نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 14-7-2013
السنة السادسة
العدد: 2144
كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (45)
المزيد عن قنوات التواصل الأخرى
“أنا خايف اقول كلام من غير كلام لحسن…”
مقدمة
كان المفروض أن اقدم اليوم مقتطف من “مجموعة المواجهة”، هو “السويقة” لأبين مزيدا من شرح قنوات التواصل غير الكلام، وحين أعدت قراءة متن القصيدة، فوجئت بقدر من التكثيف المركز، والنقلات السريعة. أكثر مما فوجئت به وأنا أشرحها فى كتابى “متن العلاقات البشرية”.
الجانب الآخر الذى وصلنى حين قرأت هذه القصيدة من جديد، هو أن الحياة الطبيعية الحقيقية قد تكون بنفس هذا التداخل والتكثيف، وأن أى اختزال أو تحليل لها هو أيضا نوع من الاغتراب أو التشويه، فالسويقة (والسوق، والمولد، ومحطة القطار، وميدان فى حى شعبى ..إلخ) فى حركتها المتداخلة المتكاملة تكاد تكون هى الوجه الخارجى لهذه الوجدانات المتنوعة كما تطل من عيون تجلت فى هذا التشكيل فى تجربة مجموعة المواجهة، الطبيب القادر على أن يتلقى هذا الازدحام دون الإسراع باختزاله أو تصنيفه إلى هذا العرض الفلانى أو تلك العاطفة المسماة “كذا” يمكنه أن يتعرف على مريضه بشكل أكثر حركية فى وعى أكثر رحابة، يسرى ذلك على سائر العلاقات الحقيقية المبدعة بين البشر.
هل يمكن أن ينمو هذا النوع من العلاقات من خلال مواصلة ممارسة الحياة بطريقة أقرب وأعمق؟ هل يمكن أن نتواصل دون الإسراع بحبس مشاعرنا فى ألفاظ هى غير قادرة على احتوائها إلا بعد تفتيتها وتسطيحها وحبسها داخل ما لا تحتاجه من تعبير أو تفسير؟ هل يمكن التدريب على تعليق الحكم بعض الوقت قبل الإسراع فى لصق أقرب صفة (أو اسم عَرَض) لما يصلنا من الآخر (مريضاأو سليما) أولا بأول؟
حين نقرأ هذه القصيدة، ، لا بد أن نتردد بعد ذلك فى أن نسارع بوصف المرض والناس والعيون استقطابا : إما حزين أو فرحان، إما خائف أو مطمئن؟ هذا أمر وارد، وقد يكون مفيدا أحيانا، لكنه ليس كل القصة، وليس غاية العلاقة ولا غورها ولا طبقاتها
هذا ما كشفت عنه الأبحاث والفروض الأحدث فى مجال البيولوجية النيورونية والعلم المعرفى العصبى (انظر نشرة: 11-3-2013 “علاقة هذا العلاج بالعلاجات الأخرى”) وهو بعض ما كشفت عنه اللعبة التى نشرنا جزءًا منها الأسبوع الماضى وعرضنا منها – كعينة- استجابة مشارك واحد مع التعقيب، أقول : كنت أنوى أن أمضى فى تناول مناقشة هذه اللعبة أكثر فأكثر، إلا أننى وجدت أن ذلك قد يستغرق عدة نشرات، حاولت عدة محاولات مبدئية من بينها أن أجمع بعض الاستجابات المتشابهة أو المتقاربة إلى بعضها ، وأعلق عليها جملة وليس واحدة واحدة، وبدأت فعلا، ولم أقتنع تماما بهذا المنهج، ومع ذلك سوف أعرض بعضه كعينة، على أن أؤجل عرض المقتطف من مجموعة المواجهة: “السويقة” إلى الغد.
اللعبة: أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن
سوف نقدم اليوم ما يتعلق بما أظهرته اللعبة فيما يتعلق بالفرق بين التحريك المعرفى الداخلى ووظيفة “الفهم”.
أولا : العلاقة بالفهم:
بدأت بجمع الاستجابات المتعلقة بالفهم، وخاصة وأننا تناولنا التفرقة بين الفهم وبين الادراك فى ملف الادراك، حيث الفهم أقرب إلى التفكير أو التفسير أو الوظيفة التواصلية للغة الرمزية، وقسمت الاجابات – من العينة المتاحة وليس من كل الاستجابات – إلى ما أمكن من تشكيلات على النحو التالى:
(1) الخشيه من غموض محتوى الكلام الداخلى
ياسمين: يا دكتوره عُلاَ أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن ماتفهميش معناه
ليلى: يا ياسمين أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن ماتفهمهوش
ليلى: يا أحمد أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن ماتفهمهوش
ياسمين: يا أميره أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن تفهميه غلط (1)
هذه المجموعة أظهرت أن الكلام الداخلى الذى هو أقرب إلى نشاط الادراك الكلى، الذراع الفاعل منه، وهو بطبيعته أكثر غموضا من الكلام المفهوم والمفاهيمى، الذى يكون لكل كلمة فيه تعريف جامع مانع، وبالتالى فاحتمال ألا يفهمه “الأخر” وارد وهو احتمال أرجح من أن يفهمه بنفس الطريقة التى يفهم بها الكلام المنطوق المنظم، ونلاحظ هنا أن الاستجابات ركزت على خشية هؤلاء المشاركين من ألا يُفهم هذا الذى يقال بدون كلام وليس على ألا يفهم الشخص نفسه كما فى المجموعة التالية.
(2) الخشيه من إحباط الحاجة الأعمق إلى “الشوفان”
أحمد: يا أميره أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن ماتفهمنيش
أميره: يا خالد أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن ماتفهمنيش
د.شادن: يا عادل أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن ماتفهمنيش
يختلف هذا الموقف عن الموقف السابق فى أن الخوف هنا هو أن يعجز الكلام الداخلى أن يكشف عن ذات صاحبه بدرجة كافية تطمئنه إلى بدء أو احتمال التواصل مع آخر، وهذا يمكن أن يشير إلى أن مجرد السماح أن يكون هناك كلام غير الكلام يغرى بتحريك “الحاجة إلى الشوفان” من عمق أغور بما يمكن أن يقوم به الكلام المنطوق الذى يمكن أيضا أن يكون حاجزا أكثر منه كاشفا، فالتعبير هنا يشير إلى تحريك هذه الحاجة الأصيلة مع التلويح بإروائها، ومن ثَمَّ احتمال الإحباط والخوف منه “أحسن ماتفهمنيش”.
(3) الخشية من العجز عن فهم الشخص لنفسه
كامل: يا عادل أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن مافهمهوش
ياسمين: يا كامل أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن مافهمهوش أصلا ومعرفش معناه
هاتان الاستجابتان تظهران كيف أن ما بداخلنا مهما كان هو جزء منا إلا أنه ليس بالضرورة فى متناولنا: لا بظاهر ما نعلن، ولا بغامض ما يتحرك داخلنا دون أن يخرج منا، وهو أيضا قد يشير إلى أن هناك فى الداخل محتوى من المعانى لم يتشكل بالقدر الكافى ليصبح قابلا للاعلان حتى بدون كلام منطوق، وهذا قد يذكرنا أن إغفال هذا المحتوى هو اختزال للوجود، والأرجح أن الأحلام تقوم بالواجب فى تحريك هذا الجانب من وجودنا دون أن تعلنه إلا ما تيسر مما نلحق به قبيل اليقظة فننسج منه غيره (انظر كتاب: “عن طبيعة الحلم والإبداع” دراسة نقدية فى “أحلام فترة النقاهة” نجيب محفوظ).
(4) سوء الفهم (سوء التأويل)
أحمد: يا هيام أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن تفهمينى غلط
أحمد: يا أميره أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن تفهمينى غلط
أحمد: يا علا أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن ماتفهمنيش صح
ياسمين: يا هبه أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن تفهمينى غلط
ياسمين: يا عادل أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن تفهمنى غلط
إلهام: يا احمد أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن تفهمنى غلط
إلهام: يا عادل أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن ما تفهمنيش صح
هيام: يا د. داليا أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن تفهمينى غلط
د.شادن: يا هيام أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن تفهمينى غلط
د.شادن: يا شادن أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن تفهمينى غلط
الخشية من عدم فهم الشخص نفسه “ككل” غير الخوف من سوء فهم المحتوى، وأتصور أن هذه المجموعة برغم أنها الأكثر عددا إلا أنها أقل كشفا لما كنت أود أن أحرّكه بهذه اللعبة، إذ أن سوء فهم الكلام المنطوق وارد نتيجة لأسباب كثيرة مثل: قيام الجزء مقام الكل، أو العجز عن الربط بالسياق، أو غير ذلك، أما سوء فهم الكلام الداخلى أى دون أن يُنطق أصلا، فهو أقل احتمالا عندى برغم أنه أكثر غموضا.
عندى تفسير إضافى وهو أن هذه الاستجابات قد تدل على إعلان ضمنى برفض وضع هذا الكلام الذى لم يعلن على نفس مستوى الكلام المنطوق، وبالتالى يكون سوء الفهم هو نتيجة لعجز هذه الوسيلة عن الإبلاغ السليم والتواصل بالاتفاق على المعنى المضمون، فيكون هذا الميكانزم بمثابة مَحْو فاعلية وأهمية ودلالة هذا الكلام الآخر، بإعلان أنه لا يُفهم بطريقة الفهم العادية، فهو أقل فائدة، وربما لهذا كان هذا العدد الأكبر فى هذه الاستجابة ربما.
(5) الخوف من أن يكشف الشخص نفسه بإعلان هذا المستوى الأعمق
أميره: يا وليد أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن تفهمه
هيام: يا ياسمين أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن تفهمينى
د.شادن: يا ياسمين أنا خايفه أقول كلام من غير كلام لحسن تفهمينى
وليد: يا وليد أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن أفهم
هنا نلاحظ أن الخوف من أن يكون الكلام الداخلى هوالأصدق، بالتالى فإن الخوف من السماح به ولو داخليا يعرض الشخص لاحتمال أن يتعرى بشكل ربما يتجاوز حسابات الكبت أو الكف عنده، وهذا عكس ما جاء فى (2) حيث أعلن المشاركون الحاجة إلى أن يفهمهم الآخر أدق وأصدق، فى حين أن الخوف هنا يأتى من هذا الاحتمال نفسه: أن يفهمهم الآخر أعمق.
كما أن هناك ملاحظة إضافية بالنسبة لاستجابة “وليد” وهى أن هذا الخوف امتد لخوفه أن يفهم هو شخصيا داخله من خلال السماح بتحريك الكلام الداخلى.
وبعد
مازال أمامنا الكثير، ولا أظن أن الرسالة وصلت، ولست متأكدا إن كنت سأواصل أو أبحث عن منهج آخر، المهم أننا غدًا سوف نعود إلى “السويقة” “مقتطف من مجموعة المواجهة”.
[1] – هذه الاستجابة الأخيرة ضمنتها إلى هذه المجموعة بالتقريب.