الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (46): السويقة: حوار العيون المزدحمة بِمَا بِهَا

كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (46): السويقة: حوار العيون المزدحمة بِمَا بِهَا

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 15-7-2013

السنة السادسة15-7-2013_1

 العدد:  2145       

كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (46)

مقتطفات من مجموعة المواجهة (3)

السويقة: حوار العيون المزدحمة بِمَا  بِهَا

مقدمة:

قلت أمس أننى حين أعدت قراءة متن هذه القصيدة، فوجئت بهذا التكثيف المركز، والنقلات السريعة. أكثر مما فوجئت به وأنا أشرحها فى كتابى “فقه العلاقات البشرية” ثم  قلت:” الجانب الآخر الذى وصلنى حين قرأت هذه القصيدة من جديد، هو أن الحياة الطبيعية الحقيقية قد تكون بنفس هذا التداخل والتكثيف، وأن أى اختزال أو تحليل لها هو أيضا نوع من الاغتراب أو التشويه، فالسويقة (والسوق، والمولد، ومحطة القطار، وميدان فى حى شعبى ..إلخ) فى حركتها المتداخلة المتكاملة تكاد تكون هى الوجه الخارجى لهذه الوجدانات المتنوعة كما تطل من عيون تجلت فى هذا التشكيل فى تجربة مجموعة المواجهة،

تبدأ هذه القصيدة من ذكريات أرض واقعى الخارجى، “من السويقة”،وأعتقد أن منظر السويقة التى كانت تعقد مرتين فى الأسبوع فى قريتنا، الإثنين والخميس، كان مازال عالقا فى وعيى وأنا أكتبها، السويقة هى تصغير سوق غالبا، لكن هل يوجد تصغير للسويقة نفسها؟ بالإضافة إلى السويقة التى كانت تعقد على طرف البلدة فى نهاية مبانيها مع بداية حقولها، كانت هناك سويقة مصغرة (إن صح تصغير التصغير) تعقد صباح كل يوم سبت على شريط قطر الدلتا قرب محطته، هى تجمّع صغير يعقد قبل طلوع الشمس على قضبان القطار فعلا، ولم يكن معترفا به من كل الناس باعتباره سويقة رسمية!! (مثل سويقة الاثنين والخميس)، كان بمثابة تسهيل مرحلى لتبادل الأغراض والنقود قبل ركوب قطار الدلتا إلى سوق السبت فى قرية أكبر على بعد خسمة كيلو مترات (أصبحت هذه القرية مركزا مؤخرا) ، سويقة السويقة هذه كانت تعفي بعض الذين عزموا على شد الرحال إلى سوق السبت فى القرية الأكبر، من السفر، هذا إذا نجحوا أن يقضوا  حاجتهم شراء أو بيعا أو كليهما أثناء انتظار قطار الدلتا ذى الخط الواحد، وهكذا يوفر الذى أتم غرضه قبل السفر على نفسه المشوار ، ويعود وقد تحقق مأربه من السوق التمهيدى هذا.

‏قطار‏ ‏الدلتا‏ كانت ‏له‏ ‏شخصيته‏ ‏الخاصة‏ ‏ومواقيته‏ ‏المتباعدة‏ ‏غير‏ ‏المنتظمة‏ ‏وآثاره‏ ‏فى ‏كل‏ ‏من‏ ‏عايشه‏ ‏طفلا‏، ‏وهو‏ ‏يمثل‏ ‏لطفولتى ‏علامة‏ ‏شخصية‏ ‏جدا‏ ‏لم‏ ‏أستطع‏ ‏أن‏ ‏أنساها‏، هذا‏ ‏المنظر‏ ‏الذى ‏بدأت به هذا التشكيل ‏ ‏كان‏ ‏يثير‏ ‏دهشتى، بل وخوفى، ‏طفلا‏ ‏حين‏ ‏تصر‏ ‏نسوة‏ ‏البلد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏اجتماعهن‏ ‏لتسويق‏ ‏حاجياتهن‏ ‏على ‏شريط‏ ‏القطار‏ ‏ذاته‏ ‏وهن‏ ‏يعلمن‏ ‏تمام‏ ‏العلم‏ ‏أن‏ ‏القطار‏ ‏قادم‏ ، ‏ولكن‏ ‏يبدو أن جميعهن (بعكسى طفلا) كن متأكدات‏ ‏أنه‏ ‏لن‏ ‏يدهسهن‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏فإنه‏ ‏ليس‏ ‏له‏ ‏ميعاد ثابت‏ ‏فلا‏ ‏داعى ‏لوضعه‏ ‏فى ‏الحساب.. ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏يداخلنى ‏خوف‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏تخيب‏ ‏حساباتهن‏ ‏مرة‏، ‏ويدهمهن‏ ‏القطار‏ ‏على‏ ‏غرة‏، ‏رغم‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يعرف‏ ‏المباغتة‏.‏

كان‏ ‏القطار‏ ‏يأتى ‏ويصفر‏ ‏ويتلكع حتى يتفرقن‏ ‏فى ‏مرح‏ ‏وفزع‏ ‏مصطنع‏، ‏ولا‏ ‏يلبثن‏ ‏أن‏ ‏يعدن‏ ‏كما‏ ‏سبق‏ ‏بعد‏ ‏مروره، وبعد أن يركبه منهن من سوف تواصل السفر إلى سوق السبت

حين تقمصت صاحب تلك العيون (أو صاحبتها، لست أذكر) وصلتنى زحمة بالغة، ونقلات سريعة، وحركية نشطة حميمة، ومرتعشة، مترددة، وجائعة، سائلة وواعدة ، ولكن عندك، هيا إلى المتن أفضل:

والنظرةْ‏ ‏ْْالصاحية الواسعة ‏الزحمهْ ، ‏

زىّ ‏سويقةْ‏ ‏السبتْ‏، ‏فى ‏بلدنا‏.‏

زى ‏القفف‏ ‏المليانة‏ ‏حاجات‏ْْ ‏وحاجاتْ‏،‏

محطوطه‏ْْ ‏بالذاتْ‏،‏

‏ ‏على ‏قلب‏ ‏شريط‏ْْ ‏قطر‏ ‏الدَّلتا‏.‏

كلّ‏ ‏ما‏ ‏القطر‏ ‏يصفَّر‏، ‏بتلاقى ‏الزحمة‏ ‏اتفضتْ‏.‏

والقفف‏ ‏السودا‏ ‏الَّنسْوان‏ْْ، ‏بتشيل‏ ‏القفف‏ ‏البيضاَ‏ ‏الملْيَانهَ‏‏ ‏حاجات‏ ‏وحاجات‏.‏

وَمَّا‏ ‏القطر‏ ‏يعدى: ‏ترجع‏ْْ ‏كومْة‏ ‏القففِ‏ ‏النسوانْ‏، ‏القفف‏ِِ ‏النسوانْ‏:‏

تتلخبط‏ ‏على ‏بعض‏،

 ‏كما‏ ‏دقن‏ ‏الشايب‏.

المرأة فى بلدنا ليست مجرد قفة تنحط وتنشال، تملأ وتفرغ، التشبيه هنا لا يُحِط بالمرأة لتصبح مجرد قفة، بل أظن أنه يرتقى بالقفة (الشىء) لتصبح كائنا حيا تشارك صاحبتها التشكيل.

 أظن أن ما جاء بعد ذلك فى هذه العيون هو غير قابل للشرح دون أن يتشوه، بل لعله أيضا لا يمكن استلهامه ليفيدنا فيما نحن بصدده لفهم النفس الإنسانية، شعرت أنى ‏لو‏ ‏حاولت‏ ‏شرح‏ ‏هذه‏ ‏المشاعر‏ ‏المتداخلة المعبرة ‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏العين‏ كما رسمتها بتقمصى دون أن أقصد، ‏لاضطررت‏ ‏أن‏ ‏أشرح‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏كله‏ ‏بما فى ذلك علم‏ ‏السيكوباثولوجى ‏والعلاج‏ ‏النفسى ‏معا‏، إن غاية ما يمكن أن أتوقف عنده آملا ألا يخل بتكامل الصورة كلها على بعضها بشكل أو بآخر، هو بعض الإشارات كما يلى :

إن العين، فى لحظة بذاتها، قد تقول كل شىء معا، فى نفس الجزء من الثانية “كل كلام الدنيا، وفْ نفس الوقت“،هذه الحقيقة تذكرنا بجهلنا بقيمة هذه الوحدة الزمنية المتناهية الصغر، والتى بلغتنى بشكل رائع من باشلار فى “حدس اللحظة”، والتى أعتبرها ثروة العلاج النفسى، الجمعى خاصة، وفى نفس الوقت أتصور أنها هى هى لحظة التحول النوعى فى أزمات التطور، وبعض خبرات الإبداع، “كل كلام الدنيا وفْ نفس الوقت”، ثم تأكد لى مؤخرا أن هذه الحقيقة قد وصلت إلى من يمارسون العلاج الجمعى بشكل أو بآخر، فأقروا حقيقة أهمية أجزاء الثوانى حتى الميكروثانية (أنظر نشرة  2-6-2013  ماذا يحدث بالضبط مما هو ضد “جماعة القطيع”)

الغوص فى العين فى هذه اللحظة واستيعاب ما بها وما بعده هو ممكن وفقط، أما ترجمتها إلى ألفاظ أو إلى أى تشكيل آخر فهو الاستحالة نفسها، هذه المحاولة هى ليست إلا تقريبا لا يمكن أن أكون قد قصدت إليه بوعى كامل حتى أجمعها هكذا، إن الشعر، هو الأقدر على احتواء مثل هذا التكثيف من أى تعريف علمى أو نثرى مجتهد.

هيا نقرأ الفقرة التالية ونكتفى بها حتى نستوعبها بما قصدنا إليه من دعوة للتلقى بشكل آخر

أهى نظرة عينهْ زى سويقة السبت

فيها كل كلام الدنيا، وفْ نفس الوقت

فيها ‏”‏رغبهْ‏” ‏على ‏”‏دعوه‏ْْ”، ‏على ‏”‏إشمعنَى‏”، ‏على‏ “‏رعشِةْ‏ ‏خوفْ‏”،‏

على “‏صرخة‏ ‏طفلْ‏”، ‏على ‏“حَـلَمةْ‏ ‏بزْ”‏،‏

على “‏عايزه‏ ‏اختارْ‏”،

‏و‏”‏انا‏ ‏مالى ‏ياعمْ‏”،‏

‏”‏مش‏ ‏عايزه‏ ‏ألمْ‏”،‏

على “‏نِفْسِى ‏أعيش‏”، “‏بس‏ ‏ما‏ ‏تمشيشْ‏”،‏

‏”‏خلينى ‏معاكْ‏”، “‏خلينى ‏ْبعيدْ‏”،‏

التناقض هنا ليس تناقضا بقدر ما هو تداخل حركى جدلى مكثف متضفر، إذْ يختلط النداء بالدفع فى نفس اللحظة، ويتداخل الألم مع الرغبة ..إلخ إلخ مما يمكن أن يمسخ التشكيل كلما تمادينا فى التوصيف. (قف. أشعر أن أى مزيد من الشرح سوف يفسد الرسالة)

ينتهى هذا المقطع بإعلان الرغبة فى الحياة بالمعنى البسيط، وفى نفس الوقت بالمعنى الحقيقى،

قرار “أن تعيش” هو أصل كل الوجود، وهو قرار يستحيل أن يتحقق بنوعية بشرية حقيقية إلا فى وجود آخر، إن مجرد الاعتراف بهذا القرار “قررت أن أعيش بشرا” ، يعلن اعترافا ضمنيا بأنه لا عيش هكذا إلا فى رحاب وعى بشرى “آخر” يقرر نفس القرار،

اكتشفت مؤخرا برغم طول الخبرة دلالة إيجابية “الموقع الاكتئابى” “Depressive Position” الأكثر نضجا على مسار النمو، حتى اعتبرته أنه هو الذى يميز الإنسان الحالى النامى وهو يواصل تطوره ليتحمل مسئوليته البشرية الأرقى.

الموقف الاكتئابى هو الموقف الذى يعلن نوع العلاقة التى يمكن أن يتميز به الكائن البشرى دون غيره بوجه خاص، ومع ذلك فإنك بمجرد أن تذكر أو تكتب أو تقرأ كلمة “اكتئابى” يذهب فكرك إلى ما هو مرض، لهذا سوف أواصل الحديث عنه تحت اسم “الموقف العلاقاتى البشرى”.

الموقف العلاقاتى البشرى:

هذا الموقف هو الذى يضع الإنسان على قمة هرم الحياة التى نعرفها، وذلك بعد أن اكتسب الإنسان الوعى، ثم الوعى بالوعى، كمرحلة أخيرة هى الغالبة الآن.

 فهو يعلن أن الإنسان لا يكون إنسانا إلا فى وجوده، مع إنسان آخر، ويكون هذا الإنسان الآخر  هو: مصدر الاعتراف به، وهو مرصد شوفانه،  وهو أيضا مصبّ مشاعره المتبادلة مع نفس هذا الوعى، وهنا يبدأ التميز البشرى فى فرض صعوباته الرائعة.

لما كان الإنسان قد اكتسب الوعى، ثم الوعى بالوعى كما قلنا، فقد أدرك أن ثم “آخرا” هو ضرورى لأنسنته، الآخر الحقيقى هو مصدر الحياة الأرقى بموقفه هذا الذى يسمى عادة “الحب”.

ثم يكتشف الإنسان فى منطقة ما من مناطق وعيه، ليست ظاهرة على السطح عادة، أن هذا الآخر الذى هو مصدر هذا الحب (الحياة كإنسان) هو هو أيضا مصدر التهديد بالترك، بالهجر، تبعا لطبيعة حركية العلاقة لا أكثر، هكذا يقفز الحذر من هذا المحب الموضوعى فعلا، وهو الموقف الاكتئابى الذى اسميته حالا الموقف “العلاقاتى البشرى” وهو الذى يمكن إيجازه على الوجه التالى:

أنا على يقين من أن مصدر وعيى ببشريتى، ذاتى، هو هذا الآخر المحب

أنا لا أستطيع الاستغناء عنه أو عن من هو مثله

أنا على يقين – فى نفس الوقت – من أنه قد يتركنى

أنا سوف أتألم حين يتركنى، بل إننى متألم الآن لمجرد التفكير فى هذا الاحتمال

أنا لن أتركه

أنا لن أتركه يتركنى

أنا أحبه

أنا أمارس معه نفس الدور تماما

هو يحبنى

هو يمارس معى نفس الدور تماما

كيف أحتفظ بهذا وذاك الآن هنا معا

هذا مؤلم جدا،

لكنه بشرى جدا،

 وهو أفضل من أى حل آخر، أفضل من العودة إلى الكر والفر (الموقف البارنوى)

وأفضل من الكذب بإسقاط آخر من داخلى بالمواصفات التى لا تهددنى على هذا الشىء خارجى (الشخصنة)

وأفضل من العودة إلى قوقعتى لاغيا كل آخر   (الموقف الشيزيدى)

يا لروعة الألم الحب الرؤية الاستمرار

يا لفخرى بى ساعيا، فرحا، متألما

إنسانا

وبعد

اضطررت لهذا الاستطراد (1) لشرح أبعاد هذا الموقف بهذا الإيجاز الصعب ذبذبة هذه العين فى محاولتها الدؤوب للاقتراب، وخوفها المرعب من الابتعاد، دون أن توصف بالتذبذب، اكتشفت من خلال هذه الخبرة مع جماعة المواجهة. حقيقة أبعاد هذا الموقف بكل هذا التكثيف وما كان يمكننى وصفه بأى منهج وصفى تقليدى.  

عن الزمن والحركة

لا يمكن أن تفهم إشكالة العلاقة البشرية الناضجة بحجمها وموضوعيتها إلا من خلال بعدى الزمن والحركة “حتمية بُعد الحركة” – بعد ومع الزمن – هى التى علّمتنى أنه لا علاقة بشرية حقيقية إلا بتفعيل برنامج الدخول والخروج مع ترجيح جانبه الإيجابى الذى يحتم عدم تساوى ذراعى الدخول والخروج،

لا يمكن مسخ هذا الموقف إلى ما هو إيجابى خالص، أو ما هو سلبى خالص، إذ يبدو أن المراوحة هى أيضا بين الحركة اقترابا وابتعادا نشطا، وبين التوقف ترقبا وجمودا وخوفا، “خلينى معاك، خلينى بعيد”

عن حركية المسافة أيضا: الفقرة التالية فى القصيدة تركز على ما يسمى “المسافة”:

……….

وإذا قلت‏ ‏أنا‏ ‏أههْ‏، ‏أنا‏ ‏جىْ،‏

يسمعنى ‏كَمَا‏ ‏صُفارة‏ ‏القطر‏، ‏ويْخَافْ‏.‏

‏ ‏وينط‏ ‏كلام‏ ‏العين‏ ‏جُوَّهْ‏: ‏فى ‏البطنْ‏، ‏

أو‏ ‏تحت‏ ‏الأرضْ‏.‏

وتْلاقى ‏سوادْها‏ ‏وِبَياضها‏ ‏بيجرُوا‏ ‏ورا‏ ‏بعض‏،‏

زى ‏النسوان‏ ‏اللى ‏بتجرى ‏بقففها‏.‏

‏ ‏وامّا‏ ‏ابعد‏ ‏تانى،‏

ترجع‏ ‏كل‏ ‏الكلمات‏ ‏الساكته‏ ‏المليانه‏ ‏ألم‏ ‏وحاجات‏،‏

و‏ “‏تعالَى‏” ‏و‏ “‏رُوح‏ْ” ‏و‏ “‏قوام‏ْْ” ‏و‏ “‏استنَّى‏”،‏

‏”‏وانَا‏ ‏نِفسى ‏تْقَـرّب‏ .. ‏إٍلا‏ ‏شويةْ‏”. “‏طبْ‏ ‏حبّه‏ ‏كمانْ‏” ‏

‏”‏يانهار‏ ‏مش‏ ‏فايت‏ْْ !!، ‏أنا‏ ‏خايفَهْ‏”،‏

‏”‏أنا‏ ‏ماشْيهْ‏”.‏

 إن إحياء حيوية المكان هو ضرورة لفهم وتأكيد وتعميق حيوية العلاقة، جنبا إلى جنب مع حركية الزمن، لا توجد علاقة حقيقية بدون مسافة متغيرة، المسافة الثابتة تعلن ضمنا أن العلاقة إما خامدة متجمدة، أو هى غير موجودة أصلا، أو أن كلا من برنامجى الدخول والخروج والإيقاع الحيوى إما يعملان بطريقة آلية فى المحل، أو هما متوقفان فعلا أو وظيفيا، أو أنها علاقة التهامية يحتوى طرف منها الطرف الآخر داخله وبالعكس.

فى العلاج الجمعى يستعيد “المكان” قيمته الرحمية الضامة، وفى نفس الوقت قيمته الحركية المرنة، حيت تتحرك المسافات فيما بيننا ونحن جلوس فى مواقعنا تحركا فاعلا واقعا يكاد يرى بالعين المجردة.

نكتشف أثناء العلاج درجات الاقتراب من بعضنا البعض وأيضا أنواعه، ومن حيث المبدأ فلا غرابة أن الإنسان (مريضا أو غير مريض) قد يرعب رعبا شديدا من ‏الاقتراب‏ ‏الحقيقى ‏من إنسان حقيقى من‏‏ ‏لحم‏ ‏ودم،‏ له وعى ووعى ووعى بالوعى، مثله ، هذا هو ما أسميه فى كثير من صورى الشعرية : خطر الحب أو الخوف من الحب، برغم تحفظاتى من الالتباس المحيط بهذه الكلمة (الحب) كما ذكرت مكررا.

وفى العلاج الجمعى

 ‏ ‏فى ‏خبرة‏ ‏النمو‏ ‏أثناء‏ ‏العلاج‏ ‏الجمعى ‏تتحرك العلاقات ذهابا وجيئة طول الوقت بين أفراد المجموعة، وفى نفس الوقت يتواصل الانتماء إلى الوعى الجمعى المتخلق فى وسطنا، ايضاً بحركية “الدخول والخروج” فتتولد من هذا وذاك فرصة أمان نسبية وتدريجيا لا يعود ‏ “‏الآخر‏” ‏عدوا‏ ‏ولا‏ “‏منافسا”‏ إلا بالقدر الذى يحدد معالم المتحاورين، ويتولد بُعْد جديد فى العلاقة حين يصبح الآخر‏ ‏رفيق‏ ‏طريق‏ عموما، ومساهم فى تشكيل العلاقة المتخلقة بالوعى الجمعى “المتكوِّن” ‏مما‏ ‏يفتح‏ ‏ ‏ ‏الباب لاقتحام هذه المنطقة البشرية ‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏لعبة‏ “‏الكر‏ ‏والفر” تحت‏ ‏أوهام‏ ‏المطاردة، وأيضا بعيدا عن الحب الناعم اللاغى للآخر برغم زعم وجوده. ‏هذا‏ ‏الرعب‏ ‏من‏ هذا النوع الحقيقى من الحب‏ ‏هو‏ نتيجة ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏التخلى ‏عن‏ ‏دفاع‏ ‏الكر‏ ‏والفر‏، ‏الذى ‏يوهمنا‏ ‏أنه‏ ‏هو‏ ‏وحده‏ ‏الذى ‏يحافظ‏ ‏على ‏الحياة‏ ‏والبقاء‏، وعن دفاع عمى الحب الامتلاكى التسكينى الطيار.

وبما‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏الحب‏ ‏له‏ ‏ما‏ ‏يبرره‏ ‏فى ‏الواقع‏ ‏حيث‏ ‏المجتمع‏ ‏التنافسى ‏ما‏ ‏زال‏ ‏يحافظ‏ ‏على ‏بقاء‏ ‏الأفراد‏ ‏فيه بآليات‏ ‏الكر‏ ‏والفر‏، ‏فعلى ‏المعالج‏ ‏أن‏ ‏يضع‏ ‏ذلك‏ ‏دائما فى ‏اعتباره‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يكسر‏ ‏هذا‏ ‏الدفاع الواقى‏ أو ذاك.، وهذا ما يحدث فعلا مع تطور العلاقات الثنائية فالجماعية إلى مستويات لا تستبعد منها كما ذكرنا الوعى الكونى.

توقفتْ هذه اللقطة هنا وأنا أقرأ هذه العيون متقمصا عند مرحلة الانتظار دون قفل الباب وهو ما نلاحظه فى العلاج الجمعى حين يظل أحد أفراد المجموعة متحفظا أو متبلدا لبضعة شهور، لكنه منتبه متابع، منتظم فى الحضور دون أن يبدو أنه يتغير أصلا، ثم يكتشف المعالج وأحيانا بعض أفراد المجموعة، ولو بعد شهور، يتكتشفون انفتاحه بطمأنينة غير متوقعة، فالانتظار الذى انتهت به القصيدة ليس غلقا نهائيا لباب التواصل.

تنتهى القصيدة نهاية قاتمة، لكنها مفتوحة

 

والقفف‏ ‏المليانهْ‏ ‏الغلّهْ‏ ‏الكوسه‏ْْ ‏البادنجانْ‏،‏

الحُـبّ‏ ‏العطف‏ْْ ‏الخوفْ‏ ‏العَوَزَانْ‏،‏

‏ ‏تِفْضَى ‏من‏ ‏كله‏ْْ.‏

ولا‏ ‏يفضل‏ْْ ‏غير‏ ‏قضبان‏ ‏القطر‏.‏

زىّ ‏التعبان‏ ‏الميتْ‏.‏

مستنيَّه‏ ‏السبت‏ ‏الجىْ،‏

‏ ‏اللَّى ‏ما‏ ‏بــيــجيش‏ْْ.‏

هذه النهاية تقول إن ما يبدو من استحالة تحقيق النقلة البشرية المنتظرة، مع تزايد ألم المحاولة، قد يبدو مبررا للتنازل عن مواصل المحاولة، فتنسحب كل هذه الحركية إلى المجهول، إلى الداخل، إلى سكون الظلام، إلى حجر الثعبان الميت، كل هذا وارد لكنه ليس نهاية المطاف ما دام الإنسان إنسانا مازال به وعى ينبض.

نوع الإنتظار هنا لم يقفل تماما بهذه الصورة الظاهرة، فهو لم يترتب عليه انسحاب مطلق أو عودة إلى كهف الدار، استغناء عن زخم السويقة، بل إن صاحب أو صاحبة هذه العيون الحية، تظل قابعة بجوار قضبان القطار حتى لوبدت ثعبانا ميتا، حتى لو قالت “أنا ماشية” فهى لم تمش، وهى لم تعلن أن “السبت الجى” “عمره ما هو جى”، وإنما التعبير يقول أن الانتظار واعد، وبرغم أن القطار لا يأتى “الآن”، فهو سوف يأتى، وإلا فلماذا استمرار الانتظار بجوار القضبان؟

إنها أهمية فعل الانتظار، وليس سلبية التوقف.

فى العلاج الجمعى الذى نمارسه يحق لأى فرد أن يقترح، أو حتى يأمر أثناء تفاعل حميم أحد أفراد المجموعة بالخروج منها حالا، بما يسمى فعلا “الطرد”، مطمئنا إلى سبق إعلان قاعدة تقول: أن من حق المطرود أن يواصل الجلسة رغم أنف طارده، ورغم أنف الجميع، وينصح بل وأحيانا يشترط لبقائه أو لعودته أن يقول لطارده “أنا حاقعد غصبن عنك” وأحيانا “غصبن عن عينك” وكثيرا ما يوجه هذا الخطاب لقائد المجموعة نفسه إذا كان هو الذى أشار أو أمر بطرده، بل من حقه أيضا أن يهمِّ بطرد طارده، وقد لاحظنا أن هذا قد يصل أحيانا إلى ما يوازى “إعادة التعاقد”، ويؤكد مجمل هذا التفاعل هكذا قرارا جديد للمريض بالانتماء للجارى بغض النظر عن الموقف أو الأسباب التى أدت إلى تفاعل التوصية بترك المجموعة حتى الطرد، وقد لا حظنا أن ذلك يقوى العلاقة لا يضعفها، شريطة الحفاظ على الاحترام المتبادل طول الوقت، وعلى قواعد “العدل” الأمر الذى نلاحظه برغم ظاهر ما يجرى.

 

[1] – وهو مستمد أصلا من مدرسة العلاقة بالموضوع Object Relation Theory

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *