيقاف السيارات Auto Stop، قلنا: نأخذهما معنا نسترشد، ونأتنس، ونخدمهم، ونرى، توقفنا فركبا دون تردد. فرحت بهما لعلاقتى الدائمة بالأصغر، قالا إنهما ذاهبان إلى شاطئ بريستون، وإنه على “الجانب الآخر” من الجبل (لم نكن قد لاحظنا جبلا محددا بعد)، وأنه ليس فى اتجاه الغابة الحمراء التى نقصدها، وإن كان ثمة بضعة كيلو مترات مشتركة، وسوف ينزلان عند المفترق ويشيران لنا إلى اتجاه الغابة الحمراء، فرصة!!، وأخذنا نتحدث، وكيف أن البلاجات قليلة رغم الشواطئ الهائلة حول سان فرانسيسكو؛ لأن المسألة ليست مجرد أرض تطل على البحر، ولكنها تحتاج إلى حسابات انحدار الشاطى، وجذب التيارات، واتجاه الموج، فوجدتهما- فى هذه السن- يعرفان ما ينبغى، وأكثر، وحين اقتربنا من مفترق الطرق سألتهما: “كم ميلا بيننا وبين الشاطئ الذى يبغيان؟.” فأجابا: ثمانية، قلت فى نفسى: “بسيطة”، فنظرت إلىّ زوجتى، وقرأتنى، فوافقتْ، أو استسلمت لفكرة هى تعرفها بحكم العادة، وبدلا من أن أتركهما عند المفترق، أدرت السيارة إلى حيث يتوجهان، وما كدنا نمضى بضع مئات من الأمتار حتى وجدت صدرى ضيقا حرجا، فقد كنا نصعد فى السماء، ونظرت إلى زوجتى- وهى عندى أحيانا “بارومتر” حساس لتخلخلات الضغط، فوجدت وجهها يعلن، باصفراره، أننا فى حالة صعود حاد، ويستمر الطريق فى الضيق حتى لايعود سبيل إلى الرجوع، وجعلنا نمضى أبطأ فأبطأ، لأننا نمضى أصعد فأصعد، فنصعد، حتى تجاوزنا السحاب فعلا لا مجازا، كل هذا والعداد يعلن أننا لم نقطع سوى ثلاثة أميال، وأنا ملتزم بنهاية السرعة المبينة عند كل انحناءة، والعربات الخواجاتى تتجمع ورائى بشكل متزايد، أصوات الأبواق- على غير العادة – ترتفع، نفس الحكاية، وهنا شعرت بالزهو، وأنا أغيظ الأمريكان بحكم القانون، فهأنذا أقود مسيرة “الحضارة الغربية” !! بنفس أدواتها، ولكن بالأصول، (واللى عاجبه !!). وبعد ثلاثة أميال بالتمام، بدا الهبوط الاضطرارى اضطرارىاً فعلاً من حيث أنه لاتوجد وسيلة أخرى للعودة إلى أى مكان فيه حياة مدنية إلا بالهبوط!!، ولم يكن الهبوط أسرع من الصعود، كله بالقانون، وليس للأمريكان حق الفيتو أمام أرقام اللافتات التى وضعتها حكومتهم السنية بنفسها، والقافلة تطول خلفى، ورأسى وألف سيف إلا القانون بحذافيره، وكما كان مقياس درجة الصعود هو اصفرار وجه زوجتى، كان مقياس الهبوط هو حدة الصفير فى أذنيها. وهذا هو ثمن الاستكشاف فى الطبقات العليا. وأخيرا وصلنا إلى الشاطئ الذى يريده الصبيان، والذى لولا التوه لما رأيناه أصلا، وما إن وقفت السيارة حتى انطلق الصبيان بعد انحناءة مغتصبة (هكذا خيل إلى) إلى الشاطئ جريا، وهممت أن أنادى عليهما أنى لست سائق والديهما، لا شكر، ولا تعريف بالمكان، ولا سؤال لنا عما إذا كنا نريد شيئا، ولا إرشاد إلى كيفية العودة، وهم يعلمون أننا غرباء، وأننا غيّرنا طريقنا لتوصيلهما، وملأنى غيظ كاد يدفعنى إلى أن أعدو وراءهما؛ “أسترجع” ما أحطتهما به من إعجاب، وما قدَّمتُ لهما من خدمات، بل…ما عقدت عليهما من آمال. ولكن الطيب أحسن، اعمله وارمه فى البحر. وهذا هو البحر يشرب منه كل من لا يعجبه، حتى أولئك الأمريكيون الذين علَّمتْهم قيادتى الغريبة: آداب المرور واحترام القانون، وما كادت هذه الفكرة تخطر على بالى حتى وجدت سيارة تقف بجوارنا فى موقف الشاطىء، تطل من نافذتها سيدة شقراء، سيدة وسط أو أقل من الوسط فى كل شئ : العمر والجمال والأناقة، توقفتْ ونزلتْ واتجهتْ نحوى، وكنت ما زلت على عجلة القيادة، وشككت أنها تشبّه علىّ، وبعد أن حضّرت إجابتى المعتادة بأنى لست هنديا.. وما شابه..، فوجئت بها تفتح النار بلا إنذار؛ تحتج، وتصيح، وتشير بيدها فى غضب بالغ، ولم أفهم، فظلت تتمادى وتشير إلى السيارة والطريق؛ حتى حسبت أنى صدمت عربتها صدمة سرية دون أن ألاحظ!!. رويدا رويدا بدأت أتبين أنها كانت تحتج على قيادتى لقافلة الجبل، (بنت الأمريكانية!!) وهات يا “ردح”، إنها هى المخطئة؛ لأنى لم أفعل شيئا مخالفا، كل ما فى الأمر أننى كنت أتبع القانون واللافتات، ثم تمادت فى ثورتها أكثر حتى تصورت أنها تقول ما فهمت منه “إن الطريق ليس ملك والدى” و “إنه أفضل لى أن أركب عربة معاقين” و “إنه ينبغى أن أتعلم القيادة قبل أن أعطل الناس”، كل هذا وأنا لا أتمكن من مجرد الدفاع إلا بنفس الكلمات “القانون” “اللافتات”، وتذكرت موقف العرب فى أروقة الأمم المتحدة، ثم فى مجلس الأمن، حيث القانون قد وضع للتطبيق علينا دونهم، بحق الفيتو، وعادت السيدة الشلقة باتريكا (سميّتها كذلك على اسم مندوبة أمريكا فى الأمم المتحدة آنذاك) إلى عربتها، وانطلقت لا تلوى على شىء، أو لعلها تلوى على كثير، من أدرانى؟.

هذه المرأة لم يعجبها أن يقود مثلى قافلة أمثالهم فتبعتنى،وتوقفت،، لتعطيهم لى أربعة، أربعة، بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن زملائها الخواجات. لكن القانون فى صفى، ثم إن القانون ليس فيه هذه المرأة الشلقة، ليس فيه لا باتريكا ولا زينب (على رأى فؤاد المهندس فى : أنا وهو وهى)،، القانون قانون، الناس فيه بلا أسماء ولا نسب، ثم إن هذه المرأة بالذات هى “بين البينين” فى كل شئ إلا فى سلاطة اللسان. وقرأت زوجتى أفكارى فضحكت، وضحكتُ، ماذا يريد هؤلاء الناس؟ يسرعون فنسرع. يبطئون فنبطىء. هكذا حسب بورصة الأجناس، والدولار، والآلآت، وأوهام التفوق العرقى.

نزلنا نتفرج على الشاطئ فإذا هو شاطئ شديد التواضع، قبيح الوجه، لا يشجع على البقاء أكثر من دقائق، وخيل إلىّ أن الصبيّان اللذان اختفيا قد ذابا فى البحر “كفص ملح” فزاداه ملوحة وقسوة.

لولا تـلقائية هذه العربة، وما دفعتْنـَا إليه من توه لما عرفنا كل هذا: لا طبيعة الشاطئ “على الجانب الآخر” من الجبل، ولا درجة سلاطة لسان الأمريكية وغرورها، ولا نذالة الصبيين. هذا الشاطئ إذا كان يمثل شواطئهم، فعليه أن يخجل إذا ما قورن بشواطئنا الرائعة، تصورت أنه إذا كانت مصر هى هبة النيل قديما، فهى يمكن أن تكون هبة البحر حديثا.

ذكرت كل ذلك لأعرض نوعا جيدا من “التوْه الكشف المفاجأة” فى الرحلات، ذلك أنه لا اكتشاف بغير مغامرة الضياع، بل إنى أتصور أحيانا أن بعض معنى “الذين يؤمنون بالغيب” إنما يشير إلى من يؤمنون بفضل “التوْه” على “اليقين الجاهز”، وفضل “ما ليس كذلك”، على “ذلك نفسه”، بفضل المعرفة المتولدة على المعرفة المستقرة.

ما زلنا نسير  تائهين فى “بادوفا”، ثم رحنا نخترقها ببطء رائع حتى خرجنا منها إلى الأوتوستراد، وهات يا جرى وهات يا نوم لمن فى المؤخرة. وقد سبق أن تحدثت عن هذه الطرق السريعة المملة العملاقة القبيحة القاسية. وهذه المرة زادت صفة عليها حين رأيتها ملساء كوعى الملحد، وقارنتها بالطرق الوطنية المتثنية فى دلال، والمخترقة للبلاد الصغيرة محاطة بجنان الخضرة ولفحات نسيم الناس.

نام الجميع لمدة مائتى كيلو وأكثر، وحين توقفنا عند محطة بنزين على مشارف ميلانو أحسست أن أغلبهم كاد يفقد معنى السفر، وكأن المسألة أصبحت – بعد ستة أيام لا أكثر – مجرد روتين، إذا أصبحت المسألة كذلك انتهى معنى السفر ليحل محله معنى “الوصول” (كما ذكرت)، فزادت المسافة بينى وبينهم؛ حيث تصورت أنى لم أعد إلا سائقا بلا أجر، وهم الركاب بلا غاية واضحة (لى). واذا ما انقلبت علاقة الصحبة إلى مثل هذا الكلام، تراخت أسلاك التواصل حتى لا تتلامس إلا بالصدفة، فإذا حاولتُ، تكهرب الجو. وقد اتفقت الأغلبية على عدم دخول ميلانو، وفرحت رغم أسفى على رغبة الأقلية التى كانت “نِفسها تشوفها”، وإن كنت قد رجحت أن رأى الأقلية هذه لم يكن هدفها استكشافيا، بقدر ما كان من باب تعليق لافتة اسم مدينة، “زيادة” على أسماء المدن التى مررنا بها. وميلانو هى عاصمة إيطاليا الشمالية الصناعية، والمرور حولها فى الطريق السريعة يكاد يصل إلى طول المسافة بين القاهرة وبنها، وشكلها – من الخارج- لا يوحى الا بمعنى الميكنة. فالهباب يغطى الجو، وسقوف المصانع متراصة بجوار بعضها كالمقابر العملاقة، ولابد أن بداخلها ـ كما هو بخارجها ـ أناساً يقاسون، ولو بطريقة سرية، من عذاب هذه القبور الصناعية الحديثة.

مررت بميلانو أثناء عودتى من فرنسا سنة 1969، ووقفت أمام كاتدرائيتها الضخمة وناسها القساة، وشعرت آنذاك بأنى أريد أن أترك السيارة لأعدو على قدمى هاربا منها، وكأن العدو على الأقدام أسرع من الضغط على بدال البنزين فى السيارة، أو كأنه يعلن رفض السيارات (الفيات وغير الفيات) وما إليها إذا ما أصبحت وظيفتها هى أن تطحن الناس، لا تحملهم.

اعتقدت أن هذا المكان المتحفز ليل نهار لا يكف عن مساءلة هؤلاء الناس عن ما جنوا، فلمّا رجحت كفـّة سيّئاتهم، حكموا عليهم بالسخرة فى هذه الحياة الدنيا – هكذا – (لحساب من؟)..، مجرد خيال، ربما يعلن العجز أكثر مما يعلن السخط، لكنى أعترف أنى أمام الإنتاج العملاق (مصانع فيات فى إيطاليا هنا مثلا) الذى لا أعرف له صاحبا بالذات، صاحبا له اسم ولقب، أقول أمام هذا التنظيم المؤسسى العملاق الحديث أقف مشدوها وكأنى طفل ضاع من أمه فى زحمة مولد ضخم يزوره لأول مرة. وأنا أرجع ذلك إلى الفلاح بداخلى، فعندنا يقين ـ نحن الفلاحين ـ بأن الأرض بلا صاحب، والرجل بلا ولد، والولد بلا خال، ليسوا بشىء، وربما لهذا أنا لا أحب، أو قل لا أعرف أصلا، هذه العلاقات الإنتاجية المعقدة، ولا أرتاح فى هذه المدن الغول.

انحرفنا جنوبا تاركين ميلانو دون أن ندخلها، ومن جديد، هات يا جرى، وهات يا نوم، ولم يعد يعنينى ـ كما قلت ـ أن يكون فى صحبتى من يظل يقظا إلا المرشد أو المرشدة، وتهل رياح الجنوب، ويقترح ابنى و ابنتى وقد سبق لهما زيارة روما أنها تستأهل، وانظر فى الخريطة فأعرف أن ما يقولانه هو المستحيل نفسه؛ فالعلامات تشير إلى اتجاهين متباعدين جنوة فى ناحية، وبولونيا إلى روما فى ناحية أخرى، ونحن متجهون إلى جنوة دون بولونيا، رغم توصية مدرس البيانو العجوز الذى تتمرّن لديه ابنتى فى مصر أن تزور بلده بجوار بولونيا.

هو رجل قد ناهز الثمانين، يعيش فى مصر وحيدا، وأسمع حكاياته من ابنتى فأحبه من بعيد، وخاصة حين ذكر لابنتى سبب استمرار إقامته فى مصر وحيدا فى هذه السن، فقد قال لها – مشترطا ألا تضحك عليه – إنه إنما يقيم فى مصر من أجل عيون قطه الأليف الذى ليس له (القط) غيره، إذ لو سافر، فمن ذا الذى سيعتنى بالقط من بعده، ثم إنه يعتقد أن القط لم يعد يمكنه أن يتكيف فى بيئة أخرى لو أنه أخذه وسافر إلى إيطاليا؟.

عند مفترق الطرق إما إلى بولينا وإما إلى جنوة، نشير بأيدينا بالتحية إلى اتجاه بلد هذا العجوز الطيب. وكأننا ننفذ وصيته، أطال الله عمره وعمر قطه، ونعتذر له، ونمضى نحو جنوة، (التى كنا نقرؤها فى البداية جانوفا حسب الحروف بالإنجليزية لكننا نكتشف أن النطق بالإيطالية أقرب إلى نطق اسمها بالعربية)، ونقرر من جديد ألاَّ ندخلها، لكننا نضطر إلى اختراقها حتى نغير اتجاهنا، غـربا على الشاطئ المسحور، ولا نمكث فيها إلا أقل القليل، فلا أحبها ولا أكرهها، ولكنى أعجب على طبعها التجارى “الرمادى” أيضاً، ولا نطيل المكوث فننطلق فى اتجاه فرنسا الذى تحدده اللافتات باسم بلدة بدت لى ثانوية على الخريطة اسمها: “فنتميجليا”.

سرعان ما أصبحنا نسير بحذاء شاطئ البحر المتوسط. إذن فهذه هى ما تسمى بالريفييرا الإيطالية، وهذا هو “شاطئ الزير” (الكوت دازير) الشهير الممتد حتى فرنسا، ذلك الشاطئ الذى يعنى شيئا خاصا عند المصريين حيث يتباهى بعضهم بزيارته فى حين يتبرأ البعض الآخر من الإقامة فيه، ويعاير به البعض بعضا فى موقف ثالث؛ ذلك أنه كان مصيف الملك فاروق بكل ما كان وما لم يكن، ثم أصبح مصيفا سريا لرجال القوى الجديدة، ثم أصبح مصيفا رمزيا للطبقات الصاعدة فوق أكوام البنكنوت دون درجات الوعى أو مدارج الحضارة، ثم أصبح ما لست أدرى عنه شيئا، وآخر ما قرأت حول هذا الشاطئ كان دفاع محمد حسنين هيكل عن نفسه، من أنه لم يزره إلا مؤخرا بسبب العمل!!. وتعجبت حتى تصورت أن عدم زيارة هذا الشاطىء، هو فى ذاته علامة التقشف والاشتراكية الجديدة، وقلت فى نفسى: والآن، حين نسمع من يتكلم عنه “الكوت دازير”، سواء بترفع، أو وهو يشجب زواره بحماسة اشتراكية مشبوهة، حين نسمع هذا أو ذاك نستطيع أن نهز رأسنا هزة الذى هو “عارفه”.

عايشت هذه الخبرة حين كانت لى بعض الاستشارات مع المرحوم الدكتور محمد حلمى شاهين وكيل وزارة الصحة سابقا، وكنت أزوره فى منزله بالدقى قبيل سفرى، وذكر لى أنه سيكون فى “كان” فى التاريخ من كذا الى كيت، فقلت له إنى سأكون فى “نيس” من كيت إلى كذا (فقد كنت أخطط لهذه الرحلة) فظن هو أن نيس بالذات (التى لم أرها قبلا) هى مصيفى المفضل (!!)، فسألنى: وأين تنزل؟، وزغـت فى الكلام؟، وكدت أقول له – رحمه الله ـ : أنا لا أنزل، أنا أطلع حيثما تصعد بى سيارتنا.

نحن الآن فى الكوت دازير، نعم : كم هو جميل، ولكنه مثل كل جميل فى بلدنا، وربما أقل، لكنه نظيف أكثر، ربما، وهادئ جدا، لكن إيش عرفنى وأنا داخل السيارة هكذا، ولماذا أسبق الأحداث؟. سوف نظل فيه مئات من الكيلومترات الأخرى، لماذا أسارع بالحكم هكذا على كل شىء؟.

جعلت هذه الخواطر تسير جنبا إلى جنب مع السيارة،  الجبل على يمينك، والبحر على يسارك، وأنت تصاحب أفكارك، أعنى أفكارى، حتى لا يغالبنى النوم،  ظلَّت أفكارى تسبقنى كثيرا، و تلحقنى قليلا، هذاهو البحر الأبيض المتوسط، نعم، وأنا لا أعرف أصلا كيف أرد بصرى عن قديم، جديد، هو جديد لأننا على شاطئه الآخر، وقديم لأنه هو هو، وقد اعتدت أن أسير بجواره هناك فى طريقى إلى مرسى مطروح. كان هناك على يمينى وأنا على يساره، ثم هاهو على يسارى الآن رغم أنى متجه غربا أيضا، ويخيل إلىّ أنه يختال قائلا إنه بحر محظوظ، وربما أنا كذلك، وأكاد أفهم معنى أنه “متوسط” و”أبيض”، وأكاد ألوح بيدى إلى الناحية الأخرى، وكأنى أرد على همس آت من بعيد يقول: “لا تغب”. فأرد بفرحة المشتاق الواعد “أيوه جاى”.

أنا أعرف همس الوطن. هو ليس مرتبطا تماما بمكان بذاته، وإنما يأتى من الحياة كلها، لكنه ينطلق ابتداء من حيث عرفتُـها (الحياة) أول مرة هناك،

معنى الوطن عندى هو تاريخ نبض الحياة، يذوب فى حياتى فردا على أرضٍ بذاتها، ففى كل مكان رمل وطين وماء، ولكن إذا تكلمتْ حبة الرمل ففهمتَ لغتها، وفاحت رائحة الطين فضمّتك إلى ذراعيها، وتلطفتْ موجة البحر فنمتَ فى حضن هدهدتها ليأتيك همسها الخاص وكأنه يخصّك شخصيا، فهذا وطنك،  يتردد فى عمق وعيى سيد مكاوى وهو يردد: “الأرض بتتكلم عربى”، فتجعل لـلهواء طعم خاص آت من هناك، هو نفس الطعم التى عرفتَ من خلاله أننى “حى” لأول مرة،

أثناء تراسلى المنتظم مع د. محمد شعلان وأنا فى فرنسا وهو فى الولايات المتحدة ثارت عندى مسألة الوطن فى مقابل الوجود الإنسانى غير المحدود.كتبت أخاطبه لاحقا فى نهاية “أغوار النفسى” :  يا طير يا طاير فى السما، رايح بلاد الغُرّب ليه؟ إوعَى يكون زهقك عماك ، عن مصرنا، عن عصرنا ، تفضل تلف ّ تلف كما نورس حزين، حاتحط فين والوجد بيشدّك لفوق. الفوقْ فضاَ، الفوق قضاَ. وعنيك تشعلق كا مادا وتنسى ذين الأرض مصر. وحين سافر محمد ابنى إلى نيوزيلاندا فى مشروع هجرة لم تكتمل (أنظر بعد) عاودنى نفس التساؤل. وحللته فى آخر القصيدة العامية بأن اعتبرت كل الناس مصريين ، وضحكت على نفسى .دنا لمّا بابُصّ جوّا عيون الناس، الناس من أيها جنس،  بالاقيها فْ كل بلد الله لخلق الله، وفْ كل كلام، وفْ كل سكاتْ، واذا شفت الألم الحب الرفض الحزن الفرحة فى عيونهم، يبقى باشوف مصر. وباشوفها أكتر لمّا بابص جواى.

تبيّنت أنه حتى لو كان للإنسان المعاصر أن ينطلق مثل الصاروخ ليحط حيثما يمكن، فإن لكل صاروخ قاعدة انطلاق، وأن الوطن هو بمثابة هذه القاعدة التى لها فضل إعداده للانطلاق،

لم يقنعنى هذا التفسير، مع أنه يحضرنى كلما سافرت، وأحببت كل الناس، هكذا، وفى نفس الوقت اشتقت لوطنى .

أنتبهُ فجأة، فأفاجأ أننا فى الأغلب فى مواجهة ليبيا أو الجزائر، وليس مصر. أنا لا أشعر بالائتناس أصلا بهؤلاء الأهل العرب، ربما لنقص فىّ، أو لعدم هضمى هذا الجمع بين جفاء البداوة وشوك آثار الاستعمار الفرنسى والإيطالى القبيحين، لست على حق فى الأغلب، لابد من زيارة، وأرض، وشعر، وثريد، وألم مشترك، قبل أن أحكم (زرت بعد ذلك الدارالبضاء، وأسِفت على كل هذا الكلام، ما أسخف التسرع فى الحكم، صحيح “إللى ما يعرفك يجهلك”، أنظربعد).

حين هاجرت فى الداخل إلى رأس الحكمة فرِحتُ فرحا شديدا بمعاشرة البدو، وبأنى أترك بيتى هناك قرب الشاطئ (هو من القش تقريبا،وبعض المواد البدائية) مفتوحا بلا قفل فأرجع وأجد أن يدا لم تمسه، وكنت أتعجّب وأفخر من قوة احترام الكلمة الشفهية، وأن الأرض توزّع فيما بينهم بالاتفاق، حتى أننى حين اشتريت قطعة أرض اتبعت طريقتهم وأن تقاس الأرض بالارتفاع فالهبوط، فأرضك هى حتى تختفى قدميك (نعليك) عن الناظر لك وأنت تصعدها (إللى تشوفه عينك ليك !!)، وهم قد يحددون الحدود بالماء، فيسقطون بعض الماء على قمة تبّة عالية ويحدد انحدار الماء على كل ناحية أرض الجار من جاره،

تصوّرتُ آنذاك أننى عثرت على “ركنى القصى”، فى عقر وطنى، وأننى حين أبلغ من العمر ما لا يسمح لى بكل هذه الحركة، سوف ألجأ إلى هناك فى رأس الحكمة. رحت أتعرّف على الناس والمكان، وخيل إلىّ أننى وجدت ضالّتى،تأكد لى ذلك فى أول رمضان قضيت فيه بعض أيامى وحدى هناك.

حضر إلىّ روفة” قبيل المغرب وأنا جالس أتأمل، (روفة :هو اسم البدو لمن اسمه عبد الرؤوف، كما أن “رحومة” لعبد الرحيم، و”كُريّم” لعبد الكريم وهكذا)، وأصرّ أن أذهب لأفطر معه، وذهبت لأن الاعتذار كان مستحيلا، عرفت  أن تلك هى عادتهم وأن هذا الإصرار العنيد ليس لشخصى ولكن لمجرد أننى غريب، لا يصح أن أفطر فى رمضان وحدى، لكننى حين فطرت مع “روفة”  وحده سألته بتردد شديد عن أسرته خشية أن أكون قد حرمته بضيافتى من الإفطار معه، وإذا به يتعجّب ويخبرنى أننى إن لم أحضر، فإنه كان سوف يتناول إفطاره فى نفس المكان (حجرة تكاد تكون خارج الدار)، وهم بالداخل، وخجلت أن أدخل فى التفاصيل،

بعد أن مضى علىّ عام وبعض عام أتردد كثيرا على كوخى هذا فى رأس الحكمة تأكد لى أننى وجدت ضالتى فعلا، وأن شروطى جميعا قد توفرت: ناس، وأرض، وشعر، وثريد، وألم مشترك “. رويدا رويدا تبينت لى الخدعة، لم يخدعنى أحد، أنا الذى كنت أحلم، اكتشفتُ العكس تماما، لا خصوصية إطلاقا، ولا ركن، ولا حرية، وثمة استحلال لما ليس لك بشروط معينة، وثمة شطارة تخترق حواجز خُـلـُقية كثيرة دون إحلال أخلاق بديلة، تصوّرت آنذاك أنه هكذا الأمور فى ليبيا فوجه الشبه لا يخفى على عابر سبيل. نحن قبالة ليبيا الآن يا أخ معمر. يالله!!

فى رأس الحكمة، خلال بضع سنوات، فى حضن بلدى، سُلبت منى حرّيتى رويدا رويدا: أولا باستعمالى- من كل الناس- طبيبا لكل الأمراض كل الوقت، ثم بعد ذلك باستيلاء الحكومة على بيتى، ثم إزالته بالبلدوزر، لصالح أمنِ كبيرٍ جدا، رغم حكم القضاء لصالحى، ماتت رأس الحكمة مثلما ماتت الحكمة. لست آسفا على ركنى فقد كان قد أزيل من نفسى قبل أن تزيله السلطة العليا ضدحكم القانون، أى والله. لكن هذه الخبرة جعلتنى أراجع نفسى فى مسائل أساسية، يحلم لها من لم يختبرها، ومازلت حتى الآن  أراجع معنى أحلام أحزاب الخضر، ومعنى الحرية البدائىة ، ومعنى الوطن،ومعنى الأمن،

شطحت بعد أن غلب غلابى وتخيلت  أن الله سيلهمنى أن أحمل وطنى تحت جلدى، وأن أحتفظ بقوانين حريتى فى عمق وعيى دون إعلان، ولا أنكر أن الله استجاب لبعض ذلك، مما لست أذكره. فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر.

لم تكن هذه الطرق الساحلية التى نقطعها على شاطئ الزير (الكوت دازير) طرقا مكشوفة طول الوقت، فقد كان الطريق يتقطع باستمرار بسلسلة من الأنفاق، لا نكاد ننتهى من أحدهما إلا لندخل فى الثانى، ويتراوح طول النفق بين ما هو أقل من كيلو متر إلى بضعة كيلو مترات، وقد بدأت سلسلة الأنفاق هذه قبيل وصولنا إلى جنوه.. ولم أكن معتادا القيادة فيها أصلا، فأنا لم أعبر من قبل مثل هذه الأنفاق، اللهم إلا نفق “مونبلان” الشهيرالذى يخترق سلسلة جبال الألب بين فرنسا وإيطاليا عند فالورسين. ثم تلك الأنفاق القصيرة المتواضعة المحدودة فى جبال يوغسلافيا. أما هنا، فقد توالت سلسلة الأنفاق حتى حسبنا أن السير فى الطريق المكشوفة هو الاستثناء.

كنت كلما دخلنا نفقا واحتوانا الظلام فجأة قبل أن نتبين لمبات النور الصناعى، كنت أنقبض دون خوف ظاهر، ثم يغمرنى شعور بالضياع وكأنى لن أخرج أبدا، ثم يبهرنى نور النهار فجأة وكأنه مفاجأة غير محسوبة، (ليست سارة بالضرورة) وأخذت هذه النقلات تتكرر حتى ألفتُها، ولكنى لم آلفها لدرجة أن أنساها؛ فقد اعتدت أن يفاجئنى المألوف دائما أبدا مهما طال تكراره، حتى أننى أعتبر هذه المفاجأة المتجددة دليلا على طزاجة إدراكى، وهكذا لم أستطع فى كل دخلة وخرجة أن أطرد عن نفسى تجدد الشعور بالولادة، وإن إختلفت درجاته،

يستيقظ أحد الصغيرين، (أحمد رفعت) ليقول لى بعد أن يتمطى: “هل تعلم كم نفقا عبرنا”؟. يقولها ليقرر ويتحدى، لا ليسأل طلبا لإجابة. فأعجب للسؤال والموقف حيث إنى أرجح أنه كان نائما أغلب الوقت إن لم يكن طول الوقت، فأقول له “كم”؟. فيقول بثقة مفرطة “هذا هو النفق السابع عشر”، فأعجب أكثر لثقته الزائدة فأراجعه.. “وما ذا عن الأنفاق التى عبرناها وأنت نائم؟” فينتبه، ولكن يبدو أنه لا يتراجع، فيضيف اثنين ليصبح المجموع “تسعة عشر”، وأشعر أنه يجاملنى بهذه الإضافة – ليس إلا. إذ يبدو من لهجة صوته أنه يجارى منطقى “المعقول ” مضطرا.

هل نحن يا بنىّ – هكذا –  نيام طول الوقت؟  قد نفيق أحيانا فنلتقط بعض المعلومات، ونتصور – ثم نؤكد – أن هذه المعلومات هى “كل الدنيا والدين”، ثم نعود نغط فى نومنا الدائم. فإذا نبهنا أحدهم أن ثمة “موجودات، وآراء وأحداثا، تجرى أثناء نومنا هذا، رفضنا أصلا، فليس هناك، ولا يحدث أصلا، إلا ما نراه يقينا فى لحظات إفاقاتنا العابرة. وقد نوافق على الرأى الآخر (مثلما فعل صغيرى) مجاملة ظاهرية، ولكننا نصوغ العالم فى حدود لحظات اليقظة المحدودة، ومجال الرؤية المتاح فيها، وهات يا تعصب، ويا مذاهب، ويا أديان…و… ويا حروب!!.

ما زلنا فى اتجاه فنتميجليا Ventimiglia، ولست أدرى لم ابتدأ السهم منذ دخول جنوة يشير إلى “جنوة” ثم “فنتميجليا بالذات”، مع أن ثمة بلاداً أكبر وأوضح على الخريطة: مثلا: سالفونا Salvona، امبريا Imperia،  سان ريمو San Rimo إنما أبداً، ليس إلا “فنتميجليا”. أنتبه إلى أن المسألة ليست بحجم البلد أو شهرتها على الخريطة؛ فقد تشير الأسهم إلى أصغر البلدان، لأسباب لعلها تتعلق بموقعها على الحدود، أو قربها منها، وربما تاريخها، لست أدرى.

تعودت على الأنفاق أكثر، حتى سمحت لنفسى وأنا فى داخلها أن أتذكر لعبة الاستغماية الأوّلية، ولا أعنى بها تلك اللعبة التى نغمض فيها عين أحدنا ثم نختبئ منه، فيبحث عنا حتى يجدنا. وإنما أعنى بها تلك اللعبة التى تُخفى فيها الأم وجهها عن طفلها بملاءة أو ما شابه، (وكأنها تسأله أين أنا؟)، فيتصور – بمجرد اختفاء وجهها – أن الدنيا انتهت، ثم تكشف عن وجهها فجأة؛ فيطير الطفل فرحا، وكأن أمه قد عادت من المستحيل، وهكذا

هذه اللعبة نفسها كنا نطورها صغارا حين نختار ركنا من الشرفة، أو من ملحق زاوية منسية فى حجرة مهجورة فنأتى بالبطانية أو ما شابه ونحيطها حولنا لنجعل منها كهفا أو مخبأ أو سرا أو ما لا نحتاج إلى تسميته أصلا، ونفرح بعملية الدخول والخروج، من الظلمات إلى النور وبالعكس، لا ليس ظلاما فنورا، ولكنه طوْر فطور.

بفضل الأنفاق الإيطالية المحكمة. ندخل فنختفى، ونخرج فنُوجد، ندخل فنهمس ونخرج فنرقص، ندخل فنـُرعب ونخرج فنبهر،..هذا هو.. هذاهو  يا سيدى.

نصل إلى فنتميجليا، وأعرف أنها آخر بلد إيطالى، إذ بعدها منتون Menton الفرنسية (عرفت ذلك لاحقا !) على الجانب الآخر من الحدود، ولا حدود، ولا حاجة، أى والله، ظللنا نزحف بانسياب لم نألفه بين اليونان ويوغوسلافيا، ولا بين يوغسلافيا وإيطاليا، لم يوقفنا أحد، ولم يسألنا أحد، رغم المكاتب والحراس والزى والجو الحدودى، ولم نستطع أن نميز حارس الحدود الإيطالى من زميله الفرنسى؛ فكلهم خواجات ظرفاء، يشيرون بإهمال طيب ويـَقـِظٍ فى آن، أو بترحاب فاتر وصادق معا، يشيرون إلى عربتنا أن “مُروا”، ونتلكأ خوف ألا نكون قد فهمنا، لكن الإشارة تأتى مؤكدة أنه “ماشى”، ونكاد نقول لهم: خلِّ بالك، الأرقام ما زالت مصرية عربية، وأحس أننا- بدون مناسبة،  وربما بدون استحقاق، أهل للثقة، ولكن ما دمنا كذلك فلماذا بهدلونا قبل المغادرة فى سفارة فرنسا فى مصر، ولولا خطاب الكلية الصورى للمركز الفرسى لانتظرنا واحدا وعشرين يوما للحصول على تأشيرة الدخول، وها نحن ندخل دون أن يتفضلوا ولو بنظرة على تأشيراتهم المبجلة. وبلغ غيظ أحد الأولاد الذين داخوا فى حكاية التأشيرة أن اقترح أن نسألهم” لماذا يثقون بنا هكذا ؟ “. بعد كل ذاك الشك و التأخير فى استخراج التأشيرة، و لكننا فضلنا اتباع المبدأ الجوهرى فى الغربة خاصة، وهو: ” ألا نسأل عن أشياء إن تـُبـْد لنا تسؤنا” فلم نسأل، ولم يسؤنا شئ ودخلنا إلى فرنسا دون توقف أصلا، و كأننا عائدون من الهرم إلى المنيل، بل عندك، فأحيانا ما يكون الاختناق بين محافظتى القاهرة والجيزة (مازلنا سنة 1984) عبر خطوط التماس أصعب من كل حدود دولية.

ما كدنا نصير فى فرنسا- و الشك مازال يداخلنا- حتى رجحنا أنها قد تكون مونت كارلو، أو موناكو، و لست أدرى أيهما عاصمة الأخرى، فالأسهم تقول مونت كارلو ثم نيس، و الحكاية إتلخبطت، ولكن؟.. نحن مالنا؟، اختفت مظاهر الحدود، وها نحن فى فرنسا، و ليس من المناسب أن نرجع لنقول لهم: يا عم والنبى تمسكنى أحسن أكون مزوغا، بل إننا مكثنا فى فرنسا أطول مدة فى الرحلة كلها، وخرجنا منها دون أن يسألنا أحد شيئا أصلا، بل إننى لا أذكر أن جوازاتنا رأت الخاتم الفرنسى، لا فى الدخول، و لا فى الخروج. مما أكد لنا فى النهاية، أننا آخر تمام من حيث أهليتنا للأصدقاء الفرنسيين، وأبتسم حين تهاجمنى صيغة البيانات المشتركة بعد كل لقاء سياسى، لتعلن تماثل وجهات النظر فى كل الأمور فى كل لقاء سياسى بين القمم، ثم أبوك عند أخيك.

لم يبق على الغروب (بعد الثامنة مساء) إلا ساعة و بضع الساعة، و كنت أتمنى أن نصل إلى هذا المكان فى وقت أكثر تبكيرا؛ حتى أستطيع أن أترك الطريق السريعة إلى الطريق الوطنىة مخترقا القرى، مؤتنسا بالناس، إلا أن خشيتى من الظلام والمجهول جعلانى أرضى من الجمال بالبحر، وكنا قد نوينا- بناء على نصيحة زميل يعرف الحكاية – أن نقيم فى بلدة أصغر من نيس، و قبلها (فى اتجاه مونت كارلو). بلدة اسمها بو  ليو Beaulieu  والاسم يعنى: المكان/ البقعة الجميلة، فإذا عرفت أن اسمها بالكامل هوSur Mer  Beaulieu ،  أى المكان الجميل على البحر، فلابد أن ينطلق خيالك- مثلى- إلى احتمالات طروب، فما بالك إذا كانت أرخص- على زعم صديقنا الذى أوصى بها – فحدّث عن فرحة الأولاد وأيديهم على جيوبهم، قبل أن تكون عيونهم على البحر.

لست أدرى ما أصل علاقتى بحكاية الماء و الناس، و إن كنت قد أشرت إليها قبل ذلك فى بداية حكايتى مع السباحة و حماماتها، و لكنى أعرف أن للأمر أبعادا و أبعادا لاتصل إليها يقظة إدراكى بالدرجة التى تسمح لى أن أحكى عنها.

أذكر تماما أن كل ما هو ماء… كان يجذبنى بمعنى أعمق من الشائع عن كلمة “يجذبنى”، معنى يكمن فى داخل برادة الحديد و هى تنظم نفسها فى المجال المغناطيسى، أكثر من المعنى الذى يشير إلى التصاقها الميكانيكى بجوار المغناطيس الحديد نفسه، كان هذا هى الحال على شاطئ ترعة العطف فى بلدنا، ثم على شاطئ النيل فى زفتى، ثم على شاطئ المتوسط فى الإسكندرية، ثم على كل شاطئ، و ما كان يمنعنى من أن أناجى الترعة فى بلدنا إلا أمران كانا يمثلان عندى- رغم الشوق والجذب، حاجزيْن طامسيْن، أولهما: حكاية الجنـّية (الندَّاهة) التى تظهر على شكل ” منديل جميل يغرى المار بالاقتراب منه لالتقاطه، وما إن يحاول الواحد أن يفعل حتى يبتعد المنديل رويدا رويدا، حتى تغوص القدمان فى الماء فلا يستطيع – الواحد- لهما خلاصا،  فتكشف الجنية عن وجهها وتسحبه إليها، إلى أين؟. لست أدرى، و الأمر الآخر هو أن ترعة “العطف” فى بلدنا كانت تأتى بالدور (ستة أيام كل ثمانية عشر يوما على ما أذكر)، و كنت أعتبر ذلك خيانة لى و أنا صغير، رغم أنى بعد ذلك عرفت أن حياة كل شئ هى فى هذه الدورات الحتمية، وأن الإنسان الحى هو الذى يواكبها لا يعاندها ولا يعارضها، أما حكاية البلهارسيا وما شابه، وأن نعطى ظهرنا للترعة فلم تخطر على بالنا أصلا، وحين كبرت حتى لم تعد تمنعنى عن محاورة الماء الجارى حكاية الجنية، خاصة، وجدت نفسى فى زفتا لمدة أربع سنوات (من سن7  إلى 11 سنة)، نخرج فى مركب بمجدافين كل خميس، وندفع قرشين فى الرحلة بحد أقصى شلنا لو كان الوقت غير محدود(باعتبار أننا سنتعب قبل انتهاء قيمة ما دفعنا)، ويحضرنى توْه بعيد:

ذات خميس، ونحن فى زفتا (1943)، خرجنا بالمركب و أردنا أن نستغل بالأجرة التى دفعناها أكبر وقتٍ ممكن. كنا خمسة، أكبرنا عنده 14 سنة و هو شقيق صديق أخى ثم أخى وصديقه (12 سنة : الاثنان)، ثم شخصى، أقل سنتين (عشرة سنوات)، وأخت صديقنا أصغر منا جميعا، و سرقنا الطمع لنأخذ أكبر الوقت بنفس الثمن، (مثلما فعلت مع العربة فى سان فرانسيسكو فيما بعد) حتى خيم علينا الليل ونحن فى اتجاه قناطر زفتى، مع احتمال الانحراف إلى الرياح التوفيقى على ما أذكر، و لم يكن ثَمَّ قمر، والغريب أننا لم ننزعج، حتى بعد أن نامت أصغرنا فى قاع القارب المبتل، و كلما زاد الليل حلكة اضطربت الآراء، وعلت الضحكات المغتصَبة المختلطة بالخوف و التربص، حتى قاربت الساعة العاشرة، وكان الوقت شتاء، و بلغَ بنا اليأس أننا تصورنا أنه لم يعد ثَمَّ شاطئ للنيل، لأننا كلما اتجهنا فى اتجاه ما بضعة أمتار بغية الوصول إلى أى موقع على الشاطئ، رُعبنا ظنا منا أننا نتجه خطأ، فنعود فى الاتجاه العكسى، وهكذا. وفى تلك اللحظة، أذكر أنى تصورت- يقينا – أن قوى خفية قد ألغت الشاطئ أصلا فلم يعد حولنا سوى ماء فى ماء الى ما لانهاية، واستسلمت لحظتها للمجهول، وأنا شامت فى كل صحبتى، معتمد عليهم لأنهم أكبر منى، وعليهم أن يحلوا الإشكال، مع أنى تصورت أنه إشكال بلا حل، ومع ذلك لم أخف جدا مثلهم، يستحيل أن نصل إلى أى هدف ما دامت الشواطئ قد اختفت نهائيا، داخلنى آنذاك شعور بالمساواة  فى العجز، و كأنى فرحت باللاحل الذى ساوى بين ضعفى صغيرا وحذقهم وادعائهم كبارا، فساوى بيننا فى الخيبة، لم يخطر على بالى أصلا أن ثَمَّ نهاراً قادماً فقد توقف الزمن عندى، كما ثبت المكان وتجمد. وحين سمعنا نداء باسم أكبرنا، تصورت أن أمورنا قد انكشفت للعالم الآخر حتى جاءت العفاريت يعرفوننا بالاسم، وهنا لم يصبح المجهول بالنسبة لى مجهولا، بل رُعبا آخر أيقظ – فجأة- حكاية الندَّاهة المنديل والجنية، والسؤال بلا جواب: ثم تخطفنا؟. نعم، ولكن إلى أين؟. هذا هو السؤال، وقبل أن أتمادى فى الرعب حتى الانزواء المرتعد المسحوق، تبينا أن الصوت الهاتف بنا، هو والد صديقنا الذى استأجر مركبا وجاء يبحث عنا بعد أن تأخرنا، والعجيب أننا تبينا أننا كنا على بعد عشرات الأمتار من “المردة” (الميِنِى ميناء!!)  التى كنا نريدها، ولا رياح توفيقى، ولا قناطر، ولا يحزنون.

من يومها، وأنا أتصور كيف يمكن أن يلف الواحد منا (والبلد منا) حول نفسه فى ظلام دامس رغم الحماسة العظيمة ، وهو يتصور أنه يسير قـُـدما، وكيف أن علاقتى بالماء هى علاقتى بالمنبع الذى يحرك فى داخلى كل هذا الحنين، وكل هذا الرعب أيضا، وهى علاقتى بالمصير الأخير بشكل أو بآخر، فإذا كان الله سبحانه قد جعل من الماء كل شئ حى، فمن الممكن أن يجعل إلى الماء كل شئ حى. ولعل جارثيا فى أقصوصة بحر الزمن المفقود، كان يريد أن يقول مثل هذا؛ حين أصرت بنزا (زوجة جاكوب) أن تدفن حية تحت التراب، فلا تلقى فى البحر.

أرجع إلى “البقعة الجميلة على البحر” (“بو  لييه سير مير”) التى لم يبق عليها سوى بضعة كيلو مترات، ونقرر أخيرا أن نترك الطريق السريعة إلى الطريق الوطنىة، فى اتجاه تلك البلدة،  ويتنهد الجميع، فنتجه ناحية اللافتة وإذا بنا نتدحرج فى شارع يتلوى، 180 درجة كل بضعة أمتار، (كأنه زعيم مخلص يحاول أن يحصل على الموافقة، على قرار سرى بالإجماع، فى مؤتمر قمة عربى)، فأخذنا ننزل وننزل، ولا نكاد نسأل حتى ننزل. نحن لم نطلع…أصلا، فلماذا ننزل؟ ولم يكن هناك مجال للتفاهم أو التراجع. فالليل يقترب ونحن لا نعرف شيئا عن أى شىء، وأخيرا، بعد سلسلة من الحركات البهلوانية تـُذكرنا بسيدنا دارون ؛ حيث كانت السيارة تلف وتقفز فى رشاقة أنثى الشمبانزى الحامل (جدا)، لكنها مضطرة للحفاظ على نوعها فى سبيل تسلسل التطور، إلى مشارف هذه “البقعة الجميلة على البحر” (تذكر أن هذا هو اسمها وليس- فقط- وصفها). وتبينا بعد كل ما نزلنا أننا على الكورنيش الأسفل، لأن ثَمَّ كورنيشا أوسط، وكورنيشا أعظم، (انظر بعد) – وإذا بى أتعرف على كلمة “كورنيش” بمعنى حافة، وقد كنت أتصور أنها كلمة خاصة بالشواطئ فحسب. حتى أنى رفضت أن أطلق على حافة جبل المقطم حيث أسكن، اسم كورنيش، على الرغم من أنها معروفة بهذا الاسم. وقد ذهبت ذات مرّة أنظر من أعلى المقطم، من الكورنيش المزعوم باحثا عن النيل العظيم حتى رأيت عن بعد بعض ما يشير إليه، فحسبت أنهم أسموا كورنيش المقطم بهذا الاسم؛ لأنه يمكن أن يرى النيل بشكل أو بآخر، كنت ناسيا أن أجمل أثواب نساء بلدنا كانت ذات الكرانيش المتداخلة، ثم هأنذا أتبين أن كورنيش الجبل هو الأصل، وأنى لا أحب الأنهار والبحار، بقدر ما أحب هذا الموقع الذى يعلن التقاء الأرض بالماء.

بل إن بعدا آخر قد أطل على ينبهنى إلى أننى أعيش دائما على “حافةٍ” ما. لا أحب المراكز الوسطى ولا الزحام بلا حدود. دائما أتحرك لأجد نفسى على حرف كل شىء، وربما لهذا كنت أمتلئ غيظا حين أتصور أن الآىة ” الكريمة” ومن الناس من يعبد الله على حرف” يمكن أن تنطبق علىّ، أبدا، ليس كذلك، فحرف فى الآية الكريمة إنما يشير إلى التردد والمساومة. أما الحرف الذى أعيش عليه معظم الوقت، فهو حرف التأهـب للتغيير، ورفض الرؤية الواحدة، وأحسب أننى أخذت هذا الموقع؛ لأننى حريص طول الوقت أن أحافظ على موقعى على الحرف، لأننى أخشى أن أغوص وسط الزحام فلا أعود أتعرف على اتجاه المسير، كما أخشى أن أتحمس لغالبية الاتجاه فأنسى احتمالات صواب الاتجاهات الأخرى، (رنت مسألة الحافة فى وعيى حين شاهدت فيما بعد مسرحية المرحوم سعد الله ونوس: طقوس الإشارات والتحولات، حين تناول موضوع “الحافة” فى “تحولات الماسة”)، .

أكتشف تناقضا دالا بين إصرارى على  السير على الحافة من جهة وبين حماسى الشديد حتى النخاع للغوص فيما أنتمى إليه فى لحظة بذاتها، أو فترة بذاتها، أو مرحلة بذاتها،   أندفع إليه، وأقاتل فى سبيله  بكل ما أملك، لكننى رغم ذلك أظل جاهزا لللانضمام إلى أى جانب آخر بسهولة تـُـنبهنى إلى أن  استغراقى فى القاع لم يمنع من بقائى على حافةٍ ما.  لا أتذكر أننى على أى حافة أثناء القتال والإصرار، لكن  إذا ما تجمعت التغيرات حتى بلغت حد ترجيح النقلة مما أنتمى إليه، إلى ما أنتمى إليه، تركت كل ما أنا فيه غير هياب، لأغوص فيما استجد، وأحافظ على موقعى على الحافة دون تأرجح أوتردد أواهتزاز. من لا يعرفنى أعمق يصفنى بالتقلب المخيف، وما أسميه أنا بالأمانة مع اللحظة، ومع الحركة، وليس مع الخلق الثابت والعقيدة المكتملة أو الجامدة.

سرنا على حرف كل شىء، حتى وصلنا إلى حرف/ حافة البحر، ونحن بعد المغرب وقبل الليل، فنقرر مضطرين أن نبيت فى فندق، أى فندق،  هذه الليلة فقط. فنحن على سفر منذ أربع عشرة ساعة بالتمام، ولاوقت للبحث وحسابات التكاليف، ولا أمل فى العثور على مخيم مثل ذلك الذى تركناه وراءنا حول فينيسيا، ونبدأ فى السؤال عن الفنادق ذات النجوم الأقل، ولا نجد إلا حجرة واحدة فى فندق ثقيل الظل.

قبل أن ندخل فندقا آخر، يقابلنا على الباب زملاء طريق من المشاة الرُّحل، وحقيبة الظهر تنوء بما يحملون، فنقرأ أسعار الفندق على تقاسيم الوجه التى تنوء بخيبة أمل أثقل من حقيبة الظهر، وتعود الطريق تلتف بنا، فتطاوعه حافلتنا فرحة بالتجوال الحر بعد أن كادت أنفاسها تنقطع من استمرار السير المستقيم، ومن ألاعيب الأضواء فى الأنفاق، ثم تلافيف “الكرانيش”. وهاهى  ذى تتسكع فى تَمَطٍّ ودلال تحت دعوى البحث عن فندق.

نلمح فندقا يطل على ما يشبه الميناء للقوارب الشراعية. حيث تقبع مجموعة منها كأنها أسطول للصيد أو للسباق أو للحب الخاص، ولا نأمل فى حجرة، ولا يتصور الأولاد قدرة ميزانيتهم على مجرد الاقتراب من المبيت فى فندق، ولكننا نغامر فنرسل ابنى للسؤال، ويعود مترددا بين فرحته بالعثور على ثلاث حجرات، وبين خوفه من “هبش” الميزانية المحدودة، ويتهامس الأولاد والبنات دون تدخل منى، وأكاد ألمح استغناءهم عن عدد محسوب من الوجبات فى مقابل ليلة مريحة، وماء ساخن مع ما يلزم له هذا الماء الساخن،  فترجح كفة الفرح على كفة الحذر. ويذهب ابنى يغرينا بالتضحية، فالحجرة بمائتى فرنك فرنسى، ورغم أن الفندق ذا ثلاثة نجوم، إلا أنه يفوق فندق الرئيس (بريزيدانت Président) فى جنيف – ذلك الفندق الذى نزلنا ضيوفا فيه فى العام بعد التالى لعدة أيام (انظر بعد)..- ونوافق فيذهب ابنى عدوا قبل أن يلطش أحدهم الحجرة، أو قبل أن أرجع فى كلامى (وما أسهل ذلك لو شممتُ رائحة استسهال منهم). وقبل أن نعدل السيارة باحثين عن مَرْكن، نجد ابنى قد عاد ثانية حزينا، تتعثر خطواته فيما يشبه الأسف والأسى معا، وأتعجب لقسوّة هذه المشاعر المرتبطة بهذه الإحباطات المادية (ما دام مقدوراً عليها) وكأنى نسيت كيف كان ضياع نصف أفرنك (بالمصرى) يمثل عندى- طفلا- مأتما، ربما يفوق مأساوية موت عزيز، أو إعلان حرب.. يا سبحان الله.. وأشفق على ابنى وهو مطأطئ مهزوم فأسارع بسؤاله، فيقول إنه آسف، إذ يبدو أنه- لفرط التعب واللهفة – قد سمع الثلاثمائة على أنها مائتان (وهذا الخطأ محتمل بالنطق الفرنسى الذى يأكل أول الكلام، ويؤكد آخره). فألعن النقود، وكيف تخترق نخاعنا هكذا، حتى تختلط الحسرة بالدم حتى النخاع.

إذا كانت هذه هى مشاعر إبنى ونحن نتحرك فى منطقة فائض الفائض. نعم فنحن ورغم كل شئ نعيش فى رفاهية القادرين، فما بالك بالحرمان الذى يعانيه المحرومون حتى الجوع الحقيقى ، المتكرر والملحّ، أو حين يُحرمون من حق النوم تحت سقفٍ ما طول الحياة قهرا وليس أثناء الرحلات اختيارا،

وتتضخم لدى معانى الحرمان الحقيقى، والقهر بالعجز، وهو يمارَسُ ليل نهار على كل من لا يقدر على مايريد، وعلى كل من يريد ما لا يكون. والألعن، ذلك القهر الداخلى الذى لا يسمح للأغلب أن “يريد” أصلا ما يمكن أن يراد.

ردعت نفسى من جديد نفس الردع الذى أشرت إليه سابقا، فإما “ترحال” مثل الذى نحن فيه، مع عدم نسيانهم، وإما نجلس فى بيوتنا نحارب من أجلهم، لأنه لا معنى أن أشد الرحال  إلى آخر الدنيا، وكلما هممت بالاستمتاع، رحت أمضغ الهم وأجتره هكذا، حقيقة يستحيل أن “أنسى” بقية الناس مع هذه “الرؤية الأعمق”، لكن مسئولية الرؤىة ليست فى أن أستمر نعَّايا مدعيا بهذا البكاء أو التباكى العاجز فى وقت غير مناسب، وإنما علىّ أن أتذكر أن الأبواب مفتوحة لمن يريد أن يساهم فى مسيرة العدل الممكن.

وأنجح فى طرد هذه الأفكار الدائرية، واعدا نفسى بأداء الديْـن، وأعود إلى صحبتى المتلهفة فأقرر أن أتقدم “بدعم محدود”، يمثل فرق السعر بين ما سمعه ابنى أولا، وما تيقن منه أخيرا، حتى يمكن أن ننام فى هدوء نسبى، فنتمتع بفضل الله، بالدرجة التى قد تعيننا على حمل أمانته إلى سائر خلقه.

أكاد أصدق نفسى.

فعلا، كان الفندق فخيما، اسمه فريزيا، وكنا نتذكر اسمه بعجول الفريزيان المبرقشة. استقبلنا فيه بمنتهى الذوق والأدب، ورغم منظرنا الأشعث، واحد “بيه”، يصلح – والله العظيم- سفيرا لهولندا فى الدانمرك، لا أقل، وراح يحترمنا احتراما شديدا.

تذكرت حين كنا أطباء امتياز، وذهبنا إلى كازينو بأعلى المقطم (سنة 1975) وكان معنا أحد الزملاء الذى لم يدخل كازينو فى حياته، ولم يلبس رباط عنق أصلا، ولا يعرف حتى كيف يربطه، وكلما حضر لنا النادل (“الجارسون”) بسترته البيضاء و”البابيون”، والسروال الأسود، وقف زميلنا منتفضا يحييه، وكأنه يعتذر له أنه جلس قبله، أو أنه جلس أصلا، ونقول له: يا دكتور فلان، هذا “جرسون”، وهذه وظيفته، وهو يخدمنا ويحترمنا مقابل ما ندفع، ولكن رأسه وألف سيف أنه “لا يصح”، و “هذا لا يجوز”. ونقول له: ما هذا الذى لا يجوز؟. هذا أكل عيشه..إلخ، فيقتنع زميلنا بالكاد. ولكن ما إن يحضر “الجارسون” مرة أخرى، حتى يهم زميلنا هذا بالقيام فيمسكه جاره بالعافية… وهكذا. مازلت أذكر هذا الصديق، وقد رفض أن يختار تخصصا دقيقا – كطبيب مقيم – يسمح له بالتعيين فى الكلية فى هيئة التدريس. لأنه “لا يصح” أن يطمح إلى هذا، رغم أنه كان متفوقا علينا جميعا، وفضَّل التخصص العام فى الجراحة بلا فرصة للتعيين فى هيئة التدريس، وحين ناقشتُـه فى ذلك راح يبتسم ويقول لى: هل تعلم ماذا يعمل أبى؟. إنه بائع متجول فى الأسواق الريفية، يعرض الأقمشة على ظهر حمار، فأقول له: ولو…، هذا حقك، أنت أحسن منا بكل المقاييس، أنت ترتيبك السادس وأنا السبعة وثلاثون، فيغيظنى حين يُنهى الحديث باسما طيبا شاكراً حماستى شارحا لى كيف أن الجراحة العامة تصلح فى كل كفر وقرية، أما التخصص الدقيق (أعتقد أنه كان جراحة القلب) الذى أشيرعليه به، فهو لا يصلح إلا فى العاصمة للناس الآخرين، وهو بتخصصه فى الجراحة العامة يكاد يكون مثل والده وهو يلف على الأسواق بكل أنواع ما تريده نساء القرى المحيطة، لأنه لا يستطيع أن يفتح محلا متخصصا وينتظر من يأتيه ممن يريد بضاعته هذه دون غيرها، ولا أقتنع ، وأعاود محاولة إقناعه،  ولكنه ينفّذ ما فى يقينه، فيختار التخصص العام- مثل والده ، وأيضا مطيعا لرأى  والده. ويضحى بفرصة تعيينه فى الجامعة.

رحت أتذكر زميلى هذا الطيب كلما أقدم علينا هذا البيه فى فندق فريزيا، فأكاد أقوم له من على المقعد احتراما لأنه فعلا “لا يصح”، بعد أكثر من خمس وعشرين سنة، فهمت ماذا كان يعنى صديقى بـ “هذا” الذى “لا يصح”، !!! !!.

نستقر، ونترك الأولاد الساعة 30،9 مساء، وأنزل من فورى مع زوجتى أتعرف على هذه البلدة ذات الاسم على مسمى “البقعة الجميل على البحر”. فنجد الشوارع “هس هس”.والمحال مقفلة أبوابها، إلا من مقهى متواضع يلملم أشياءه. ولا تمضى بنا أرجلنا أكثر من ربع ساعة، لكنا نقنع به كنوع من “التوقيع فى “دفتر التشريفات”. فقد اعتدنا- زوجتى وأنا- حتى فى مصر، ألا تكون نهاية السفر، مهما طال وشق: هى إغماءة النوم، أو تأوهات الإرهاق. وهكذارحنا نوقع هذا التوقيع الحانى على سيقان المدينة من شوارع، وعلى شفاهها من مقاه، قبل أن يضمنا الفندق بكل ما يشعه من دفء الجنوب.

قبل أن أصعد حجرتى، رحت أسأل “سعادة البيه” المستقبِل عن رقم تليفون فندق مارتيناز Martinaze فى”كان”؛ حيث كان لزاما علىَّ أن أتصل بهذا الزميل الأكبر الذى سبق أن أشرت إليه أ.د. حلمى شاهين. فجعل يبحث عنه فى دفتر للتليفون كأن حروفه مكتوبة بسن إبرة؛ مما يضطره إلى إحضار عدسة مكبرة، ويعتذر فى كل مرة لا يجده حيث تصور وقدّر، ثم يتلطف فيلتمس منى الصعود إلى حجرتى وأنه سيأتينى حتما بالرقم. وفعلا لا أكاد أستقر فى الحجرة، حتى يدق جرس التليفون، فأسمع صوته مهللا إنه “وجده”. ولا أعرف كيف أشكره داخل نفسى، بعد أن كنت قد نسيت مثل هذه المعاملة التى سمعت أنها تضاءلت مع تنامى احتقار الفندقيين العجم للبتروليين العرب، ذلك الاحتقار الذى يتزايد طرديا مع زيادة النقود وضحالة الذوق. لكن يبدو أن هذا التدهور الفندقى لم يسر إلا على الفنادق الأغلى و الأفخم، حيث ينزل العرب الأغنى والأسطح، حتى استحالت تلك الفنادق إلى أن تكون الأوقح  لقاءً والأسخف معاملة لأمثالنا على الأقل.

الخميس 30 أغسطس 1984:

أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله.

والله زمان!. الماء الساخن والصابون، والحمام الخاص والمرآة. سبحان العاطى… وأهم من كل هذا، أن الإفطار ضمن حساب الليلة،فنجلس فى مطعم شديد الأناقة، قال ثلاثة نجوم قال!!. قل مائة، أو ألف نجمة، وشمس وقمران!!. نعم.. الأكل هو الأكل، فالإفطار الفرنسى ثابت كما برج إيفل، الأهلة (المشلتتة) (الكرواسان Croisson) والقهوة باللبن، والزبد بالمربى، ولكن ليس هذا هو المهم. المهم هو ما يصاحب ذلك من ترحيب دافئ واحترام “حضارى”، وأتأكد من تميز هذه المطاعم/الفنادق المتوسطة فى المدن المتوسطة، إنهم لا ينظرون إلى كل من هو عربى باعتباره “زكيبة” أوراق مالية، يعلوها مخ ماسح يساوى بين كل شئ وكل شىء، حتى يساوى بين النقود والويسكى والكباب، فجعلنا ننظر عبر الزجاج النظيف إلى المراكب الشراعية وغيرها، ونتمنى أن يطول الوقت على الرغم من اليقين بحتم الرحيل، فبمجرد أن ينتهى الإفطار سوف نشد الرحال. ويا “عالـِم”!!.

فى مكتب الاستقبال، ونحن نتمم الحسابات، تشجعنا فسألنا: “سعادة البيه”(راعى الفندق) عن مخيم فى هذه البقعة الجميلة فمط شفتيه معتذراً فى أدب جم، (دون نفخ للهواء كما اعتدت من الفرنسيين). وحين هممنا بالانصراف، إذا بشاب يقفز إلى وسط الحجرة دون أن نشعر كيف دخل وكأنه هبط من السقف. كان مليئا بالفتوة والسعادة، ففرح به “سعادة البيه” حتى حسبناه ابنه عاد بعد طول غربة، ولكنه أشار لنا بحماسة أن انظروا، هذا الصديق يمكن أن يكون دليلكم، وفعلا كان الشاب السعيد رحّالة، لكنه يبدو أنه فى حالة إقامة مؤقتة، فهو من “هنا”، وقد أجاب الشاب على سؤال “سعادة البيه”- منتعشا- عن أنّ ثَمَّ مخيماً “هنا”، “فعلا” على “الكورنيش الأعظم” (الأعلى)،  قلنا: خيرا. وانتعش الشاب أكثر من انتعاشته الأولى، وأمسك ورقة وقلما وهات يا رسم، وخطوط، وأسهم، ولم ينقص الشرح إلا “مقياس الرسم”، حتى تكتمل الخريطة. وكل ما فهمته هو أنى سأظل ألف وأدور إلى أن “ألاقى إشارة”، وثمة “بتاع” آيس كريم:) دكانته على ناصية حارة (!!،إلى أن أصل إلى الكورنيش الكبير. وحين سألته إن كان مخيم الكورنيش هذا رخيصا: قال: جدا. فقلت له. وما ميزاته، قال منظر جميل!!. ثم أجاب فى بساطة: إنه مادامت بغيتى هى مخيم فى “بوليو”، فهذا هو المخيم الذى فى “بوليو”.ولم أتبين ما يعنى إلا فيما بعد.فرِحنا، وتوكلنا ونحن نردد:دى وصفة سهلة،دى وصفة، هايلة.

كما نزلنا متزحلقين، صعدنا نتحسس الطريق من الكورنيش الأسفل إلى الكورنيش الأوسط. نفس طريق الأمس الثعبانى الأملس. وكلما خلا الطريق من المارة والعربات، خيل إلينا أننا لا بد قد تـُهنا. وكلما سألنا أحد المارة، وأريناه خريطة الشاب المنتعش، نظر فى وجوهنا، ثم إلى السيارة، ثم إلى حمولتها الداخلية والخارجية، ورفع حاجبيه، وهز كتفيه، وقال بشكل أو بآخر، “نعم هذا هو الطريق ” ثم يضيف ما لا نفهم مغزاه فى حينه: “… ولكن”، ثم يمضى مهذبا ماطا شفتيه بصوت أو بغير صوت، دون أن يكمل، لكن ماذا… ياهذا؟. وأخيرا حن علينا أحدهم وقال: ولكن “صعب”. ثم تنهد وكرر “صعب جدا”، ويبدو أن الذين كانوا يتوقفون بعد “لكن…” كانوا لا يريدون أن يتدخلوا فى “حريتنا”، حتى لو كانت حريتنا هذه هى جهلنا، أو كانت هى التى ستذهب بنا فى “ستين داهية”. نحن أحرار فى بلد حر، يا ذا المقلب، نحن لم نتعوّد هذا يا جماعة، وابتدأ الفار يلعب فى عبى وعب الصحبة المستسلمة لقيادتى. قلت لهم هل سمع أحدكم من أى “مسئول” سألناه أن الطريق مسدودة، أو ممنوعة؟ قالوا: “لا” فقلت بعناد قديم يعرفونه: إذن، “فلا صعب إلا التراجع” .

مازلـت أتصور- كما أوضحت فى بداية هذا الفصل- أن هذا المبدأ هو الأساس الجوهرى الذى حدد خطوات حياتى، لذلك كانت انسحابات عبد الحكيم عامر وعبد الناصر سنة 1967، مهما زعمنا فى تبريرها، من أقسى ما عانيت فى تاريخ أمتى.

ومضيت أواصل قيادة العربة الطيبة بإصرار الحياة ذاتها، وجعل الطريق يصعد، يصّاعد، فيصعد، ليصّاعد من جديد، وهو يضيق، ويضيق، ثم يوصل إلى ما هو أضيق. لم يكن مثل كل الطرق السابقة؛ لأنه إذا اجتمع الضيق الشديد مع الإنحناء حتى الدوران، مع الصعود حتى الوقوف، فسبحان منقذ المعانـِد من غباء عناده، وهكذا انقلبت الطريقه الأفقىة رأسيا، والسيارة تكاد تقف على قدميها الخلفيتين، وكأنه لا تربطها بأرض الطريق إلا الجاذبية الأرضية، بقدر ما يـُربط رأس دبوس بسطح مغناطيس ضعيف لم يستطع أن يجذب طرف الدبوس الأبعد إلى التماس الملاصق، ولا أستطيع أن أنقل الفتيس إلا على “الأول”… وهات ياطلوع…. ولم يعد الرجوع اختيارا مطروحا أصلا، فلا مكان للانحراف المتأنى، ناهيك عن الاستدارة إلى الخلف، ولو لم يستجب الترس الأول للصعود بكل الحمولة، فسننهار لنرجع بظهرنا إلى حيث لا ندرى. واستعمال الفرامل محظور تماما فى مثل هذه المواقف يا بطل. وفجأة – فعلا فجأة- ينطلق الغناء من كل من فى السيارة، إلا أنا:

والنبى لاهِشـّهُ

يالعصفور.

وانكش له عشه

يالعصفور.

ولا أجد مناسبة، وأكاد أحتج فى سرى، هل هذا وقته؟. وأبحث عن أغنية أخرى معارضة قد تؤدى إلى التلطيف والطمأنينة، فلا تأتينى إلا أغنية أبعد ظاهريا، فلا أنطق بها أصلا. ولكنها تدور فى ذهنى عناداً فىما تقوله المجموعة. تقول الأغنية فى ذهنى:

حلفت ما البس حديدة

إلا ملاية جديدة

وأزور بيها سيدى إبراهيم

إلـلى بلاده بعيدة

ولكنى وأنا أكتب الآن، ولأول مرة، أتصور أن ثمة علاقة بعيدة كانت فى قاع الوعى، فلعل الأولاد بأغنيتهم تصوروا – حدْسا- أننا فى صعود حتى نصل إلى عش عصفورٍ “ما” هناك فى أعلى عليين، وأننا بهذا الصعود المعاند نتحدى الاستقرار فنهش الراقد، نهز كل مستقر.(داخلنا أو خارجنا)  إذ ننكش عش العصفور أعلى الكورنيش الأعظم، أما أغنيتى السرية التى خطرت ببالى فلعلّى كنت أعنى – دون قصد- أننى أقسمت أن أتخلص من كل قيد “حلفت ما البس حديدة” أتخلص من أى “حديدة” تستطيع أن تقيّدنى فتثقل خطوى، لا حديدة الخوف، ولا سلاسل التقاليد، ولا خزائن الحسابات. وأنه علىّ أن أخلعها جميعا لأنطلق. بوعى جديد، أتجدد من خلاله، لأزور بلادا بعيدة، بما يعنيه سيدى إبراهيم، أصل النبوة الأحدث، أو أصل الوعى الأرحب،

هل يمكن أن نتصور أنه لا شئ بالصدفة إلى هذه الدرجة ؟  حتى الأغنية التى تبدوغير مناسبة؟ وكذا  الرد عليها بأغنية صامتة أقل تناسبا؟

لست متأكدا. فعلا.. أنا لست متأكدا.

ينظر “الخواجات” بدهشة إلى حافلتنا ذات الأرقام العربية والحمولات التى تشبه قفف عمال التراحيل، وتزداد نظراتهم عجبا أو إشفاقا بما يتجاوز مجرد أرقام السيارة العربية، فكان علينا أن نحدس أننا فى طريقنا إلى السر الأعظم الكامن فيما فوق قمة هذا الجبل الذى لا يريد أن ينتهى صعودا.

فجأة يعتدل الطريق رغم استمرار ضيقه، فإذا بنا أمام لافتة مهملة، وإشارة مترددة إلى أن هنا مخيم “كذا”. وننظر فى الورقة، فإذا هو اسم المخيم الذى نبحث عنه، وإذا بنا أمام مجموعة من الخيم المتخاصمة، وأمامها بشر هم أقرب ما يكونون إلى تماثيل شمع متصلبة، بلا حركة، ولا صوت، ولا حياة، ولاشىء، مخيم هذا؟ أم منفى اختيارى؟. وهؤلاء الناس التماثيل: ما الذى أتى بهم إلى هنا؟ ونسأل عن الأسعار والمواصلات، فنجد الأسعار زهيدة، لكن المواصلات هى مرتان فى اليوم لا أكثر، 6صباحا، و7مساء (ثم: على ما أذكر، بزيادة مرة ظهرا يومى السبت والأحد). ونحسب أننا سنسلك نفس الطريق عائدين، وهذا مستحيل، ويضع الجميع أيديهم على قلوبهم خشية نزوة عناد مفاجئة يترتب عليها أن ألزمهم بالتخييم “هنا”، من باب التحدى، وإيذاء النفس (لتقويمها طبعاً!! تبريرٌ جاهز مرعب يعرفه الأولاد جيدا). ويخيل إلى أن حافلتنا الصغيرة الذكية قد استدارت وحدها أثناء حديثنا متجهة إلى طريق آخر، فأغمز لها أنْ “حاضر”، ولكن لا تعلنيها الآن”، وأطلب من المرأة (لماذا دائما امرأة؟) المسئولة عن هذا المخيم والواقفة منزعجة كالبومة المهجورة، أطلب منها أن نشاهد الخدمات أو نتجول قليلا، ما دمنا قد وصلنا حتى هنا، وتعرف بخبرتها وقراءة وجوهنا قرارنا الذى وصلنا إليه، قبل أن نصل إليها، فتقول: تشاهدون ماذا أكثر من هذا؟ هذاهو المخيم لا أكثر. وكأنها تقول: أنتم لستم “وجه” ذلك، وفعلا، لأن ذلك ليس كذلك. فأنا أتصور أن هؤلاء النزلاء هنا لا يخيّمون بالمعنى الذى ألفته، هم يمارسون نشاطا آخر يقطعهم عن العالم، شيئا أشبه بالخلوة فى غار، أو على جبل يعصمهم من العامة. طيب حلال عليهم، ونحن؟ ما لنا نحن؟

أتذكر قسوة المجتمع المعاصر واغترابه وإغارته على الوعى الفردى، وعلى الإبداع، وعلى التلقائية، بل وعلى الثورات. فحتى الثورات لم تعد تغييرا حقيقيا، بقدر ما هى نقل للسلطة وإعادة التسميات.  أحترم هذه “الهجرة” (فاعتزلوا الناس)- متذكرا الهجوم العنيف على ماسمى بجماعات التكفيروالهجرة، وأتذكر واقع المجتمع “المر” الذى رمى جيم جونس إلى غابة جوايانا فوقع فى “الأمرّ منه” (عكس المثل الشائع)،

أرفض الهجرة إلا إن كانت سوف تحمى صاحبها من الجنون أو الانتحار.

وحتى الجنون والانتحار قد يكون مواجهة أقسى وأخطر، لكنها أشجع وأكثر نذيرا من الهجرة الهروب.

المتألم أو المنتحر وسط الناس يلقى بتحدى فشله وفشلهم معه فى وجوه الجميع.

أما هذا الانسحاب الآخر بالهجرة فلا يُقبل إلا إذا كان مثل النوم الذى تعقبه يقظة، أما النوم الدائم كبديل عن آلام ومسئوليات اليقظة، فأبدا.

الوجوه هنا فى هذا المخيم تبدو من بـُعد، كأنها مستسلٍمة، فياترى ماذا بعد هذا الإستسلام؟. عودة إلى الكفاح واللغة العادية ؟. أم إلى مزيد من القوقعة والثقافة المتعالية؟. لست أدرى، حلال عليهم ما اختاروه لأنفسهم، ولكن نحن؟. مالنا نحن؟.

انصرفت المرأة البومة (الباشجاويش معا)، ما أبعدها عن المرأة المهرة فى مخيم فينسيا !!!انصرفت دون أن تنتظر نتيجة مداولاتنا التى انتهت قبل أن تبدأ. قفلنا عائدين، بعد أن أشاحت بيدها، ونحن نسألها عن مخيم آخر. أشاحت بيدهاوهى تدمدم، ليس مثل رجل مخيم سان ماركو فى فينيسيا، بمعنى: اللى يـّدور يلاقى. هذه الإشاحة كانت بمعنى، “اتفلقوا”، ولكن أحد الأولاد الذين يلتقطون الفرنسية أسرع، قال إنها تشير إلى أن ثمة مخيمات على الجانب الآخر من “نيس” فى اتجاه البحر، ويبدو أن من يريد البحر عادة ليس له فى الجبل، وكل فولة تبحث عن كيالها، هذه ليست فولتنا ولا نحن كيالوها. من فرط حرّية الحواجات يستجيب الواحد منهم إلى ماتطلب دون دخول فى أى تفاصيل، هذا هو ما فعله رجل الفندق (سعادة البيه) وصاحبه الشاب المتطوع. حين سألنا عن مخيم فى “بوليو” دلاّنا على مخيم فى “بوليو” ولم يفهم أى منهما أننا نقصد أى مخيم، فى أى مكان فى المنطقة، و”نيس” ليست بعيدة، والمخيمات ممتدة على طول الشاطىء، لكن الحق حق، أجابونا على قدر سؤالنا، هنا الكلام يقاس بالمسطرة ياعم صلاح يا جاهين،  ولولا هذه الدقة وعدم التقريب الذى يتميز به الفرنجة لما أتيحت لنا هذه الفرصة للمشاهدة الجبلية من أعلى الكورنيش الأعظم، وجاء امتعاض المرأة البومة من فرحتنا باحتمال وجود مخيم على الشاطئ متناسبا مع خيبتنا المفيدة، وكأنها تقول: إذا كنتم تسألون عن مخيم على شاطئ نيس فما الذى جاء بكم إلى هنا؟. (وكأنك تذهب إلى ملوى، وتسأل عن شاليه فى كنج ماريوط).

نزلنا من هذه المغامرة الخاصة جدا فى طريق شديدة الانحدار، ولكنها أكثر استقامة واتساعا لأنها متجهة إلى “نيس مباشرة”، عبر مرصد نيس، وقلنا جميعا.. حقيقة، “إن من لايعرفك يجهلك”. لو كنا نعرف، كنا ذهبنا إلى نيس، وهى قريبة جدا،  أولا ثم أخذنا هذه الطريق المختصرة!! لكن الله سلم.

اخترقنا نيس دون توقف، فإذا بها مدينة كبيرة، مزدحمة، قوية، نظيفة، لم أحبها لكنى لم أكرهها، فظللت طوال إقامتى بالقرب منها أكتفى بعبورها.

أخذنا نسير على الطريق الوطنىة المحاذىة للشاطىء، نعم هذا هو الكورنيش كما أعرفه فى بلدى، جموع الناس كثيرة جدا، ولكن ثَمَّ مكاناً لكل واحد، بلا استثناء، والحر بدأ يهل، ولكن ثمة نسمات منعشة تخترق عباءته فتهفهفها وكأنها تعتذر عن هذا الحر. وكنا قد قررنا- زوجتى وأنا- أن نستمر ليلة أخرى فى نفس الفندق بعد أن يقيم الأولاد فى المعسكر، كنوع من تثبيت الخبرة، وحتى “نبر”” أنفسنا. فنحن من الشغالة، ولسنا عالة على أحد. أما هؤلاء الأولاد… فلابد أن تكون المسألة محسوبة، قبل أن يتعودوا على الأخذ بلا مقابل، ثم إن فى ذلك ما يشير إلى رغبتنا فى الاستقلال عن الأولاد. تلك الرغبة التى ليس لها أدنى فرصة للنمو فى مجتمعنا. نحن نسمع عادة عن رغبة الأولاد فى الاستقلال عن ذويهم، ومقاومة الأهل لذلك، مع أن المفروض أن يترقب الأهل تلك الفرصة التى يستعيدون فيها استقلالهم عن عبوديتهم لهؤلاء الضيوف المستغلين من الأولاد العالة. ولا يعنى هذا تشجيعا لتفكك أسرى أو تشبُّها بأسرمفككة فى الغرب، وإنما هو تنبيه إلى أن قدرا هائلا من الضياع والجشع الذى يصيب الكبار، ويستعبدهم عندنا، إنما يتم تحت دعاوى “تأمين الأولاد”.

وجدنا المخيم فى بلدة وسط بين نيس وكان، اسمها فيل نيف Ville Neuve (أى: المدينة الجديدة). كان مخيما على مسافة خطوات من شارع الكورنيش، وهو دائرى منتظم، يتميز بأشجاره التى تحدد مربعات محددة، لكل نزيل به مربع مستقل بأشجاره المحيطة. وانتقينا مربعا خاليا، ثم ذهبنا إلى الإدارة على الجانب الآخر من الشارع حيث بعض الحجرات أشبه بموتيلات إضافية، وأمام باب الإدارة وجدنا رجلا فتيا فى غاية الصحة والاحمرار. وزوجته (فى الأغلب) تقف أمامه وهى فى نفس غاية الصحة والاحمرار، وبينهما أكل متنوع فى غاية الصحة والاحمرار (أيضا)، وهات يا عشق فيما يفعلون باستغراق رائع يحسدان عليه “بالهناء والشفاء” (بلا حسد والله العظيم!!)- وسألنا عن المدير ونحن نأسف لقطع هذا الاستغراق الفمّى المنهمك، فتحقق ظننا وقال الرجل الفتى الصحيح المُلتذ، وفمه ملئ بالهناء والشفاء: “أنا هو…”، ثم أضاف وهو يمضغ قضمة محترمة ” فيما بعد.. فيما بعد”، قالها غير ناظر إلينا حتى لا تنقطع متعة استغراقه فى مهمته الرائعة، فجعلت أبتعد وأنا أفكر.

أثناء انتظارى لهما حتى  ينتهيا من هذه المعركة منتصرين بالسلامة على هذه الأحياء المائية (على قدر ظنى)…جعلت أتعجب من علاقة إنسان هذا العصر بالأكل أصلا.. والمسألة تختلف عندنا عن عندهم، لكن ثَمَّ وجه شبه، ذلك أنى أحسب أن أغلبنا لايأكل، وإنما ينقل الطعام من خارجٍ إلى داخلْ، حتى لو استطعمناه، فهو لا يزال منفصلا عنا. فبعضنا يستطعم الطعام (إذا وجده)، ولكن ليس بالمعنى الحسى الحَمْدى البسيط (حمد الله وتقبيل اللقمة – النعمة)، وإنما بمعنى الانتصار الافتراسى الغنائمى، وأحيانا يخيل إلى أن الأكل لا يُستعمل للاستكفاء بالطاقة عن طريق التمثيل الغذائى، وإنما هو يستعمل لإقناع من يمارسه، هكذا، بأنه ما زال حيا.

بل إنى اكتشفت ذات مرة، وفجأة، أن الخوف من الموت جوعا، يكمن وراء كثير من نشاطاتنا عامة، ونشاطنا الغذائى بوجه خاص، ومهما كبرت أرقام البنوك، وأحجام الثلاجات، وأكوام المخزون، يظل هذا الخوف من” الموت جوعا” كامنا وراء كل التصرفات، ويمكن أن يرجع ذلك إلى تاريخ تطورنا أصلا، أو إلى  أخطاء إرضاعنا أحيانا. وكثيرا ما أتساءل: هل يملك  الرجل الغنى جدا معدتين”، حتى يملأ إحداهما، كما يملؤها الناس، ثم يتميز عنا بملء المعدة الأخرى بالأطعمة الخاصة السرية المشفّرة على أمثالى بأسماء عجيبة صعب حفظها. وحتى هذه الأطعمة” المشفّرة” مهما ارتفعت أثمانها، فلن تستطيع أن تؤكد لهذا الثرى تميزه النقدى عن طريق تميزه الفمّى الملتهِم”، فللأكل- كما للصبر- حدود، إذن ماذا؟. ولماذا؟. ويسرى هذا الخاطر قياسا على أغلب اللذات الحسية من جنس، وخدر الدفء والدعة… إلخ، فلكل هذه الملذات – وسبحان المانح المانع – حدود لا تتخطاها. فما معنى- إذن- التهام وامتلاك ما نطمع أن نتخطى به غير الممكن؟ وما معنى أن نظل نضيف كل ما عدا ذلك، إلى ما لايسع إلا ذلك؟

ولكن لابد أن للمسألة بعدا آخر… ولا أحسب أن مشكلة “قيمة الأكل ومعناه” هى مشكلة خاصة بطبقة دون طبقة، فاحترام اللقمة إذا سقطت على الأرض يبلغ حد التقديس. هى نعمة مقدسة لابد أن تـُرفع، وتقبّـل، وتلمِس الجبهة ثم توضع فى حنو، بعيدا عن أرجل الناس. كل هذا له مغزاه عند الغنى والفقير على حد سواء، واستشعار طعم الأكل من عدمه هو هو: سواء كان بصلة خضراء طازجة، أو عود سريس، أو كان كافيارا معتقا أو ضلع غزال.

تصورت  مرة وأنا فى أمريكا أتابع أحجام الأجساد المفرطحة (النسائية خاصة، وهن لابسات الجينز والشورت بالذات) أنها ظاهرة تمثل أرضية تدهورية تكمل وتبرر ظاهرة “العدْو وحيدا”، فبالرغم من زعم  أن هذا العدو يؤدى إلى النحافة، وأن الأكل يؤدى إلى البدانة، فهما وجهان لعملة واحدة، فكل منهما   يشير إلى الاستغراق فى دائرة ذاتوية لا تتعدى حدود الجسد الذى تألّـه حتى راح أغلبهم يعبدونه مستقلا عن كلية الوجود، ولو رأيت انتشار الآيس كريم فى نيويورك وبوسطن (مثلا)، ثم محلات أدوات العدو وملابسه،إذن  لتوقفت تتعجّب من  قدر التلذذ بهذه المبردات  وكأنك أمام جمهور من الأطفال المخدرين بأبسط أنواع الضحك على البطون…(فالعقول)، يفعل الناس ذلك معظم الوقت ثم يحمل الواحد منهم  همّ التخلص من آثاره الدهنية المترسبة فى خلاياه بالعدو وما إليه وهو يتفنن فى اقتناء الأدوات اللازمة لذلك.

أتذكر معنى الحديث أو الأثر عن الرأى فى امرأة زنت وتصدّقت ، والرد على فعلتها هذه أنه يا ليتها ما زنت ولا تصدّقت، على نفس القياس يحضرنى التعقيب على إنسان معاصر (أمريكىّ المعاصرة) وقد أكل هكذا- ثم راح يجرى (هو وكلبه !!- المنظر هكذا أحسن) ، فيا ليته ما أكل وما جرى .

ونعزم الأولاد ليلا على محل للآيس كريم فى مقابل الفندق مباشرة، وحين تكون فى بو ليو، فلتفعل مثل البوليويين. يقوم بالخدمة فى هذا المحل شاب وفتاة فى منتهى النحافة الجميلة، والرقة، والمداعبة، وأيضا فى منتهى التقبيل المتكرر. آسف” دعنى أستعمل تعبيرا أدق هو “اللثم على الماشى”، بل لعله “اللثم ماشيا”،( هل تذكر فتى وفتاة بلغراد اللذان خففا غم “بعد ظهر يوم سبت حزين- الفصل الثانى؟) نعم هذا هو:”اللثم عالماشى”،  فالولد يميل على البنت وهو يعد الأشياء وكأنه “يوشوشها” لكنه يلثمها، ثم يأخذ الصينية وعليها الطلبات ويمر من أمامها فبدل أن توسّع له، تحاوره بشفتيها، تلثمه، ثم تدعه يمضى، وهكذا طول الوقت، هات يا لثم، إى والله… ولا أستطيع أن أتقمص صبرهم على مجرد اللثم، ولكن يبدو أن الفرق بين “التقبيل الأعشى المغترب”، وبين هذا “اللثم ماشيا” هو مثل الفرق بين هذه الرشاقة والنحافة المتناسقة، وبين تنافر ردفين ضمهما جينز كالعباءة القديمة، يتأرجحان استهزاء بكل مقاييس التواجد البشرى المهذب.

يقدم لنا أحد العصفورين كتيب الطلبات المصوّر، وبه صور باهرة، فنشير إلى إحداها، فينبهنا الفتى “الكناريا” إلى أنها تكفى ثلاثة، قلنا: أوفر، وإذا به يأتى لنا “بطاجن” من البللور، وفيه كمية هائلة من هذا الذى كان ذا صورة جميلة، فنجد أنفسنا لا نستطيع جميعنا أن نأتى على ما فيه، تحدٍّ هذا أم كرم؟ أم خيبة بليغة؟

أتذكر- وأنا أمد يدى إلى داخل طاجن الأيس كريم، كيف كنت دائما أفضل أكل اللبن “الرائب” من الطاجن مباشرة، وكيف كنت أعب الشرش من حافته “وهو ينساب” ما بين القشدة واللبن ليحمى عينى ويرحمنى من الششم الأسبوعى ليلة الجمعة،

ولكن شتان…، فهذا الشئ الماثل أمامنا هنا لا يصلح إلا فى مزرعة لتسمين البشر… فى مشروع لإعاقة تفكيرهم بأثقال الدهن والجشع. لكن كيف تتناسب هذه المؤامرة مع احتفاظ هذين العصفورين اللذين يقدمانها برشاقتهما الرائعة؟ وقلت: إن الحرب خدعة، فقد يكون فى وجودهما فى هذا الموقع الحرِج، ما يطمئن الملتذين فميا إلى عدم السمنة بدليل أنهما غارقان فى وسط معمعة “الآيس كريم” شخصيا ومع ذلك فهما مازالا عصفورين يتلاثمان..، ونكتشف على الجانب الآخر من المطعم مرآة، بحجم المطعم، فنشاهد بشاعة نهمنا بطريقة متحدية، فنستعيذ بالله من ألم الرؤية، لا من جشع الالتهام،

ونوصّل الأولاد إلى المخيم بعد أن حجزنا فى موتيل قريب منهم، ونتركهم وهم يودعوننا ويرجون لنا إفطارا يعرفونه، طالبين منا أن نذكرهم بخير حينذاك، لأنهم راجعون إلى الحساء العظيم بكل تباديله وتوافيقه.

الجمعة 13 أغسطس 1985:

الموتيل المتواضع الذى نزلنا فيه، زوجتى وأنا. هو عبارة عن حديقة رحبة، على طرفها بناية شديدة النظافة والنظام، والغرفة منسقة رحبة، بها مطبخ وحمام، وملحق صغير لاستضافة صغيرين مع زيادة طفيفة فى قيمة تأجيرالحجرة. تأتى صاحبة الموتيل، وهى صنف ثالث من النساء، لاهى المرأة المهرة فى مخيم الألبادورو، ولاهى المرأة البومة (الـذكر) فى المخيم المنفَى الاختيارى فى أعلى الجبل على الكورنيش الأعظم فى “بو  ليو”، بل هى امرأة أقرب إلى العوانس رغم حضور زوجها الملازِم. كان زوجها رائحا غادياً طول الوقت، لا يكف عن الكلام واللف حولها، وكأنه يريد أن يتخلص منها بإغراقها فى بحر من حديثه المتصل وخطواته القلقة. ولكنه -فى النهاية – لا يبدو إلا مثل الفأر الواثق من نهايته بين أنياب هذه المرأة القط (العانس!!).

جاءتنى هذه المرأة متباطئة، لتعطينى مفتاحا آخر للحجرة، وجعلتْ تتلكأ وكأنها رجعت فى كلامها، وكنت قد سألتها عن مخيم أقرب قد ينتقل إليه أولادى السبعة، وسألتنى القطة العانس هل هم بالفعل سبعة؟ فأكدت لها الرقم، فعادت تقول: وهل سيزورونك؟ فقلت: هذا بديهى، فمن يحتاج منهم شيئا منى سوف يحضر كما يريد، وهنا ظهر ما وراء تلكئها، فانطلقت تضع الشروط، وأنه ممنوع عليهم استعمال السرير الإضافى، والحمام، وممنوع الصياح أو استعمال أراجيح الحديقة، وممنوع، وممنوع. فأخذتْ جرعة الاحترام التى عشتها يوما وبعض يوم فى ذلك الفندق المتحضر (فريزيا). فى “البقعة الجميلة” أخذت تتلاشى رويدا رويدا حتى ذابت عن آخرها، وبصعوية شديدة لملمت نفسى، وأفهمتها بحسم صارم أن كل هذا مفروغ منه، وأنى لا أسمح لها بافتراض ما لم يحدث، وبين الساكن وصاحب الخان: يفتح الله، “والمشروطة محطوطة”، فإذا حدث ما يخالف العقد فسأترك لها المكان والنقود غير آسف دون تنبيه منها، ولم ينفعنى اعتذارها بعد ذلك مباشرة، ولا بعد يومين وقد جاءت تتعجب كيف يزورنى طفلاى الأصغران دون ضجة أو صوت أصلا، وأخذت تسألنى كيف ربيتهما هكذا، ولم أرد عليها أصلا، وبعد إلحاح أفهمتها أنى حكيت لهما ببساطة قلة ذوقها معى، فأعطياها هذا الدرس فجعلتْ تصفنا بأننا أناس متحضرون، وأننا نمثل تربية “زمان” ولسنا مثل فرنسيىَّ الجنوب الذين يأتون من مارسيليا، فيقلبون لها الدنيا بأطفالهم الذين لا يستجيبون لأى نصيحة أو توجيه، وقلت لنفسى: ما هذا كله ياولد؟ لعله خيراً.

لا أخفى فرحتى بهذه الشهادة التى تتفق مع حساسيتى الشديدة ضد ما يسمى بالتربية الحديثة المستوردة، التى جعلت الطفولة مرتعا لكل شىء، وللا شىء. كنت دائما أشك فى جدوى الفرص التى يأخذها الطفل الغربى بلا حدود، ثم مساره ونهايته  أخلاقيا وإدمانيا وانعزاليا فى كثير من الأحيان بما لا يتفق مع كل ما نال من رعاية وفرص،

جاءت “القطة العانس” فى اليوم التالى تصبّح على العبد بالله برقّة أخجلتنى من تسميتها بهذا الاسم القاسى، ثم بدأت بالقول بأن ثم “خطأ فى الحساب”، فنظرتُ إلى زوجتى وكأنى أقول لها: ألم أقل لك إن هذا الثمن المتواضع غير معقول؛ ظنا منى أن الخطأ كان فى أننا ندفع أقل مما ينبغى، فأبديتُ استعدادى لدفع الفرق حتى لا أبعد عن الأولاد أكثر، لكنها أخبرتنى أنه ابتداء من الغد (أول سبتمبر) ستكون الغرفة أرخص (حوالى 20%) لأننا سنكون فى نهاية الموسم. ورغم نفورى الجاهز من  المرأة القط، فقد احترمت أمانتها وكيف أنها تخفض الأجرة متطوعة؛ لأن الأصول هى الأصول، والقانون هو القانون، وتمنيت ألا ننسى هذه اللمسات الدالة فى معاملتنا لضيوفنا السواح…، وعلى الرغم من كل ذلك، فقد ظلت هذه المرأة لا تنزل لى من زور طول الإقامة..، كله إلا قلة الاحترام يا ناس. نعم كله إلا قلة الاحترام. ويا حبذا لو سمعتنى حكومتنا السنية.

أنا أعتبر الاحترام والمسئولية هما أرقى ما توصل إليه الكائن البشرى من رقى العواطف، دعك من حكاية الحب، والحنان، والشفقة والحرية وما شابه، كل ذلك لا يقارن بروعة “الاحترام”… وشرف المسئولية، هذا شئ آخر..هذا هو ما يبنى الأمم والناس والله العظيم يا حضرة الحكومة، بل إنى أضعهما كأساس وجدانى معرفى لما يميز التكوين البشرى.

“روعة الاحترام” وشرف المسئولية، هذان هما العاطفتان البشريتان الجديرتان بتمييز الإنسان، تمييزنا.

لا يا شيخ!!؟  ربك يستر.

كان لبعد الأولاد عنا فضل فى مزيد من الاستقلال بما يسمح بالحركة التلقائية منا. فما أن انتصف النهار حتى تسحبتُ إلى الشاطئ المجاور أستكشف وأرى،

اتجهت كما أشاروا علىّ بعد السؤال، بعد بضع خطوات كدت أتعثر فى سور جميل من خشب جميل، فترددت، وتصورت أنه شاطئ خاص، لكن، أبدا. دخلت وأنا أتلفت، وفجأة وجدت نفسى فى وسطهم تماما كما كنت أسمع، وأكثر، وكدت أطأطئ رأسى فزعا وخجلا، ولكن كيف سأغفر لنفسى لو أنى تركت هذه الفرصة تتسرب من بين أصابع وعىى. ثم ألست أدعى أنى المغامر الدائم فى اتجاه “ما ليس كذلك”.. وهذا هو أمام عينى. وتقدمتُ وأخذت أنظر فى الوجوه أولا، وجوه الرجال أولا ياسيدى، وعيون الرجال. فعجبت أشد العجب أنها ليست كعيونى، وحاولتُ ـ من باب التيقن- من فرضٍٍ خطر ببالى: رحت أجرى التجربة فأوصل خطا مستقيما- أو منقطا- بين اتجاه عينىْ أى رجل مثلى، وبين الهدف الذى فى ذهنى. لم يتحقق الفرض. كل الرجال ينظرون إلى حيث يقع نظرهم، لا أكثر، ولاأحول(!) .لماذا أنا أنظر إلى حيث لا ينظرون؟ إما أنهم ليسوا رجالا، وإما أنى مثل الذى عمره لم يأكل لحما، فلما رأى ما رأى..، حدث لعيونه هذا الحوَل الخاص

ما باليد حيلة. لا بد أن أكمل لأعرف ماذا يجرى مما لا أعرف، وكيف تحول هؤلاء الرجال إلى ما يجعل عيونهم عادية فى هذه الأحوال غير العادية، إلى هنا… والأمر لم يتعد اتجاهات العيون. كما أنى، على الرغم من المحاولات الصادقة، لم أستطع غض البصر؛ لأننى كلما غضضت بصرى، (أى أنزلته إلى الوضع هابطا) وقع على “نفس الشىء” أسفل مستوى النظر وهو ملقى “هكذا” فى أشد حالات التمام أو حسب الحالة. ولم يكن ثمَّ احتمال أن أغمض عينى بالكامل. وقد أحاطنى هذا الـ “هكذا” من كل جانب. وهنا زاد تصميمى على عدم الانسحاب. وحتى لو أردتُ الانسحاب مغمضا فإنى سوف  أتعثر فى أجساد حية واعية ناطقة عارية حرة، بل “محترمة” فى أغلب الأٍحوال، وساعتها، لا أحد يدرى ماذا يمكن أن يصيبنى من عواقب غير حضارية، أو ماقد  أجره على أمّتى من صفات ليس لها ذنب فيها. فرحت أقرص فخذى لأتذكر أننى لست “أمة المصريين” ولا “أمة لا إله إلا الله” ولا “أمة البشر”، أنا لا أمثل أحدا فى هذا الموقف ـ أو أى موقف ـ إلا شخصى، ولم ينفع القرص. فمازلت أعانى من هذه الأوهام بشكل أو بآخر.

قلت: أسهل طرق الهرب هو الاقتحام السريع إلى داخل البحر، وبما أنى لا أعوم، فثمة فرصة للنظر تجاه بلدنا العفيفة الشريفة على الشاطئ الآخر وبالتلى أحوّل النظر مل دام غض البصر لم ينفع. ثم إنه لو  تحوّل البصر بالرغم منى نحو  الشاطئ الأوربى،  فثمة فرصة للغطس مغمض العينين ، أسلم شىء. وفعلا،  فاستطعت أن أتوقف وأهدئ أفكارى لأستعيد ما جرى لى بالسرعة الأبطأ.

رويدا رويدا، زالت حدة المفاجأة، وظل الشعور بأن هذا الذى رأيت هو أقل جمالا مما يحسبون، ويحسبن، فلماذا كل هذا العرى، كان أكثر من نصف النساء على الشاطئ قد تخلصن من أى شىء، أى شىء، يستر نصفهم الأعلى، وجعلت أرى أُمًّا لأطفال ثلاثة، وهى تلاعبهم قرب الشاطىء، وتنحنى عليهم، وهى “كذلك”، وزوجها بجوارها، وتذكرت جاموسة جسيمة فى حظيرتنا، تعمل نفس العمل بنفس الطبيعة مع ابنتها، دون أن تثير الفحل إلا إذا “طلبت”، وكنت أفرح من منظر هذه الجاموسه.. تلحس ابنها الرضيع أثناء رضاعته فى حنو بالغ، إلا أن هؤلاء الأطفال الثلاثة- هنا- كانوا قد تخطوا سن الرضاعة. ومع ذلك فثمَّ وجه شبه،

أقول: رويدا، رويدا، رويدا (لاحظ: زادت واحدة) كدت أنسى تماما كل هذا الجديد، لأنهن، على ما يبدو، قد نسينه أصلا، ولأن كل من حولى قد نسيه أيضا. وتعجبت- بصراحة- لسرعة تأقلمى هكذا فى أقل من نصف ساعة، حتى رحت أتصور أن هذا الذى يجرى حولى هو أمر طبيعى”لهم” وأن مجرد ستر بعض الأجزاء لا تفرق معهم، بل لعل العكس هو الصحيح. لأن زيف “روافع الثدى” يغطى آثار الزمن “وسوء الإستعمال”، فيضاعف الخداع!!.

ما كدت أعتاد كل ذلك حتى وجدت مقلتى عينى قد استقرتا فى محجريهما مثل سائر الرجال، اللهم إلا عن فتاة فى عز الشباب، قد استلقت فى عز الشمس، على عز الزلط المتعدد أشكاله، فى جمال فائق (أعنى الزلط، ومن عليه) جعلت هذه الفتاة – دون مناسبة عامة !!- تعبث بحلمتىْ ثدييها الواحدة تلو الأخرى، وهنا قلت “لا”. قد يكون عرى النصف الأعلى طبيعيا حسب عاداتهم، وحتى النصف الأسفل، خلِّها تكمل، وقد يكون هذا أقرب إلى جاموستنا الجميلة وابنتها الحلوة، ولكنى لم أر جاموستنا تعبث هذا العبث المثير والخاص جدا “بموضع حساس” مثل هذا، وقلت فى نفسى: الذى يتعرى، يتعرى، هو حر، أما هذا” الاستلذاذ الذاتى الثديى العلنى”، فقد تعدى الحدود، لكن.. أنا مالى؟، واحدة مبسوطة من بعض جسدها الفائر إلى هذه الدرجة، تشبع به.

استدرتُ إلى اتساع البحر الكبير وعاودت حوارى معه، ذلك الحوار الذى يتواصل كل صيف، نفس بحر بلدنا، نفس الرائحة، ونفس الريح، ونفس الهمس، ونفس التحريك، ونسيت الأرضية البشرية خلفى، واتجهت إلى التقاء الأفق بسطح الماء، فجعلت أكمل ما قد بدأتـُه من سنين، وأنا أعتبر العجز عن العوم – جدا- مزية لمن ينزل مثلى ليتعرف على أصله، لا ليمرن عضلاته،

كلما نزلت إلى البحر… أخذت أنسحب إلى نهايته، على حد حدسى، لا على حد معلوماتى الجغرافية، فأتراجع فيه إليه، وأترجّـح معه به، وأستشعـر الفرق الجوهرى بين حمام السباحة الغريب عن كيانى، وبين هذا الكيان الحى النابض، وأعتقد أن جُماع حركة الموج من تحت السطح، مع رائحة الحياة الخاصة المنبعثة منه، هو ما يحرك فىّ ذلك البعث القديم لموج داخلى يمتد إلى تاريخ لا أعلمه، وبصراحة، فأنا إذا سئلت من أنت، وإلى ماذا تنتمى؟ ومن أين؟ لما استطعت الإجابة طبعا. لكن إن كان للحركة هوية، وكان للحياة رائحة، وكان للسعى نظام ، فهو إجابتى آملا أن أنتظم موجة  فى  الكون الزاخر، ومن لم يستطع أن يلتقطنى هكذا فليتصور مجازا نغمة تبحث عن مكانها فى اللحن الأكبر”، لا.. لستُ كذلك، الحقيقة أبلغ من المجاز،

أقرأ مؤخرا (مع مراجعة هذه الطبعة الثانية) فى كتاب” المعنى والأسطورة” (فراس السواح) فأستشعر كيف كان الآلهة”يمزجون أمواههم معا”. الماء بداخلنا يتحرّك ونحن لا ندرى بما يولّده فينا باستمرار.

للبحر رائحة ليست هى رائحة السمك ، ولا رائحة العشب، ولا الصخر. هى رائحة البحر. حين تمتزج رائحة البحر بأنفاس مياهنا الداخلية تتولد حياة لا توصف إلا بأنها “الحياة” . امتزاج رائحة البحر مع حركة أمواجه  تحفز مَنْ لا يعوم مثلى أن يقفز معها كطفل يلهو، فإذا بها ترفعه وتهبط به، لتسحب حسه إلى سُرَّة الكون، حين أنزل البحر لا أحتاج أن أتذكر إن كنت أعرف العوم أم لا (حتى بعد أن تعلمت العوم على كبر). أنزل البحر لأصافح الموج وأحاور الكون.

يناسبنى أن يكون الموج هادئا أو هائجا، بل إننى أحسست يوما بأن الموجة العباءة هى أحنى علىّ إذا ما كان البحر هائجا، كانت تلطمنى ثم تحتوينى،وكأنها تدربنى على حقيقة “ما ينبغى” إزاء طبيعة “ما يجرى” كانت موجة حنون وفى بحر هائج”، تغُمرُنى، تذوبُ قطرتى ببحرِهَا، أغوصُ فى مَدَارِهَا، تَدْفعَِنُى. أتوهُ فى رحابِ صدَها، فَتَنْحَنَى، فَاَنْحَنى لَهَا. تلطمنى، تردَنى، متى ترانى أمَىَ الحنون؟ أطلْ من تحت الوِسَادهْ. تبتسمْ. فألثم الرذَاذَ والزبدْ.

نسيت فى انجذاب صلاتى للبحر كل ما حولى وخاصة من  العاريات الشائهات، وحين انتهى هذا المقطع من حوارى الذى لا ينتهى مع موج البحر والحياة والتاريخ، خرجت منتعشا متجددا، وانتبهت إلى أن الحال كانت لاتزال كما تركتُها. وهل كنت أنتظر أن يتغير شئ لمجرد أننى قد أهملته وتجاوزته؟. نعم تجاوزته حتى اعتدته بسرعة. وجعلت أتعجب أن تُختصر معركتنا مع الغرب إلى المعايرة بمثل هذا النكوص، الذى قد تكون له دلالة خائبة، أو قد لا يكون له معنى أصلا إلا أنه بدعة سرعان ما ستُنسى أو تختفى، هذا ليس هو مربط الفرس، ولا ينبغى أن يكون، إذ يجدر بنا أن ننتبه إلى أن معركتنا معهم أعمق وأخطر من العرى واللاعرى، إنها تتعلق باختلاف جذرى فى موقف كل منا من الكون عامة، وفى هذه الحياة ضمنا، وهو اختلاف يغير طعم الحياة وطبيعة مسارها، من أقصاها إلى أقصاها.

رجعت إلى زوجتى وحكيت لها أغلب ما حدث لى، ومنى، فاقشعرتْ مقدما، أو احتياطيا، فعرضت عليها أن تأتى وتتفرج هى بنفسها، وما راءٍ كمن سمعَ. وأخذت أقنعها أنها فرصة لا ينبغى أن تفوتها. وبعد لأى شديد، وافقتْ على مضض، ومرتْ، ورأتْ، ورفضتْ، وتقيأتْ، أعنى كادتْ وجعلتُ أحاول أن أنقل إليها ما مر بى من أفكار وتحولات، وأفهمها أنها لم تسمح لأى احتمال آخر أن يهز موقفها المسبق، وأذكـّرها بجاموستنا الطيبة و ابنتها الظريفة، ولا فائدة. أما أولادى وبناتى فقد رفضوا أصلا أن يذهبوا. وحين ألمحت أن هذا ربما يكون أمرا طبيعيا بالنسبة لهم، قالت منى يحيى، ابنتى (حيث معنا منى السعيد ابنتى أيضا) “أبدا”. فقد سمعتْ من صديقتها الفرنسية التى تقيم فى إحدى ضواحى جنوب باريس (سيأتى ذكر زيارتها لاحقا) ومن أقاربها المقيمين فى مقاطعة “بريتانى” شمال فرنسا، أن مثل هذا العرىْ مرفوض منهم أيضاً، وأنهم يعتبرونه مقزِّزا مثلنا سواء بسواء.

استفدتُ شخصيا من الخبرة بكل ما فيها، على الأقل… فإنى لم أسمح بموقف مسبق أن يحول دون أن أعيد النظر، وأن أعتاد النظر، ثم أن أغض النظر..، وعموما فقد كنت وما زلت أعتبر أنه لا علاقة بين العرى والجنس، بل أحيانا أتصور أن ثمة علاقة عكسية.

استعراض التعرى (الاستربتيز) هو الوحيد الذى سمحت لنفسى أن أقبل الدعوة إليه فى باريس. لم أتحمله أكثر من بضع دقائق وانصرفت قبل أن يتم العرض، شاعرا أنه “ليس بشىء”. لا حرية، ولاجمال، ولا طبيعة، هو مجرد امتهان للجسد البشرى، لأنه “عرى للبيع”، أما هذا العرى النصفى هنا، فهو أقرب إلى الطبيعة والاختيار، وأنا أرفض كل شئ إنسانى للبيع، وأتحفظ ضد كل ما هو ليس اختيارا، ولو بدرجة ما، ونحن نثور ثورة مضرية ضد مظاهر احتمال عرض الجسد أو بيعه، ولا نتحرك – بدرجة كافية – إزاء بيع العقول والكرامة والرأى، مع أن هذا البيع الأخير لا يتم فقط بمقابل دنيوى، بل قد يكون بمقابل أخروى كذلك. أنا لا  أتصور أبدا أن الله – سبحانه – قد خلق لنا فكرا لنسلمه لغيرنا بأى مقابل. أيا كان هذا المقابل، وما أخفى الشرك بأنواعه إلا على الوعى اليقظ بلا حدود. نعم كنت أرفض كل بيع.

كم كان نشازا تدهوريا أن أقرأ فى واجهة بعض محال سان فرانسيسكو لافتة تقول: “تفرج على عذراء عارية بدولار واحد”، وبقدر ما حاولت أن أفهم معنى ذلك أو فائدته، عجزت، وجزعت، الجسد البشرى، (والعقل البشرى بعض نتاجِه) أصبح فرجة بدولار، لماذا كل هذه المهانة؟ هذا هو الذى احتاج منى الرفض والغثيان، وليس ذاك العرى الاختيارى على الشاطئ من أم مع أطفالها،

ثمَّ بيع آخر لم أقف منه نفس موقف الغثيان، ربما لأنى عشت بجواره  مدة أطول حتى ألفته، هو بيع الجنس، لا الجسد. وأحسب – من عمق ما – أن بيع الجنس أكرم عندى من بيع كرامة العقل وشرف التفكير، وأكرم طبعا من عرض الجسد عاريا للفرجة بدولار. أنا لا أدافع عن دعارة معلنة أو خفية، ولكنى أتذكر بعض تأملاتى فى هذه المسألة المغلقة علىّ حتى تاريخه،

مازلت أذكر خبرتى فى باريس (1968/1969) حين سكنت لأكثر من شهر كامل فى فندق بحى كليشى (التقاء دوّارىْ : 71، 81)، وهو أقل شهرة من “البيجال” فى “هذا المقام”، لكنه أخطر وأجمل، لمن يعرف أسرار باريس. أما سبب سكنى فى هذا الفندق (المزعوم) فهو أنه كان أرخص الفنادق جميعا (الحجرة مقابل 21 فرنكا فى اليوم). أما سبب الرخص- كما تبينته فيما بعد- فهو أن حجرات الدور الأول، كانت تؤجر بالساعة، أو بالمرة لطلاب المتعة من كل نوع، لذلك، ولأسباب قانونية تمويهية، كان لزاما على صاحبة الفندق أن تشغل الحجرات الأعلى بأمثالى ممن هم على الحديدة، مقابل هذه الفرنكات الزهيدة، وكثيرا ما كنت أشاهد وأنا فى حجرة الاستقبال أنتظر تليفونا من مصر، أشاهد فى الحجرة المقابلة  الزائر(إياه)  والباب نصف مفتوح، وهو لم يحكم ضم أزرار سرواله بعد، وحين كان يطول انتظارى لتأخر المكالمة مثلا، كنت أتابع الداخلين والخارجين، هذا ربع ساعة، وذاك خمس دقائق، وهذا نصف ساعة. وتخرج “السيدة” دائما قبل الزبون وتترك الباب نصف مفتوح، حتى لا حظت صاحبنا وهو مرتبك يحكم قفل أزرار سرواله. رحت  أتأمل وجهها، حيث كان هو الجزء الذى يعنينى من جسدها، وفى كل مرة أتساءل عن شعورها، ودورها، ومعنى كل هذا “الغلب” الأزلى… ولا أجد جوابا واحدا، أو جوابا ناجعا،

ذات مرة داهم البوليس هذا الفندق بجوار ميدان كليشى، وتصادف أنى كنت موجودا فى حجرة الاستقبال، فسمعت نقاشا بين هذه السيدة، “النشطة” فى منظمات حقوق الجسد الإنسانى الحر، وبين ضابط البوليس. راحت تصيح فيه  وهى تحتج صارخة أن مهنتها هذه ـ مهنتهن ـ هى أقدم مهنة فى الوجود، وأنها مهنة موجودة منذ وجد البشر، وأنها أقدم من الزواج وأبقى، وتعجبت من فصاحتها وصدق دفاعها المجيد عن “شرف المهنة”، وأشفقت عليها، ثم رفضت شفقتى إذْ تصوّرتُ أنها لوعلمتْ بها لألقتها فى وجهى، وفى اليوم التالى افتقدت تلك السيدة الفصيحة، فسألت عنها صاحبة الفندق بتردد شديد، وضحكت المرأة بصوت ممطوط فقد كانت من وسط فرنساـ الميدى، وهى مقاطعة يقولون عن أهلها إنهم يغنون حين يتكلمون، من كثرة ما يمطون الكلام، ضحكت وهى تقول لى :”ما عليك، ستسوى أمورها حالا”، ثم أردفتْ، “ولكن لماذا تسأل؟” وقلت لها: لمجرد أن أطمئن عليها. فضحكت من جديد لأنها على يقين أنه ليس لى فى “ذلك الأمر”(هكذا) شىء، ولم أرتح إلا حين عادت “الفصيحة” لمزاولة نشاطها بيقين أوثق، ليعاودنى التساؤل والرفض والتعاطف وعدم الفهم، كالعادة.

يبدو أن هذه الفترة وهذه المهنة شغلتانى بعمق خاص. فحين حضر زميل لى إلى فرنسا نفس العام، وكنت قد حجزت له حجرة فى نفس الفندق بعد أن غادرتُه، نبهتُه أن يحترس؛ “لأن المرأة منهن قد تلتهمك”. كنت أمزح، ولكن يبدو أن وعيه أخذها جدا (جدا)، فحكى لى فى اليوم التالى حلما طريفا: حلم كأن المرأة – مديرة الفندق، وليست إحداهن.. قد استحالت (أو بالذات: الجزء الذى ترتزق به من جسدها قد استحال) إلى فكٍّ مفترس، أخذ يقترب من صديقى (رحمه الله) ليلتهمه – فى الحلم، وعجبت كيف ترجم صديقى تحذيرى العابر الهازل بهذه السرعة إلى تشكيل حالم معبر بكل هذه الصورة العيانية الدالة.

عدت إلى الكوتدازير أواجه عجزى عن الحكم الجاهز حتى على العرايا اختياريا، تعليق الحكم هكذا معظم الوقت هو  أحد وجوه عجزى (الذى أفخر به) عن دمغ الناس أو السلوك أو العقائد لمجرد أنى لا أعرفهم، أو لا أعرفها، أليس الأولى أن أستوعب الاختلاف ابتداء؟ وأن أتقمص المُخالف ولو بعض الوقت؟ وحين أعجز عن هذا التقمص لصعوبة أعرف مصدرها أو أجهله، ألا ينبغى علىَّ أن أعلق الحكم نتيجة لعدم توافر المعلومات؟. كم أدى بى هذا الموقف إلى الانتقال من رأى إلى رأى – كما ذكرت- حتى لاحظتْ ذلك ابنتى، فوصفتنى ذات مرة وهى عاتبة أو رافضة، بل مازحة ربما بأنى “ليس عندى شخصية”، وألحقتْ ذلك باعتذار أنها لا تفهم كيف يجتمع ذلك مع متانة موقفى ومثابرتى.

تفسيرى لذلك الذى لم أقله كله لها، دفاعا عن اتهام ابنتى لى، أو وصفها لى، هو أننى أتصور أن شخصيتى المتعددة التوجّه تبدو كذلك، لأنى أعرف اتجاهى، وحركة الحياة  فىّ، ولكنى لست وصيا على محتوى “طريقة” سيرى فى هذا الاتجاه. (انظر الترحال الثالث إن شئت) نعم ليست لى شخصية تسجننى، ولكنى واثق من اتجاهى نحو كل ما هو حياة، أو حركة، وأمام. ثم اكتشفت أن هذا هو بعض ما يجعلنى أتقلب على جمر الوحدة باختيار واع. فهذه زوجتى ما زال الغثيان يغمرها بمجرد السيرة – وهؤلاء أولادى يرفضون أصلا أن يتعرفوا على وجه آخر، وأحترم ثقل الجرعة بالنسبة لهم، ولكنى أتساءل: هل ستزيدهم الأىام شجاعة وقدرة على الحوار.. أم ستزيدهم تعصبا وتمسكا بالآمـِن والثابت؟. والأرجح عندى أن الاحتمال الأخير أقرب إلى ضيق الأفق الذى يحيط بالحياة العقلية فى مصر والعالم من كل جانب. وأتذكر “صفية” المومس الطيبة فى روايتى “المشى على الصراط”وكيف أنها، وهى الشخصية الخلفية فى أرضية الرواية قد نجحت فى شد انتباه كل من قرأ الرواية أكثر من الشخصيات الأساسية. وجعلتُ أراجع نفسى بهدوء وأحاول أن أثيرها “ضد” أى شىء، فلا أستطيع. اللهم إلا ضد التعصب والاستغلال. وأعترف أنى مازلت لا أفهم أمورا كثيرة حول هذه الأمور. يزداد الأمر تعقيدا حين أحاول أن أغوص فى مسألة الشذوذ الجنسى (رغم كونه جزءا من تخصصى).

ذات مرة وأنا أقيم فى نفس الفندق مع زميل لى، تراهنا على نوع إحداهن (هكذا قلت) فى حين أن زميلى كان يؤكد لى أنه أَحَدَهُن!!، وليس إحداهن. فأصرخ فيه، وماذا عن الثديين؟. فيقول معاندا: “صناعى” (عيرة). ومرة أخذنا نلف حوله (حولها) من بعيد، لعلّنا نرى ما يجعل أحدنا يكسب الرهان، ولكن لا فائدة، وحين هممنا بسؤال السيدة صاحبة الفندق، تراجعنا فى آخر لحظة خوفا من سوء الفهم. أيضا، ولم نتحقق من منا  على صواب أبداً، كان لابد من إقدام استكشافى تحت زعم آخر، لم أكن أنا ولا هو مستعدان له.

راحتْ كل هذه الذكريات تلف فى عقلى وتزيدنى حيرة، وتستدعى خبرتى الأخرى فى سان فرانسيسكو بالذات، حيث هناك الحى المسمى “حى الرجال”، ومقاه للرجال فقط،، “ونواد” خاصة، بل إن ثمة نشاطا سياسىا واقتصادىا أصبح يمثل قوة ضاغطة فى الانتخابات. ويقال إنهم أثرياء جدا لأنهم لا يضيعون ما يكسبون على تكوين الأسر وإنجاب الأطفال، وقد راجعت كل ما أعرف فى هذا الأمر من منطلق تخصصى الطبنفسى، فلم يقنعنى شئ يبرر هذا التمادى، وهذه العلانية، حتى خطر ببالى أنه نوع من التحدى الصارخ الذى يحاول أن يكشف كذب العلاقة النمطية بين الرجل والمرأة، وكأنهم يقولون لنا ” إن علاقة الرجل بالرجل، أوالمرأة بالمرأة، هى علاقة خالصة لوجه الود، واللذة، بلا صفقات؛ فلا دعارة، ولا بنات ، ولا بنون… أما علاقتكم أنتم: فهى تجارة معلنة أو خفية.

وأغلق هذا الموضوع دون حل، ويظل فى النفس شئ منه، مهما طال الزمن.

بعد الظهر، نزلنا إلى نيس نتعرف عليها. كنا حول السابعة، واتجهنا إلى ما قيل لنا إنه الميدان الرئيس، ميدان “ماسينا” على ما أذكر، وبعد أن ركنا السيارة وجدنا سلالم رخامية، فصعدنا وإذا بنا فى ساحة جميلة، ولكن ليس بها كالعادة “سريخ” ابن يومين. مع أن الدنيا كانت تضرب تقلب فى الشوارع، ثم شدت انتباهى مقاعد رخامية بينها مناضد من فسيسفاء (فى الأغلب، فأنا لا أعرف ما الفسيفساء) فناديت على الأولاد، وقلت لهم: انظروا، لا يوجد غيرنا، وهاكم لوحة الشطرنج، بل لوحات الشطرنج لمن يلعب.  نحن فى  بلد بهذه الضخامة، يلفها بهذه الروعة، تكرم ناسها بفرص بهذه الوفرة. وقبل أن أواصل الخطابة ينبهنى ابنى – من خلال لافتة قرأها لاحقا – إلى أن هذا المكان ممنوع التواجد فيه بعد السابعة مساء، ونظرت إلى ساعتى فإذا بها السابعة والربع، فخجلت من نفسى، وأسرعنا بالنزول، وتعجبت أنه ليس مكانا مغلقا، وليس ثمَّ شرطى لتنفيذ التعليمات، ولكن مجرد لافتة، وينتهى التواجد، سبحان الله… هذا هو سر أنه لم يكن ثم “سريخ” ابن يومين!!

مع نزولى تاركا لوحات الشطرنج ورائى، وأنا أدارى خجلى، أتذكر لاعبى الشطرنج فى ميدان واشنطن بنيويورك. وهو ميدان خاص قريب نسبيا من قرية جرينويتش (هو الحى المقابل أو المقلدّ لـلحى اللاتينى فى باريس) من جهة، وقريب من المدينة الصينية والحى الطليانى من جهة أخرى. وحديقته المتميزة تتميز بالعروض المختلفة الجنسيات، والألعاب الراقصة والتلقائية، مما يذكرنا بحديقة المخبأ (هايد بارك) لندن. وأنا – عموما – أعجب بلاعبى الشطرنج، وأرفضهم. والذى يشاهد مجموعات الشطرنج من النحاس فى بيتى (من مختلف البلاد) يحسبنى من محترفيه. والواقع أنى أقتنيها تحت زعم أنها مصنوعة باليد. لأتأمل الفروق بين الجنود والملوك والحاشية، فى سائر البلاد، لكنى أرفض لعبة الشطرنج التى تمثل عندى اختزال العقل البشرى، إلى ما يمثل جانبا حاسبا من نشاط العقل الحسابى الرقمى المُغير على ما هو دونه.

أذكر أنى أحببت الشطَّرنج حتى كدت أتقنه فى فترة من فترات طفولتى حتى المراهقة. ولكن ذلك كان تحديا لوالدى الذى حرّم دخوله منزلنا، وكان يصفه بأنه “نجاسة خنازيرى”؛ لأنها ـ فى رأيه ـ تفوق “النجاسة الكلابى”. ومرة رأيته يطيح بقدمه بلوحة شطرنج ضبطها بمنزلنا، بكل ما عليها، ومن عليها. ولم أفهم سر ذلك أصلا، فرُحت – معاندا -أتعلم اللعب وأحاول أن أتقنه. ولكنى حين كبرت وتأملت، وعلمت أن زوج عمتى يتقن هذه اللعبة ويمارسها ويكاد يحرز فيها بطولات، تصورت أنه -زوج عمتى – قد قهر والدى فيها ذات يوم، فكان ما كان من كره والدى لها. وكان والدى من لاعبى الدومينو المميزين، فلماذا هذا التحيز ضد الشطرنج؟.

حين كبرت أكثر سألته مباشرة عن سر كرهه للشطرنج، فأجاب بأنه طاقة عقلية مُهدرة، قال يعنى من كثرة ما نستعمل طاقاتنا العقلية فى موضعها طول الوقت!!.

عندما كبرت أكثر فأكثر، بدأت أستوعب جوهر موقف والدى دون موافقة على ظاهر سلوكه، وجعلت أتصور أن كثيرا من البحث العلمى، بل النشاط التعليمى، ليسا إلا نوعا من لعب الشطرنج الذى ينبغى أن يرفض أصلا باعتباره “طاقة عقلية مهدرة”.

فى تأهيلى لمرضاى، نادرا ما أنصح بالشطرنج بالذات!!.

نعود من نيس، وقد جُعنا. وتهف رائحة الحساء على أنوفنا، فتثير حساسية خاصة، لدرجة أن يحك البعض جلده، ويمسح البعض أنفه، وتكاد تدمع عيون الباقين. ويذكر الأصغران (أحمد، وعلى) أنهما لمحا مطعما صينيا بالقرب من المخيم. وأنا عندى نقطة ضعف تجاه أى شئ صينى، وتجاه مطاعمهم بالذات. فأعزمهم على العشاء احتفالا بالاستقرار المؤقت، ولكن بشرط أن أدفع لكل منهم ثمن الطبق الرئيسى فقط. أما أى زيادة- بما فى ذلك السلاطة والحلو- فعلى حسابهم. وأنا أعلم مسبقا أن ثمن طبق السلاطة فى فرنسا قد يفوق ثمن الطبق الأساسى، ويقبـَلون، ولكنهم يبرون أنفسهم بطلبات إضافية إلى درجة جعلتنى أندم على العزومة ما داموا هكذا قادرين، ويقرأون ذلك فى عينى، وفى معنى طلبى طبقا رئيسيا رخيصا واحدا. فقد  تصورت أنى حين ألتزم سيلتزمون، لكنهم أفهمونى أنهم سيضحون بوجبتين كاملتين مقابل التمتع باللحظة خارج نطاق الحسابات،

يداخلنى خوفى المتربص بى أن أكتشف زيف كل ما أدعى بشأن تربية أولادى، خصوصا وأنى أقيس صدقى بما يكونونه، يا للتحدى الأعظم: أولادى.

كيف سوف يكون موقفهم من قضايا القرش والعدل والناس، والعمل والإبداع؟

أنا لا أعتبر هذا التحدى مشكلة فردية، ولكنه اختبار حى لترجمة الكلمة إلى تجسيد واقعى. فمن لا ينجح مع أقرب الأقربين إليه، لابد أن يراجع نفسه ويعيد تقييم مزاعمه، وقد دأبت على دراسة ما أُرسل إلى أولادى من “رسائل أخرى”، لا أدرى تفاصيلها،  وإنما يلتقطها الأولاد. دأبت على دراسة نتائجها فى سلوكهم، فإذا بهم – أحيانا – يكونون عكس كل ما أقول، ويخرجون لى- بذلك – ألسنتهم، لكنى بعد مدّة تقصر أوتطول أشعر أن ما تبقى هو ما قصدتُ إليه بغض النظرعن التفاصيل الظاهرة. فأحمد الله.

لعل هذا الموقف هو ما أوقعنى كثيرا فى خطأ قسوة فوقية حين أرى بعض أصحاب المبادئ من خلال أبنائهم خاصة، فأعذرهم تارة (وعلى نوح السلام)، وأتهمهم تارة أخرى (لماذا ياسيدنا غاندى؟)، ولا أبرئ نفسى.

وأتعجّب أكثر من أن ينقلب معظم أولاد الزعماء والساسة الكبار والمثاليين المنحازين إلى الفقراء جدا، ينقلبون إلى رجال أعمال جدا،

كان هذا  قبل أن يظهراحتمال ظهور المواهب السياسية الخاصة عند الأولاد وهم يستعدون لوراثة العروش الجمهورية فى العالم العربى.

نقضى وقتا طيّبا فى نيس شخصيا، ونعرج إلى ملاه شوارعية قرب أطراف البلدة الهادئة ، فيمارس الأولاد بعض ألعاب هى موجودة عندنا وزيادة ، لكن الشئ يختلف باختلاف اسياق.

أثناء عودتنا، والرصيف خال، نمسك أيدينا معا ونغنى ونتمايل ، ونكاد نرقص، بل نرقص نحن التسعة ، ونغنى .

 

الفصل الخامس

أغنى واحد فى  العالم

..وغرقتُ فى سُحُب الدخاِن والشواءِ والكلام والعدمْ،

فرأيتهُ ُشطراً من الشعـِر انتظْم

حَسَدا جباناً مهْرباً من بُعْدِنـَا عنَّا،

أعدمتــُه بشراَ،

صيّرتُه رمزاً قتيلا بين أصداءِ النغمْ،

حـَرْفاً تقلَّبَ دامياً من وخز هزَّاتِ القلم.

 

السبت: أول سبتمبر 1984:

هات شومه يا جدع

واه، واه، يا بوى

وانا ادلع الجدع

واه، واه، يا بوى

دى “بلدهم” ياجدع

واه، واه، يا بوى

أنا قلت لابويا حسنين

واه، واه، يا بوى

أنا عندى فكرة زين…

تنطلق المجموعة، وبلا مناسبة ظاهرة كالعادة ، بهذه الأغنية. وتصدر الفكرة الزين من أى من أفراد المجموعة، فنستجيب لها، أو لا نستجيب، ولكننا نتمتع بحرية الغناء، وحرية البدء، وحرية المشاركة ما دامت الخطط المسبقة غير محكمة الإلزام. وتستمر الأغنية تصدح من داخل حافلتنا الصغيرة، تحكى أفكار الصعيدى الذى يحلم بالقفزة الى المدنية (أو  المدينة)، أو إلى ما ليس “كذلك” أو ما ليس “هنالك”؛ وذلك بأن يزرع: “الخمس قراريط، بيضا وجبنا وسميطا، ويبذرها دُقة، ويرويها بالزيت..إلخ” ويعلو صوت الأغنية من داخل العربة – على الرغم من أن ذلك ممنوع أصلا فى بلاد الفرنجة، هكذا قالوا لنا فيما بعد – لكننا نواصل فى الممنوع، وكأننا نعلن بذلك عن وجودنا المتميز وسط “أيها خواجات”، فخورين بالنغمة واللغة والروح التى تدفعنا، فنعلن هويتنا دون استئذان. وفى الممنوع، قبل أن نعرف أنه كذلك، ويبدو أنه لم يكن ممنوعاً جداً فـلم ينبهنا أحد إلى التوقف عن الغناء.

كان أتوبيسنا الصغير قد اعتاد الطريق من “فيل نيف “Ville Neuve -المدينة الجديدة ـ إلى نيس وبالعكس، وكأنه يتجول فى طريق صلاح سالم، (آسف…، فقد احتج الأتوبيس، وهمس لى بأنه تشبيه سخيف، وأنه كان أولى بى أن أقول ما بين شاطئ أبى هيف والمنتزه مثلا،).

أرجع بهذه الفكرة (فكرة أن يحفظ الأتوبيس الطريق متى ألفه) إلى أيام كنت أذهب مع أبى إلى الحقل، وأُصر على البقاء معه طول النهار، ويصر هو على أن أرجع للبيت مبكرا قبله لعمل “الواجب” المدرسى، أو “لسبب لا أعرفه”؛ فأدعى، ثم أؤكد:أنى لا أعرف الطريق الى البيت، فيضعنى على الحمار، ويقول لى ألا أحاول أن أوجهه إلى أى اتجاه، وسوف يوصلنى تلقائيا إلى البيت، وأمتلئ غيظا من أبى، ومن  الحمار المفسِد لخططى نتيجة ثقة والدى به، أكثر من ثقته بى.

أشد خيط الذاكرة فى هذه المنطقة، أو هو ينساب وحده، فإذا بتاريخى مع وسائل المواصلات التى استعملتـُها طول حياتى يتجلى لى، فأذكر تطور علاقتى بقطار الدلتا ذى الخط المنفرد، والشخصية المتميزة؛ حيث بلغت بى خيالاتى الإحيائية أنى تصورت أنه يأكل الذرة المشوية، والخيار، والعنب، التى كنا نهديها الى محصليه وسائقيه فى مواسم حصادها… (لا تصدقوا حكاية عزومة الشراقوة للقطار فلابد أنهم كانوا مثلى، إحيائيين، لا أكثر)، وقد ظل قطار الدلتا يمثل علامة خاصة فى أرضية وعيى بالحركة وبالناس بما تميز به من صفتين خاصتين: بطؤه المتبختر، وعدم انتظام مواعيده إطلاقا، مثل قصيدة حداثية، نعم، كان قطارا ذا مزاج خاص تماما، تفرق مواعيد رحلاته عدة ساعات تأخير (أو تقديم إذا اقتربت الساعة من اليوم التالى)،

ذات مرة تأخر قطار العودة من زفتا إلى بلدتنا، من الثانية إلى السادسة بعد الظهر، وترتب على ذلك اتهامات من أخى الأكبر: أين، ومع مَنْ كنت؟ ولماذا؟ واحْلِف.  وسنى لم يكن يتعدّى العاشرة آنذاك، اتهامات ما زالت ترعبنى وتثيرنى، برغم أنى تبينت بعد سنوات أنه كان يمزح (!!!). أى والله، يمزح،!! أى مزاح هذا الذى يبقى أثره عشرات السنين؟؟.

كان التفاهم وثيقا بين هذا القطار ووالدى، حتى أنه كان يرسلنا قبل وصوله ـ أحيانا ـ لنطلب من إدارة السائق أو ناظر المحطة أن ينتظره؛ حتى ينهى ما هو فيه بالمنزل أو بالحقل. وكان السائق والكمسارى يستجيبان لمثل ذلك بترحيب مصرى، ودى، ،سهل ،

ذات مرة (كان عندى 9 سنوات) طلبت من السائق (الذى يعرف أننى إبن والدى!!!) أن يطيل انتظاره فى محطة “كفر الجنيدى”؛ حتى أذهب الى منزل أحد الزملاء فى الكفر أستعير منه طربوشا “زيادة”؛ حين تبينت أنى نسيت طربوشى حيث لم أجده قابعا فى الحقيبة المهلهلة. كان الطربوش ضرورة رسمية للسماح بدخول المدرسة، حتى ونحن فى الابتدائى، حتى وسراويلنا قصيرة، فردة أقصر من فردة أحيانا دون أن ألاحظ، أما الاستعمال الاستثنائى للطربوش فهو فى لعب الكرة إذا لم نجد غيره نتقاذفه أثناء عودتنا.

ظلت صورة قطار الدلتا ذى الخط الواحد مرتبطة بذكريات بلدنا بشكل ماثل، وارتبط ذلك بفرحة ومخاوف تتعلق بما هو سوق، وسويقة وسوق بديل، حين يختلط الفرح بالخوف تنتج مشاعر أخرى ليس لها اسم، لكنّها رائعة، كانت فرحتى بيوم السويقة والسوق متواترة وحاضرة، وكان من ضمن ما تتباهى به بلدنا أن بها ثلاثة أيام سوق، سويقة بلدنا الخاصة كل اثنين وخميس، يضاف إليها يوم السبت وهو سوق بركة السبع، حيث يذهب الناس سيرا أو على الحمير فى الأغلب، يتسوقون بيعا وشراء واستبدالا، والبعض يذهب فى قطار الدلتا لكنّه قد يعود ساحبا أو راكبا أو العكس، ولم تكن بركة السبع قد أصبحت مركزا بعد، ولم تكن بلدتنا منوفية  أيضا (بعد)، وكان بعض ناس بلدنا، ونساؤها بالذات، تستقرب وتفرش حاجتها على قضيب قطر الدلتا وهى فى انتظاره، وأحيانا يتم البيع والشراء ويوفرون الانتقّال إلى سوق السبت فى بركة السبع أصلا، وكنت أرعب كل سبت وأنا أرى النساء وقد فرشْن أشياءهن على القضيب بالذات، وأتصوّر أن القطار قد يأتى فجأة ويدوسهم، مع أنى أعرف أن كلمة “فجأة” هذه لا توجد فى قاموسه أصلا، وحين كان يأتى القطار كان النساء يهرولن بعيدا، فى دلال، وليس فى فزع كما تبينتُ فيما بعد، وبمجرد أن يمر القطار يهرولن عائدات إلى مواقعهن على القضيب.

حضرنى كل هذا وأنا أرسم نوعا من زحمة الانفعالات أثناء نظرى فى عيون بعض أصدقائى ومرضاىَ فى العلاج الجمعى، وتجرأت ورسمت الصورة من خلال هذه الذكريات المصوّرة، مع أنى أعرف أنه لا زملائى، ولا أحد من الجيل الأصغر عنده أدنى فكرة عن هذه الصورة التى أسميتها “السويقة”، قلت:

والنظرة التانية الزحْمهْ، زى سويقةْ السبتْ.. فى بلدنا. زى القفف المليانة حاجات وحاجات. محطوطه بالذات. على قلب شريط قطر الدلتا. كل ما القطر يصفّرْ: بتلاقى الزحمةْ اتفضتْ، والقفف السودا النسوانْ، بتشيل القفف البيضاَ المليانهَ حاجات، وحاجات، وَمَّا القطر يعدى:

ترجع كومْةِ القفف النسوان، القفف النسوان تتلخبطْ على بعض… كما دقن الشايب.

آهى نظرة عينُهْ زىّ سويقة السَّبْتْ فيها كل كلام الدنيا، وفْ نفس الوقت. فيها “رغبهْ” على “دعوهْ” على “إشمعنى”، على “رعشةْ خوفْ” على “صرخةْ طفل”، على حلَمةْ بزْ، على “عايزه اختار”، و “انا مالى ياعم” “مش عايزه ألمْ”. على “نِفْسِى أعيش”، “بس ما تمشيش” “خلينى معاكْ”، “خلينى بْعيدْ” وِاذَا قلت أنا أهُهْ، أنا جىْ يسمعنى كما صفارة القطر، ويخافْ. وينط كلام العين جوّهْ: فى البطن، أو تحت الأرض. وتْلاقى سوادْها وِبَياضها بيجرُوا ورا بعض، زى النسوان اللى بتجرى بقففها. وامّا ابعد تانى، ترجع كل الكلمات الساكته المليانه ألم وحاجات، و “تعالَى” وْ “روحْ” و “قوامْ” و “استَنَّى”، “وانا نفسى تْقَرّب.. إٍلا شوية”، “طبْ حبّه كمان”. “يانهار مش فايتْ !!، أنا خايفَهْ”. “أنا ماشْيهْ”. والقفف المليانه الغلّهْ الكوسهْ البادنجان، الحب العطف الخوف العَوَزَان، تِفْضَى من كلهْ.  ولا يفضل غير قضبان القطر، زى التعبان الميت. مستنّيه السبت الجىْ، إللى ما بيجيش.

أعود من رحلة ذكرياتى هذه الى حافلتنا الصغيرة الطيبة، وقد سارت معها المسألة حتى اعتادت الطريق، وأنِست إلى العربات الخواجاتى، وإلى أضواء المرور المنضبطة، وخفة ظل الشاطئ ومَنْ عليه، وسعادة الناس بالناس، وقد زاد انطلاقها وخفتها وألُفتها، بعد أن عملت لها الخدمة الدورية (الصيانة) فى محطة قريبة، فإذا بها أسلس قيادا، وأخف خطوا، وأكثر تلقائية، فأعلم أن نصف صعوبات الجبل كانت نتيجة لإغفالى حاجتها العميقة لهذه اللمسة الضابطة التوازن، والدافعة إلى الانسياب السهل. ويلومنى على هذا الإهمال من أحبوها كثيرا، زوجتى وابنتى منى يحيى، فأعتذر لها أولا، ثم لهما، فتقبل هى، ولا تقبل ابنتى ولا زوجتى.

المهم أننا بعد أربع وعشرين ساعة من وصولنا إلى مقر المخيم على هذا الشاطئ اعتبرنا أنفسنا من أهل الحى، برغم أنف احتكار الناس الفوقيين لهذا “الكوت دازير” ـ والذى أسميناه شاطئ الزير منذ البداية، مسخاً، واعتزازاً، وتذكرة بالزير سالم، ومن يعجبه، نعم..اقتحمناه بطيبة شجاعة، و آنسناه بما نعرف، فسمح لنا بما نحن فيه، فأين كل هذا الوهم الشائع بتميز رواده إلى “فوق الفوق”؟

حدث حادث فرض نفسه على بداية الإقامة على هذا الشاطىء؛ بحيث جعل هذه البداية لا تخلو من غُصة لها مذاقها المر بثقل خاص. ذلك أنى كنت قد اتفقت مع ابنتى فى الليلة الماضية، أن تمر علىّ فى الصباح الباكر لنذهب الى المطار القريب نستبدل العملة، حيث البنوك العادية مغلقة يوم السبت. واستيقظت كعادتى فى الصباح الباكر جدا، وسحبت أوراقى وكتبى، وجلست فى الحديقة الخلفية للموتيل، والمذياع الصغير يؤنسنى بما لا أفهم، والأراجيح الصغيرة البيضاء “الخاصة” تتحرك بهدوء، أمام دفع نسيم الصباح الحانى، والدنيا فى أجمل حالات الطيبة والتمام، فأجدنى فى أرحب تجليات الحمد والحفز.

حمدُ الله عندى له طعم خاص، ومقياس خاص، وناتج خاص، إذ لابد أن أجد به ومعه توجها إلى فعل مرتبط بكلمة، لها حضور واقعى يـِعُد بأثر باق، إلى الناس وفى الناس، وحين أتعثر أو أتراخى فى الحمد إذ يصدر من شفتى لا من نخاع عظمى، أعرف أنها حالة حمد فاتر لا داعى له، حمد استرخاء مشبوه. حينئذ تبطئ الكتابة ـ مثلا ـ حتى أكاد أتوقف، وباستعمال هذا “الترمومتر” الدقيق، أحاول أن أكون أكثر صدقا مع ربى، فيعود القلم يفرز ما ينساب فى مجراه الدقيق، ثم أصبح أنا والقلم والورق واحدا، فتتجه “الأمانة” الى مستقرها، فأقول لنفسى ـ اقتناعا أو تبريرا ـ : لا شك أنك يا ولدتستأهل “هذا”، ما دمتَ لا تنسى “هكذا”، ما دمتَ لا تتوقف للراحة، أو تتجنب المخاطرة، فأرضى عنه، ويرضى عنى.

يتجسد لى معنى ذلك “الرضا” فيما حمانى ـ حتى الآن ـ من ألعاب الحسابات الغبية والأطماع الخفية، فالغلبة عندى هى شعورى طول الوقت أنى فى “رضا” يجعلنى أغْنَى الناس قاطبة، بغض النظر عن الإمكانات الحقيقية؛ ذلك أنى عودت نفسى ـ مثل المصرى المتمرس على خبطات الزمن ـ ألا “أرجو” ما لا أقدر عليه، وألا أحسب أكثر مما فى يدى.

كم كان طيبا يوما ما، بعد تخرجى وزواجى المبكر، والحالة شديدة الشدة، أن أذهب كل مساء إلى مستوصف شعبى ملحق بجمعية مسجد سيدى نصر ببولاق أبو العلا، أمارس فيه التطبيب العام ـ على الرغم من اكتمال تخصصى فى الطب النفسى. الكشف فى هذا المستوصف كان بشلن كامل، لا أنال منه إلا ثلاثة قروش ؛ ليصل صافى الحسبة فى نهاية الليلة إلى حوالى الخمسة عشر قرشا بالتمام (بعد المواصلات والقهوة) ـ فأفرح بها فرحة المنتصر الكسّيب، وأشترى أثناء عودتى رغيفين “ملدنين” من الحجم الكبير، بنصف فرنك، ثم بثلاثة قروش باذنجاناً مخللاً بالشطة، وطعميتين كبيرتين، محشوتين بأشياء حريفة لم أعرف ماهيتها أبدا، ويتبقى معى عشرة قروش أعود بها إلى زوجتى، فنتناول عشاءنا بذلك “الرضا” الخاص، وأشعر أنى قد كسبت فى هذا المشوار ما هو كاف لعشائنا.. و.. وزيادة، صحيح أنى كنت محتاجا ـ آنئذ ـ لكل دقيقة وأنا أحضر رسالة الدكتوراه، ولكن صحيح أيضا أنى كنت محتاجا للقروش العشرة، ولأنْ أتناول مع زوجتى عشاء ما، وظللت هكذا أتحرك فى منطقة الأمان هذه ما بين إمكاناتى واحتياجى المنضبط حتى يومنا هذا، مهما كانت الظروف.

وأُرجع تاريخ اكتسابى لهذه “الحسبة” الراضية المُرضية إلى عهد سحيق، كنت أتدبر فيه أمر التعريفة، مصروفى اليومى، فأشترى من عم جمعة (بجوار المسجد الكبير بزفتا، مسجد الرفاعى على ما أذكر) بمليم دومة، وبمليم لباً، وبمليم حب العزيز، وبمليم بختا أختار به طلبين زيادة لو كسبت ثم يتبقى معى مليم للظروف والأدوات المكتبية الترفيهية الزائدة.

وعندما انتقلنا الى مصر الجديدة، أدخلتُ نفسى بعد توفير خمسة أشهر متتالية تجربة سرية ـ وكنت حول الرابعة عشرة ـ لأختبر قدرتى على”ذلك”. إذْ قررت فى هذه السنة (ما يقابل سنة ثالثة ثانوى نظام هذه الأيام) أن آكل طول الشهر بذلك المبلغ الذى اقتصدتـُه خلال خمس أشهر (كان مائة وخمسين قرشا بالتمام) آكل به لمدة شهر كامل، ثلاثين يوما، أى بشلن فى اليوم الواحد، وفعلتها دون تفسير، ممتنعا عن الأكل فى منزلنا مما أثار عجب أمى التى تصورت أنى “زعلان” من شئ ما، أو من “أحد” ما، من والدى مثلا، أو من أحد إخوتى، ولا هذا، ولا ذاك كان واردا، لكنه التجريب والتحدى، ولم أصرح لها ولا لغيرها بطبيعة ما أفعل حتى انقضى الشهر، ونجحت التجربة، وتتعمق معانى الرضا والقدرة معا.

يتكرر الموقف بعد ذلك فى فرنسا (“عمرى 36 عاما” سنة 1969)؛ حين أعلم أن بعض العمال الجزائريين قد لا يتحصل الواحد منهم ـ آنذاك ـ إلا على ثمانمائة فرنك شهريا، يسكن منها، ويرسل بعضها إلى ذويه، ويعيش بالباقى، فقلت: كيف ذلك؟. ولم لا أجرب حتى أشارك، وأفهم؟ فقررتُ أن أعيش شهرا كاملا بمائتى فرنك بما فى ذلك المواصلات (عدا السكن)، وتعلمت من خلال هذه التجربة أن كيلو البطاطس أبا ثلاثين سنتيما لا يفرق ـ فى الطعم ـ عن ذلك أبى فرنكيْن وستين (وإن كنت لم أفهم سر الفرق السعرى حتى الآن). وكان هذا الكيلو (أبو30سنتيماً) يكفينى مسلوقا لوجبتين كاملتين، مع بعض الملح والزيت اللذيْن يعتبران من الرصيد الشهرى الدائم.

من هذا، ومثله، تأكد اقتناعى بأنى أغنى واحد فى العالم، وتعلمت أن الغنى إنما يتحقق بمحاولة ذكية، وليس بالجمْع التراكمى، بالقدرة على ضبط الحاجة على قدر المتاح طول الوقت، ولأننى أعرف كيف “أترك”؟. وماذا “أرجو” ؟. عشت بهذه المعادلة الطيبة التى حلّت لى مواقف بلا حصر، وساعدتنى فى إتخاذ قرارات حاسمة.

حين سترها الله، توارت المشكلة المادية فى خلفية حياتى، ومع ذلك ينقضّ على وعيى، أحيانا،(أصحبت نادرة والحق يقال) ما يشبه التهديد بالموت جوعا، فأكتشف من خلال ذلك أن بداخلى مازال يوجد عمقٌ خفى لم يصلــه ما أكرمنى الله به من ستر. ثم أصبحت مسألة الرضا هذه ـ بعد الستر ـ لا تقتصر على ضبط احتياجاتى فى حدود أدنى من قدراتى الآنية، إذ دخلت فيها حسابات أخرى سخيفة سبقت الإشارة إليها فى هذا العمل، فقد امتدت حساباتى إلى احتياجات الناس، فنغّصت علىّ حقى فى هذه المتع التى لا ينالها غيرى. وراح يعاودنى بنكد شائك إلحاح التساؤل عن شرعية هذه المتع التى جمعت أسبابها بجهدى وعملى شخصيا. لا أنا ورثتها، ولا أنا سرقتها، ومع ذلك كثيرا ما ينغص علىّ استمتاعى بها، ولن أكرر مناقشة هذه المسألة وعلاقتها بشكّى فى قدرتى على التمتّع غير المشروط، فقد كررت ذلك من قبل كثيرا، على أن ما يطمئننى دائما هو أننى حين أسمح لنفسى بالمتعة لا أتفرج، أو أترفه، أو أسترخى،أو أنسى، أو أدعى. ومع ذلك فكثيراً ما أحرم نفسى ـ بغباء ـ من متعة أشتهيها؛ لأسترجع شعورى بما يشعر به الناس، لكنى أكتشف أن هذا عبث وتصنعّ لا يحل شيئاً، و هو حتى لا يبرر شيئاً.

كنت وحدى فى الحديقة الخلفية للموتيل: أقرأ، وأخطط، وأعلق، وأكتب، وأحمد، راضيا حتى جاء ابنى وابنتى حسب الميعاد، فوجدانى مستغرقا ـ كما تعودا ـ فجلسا إلى المائدة ذاتها، وأنا لا أكاد أشعر بهما، ثم أفقت، فلملمت أشيائى بسرعة، واستأذنت أتركها فى الحجرة حيث زوجتى لم تخرج بعد. وعدت مخفيا سخطى من مقاطعتهم لما كنت فيه “بالذات” (على الرغم من أنهم حضروا بناء على موعد سابق). وانطلقنا سراعا فى اتجاه المطار، وهو لا يبعد سوى ثلاثة أو أربعة كيلو مترات. وما إن قطعنا ما لا يزيد عن مائتى متر، حتى تذكرت ابنتى أن كيسها (حافظتها) ليست معها، وكان بها ما جمعت من كل أفراد الرحلة، من عملات يريدون تغييرها (ما يربو على ألف دولار) فسألـَـتْ أخاها معنا إن كان قد أحضر الحافظة (الكيس) من على المنضدة حيث كنت أجلس حالة كونى كاتبا حامدا، فنفى أنه لاحظها أو التقطها أصلا. فطمأنتـُها أنى أحمل حافظتى الخاصة، وبها ما يكفى للتغيير المطلوب، وأن المشوار لن يستغرق سوى دقائق معدودات، وأننا حتى لو حاولنا الرجوع، فلا سبيل إلى الدوران إلى الخلف إلا بعد حين، وسوف نستغرق الوقت ذاته تقريباً؛ إذا غامرنا لنكمل المشوار، وأنه لا داعى للجزع، وأن الدنيا بخير، وأن الموتيل محترم.. وأن.. وأن…، ومع امتقاع وجهها رحت أتمادى فى الضغط على بدّال الوقود. وأتمادى فى طمأنتها، قلت لها إننا فى بلاد “الأمانة” و “الحضارة” (وكنت أعنى ما أقول على الرغم من خبرتى فى نيويورك)، ولا أحد سيمد يده لما ليس له فى حديقة خلفية، وأنى (هكذا سحبت من لسانى كالعادة) مسئول عن ذلك.

رحنا، وعدنا، عدوا وفرط سرعة، وكأن حافلتنا وفتاة البنك قد تفهمتا موقفنا فتم كل شئ بسرعة فائقة، واستغرقت المهمة كلها مايقل عن عشردقائق، لكن مائدة الحديقة كانت خالية عارية، فرجحت ـ بمنتهى الثقة، أن أكون قد أخذت الكيس مع كتبى وأوراقى؛ إذ لماذا أتركه دون سواه؟. فنبهتنى زوجتى ـ وأنا أبحث فى الحجرة، وأسألها ـ أنى ـ عادة ـ لا أهتم إلا بهذه الكتب والأوراق دون غيرها، مهما بلغت أهمية غير ذلك، وفى كل الظروف، فأظهرت رفضى لهذا الاتهام، لكننى صدقتُها من عمق آخر. المهم أننا لم نجد الحافظة، وهنا بدأت سلسلة من الأحداث والمعلومات، أفهمتنى ما لم يكن يخطر على بالى:

فقد ذهبنا من فورنا إلى صاحبة الموتيل (القط العانس ذات الزوج الحائم) فسألتُـها، ففزعت فزعا مهنيا مناسبا، وبرّأت نفسها وإدارتها ابتداء، وأن هذه مسئوليتنا تماما. وبعد أن اطمأنت إلى فهمنا لحدود حقوقنا، وأننا “نسأل” لا “نطالب”، سألتْنا: هل معنا بوليصة تأمين؟. أو نحفظ رقمها؟. وقلت لنفسى فى تعجب: تأمين؟. تأمين ماذا؟. على ماذا؟ ولم أكن قد نسيت بعد حكاية التأمين المتعدد الدرجات حين أجّرت  السيارة اياها فى سان فرانسيسكو، ولكن المسألة هنا لا تتعلق بحادث لا قدَّر الله أوسيارة، ماذا تعنى هذه السيدة ؟  نؤمّن بنقود على نقود؟. ما أعجب ذلك؟ لم أستفسر أكثر، كان دمها ثقيلا حتى وهى تشفق علينا (أو ربما هى لا تصدّق!).

وبدأنا رحلة البحث والتقصى والتعلم والدهشة.

جاءت خادم الفندق التونسية (وقد كنت أحسبها جزائرية حسب العادة، ولا فرق فى هذه الظروف، فى هذه المهن) جاءت، وانزعجت، وأقسمت بطريقة مصرية مألوفة، فقفز الشك إلى عقلى بطريقة بشعة (وقلت: “أقسمتْ؟. جاءها الفرج”)، ثم تمادت وانسابت الدموع والنهنهة (قلت: احتياطيا!!)، ثم راحت تجرى إلى حجرتها تجلب أشياءها، وملابسها الأخرى بما فى ذلك الملابس الداخلية والروافع والجوارب، وتنثرها أمامنا بطريقة متشنجة، وتطلب منا تفتيشها، فرجحت يقينا بعد هذه المسرحية (هكذا قدّرت) أنها هى التى أخذت الكيس بما فيه، وأنه لذلك هى  متحمسة هكذا أبلغ الحماسة، مقسِمة أغلظ الإيمان، نائحة أعلى النواح، بريئة حتى الشعور بكل هذا الذنب!!. وأخذت أؤكد لزوجتى أنى أقبل أن تأخذ ما أخذت، لكنى أعترض على محاولتها استغفالنا “هكذا”؛ إذ لو أنها سرقت الحافظة، فكيف ستحضرها لنا ضمن أشيائها وملابسها هذه تعرضها علينا بنفسها لنفتشها (فنجدها!!)؟. إنها ليست ـ فقط ـ سارقة، وإنما هى متذاكية تثير الغيظ والنفور معا. قلت ذلك، وأنا أعدّ نفسى للاستسلام لما حدث. إذ ْ لا جدوى من إضاعة الوقت فى مالا طائل وراءه مما أعرف نتيجته مقدما، وتذكرت انسحاب لسانى حين أعلنت مسئوليتى لابنتى عن هذا الإهمال الذى لا ذنب لى فيه، وحتى لو لم أعد بذلك، فهل كان أمامى خيار، وندمت على ثقتى بأمانة المكان والفرنجة!!، فبادرتُ بإعطاء ابنتى ما يوازى المبلغ الضائع إلا قليلا، خاصة وأنه لم يكن مبلغها وحدها، بل حصيلة ما أراد بقية الأولاد أن يستبدلوه، وحسبتُ أنى بذلك أختصر الحادث إلى خسارة مادية، لحقتْ بى شخصيا، محاولا بذلك تجنب إفساد الرحلة وتعكير الجو العام. لكن الغريب بعد كل ذلك أن ابنتى ازدادت ـ بالتعويض ـ ألما وخجلا، وجعلت تساومنى أن تتحمل النصف، أو حول ذلك (مع أن هذا النصف، هو كل ميزانيتها المستقلة طول الرحلة). وكلما رفضت، تكثف أساها أكثر.

المهم.. عدت بينى وبين نفسى إلى اتهامى للمرأة التونسية (حول الثلاثين، شديدة النشاط، وابنتها الوحيدة فى الخامسة، تلعب فى الحديقة). أخذت أبحث فى نفسى، عن سبب إصرارى على موقفى هذا بهذه الصورة، فاكتشفت أنه ينبع من خبرتى، حول ما سمعته عن الجزائريين فى باريس، ولكنى اكتشفت أكثر من ذلك، أن هذا يرجع إلى احتقارى ـ ضمنيا ـ لذاتى وأهلى العرب دون أن أدرى، وهذا وذاك متضمن فى حماستى، الأسبق إلى تبرئة الخواجات أصلا وتماما، وملأنى هذا الاكتشاف غيظا، سواء صدق تفسيرى أم أخطأ!!. وظلت المرأة التونسية تروح وتجىء، وشكى يزداد فيها، فأقول لزوجتى المترددة فى موافقتى، المتحفظة فى اتهامها: “إبعدى عنى هذه المرأة برطانها العربى  الغبى، لا فائدة”.

رحت أتمادى فى التفسير وأردد فى نفسى أنه يكاد المريب يقول خذونى فهى تحضر لنا ابنتها، وإن شاء الله أعدمها إن كنت أخذت حاجة، ثم تعود بعد دقائق تسألنا “هيه.. هل وجدتموها؟”. وكأننا سنجدها فى خلال هذه الدقائق “هكذا”، ويزداد غيظى حتى أقدم على ما كنت أفضل ألا أقدم عليه، ذلك أنى كنت حريصا على ستر هذه الخادمة حتى لو كانت هى السارقة، فمهما كانت الخسارة، فهى من دمى، وربما هى أولى بالنقود حقيقة وفعلا من أولادى، لكن إصرارها واستفزازها وتذاكيها أثارونى حتى اندفعت إلى صاحبة الموتيل أستفسر عن سلوك هذه الخادمة، فجعلت المرأة تجزم بأمانتها طوال مدة خدمتها، وأن صفحتها بيضاء من غير سوء، بل إنها تثق فيها أكثر من زميلتها الإنجليزية، “زميلتها مـَنْ؟”. الإنجليزية؟!”. أين هى؟. لم أكن قد لاحظت أن لها زميلة إنجليزية. صحيح أن ثمة فتاة شقراء رقيقة نحيفة، حول الخامسة والعشرين، تفعل مثلما تفعل التونسية، تذهب، وتجئ، وتنظف، وتسوى، نعم هو هو، العمل ذاته، لكنى لم أتصور أنها خادم أصلا، فضلا عن أن تكون إنجليزية (!!). واكتشفت ـ فى نفسى ـ أنى مقهور من داخل الداخل، لأن العمل ذاته (العمل ذاته !!) إذا قامت به امرأة عربية، سمىت “خادمة”، فاذا قامت به إنجليزية سميت راعية منزل، أو مديرته، أو ماشابه من أسماء جديدة رقيقة، ثم من أين لى أن أعرف أنها انجليزية، وكيف أفترض ذلك، لقد رجحت ـ على أحسن الفروض ـ أنها فرنسية، وأنها ـ لست أدرى لماذا ـ قريبة صاحبة الفندق، وكأنى بذلك أوهم نفسى أنها ليست خادمة مرتزقة وإنما هى تساعد قريبتها شهامة (جدعنة)، ثم لماذا إنجليزية؟ وما الذى يجعل إمرأة انجليزية “محترمة” و..، وشقراء، تتكلم الإنجليزية دون أن تخطئ فى الأجرومية، ما الذى يجعلها تأتى لتخدم امرأة فرنسية فى أقصى الجنوب هكذا؟ أهى آثار بطالة مسز تاتشر؟ أم أن الحال انقلبت دون أن أدرى؟ وأقول إن الدنيا على “هذه” و “تلك”، وإن الناس تختبئ فى ما ترتديه،…إلخ، المهم أنى فرحت بشهادة صاحبة الموتيل لصالح أمانة التونسية، بالمقارنة بالإنجليزية، على الرغم من ذلك، فلم تنتقل شكوكى إلى  المرأة الإنجليزية، ولو لتؤكد اكتشافى أن الإنجليزيات يمكن أن يخدمن فى بلاد الغربة مثلنا، وأنهن يمكن أن يسرقن كذلك. وتحتار زوجتى فى منطقى هذا، ويظهر فى الصورة زوج صاحبة الموتيل، وبسبب إصرارى على أنها عانس، أتصوره زوجا مع إيقاف التنفيذ، جاء يمارس دورا جديدا لم أفهمه إلا بعد مدة، فقد نادانى، وأخذ منى تفاصيل التفاصيل باهتمام بالغ، تعجبت له حتى أحسست أنى أمام أحد هواة التقصى الخائبين مثل البوليس السرى الخاص. وذكرتنى نظراته، وما يسجله فى مفكرة صغيرة معه بالتقليد الأبله لحركات المخبر هيركيول بوارو فى روايات أجاثا كريستى الحاذق.

كان من السهل علىّ أن أقارن بينه وبين بوارو.. ذلك أن أحد أولادى قد ترك “هناك” قصة لأجاثا كريستى، رُحْت أستفيد من قراءتها التى تساعد حركة الوظائف البيولوجية، أستغرق فيها حتى “يسهلها” الله علىّ. وكان قد مضى على آخر قصة بوليسية قرأتها، أكثر من ربع قرن، وإذا بى أكتشف أن فى مثل هذه القصص شيئا آخر غير التفاهة، وألعاب الحذق، وإعلان أن الجريمة لا تفيد. اكتشفت من خلال هذه المراجعة، هذا المستوى الآخر من النشاط العقلى الضرورى، لكل من يدعى الجدية والعمق. اكتشفت أن عقلى يحتاج إلى قدر من ذلك “الأجاثا كريستى”؛ باعتباره “ماليس كذلك”، ما ليس جادا محكما، أو عميقا منضبطا. اكتشفت حاجتنا إلى ما نسميه “الكلام الفارغ” أو “السطحى” أو “التافه”، ليوازن تلك الجرعة الأعمق من  المعلومات الراسخة ، بل وأيضا ليوازن  جرعة المعاناة فى الإبداع القَِلقْ. وهكذا اعتبرت أن الإقبال على ما يسمى تافها هو نوع من الاسترخاء العقلى النشط.  آنسنى أيضا وأنا أقرأ كريستى من جديد أننى  أشارك عددا هائلا من البشر، فى مستوى آخر من متعة القراءة العابرة، التافهة الجميلة. أفضّل التأكيد  على كلمة “المشاركة” هنا فى مقابل كلمة “الفرجة”، لا يوجد عمل تصورت أنى أعرفه. ثم اختبرته، بالمشاركة خاصة،  إلا وأكتشف أنى لم أكن أعرفه. يستوى فى ذلك وقفتى وأنا أتناول إفطارى (حتى الآن) على عربة يد محاطة بعمال يومية فى طريقهم إلى عملهم، (ياعم حسن، شوية بعشرة، شوية حار، يابو على ، خمسة فلافل، زوّد الشطة وحياة والدك) وكذلك تكرار محاولاتى الإمساك بالفأس عددا من الساعات المتصلة، (وليس لمجرد وضع حجر الأساس!! (أنظر أيضا الترحال الثالث) ـ أقول إنى ـ دائما ـ أخرج بطعم آخر من المشاركة دون الفرجة، وأتصور أن المثقف سيظل “مثقفا جدا”، وفقط، بالمعنى المغترب أبدا؛ ما لم يعرق أياماً متتالية، فى علاقة مباشرة مع عمل جسدى (لا مجرد عمل هواياتى يدوى).

أعود إلى قراءتى أجاثا كريستى مؤخرا، وشعورى بهذا المستوى المشارك مع عقول سريعة ذكية ومحددة الهدف، تؤنسنى وأنا أتمتع بحقى فى التفاهة الرائعة، بقدر متعتى بحقى فى العمق القلق وبقدر ضيقى من تسميع المعلومات الجاهزة. جعلتُ أقارن بين “حركات” “زوج هذه العانس” المخبر الهاوى الأقرب إلى قفزات عبد السلام النابلسى منه إلى  حصافة هيركيول بوارو، وأضحك فى سرى. وينصحنى الزوج المخبر السرى بألا يثنينى إبلاغ البوليس واستلام المبلغ(!!) عن مواصلة السعى لاكتشاف السارق وتعرية الحقيقة (ياسلام!!!)، استلام ماذا؟. استلام المبلغ؟.هل يمكن أن أستلم المبلغ دون أن نجده ؟ دون ضبط السارق؟. كيف؟. هل السارق ـ هنا ـ فى بلاد الخواجات يوصل ما يسرق إلى البوليس أولا بأول، ويأخذ نسبته، وينصرف، وحين استفسرت فهمت، ثم تيقنت فى قسم البوليس مما فهمت.

ذلك أننى عرفت أن ما يعنى رجال الشرطة ـ أساساً ـ هو قيامهم بالتعويض ـ بموجب بوليصة التأمين على الرحلة ـ  يعطونك مقابل ما ضاع منك ، ولو بالتقريب، على الفور، ثم يحاسبون  هم  شركة التأمين على مهلهم !!! وذلك  حتى لا ينغص الحادث رحلة الضحية أو يعوقها، كذا؟. كذا؟. لكننى ياعم “بوارو” لم أؤمن على الرحلة، ولا على شىء، ولن أفعل مثل ذلك مستقبلا حتى بعد هذه الكارثة  ، اللهم إذا تحضّرت رغما عنى . بل إن نصيحة أصدقائى السابقين بأن أستبدل بنقودى شيكات سياحية لم ترُقْ لى أصلا؛ فأنا لا أفهم هذه المعاملات الحديثة أبدا. مهما بدت منطقية، بل إن استعمال الشيكات لا يدخل فى حياتى كثيرا، من باب أننى لا أحترم إلا النقود الصاحية، وحين علمت قديما أن ما نحمل من جنيهات ليست إلا سندا على البنك أو الحكومة فزعت حتى رُفع هذا الشعار المشوّه لأوراق البنكنوت والمشككنى فى قيمتها، كثيرا ما تصورت ـ حتى الآن ـ أن ملعوبا ما يتم، حتى يفصلنا عن القيمة الحقيقية للنقود والأشياء، فننسى، فنظل عبيدا لأوراق وهمية، قال ورقة قال: أكتب عليها رقما، وأوقع، فتصير نقودا، لا ياعم، هذا ملعوب لن أُستدرج إليه لأظل أعرف حقيقة ما أفعل، وهدفه، ومقابِلهُ، بقدر ما يمكن.

أما حكاية التأمين فقد أوضحتُ موقفى منها من قبل، لكنى أظن أنى، من خلال هذه التجربة، تبينت عمقا آخر فى هذه اللعبة ـ لعبة التأمين ـ . تيقنت أن وظيفة التأمين “هكذا” قد تساعد بشكل ما على السرقة، فالكل مستفيد بشكل أو بآخر، أولا: مَـنْ سرق النقود سيصرفها بأقل درجة من الشعور بالذنب، لأنه ضامن أن شركة التأمين ستعوض صاحبها، وفورا.  وثانيا: مَـنْ فقد النقود سيستردها بمجرد محضر بوليس، وثالثا: إن البوليس سيرتاح باله لأنه لن يشعر بالتزام ملح للبحث عن السارق ما دامت النقود قد عادت إلى محافظها سالمة. ورابعا: إن شركات التأمين تكسب فى كل الأحوال، إذْ أن عدد السرقات (بما فى ذلك ادعاء السرقة) لن يفوق ـ بحال من الأحوال ـ مجموع المبالغ المؤمّن بها من الكافة. وحين يفوق، بسيطة، ترفع الشركات فئة التأمين من واقع الإحصاء والمستندات،

(ياحلاوة!!) تشجيعٌ هو على السرقة إذن!! تحت عنوان التأمين والذى منه، خطر ببالى، أيضا،  أن من مصلحة هذه الشركات أن تزيد السرقات قليلا، وأن يتحدث عنها الناس كثيرا.فيزيد عدد المؤمنين بالتأمين حتما.

وأزداد أنا تمسكا بموقفى “يا كل هؤلاء “. أنا لاأعرف لى تأمينا إلا فى استمرارى فى العمل، وفى قدرتى على اليقظة، وكل ما عدا ذلك، باطل..، وفى حوزة قُوى لا أدركها، فإذا هددنى العجز ـ وهو قادم لا محالة ـ فلابد أن ثَمَّ قانونا ـ طبيعيا ـ سيحمينى حتى أقضى، واذا لم يحمنى هذا القانون الطبيعى، فلا بد أن عدم الحماية هذا هو من طبيعة هذا القانون (ألاّ يحمينى أحد أو شئ حين العجز) .

أجدنى وحيدا أتخبط فى انحناءات مقاومتى لانجازات العصر، مع يقينى بهزيمتى الحتمية فى النهاية، فنتيجة هذه المقاومة هى دائما فى غير صالح أفكارى، حيث أنساق فى النهاية، مثل كل فرد متخلف (ولو، بإرادته)، إلى أن يرمينى على المر (اللجوء إلى المعاملات العصرية) ما هو أمر منه (الخوف والوحدة وغلبة ضعف الأخلاق عند الكافة اعتماداً على التحايل على القانون).

عندما كنت أسير فى شوارع نيويورك غير آمن على أى شىء، أى شىء، كنت أشعر أنى فى بلد متخلف قبيح بالمقارنة إلى الرقى الرائع فى بلدى الفقير المنهك، حيث تسير ابنتى ليلا فى شوارع المقطم، حتى المقطم، دون هذا الرعب المُشِل، حتى حكايات الخطف الأخيرة عندنا مازالت تُعتبر نادرة برغم أنف تصيّد صحفنا لحوادث فردية، واعتبارها ظاهرة،  وقد شعرت هناك (فى نيويورك) أن العلاقات قد تدهورت حتى ساد قانون حيوانى يخضع للفعل المنعكس المباشر بلا ردع أو ترابط مانع،

ذات ليلة هناك، فى نيويورك دعوت أحد طلبتى الأطباء على سندوتش “ماك الكبير” وكنت سأسافر فى صباح اليوم التالى، وعند الدفع لم أجد معى إلا ورقة بمائة دولار ـ، ولم تكن فى المحل فكة، والساعة الحادية عشر، فبادر زميلى بالدفع على الرغم من أنه هو المدعو، فخجلت خجلا كبيرا، فأصررت أثناء عودتنا سيرا على الأقدام أن أعطيه مائة الدولار ـ يبقيها معه ويصبح هو مدينا بالباقى بدلا من العكس، وكانت الساعة بعد الحادية عشرة مساء، فاذا به يفزع ويقول لى وهو يخطف منى الورقة يخفيها فى جيبه بسرعة ليعيدها لى فى الفندق، ويشرح أن هذا تصرف خطير، لأن مجرد “رؤية” منظر “نقود ما” فى يد أحد، يستهوى القناصة من أى زاوية أو ناصية أو مدخل بيت، ياخبر!! فى بلاد التقدم والمدنية وغزو الفضاء والتأمين والتكنولوجيا، يختفى الأمان منها متى ظهر “منظر النقود” فى مرمى البصر، ثم يقولون قانون وتأمين وادخار؟.. و… و… و، وحضارة؟ المسألة أصبحت “منعكسا انقضاضيا فوريا؟!

وفى بوسطن نزلت فى فندق متوسط (هوليداى إن) بالقرب من أشهر وأقدر مستشفى أمريكى عام “ماس جنرال”، ولأن الداعى كان شمجيا (نحتّ كلمة شمجى مقابل VIP لتعنى: “شخص” “مهم” “جدا”). فقد اعتبرونى وزوجتى شمجيين أيضا؛ فنزلنا فى دور خاص، لا يصعد إليه المصعد إلا بمفتاح خاص. قلت: ياسلام على الأمان، وأخذت أشفق على غير “الشمجيين”، ممن قد يتعرضون فى الفندق للسرقة والسطو. أما نحن؟ فإيش أوصل اللص لسر المفتاح؟، وكنت إذا صعدت المصعد، ضغط “العامة” على أزرارهم، أما أنا الشمجى، فأخرج مفتاحى الخاص لأدير به الزر الخاص، فينظر إلىّ العامة فى ما يشبه الاحترام الخاص (ولا أقول الحقد الخاص، لأنى كنت أستبعد احتمال الحقد الخواجاتى على أمثالى).

كان من ضمن الحفاوة بالشمجيين فى هذا الدور، أن ثَمَّ “بوفيها” (كافتريا صغيرة)  إضافيا  وسط الدور، فيه خدمة مجانية دائمة طول الوقت، وتليفزيون كبير ثابت راسخ (قطعة موبيليا فخيمة)، ومشهيات ومأكولات صعبةٌ أسماؤها، ومذاقها جديد، حتى كنت أخشى تناولها، وإن كنت أسعد بتأمل زملائى الشمجيين وهم يتعاملون معها برقة ومهارة فائقتين. ذات صباح، ذهبت أتناول بعض العصير قبل استيقاظ عـِلية الشمجيين، فاذا بى أفتقد التليفزيون، فحسبت أنه أرسل إلى الصيانة أو الإصلاح، وخجلت من السؤال واكتفيت بالموسيقى الداخلية، والوجه الحسن، ولكنى علمت بعد قليل أن التليفزيون (الموبيليا) الضخم الفخم قد سرق شخصيا، على الرغم من كل الاحتياطات والمفاتيح الخاصة… الخ. ياصلاة النبى!!، تعيش أمريكا العليا المؤمّنة.

ثم أذكر أول يوم نزلت فيه نيويورك (أحد أيام أغسطس 83)، إذ رحت أنطلق سيرا على الأقدام ـ كالعادة ـ مع اثنين من قاطنيها من زملائى الأصغر، لنرى كل ماليس كذلك، خلال جولة جاوزت ست الساعات، رأينا فيها كل ما أردنا، وصادفنا تنويعات الإجرام والحرية معا: من بائعى الهيروين على الأرصفة، إلى لاعبى الثلاث ورقات، إلى رجال البوليس يرقبون من بعيد، وأنا لا أفهم سلبيتهم، وأفترض، وأسمع عن نظام الإتاوات الشهرية وحمايات المافيا، ووظيفة الناضورجية، ونقترب من شارع برودواى وشارع 24 الشهير، وإذا بهرْج كبير، وجرى كثير، وسواد ضاغط، فأسأل مضيفى ومرشدى عما يجرى،  فيقول “لست أدرى، لم أعتد مثل ذلك، حتى فى هذا الحى الشهير، وإن كنت لا أستبعد شيئا”، وكانت زوجتى ممسكة بحقيبة صغيرة بها كل شىء، (كل شىء، نعم.. تذكر عنادى ألا أتعامل مع الأوراق وإنما مع النقود الصاحية)، ويتدفق النهر الأسود كفيضان مباغت، فتهدينى قرون استشعارى إلى أن أخطف الحقيبة من زوجتى وأنتقل بسرعة وهدوء إلى الطوار (الرصيف) الآخر، تاركا زميلنا مع زوجتى وسط الفيضان الأسود، ويتجنبنى التيار بالصدفة على بعد أمتار، ولكنى ألمح تعبيرات الوجوه التى كانت الأيدى التابعة لها تحمل أشياء قبل الإغارة، ثم انحسر عنها الفيضان الأسود، فإذا بالإيدى خالية الوفاض، والوجوه مليئة بالحسرة. إذن فقد نفذت بجلدى وبحقيبة زوجتى بالصدفة البحتة، ثم أسمع أصوات النجدة والبوليس وكأنها تحيى الزفة الفيضانية السوداء، لا تواجهها، والاسم: “أمْن واجب”، ولا نعرف تماما ما هى الحكاية؟ ولكننا نقرأ فى اليوم التالى فى الصحف أن نيويورك قد تم ” اجتياحها ” بما لم يتكرر منذ إنقطاع الكهرباء فى الستينيات، وتبين لى بعد ذلك ما حدث: ذلك أن المغنية الزنجية ديانا روس كانت تحيى حفلة (مجانية على ما أظن) فى الحديقة المركزية Central Park فى نيويورك، وكان بنو جنسها من السود يحيونها أطيب التحية بالشرب والرقص والتصفيق، فامتلأت الحديقة (فدادين عددا) بهذا السواد الأعظم، حتى إذا ما انتهى الحفل، وكانت الجموع قد انتشت تماما، التحمت فى كتلة واحدة هادرة، فانطلق الفيضان البشرى الثمل الأسود يجتاح الشوارع اجتياحا ليخطف، ويصدم، ويؤذى بلا تمييز، ربما انتقاما لظلم وقع، أو ظلم واقع لم يرفعه القانون ولا التأمين،.. وربما إجراما بدائيا مرتدا لا أكثر.

كل هذا لا يعنى أنى أنكر شهامة كثيرين من الخواجات ومبادراتهم الطيبة التى أشرتُ إليها فى أكثر من موقع فى هذا العمل، لكن ثمة فئة فاض بها الكيل، وثمة نظاماً يتسحّب يكاد يعفى الإنسان من إنسانيته بفضل الاعتماد المطلق على قوانين الخارج، ولابد من الانتباه إلى الدلالات السلبية لهذا النظام الخارجى، وتلك الدلالات التى نعلنها فى هذه الصور من العنف والنهب والإغارة، أما الشهامة والطيبة والنخوة الخواجاتى فهى ـ دائما ـ فى متناول من يريد ألا يسرع بتعميم الأحكام.

من ذلك أن أحد نزلاء الموتيل حيث فقدنا الكيس، ظهر ـ فجأة ـ ليتبرع مشكورا بشهادة مفصلة، ويتبرع ـ أيضاً ـ أن يذهب مع ابنتى إلى البوليس، فيضيع ساعات بأكملها، لعلها هى كل ما أعده للفسحة، هو وزوجته، فعلاها بنخوة لا أنساها. فذهبا للبوليس، وذكر الرجل فى شهادته أنه رأى طفلة ذات خمس سنوات، وهى تتناول الكيس الجلدى من على المنضدة، وأنه ظن أنه ملكها، أو ملك أهلها، وأخذ يصف الكيس والنقوش الفرعونية التى عليه وصفا دقيقا لم نكن نعلمه لا أنا، ولا صاحبته (ابنتى). وصف كل ذلك بمنتهى الدقة على الرغم من أن رؤيته لكل ذلك، قد تمت من شرفة الدور الثانى، وكان شابا طيبا رائع الملاحظة واضح المنطق، سلس الترابط،  وما إن سمعتُ شهادته تلك حتى أحسست بدش بارد يكاد يغطينى من خارج ومن داخل حتى لا أكاد أرى أو أفكر، بل إن صدرى ضاق بى حتى ثقل تنفسى خجلا وخزيا من سابق اتهاماتى للمرأة التونسية بالذات، وحاولت أن أتجنب نظرات زوجتى العاتبة تؤاخذنى على حماستى العدوانية التى أصرت على اتهام المرأة التونسية، ولم أستطع أن أفصل فرحتى ببراءة مظلوم من اختلاطها بهذا الكم من الخزى والشعور بالذنب، صحيح أننى تجنبت أن أوجّه أى اتهام مباشر إلى بنت العم هذه لكن داخلى أنا أدرى به، ولا جدوى من إنكار دلالات سوء ظنى هذا. وقد طردت كل فكرة اعتذار أو هدية تعويض، لأنى أحسست أنها ستزيد من الإهانة، لكن عندك، لقد شاركتنى هذه المرأة التونسية اتهامها لنفسها بفرط دفاعها العصبى الغريب، إذن فأنا لم أتهمها وإنما اتهمت نفسى، بالقدر ذاته الذى اتهمت هى به نفسها، وإلا فلماذا لم تفعل زميلتها الانجليزية مثلها؟، إذن، فأنا وهى، والاستعمار، والدونية شركاء فى “احتقارنا”، فأخذت أمسح وجهى وأنفض سروالى.

حركت هذه الشهامة التلقائية من هذا الخواجة الشهم، شهية المخبر الهاوى “تقليد” السيد بوارو زوج المرأة القط العانس، فأخذ يعيد سلسلة الأحداث، ويرتبها، فيكتشف أن والدَىْ الطفلة من مارسيليا، وأن سيارتهما فولكس فاجن، وأنه لا يعرف رقمها. (إذن ماذا؟) ثم يسب أهل مارسيليا مرة، والنزلاء الطيارى مرة، وبدأت أضيق به وبالحكاية كلها فقد علمتُ نهايتها منذ بدأتْ، وبلغَ رفضى له أقصاه حين جاءنى يتسحب وعيناه تتلفتان يمينا ويسارا ثم يهمس لى، وكأن أحدا سوف يسمعنا، قائلا: إنه ـ أحيانا ـ ما يجد الأطفال شيئا ثم يلقونه هنا أو هناك، إهمالا أو خوفا من قادم، وأن ذلك يعنى أن الكيس قد يكون ملقى فى أحد جوانب الحديقة، وامتلأت غيظا على غيظ، فقد كنت قد أنِست إلى اليأس، ورضيت بالاعتذار لما ألحقه فكرى ببرىء، وقلبت الصفحة نهائيا، وحين قلت له ـ ردا على إغاظته هذه ـ أن يقوم عنى بهذا البحث فى الحديقة، مط شفتيه، وجعل ينبهنى ألا أسكت!! فجعلت أسأله: أليس هذان المارسيليين فرنسيين؟ ألم يسجلا عنوانهما فى الفندق ؟. أم أن مارسيليا فى قارة أخرى؟ قال: نعم.. هما كذلك، فأبديت عجبى من مستوى الخلق الفرنسى الذى يسمح لعائلة فى سياحة أو إجازة أن تأخذ ابنتهما  ما ليس لها بما يفسد خلقها  فى هذه السن، وكان أولى بهما أن يسلما ما عثرت عليه البنت إلى ربة الدار فى حضورها لتتعلم، وما كان أسهل عليهما أن يكتشفا الكيس الغريب  من النقوش الفرعونية أو الأوراق العربية ليعرفا أن  صاحبه مصرى أو عربى من نزلاء الفندق، وإذا بالسيد بوارو العجيب يضحك حتى يكاد يستلقى، ثم ينفخ الهواء من بين شفتين مضمومتين (حركة فرنسية مشهورة)، ويحرك حاجبيه فى امتعاض ساخرا ليقول بكل هذه اللغات إنه “كان زمان” “بـَلاَ فرنسى بلا دياولو”!! “كلهم لصوص”، ولا أحد يمكن أن يثبت شيئا بعد أن يتخلّصوا من الكيس ويكتفوا بمحتواه، قالها وكأنه يوصينى ألا أثق فى خواجة أبدا، وألا أحمل نقودا بعد ذلك، وألا أصدق زميل طريق، وألا.. وألا…،

ماهذا ياسيدى؟ سياحة هذه أم لعبة عسس ولصوص؟. ملعون أبو هذه حضارة وتقدُّم اذا كانت نهايتهما أن نسير نتلفت حولنا طول الوقت هكذا، إذا كانت سوف توصى أن نودع ضمائرنا وعلاقتنا الحميمة فى أدراج البنوك، وملفات شركات التأمين، وسجلات مكاتب المحامين. رفضتُ كل هذا، وأخذت أسترجع من جديد ما سبق أن خبرته من ضروب الشهامة الخوجاتية، من إرشاد هادئ، إلى تعاون مخيماتى..، إلى بسمة حقيقية، فمنعت نفسى أن أتمادى فى السخط والتعميم لمجرد حادث سرقة عابر، أنا لست مثل هذا البوارو المزيف ، لقد شاركتُ ـ شخصيا ـ بإهمالى فى حدوث ما حدث، وكلام كثير من هذا…

فى المساء يفاجئنا الأولاد بدعوة تعويضية على العشاء حيث يخيمون، وقد أعدوا الحساء بطريقة أخرى، ثم “سبَّكوا” المكرونة، وصنعوا سلاطة الفواكه، ويصرون ألا ندفع نصيبنا فى العشاء، لا زوجتى ولا شخصى (كان نصيب كل منا ما يعادل ثلاثة دولارات، لا أكثر) وكفى ما دفعناه بعد الحادث. وسررنا بهذه المبادرة سرورا خاصا، وحمدنا الله حمدا كثيرا.

فجأة، ونحن نتناول العشاء نحاول أن نبتلع ما حدث مع ما نأكل تقول ابنتى “منى” فى صوت واضح، تقول وكأنها تعلن قرارا حاسما نهائياً: “..لا…لن أهاجر”. ولم أستطع أن أتذكر لأول وهلة متى حدثتنى ابنة العشرين هذه عن احتمال هجرتها، ولا إلى أين، قلت لها إن “الطيب أحسن”، ولكن ماذا غيـّر رأيك؟ (ما دامت قد أعلنت قرارها بالنفى فقد كان رأيها الأول هو العكس!)، قالت “هذه السفالة، أولاد الذين هؤلاء؟!” ألا يشعرون..؟ لنفرض أن حضرتك لم تكن معنا.. أو أنك لم يكن معك ما يكفى، ألا يتصورون ماذا يعنى أخذ أكثر من ألف دولار من حافظة صغيرة لمجموعة صغيرة من الأولاد والبنات مثلنا؟” شعرتُ بألمها، وفرحت أن نبَّهَهَا الحادث لخطورة استسهال القرارات والأحكام، وتذكرت ـ حينذاك فقط ـ متى ذكرت ابنتى هذه موضوع الهجرة من قبل؟.

كان ذلك حين أحاطت بنا النظافة ومظاهر الاحترام والانضباط فى أكثر من مكان ومناسبة، وقارنتْ هى ذلك بعكسه عندنا، فى أكثر من مكان ومناسبة أيضا، وقد كان ردى دائما على هذا الشباب المتحفز لترك الجمل بما حمل، أنه : “إذا كانت بلدنا سيئة، فلنبق لنـُـصلحها، أم أننا سنقوم باستيراد مواطنين صالحين جاهزين لذلك، وإذا كانت حسنة، فلماذا نتركها؟”. ويبدو منطقى سليما، لكنى لا أتحمس له.

تكرر هذا الموقف  مع أخيها الأكبر محمد بعد ذلك بأكثر من عشر سنوات فقد هاجر فعلا هو وزوجته وإبنه وابنته إلى نيوزيلاندا وبعد عام ونصف عام تبين أنه لا ينتمى، ولن ينتمى إلى هؤلاء الطيبين المنضبطين، تأكد أنه ذهب إلى غير مكانه، أنهم ليسوا هم، وعاد بعد أن أرسل إلى حافظ عزيز صديقه يقول له أن والده (أنا) على حق فى موقفه من الحضارة الغربية وأشياء أخرى،  لكنّه أضاف لحافظ بأنه لا يعرف بديلا.

ولا أنـا أعرف بديلا . لكن ثم بديلا حتما.

وأهمس لنفسى متعمـِّدا ألا أسمعنى، حتى أنا، أخشى أن أسمعنى وأنا أسألنى:

ـ وأنتَ؟. متى تتركها؟.

فأجيب:

ـ حين يخنقون الكلمة فى صدرى فلا أستطيع أن أساهم بإعلان ما أرى،

ويلسعنى كسوط خفى ذلك الجواب السريع؛ لأعترف مرغما أن هذا استسهال أخبث، وأتوقف عن الحوار الداخلى.

أحمد الله على السرقة وآثارها.

لكننى أشعر بثقل فوق قرنى الأيسر ، هأنذا أعانى من نكسة سريعة وأنا  أختبر قدراتى فى مواجهة كل هذا، وكأنى مسئول وحدى عن تعديل الكون، وإرساء قواعد حضارة جديدة، تستوعب كل هذه الحضارة المادية وتتجاوزها.  هذه الحضارة (المادية: فى الشمال شرقه وغربه) قد شاخت واستتبت. أتعجب لتراخينا فى مواجهتها، والألعن أننا نواجهها بأن نكون الوجه الأقبح لها.. تحت عناوين دينية خالية من كل تكامل متجاوز.

يزداد يقينى أن مافعلته شركات التأمين، من حفز إلى السرقة (بضمان تعويض المسروق، ومكسب السارق). وما فعلته القوانين بالحفز إلى خرقها بالعنف الدموى… الخ. ماهو إلا الصورة الأخرى لما فعلته مناهج البحث العلمى الجزئى بتأكيد الاغتراب عن جوهر المعرفة، وهو هو ما فعلته قوانين السياسة الأحدث بتبرير الحروب والقتل عن بعد، أشياء كلها تبدو لأول وهلة: تنظيمية حديثة، ولكنها فى واقعها تعلن أن الإنسان لم يعد يثق فى نفسه، ولا فى جنسه، ولا فى شئ، فوضع كلاما على ورق، يتصور به أنه بديل عن الانتماء لـلحقيقة المطلقة، للقاسم المشترك الأعظم، للحن الأساس، لله، للبصيرة اليقظة؛

الكلام على الورق مهما بدا جميلا ومنمقا فإن المكَّلف بتنفيذه ليس ورقة ضمن الأوراق.

الأحد 2 سبتمبر 1984:

كنا قبل السفر قد استخرجنا تأشيرة دخول إلى أسبانيا، لكننا عدلنا حسما حتى لا تنقلب الرحلة إلى خطفِ نظر، أو فرطِ عدو. فليست المسألة: كم بلدا زرنا، وكم كيلومترا قطعنا، دون أن نزور أو نقطع ما يقابلها من طبقات الداخل، ومساحات الناس؟. وكان ترتيبنا فى هذا اليوم أن نتجه غربا إلى “كان” وما بعدها (سان رافائيل، وسان دييجو)، ولم أكن قد تذكرت بوضوح أن “كان” هذه: هى هى “كان” التى يتردد اسمها كل عام مع أسماء أفلام ومؤتمرات ومناورات فنية لا أفهمها، وأنها هى هى التى يتباهى بالإقامة فيها أو زيارتها أثرياء العرب ومغامروهم، وكنت قد زرتها أمس مع مصطفى فى عجالة من أمرى لنقابل “المرحوم” د.حلمى شاهين فى بعض أمر ولدى هذا، فوجدته يجلس على الكراسى المرصوصة على الشاطئ فى تراخ حر، يجلس وحيدا وكأنه راض أو سعيد، وفهمت معانى أخرى للرضا، مثل تناسب المُراد مع المُتاح، أو تصور التميّز والاستقلال..، أو أى معنى لا يخطر على بالى، المهم أن “الرضا” ليس هو فقط ما أعرفه بهذا الإسم.

بدا لى هذا الشيخ الطيب فى أهدأ حالاته وهو يحكى، وهو يشكو، وهو يصر، وهو يفخر، وقد أخذ يصف لى تغير أحوال “كان” عما كان، وكيف أن الفندق ـ مثلا ـ أصبح مليئا باللبنانيين بحيث لم يعد يجد فيه المناخ الذى يُشعره بالنقلة، ومن ثم بالإجازة أو السياحة، إذْ ما فائدة أن تشد الرحال لتتكلم نفس لغتك، وتسمع نفس النكت، وأسخف، وتتلقى المقالب ذاتها وأسطح..، وتغتاب، وتنِـم، وتقارِن، وتزن، على الموجة المعتادة ذاتها؟؟.

عدت أقارن كلا مـِـن رفض الدكتورحلمى شاهين و رفضى بذلك الالتحام الذى ألاحظه بين أفراد الجنس الأصفر الغازى لهذه الحضارة الغربية، يغزونها ومعهم لغتهم وأطعمتهم وتقاليدهم. وأقارن بين انزعاجى (الداخلى) إذا سمعت صوت مصرى أو عربى يصيح أو يغنى، أو يهرج، وأنا فى سياحتى الأوربية، وبين حدبهم على بعضهم وإصرارهم على الالتصاق والتميز والتمسك بكل ما هُم، فألوم نفسى وأشك فيما تقدم من أعذار أوتبرير. ومن هذه التبريرات أننى  أتصور أننى لشدة رغبتى فى استعمال الرحلات للاستكشاف والتعرى، أريد أن أعرّض كيانى لأكبر مساحة ممكنة من وجود آخرين فعلاً، على أرضية مختلفة، فلعلّ هذا هو ما يجعلنى حريصا على عدم إضاعة وقتى مع من يمكن أن أجدهم فى بلدى، وأكاد أقنع بهذا التبرير، لكن زوجتى تقدّم تفسيرا أقسى: وهو أنى أحب مصر الأرض، ومصر الأم، ومصر الأمل، ومصر القبر، ومصر المعنى، ومصر الرمز، ولكنى لا أحب المصريين اللحم والدم، لا أحبهم أشخاصا محددين حاضرين فى وعلى فعلاً، فأنزعج انزعاجا بالغا لاحتمال صدق هذا التفسير، وأحاول أن أُفـهـمها ـ ونفسى ـ أنه لا يوجد شئ اسمه “مصر” دون “مصريين”، لكنها لا تقتنع، ولا أنا، فأدارى خجلى من عِرْيِـى وأعترف بضرورة أن أجاهد نفسى فى هذه المنطقة، لعلى أتخطى هذه الفجوة بين ما هو مصر ومَنْ هم مصريون. تلك الفجوة التى ضبطتنى زوجتى متلبسا بتوسيعها بالتجنـّى المتواصل على كل من هو مثلى، بلدياتى، وقد حاولتُ أن أنقل أزمتى هذه إلى الكهل الوطنى الحكيم (د. حلمى شاهين) بمناسبة احتجاجه على غلبة العرب فى المطعم والكافتريا والاستقبال بحيث أفقدوه شعوره بالسفر وبأوربا، ولكنى أجد فكره بعيدا عن تصورى، عزوفا عن المواجهة، مكتفياً بالأحكام والاحتجاج والتسليم فى آن، وأراجع قدرة هذا الجيل (عمر الدكتور”حلمى شاهين” هذا حوالى 08 سنة) على التمسك بوطنيته بكل عنف (ربما فى مواجهة الاستعمار) وفى الوقت ذاته، على سهولة التأثر والانبهار بهم.. وإلى آخر مدى، وأحسده على أحادية النظرة مع ذلك، وكأنه ـ شخصيا ـ خارج اللعبة، فلماذا أورّط أنا نفسى بكل هذه المراجعات والمواجهات؟

كان ذلك أمس، وقد استفدت من هذه الزيارة الخاطفة للدكتور حلمى أنى استطعت أن أقوم بدور المرشد لصحبتى فى هذا الجزء من الرحلة حتى “كان” فى اليوم التالى، وقد وصلناها فى الضحى، وبعد لفة سريعة، قررنا أن نمضى بعض الوقت حول اللسان الداخل فى الشاطىء.

يجذب نظرى ـ بوجه خاص – عجوز وحيد، لا تقل سنه (حسب نظرنا)، عن تسعين عاما، وهو يمتطى صهوة شئ أشبه بقارب صغير، قطعة خشب ملساء، فى مقدمتها شراع متواضع، وهو يمسك بحبال الشراع قرب المؤخرة فى إصرار وعناد عجيبين، وينقلب القارب فيعوم الكهل فى نشاط ويعود يقفز ليمتطى صهوة قاربه، ثم ينقلب، ثم يعاود، ثم يتمكن لبضع عشرات الأمتار، ثم يتمايل فأتمايل معه، ثم يسيطر وينتظر، فنفرح له وبه مشفقين، آملين أن نمضى قبل أن ينقلب من جديد، ويخفف عنى كل ذلك بعض آثار صورة الأمس عن هذه الحضارة وما آلت اليه،

أتساءل عن علاقتنا نحن ـ حتى الشباب ـ بالحركة الجسدية أصلا، حتى المشى، وأتساءل أكثر عن معنى التقدم فى السن لدينا، وما الذى يدفع هذا الكهل لأن يقوم بكل هذا وحيدا عنيدا، ولماذا يتركه الناس ـ هكذاـ بكل سماح وثقة، بلا نصيحة معوقة أو شفقة معجزة، وكيف يتمسك بهذه الحياة، بما تبقى له من قدرة كما يمسك بحبال الشراع الرقيقة فوق هذا اللوح فى مهب الموج والريح؟ وماذا بعد مثابرته هذه وعناده فانتصاره؟ أين سيصب ناتج انتصاره فى فعله اليومى وقد ناهز الثمانين؟ ولا أستطيع أن أتخيل معالم يومه العادى أبداً. كما أنى لا أجد إجابات مقنعة أو حتى تقريبية، فأتوقف عند هذا الإختلاف، وأتمنى ألا أنسى كل ذلك،أو بعض ذلك، فما أحوجنى إلى مثله فى أحيان كثيرة.

ونمضى بعد “كان”، فى اتجاه سان رافائيل، وما إن نتجه إلى الشمال الغربى، حتى نجدنا نصّاعد فى السماء، ويتململ الركب خوفا من أن تنقلب الفسحة الترويحية (حسب توقعاتهم) إلى مغامرة جديدة (غير محسوبة) ذاكرين جبال يوغسلافيا المتواضعة، إذ يبدو أننا مقبلون على ما هو أشد وأعتى، فأواصل الصعود دون أخذ رأيهم، ونظل كذلك حتى ترى سيارتنا زميلات لها وقد تلكأن حتى توقف بعضهن هنا وهناك على الجانبين. وكالعادة، تتباطأ هى الأخرى حتى تقف بجوارهن، فنجد أنفسنا على مشارف بلدة اسمها ثيو Theo، ونترجل للنظر من أعلى الجبل، فنرى مايشبه الخليج الصغير شبه المغلق، وكأن البحر قد استأذن الجبل ليرتاح فى حضنه، فصار هذا البعض مثل حمام سباحة هادئ مفتوح على الموج فى اتجاه واحد، أو كأن الجبل قد قضم قضمة من البحر فاستطعمها فلم يبلعها، فوقفت فى حلقه يلوكها بمتعة خاصة واختيار متجدد، ولم نكن قد ابتعدنا عن “كان” إلا قليلا،  ونقرر أن ننزل إلى هذا الخليج، نتنصت على هذا الهمس بين البحر والجبل، وقد يأخذ على وأحمد غطسا، لعلنا نتذوق مباشرة ذلك الطعم الشهى الذى منع الجبل أن يتعجل فى ابتلاع قضمة البحر. نعم.. حمام سباحة “خلقة ربنا”، ونجد المهبط معدا بدقة شديدة، سلالم حجرية، ثم منحدرات شبه مستوية، ثم سلالم، وعدداً بلا حصر من اللفات الرائحة الغادية، وهكذا، ونرجح أنهم إما يستغلون مسار تعرجات الجبل الطبيعية فيقلبونها طريقا، وإما أنهم يحاولون التخفيف من حدة الصعود بكل هذه التعاريج، ونكتشف خداع النظر، فالخليج الذى بدا لنا من أعلى مثل حمام سباحة صغير هادئ ثبت أنه عميق إلى قاع القاع، وأن نبضه غاذر قوى؟ بدت لى الطبيعة متآلفة فى قوة: قطعة البحر قد استقرت آمنة وهى ترقد فى حماية الجبل من كل جانب، لكنها لم تفقد زخمها وعنفوانها.

نقابل فى طريقنا على المهبط ذلك السنغالى الطويل الرفيع الأسود، وهو يمسك بيده عدة مشغولات جلدية، ومن الخرز، يعرضها للبيع بأثمان زهيدة فعلا، ويتعرف على جنسيتنا، ويتكرر الحوار “مسلم؟”. مسلم!: “لا إله إلا الله” “أهلا” “متى العيد الكبير؟” ياه!!، ونكتشف أن العيد ـ وكنا بصراحة قد نسيناه فى زحمة الترحال وضياع معالم الزمن ـ هو بعد  ثلاثة أيام، ولكن ما الذى أتى بهذا السنغالى إلى هذا المكان، فى هذا الجبل؟. وما هذا الذى دفعه إلى أن ينزل إلى هنا يعرض بضاعته على عدد من الزبائن لا يزيد عن عشرة وليست عند أى منهم ـ فى الأغلب ـ نية الشراء؟ فما “لهذا” قدموا “هنا”؟. وهذا السنغالى؟ ماذا فى ذهنه؟. كم يكسب؟. وكيف أتى؟. ولماذا ـ هنا ـ بالذات؛ حيث لا تجمعات ولافرص، وأتأكد من أن هذه الدنيا تسير وفق حسابات أعقد وأخفى مما يبدو على ظاهرها، يقال عن بعضها مما يناسب المقام “أرزاق”، هذا المعنى الذى اختفى ـ تماما ـ وراء النظام التأمينى للحياة؛ فطالبُ الرزق الآن لا يسير فى مناكبها، ولا يقف على “باب الله”، ولا يحسب نفسه وجهده “سببا”، (.. فهو متسبب) يُجرى الله “من خلاله” ما يتجلى به فضله على عباده، كل هذا أصبح يعد موقفا سلبيا وقدريا وغبيا. أما الموقف الذكى جدا فهو انتظار قرار القوى العاملة، أو الوقوف فى طابور معاش البطالة فى الدول المتحضرة، ويبدو أن هذا السنغالى لم يستوعب ـ مثلى هذه القوانين الجديدة بالدرجة التى تُقعده فى بيته. سألته (بعد المساومة، والتخفيض إلى النصف، والشراء، والرفض من بقية الرفقاء)، سألته: لماذا؟ هنا بالذات؟. وكيف؟. قال إنه طالب يدرس، ويريد أن “يصيـّف”، فيحاول أن يجمع مصاريف رحلته بهذه التجارة المتواضعة، وصدقته نصف نصف، ثم تذكرته بعد ذلك فصدقته تماماً لما رأيت مواطنيه من مختلف الأعمار يحملون البضاعة عينها بالعشرات فى البيجال، وحول الساكركير فى باريس. ولم تمنعنى شكوكى من أن أفرح بهذا الرحالة الشاب المتواضع ولمعة سواده تبرق تحت الشمس وكأنها أقرب ما فينا إلى الطبيعة الحية القوية حولنا، وأنا شديد الضعف أمام ذلك الأسود الرفيع الطويل، وهو عندى غير الزنجى، وغير السودانى (مثلا). فالزنجى عندى هو صاحب الأنف الأفطس والشفاه الغليظة والشهية المفتوحة لكل ما هو بدائى قوى شبقى متقد. والسودانى هو أنا وأنت وكل صاحب ملامح عربية “غامقة” وشهامة ورِقة فى آن واحد. أما رفيق الطريق هذا ذو الملامح المنمنمة، والسواد اللامع، والجذع الممتد مثل شجرة الأبنوس، فهو يشعرنى برهافة الطبيعة بدرجة تحرك فى داخل داخلى كل ما هو حمأ مسنون.

ثار داخلى يوما فى هذا الاتجاه نفسه المنجذب نحو السواد الفطرى حين رحت أتحدث بالإشارة مع فتى أسود، سواده لامع جد،  وهو طويل، ورقيق جدا، كان يقوم يتنظيف حجرة فندقى فى الخرطوم (سنة 1980) كان طويلا حتى حسبت أنه لن يمر بباب الحجرة إلا منحنيا، وكانت له بسمة رائقة رائعة تنفرج عن ذلك البياض الناصع الذى يذكرنى باللبن الحليب الطازج فى طاجن محروق، دون أن يغلى، ثم يذكرنى ـ أيضاً ـ بما هو قلب طفل لم يُختبر، وكان يوجد بطول خديه، وعلى جبهته، عقد منتظم من بروزات دقيقة مرتبة، وقد علمت من هذا الفتى السودانى فى الخرطوم (بالإشارة الإنجليزية ـ أساساـ فهو لا يعرف العربية ولا يجيد الإنجليزية) أنها وشم منذ الطفولة يميز أبناء قبيلته من البوير فى الجنوب، وقد أثارنى كل هذا حتى كتبت فيه شعرا، وان كنت قد أنهيت القصيدة رافضا هذا النوع من المشاركة بالانفصال الفنى الذى يخفف من نبض إيقاع الوعى، الشعر قد ينزع عن الإنسان نبضه الحاضر إذ يقلبه   إلى رمز مغترب أو صورة بعيدة، مهما كانت جميلة، وكأننا نكتب فى الناس والأوطان شعرا أو نثراً أو وصفا؛ لنخفف بذلك من مسئوليتنا عن تحمل مسئولية المشاركة، فكرة قديمة، أزعجتنى وحيرتنى كثيرا.

تذكرت فتى البوير هذا، وأنا أتطلع إلى الفتى السنغالى على الدرج الحجرى الهابط إلى قضمة البحر عند ثيو، وجعلت أقول لنفسى “أفريقيا”، هذه الأفريقيا، يستحيل أن أكتمل أو أعرف ماذا أنا إلا إذا غرقت هناك فى محيط سوادها مباشرة، السواد هو الأصل.

حين كنت فى الخرطوم فى تلك السفرة كنت مع المرحوم الأستاذ يحيى طاهر لفحص زميل متهم (رحمه الله) فى جناية قتل، وكان من بين أقوال بعض الشهود وصفهم المتهم بأنه “الزول الأزرق”، ولم أفهم صفة الأزرق هذه إلا بعد أن خدّم علىّ فتى البوير فى الفندق، فلفظ الزول يعنى الشخص، والأزرق هو من ليس أسوداً هذا السواد اللامع الغطيس، هو ما يرادف لفظ أسمر عندنا (وليس أسود).  أتم فتى البوير هذا تنظيف الحجرة على أكمل وجه، وكان عوده الفارع الدقيق، وابتسامته العذبة، وعينيه المليئتين بالحب والألم، كان كل ذلك فيه من الرسائل ما يكفى لتحريك كل ما تعاطفتُ معه به، وتصورته عنه من هجرة، وغربة، ووحدة، ورقة، وقد فوجئت به فى بهو الفندق فى المساء ونحن ننتظر مائدة العشاء من الشواء الفاخر وغيرذلك. فوجئت به وهو يجلس خلف صندوق تلميع الأحذية، ربما كان هو يزيد دخله بعمل إضافى بعد الظهر، وربما كان أخوه، وربماكان بلدياته، نفس العود، ونفس الألم، ونفس الوشم: حبيبات من اللحم بعرض جبهته وليست مجرد رسوم دق أو كىٍّ محدد.

لم أحتمل ما غمرنى من تعاطف و ألم، فوجدتُنى أرسمه شعرا، وكأنى بذلك أنساه، أو ألغيه، وتنبهّتُ إلى موقفى القديم الذى أشرت إليه حالا، والذى يتهم الفن عموما، والشعر خصوصا بأنه قد يكون مهربا وتسكينا، وليس بالضرورة محركا ومحرّضا. وبدلا من أن أسمح لنفسى أن أُفرغ انفعالى به شعرا بعيدا عنه، رحت أعرّى الشعر نفسه كوسيلة لإلغاء الآخر، فكتبتُ ما أسميته: المقصلة”، أو “الإعدام بالشعر”:

( 1 )

والوشم حبّاتُ الزبيبِ والعرقْ، حلمات أثداءِ الأمومةِ والطبيعةِ والشبقْ. والليل يشرق ساطعاً من وجه عملاقٍ رقيقْ، حَمَلَ البدايةَ والمصيرْ،  فتطلّ من عَينْيهِ أحدا ثُ الليالى الصامتة ْ قامت تمطّـت بعد دهرٍ ثائِر، فى الكهف سرُّ الكونِ والبعثِ الجديدْ، رحـِمُ الحقيقِة والأجنّةُ كامنهْ، فى البذِر تنتظرُ المطرْ.

( 2 )

يــا إبن أمّ: كيف السبيلُ إلى المياه الغائرهْ؟ تروى القبورْ ؟ والعين أطْفَأَهَا رماد الجرى فى غَيْرِ المحاجرْ، والقلب منقوع السآمهْ ؟

( 3 )

أصدرتُ أمراً غائما من فوق قمّة الهرم، من مخبأ الصمم: [يا لمعة الحذاء فى حفل المساء، ما بين سادة عجمْ ] فضّ الغطاء وابتسم، فمضى الشعاعُ السيفُ يخترقُ المدَى. تجلـو الملاِمحَ فى غَيَاباتِ الحَزَن.

( 4 )

..وغرقتُ فى سُحُب الدخاِن والشواءِ والكلام والعدمْ، فرأيتهُ ُشطراً من الشعـِر انتظْم حَسَدا جباناً مهْرباً من بُعْدِنـَا عنَّا، أعدمتــُه بشراَ، صيّرتُه رمزاً قتيلا بين أصداءِ النغمْ، حـَرْفاً تقلَّبَ دامياً من وخز هزَّاتِ القلم

( 5 )

نادى الخليفةُ حاجبهْ، دخل النديمُ مهلـِّلاً، قرأ القصيَدَة فانتشى، قد راق مولانا الغناءْ.

أين لى هذه الفرصة التى أتواصل فيها مع أصلى، أصلنا، الأسود الرائع؟

فى أفريقيا، فى الجنوب، فى السواد الأعظم، لن تكون سياحة للفرجة؟ إذن، ماذا تكون؟ تكون مخاطرة الكشف المرعب، حتى أنى أتصوّر أنها غير قابلة للكتابة، ستكون أعمق وأكبر من الكتابة.

لماذا الكتابة؟

ونواصل النزول إلى الشاطئ المحدود فى جوف الجبل، فأتذكر سان اسباستيان فى شمال أسبانيا حيث اقتطَعَ جبلها ـ خلسة أيضا على ما يبدو ـ جزءا من المحيط بالطريقة ذاتها، ولكن على نطاق أوسع، وحين نصل إلى حيث بضعة النفر من الناس فى حمام السباحة الطبيعى هذا، أجد ما توقعت من العرى والطفولة والطبيعة والحرية والسماح بما يليق بالمكان والزمان. لم أنبه زوجتى (متذكرا غثيانها)، ولا أولادى (متذكرا عزوفهم المبدئى)، وإن كنت أحسب أن العرى هنا فى هذا المكان المغلق كان أقل نشازا وتحديا من العرى على الشواطئ المفتوحة. كما أنه يبدو أن التنبيه إلى الشذوذ ـ بحسب مقاييسنا ـ هو الذى يجعل الشذوذ شاذا.

يستأذن الصغيران ـ على وأحمد ـ فى غُطس عابر، وأتمنى لو أشاركهما، فقضمة البحر هذه وسط الجبل قد تكون إنعاشا لما أحتاج لإنعاشه من حمام مخيم “ألبا دورو” على مشارف فينيسيا، ولكنى أخجل من إظهار هذه الرغبة وحولى هذا الشباب الرزين والعياذ بالله، فتصنعت الحكمة وانتحيت جانبا أجلس على صخرة كبيرة مطلقا خيالى يعوم بطول الخط الفاصل بين الأفق والبحر، وقد يختفى خلف السحاب المتشكل بما يوحى بكل ما يمكن.. وغيره، واضطجع الباقون ـ حتى ينتهى الصغيران من غطسهما ـ كل بجوار صخرة تُماثِلُه، و تَكمِّله، وصورنا، وصمتنا، وكاد بعضنا أن يغفو، وانتظرنا الصغيرين حتى يشبعا، فلم يشبعا، فاضطررنا إلى توقيت ميعاد لـلرحيل القسرى، وعاودنا الصعود راضين متعجبين من كل هذه الفرص لكل الناس. يكفى أن تكون عندك سيارة، (وفى فرنسا توجد سيارة لكل ثلاثة مواطنين بما فى ذلك الأطفال)، أو أشغال سنغالية وتذكرة أتوبيس، و”سندوتش” لتتمتع بكل هذا،

يارب لا اعتراض، ولكننا فى مصر أحوج ما نكون إلى أن نتصالح مع الطبيعة، ثم أنفسنا، وبالعكس. فى مصر جمال شاسع ممتد بلا نهاية، ذلك السحر الواعد، ماذا فعلنا به ؟ بنا؟  متى؟ إلى متى؟

يصل إلى مسامعى همْسُ عدد من رفقاء الرحله، كانوا يتداولون فى أروقة السلالم الحجرية الصاعدة: أن هذا يكفى. لأنه ـ فى الأغلب ـ لن يكون فى سان رافائيل، أو سان دييجو إلا جبل، وبحر، وعـِـرى، وطفولة، وحمد، ومقارنة، وغيظ، ورضا، وقد وصَلَنَا كل ذلك فى هذه الانحرافة المختصرة، وأعلم أنى سأخسر لو أصررت على مواصلة السير لمائة وخمسين كيلو مترا آخرين لأثبت لهم أن كلامهم غير صحيح، فرضيت مكرها، برغم يقينى أنه لايوجد جمال مثل جمال آخر،

أتصور أن للطبيعة بصمات مثل بصمات البشر، يستحيل أن تتماثل، أرنى ألف ألف صخرة، ومثلها من الموجات، والسحب، والورود، وسأريك فيها ألف ألف جمال بالعدد ذاته، مضروبا فى حالتك، فى عدد زوايا رؤيتك، ملونا بحدة إنبهارك، نابضا بدرجة انفتاح مسام وعيك، فلا يـُـفسد الجمال الا أن تشعر أنه “مكرر” أو “مقرر”، أما أن تكتشف فيه دائما ذلك التفرد، وأن تأتى ذلك مختارا، فقد ملكت نواصى الداخل والخارج مبدعا فى كل آن،

بصراحة.. نحن عندنا حس جمالى، لكنه من نوع آخر، كأننا نحس بالجمال سرا، أو فى حياء. فما زلت أذكر نظرات ذلك الفلاح الصديق الذى يعزمنى على غدائه على رأس الغيط، وهو “يدش” فحل البصل ويتأمل طبقات البصلة الداخلية الملتفة فى دوائر حتى القلب الرقيق القابع فى مركز الدوائر، فأتناوله منه شاكرا مشاركا. يتبادل ذلك مع لف عود الكرات، حول كسرة الخبز دون الإسراع بالتهامها، وهذا ليس من قبيل “ما احلاها عيشة الفلاح”، ولا هو يتم بوعى ظاهر، لكنى على يقين أن هذه العلاقة الوثيقة الهادئة بين الداخل والخارج، هى من مكونات صلابة الناس وأصالتهم، وهى الجمال ذاته حتى لو لم يعلن، وبديهى أن هذه ليست دعوة للرضا بالفقر، فالفقر على المدى الطويل كفر مشوَّه، لكنها تذكرة تنبه إلى عدم التسرع بالتماس أسباب عمانا عن الجميل بلوم الفقر ورفع شعارات جاهزة مبررة.

ماذا حدث لهؤلاء الذين اغتنوا منا فلم يزدادوا إلا ذهولا وتخديرا؟ والفقراء أيضا تصلبوا أمام التليفزيون دون الطبيعة ثَمَّ شئ قد حدث جعلنا نتخاصم ـ فقراء وأغنياء ـ مع أنفسنا فى الداخل، فنخاصم الخارج، شئ ما قد سد مسامنا حتى لم نعد نستطيع أن نستنشق الطبيعة. وحتى الدين الذى نزل أصلا ليساهم فى “تسليك” المسالك بين الإنسان والطبيعة، إلى مابعد المدى، انتهى إلى أن يصبح ـ فى الأغلب ـ عجينة من الأسمنت والجبس تجثم على مرونة الحركة وتسد المسارات الجمالية الحرة يبن الداخل والخارج، وبرغم وصية الأديان جميعا بالنظر فى أنفسنا، وفى السماء والأرض والنجوم، فإننا لا نطيع ربنا فى ذلك، بل نستعمله لإثبات أن ديننا أحسن، وألمع، وأكسب، نريد بذلك أن نشكل الناس والأفكار فى النمط “الصحيح” الجاهز الواحد، فى حين أن الوعى الفطرى لا يمكن إلا أن يرى تجليات الواحد الأحد فى كل العصور المتعددة التواجد بلا نهاية، يجمعنا ذلك النبض المشترك الأعظم فى وحدة النغم الكونى مع اختلاف الحضور والشهود والوجود باختلاف الزمان والمكان.

نعم ليست أية صخرة مثل غيرها، والجمال ـ هنا ـ فى ثيو غيره فى سان سباستيان، غيره فى شاطئ عجيبة فى مطروح، ولابد أن يكون غيره فى سان رافائيل لو زرناها، ولكن: مادام الأمر كذلك، والعمر قصيراً، وعلى الرغم من أنه لايغنى جمال عن جمال، فقد انتبهت إلى استحالة الإحاطة بكل إبداع الحق، المتناغم فى صور الطبيعة المتنوعة، فوافقتهم راضيا دون أن اعلن احتجاجى على استسهالهم وتقاعسهم، فهم لم يكونوا كذلك.

رجعنا من طريق غير الذى أتينا منه بين “كان” و:بو ليو”، وكأننا ننفذ وصية صلاة العيد، يقابلنا مستر بوارو الفرنسى بسؤالنا عن ماذا فعلنا فى أمر السرقة. ماذا يريد هذا الرجل؟ ماذا يفعل بالضبط ؟ يواصل مستر بوارو طرح منظومات فرضه، وهات يا اقتراحات إضافية، واستنتاجات لاحقة، ونهرب منه ساخطين بكل معنى، كاد يفسد نسيانا الجميل لما حدث.

لم أكن أتصور أن عقل مثل هؤلاء الناس فارغ كل هذا الفراغ حتى يلف مكانه هكذا بلا طائل، تسلية هى أم ماذا؟ وفى محاولة الهرب من ضياع الليلة فى اجترار الأحداث التى نسيناها والحمد لله، يذكرنا الأولاد بتلك الإشارات التى كانت تدعونا إلى زيارة ملاهى” أنتيب” وهى بلدة جبلية تقع بين كان ونيس، فنعتذر أنا وزوجتى برغم خبرتنا الناجحة فى العام الماضى فى أرض الديزنى ضاحية لوس أنجلوس، وربما كان اعتذارنا نابعا من خوفنا من تشويه طفولتنا التى انطلقت منا فى أرض ديزنى تلك المرّة، ثم إن مسألة ذهابنا إلى الملاهى مع الأولاد غيرها إذا كنا وحدنا، حسب ما جربنا صدفة ـ وبصراحة فأنا ما عدت مقتنعا بالاكتفاء بأن من “أطعم صغيرى بلحة، نزلت حلاوتها بطنى”، فقد يكون هذا طيباً مرحليا. أما أن نظل نتمتع من خلال متعتهم فحسب، فهذا ظلم لنا، ولهم. هذا استعمال خفى لا يصلح طول العمر، ولا يصلح عذرا للكبار أن يتوقفوا ويدعوا، ثم يستعملوا أولادهم بدلا عنهم. لم أجد عندى استعدادا أن أذهب معهم ليفرحوا فأفرح، وفى الوقت ذاته لم أطمئن إلى قدرتى على النكوص الشخصى طفلا يلعب بنفسه لنفسه، ويشارك بنفسه، فهذا أمر احتاج فى العام الماضى إلى كل تكتيكات والت ديزنى التكنولوجية والطبيعية، حتى نجح فى اختراق طبقات حُزنى، وفى ترويض بعض خجلى، وفى تحجيم معظم حساباتى، وفى تأجيل أغلب مسئولياتى. فعلت كل ذلك هناك فى لوس أنجلوس دون استئذان، فهل يا ترى ستقدر أى ملاهٍ أخرى أن تعيد لعبة سرقتى إلى طفلى ـ أنا ـ بعد أن فقست حركاتها، هل سيسمح لى أولادى أن أكون “طفلى” وهم حولى فى هذه الملاهى الأصغر؟. لا أظن.

ما زلت أذكر تلك الخبرة التى علمتنى كيف أن بعض أذكياء الخواجات يعرفون من هم مثلى، يعرفون همومه الأزلية، بقدر ما يعرفون مفاتيح طفولته السرية، فيستدرجونه تحت أى عنوان، ثم يظلون يرددون كلمة السر، وينوعونها، حتى تفتح الأبواب الخفية إلى طفولتنا الكامنة، أو المقهورة، أو الخائفة، أو المنزوية، أو المنسية، أو المهملة، قصدا، أو بالصدفة.

هذا ما حدث فى أرض ديزنى (ديزنى لاند) فى لوس انجلوس.

كان ذلك فى العام الماضى، خلال رحلتى الاضطرارية إلى أمريكا، لم يكن عندنا ـ زوجتى وأنا ـ غير ما يقارب أربعين ساعة نقضيها فى لوس أنجلوس، فقد وصلنا مطارها قادمين من سان فرانسيسكو، حول الواحدة ظهرا، وقررنا أن نغادرها صباح اليوم بعد التالى (لست أذكر لماذا؟) وكنا قد سألنا صاحب الفندق فى سان فرانسيسكو ونحن نتجه إلى لوس انجلوس عن أى المعالم أولى بالزيارة فى هذا الوقت القصير، فدلنا على مَعْلَميْن: الاستوديوهات العالمية (ما نسميه نحن: هوليود، مع أن هوليود نفسها ليست إلا قرية على قدر حالها)، وأرض ديزنى (ديزنى لاند) ـ ولم يكن عندنا خيار كبير، فاتجهنا من فور وصولنا بعد الظهر إلى الاستديوهات محتفظين باليوم التالى للملاهى، لكننا وصلنا تلك الاستديوهات بعد قيام آخر فوج، فى آخر جولة، فجعلنا نتجول حولها من خارج، ونحاول أن نرى من خلال وجوه الناس العائدين من الجولة ـ بالإضافة إلى ما سمعته ممن سبقت له زيارتها ـ كل ما يمكن تصوره، فرأيت الخدع السينمائية العملاقة، والمدن الكاملة المعدة للانهيار ـ مثلا ـ والكبارى التى تقام فى ثوان وتنتقل فى ثوان والمطر الصناعى، وغير ذلك كثير كثير مما صوره لى خيالى، قدرت أن هذه الزيارة الخيالية من خارج السور، ومن خلال قراءة وجوه الخارجين قد تكون أرحب من الزيارة الحقيقية، حيث سمح لى خيالى أن أقارن بين ما يجرى فى الخارج وما يجرى فى الداخل،

تصوّرت  أن واقعنا المعاش ليس إلا  سلسلة من هذه الخدع العملاقة: حروب غير مفهومة، ورؤساء غير مسئولين، وسرعة غير هادفة، ومكاسب بلا عائد، وأفكار بلا مسئولية وديانات بلا إيمان. فكدت أتيقن أن كل ذلك أكثر إدهاشا مما كنت سأراه لو أنى دخلت الاستديوهات. إن الزلزال الحقيقى ـ مثلا ـ كثيرا ما يبدو لى أكثر عبثية ولا منطقية من أضخم عرض لإغارات” موبى ديك”، أو هجمات ” الفك المفترس”..، اكتفينا زوجتى وأنا من الاستديوهات بما وضَـلَنَـا  فزادت حماستنا لقضاء اليوم التالى فى أرض ديزنى شخصيا.

وصلنا “هناك” ـ أرض ديزنى ـ حول الساعة العاشرة صباحا، والسائق “المحترم” يوصينا بأنفسنا خيرا، ويعطينا اسمه ورقم سيارته وميعاد اللقاء واختيارات العودة، وكأننا أطفال يحفظوننا أسماءنا بالكامل وعنوان بيتنا حتى إذا تهنا (زحمة ياولداه!!) ذكرنا اسمنا فى قسم البوليس، بالوضوح الذى يعيدنا إلى أهلنا بأسرع ما يمكن، فأحسست ببداية تحريك الطفل القابع هناك فى داخلى حيث لا أدرى منذ لم يكن أصلا ـ ربما ـ،

دخلنا إلى أرض العجائب صنع الإنسان العجيب، فبدأت فروق الأعمار تتضاءل رويدا رويدا حتى لم يبق إلا العمر الموحَّد لكل الموجودين، العمر الذى ليس له رقم فى شهادة ميلاد أو أىة أوراق رسمية. وهو العمر الذى يستطيع ـ دون استئذان أو حرج ـ أن يصادق ميكى ماوس شخصيا صداقة تسمح له بالطلب، والعتاب، والمشاركة، والاستزادة، والإعادة، والاستغماية. فتلفتُ حولى وأنا أنسلخ من نفسى خشية أن يرانى أحدهم متلبسا بطفولة لم أعهدها، لاحَ لى وجهٌ فى مرآة ما أثناء استبدالى آلة التصوير الفورى (دون مقابل)، فوجدته وجهى مليئا بما يشبه الحزن، أريد ألا أشعر إلا بما أشعر به، هو شعور ليس له علاقة بهذا الوجه وصاحبه. نما هذا الشعور الحر السهل حتى كدت أنسى، لكننى كنت أسمع بين الحين والحين حديثا بالعربية، فأرتد إلى عمرى الحالى، وأكثر، فى لمح البصر، فأجدُنى لبستُ أول ما لبستُ دروع  مهنتى مستعدا أن يستشيرنى هذا الصوت العربى (أو المصرى خاصة) فى مسأله صداعه، أو أن يسألنى فتوى فيما يتعلّق بخلافاته الزوجية، أو  أن يسترشدنى عن أحسن وسيلة للاستذكار، تمنع رسوب ابنه، أو  أن يحدثنى عما وصلت إليه درجة اضطهاد رئيسه له، وألعن هذه المهنة التى تفرض علىّ أن أكون مستشارا طول الوقت، وكأنى أملك بها (بهذه المهنة) مفاتيح السعادة (والبلادة) وأسرار العواطف وترياقاً “ضد الفشل”. وقلت لعلى أبالغ فى تجنبهم بسبب هذه المهنة التى لـُـصقت باسمى، ثم حلت محلى حتى كادت تخنقنى، وكأنى بتجنبى أبناء بلدى إنما أتخلص من هذا الدور المهنى مؤقتا بعناد وإصرار، ربما.

ونشترك فى اللعبة تلو اللعبة، والمركبة تلو المركبة، حتى ننسى أو نكاد، ولا يبقى أمامنا وحولنا وداخلنا  إلا الأطفال بما فى ذلك ذو الشعرالأبيض، والكروش المتهدلة، والعـِصىّ التى تسند الظهر المنحنى، والسروال “الجينز”، والقفزة المرحة، والشعر الأجعد، أو المرسَل. أعمار وألوان وأجناس انصهرت فى أرض واحدة لتتمازج فى كتلة طفلية واحدة، وكلما كان الطابور طويلا، كانت اللعبة أدعى إلى المشاركة، ومن كثرة الالتواء لم نستطع أن نتبين إلى أىة لعبة يؤدى الصف الذى وقفنا فيه لمجرد أنه طويل.

قلنا: مثلنا مثل غيرنا، ومن ينتظر يرى. وتمر نصف ساعة ونحن نتحرك فى كتلة ممتزجة، كمثل طابور نمل يجر قالب سكر بأكمله. وكلما تقدمنا تجاه مكان قطع التذاكر فالدخول، واجهتنا اللافتة تلو الأخرى “تحذر”، “إن الإدارة غير مسئولة”، عن ماذا يا ترى؟.كيف يحملونا المسئولية ونحن أطفال فى أطفال؟. تحذير آخر يقول: “على السادة مرضى القلب أن يعدِلوا راجعين”، الله !! تبدو الحكاية جدا، ثم من أدرانا بقلوبنا ونحن لسنا من أهل الفحص الدورى، وأقول لزوجتى التى تركب أى مصعد بالكاد إن المسألة ليست سهلة، وأتوقع أن تقترح أن نعود إلى أدراجنا، بعد أن وقفنا ساعة وبضع دقائق، لكنها ترجح عنادى، فتسكت علامة الرضا الذى هو والرفض المطلق سواء، وحين نصل إلى التعرف على اللعبة، نفاجأ بأنها “رحلة فى الفضاء”، أهكذا؟

نتذكر متحف سفن الفضاء فى واشنطن دى سى D.C.، وكيف دخلنا “الكابسولة” فى طابور طويل مماثل، وكيف أخذنا نتحسس جسمها وأماكن الرواد، وكأننا نحصل على البركة؛ إذ نلصق ظهرنا بانحناءاتها، تماما مثلما كنا نفعل صغارا فى قبلة السيد البدوى الملساء، أو قبلة مريديه المحيطين بضريحه. وقد تصورت هناك أن النقلة من رحلة الفضاء العامر التى كان يقوم بها السيد البدوى فى مجاهدته للكشف والتجلى، إلى رحلة الفضاء الخالى داخل كبسولة مغلقة محكمة، هى رمز النقلة التى حدثت وتحدث للإنسان المعاصر.

المهم، وصلنا إلى مدخل رحلة الفضاء “اللعبة”، فى أرض ديزنى، وجعلت أنظر إلى وجه زوجتى، فلم ألاحظ ارتياعا أو امتقاعا كما توقعت، ربما من فرط التسليم، أو بسبب يقين اليأس من التراجع. وربما من فرط شجاعة تفاجئنى بها عادة فى الأزمات، فواصلنا السير إلى مقعدينا فى إحدى المركبات، على الرغم من التعليمات بأن يمسك كل منا بكلتا يديه العمود الصلب المستعرض أمامنا، فقد أمسكته بيد واحدة، وأمسكت زوجتى باليد الأخرى، متصورا أن فى ذلك بعض الشهامة ونوعا من الاعتذار عما أعرضها له بسبب عنادى وإلحاحى فى تجريب ما لاأدرى، لكن هذا الوضع قد ألحق بى ما لم أحسب. فإن يدا واحدة لم تسعف فى حفظ توازنى، واليد الأخرى لم تساهم فى طمأنتها، ونحن ننطلق بسرعة هائلة بين نجوم صناعية، وشموس باهرة، وسقوط غير متوقع. وكانت النتيجة أن شعورى بالذنب أو بالمسئولية من جانب، وبعدم الأمان والتهديد من جانب آخر، تضاعفا. وهات يانجوم سابحة، ونيازك ساقطة، وبراكين ثائرة، ومطبات غائرة، وعينك لا ترى إلا النور، أعنى الظلام. وتعلمت كيف أن “الحداقة” المصرية التى أغرتنى بادعاء الشهامة الزوجية، وبالتالى بتجاوز التعليمات “لا تفيد”. كما حاولت أن أنتبه كيف ينبغى أن أحاول أن أكف نفسى عن التفكير نيابة عن الآخرين تحت زعم حمايتهم، أو تحت محاولة الاستغفار أو الاعتذار عما اضطررتهم إليه، خاصة وأننا بمجرد انتهاء رحلة الفضاء الوهمية وجدت زوجتى أثبتُ جنانا، وأهدأ بالا منى، ليس فقط لأنها أنهت الرحلة، ولكن لأنها لم تتكلف كل هذه الحسابات والادعاءات والوصاية.

تصورت أن مثل هذا الموقف يقع فيه كثير من رؤسائنا القدامى والمعاصرين، فهم يفرضون علينا قهرا والديا تحت مختلف العناوين، ثم يعوضوننا ـ أو هكذا يتصورون ـ بحماية مشبوهة لا ترحمهم ولا تـُنضجنا، وهكذا.

لم يخفف من آثار رعب هذه التكنولوجيا اللعبة إلا رحلة وهمية أخرى فى قارب يخترق أدغالا وبحيرات مصطنعة فيها نماذج بالحجم الطبيعى لحيوانات معاصرة ومنقرضة وقبائل بدائية برقصاتها وأدواتها، وتصورت أن وظيفتها أنها تنشط فى داخلنا تاريخنا الحيوى بشكل أو بآخر، وكأن هذه الرحلة الأخرى تدعونا أن نتذكر أصلنا إن نفعت الذكرى وأن نتحمل مسئولية ما وصلنا إليه من بشرية، ونحن إذْ لا ننسى جذورنا تمتد وفروعنا تثمر.

قد يكون كل هذا الذى أقوله وأستنتجه صحيحا، ولكن الأصح أن “يصل” إلى وعيى دون أن أدرى به أو أعقلنه، نعم لا بد أن تصل الرسائل تلقائيا عبر كل تحفظاتنا، ومن خلالها، وبالرغم منها… إلى نبض طفولتنا، ولا أعنى بالطفولة تلك المرحلة الأولى من تطورنا البشرى، ولكنى أشير أيضا إلى المراحل الأولى من طفولة البشرية وما قبلها، وهذا وذاك لا يكون له معنى ولا قيمة ما لم يكن حاضراً فينا الآن، وقابلا للتنشيط الحالى. وكأن وظيفة هذه الملاهى العملاقة هى أن تنزعك انتزاعا مما تتصوره عن نفسك لتضعك إقحاما فى مواجهة ما نسته من نفسك.

يتصادف وجودنا فى أرض ديزنى ذلك اليوم مرور لست أدرى كم عاما على اختراع شخصية “ميكى ماوس”، ولعل كل يوم طوال الـ 565 يوما يخترعون مناسبة مختلفة يحتفلون بها مع الرواد بنشاط متجدد ويعلن ذلك فى المكبر، وتمتلئ شوارع الملهى العملاق بكل شخصيات الكارتون التى ابتدعها والت ديزنى، تسير بيننا تصافحنا وتداعبنا، ثم تنتظم “الزفة” مثل زفة مولد النبى التى أشرت إليها قبلا فى “زفتى”. ولكنها زفة موسيقية تكنولوجية، حديثة، ورائعة، ولا يستطيع أى من زوار هذه الأرض مهما بلغت رزانته ودفاعاته إلا أن يسلّم نعمته إلى كلية مهرجان اللحن البهيج، وأكاد أنسى كل مآسى العالم، وبالذات تلك التى يتسبب فيها هؤلاء الأمريكيون أنفسهم فى كل أنحاء العالم، وأنجح جزئيا حتى تنتهى الزفة وسط زخم النسيان والنشوة،

كيف ينجح هؤلاء الناس فى أن يسحبوا من هو مثلى سحبا إلى ما هو طفل بهيج فى داخلى، ثم لا يتورعون عن قتل أطفالى الحقيقيين بالنابالم فى المخيمات، أو بالجوع فى أكواخ القحط؟ أو بالذل فى تدابير القهر المعوناتى؟. هل هذا التناقض المريع هو من طبيعة الحياة الحرة وحسابات الديمقراطية الغربية؟.

هل نجحت هذه الحضارة فى أن تفصل بين إحياء وجدان الأفراد “فرادى”، لتسهل سحق هذا الوجدان بسلطة مركزية خفية، تتحكم فى مصائر الجماعات والمؤسسات بآلات الدمار وشروط الإطعام؟

أستبعد هذه المنظومة الإضطهادية التآمرية المحبوكة حين أتذكر أن سرقتى إلى ما هو طفل بهيج لم تتم ـ فقط ـ فى هذا الملهى العملاق، بل إنى خبرت تجربتين تلقائيتينْ لم يكونا من صنع الأمريكان بالضرورة.

قبل هذه التجربة بأيام، كنت فى سان فرانسيسكو، وكان يوم أحد، ولاحظت بجوار الفندق، وفى ساحة متسعة أمام مكتب استعلامات حكومى، على ما أذكر ـ أن ثمة فرقة كبيرة، كأنها أسرة كبيرة، قد تجمعت بآلاتها الموسيقية البدائية، وخيل إلىَّ أنهم من جزر هاواى، أو ما شابه، بملابسهم الملونة والممزقة فى أشرطة جميلة هفهافة، ووجوههم الملوحة بسمرة رائعة، لاتخفى الملامح الآسيوية عموما، وقد تزينوا بريش جميل الألوان وأشياء كثيرة لا بد أن تـُرى حيث لا أسماء عندى لوصفها، وقد تجمع حولهم المواطنون والسياح على حد سواء فى مشاركة مجانية رائعة، ولأمر ما… التقطتنى فتاة منهن، لا أحسب أنها تتعدى الثالثة عشر من عمرها، وسحبتنى إلى وسط الحلقة، فحاولتُ أن أتملص منها لكنى خجلت من إصرارها، وتلقائيتها، وعدم اعتبارها لفارق السن، وأخذتْ هى تشير بما فهمت منه أنها دعوة لى أن أرقص معهم جماعيا، فأُفهمها – بالإشارة أيضا – أننى لا أعرف أى رقص، بأى شكل. فتصر أن هذا أفضل، وكأنها لا تريد منى ما أعرف، ولكن ما لا أعْرف، وأنه ماعلى إلا أن أفعل مثلما تفعل هى، أو مثلما أستطيع، أو مثلما أى شىء. وأحسست بذلك الشعور العجيب الذى يراودنى، فى مثل هذه المفارقات والمواقف وغيرها، أحسست أنى أمام أم طيبة (13 سنة) تصبر علىّ وتشجعنى بكل ما أوتيتْ من أمومة صبورة متحملة، فخجلت من التمادى فى الدلال، أو ما يبدو أنه كذلك. وشعرت ـ ربما فجأة ـ أنى فى أشد الحاجة إلى ما تدعونى إليه، ودقت الطبول، وقفزتْ، فقفزتُِ، ودارتْ فدرتُ، وشاركتُ، ونسيتُ ـ أو كدتُ، ثم … ثم انسحبتُ، ثم ياويلى: تذكرتُ، فاكتشفتُ أننى ما نسيت: لا هذا، ولا ما قبله، ولا ما معــه.

ياساتر!! لم ذاك؟.

أما الخبرة الأخرى التى تَعَرَّى فيها طفـلى، فقد كانت، ذات مساء آخر، فى سان فرانسيسكو أيضا، ولعله اليوم السابق مباشرة، لا حظنا ـ زوجتى وأنا ـ ونحن نتمشى مساء نبحث عن مكان هادئ أن شابا ألمانيا (هكذا رجحنا) عملاقا يقف أمام مطعم شديد التواضع، وقد لبس “شورتا”، وهو يعزف على عوده أنغاما جميلة، فتوقفنا نتأمله. ثم نظرنا فإذا مقاعد المطعم لاتتعدى بضعة عشر مقعدا، نصفها فى ممر ضيق، فدخلنا آملين فى الهدوء والطيبة، والصحبة المحدودة، وإذا بالفتاة المسئولة عن الخدمة، ذات العشرين ربيعا، ترعانى وزوجتى بأمومة أطيب، من أين تأتين بكل هذه الأمومة يا ابنتى؟ أمومة تدفعك  إلى أن تسلّم لها لتقبل التبنى دون استئذان. ثم يدخل الشاب العملاق العازف “ذو الشورت” فينضم إليه زميلاه ومعهم آلتان موسيقيتان لا أعرفهما، وتصدح الأنغام، ويبدو أن الأغنية كانت تتطلب المشاركة بطبيعتها، فأخذ الجميع يصفقون معها، إلا نحن، (زوجتى وأنا) فلاحظت أمّنا الشابة أننا كذلك، فدعتنا بالإشارة، فبدأنا نقدم يدا ونؤخر رِجلا. ثم اندمجنا ونحن مطمئنان إلى حالة كوننا جلوسا محترمين، إلا أن الرواد السبعة والمغنيين الثلاثة انتشوْا أكثر فأكثر وإذا بالراعية الأم تضع على رأسى ما أظن أنه كان قبعة، كذلك على رأس ـ ولا مؤاخذة ـ زوجتنا مثلها، فيزيد تصفيقنا علوا متشبثين بالكراسى أكثر فأكثر وكأنى أقول لهم كفى هذا، ربنا يخليكم، ولكن أبدا، ودهشت لأننا لم نكن لا فى عيد ميلاد، ولا فى عيد فقط ولا فى رأس السنة. ولا شىء، ليلة عادىة، وناس لا يعرفون بعضهم، وموسيقى، وطيبة، وعلانية. وبدا لى أننا أصبحنا ـ فجأة أسرة واحدة لا تجد أى مبرر للتعرف الشكلى، أو إجراءات الشهر العقارى، مجرد “ناس معاً”. ويقوم الجميع مع الموسيقى، بدعوة من الأم الشابة التى ترعانا معا، فلم أستطع الاعتذار أو حتى التلكؤ، فقمنا مع القائمين. وأنا نصفى فرح فرحة غير محسوبة، والنصف الآخر يدعو بالستر. واذا بنا ننتظم متماسكين فى طابور صغير متماسك يقطع الممر إلى خارج المطعم، فيلف لفة صغيرة فى حدود مترين على الطوار، والمارة يحيوننا، وبعضهم يشارك، ثم نعود ونكررها مرة أخرى ثم نجلس، دون أن تنهد الدنيا. وتفرح بنا الأم الشابة وترفع من على روؤسنا قبّعاتها مشجعة أن “برافو”، وكأنها قد أحست بالصعوبة التى عانيناها فاجتزناها بفضل أمومتها، وكأنها تشكرنا على أننا لم نستسلم لعنادنا، وبالتالى شاركـْـنا، فتجنبنا أن نكون نشازاً منفردا فى خضم أسرة التلقائية والصدفة والموسيقى والعالمية والود الطيب،

كدت أبكى حزنا فرِحا، أين معنى هذا (هكذا؟!!) من كل ما يجرى فى أروقة التعصب وميادين الحروب. لا… بل أين لنا نحن فى مصر من بعض “هذا”، أو بديل لـ “هذا”، أو مثل “هذا” أو فى اتجاه “هذا”، لا.. ليست بدعة غريبة ولا هو لهو غبى، كما أنه ليس اغترابا ذاهلا، أو خفة مرذولة، بل إنه من حق الإنسان أن يتواجد مع إنسان آخر دون شروط، ودون صفقات من إياها، ودون إذن، ودون إضرار، هذا حق كل إنسان، ما دام إنسانا شريفا معـلَنا ملتزما غير ضار، هذا ما حدث فى ساحة الاستعلامات، فى سان فرانسسكو وهو ما حدث فى المطعم الصغير هناك أيضا.

إن هذا ومثله وأطيب منه كان يحدث عندنا فى الموالد، وبعض الأعياد، وقد أشرت إلى مخيمات الموالد حول السيد البدوى أو سيدى عبد الرحيم القناوى. ولكن يبدو أن هذا كله مهدد بالانقراض حاليا،. وأتذكر النشاط الجميل الذى يتمثل فى حلقات الذكر التى يعقدها بعض محبى وأفراد بعض الطرق الصوفية فى بساطة وتلقائية، شاركتُ فى حلقات الذكر هذه علانية فى صباى،  ثم سرا بعد اشتغالى بتطبيب الناس، وكنت فى كل هذا ـ أمارس نوعاً من الأمانة التى تلزمنى ألا أحكم حكما حازما إلا بعد أن أشارك ولو بتذوق عينة.

أشعر أننا نسير تجاه حضارة (أو: لاحضارة) يمكن أن تسمى “حضارة اللفظ والوصاية” نفعل ذلك، بدلا من أن نغامر باقتحام حضارة “الحركة والتكامل”، ونحن نمارس حضارة الخوف والجمود على حساب حضارة الطفولة والتلقائية.

كنا ننتظر الأراجيح من العيد إلى العيد، ونتنافس فى علوها أعلى القائم المستعرض، ويتحدى بعضنا بعضا: من الذى يمكن أن “ينطر” زميله الراكب قبالته وهو فى قمة ارتفاع الأرجوحة؟…. والآن.. لست أدرى، ننتظر فى العيد المسرحية التى ستعرض لمدة أربع ساعات، فأربع ساعات، القناة تلو القناة فى عز الظهر حتى منتصف الليل، وننام، مع أننا لم نكن إلا نائمين طول النهار.

نحن نقّبل أطفالنا بداخلنا وخارجنا على حد سواء.

وأنا أراجع هذه الطبعة الثانية  دخل علىّ طبيب شاب (امتياز تقريبا) يكتب شعرا جميلا وعميقا ،وتدرج الحديث إلى ما وصل إليه الفن من هبوط (على حد قوله) وإذا به يستشهد على درجة الهبوط بأغنية منعت تقريبا (أو فعلاً، لست أدرى) تقول ” بابا أبّح “، تغنيها مجموعة من الأطفال، وحين سألته عن سبب إعتراضه لم يجب، وحين سألته عن كلمات الأغنية لم يُجب، اكتفى بمط  شفتيه، ثم حصلتُ على هذه الأغنية الممنوعه (5 أغسطس2000) وسمعتها ووجدتها شديدة البراءة رائعة الطفولة ليس فيها حرفاً واحدا قبيحا أو خارجا، الألم الذى غمرنى هو أن المُعترض لم يكن شيخا متزمتا، أو والدا متخلفا، أو سلطة جبانة،  لكنه كان شابا (حوالى 25 سنة) شاعرا، وحـّرا من وجهة نظره (بما فى ذلك ما يتصوره من حرية التخلص من الالتزام الدينى). أشفقت عليه، وعلنيا، ورفضته جدا.  نحن نقتل الأطفال فينا. نحن جميعا يساريين ويمنيين، محافظين وثوارا نقتل الأطفال فينا بالوصاية والزيف والاستعلاء والغباء.

أنا منزعج من هذا الشاب الشاعر المثقف وهكذا يصنّف، أكثر من انزعاجى من فتوى بتحريم التصوير والغناء. غادرنا الأولاد، وقبلوا عذرنا عن عدم الاشتراك معهم ولم أقل لهم أننى لا أستطيع أن أتركهم يسرقونى بالطريقة ذاتها التى تمت فى الملاهى العملاقة فى أرض ديزنى، أو ساحة الاستعلامات فى سان فرانسيسكو، مع أسرة هاواى وصغيراتها، أو أمام المطعم الألمانى الصغير.

هل لا بد من سرقة؟ ألا يجوز أن أسرق نفسى دون هذا الإستسلام المتغافل لمحركات خارجية تعرف الطريق إلى قوى الطفولة بداخلى؟ أهو حقى؟ أهو عدل؟ أهو ممكن؟ وحولى كل هذا الغباء والوصاية، أنا أحاول على أى حال، وليذهب الأولاد، وليتمتعوا، وليفرحوا ليسهـلوا من الآن طريق الداخل/ الخارج، وليتمتعوا بما قد لا يضطرهم إلى الاستنقاذ بلص شريف فى ملاهٍ عملاقة، يسرق لهم أطفالم من داخلهم حتى يساعدهم على أنفسهم مثلى.

ذهب الأولاد، وعادوا، وحكوا، وضحكوا، ونسوا، وحمدوا، ونمنا، فأصبحنا.

الاثنين 3 سبتمبر 1984:

اليوم نشد الرحال شرقا إلى مونت كارلو، مونت كارلو “البلد” هذه المرة، فقد أشرتُ فى الفصل الثالث إلى مونت كارلو المحطة!!، حين مررنا على مشارفها ليس إلا، و قد كان من أكبر محمسات هذه الزيارة أنها ستتيح لنا الفرصة لنمر على الأماكن ذاتها التى سبق أن عبرناها وأحببناها. وحين عبرنا بلدة “البقعة الجميلة فوق البحر” (بوليو سيرمير). ولمح الأولاد الفندق ذا الستائر الزرقاء الذى قضينا فيه أول ليلة وصولنا، جعلوا يحيونه، وكأنهم يحنون إلى جزء من وطن قديم، وكما تعلمت مؤخرا من ممارسة المشاركة فى تقديم أو مناقشة ندوات أدبية أن العمل الأدبى، الروائى خاصة، لا يصاحـَب إلا فى المرة الثانية. فقد تعلمت من تجوالى الرحلاتى، أن المرة الثانية (لا الثالثة) هى أثرى ما يثرى الوعى اليقظ بما يحيط به، وما يصل إليه. فى الأولى تتلاحق الرؤى، وتقتحم “المعلومات” كيانك بإيقاع “الاستكشاف” و “البلاغ”. وفى الثانية تستقبل من جديد ما كدت تعرف، فيلتقى الداخل بالخارج فى عناق إبداعى منعش، وتستطيع أن تنتقى أعمق، وأن تؤلف أعلى، و أن تترك اختيارا. ثم لعلك تحذر ـ معى ـ من المرة الثالثة، إلى ما لا عدد له.. حيث قد تتوارى الطزاجة والكشف فى التنظير والتأويل والحكم والوصاية.

دخلنا مونت كارلو، هكذا، نعم “هكذا” جدا،

لاشئ إلا علامة ولافتة، وأهلا بكافة بالأجناس من كل مكان، جنبا إلى جنب مع ماهو فرنسى (أو مونت كارلوى). يا ناس، هذه هى فرنسا بالتمام والكمال. العملة، واللغة، والناس، والطباع، والمحلات، وكل شىء، كل شىء، إذن ماذا؟. وأحاول أن أصدق أن هذا بلد مستقل له سيادة، وأمير، وأميرة، وشعب، واقتصاد، وصدقت مرة، وكذبت مرة، وحين صدقت قلت لنفسى، ولماذا لا تكون بلدان العالم كلها كذلك، لا جيش، ولا حرب، ولا حدود ولا يحزنون، ما الذى يحمى هذا البلد “القرية” من الغيلان المحيطة؟ كلمة شرف؟ مجتمع عالمى؟ لماذا لا تجتاحها فرنسا، أو إيطاليا، أو إسرائيل، أو جنوب أفريقيا؟ وحين كنت أتمادى، كنت أفترض أنى فى جزء من فرنسا، لا أكثر ولا أقل، وما هذه المونت كارلو إلا بورسعيد فرنسا، بورسعيد4891، التى لا أعرفها، فأنا لم أذهب إليها ـ عمدا ـ منذ 1962، كان عزوفى فى البداية: احتجاجا على الاحتلال، ثم أصبح بعد ذلك احتجاجا على الحرية المشبوهة والتسوق الاغترابى، والملابس “البالة”، وقلت ـ بلا جدوى ـ أكف عن مقارنة عاجزة، وأكتفى بأن “أرى” وأتمعن ما أنا فيه الآن: فى مونت كارلو وجدنا بسهولة فائقة مكانا لانتظار السيارة (تصور؟!) واشترينا شيئا ما، من محل ما، لنختبر الأثمان، (وهذه وسيلة نستعملها لدراسة مقارنة للأسعار، نحدد صنفا بالذات، ثم نتابع ثمنه فى مختلف البلاد بعد تحويل العملة، والمسألة هنا سهلة إذ أنها العملة الفرنسية ذاتها)، ولم نجد فرق السعر كبيرا، ومضينا دون خريطة، هكذا مع الناس، وبدا لى أن أغلب الناس هنا مثلنا، لا يفعلون شيئا إلا أن يذهبوا  حيث يذهب الناس!!، وفى نهاية الشارع الرئيسى (هكذا خيل إلينا) وجدنا مدخلا إلى مصعد، تصورناه قصرا من قصور موناكو، فتلفتنا حولنا لنرى أى حارس، أو مُوجه، أو مرشد، أو مانع، أو بصاص، فلم نجد، فقرأنا اللافتة الموضحة لما هو، فإذا به مصعد عام، ينقلنا إلى أعلى حيث يمكن أن نتوجه إلى “الكازينو” أو “حديقة النباتات الغربية Jardin Exotique”. وتصورنا أن علينا أن نقطع “تذاكر… ما” إذ من غير المعقول أن يكون كل هذا الرخام والجمال والنظافة، هكذا، لاستعمال أمثالنا مجانا، لكن أبدا، وأخذنا نمشى فى الممر الرخامى أرضا وحوائط، ونحن لا نصدق، فنلمسها لنتأكد، ولم يكن فى الممر ـ على طوله ـ سوى اثنين أو أربعة غيرنا، حتى كدنا نشك فى صحة طريقنا، ونحن بلا خريطة ولا دليل، نعتمد على الناس، فأين الناس؟ ولم نتراجع؛ فاللافتة واضحة، ونحن فى حالة استكشاف دائم، خاصة وأن الهدف الأول قد أصبح ـ الآن ـ هو التأكد من أن استعمال هذه الرفاهية الملوكية، هو من حق عامة الناس أمثالنا، ممن هم ليسوا كذلك. (أو بتعبير أدق: ليسوا وجه ذلك). وجدنا أنفسنا داخل المصعد الذى هو مثل مقصورة الأحلام، عجبنا ـ للمرة الكذا بعد الألف ـ من فرط النظافة، والتقطت إحدى بناتى قصاصة لا تزيد عن عدة سنتيمترات، وكادت تخفيها فى حقيبتها حتى لاتشوه المكان. فهمتُ كيف أن النظافة تولـّد النظافة، والعكس صحيح، وصعدنا، تهدينا اللافتات إلى اتجاه حديقة النباتات الغريبة”.  قابلنا شابا يهبط شارعا صاعدا، وحقيبة ظهره تلهث وراءه، ولكنه سعيد بالنزول الطروب، فسألناه ـ لنتأكد ـ عن تلك الحديقة، فأشار إلى أعلى وهو يمضى فى طريقه، لكنى استزدته استفسارا: ” هل تستأهل”؟.” فابتسم متعجبا، ثم أكد شيئا ما، فى الأغلب يعنى أنها تستأهل، وجعلت أتعجب من سؤالى؟ وبأى مقياس؟ ولمن؟ ما أسخفنى. توكلنا على الله وجعلنا نصعد، ونصعد، لاتبدو للطريق نهاية. فنصعد، ولا يصبرنا على الصعود إلا يقيننا من أننا كما صعدنا سنهبط، ثم نصل إلى حيث ينبغى، ويفضل بعضنا عدم الدخول. ربما لارتفاع رسم الدخول نسبيا، وربما لأن “كله مثل كله”، فينتظروننا فى الخارج يملؤون العين بأبعاد مونت كارلو من أعلى،

يدخل الآخرون معنا إلى هذه الطبيعة الجديدة، فتُكلمنا الطبيعة بلغة متميزة أخرى، لغة تشعر فيها بالتحدى الجميل، ويختلط عندك التاريخ بالحياة الآنية، فهذه “الآثار” الحية تنعش وجدانى أكثر من حكايات مومياوات الملوك ومدافنهم. فأنا حين أشاهد آثار بلد ما أشعر أنى أشهد قدرة الإنسان على مجرد الخربشة على جدار الزمن، أما حين أشاهد فعل الطبيعة الحى المتحدى الآن، فإنى أشعر أننى أمام نموذج مكثف مختصر لتجليات الطبيعة وهى تقرض شعرا حيا ينبض، وقد جمع الإنسان فى هذه الحديقة، مجموعة من نبض النغم الأخضر، فنجح أن يتلاءم مع المبدع الأعظم. إذ أتقن تلحين هذه الصورة التى تعلن بعض تجليات الجمال الحى، فنصلى فرحا وحمدا إذ نقترب أكثر مما “هو” “هكذا” ـ وأبحث عن ذلك أو عن بعض ذلك فى وجوه صحبتى، فأجده قليلا أو كثيرا، وأتيقن من صدق رسائل الطبيعة إلى طبيعتنا، حتى لو عجزنا عن ترجمتها إلى مثل هذا الكلام الذى أكتبه الآن، شريطة أن نحتفظ بمسام وجودنا “سالكة” فكيف ذلك؟

ما زلت أذكر متحف الأحياء فى واشنطن والأرقام بآلاف السنين تحدد عمر هياكل الديناصور بالذات، وما زال منظر هيكل طفل ديناصور عالقاً فى ذهنى حيث لم أكن أحسب أن الديناصور يمكن أن يكون طفلا أصلا. وفى أمريكا بالذات، ناس تبحث عن تاريخها فى تاريخ الحياة، وهنا فى مونت كارلو يواكبون التاريخ مع نبات غريب عريق، ونحن أصحاب التاريخ نغطيه بما لا يليق…

ولكن: أليس لكل شئ نهاية. فلم اليأس والسخط والنعابة؟ قف!!

انتهت زيارتنا لهذا المتحف “متحف نبات الصبار” الرائع من النباتات الحية التى لم تبخل أيا منها أن  تهمس لى بتاريخها وصلاتها، ورجعنا إلى بقيتنا خارج الحديقة ينظرون من أعلى إلى كل شئ فى مونت كارلو البلد، أشارت ابنتى تدعونى إلى مشاهدة حمام سباحة ضخم يجاور ميدانا قريبا، وسألتنى هل ياترى هذا حمام عام مثل المصعد التحفة، والممر الرخامى؟. لم أستطع أن أجيب، ولم أستبعد ذلك، ولم أَخـَفْ عليه من القذارة، أو سوء الاستعمال. ألم نتفق أن النظافة تجلب النظافة؟.

رجعنا من حيث أتينا فرحين بالنزول الذى كنا نحلم به صاعدين، فتوجهنا إلى المصعد ذاته وفى نفس بعضنا أننا ركبناه فى المرة السابقة عن طريق الخطأ، أو الصدفة، ولكننا تأكدنا ـ من جديد ـ أنه مرفق عام، ياحلاوة.

توجهنا إلى الكازينو (بمط الياء والواو) وهو نادى القمار الشهير جدا، وكنت عازفاً عن الدخول، فما لى أنا بهذا؟ وماذا هناك يـُرى؟ ولكنى ما إن علمت أن الدخول ممنوع لمن هو أقل من 21 سنة، حتى انتعظتْ قرون استشعارى، فدخلت، وجعلت أنظر إلى وجوه الناس فى صالة الاستقبال فلم أجد شيئا. وما أن دلفت إلى الصالات الأخرى، وقد وقف كل زائر أمام آلة ما، يضع الأشياء ويجمع أشياء (عملات أو ماركات أو ما لا أدرى)، ثم يجمع الأشياء ويعيد الكرة، وكلما كسب خسر، (وقد كنت أعرف ذلك من بعض تعبيرات الوجه)؛ إذ لا تتركه الآلة حتى تبتـلع فى النهاية كل ما تبقى، فيذهب ويستبدل، أو يفك، ويرجع، أو لا يرجع حسب نتيجة التصارع بين ما بقى معه وما يتمتع من إرادة أو أحلام، ولكن مابال القوم لا يلاعبون إلا الآلات. وقد كنت أحسب أن الميسر (القمار) مثل أى لعبة فيه كاسب وخاسر من البشر، كما نشاهد فى السينما، جريجورى بيك، أو تقرأ فى مقامـِـر ديستويفسكى.

لم أتصور أبدا أن اللعبة قد أصبحت بين شخص فرد وبين آلة ملتهمة، وتصورت أن هذه هى النقلة ذاتها التى حدثت فى تطورنا المعاصر، فنحن فى الحياة العامة، وبالذات فى لعبة الحرب الحديثة، لم نعد نواجه بعضنا البعض، ولكن الأضعف منا يواجه آلة الحرب العمياء دون مـُـشغِّـلها، حتى أن هذا التعبير “آلة الحرب” أصبح أكثر ملاءمة وهو يطلق على الفريق المسئول عن إدارة عملية الحرب: من أول خبراء تكنولوجيا رحلات الكواكب حتى جهاز المخابرات (المركزية). قانون الحرب العصرية أن الإنسان الأفقر، والأضعف يخوض حربا محسومة نتائجها أمام آلةٍ “ما”، لا يعرف تحديدا من يديرها. وأتذكر هذه اللعبات التى كادت تنتشر كل يوم عبر العالم ليلاعب الإنسان نفسه بدلا من أن يلاعب إنسانا مثله، تلك التى أصبحت هى الأصل. القاعدة الآن هى “الإنسان ضد الآلة: فى اللعب والحرب”.

كم فزعت حين دخلت مقهى فى لوس أنجلوس، فوجدت به أربعة رواد وأنا خامسهم، وقد جلس كل منهم على مائدته وحده يحرك أزرارا ما فى جنب المائدة، فحسبت أنى دخلت المكان عن طريق الخطأ، وأنه ليس مقهى وإنما سنترال لإرسال وتلقى إشارات خاصة. وهممت أن أعود على أدراجى لولا أن جاءنى النادل وسألنى عن ماذا أطلب؟ فطلبت ما تيسر، لكنه عاد يسألنى وكم من “الماركات”؟ ولم أفهم بداية، ثم اعتذرتُ بأنى لا أعرف هذه اللعبة، ولا أريدها، فانصرف مندهشا. تصور، هو الذى يدهش وليس أنا.

عندنا فى طبنا النفسى نقول على الشخص الذى يكلم نفسه، أو يضحك وحده أنه الشئ الفلانى، فما هذا الذى يجرى من حولى بالله عليكم؟ وحزنت ـ آنذاك ـ على اختفاء معنى “المقهى” الذى كنت ـ دائما ـ أتصور أنه “علاج جمعى وقائى” بالمعنى التلقائى، إذ أن الناس إذ يجتمعون ويتكلمون ويختلفون ويتفقون، لابد أن يتقاربوا فيتواكبوا، فلا يمرضون. لكن يبدو أن الحال قد انقلبت حتى أصبح الواحد يذهب إلى المقهى، ليضع أمامه كأسا يغيب بها عن نفسه، وعمن حوله، أو يقترب بما هو ليس هو، ثم يلاعب نفسه أو منضدته، فى انتظار قدر أكبر حين تنقض عليه آلة الحرب العملاقة، أو آلة السوق الملتهمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، (كيف؟).

أخذت ـ فى الكازينوو ـ أتأمل استغراق الناس من حولى، فى هذه الألعاب الذاتوية الملتهمة، فتقفز إلى هامش عقلى إجابة لذلك السؤال الملح الذى ما زال يطاردنى، “ماذا يفعل الناس الأثرياء بفائض نقودهم؟” (وذلك بخلاف شراء السُّلطة، والتخزين ورموز التفاخر، وموائد الرحمن). أعنى ماذا يفعلون “شخصيا” بها “شخصيا”؟. كيف يقنعون أنفسهم أنها فعلا أموالهم وأنهم يمكنهم أن يتمتعوا بها أكثر من غيرهم؟ كيف ينفقونها الآن، فعلاً؟ فجاءنى الجواب الآن: “يمكنهم أن يلقوها فى هذه البالوعة الدوامة، التى يمكن أن تبتلع أى عدد من الأصفار بجوار أى رقم ضاق صاحبه بمنظره المتراكم”.

أتصور أن أموال أغلب هؤلاء الأثرياء قد “انفصلت” عنهم بشكل أو بآخر، لم يعد أحد منهم يدرك أن: “عنده ما عنده”، فهو يضطر أن يأتى إلى هذه الأماكن؛ ليحرك قوانين التهديد والتحدى. التهديد بالخسارة، التهديد بالفقر، بالجوع، من ثمّ يوقظ غريزة التحدى للاستمرار ومعاودة الالتهام. هذا هو ما وصلنى من وظيفة القمار: إنها تقوم بعملية التحريك والتقليب والتنشيط لعمليات المكسب والخسارة”. وربما يقوم هذا التحريك، بإيقاظ الأحاسيس الميتة بشكل أو بآخر. وربما كانت الخسارة ـ هنا ـ هدفا خفيا أقوى من المكسب باعتبارها انتحارا تدريجيا بديلا. لكن من ذلك الغول الذى يقف وراء آلة الميسر هذه، أو أى آلة: آلة الحرب، وآلة الاستغلال، وآلة الاستهلاك؟. أهو شخص رمزى، أم مؤسسة تدميرية، أم قانون الانقراض؟ ما هى الفائدة المحددة التى يمكن أن تعود على هذا الغول الخفى، وليس فقط على الإنسان الضحية؟ هل هى جهنم التى لا تمتلئ أبدا؟ هل من مزيد؟.

أنا لا أميل إلى استعمال كلمات لا أُحسن فهمها، مثل الإمبريالية والشمولية والاستعمارية وما شابه، ولكنى أظن أن قوى الدمار فى العالم قد استشرت ولبست أثوابا متعددة، مخاتلة، بحيث يصعب تمييزها. وأحسب أن ميل الميزان ـ مرحليا ـ إلى جانب قوى التدمير والانقراض، إنما يرجع ـ أساسا ـ إلى ما تم تجميعه من تكتلات معرفية متفرقة تحت عناوين العلم والصناعة وأوهام الحرية. مما أدى إلى انفصال جوهرى بين ما هو إنسان السلوك الفردى اليومى، وما هو لحن الوجود البشرى الأشمل، وما هذه الآلات الملتهمة (آلة الميسر، وآلة الحرب، وآلة الاغتراب المعرفى، وآلة الاستهلاك، وآلة المنهج الكمى. الخ)، إلا التجسيد الحى للانفصال والاغتراب جميعا.

فمن يلحق الناس؟

هممت أن أقترب من أحد المستغرقين فى التحدى، أمام آلة لا حظتُ أنها تخرج له لسانها المرة تلو المرة، وهو لا يشعر. فإذا شَعَر وهمَّ بالاحتجاج لــوَّحت له بمكسب تافه يترنح أمامه معتذرا، فإذا به يرتد أغبى من فراشة حول نار حامية، وهكذا.. حتى تأتى عليه، ثم عدلتُ، وقلت لنفسى.. إن روعة هذه الزيارة، هذا “الكازينوو” أنه نموذج مصغر للحياة برمتها، الحياة المعاصرة تتسارع فى اتجاه تجسيد هذا النموذج على مستوى العالم.

أقترب من قاعة أكثر ذهبا وثريات وزخارف، وأجد فئة معينة هى التى تخطو إليها شاهرة السيجار أو الغليون، مرتدية أوجها تاريخية أو سينمائية، مألوفة لى على الرغم من أنى لا أعرف أسماءها ، فأقول: هأنت يا ولد بين عـِـلية القوم، وخاصة وأن القوم هنا تعود على العالم أجمع. فادخل يا فتى هذه القاعة ـ أيضا ـ تكتمل رؤيتك، لكنى قدّرت أن رفاقى فى الخارح ينتظرون، ولا يصح أن يطول انتظارهم ، وهم أقل من 21 سنة حسب التعليمات، ورجحت أن الأنسب كان أن يمنعوا من الدخول من لا يزيد دخله عن كذا، أو من لا تقل درجاته فى اختبارات الإرادة والانتماء عن كيت، أو من لا تزيد قوة بصره أو بصيرته عن الشئ الفلانى، ما للسن وما يجرى هنا ؟ لابد للعصر ـ فى السماح والمنع أيضا ـ من مقاييس معاصرة، أما حكاية السن فهى فكرة قديمة باخت، ولم تعد تصلح.

تمنيت وأنا فى طريقى إلى الخارج لو أن من وراء هذه الآلة التى تكسب دائما، حكومة سرية، أسميتها جماعة امتصاص الفائض لصالح البشر، فإنها سوف ترحم الأثرياء ـ يا حبة عينى ـ مما جمعوا كما يمكن أن تسرب العائد إلى قوى الإبداع وحلقات الذكر،

ولم أبتسم.

ماذا فعلتْ بى هذه الآلات بهذه السرعة دون أن أقربها؟. لقد أوصلتنى إلى بؤرة اليأس المركزى الذى لا أطيقه أصلا، والذى أشعر أنى لو استسلمت له فأنا لا أستحق أن أختلس نفحة أكسجين أو لقمة عيش أو شربة ماء يستحقها أكثر منى كل من أحب الحياة على الرغم من هذه الآلات وهذه الحاسبات، فانتزعتُنى من تلك البؤرة الساكنة إلى الدوائر المتحركة، فأنظر إلى صحبتى فأجدهم يشاركوننى بعض مشاعرى دون هذا اليأس القبيح، فأطمِْئنُ نفسى، وأفرح بهذه الإجابة المؤقتة لسؤالى الحائر، وأشكر الآلات الملتهمة على الرغم من جهلى بالغول الوراءها

فائض النقود (وفائض كل شيء) يذهب إلى آلة عملاقة تديرنا لحسابها إلى ما لا ندرى فى الأغلب، إلى ما لا تدرى هى أيضا، على الرغم من كل المحاولات التفسيرية الاقتصادية الحديثة والشاطرة، على الورق فحسب، لما لا تخافون من الانقراض مثلى؟

نخرج من الكازينو، لنكتفى باللف حول المَعْلـَمِ الثالث فى مونت كارلو، “قصرالأمير”، زوج جريس كيلى. نكتفى بالنظر إليه من الخارج؛ إذ أننا لم نتصور أن يكون أفخم من ذلك المصعد العام، ذى الممر الرخامى، ثم هذا قصر أمير. ابن أمير، ولعله الآن فى قيلولة ناعمة، فلماذا نزعجه بزيارتنا، أليس عيبا هذا؟. فإن لم يكن هناك سُمُـوه، فلا داعى لزيارة الحوائط، يقول أحد الأولاد: إذن، هذه هى مونت كارلو، فنقول نعم، فيرد آخر. إنها ليست إلا حديقة وكازينو وقصر. فأضيف: وناس، ومصعد، وحكمة ملقاة لمن يلتقطها، فلا يفهمنى منهم أحد، ويمضى يسأل بعضهم عن الإذاعة “هنا مونت كارلو: إذاعة الشمس!!. تراللم”. فأسخر وأشير إلى أحد المارة أنه أميجو حكمت وهبى (رحمه الله)، ثم أتذكر ـ فجأة ـ حوارى مع جاد الرب حول اتهامه إذاعة مونت كارلو بالتجسس عليه وإطلاق إشاعات سافلة تعوق مشاريعه الأخناتونية الموحدة، وأقارن ذلك بما انتهيت إليه من افتراض ذلك الغول المجهول القابع وراء الآلات الملتهمة،  أين أنت يا جاد، فقد شاركتُـك أفكارك أخيرا من مدخل آخر، وهأنذا أتمادى فى تصور عبادة هؤلاء الناس لهذه الآلات، ضد كل إخناتون، وكل “لا إله إلا الله”، أليست هذه كلها أصناماً؟ ألا يحق لى أن أتصور احتمال تعليق لافتة على كل آلة (فى الكازينو أو فى الحياة) باسمها الأحدث “اللات 85″ ـ العزى 2000” وهكذا؟

فى طريق عودتنا كنا نودع كل شبر نمر عليه، لأننا نعلم أن هذه هى آخر ليلة لنا هنا، ولم يكن ينقصنا إلا أن نمد أيدينا من السيارة نلامس أديم الأرض الذى هو من أعين ساحرة الاحورار: مدد!!.

نكاد نوصى الأرض خيرا بمن يطأها بعدنا فى أية صورة بشرية طيبة، وترد علينا الأرض والأبنية والشجر والأسيجة أنْ: بالسلامة، فنشكرها،

نمضى لنصل نيس. “فالمدينة الجديدة” ـ فيل نيف ـ، ونوصل الأولاد إلى معسكرهم؛ لأعود أنا وزوجتى إلى الموتيل الجديد الذى انتقلنا إليه مضطرين، وهو أحدث وأرحب، اتفقتُ فيه مع صاحبته على استقبال من أشاء كيف أشاء، حتى الأولاد، وأن يستعملوا الحمّام ليستحموا حمام الوداع، إذا شاؤوا، فالرحيل غدا، من يدرى أين ومتى سنجد الماء الساخن مرة ثانية، وأتذكر كيف كان الاستحمام فى بلدنا للأطفال موسمياً فى الأعياد. كذلك كان أكل اللحم وتنظيف المنازل وخاصة الشُراعات أعلى الأبواب، كان كل ذلك موسميا أيضا!!.

ونتفق على الاستيقاظ المبكر لشد الرحال إلى باريس، فتهفّ علىّ روائحها.

نداؤها خاص، وريحها واعد.

 

الفصل السادس

لابد من باريس، وإن طال السفر

 …………….

دربى بِكرٌ فوق حصاهُ تسيل دماءُ القدم ِالعارِى

يتبعنى الناسُ الـمِثلي،

ليسوا مثلي.

من مثلى لا يسلكُ إلا دربـَــهْ.

يحفرهُ بأنين الوحدهْ

يزرع فيهِ الخطواتُ الأولىَ

دوماً أولىَ

يَرْويهاَ بنزِيفِ الرّؤيْــةْ

 16 ديسمبر 1985 (وقت الكتابة):

كلما جلست لأكتب هذه الرحلة، سافرتُ إليها من جديد، فعشتها بكل التفاصيل، والهمس، والاستطراد، والرسائل، والوعود، والتنشيط، والإحباط، والمراجعة،

حين أكتب: أسافر إلى ما اقتنَصَه وعيِى فبقى معى، لا أسرد ما كان حين كنت مسافرا،  وكلما مضيت أبعَد فى السرد والكتابة، زدت اقتناعا بأن قدرة الإنسان على تمثل الخبرة الحقيقية دون وعى مباشر، هى أكثر بكثير جدا من فرص استيعابها الظاهر، ناهيك عن فرص التعبير عنها، التى هى أقل فأقل.

ثم أعود أتساءل: هل يصح أن ُيكتب ما يسمى أدب الرحلات بهذه الطريقة: بعد عام؟ ومن الذاكرة؟ ولكن ما لى أنا وأدب الرحلات، ليكن ما يكون.

الثلاثاء 4 سبتمبر (1984):

كان الاتفاق أن يحضروا “هم” “إلينا” فى الموتيل قبل السابعة صباحا، فيجدونا قد جهزنا، ذلك أننا كنا قد نوينا أن نقطع المسافة إلى باريس (أكثر من900 كيلومتر) مرة واحدة فى  اليوم ذاته، لهذا فقد عادوا إلى المخيم ليلة أمس فى الأتوبيس الصغير، وتعهدوا بلم الخيمة فجراً دون معونتنا؛ ليكونوا عندنا فى السادسة دون تدخل من جانبنا، وقد سارعت بالموافقة على نشاطهم وحماسهم واستقلالهم الواعد، تأكيدا واختبارا لما أردته من هذه الرحلة، وكراهية ًمنى للقيام بوظيفة “المسحراتى” التى تورطت فى ممارستها بثقل شديد منذ صغرى، وكأنى الموكل بإيقاظ سائر البشر بدءا بالأقربين من عائلتى، صغارا وكبارا. ماعدا أبى، نومى خفيف، وثقتهم فىّ كبيرة، وحبهم للراحة والدفء والاعتماد أكبر من قدرتى على دق طبلة السحور ـ بلا طبلة ـ على دماغ كل واحد حتى يتفضل بالاستيقاظ.

كانت أمى تثق فى قدرتى على إيقاظ سائر أفراد الأسرة للسحور فى رمضان، مع أنى أصغر “الصبيان” لماذا؟ لست أدرى، وكنت أسمع ما لا يسر من النائمين الذين أوقظهم، وهم نائمون، وهم يستيقظون، ثم بُعَيْد الاستيقاظ المؤقت، ثم قبيل معاودة خطف نومةٍ محتجَّة بعد تقلّب غاضب، ما ذنبى أنا؟ ثم لابد من المحاولة من جديد بناء على تعليمات أمى، أو على ثقتها فىّ، يا ذى الثقة. أحياناً كنت أكره رمضان خوفا من تورطى فى نفس الدور، وكثيرا ما أعلنت أمى أنى سوف أصوم دون سحور، فكانت لفرط ثقتها (لست أدرى لماذا) ترد أنه و”ماله يا حبيبى صحّيهم ونام”.

ثم إنى ظللت أقوم بهذا الدور لما كبرت، حتى مع أولادى. ومن فرط رفض دور المسحراتى هذا توقفتُ عن السحور نهائيا.

أظن أننى احتفظت ـ أيضا رغما عنى ـ بالجزء الأهم من وظيفة المسحراتى وهو الإيقاظ، فأتصور (الآن) أن كل ما أكتبه وأمارسه وأحاوله بكل أداة وشكل هو محاولة إيقاظ لنائم قد تطول نومته إلى غير عودة، أو هذا ما أوهم نفسى به على الأقل.

كما كرهت وظيفة المسحراتى طفلا، تحفَّظت ضد وظيقة المسحراتى إبداعا ورؤية، لا أظن أن الإبداع يمكن أن يؤدى وظيفة الإفاقة والتحريك إذا كان بهذه المباشرة “المسحراتية”. النبوة وحدها هى التى نجحت فى هذه المهمة مباشرة، مع أن الذين ورثوها، مثل الثورات، قلبوها تنويما منظما، وليست تحريكا متجددا.

قفز إلى ذاكرتى نص تسرّب إلى إحدى تشكيلاتى التى ضمنتها ديوانى “أغوار النفس” “قراءة” فى عيون الناس والمرضى والأصدقاء”، يقول المقطعالذى حضرنى الآن ” واللى يصحّى الناس يا ناس أكبر غلط”. (أنظر الترحال الثالث إذا شئت)

يعرف الأولاد عنى كرهى لهذا الدور، دورالمسحّراتى، فتبرعوا أن يكونوا هم البادئين بالصحو، فالحضور إلينا حيث نقيم فى الموتيل الجديد، بعد أن يلموا الخيمة ويضعون الأغراض فى الحافلة، ولهذا أوصلونا هم إلى الموتيل، وأخذوا الحافلة وانصرفوا إلى المخيم. قلت لنفسى: “هكذا الكلام”، و”لسوف أرى”.

ولكنى لم أر إلا ما لا أحب.

ذلك أنهم تأخروا صباحاً بعد استيقاظنا بأكثر من ساعة، حتى حسبنا أن شيئا خطيرا قد حدث فأعاقهم  عن الوصول سالمين إلى المخيم ليلة أمس. حول الثامنة صباحا بعد الميعاد بساعتين، قلت أذهب إليهم، قبل أن أسمح لنفسى بالانفجار غيظا، حتى الغيظ يحتاج إذناً!!. خفتُ من الانفجار فـىّ أو فيهم، فأخذت أعدو لأروّض أو أكسر حدة العدوان المتحفز قبل أن أصل اليهم، “شكمتُه قائلا: عند المخيم الخبر اليقين”. فإذا باليقين نائمٌ يغط غطيطا يصّاعد من داخل الخيمة إلى خارجها، والشمس تدفئه بالهناءة والشفاء، وحتى الأتوبيس خارج الخيمة كان فى سبات عميق، وقد مالت رأسه ناحية الخيمة، وكأنه يحرسها رغم غطيطه الهادئ المنتظم هو الآخر، ويرتفع الغيظ فى داخلى أكثر. أنا أعرف عن نفسى أننى حين أمتلئ غضباً إلى هذا الحد أسكن تماما حتى أبدو أهدأ الناس ظاهرا. رُحْت بهدوء – لا أعرف من أين أتانى- أوقظُ واحدا منهم، فواحدة، وكلما أيقظت واحدا قام فزعا وهو ينظر حوله للآخرين ويروح ينقل عينيه بين نور الشمس وظلام وجه العبد لله، ثم يلتفت إلى رفيق خيمته وهو بعُد فى سباته، ثم يقفز واقفا ناظرا إلى ساعته لاعنا المنبـّه المسطول،أو زميلته التى لا يُعتمد عليها، وغيرذلك.

أكاد أجزم أنه لولا أن إقامتى كانت على بعد أمتار منهم لقاموا قبل الفجر.

أنا لا أبرّئ نفسى من هذه الاعتمادية التى أنميها فيهم بثقل “حضورى”،اعتمادية تتغلغل إليهم مجتمعين حتى وهم نيام، ثم ألومهم على ذلك. أنا أتصور أنى أدفعهم إلى الاستقلال دون أن أتخلى عن واجبى، فيصلهم شعورى المضاعف بالمسئولية، فيتراخون حتى فى الاستيقاظ.

كنت ـ ومازلت ـ إذا ضقتُ ذرعا بهذه الاعتمادية أهددهم، أو أذكرهم، بموتى المحتمل، أو القريب، ويبدو أنى كررت هذا التهديد- هزلا وجدا- حتى أصبح سخيفا بحيث يستأهل فى هذا السياق أن يتصف بصفة “موتى المزعوم”،

علـّمنى ذلك ابنى/غريمى (زميل الرحلة: مصطفى)، وكان ذلك منذ عدة سنوات. فما إنْ هممت  أثناء حوارى معهم بقولى: “لما أموت…” أو “..اعتبرونى كأنى ميت” حتى قاطعنى بمزاح هو عين الجد، قائلا: “طب.. بس ياللّه”، فأفهمُ أنى كررت هذا القول حتى أمللتُ، وأنى ـ هكذا ـ قد أفرغت التهديد أو التذكرة من جدواها. أدركت ساعتها بيقين واضح – وحتى الآن – من أنى حين أموت، سيسير كل شئ على مايرام، وربما أفضل من كل تصور يبرر لى حياتى “هكذا” ومن هنا يصبح استمرارى، هو”أمر تطوعى”!!!

ما إن شعروا بى واحدا إثر الآخر، ثم جميعا، حتى نشطت موجة الاستيقاظ فى تصاعد هندسى، فراحوا يتقافزون وهم يستيقظون فزعين وكأنهم يقومون بنشاط تعويضى سريع وهم يتعثرون فى أمواج ما يشبه الخجل، ويتبادلون ما يشبه همهمة اللوم، أو مايشبه الاعتذار والشعور بالذنب، وأنا أزداد سكونا حتى ننتهى من التحميل،… وننطلق، نصطحب أمهم من الموتيل لنتوجه شرقا.

لم يجدّ جديد علينا، اللهم إلا زيادة تأكدنا من سماجة الطرق السريعة بالمقارنة بالطرق الوطنية الجميلة. وحين وصلنا إلى مفترق طرق، طالعتنا الأسهم المشيرة إلى مارسيليا، ومنها إلى أسبانيا، فنتذكر أصل الخطة، وتأشيرة أسبانيا جاهزة، وتتململ العربة من تحتنا منذرة أنها قد تبرمجت فى اتجاه باريس، وأنها غير مستعدة للعب الأطفال هذا، ويمزح أحدنا، أو يقلب مواجعنا، حين يقول: “… طيب لا لزوم لأسبانيا، ولكن ماذا عن مارسيليا؟ عندى عنوان اللصوص أصحاب العربة الفولكس”. فيرد آخر يرجّح أننا لن نجدهم، فلابد أنهم أجّلوا عودتهم حيث أن نقودنا فـَرّجت عنهم فأطالوا رحلتهم بالقدر الذىسمحت لهم به هذه الإعانة التى لا تـُرَدّ، والتى هى من تجليات الكرم العربى.

تنحرف العربة شمالا إلى ليون، فباريس، مشيرة إشارة الوداع والتحية لطريق مارسيليا فأسبانيا.

الجو صحو، والنهار، ممتد، ونصل إلى ليون حول العصر، ونجد ليون ـ وهى من المدن القلائل التى لم أزرها أصلا أثناء إقامتى فى فرنسا ـ مدينة كبيرة عتيقة، ثانى مدن فرنسا، ومع ذلك لم يشوهها بعدالتحديث الأمريكى كثيرا (مازلنا سنة 1984) . وتبدأ جولتنا العشوائية، ونعطى لها فى برنامجنا ساعة أو أكثر قليلا، فندخل فى شارع جانبى جدا؛ لنملأ السيارة بالوقود، فيخدمنا عامل مغربى طيب، لا يمكن أن نتفاهم معه إلا بالفرنسية؛ لاختلاف لهجته العربية حتى أصبحت بالنسبة إلينا لغة جديدة أصعب من الفرنسية. وأنسحب إلى مقهى ضيق كالممر، مظلم كالكهف، أستعمل حقى فى نظامهم ونظافتهم حيث القاعدة ـ كما ذكرت ـ أن كل مقهى لابد أن يحوى ما “يريح” رواده، فلا أجد مثل ذلك ظاهرا، على الرغم من أنى تورطت فى طلب شراب ما لا أريده، فاسأل عن مطلبى، فيعطينى الرجل مفتاحا كبيرا قديما، مشيرا بيده ـ يرشدنى ـ إلى مكان دورة المياه خلف المقهى، فى “حوش” أحد المنازل القريبة، فأتأمل المفتاح الكبير القديم، وأحسب أنى فى مكان أقرب إلى القاهرة القديمة، أو إلى “ميضة” السلطان حسن. وأبتسم، وأذهب وأعود أداعب رفاقى بالمفتاح الأشبه بالمفتاح الخشب لأبواب دور قريتنا، وألوح به، وكأنى أصبحت مالكا مؤقتا “لبيت راحة” فى بلاد الخواجات، يبدو أن القانون يحتم على كل مقهى توفير “راحة” زبائنه بأى وسيلة، حتى لو كان ذلك فى مبنى صغير فى حوش قريب!!!.

نتجول فى ليون حسب مزاج السيارة، وتوجيهات أى نور أخضر لمدة نصف ساعة، هكذا قررنا، وكلما ابتعدنا عن مركز المدينة أطل علينا وجه الهدوء، فالمرتفعات، فالخضرة، فالجمال يالحقدى الذى لا ينتهى على هذه الأوروبا الخضراء بالطول والعرض.

نتوه ـ كالعادة ـ توها طيبا، كأنه مقصود، فتكشف لنا البلدة الكبيرة عن بعض وجهها أكثر فأكثر، ويكشف لنا ناسها عن بعض طيبتهم، ثم نقرر العودة فتبدأ الأسئلة. وكانت مرشدتى ـ هذه المرة ـ هى كبرى بناتى “مايسه السعيد” وأعقلهن جدا(جدا)، وكأنها قد ورثت حكمة والدها المبكرة، حكمة يكمن وراءها خوف دفين ـ ألمحُه ولا تدركُه ـ خوفٌ من أن تخطئ حتى بالصدفة. فكانت إذا سألتْ أحد المارة عن الاتجاه إلى باريس، راحت تكوّن جملة مفيدة مسبوقة بنداء مناسب، ومنتهية بشكر مهذب. مثلا: “سيدى من فضلك، هلاّ أرشدتنا عن الطريق إلى باريس، مع جزيل الشكر”؟ ” تقولها وكأنها تجيب عن سؤال مُدرسة اللغة الفرنسية فى حصة مطالعة. وبدهى أنها حتى تتم جملتها التى بالغت فى إطالتها ودقتها من فرط الحكمة والأدب، تكون السيارة قدمرقت بجوار “سيدى” هذا، قبل أن يدلنا على شىء، إن كان قد سمع أصلا، أو تكون الإشارة الحمراء قد اخضرت مما اضطرنا إلى الحركة قبل أن يجيب، فجعلتُ أقول لها إن الجهل نعمة. ولأنى لا أعرف الفرنسية إلا أقل القليل، فقد رُحـْتُ أصيح فى بعض المارة بلهجة استفهامية جدا، بكلمة واحدة “..باريس؟؟. ” وأحيانا بدءا بنداء بالعربية “ياعم والنبى… باريس؟. ” فيلتقط هو باريس والاستفهام فورا، ويبتسم ويشير، لكننا عجزنا ـ من كثرةالاستفهامات أن نخرج من “سحر” ليون. كان لزاما أن نتوقف لنرسل مندوبتين راجلتين كلا فى اتجاه، تدخل إحداهما إلى أحد الحوانيت. وتسأل الأخرى بائع فاكهة قريب، فتعودان بخريطتين ذهنيتين مختلفتين، ونضحك؛ إذ يبدو و أننا كنا نسأل على ما لا يُسأل عنه أصلا، فكل الطرق – فى الأغلب – تؤدى إلى باريس، وما علينا إلا أن نمضى حتى نعثر على الإشارات الواضحة، وما أكثرها، وسرعان ما وجدنا أنفسنا فى الطريق السريع إلى باريس دون سؤال.

كنا فرحين بالخطأ والخيبة والحوار والمحاولة جميعا، فقد أتاحت لنا وقتا أطول فى بلد قد لا نراه ثانية، ثم إننا لم نكن فى عجلة من أمرنا، حيث تيقنا أن أغلب بقية الرحلة سوف تكون فى الليل، فقد اقتربنا من المغرب، أو اقترب منا المغرب، إذ لم أكن على يقين أينا أكثر ثباتا، وأينا أنشط حركة (نحن، أم المغرب؟). ورحم الله كوبرنيكس، و”أينشتاين” معا، ذلك أنه فى السفر خاصة، لابد أن تصاحب “الحركة” بدرجة يستحيل معها أن ترى شيئا ثابتا. فأنت فىالسفر، لا تقطع الزمن بل تواكبه، وتدور مع دورات الشمس، وتبادل الليل والنهار، فالزمن على “الطريق” يصبح كائنا حيا، يقترب منك، كما تقترب منه، ويوازيك، ويستأذنك، وتستأذنه، ثم تلتقيان، أو يتوارى أحدكما عن الآخر قليلا أو كثيرا ليعود متراخيا أو مقتحما، وهكذا، و لعل تحريك الأفكار، وإعادة النظر وتجدد البهر يرجع بعضه إلى هذا التنشيط المتحرك من كل اتجاه، وفى كل إتجاه.

تحضرنى علاقتى بهذه الحركة المتبادلة، أو المتداخلة مُنذ كنت أركب القطار طفلا فأشعر أنه يسير إلى الوراء ثم أكتشف أن القطار المجاور هو الذىغادر المحطة، (كان ذلك قطار طنطا لأن قطار الدلتا (زفتى بركة السبع) كان خط جديد واحد= غير مزدوج). كما كنت أحاول الإمساك بالأشجار علىجانبى القطار وهى تتراجع منى الواحدة تلو الأخرى، من أيامها: وأنا أعيد النظر فى مسألة الساكن والمتحرك؛ لأكتشف أنه “لا سكون”، وإنما هو اختلاف سرعات الحركة واتجاهها لكل المتقابلات فى آن. وقد صالحنى هذا اليقين المتأخر على علاقة الزمان بالمكان، وبالعكس. ومع تحريك الزمن عرفت كيف يولج الله الزمان فى الزمن، وبالعكس. كيف يولج ربنا الليل فى النهار ويولج النهار فى الليل، وعدت أصالح القَسَم “بمواقع النجوم”، و أعايش وأدور مع “الشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها” ـ بل إنى عدت أقرأ العين الحمئة التى تغرب فيها الشمس باعتبارها زمانا لا مكانا، وحتى الطرق جعلتها زمانا يتحرك. الطرق لا تعلن لك مرتفعاتها أو العكس فى وضح النهار، بل هى تسحبك سحبا إلى أعلى أو إلى أسفل على المدى الطويل، فما بالك بالليل… هذا الليل الرائع المرؤع الحاضر المحيط.

رحت أستنتج أننا فى مطلع حين “تزوم” سيارتنا الطيبة أو تئن فتتباطأ سرعتها، على الرغم من حسن نيتها ومحاولتها الاستجابة لقدمى على بدال الوقود، فأنتبه أو ينبهنى أحد الرفاق، فأستجيب بدورى، لكن المسألة انقلبت جدا لا يحتَمِل هذا الحوار الرقيق؛ إذ سرعان ما أدركنا أننا داخلون على فصل الشتاء شخصيا، وبسرعة فائقة، فانخفضت درجة الحرارة، وغامت السماء مع زحف الليل اللاهث.. “ثم”.. (ويا ليتنى أجد لفظا أقصر من “ثم”) انفتح الطوفان شلالا من جوف السماء. لم تكن المسألة هذه المرة مجرد تغيير فى الطقس، أو إعلان للانتقال من مكان إلى مكان، لا… ولم تكن ـ طبعا ـ أفواها للقرب كما اعتدنا أن نصف المطر الغزير، لكنها كانت نقلة من فصل إلى فصل، من صيف إلى شتاء خلال نصف ساعة ،دون المرور بخريف أو غيره، وكأن السماء قد قررت ـ فجأة ومن فورها ـ أن تحفر نهرا جديدا يكون موقعنا هذا هو منبعه شخصيا، وابتسمت، فسنشهد نهرا ينبع!!، إن لم يكن فىالخارج، ففى داخلنا..، ولم أكمل ابتسامتى، فقد تسارعت لطمات الماء من أمام ـ والسيارات تمرق بالسرعة ذاتها، وكأن شيئا لم يكن، وقد سبق أن أشرتُ فى هذه الرحلة إلى مثل ذلك فى الطريق إلى زغرب، لكن التجربة هنا كانت أقسى وأشد مما يبرر التكرار. فقد اجتمع الظلام مع المطر، مع الطريق السريعة، مع ما تثيره العربات المارقة من لطم واجهة سيارتنا، مع عدم خبرتى. اجتمع علىّ كل هذا أنا شخصيا، وكانت العلامات الفوسفوريةالمنظمة على جانبى الطريق هى وسيلة الاتصال الوحيدة بين ناظرَىّ والعالم الخارجى؛ حيث لا أستطيع أن أتبين أن السيارات التى عبرتنى قد عبرتنىإلا بما تثيره من عواصف مائية، أما معالمها فلابد أن تُقَدّر بالتقريب. وكان أكثر ما يرعبنى أن يمر بجوارى هذا الكاميون الطويل الذى لا أعرف متىسينتهى، وأتعجب من سرعته، مع العلم أنى أسير بسرعة تقترب من المائة، فكيف يمر بى هذا الحوت (موبى ديك) بهذه الصورة وهذه السرعة؟ ومرة أخرى أعلن دهشتى من طمأنينة صحبتى التى تبدو وكأنها الشجاعة، والبرد لا يزيدهم نشاطا، بل يهيئهم لنوم أعمق، وتيقنت تماما أن السلامة فى يده وحده فعلا، ومادام كل أفراد هذه الصحبة من الطيبين الأبرياء على ثقة ـ هكذا ـ بالحياة ومانحها، فلابد أننا نسير “فى السليم”!!. وما إن تعودنا على الطريق الجديدة، والدلالات الجديدة حتى نام من نام، وتمدد من تمدد..، ولم يبق معى إلا مرشدتى، والحافلة، وأفكارى، وعلامات الفسفور.

يواصل المطر حفر منبع النهر الجديد، بلا انقطاع، لمئات الكيلومترات حتى ينتصف الليل، ومازلنا نسير، ونلمح إشارات دالة على مكان الانتظار القادم.. فننحرف يمينا ثم يمينا (ونحن فى أقصى اليمين من أصله)، ثم ندخل إليه لنسوى أمورنا، ونفرد ظهورنا، ونطلق عنان سائر الوظائف الفسيولوجية. وبكل غيظ، يتباطأ المطر حتى يكاد ينقطع.؟ ما هذا؟ هل يقصد أن يغيظنا؛ فيخف حين نتوقف ثم خذ عندك حين نسير؟ وقد كنت أحوج ما أكون إلى أن يهدأ المطر قليلا؛ لألتقط أنفاسى ولو دقائق أثناء السير المارق من حولى، لـَكَ فى ذلك ـ وغيره ـ حـِكـَمٌ يارب.

نتشاور فى بقية الرحلة، ونحسبها، فلم يبق على باريس سوى مائتى كيلومتر وبضعة عشر، فمتى نصل؟ قرب الفجر؟. وكيف سنتعرف على طريقنا فىباريس فى هذه الساعة المبكرة، بهذه السيارة الطيبة المتهادية؛ إذ يبدو لى أنها تجنست بالمصرية الحقيقية رغم أصلها اليابانى، وأنا لا أعرف باريس إلا راجلا، أو تحت الأرض، وهى ـ السيارة ـ تبدو لى منهكة صبور، تؤجل الاحتجاج حتى نصل، تتحمل لطمات المارقات العملاقة دون شكوى (!!!)، فلها العتبى حتى ترضى. لا.. لن يكون الأمر سهلا؛ إذا وصلنا باريس بعد الفجر هكذا. إذ من نسأل..؟. وكيف نهتدى إلى الفندق الذى ألفنا النزول فيه؟.. فيقترح البعض أنه مادام مبيتاً بمبيت؛ فلنعرج على أول “موتيل”، وقد تعلمنا أن الموتيلات دائما أرخص، وأظرف، وأوافق من حيث المبدأ، على الرغم من أنى لاحظت أنه فى مثل هذه الطرق السريعة لا توجد موتيلات واضحة أو كثيرة أو قريبة. المهم وافقت وتعهدت، وبدأنا مواصلة المسيرة بعد تغيير المرشدة المهذبة الهادئة، بمرشدة متحفزة يقظة، تعرف جيدا أنى أحتاج بين الحين والحين إلى نصف كوب من أىة مياه غازية بها سكر. وقد لاحظتْ أنطلبى هذا قد تكرر بانتظام حتى نبهتنى مرشدتى الصغيرة “منى السعيد” أننى أصبحت مثل السيارة أستهلك كذا لتر “ميراندا” أو “ببسى” كل كذا كيلو، وأنى لابد سأتوقف اذا نفد وقودى، أو وقود السيارة، أينا أسبق، لذلك كنت احتفظ بزجاجة خاصة لى لزوم احتراق الطاقة المنتظم هذا، الأمر الذى جعلنىأتوحد بالسيارة أكثر فأكثر.

وتمضى ساعة وساعة، ونقترب أكثر من باريس، ومن إشارة الموتيل معا، وأقول فى نفسى: كيف يا جدع أنت، ستدفع فى الموتيل الشئ الفلانى لمجرد قضاء ساعتين… نصفها فى عمليات بيولجية، وأخجل من أننى مازلت أحسب كل شىء، وكل قرش، وأقارن، وأفضل، الطريقة ذاتها التى اعتدتها وأنا فقير وأنا جائع، لماذا؟، وأكتشف أننا فى باريس قد نقع فى المطب ذاته، إذ قد ندفع ليلة كاملة إذا شغلنا الحجرة قبل الظهر، ثم إن هذا الموتيل بعيد عن العاصمة، فلابد أنه أرخص، فاخـَتـْر وما فيهما حظ لمختار، ولا أعلن عن أفكارى هذه لأنى أعلم أنها نابعة من كومبيوتر الفقر القديم، حتى لو كان كل واحد من أفراد الرحلة مسئولاً عن ماليته مستقلا كما اتفقنا.

ظـَهـَر الموتيل، ليس كغيره مما جربنا فى هذه الرحلة، فهو ضخم فخم، يبدو كمجمع خدمات، قهوة.. أو ناد أو بار: صالونات فخيمة، وناس أفخم، محترمين على ما يبدو، أغلب الوجوه هادئة مرسومة، لا يبدو عليها آثار “عدوان” السفر أو المطر، أو جهاد اقتحام العادات القديمة واكتشاف الطبيعة الجديدة، ناس مرتاحون!، فنظرت فى وجوه صحبتى، فوجدت فيها مثل ما طاف بى.. “هذا ليس مكاننا” ـ هكذا قلنا لبعضنا دون كلام. ومع ذلك، فأين نمضى الآن، ولم يبق على باريس سوى بضعة وستين كيلومترا، كما لم يبق على الفجر سوى ساعة أو بعض ساعة؟.

غامرتُ وذهبت أستعلم، و سألت وأجابت موظفة الاستقبال، ونبـّهتنى – ربما بعد التملى فى منظرى – إلى أن كذا ممنوعاً وكذا عيباً. كدت أحتج وأنا أتصور أنها اختصتنى بهذه التعليمات دون سواى. وحين أعلنتْ أسعار الإقامة فى الموتيل، تم قطع المفاوضات من فورنا، قُطعتْ قبل أن تبدأ، فقد كانت أكثر من ضـِعـْف ما تعودنا، بل ضعف فنادق باريس المتواضعة التى اعتدنا النزول فيها، ثم كل هذا الرقم من أجل ساعتين أو ثلاثة، ولكن.. أنا مالى؟ ما أنا إلا فرد من تسعة، وأنا الأقدر، فحملت الرقم ببراءة ظاهرة مطمئنا إلى نتيجة الصدمة على رفقتى محدودى الدخل (أو محدودى الهبة)، وتوجهتلتوى إلى أصغريْنا أحمد وعلى، وقلت لهما ـ على مسمع من الباقى ـ إن هاتين الساعتين سيكلفاننا “كذا” ـ وتم المراد بحكمة الأولاد فى التو والحال؛ فقد استدارا بعد أن وضع أحدهما يديه فى جيوب سرواله، ومط الآخر شفتيه، مضيا دون تعليق. ونظرت فى وجوه الباقى، وانفجرنا ضاحكين.

ألتقطُ ذلك السباب البرئ الذى وصفوا به الموتيل والقائمين عليه، وهو يتخلل موجة الضحك من أمثال تعليقات تقول إن “رزق الهبل… ” أو “بعيد عن شاربهم” ـ وهكذا جمعتنا العربة من جديد فى حنان لا يخلو من شماتة، وكأنها تقول “… كنتم ستتركوننى وتذهبون. فها أنتم عدتم صاغرين”. اعتذرنا لها صامتين، وجلسنا واستعددنا.

أدرت المفتاح فعاد صوت الموتور يعلن نوبة نوم جديدة، ولكنى تدخلت بسرعة متسائلا، بعد أن نظرت إلى الساعة: “والآن.. إلى أين؟” وكانت الإجابةالبدهية “إلى باريس ياسيد”. مفهوم مفهوم. ولكن متى؟. ثم الاقامة، ونحن حتى الآن (رغم حلول الشتاء فجأة!!!) لم نقرر هل يقيم الأولاد فى باريس فىفندق فيكسرون شرط الرحلة منذ البداية، فما زالت فكرة “حتم التخييم:” تلاحقنى متصورا أنها تبرر لى ما أحاول أن أوصله للأولاد من فوائد التقشف وزيف الرفاهية. أحاول أن أبين لهم أن المسألة ليست بالساهل، لكن الدنيا برد، وأرد على نفسى: “برد..، برد، مثلنا مثل غيرنا، أعنى مثلهم مثل غيرهم” ويبدو أنهم قرأوا أفكارى فلم يستطع أحدهم أن يقترح النزول فى فنادق أصلا، وحتى هذا الفرض لابد من حسن توقيته، هل نظل فى الشارع حتى منتصف النهار، حتى لا تُحسب علينا الليلة، بلا ليلة؟ وهمست للصغيرين بالخسارة المحتملة، فما إن عبرنا بوابة الطريق السريعة حتى اقترح أحدهما، أوزوجتى (لست أذكر) ـ أنه “وماله لو نمنا فى السيارة هاتين الساعتين داخل العربة هنا، والصباح رباح، والنهار له عينان”، فوافق البعض، وزام آخرون دون تمييز. ولم تكّذب العربة خبرا، فمالت إلى جانب حتى اطمأنت إلى جوار المبنى الخاص بخدمات الطريق (مما جميعه)، فاعتبرناه لخدمتنا الخاصة، وتناوبنا، وعدنا، وتداخلنا فى بعضنا البعض نتقى البرد.

أدرت زرّ السماح بالنوم، فرحت ـ من فورى، بالغيظ فى زوجتى ـ فى سبات عميق.

الأربعاء 5 سبتمبر (1984):

استيقظت على فحيح التململ يلكزنى فى جنبى، يتبادل ذلك مع ضحكات ساخرة، وتعليقات متنوعة تعلن أنها كانت ليلة ليلاء، وهى لم تكن ليلة بل ساعتين وبضع ساعة، وكنت قد نمت وكأنى فى أفخم مخدع. فأنا طول عمرى أتمتع بالقدرة على الدخول والخروج، إلى هذا الجانب الآخر من وعيىبسهولة ومباشرة، سواء كان هذا الدخول لجزء من دقيقة، أم ليلة بأكملها. وفى الحال أقوم وقد شبعت بما يكفينى “لأواصل” حتى أستأذن من جديد، وهكذا، فلم أفهم لماذا كانت الململة واللكز والسخرية والتعليقات، ولكنى أخذت أدرك رويدا رويدا أن هؤلاء الأولاد لا يعرفون معنى التقشف، وربما لن يعرفوه أيدا، فهذا التقشف المخيماتى المصطنع، شئ وذاك الحرمان الحقيقى الذى يعيشه أغلب الناس شئ آخر، فهم لم يستطيعوا أن يتحملوا ليلة واحدةفى داخل سيارة، بل ساعات. وتعجبت من أحوالهم تلك؛ إذ لو أنى واصلت السير وهم نيام، لقاموا يتمطون بالرضا عن سائقهم الذى انتقل بهم إلى مرادهم دون إزعاج، أو على الأقل بلا نظرات سخط مثل تلك التى لكزتنى فأيقظتنى، كنت أشعر وكأنهم يتهمونى بأنى أتعبتهم، لأوفر ثمن سرير الليلة مثلا، على الرغم من أنى إذا كنت قد وفرت، فهو لهم، وليس لى (حسب قانون الاستقلال الرحلاتى الاقتصادى الذى اتفقنا عليه).

زادنى موقفى المتململ هذا تصميما على أن ينزلوا فى مخيم كنت أعرفه فى غابة بولونيا، اللهم إلا إذا كان هذا المخيم قد أغلق أبوابه بسبب البرد، هذا، وإلا فقد خاب سعيى فى تربيتكم من أوله، فيسمعون ما لم أقله لكنّه يصلهم فيصمتون، وتصفر وجوه وتسود وجوه، ثم يعلن الأصغر (والأشجع) أنهم أحرار، وأنهم قد ينامون فى فندق نصف نجمة، ولا يأكلون إلا خبزا “حافا”، وأنه ليس من حقى أن أنظم لهم إقامتهم ماداموا لن يطلبوا أية معونة إضافية، فأوافق من حيث المبدأ، ولكنى أصر على التعرف على ما تبقى مفتوحا من مخيمات، وبالذات فى غابة بولونيا، وقبل الدخول إلى باريس المدينة. من يدرى قد نحتاجه بشكل ما.

دخلنا من الباب الجنوبى لباريس، باب أورليانز، والتقينا قبيله بأفواج السيارات الداخلة إلى المدينة الحنون. فالروعة هناك أن الضواحى تمتد إلى سبعين ومائة كيلو، وكأن باريس للعمل فقط. أما السكن فأمر آخر. واتبعنا الإشارات إلى الطريق الدائرىة حول باريس، متجهين إلى غابة بولونيا حيث أشار كتاب دليل المخيمات الذى معنا، إلى وجود مخيم هناك على نهر السين. وما إن تخلصت من الطريق السريعة وزحام السيارات حتى هبت على روائح كدت أنساها. ستة عشر عاما بالتمام، وابتسمت حتى تخـللت ابتسامتى كل خلاياى إلى نخاع عظمى، فابتسمت لى الأشجار والخضرة الكثيفة والشوارع النظيفة والرجل العجوز الذى دلنا على الطريق إلى شاطئ السين حيث يخترق بولونيا وحيث سوف نجد المخيم فى الأغلب، وقد عدت أأتنس بهذه الحضارة الدمثة التى تجعل هذا الكهل يتوقف ويستمع ويلتفت ويشرح ويخطط، ويشير، بكل إخلاص وتواضع، لا يبغى جزاء إلا احترام الآخر وبذل ما عنده، طالما لا يعيقه، وكلما سألت عن المخيم بإصرار مطلق، سمعت الهمهمة تتعالى من ورائى تصك أذنى فى تصاعد يكاد يصل إلى الأنين المكتوم، ولسان حالهم يقول ما يعلنه بعضهم: “أنت وأمنا ستذهبون إلى الفندق حتما كما تعودنا منذ البداية، ومادمنا قد قررنا ألا نخيم فى هذا البرد مهما كان الإغراء، فلماذا تبحث لنا عن مخيم أيا كانت ظروفه؟ ولكنى أصر على أنه ليس من حقهم أن يقرروا “الرفض”، قبل أن يروا بأعينهم “ماذا يرفضون” و”لماذا”؟.

أواصل السير فى بولونيا، وكنت أحسب أن غابة لفظ بولونيا هذه، هى اسم الغابة فقط، وإذا ببولونيا هى الضاحية التى تحتوى الغابة. أواصل السير فألمح شيئا أشبه بالخيمة الكبيرة، ولكنها على الجانب الآخر، وليست على الشاطئ مباشرة، وحين نقترب منها أجدها أكثر من واحدة، ومساحة كل منها عشرات الأمتار، فأتعجب لهذا المخيم الغريب، وأتصور أنه هو، وأنه معد هكذا اتقاء للبرد حيث لابد أن الخيمة الأصغر تقع فى داخل الخيمة الكبيرة، ويرتعد الأولاد خوفا من أن أفرض عليهم التخييم هنا؛ حيث لا عربات ولا كرافانات ولا خدمات، ولا ناس، اللهم إلا بضعة عمال يقومون بما يشبه الزراعة حول هذه المخيم العملاقة. أتوقف بالسيارة ـ وأكاد أسمع قلوب الأولاد تخفق خوفا وتوجسا، وأرى نظرات العدوان تطل من عينى مصطفىغريمى المتحفز، وكأنه يعلن أنه “للصبر حدود”، فأتغافل وأنزل من السيارة، وأنادى على أحد العمال فلا يجيب، فألف حتى أقترب أكثر، وأعاود النداءبإصرارى المعتاد، والجميع فى السيارة يستعدون لمعركتهم معى فى الأغلب ـ فيرد العامل، فأسأله: “أليس هذا مخيما للرحالة والمصيفين؟” فيبتسم فىشفقة، ويقول بالفرنسية السريعة التى ألاحقها بالكاد، ما أفهم منه أن هذا مشتل زهور أو ماشابه، وأن هذه الخيم تحمى الزرع الصغير من الصقيع والتقلبات (شئ أشبه بالصوبات التى عُرفت عندنا فيما بعد). وأرجع بخفى حنين، وتنفرج أسارير الجميع فيما يشبه الشماتة حين يقرأون فى وجهى ـ قبل أن أخبرهم ـ خيبة أملى، ويتصورون أنى همدت، ولكن: “أبدا”، وأعاود المسير بحذاء نهر السين، وأكرر السؤال بإلحاح، حتى تبدو لى من بُعد الألوان الدالة على خيام الرحل وسياراتهم ومقطوراتهم، وأقول فى نفسى متوعدا “لسوف أريهم هؤلاء المرفهين المدعين”، وينتقل الغيظ إليهم مع اقترابىالمنتصر من ضالتى، ولا أفهم كيف يتصورون أنى سأفرض عليهم رأيى فى نهاية النهاية، ومع ذلك فكل شئ جائز، وأنا لا أضمن نفسى، فكيفيضمنوننى هم؟

ندخل المخيم، ونجده، يكاد يكون شاغرا إلا من خيمة هنا وخيمة هناك. وينظر الواقف على البوابة إلى أرقام سيارتنا العربية، فيبتسم ابتسامة نعرفها، ويشير صائحا: “أهلا” بالسلامة، ثم كلاما كثيرا باللهجة ذاتها، ولا نفهمه، أستعلم، وأقرر، وأرفض ولا أعلن رفضى، فأتركهم يتوجسون.

فى الطريق إلى باريس المدينة، أتعجب لصلابة هؤلاء الخواجات، المخيمين بالقياس إلى ميلنا إلى الدفء والاستكانة؟. أليس هؤلاء مصيفين مثلنا؟. أليسوا أغنى منا؟. فلم يقبلون التخييم هكذا بهذه البساطة؟. وأولادى أكثر شبابا وأوفر حركة، وأفقر، فما بالهم يقاومون هكذا؟ أهى العادة أم خطأ التربيةالأساسى فى علاقتنا بمعنى النعيم ودغدغة الدعة؟

فجأة تقفز إلى عقلى ثلاث صور متلاحقة:

الأولى فى جبل عتاقة فى شتاء 1954، وأنا فى “نوبة حراسة” مع مخيم الجوالة، والعاصفة الرملية لا تهدأ، وأنا لا أشكو ولا أغفو.

الثانية،أعلى جبال الأرز فى لبنان قرب طرابلس، فى صيف السنة ذاتها مع الجوالة عينها أيضا. والصقيع العربى يذكرنى بالتقشف الحقيقى الذى كانت الجوالة تعنيه لنا جميعا، ثم ذلك الأتوبيس الذى يكاد يسقط وهو يلف (ماذا دهاك يا لبنان!!! ماذا دهاك؟ مازلنا 1984 تذكّر).

الثالثة  صورتى وأنا مخيم فى فينسيا بعد أن ودّعت زوجتى وابنى وأركبتهم المركب المتجهة إلى مصر سنة 1969 فحبسنى المطر ثمان وأربعين ساعة فى خيمة قرأت فيها ـ مضطرا ـ كتابا لم يكن معى سواه فاضطررت لقراءته مرتين فتغيّر موقفى من مهنتى ونفسى، هو كتاب عن العلاقة بالآخر، مدرسة العلاقة بالموضوع (جانترب)، وكأنى كنت على موعد معه لأغيّرفهمى لـلنفس البشرية (نفسى أنا قبل مرضاى).

تذكرت كل هذه المواقف لأزداد يقينا بروعة ما هو صدفة، وما هو تقشف، وما هو عناد، وما هو إصرار، وما يمكن أن يتاح للواحد فى فرص حقيقية من خلال بعض ذلك أو كله، فلماذا لا يشعر الأولاد بقيمة المشقة، ويقبلون التحدى طوعا أو كرها؟. لا.. بل كرها. فما يفجر الطاقة إلا الاضطرار.

إن هذا الذى أحاول أن أعلمه للأولاد هنا هو “كنظام” الفقر والحرمان. فهو إيهام زائف، لذلك فهم يفقسون الادعاء، ويكادن يقولون: “كبّر عقلك… حين نفتقر سنتصرف”. لكن مالى أنا، لابد أن أفعل ما أتصوره مناسبا حتى لو بدا مزيفا أو “كنظام”، أم ينبغى على أن أموت فعلا أو أعلن الفلس الحقيقى حتى يتعلموا معنى جدية الحياة، وشظف الحاجة

تلتقط ابنتى الكبيرة منى يحيى حالتى وأزمتى فتحاول أن ترضينى، فتعرض حلا وسطا، وكنا قد دخلنا باريس فعلا، إذْ تقترح أن تذهب مع مصطفى إلى المدينة الجامعية، حيث سمعت من قبل أنها قد تستقبل نزلاء عابرين من الطلبة بأجر زهيد، فأطمئن أخيرا إلى أن ثَمَّ من يشاركنى موقفى، ولو بدرجة أقل، وتنزل ابنتى مع أخيها فى “الأنفاليد”؛ لتأخذ المترو، ونلقى التحية على نابليون فى قبره، ونواصل السير، وقد تواعدنا على اللقاء أمام الفندق المتواضع الذى ننزل فيه عادة فى الجوبلان.

نصل إلى الحى اللاتينى مارين بميدان إيطاليا ـ بلا مبرر ـ وكأن السيارة كانت تعرف أنى أحتاج لاستنشاق هواء الأماكن ذاتها التى صاحبُتها أثناءمهمتى العلمية، فى مستشفى سانت آن، بالقرب من هذا الميدان.قلبى يدق مثل عاشق مراهق فعلا، فخشىت أن يسمعوا دقاته. وأجدنى أعيش من جديد تلك الفترة البالغة الثراء التى أمضيتها فى باريس، والتى مازلت أعود إليها منذ ذلك الحين، فيعاودنى الشعور عينه، وأكتشف أن باريس قد استقرت تحتجلدى، فى ثنايا عضلاتى، فى رائحة عرقى، سارية مع دمى، إذ يبدو أن هذا العام 68 / 69 كان عام تحوّل فى حياتى خلال إقامتى بها، وتجوالى فيها. ماذا حدث تماما حينذاك؟. لست أدرى على وجه التحديد، لكنى عشت تلك الفترة بكل ثقل المواجهة، مواجهة مع الناس والحجارة، مع القديم والمجهول، مع الوحدة والتساؤل، فكان ماكان مما استيقظ فىّ الآن، وهو لم ينـَمْ أبدا منذ ذلك الحين.

مازلنا: 5 سبتمبر 1984:

فندق جوبلان (نجمتان)، فندق الإقامة السعيدة (“بل سيجور” نجمة واحدة) يفصلهما ممر صغير، وهما يقعان على تقاطع طريق جوبلان وطريق راسباى،الحى اللاتينى، أمام أحدهما مطعم جميل ذو ستائر حمراء رقيقة. وأمام الآخر مطعم صينى متواضع ـ  هذا هو مكاننا المفضل. يستقبلنا صاحب فندقجوبلان ـ ويتذكرنا، عام مضى منذ كنا عنده، زوجتى وأنا، ونجد عنده حجرة واحدة خالية، وكأنها كانت تنتظرنا، ونجد فى الفندق المجاور ذى النجمة الواحدة حجرة من داخل حجرة، بحمام خاص (ياحلاوة) وحجرة أخرى للابن الأكبر. وبحسبة سريعة يتبين أن الثمن يقارب ثمن المخيم، فيهدأ بال الجميع، وأنا أوّلهم، وخاصة أن فندق الإقامة السعيدة يتميز بكل مزعجات فنادق النجمة الواحدة؛ فكلبٌ ضخم لا يقل طوله عن متر يقبع وراء مكتب الاستقبال بجوار موظف الاستقبال المتجهم، ويبدو أن الكلب يحل محله فى حالة غيابه(!!!) والفندق له رائحة يعرفها كل من لا يملك إلا ثمن الإقامة فيه،وأسلوب التعامل فيه من باب “ساعد نفسك”…” (إن كنت جدعاً). وأطمئن على أن  الرائحة فى هذا الفندق، سوف تكون نافية لأى احتمال رفاهية مفسدة!!!، وإن كانت تختلف حتما عن رائحة فنادق أعرفها فى العتبة (الخضراء) وعماد الدين؛ حيث ينزل بعض أصدقائى السودانيين، فلكل بيئة وثقافة رائحتها المميزة…. والعياذ بالله. ومع ذلك، فقد فرح الأولاد فرحا شديدا بكل ذلك، ولولا التهديد الملاحـِـق بالتخييم فى الصقيع، لما تحملوا أيا من هذا بحال.

أخيرا باريس،

هى هى. وبرغم صفعة الحر التى صفعتنى بها العام الماضى، فما زالت هى الغالية بشكل أو بآخر. قلت لى: لماذا؟. أقول لك: لست أدرى، مع أنى استطيع أن أدبج فيها مئات الصفحات. ولكن ياترى هل أنا أحكى عن باريس الآن؟ أم عن باريس 86/96؟. أم عن “باريس/القاهرة/أنا”؟ . لاشك أنى أحكى عن هذا الثالوث المتداخل فى تفاعل متصل، فقد تعريت هنا، فى سن الخامسة والثلاثين، هذا التعرى الذى اعتبرته أروع ما فى السفر، بل لعله المبرر الوحيد للسفر، كما ذكرت. حين يتلقى جهاز استقبالك هذا الكم الزاخر من المعلومات الجديدة (المعلومات بالمعنى الأشمل= كل ما يصل إلىالوعى)، فإذا بك جديد. فإذا كان الأمر كذلك، فإن أى سفر قد يحمل هذا الاحتمال، لمن عنده هذا الاستعداد، فلماذا باريس بالذات؟.

أتصور أن ثمة “علاقة خاصة” بين باريس وبين المصريين المبدعين خاصة: توفيق الحكيم، يحىى حقى، طه حسين، محمد عبده، مصطفى كامل، رفاعةالطهطاوى، وهى علاقة ممتدة حتى الآن: عبد المعطى حجازى، جورج البهجورى، حتى الذى لم يقم بها زمنا تجلّت فى وعيه بدرجة كافية (جمالالغيطانى مثلا). أول ما يشعر به المصرى اليقظ وهو ينتقل إلى باريس إذا كان من عشاق  القاهرة، والنيل، والطين، والناس، والدفء، والكلام،…يشعر ذلك المصرى أنه “لم ينتقل” كثيرا، وفى  الوقت ذاته أنه “انتقل” كثيرا، فهو يرى النيل (السين) والكبارى، والتلقائية، والأصوات العالية نسبيا، والضحكات المسموعة فى الشوارع أو محطات المترو، وغير ذلك من الارتجال الذى يعلن نظاما غير محكم تماما (جدا) بشكل أو بآخر، فلا يفزع من النقلة، لأن كل ذلك قد تعوده، (وألعن)، وهو فى بلده، وفى الوقت ذاته: هو يجد إيقاع الحركة أسرع، وكّم الحرية وأنواعها أكثر بهرا، وتنوع أذواق أرق، وريح الحضارة أكثر حدة وإيقاظا.

ومن واقع رقة النقلة ودقة التشابه، جنبا إلى جنب مع وضوح النقلة وعمق الاختلاف، تتاح لمن مثلى تلقائية الحركة وشجاعة التعرى، وأحسب أن هذا هو بعض ما أصابنى وبهرنى منذ نزلتها أول مرة عام 1968، فظلَّت علاقتى بها هى العلاقة ذاتها حتى الآن، أدعمها كل عدة سنوات بجرعة منشطة خلال عدة أيام، فأجلس على المقهى ذاته، وأسير وأنا أربت على خدها الندى، فتحتضننى فى رفق مستقبلة مودعة فى آن، مطمئنة إلى عودة وعودة، ثقة منها بهذا التواصل دون تواجد. لكنى لا أخفى على نفسى أنى فى كل مرة كنت ألاحظ على وجهها بثورا جديدة، من مضاعفات الحقن الأمريكانى الذىاقتحمها بالواجهات الزجاجية، والعمارات العملاقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. حتى مركز بومبيدو، بدا لى سجنا زجاجيا يزحف على جداره ثعبان سام وقد التهم البشرفى جوفه دون خجل، حتى تعيّن لى ما يزعمون من “شفافية”، وكأنها “بجاحة العدوان”.

حين استفزّنى منظرالسلم المنزلق وهو يتحرّك عاريا خلف زجاج قبيح كتبت فيه هجاء غمرنى حتى عنونت به عنوان ديوان مجهول لى اسمه “البيتالزجاجى والثعبان”، كنت أعنى به هذا المركز (بومبيدو). تقول بداية هذا التشكيل “يسعى ثعبان البشر على جدران البلور العارى، يفضحنا، فنعود إلينا نتعرّى أكثر، نتكاثق داخلنا، نتوارى، فنرانا أقبح”…..الخ.

كاد هذا التحوّل الذى ضجر منه الفرنسيون أنفسهم يفتّر علاقتى بباريس الجديدة، حين أتصور أنها أقل ترحيبا؛ فأصبح أخف حوارا معها.

حين لطمتنى ـ باريس ـ لطمة حارة لم أتعودها منها فى العام الماضى، أحسست وكأنها تعلن قطيعة من جانب واحد، فخرجت منها بلا وداع ولا وعد بلقاء، وتعمدت ألا أدخلها ثانية إلا شتاء، أو قرب الشتاء. وها هو شتاؤها يلقانا قبل أوانه، ليصالحنى عليها من جديد…، وما تخاصمنا أصلا. اكتشفت ذلك. فى الترحال الثانى “الصلح خير” الفصل الـ 13)

ركنّا الحافلة فى مكان رائع، بين رصيفين معدين لذلك، وقررنا أن نتركها تستريح بضعة أيام؛ فقد فضّلنا ألا نعود اليها إلا عند شد الرحال إلى خارج باريس. فباريس عندى ـ وربما عندهم ـ هى المشى والمترو والناس، السيارة تحول دون ذلك.

يقترب منا ونحن ننزل أشياءنا ذلك الوجه العربى، متأملا فى أرقام السيارة بالعربية، وأفرح بهذا الإعلان المميز الجاذب للأخوة وأولاد العم، ويقول: “بالسلامة”، فنفرح مهللين أن يسلمه الله، ونتعرف عليه “جزائريا/باريسيا” ممن أعتبرهم من معالم باريس بالذات. سألناه ـ وكأننا تذكرنا فجأة ـ عن العيد، فقد كنا قد انقطعنا تماما عن متابعة الزمن العادى، فلا صحف، ولا متابعة أخبار إذاعات عربية، ونحن نعلم أننا بالقرب من العيد الكبير، فقال لنا “فجأة” (أيضا) إنه اليوم، وفزعنا لأول وهلة، ونظر بعضنا إلى بعض فى غيظ وعتاب، ثم انفجرنا ضاحكين، سُرقنا والذى كان قد كان.

هكذا وجدنا أنفسنا فى وسط العيد بلا إشعار سابق. لا…ليس هذا هو العيد، لا يمكن أن يكون اليوم، ليس هو العيد الذى نعرفه.

فالعيد هو الاستعداد للعيد: يابرتقال احمر وجديد، بكره الوقفة وبعده العيد، يابرتقال أحمر وصغيّر، بكره الوقفة وبعده نغيّر، فإذا أتى اليوم التالىفــــ: بكره العيد ونعيد، وندبح أبوك الشيخ سيد. ثم يأتى العيد، فيصبح العيد هو صلاة العيد، والسلام على الناس الذين لا تعرفهم باليد، والرجوع من الطريق غير الطريق الذى قطعناه ذهابا، ثم قبض العيدية، أو إعطاء العيدية (حسب السن والمقدرة). وينتهى العيد مع ضحى النهار. نعم هذا هو العيد، ولا عيد بغير هذا، لا عيد بغير “انتظار” العيد، ثم إنى كنت ـ حتى الآن ـ إذا حدث ـ لا قدر الله ـ أن فاتتنى صلاة العيد، كنت أشعر شعورىنفس هذا الشعورالذى لطمنى فى باريس، أنى سُرقت، وأن فجوة قد فتحت فى حائط الزمن بلا مبرر، فأصاب بحزن دفين أخفيه عن المعّيدين حولى بكل وسيلة.

أتساءل: لماذا أعطى  كل هذه القيمة لصلاة العيد، وهى السُّنة المؤكدة لا أكثر؟  ولماذا كانت سنة بالذات، وما كان أسهل أن تكون فرضا، وما أخف أداءه مرتين فى العام؟. وأجيب نفسى فرحا بأن هذه الصلاة ربما لم تـُفرض لأنها تـَفرض نفسها بهذه الدلالة وهذه الوظيفة. فأنا أميز بها العيد تحديدا، وأكتشف علاقتى بالسُّنة، وعلاقتى بالفرض، وكيف أنى قبلت تفسير الحديث الذى أوردت معناه فى هذه الرحلة، من أن “ركعتى الفجر خير من الدنيا وما فيها “قبلت تفسيرا يقول إن الحديث يشير إلى ركعتى السنة وليس الفرض، وأتذكر “قيام الليل”، الذى نزل بشأنه أمر مباشر “قم الليل إلا قليلا، وأتأكد منتفسيرى الخاص لعلاقة الفرض بالسنة فالسنة فعل طواعية واختيار، وكأن الشرع قد نظم علاقة الفرض بالسنة. نظاما يحل مشكلة الحتمية والحرية، يفرض الحد الأدنى لنتحرك بعده مختارين.

أرى أن هذه الطقوس والعبادات التى تجعل يوم العيد مختلفا هى نوع من الوقاية ضد ما يمكن أن يسمّى “اكتئاب الأعياد”، وهو أمر شائع من أيام “عيد بأية حال عدت يا عيد”، والشطر الثانى الذى يربط العيد بالتجديد له دلالة خاصة، لأنه يربط العيد بـ”التجديد”، وحتى لو لم يكن المتنبى يقصد تجديد الذات أو إعادة الولادة، وأنه كان يركز على تجديد علاقته بسيف الدولة، فإنه لاعيد دون تجديد، وكل ما هو جديد وتجديد يحوى جرعة طفليّة طازجة، بدونها لابد أن نشكك فى حقيقة وعمق التجديد.

أحسب أن اكتئاب الأعياد (وإلى درجة أقل: اكتئاب الإجازات) هوالنتيجة المباشرة لإحباط الطفولة حين تصطدم بالفرق الشاسع بين الوعود (الداخلية، والخارجية)، وبين الواقع المتواضع،  ربما هذا  الوعد بالفرحة هو الذى يفسر أنه لاعيد دون انتظار واعد، وحيث أن الوعود، لا تتحقق عادة ، لأن أغلبها يكون سريا، فهو  الاكتئاب.

بعد ضحى عيد طيّب، بدا طيّبا، كنت فى الاسكندرية، والعيد ليس إلا يوما واحدا مهما زعموا غير ذلك، بل إنه ينتهى  فى أول أيامه بعد الضحى مباشرة، هذا ما نبهتنى إليه أمى، وهى تردد: “قال دا لإيه؟ للعيد، طب دا لإيه؟ للعيد. مستنى إيه؟ العيد. كلّه عشان العيد، قال إيه؟!! ضحْويةً وفات العيد”، مهما طال الإعداد أسابيع أو شهورا”، فالعيد ينتهى  عند الضحى فعلاً خاصة عند الفلاحين الذين ينطلقون إلى الحقل قبل ظهر أول يوم.

فى هذا اليوم أول شوال سنة 1402 ـ الموافق 12 يوليو 1982 ـ هكذا وجدت الورقة مؤرخة بهذا التاريخ وجدتها يوم 12 يوليو 200 وأنا أعيدأوراقى المبعثرة، فتذكرت أننى فى ذلك اليوم احتدت وحدتى وأنا أشاهد المعيّدين من شرفة بيتى – فى الاسكندرية – المطلة على بلاج السراية(أبوهيف)،احتدّت وحدتى حتى غمرت وعيى دون سبب، فى الأغلب نسوا طفلى تماما بفضل حركاتى طبعا، وجدتُنى بين أوراقى بهذا التاريخ أنهنه قائلاً:مارتَّبَ مهدى قبل النومْ، بعد النومْ” ما مرّت كفٌّ حانيةُ ـ غافلةُ ـ فوق الخصلهْ ما أعطانى اللُّعبه فحملتُ الآلهْ حدباءَ بغير علامهّْ.

من هو الذى قصّرفى ترتيب مهدى؟ ليس والدى على كل حال، وليست والدتى فعلاقتى بهاعامّة (أنظر بعد، ربما فى الترحال الثالث إن شئت) ، وفى الأعياد خاصة لا تسمح بانتظار ذلك أصلا. رجّحت مؤخرا جدا، قريبا جدا، من”هو” الذى لم يعطنى اللعبة، ولم يرتب مهدى. تذكرت أبا العلاء (هذاتفسيرلاحق) وهو ينبهنا أن كل واحد منّا، وإن طالت سلامته “..يوما على آلة حدباء محمول”.

من طقوس العيد الطفلية، مهما بلغت سنّك، أن تلبس جديدا، وقد تراجعتْ هذه العادة بشكل أو بآخر، وأرجّح أن معنى لبس الجديد، يرتبط بشكل أو بآخر بالتجديد الذى كان يبحث عنه المتنبى، وبطزاجة الطفولة، أو حتى إعادة الولادة التى تكمن وراء هذا وذاك، ما زلت أذكر حكاية جلبابٍ اشترته لى عمتىبتكليف من والدى  كاد يفسد علاقتهما،سمعت صوت حفيف هذا الجلباب الجديد وأنا أقرأ:

( 2 )

ما حاكت لى جلباباً ذا صوتٍ هامسْ لم يمسسه الماءُ الهاتكُ للأعراضْ لم يتهدّل خيطــُــه لم تتكسَّر أنفاسُــه

( 3 )

صدّقتُ بأن المَاحَدثَ طوال العامْ  يأتينى الآنْ

لم يأتِ سوى الطيف الغامضْ

لا تتوقف التوقعات من العيد عند حد، و”العيدية” التى أصر على إعطائها حتى عهد قريب لكل من حولى حتى زوجتى (ثم إنى -دون سبب – كدت أتراجع مؤخرا)، هى رمز أبوتى المزمنة، فمن يعطينى أنا عيديتى؟

أجرِِى بين الأطفالِ وأرتقبُ “العادهْ”، ذات بريق وحضورٍ وروائح وكلامْ. يقطر ثدىُ العمَّ رحيقَ الرُّضَّعْ

أتلفع بُالورقةِ تُدْفئنى تتمايلُ، تتأرجحُ مثل الأيام

تتفتَّح أكمام الحبَّ الآخرْ فأخاف النوم وصبحا يترقَّبنُى

أحيانا، عند من تحتد بصيرتى بما لا أحتمل، ولاقوة إلا بالله، أبطّن أحلامى بإحباط جاهز. هذا نوع من الوقاية التى تجعل وقوع البلاء مثل انتظاره، وربما هذا الموقف أيضا هو ما يفسّر هذا الغم الخبيث الذى يحرم المصرى خاصة من فرحته، حين ينبّه نفسه فى عز بهجته أنه “اللهم اجعله خيرا”، والخوف من النوم فى آخر الفقرة السالفة هو خوف من يقظةٍ تالية قد تؤكد أن كل توقعات العيد لم تكن إلا حلما فعلا. أقف بذيل الصَّفَّ وأفركُ كفى، أيديهم فرحَهْ، تبحثُ عن ظِلَّ البسمهْ، وذراعى مبتورهْ، تختبئ بثنيات الوعد الميّت،

أنزعُها..تَــنـْــزَعُــنى، أهربُ من كومة ناسٍ مختلطهْ، أخرج من باب الدرب الآخرْ .

أكثر ما يغيظنى، فى مثل هذه المناسبات، وأحسب أن شيئا من هذا قد حدث فى ذلك اليوم البعيد، هو أن يصدّقنى من حولى، أن يتصوّروا أن عندى حل بديل، أن يحسبوا أن لى دربا يجدر بهم أن يسلكوه ما دمتُ لاأشاركهم، أظن أن هذه لعبة أنا مسئول عنها بشكل أو بآخر، ولا أعرف كيف أوصل لهم، وربما لى، أنه ليس لى درب أعرفه، وأن غاية أملى هو أن أجد من “يحاول” فى نفس الاتجاه، سعيا إلى توجّه يعد أن يضمّنا يوما ما، حتى لو لم يأت هذا اليوم أبدا، من يتحمّل آلام الجدّة معى ؟

دربى بِكرٌ فوق حصاه تسيل دماءُ القدِم العارِى، يتبعنى الناسُ الـمِثلى، ليسوا مثلى، من مثلى لا يسلكُ إلا دربـَــه يحفرهُ بأنين الوحدهْ  يزرع فيهِ الخطواتُ الأولىَ  ـ دوماً أولىَ ـ يَرْويهاَ بنزِيفِ الرّؤيْــةْ تتفتح أكمامُ العيد بلا موعدْ ذات بريقٍ وحضور وروائحَ وكلامْ

مازلنا (أيضا) فى: 5 سبتمبر 1984:

فى ذلك اليوم ونحن على أبواب باريس، وفى زحمة السفر، والاستعداد للسفر، فالسفر، سُرقنا حين فوجئنا بنا وسط العيد هكذا، فعلا: لا عيد بلا إعداد، لا عيد بلا تمهيد، لاعيد بلا انتظار: الذى كان قد كان، وها هو العيد، وها نحن بعد الضحى، ولم تكن ثمة وقفة، ولا برتقال، ولا شيخ سيد، وأسأل ابن العمالجزائرى: هل أنت متأكد؟. فيقول طبعا، لأنى فى إجازة بسبب عيدنا، فعدت أسأل، وهل صلّوا العيد اليوم فى الجامع (أعنى جامع باريس)، فيقول لست أدرى، فأنا أعرف عيدنا بالإجازة لا أكثر، وداخلنى غيظ متوسط.

تذكرت حرصنا (مع الأولاد) فى العام الماضى على صلاة عيد الفطر فى جامع باريس حيث كنت آمل أن يتعرف الأولاد على أهل دينهم فى مناسبة عامة فى هذه الغربة الموقـِظة للتجمع، لكنى ما زلت أذكر الانطباع السلبى الذى تركته الصلاة فى نفوسهم حين وجدوا أنفسهم فجأة أمام سلبيات المسلمين أكثر من إيجابيات الإسلام ـ من أول “ممنوع التصوير” حتى السماح بالشحاذة باستعمال الأطفال الرضع نصف عرايا، وسيلة لاستدرار الشفقة، ناهيك عن الخطبة المعادة، والتكبير المنغم بنغم لم نعتده، وافتقاد حرارة المعية بعد الصلاة،

المهم ها نحن الآن قد سُرقنا.. والذى كان قد كان..، فجعل الأولاد يذكروننى بما يشبه العتاب، كيف قضوا ليلة العيد جلوسا فى عربة منهكة على مشارف باريس.

قلنا ـ فى نفس واحد ـ: “ولو”.. سوف نعيّد تعييداً خاصا، وسوف نأكل لحما ومرقا؛ احتفالا ـ أيضا ـ بسلامة الوصول، وافترقنا ـ كل إلى فندقه ـ نـُزيل آثار عدوان الليلة الماضية، والتقينا كما تواعدنا، وانطلقنا إلى المترو متوجهين إلى نقطة البداية التى تعودت أن أبدأ منها: “ميدان النجمة” (الإتوال) الذى تحول مؤخرا إلى ميدان شارل ديجول (أو إن شئت الدقة: أضيفَ إليه اسم شارل ديجول قبل اسمه القديم: إتوال). ومع احترامى المحدود لهذا الرجل: ديجول، إلا أنى أكره تغيير الأسماء لأى سبب من الأسباب، ومازلت أعتبره ميدان الإتوال لا أكثر. حيث قوس النصر يتوسط نجمة تعلن بداية تفرع الطرق الضخمة الفخمة من الميدان،

أنا أشعر أنى أنجذب إلى هذا الميدان فور وصولى؛ لأنى أبدأ منه استعادة استنشاق ريحه بشكل جديد، فأدور حوله، بدءا بطريق “فوش” مارابالشانزلزليه حتى أكمل دائرة كاملة أوشبه كاملة، أسترجع من خلالها تاريخا خاصا مثيرا، فقد كان معهد تعلم اللغة الفرنسية الذى بدأت إقامتى فىباريس سنة 1968 بالذهاب إليه لتعلم اللغة. كان هذا المعهد هناك فى شارع فرعى متفرع من طريق فوش، يبدو أن هذه الفترة بالذات (ثلاثة أشهر لتعلم اللغة) كانت السبب الحقيقى وراء نقلة التعرى السالفة الذكر. فقد أمضيت فى هذا المعهد الخاصInter-Langue عزلة إجبارية رائعة، قطعتنى تماما عن كل المثيرات المعتادة. فانفصلت عن لغتى، وعن كل ما هو طب نفسى، وكل ما هو مريض نفسى، وكل ما هو علم نفس، بل تعمدت أن أنفصل عنزملائى فى المهمة العلمية من المصريين (إلا قليلا) ـ وأحسب أن كل ذلك كان من أهم مقومات التعرى بالسفر، حتى تجتمع إغارة “المعلومات” الجديدة، مع توقف كامل (أو شبه كامل) عن تلقى المعلومات القديمة. ربما لذلك أكره ـ عند السفر ـ الاتصال الهاتفى المتكرر مع الوطن، والذى أصبح مقررا بعد تسهيل الأمر بالتكنولوجيا الحديثة فهو يجهض النقلة أولا بأول، أقول إنى أكتشف الآن أنى قد انتهزتها فرصة ـ بنصف وعى ـ لكى أتخلص من ذلك السجن الفظيع الذى أعيش فيه، من خلال قيود مهنتى والتزامى، المثيرات والمؤثرات ذاتها كل يوم… طول اليوم….كل ليلة… كل ليلة… طول الليل…نعم، سجن يمسح أولا بأول أىة مساحة باقية لتلقى أى نوع آخر من الوجود المختلف، والمحاِورٌ، والمفيِقْ، فما إن ذهبت ذلك العام (1968/1969) إلى باريس، حتى عدت تلميذا فى الحياة يتعلم أحرف الهجاء الجديدة، خمس ساعات متصلة كل صباح، بلا فسحة إلا ربع ساعة بالدقيقة، تلميذا كل ماعليه هو أن يكرر، أو يجيب المُدرسَّة، أو يتبع جهاز التسجيل، أو أن يغنى مثل الأطفال مع زملائه الطلبة الكهول.

تتردد فى أذنى الأغانى الفرنسية التى كنا نكررها أثناء الدرس غناءً، ونحن فى هذه السن فتعود تملؤنى. وأنا جالس على المقهى الصغير، أطل على هذا الميدان الكبير (الإتوال) فى ربع الساعة  الفسحة الوحيدة خلال خمس ساعات متصلة من شحن المخ بالمعلومات الجديدة، أقول إن هذه الأشهُـر الثلاثة الأولى، فى ذلك العام الباريسى (68 ـ 1969)، كانت أهم مما تلاها تحت زعم ما يسمى “مهمة علمية” أو “فذلكة ثقافية”، وأكتشف أن تعلم لغة جديدة ـ وخاصة بهذه الطريقة المكثفة ـ لايفيد فقط فى فتح نافذة جديدة على عالم جديد، وناس أخر، وإنما هو يسحبك سحبا إلى طفولة جديدة، وبدايات جديدة، وتهتهة جديدة، وروح جديدة، وخاصة مع هذه اللغة الرشيقة الغنائية (الفرنسية)، التى اكتشفت أنها تشترك مع لغتى الحبيبة فى كثير من نبضهاالداخلى، مع تفوق لغتى (حسب حدسى) فى المرونة والحركة والإيقاع المكثف، تذكرت كل ذلك، واكتشفته أوضح وأبلغ، وأنا أتجه إلى نقطة انطلاقى من ميدان الإتوال لأشعر أنى وصلت باريس.

ربما يرجع  تفضيلى الإقامة فى الحى اللاتينى، أثناء زياراتى العابرة بعد ذلك العام  إلى  أنى عشت الحوار الذى كان ـ ومازال ـ جاريا بدرجة كافية، الحوار بين ما يمثله كل منهما. ذلك أنى كنت قد وصلت باريس عقب أحداث حركة الشباب (الطلبة ـ مايو1968) ـ وكان الأمل فى هذه الحركة ـ كما قال لى صديقى بيير (ذكرته قبلا) ـ أن تحيى هذه الثورة الطلابية  إيجابيات الثورة الفرنسية، حتى بدا لصديقى هذا أن باريس (وفرنسا، فالعالم) على أبواب يوتوبيا حقيقية من العدل والإنارة. إلا أن كل هذا سرعان ما تضاءل حتى لم يبق إلا الحماسة وحسن النية، وإزالة شكلية للمنصات المرتفعة من قاعات محاضرات الجامعة (!!) (دون إزالة المنصّات الأخفى والحقيقية داخل نفوسهم ونفوسنا). وحين كان اليساريون يتجمعون احتجاجا على ديجول،فى الحى اللاتينى، يتجمعون بالمئات فالآلاف، حتى يكاد المشاهد يتصورهم أنهم الأغلبية الغالبة، كان ديجول يخرج إلى التليفزيون يخطب بصوته القديمالجهورى داعيا أنصاره أن يتجمعوا فى ميدان الإتوال ليردُّوا بنفس الطريقة. وفى خلال نصف ساعة أو أقل، تتضح الصورتان، وكأنه استفتاء مباشر مصوّر وهكذا يتم الحوار ـ خلال ساعات ـ بلا دماء، ولا رشاو، ولا منظمات تحتية، ولا مفرقعات ولا تكفير ولا ازدراء.

ربما لارتباط ديجول ـ هكذا ـ بهذا الميدان، سمى باسمه بعد وفاته، “ولو”.

أخذنا بعضنا إلى هناك وقمت بالطقوس الأولية، وحين وصلت إلى الشانزليزيه، وجعلت ظهرى لقوس النصر ـ كالعادة ـ أطّلت على فى نهايته فىميدان الكونكورد قمة مسلتنا، وترحمتُ ـ مغيظا ـ على نابليون. تشابكتْ أيدينا، فرحين بالبرد المنعش، ونظرت إلى وجوه الأولاد، فوجدتهم ينظرون فىوجهى، وكأنهم لم يتأكدوا ـ بعدُ ـ من أنى لن أعيدُهُم إلى المخيم قسرا: تهذيبا وإصلاحا. ويبدو أنهم قد بدأوا يغفرون لى مبيت الليلة الماضية فىالعربة، فى مقابل أنى أعفيتهم من عقوبة التخييم فى هذا البرد. وحين لاح لنا مدخل “برجر الملك” (برجرـ كنج).. ذلك المطعم التحتى الذى اعتدنا أن نتناول فيه “السندوتشات، والبطاطس المحمرة”، تذكرت وعدى لهم  باللحم والمرق، فاكتشفنا ـ زوجتى وأنا ـ أن الأولاد قد بروا أنفسهم من ورائنا ـ بفلوسهم، فى فترة الظهيرة التى افترقنا فيها، فأكلوا لحما يليق بالمناسبة (عيد الأضحى). فنظرت إلى زوجتى التى لا تتعرف على العيد إلا إذا ذاقت اللحم المسلوق وثنـّت بالفتة أم تقلية فى الافطار بالذات، نظرت إليها محتجا كالقائل: “علّقونا العيال”. ويبدو أنهم فعلوها نظرا إلى انعدام الثقة فىوعودى؛ الأمر الذى أكاد أفخر به وأعمل حسابه إذ عادة ما أربط وعودى بشروط غامضة، ثم إنى اعتبر حقى فى المرونة جزء لا يتجزأ من أى وعدٍ أقطعه، فاكتفينا بأكل البرجر والبطاطس، وشربنا البارد، وأحسسنا بعيد غريب رمادى فى بلاد الفرنجة.

كان الرفض يتجمع داخلنا دون أن ندرى حتى إذا عدنا إلى السير فى الشانزليزية لنقابل أجناسا وأجناسا. انتهينا إلى ثلة من الشباب يتمازحون ويمرحونويغنون أحيانا معا أغانى قصيرة سريعة بلغة لم نفهمها، فأفقنا إلى حقنا المشروع فى بلاد كل الناس. اليوم عيدنا نحن ياناس، وقلنا نجرب بما لا يؤذى، فلا عيد بلا تكبير، حتى أن ما تبقى لى من دور “المسحراتى” هو ما اخترتُ أن أقوم به راضيا حين أوقظ أولادى فجر كل عيد بتكبير متصاعد، لا بمنبهيسرسع، ولا بهز مزعج.

تحّرج الأولاد فى البداية من اقتراحى أن نردد التكبير معا بالعربية، احتفالا بالعيد فى الشانزلزية، ثم تشجعنا، وانطلقنا معا جميعاً، وخذ عندك: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا،، والحمد الله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. لا إله إلا الله، وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده.. وأكملنا، وكررنا، بدأنا هامسين مترددين، نردد التكبير والصلوات، بنغمتها المصرية الرقيقة. وحين استقبلنا المارة بابتسام، فإعجاب علا صوتنا رويدا رويدا، وكأننا حصلنا على الإذن فى التمتع بحقنا بالشروط ذاتها، أن نفرح معا علانية، وأخذتنا النشوة، وكأننا نستعيد مسروقاتنا من الزمنالذى تسحب من ورائنا، فسرق منا العيد، فرحنا نمسك بأيدى بعضنا البعض، وجعلنا نتمايل قليلا أثناء المشى مع التكبير، ثم نشطنا أكثر ونحن نكتشف معنى جديدا للفرحة ولمشاركة الناس من كل الأجناس، يشاركوننا فى عيدنا دون استئذان، وكنا نلمح على بعض الوجوه العربية رفضا، ثم حرجا، ثم ترددا، ثم ابتساما، ويلقى بعضهم تحية العيد همسا ثم علنا.

قلبناها عيدا بحق، فى شارع الشانزلزبه شخصيا، ونحن نمسك أيدينا بعضها ببعض.

                            (انتهى الترحال الأول ويليه الترحال الثانى)     

الموت والحنين

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *